رواية مغامرات في العشق كاملة جميع الفصول بقلم ندي محمود توفيق

رواية مغامرات في العشق كاملة جميع الفصول بقلم ندي محمود توفيق

رواية مغامرات في العشق كاملة جميع الفصول هى رواية من تأليف المؤلفة المميزة ندي محمود توفيق رواية مغامرات في العشق كاملة جميع الفصول صدرت لاول مرة على فيسبوك الشهير رواية مغامرات في العشق كاملة جميع الفصول حققت نجاحا كبيرا في موقع فيسبوك وايضا زاد البحث عنها في محرك البحث جوجل لذلك سنعرض لكم رواية مغامرات في العشق كاملة جميع الفصول
رواية مغامرات في العشق بقلم ندي محمود توفيق

رواية مغامرات في العشق كاملة جميع الفصول

هناك بعض الاقاويل التي تصف العشق على أنه ” ثقة ”
ولكن في حال انقشاع الثقة وانحلال الخيانة والغدر والكذب محلها فسينقشع معها مفهوم العشق على أنه ثقة ويصبح يمثل بالنسبة لهم ماهو إلا تلاعب بالمشاعر كدمية على مسرح يحركها صانعها كما يشاء !! .
فتذوق طعم الغدر يماثل السم الذي لا تشعر بمذاقه حين يقدم لك في صحن طعام شهي ! ولكنه يسري في جسدك واعضائك فيدمرها ويجعل نهايتك الموت ! .
” ملاذ ”
كانت كامنة في مضجعها تضم ساقيها إلى صدرها تحملق أمامها في اللاشيء بشرود .. وكل دقيقة تسترجع لحظة اكتشافها لخيانته القذرة .. وكيف أنه شعور لا يزال يمزقها حتى الآن ، فقد كان متبقي على زواجهم شهر فقط ! ، من أين جاءته كل هذه القسوة ليفعل بها هكذا ! ، ورغم خداعه لها يحاول العودة !! .. وتحاوطها الذكريات المؤلمة من كل الجهات وتتناثر في الهواء كتراب هبت عاصفة قوية ففرقته ، ومن جهة ذكرياتها السعيدة وعشقها له الذي يشعل النيران في صدرها وتأكلها حتى النهاية ! .
لا تنسي وصف الجميع لها بالفتاة الفاتنة التي اخذت قلوب الرجال خلسة بابتسامتها التي رسمت كلوحة فنان ووضع لمسته عليها من الجانبين ” غمازتين ” ، وعيناها التي تأخذ لون البحر تمثل طلاسم خطيرة تسقطك في سحرها الأبدي ، شعرها الذي يميل للبني الغامق مع نعومة تشبه نعومة الحرير الأصلي .
طرق خفيف على الباب سمعته ولم تبالي للرد على الطارق والذي دخل فورًا بعد طرقه وكانت والدتها التي جلست بجوارها هاتفة بضيق بسيط :
_ هتقعدي لغاية إمتى كدا ياملاذ
نظرت لها بانكسار ولم تجيب وتولت دموعها الدور في التحدث فملست أمها على شعرها قائلة بأعين دافئة ومشفقة وهي تجيبها بشيء من الحدة :
_ ميستهلش كل زعلك ده عليه .. ده حيوان ولا يسوى !
خرج همسها الضعيف والعاجز المختلط بصوت دموعها :
_ أعمل أيه ياماما بحبه
أجابتها في سخط بسيط :
_ بتحبيه إيه !! .. لا أنا ولا أبوكي كنا موافقين عليه أساسًا وإنتي اللي صممتي اكمنك بتحبيه واحنا وافقنا وأهو إيه اللي حصل
نظرت أمامها تحدق بفراغ وتهمس بصوت مزقه الألم :
_ لغاية دلوقتي مش متخيلة إزاي عمل فيا كدا ، إزاي يخوني وأنا اللي كنت بثق فيه أكتر من نفسي .. لحد اللحظة دي وأنا مش مستعوبة اللي حصل وبقول أنا أكيد في كابوس وهصحى
قبضت على ذراعها بشيء من الحدة واللين هاتفة بصرامة :
_ لا إنتي مش كابوس ياملاذ دي الحقيقة ، فوقي وانسيه وبصي لحياتك إنتي لسا صغيرة وألف من يتمناكي ، اللي زي ده يابنتي ميستهلش غير الكره .. ميستهلش حبك النقي والصافي ليه لإن ميعرفش معنى الكلمة دي أساسًا
ثم اقتربت من شعرها الحريري وقبلته مغمغمة بحنان أمومي وصوت رقيق :
_ يلا قومي ياحبيبتي اغسلي وشك وصلي وتعالي برا عشان الغدا جاهز وأنا وأبوكي مستنينك
همت بأن تعترض فرأت قسمات تنم عن رفضها القاطع لاعتراضها ، فأماءت لها بالإيجاب في استسلام ووجه خالي من التعابير .
***
هناك البعض لا يعترفون بهذه الأقاويل التي تصف العشق ، ولا يعترفون بالعشق ذاته ! ، يرونه سمة مشاعر تافهة ومخادعة تدخل القلب فتلوثه ! .. يفضلون العيش خالين الوفاض ويستخدمون مقولة جورج برنارد شو ( العربة الفارغة أكثر جلبة من الممتلئة ) ! .
الحياة متعة يجب أن تعيشها كما يجب ، ولا مانع من تجربة متعة النساء وكأس ڤودكا ! .. هذا هو مبدأ البعض في الحياة ، متعة وفتيات وسهرات .
” حسن ”
الشاب الذي بلغ نصف عقده الثالث ، يمتلك عينان ثاقبة بقدر دهائها ، وقسمات وجهه الصارمة تعطيه طابع يختلف عن شخصيته الحقيقية المرحة والمحبة للحياة ، لا زال يتذكر عشقه الأول الذي يراه الآن مصدر لتلوثات قلبه ! ، يرجع بشريط الفيلم الأسود للخلف ويعيد مشاهدة كيف خدعته بعد أن كانوا على عتبة الارتباط الحقيقية وفاجأته بقولها أنها تمت خطبتها على رجل غيره ، ثم يتقدم قليلًا بالشريط ليرى محاولاته معها بأن تتراجع ويمطرها بوعوده لها بأنها ستكون زوجته بالقريب العاجل ، كانت وعود صادقة وكان هو على أتم الاستعداد لتنفيذها ولكن جوابها أوقف دقات الساعة عند هذه اللحظة ” حسن أنا أساسًا محبتكش عايز الحقيقة إنت كنت مغفل وأنا كنت بستغل إنك من عيلة حسب ونسب ومعاكم فلوس واغنيا وقولت مفيش مشكلة لو اتجوزتك وعيشت معاك بس لما جاتلي الفرصة دي ولقيت واحد ممكن يحققلي كل اللي نفسي فيه بجد مقدرتش أرفضه وحاجتك اللي جبتهالي كلها طول فترة علاقتنا أهي ابقى اديها لبنت الحلال اللي هتكون من نصيبك ” تلك الكلمات لا يزال أثرها في نفسه حتى الآن رغم مرور سنتين على انفصالهم ، ولكن نعتها له بالمغفل يتردد في أذنه كل دقيقة ومع الوقت أدرك أنه كان مغفلًا حقًا .
كان قد غاص في ذكرياته تمامًا ونسى أنه يقود السيارة لولا صرخة تلك الجالسة بجانبه ” ابنة عمه ” وهي تصيح به لينحرف قبل أن يصطدم بإحدى السيارات ! .
_ إيه ياحسن حرام عليك هو أنا ناقصة خضة !
قالتها وهي تلهث من فعل الخضة ، ليمسح هو على وجهه ويقول معتذرًا :
_ معلش يا يسر سرحت شوية ، إنتي كويسة ؟
اماءت له بالإيجاب وسط نظراتها الدقيقة لملامحه ، فخمنت فورًا فيما كان شارد ، لتلتهب نيران الغيرة بداخلها ولكنها لا تمتلك الحق للحديث معه في شيء كهذا واكتفت بقوله المختنق لعلمها جيدًا أنه جاء ليأخذها مغلوب على أمره :
_ أنا اللي آسفة ازعجتك ياحسن بيه ، مكنش لازم يعني تاجي وتاخدني أنا كنت هروح وحدي
طالعها بطرف عينه بعد أن لمس الاستهزاء في نبرتها وقرر هو الآخر أن يحدثها بنفس طريقتها :
_ والله أنا كمان ده كان رأى بس نعمل إيه بقى في مرات عمك هي اللي أصرت إني آجي أخدك بما أنكم معزومين عندنا النهردا
اشاحت بوجهها بعيدًا عنه وهي تضغط على كفها بقوة مغتاظة فهي تعرف أنه لا يستلطفها بتاتًا ولكن لا يمكنه أن يكون بكل هذه الوقاحة ، وهمست بصوت خفيض متوعدة بغل :
_ ماشي ياحسن وحياة أمي لأوريك يسر ممكن تعمل إيه فيك ، عشان تبطل غرورك ده
_ نعم بتقولي حاجة ؟!
عادت بنظرها له ورسمت ابتسامة مزيفة على شفتيها وهي تجيبه بمضض :
_ لا أبدًا بقول فيها الخير مرات عمي
_ أمممممم
كان باردًا للحد الذي جعلها كتلة نيران متوهجة تود خنقه بيديها ، ياله من عديم احساس ولا يدري شيء عن الذوق والاحترام ولكنها في القريب العاجل ستلقنه الدرس الذي يستحقه وستأخذ انتقامها منه ! .
” يسر ”
تؤمن بالمقولة التي تصف العشق على أنه ” يقود للجنون ” ! ، فيدفعك لأفعال تؤدي بك للهلاك ! .
الشابة التي تخطت عقدها الثالث بثلاث سنوات ، ينعتها البعض بقليلة الخبرة في الحياة لصغر سنها ، بجانب وصفهم لهم بصاحبة الأفكار المجنونة .
أحداث أليمة وسوداء تعيش في صميمها حتى هذه اللحظة ، لحظة رفض الرجل الذي طالما عشقته منذ طفولتها .. نعم بالتأكيد هو الرجل الذي وصفته بعديم الذوق منذ قليل !! . منذ مايقارب السنتين تحدث عمها في جلسة كانوا جميعهم فيها عن رغبته بوضوح في ارتباط ابنه الصغير وابنة أخيه ولكنه رفضها أمام الجميع دون أن يضع اعتبارًا لمشاعرها وقال في جفاء مزق قلبها ” بس يابابا أنا قولتلك أنا مش في بالي الجواز دلوقتي نهائي ثم أنا ويسر مجرد ولاد عم وأنا مبشفهاش غير أختي واعتقد إن هي كدا برضوا ده غير إن أنا وهي مش متفاهمين مش كدا ولا إيه يايسر ؟ ” .. منذ هذه اللحظة قررت أن تضع حبها جانبًا لوقت مجهول وتخطط لانتقامها منه الذي سيقضي على غروره ، وتحقق مبتغاها الذي تسعى له منذ سنوات وهو أن يكون لها وحدها ، وهي لا تذكر أنها عزمت على شيء ولم تتمكن من تنفيذه ! .
***
لا شك في مقولة العشق ” تضحية ” ! ، ومفهوم التضحية ليس كما يظنه البعض وهو الذي يدور في إطار الأفلام والمسلسلات الكلاسيكية حول تضحية العاشق بحياته وروحه من أجل أن تنعم معشوقته بحياة آمنة وسالمة ، كلمة تضحية تشمل في جوفها معاني جمة ، فالعشق يلزمه صفات لكي يكتمل ويصبح في ابهى صوره ومن ضمنهم التضحية .. عندما تقرر العشق فهذا يعني أنك ستضحي بحياتك السابقة ستضحي بعادتك وبكل شيء لا يتناسب مع العشق حتى وإن كان لديك عشقًا سابق ، فمن شروط العشق الجديد إن تضحي بعشقك السابق حتى يكون مفهوم العشق والتضحية صادق ومكتمل .
” كرم ”
رجل المواقف الصعبة كما يلقبه البعض ! ، يستحيل أن تكون في مأزق ويتركك بمفردك ، أما عن أهله في المنزل فيطلقون عليه لقب ” الخجول ” وربما لهذا السبب يعجبن النساء به فورًا ويصفونه بـ ” الكيوت !! ” بإمكانه فعل كل شيء في الحياة بكل سهولة إلا التحدث مع النساء الأعجميات عنه بطلاقة ومهارة الرجال فهذا أصعب من تسلق قمة إڤرست بالنسبة له ! ، لا يعلم ما سبب خجله من جنس النساء ولكنه لا يمتلك دهاء الرجال ومكرهم ويخيل له أنه لهذا السبب يجهل التعامل معهم ويخجل كثيرًا ! ، ومع ذلك سقط في وحل العشق ، وتم عقد قرآنه بعد عشق دام لثلاث سنوات يراقبها من بعيد وأخيرًا أصبحت له إلا أنه واجه صعوبة في أن يكون صريح في بداية الأمر ويتصرف كما ينبغي على الرجال أن تتصرف ولكن بعد عقد قرآنهم تغير كليًا معها لدرجة أنها شكت في أمره ، ومع الأسف لم تكتمل سعادته كثيرًا وخاب أمله حين سمع بخبر وفاتها قبل حفل زواجهم بأسبوع ، وكانت أبشع طريقة للموت حيث طعنت في فؤاده سكينًا لم تتمكن السنة التي مرت من إزالتها .. سكينًا ملتهبة بنيران الثأر لكل نقطة دم وصرخة وألم وخزي وانكسار وضعف شعرت به وهو لم يكن موجودًا معها ليحميها ، فذهبت ضحية اغتضاب وحشي ! ، ولم يمر يوم ولم يذورها في قبرها ويطلعها على كل الأخبار الخاصة به كأنها حية تشاركه أحداث يومه ويبشرها بدنو أجل من سرقها منه وقتلها ، ولا يمل من وعوده لها بأن قريبًا جدًا سيأتي لقبرها في يوم من الأيام ويخبرها بأنه أخذ بثأرها .. وأن السكينة المغروزة في قلبه أخيرًا تمكن من إخراجها ! .
استفاق من شروده على صوت السكرتيرة الخاصة بمكتبه وهي تهتف بمياعة واضعة كوب القهوة أمامه على سطح المكتب :
_ القهوة ياكرم بيه !
تحاشى النظر إليه وتصنع الانشغال بالأوراق التي أمامه هاتفًا بصوت رجولي خشن :
_ تمام شكرًا ياريم .. زين جه ولا لسا ؟
أجابت بنبرة انوثية مغرية تحاول بكل الطرق لكي تلفت انتباه هذا الخجول لها ، الذي لا يمكن لامرأة أن ترفض نظرة من عيناه الرمادية الطيبة ، رجل كهذا يمثل فتى أحلام الفتيات كيف لأنثى مهما كانت أن تقاومه :
_ جه يافندم
لا يمكن مرور الأمر بهذه اللطافة منه ، فهناك البعض يتطلب أن يخلع رداء اللطافة والرقة واللين أمامهم ويظهر لهم عن حقيقته العصبية والمرعبة ، فرفع نظره لها بشراسة وهتف بصرامة اربكتها :
_ اتفضلي على شغلك يا أنسة وخليكي فاكرة إن هنا مكان شغل هااا ، ميغركيش وشي عشان لو شفتيه على حقيقته هتكرهيني بجد
انتصبت في وقفتها والتفتت وغادرت بتوتر وخوف هامسة لنفسها باستنكار وخنق :
_ يعني هو لا منك ولا من أخوك الشيخ ، واحد مبيرفعش عينه في واحدة اكمنه بيتكسف والتاني ناقص يلبسنا كلنا خمارات ويقلب الشركة مركز تحفيظ قرآن
” زين ”
مفهوم العشق بالنسبة له يتمثل في ” الأخلاص ” الخالي من الغدر والخداع ، وبالرغم من كل شيء فهو يرى المرأة جوهرة يجب أن تُعامل كما تستحق ، فقسوة الرجال لا تظهر على النساء بل على الأعداء .
” زين ” الأبن الأكبر من بين اشقائه الثلاثة حيث بلغ بداية عقده الرابع ( 30 عام ) من شهور ، الذي يقضى أيامه يروتينية مملة على عكس أشقائه .. ما بين العمل والمواظبة على الصلاة في المسجد وقراءة القرآن الكريم يوميًا ، وسط محاولات والدته أن يتزوج ولكنه يرفض بحجة أنه لا يريد فتاة من فتيات هذه الأيام ، ويريدها على خلق ودين واحترام ، حتى يسلم لها نفسه واسمه على طبق من ذهب ويكون واثق أنها ستحافظ عليها ! .
ولكن هل هناك انسان لم يرتكب ذنوب في حياته ! ، وهو أيضًا لديه جانبه الأسود ، وربما من الأفضل أن تبقى بعض القصص ناقصة إلى بعد حين ! .
جذب انتباهه دخول شقيقه وهو يقول بجدية :
_ إيه يازين اتأخرت كدا ليه النهردا أنا طلعت قبلك الصبح وقولت إنت هتاجي ورايا ؟!
أجابه بصوت منهك وضعيف :
_ أنا مكنتش هاجي أساسًا يا كرم ، من امبارح بليل تعبان بس قولت هقعد في البيت أعمل إيه .. الحمدلله دلوقتي بقيت أحسن
اقترب وجلس على المقعد المقابل له وهو يهتف بضيق :
_ ولسا بليل كمان هو يوم مش فايت أساسًا !
_ يعني هي أول مرة ياكرم ماهو من حياة بابا الله يرحمه كنا متعودين إننا في عيد الفطر بنعزم العيلة كلها واللي أخرها المرة دي المشاكل اللي كانت حاصلة
هتف مختنقًا بنفاذ صبر :
_ الواحد النهردا ملوش خلق لأي حاجة مش أنه يقعد مع العيلة اصلًا
لم يجيبه بل كان صامتًا يحدق في اللاشيء بشرود فيغمغم كرم بحدة ممزوجة بالاشفاق :
_ كفاية يازين الموضوع ده عدى عليه عشر سنين وإنت لسا زي ما إنت مش قادر تنساه
نظر له وقال بصرامة شديدة وإصرار :
_ لأن ضميري مش مرتاح ومش هيرتاح غير لما أكفر عن ذنبي .. أنا ليا عشر سنين بكفر عن ذنب بالصلاة والاستغفار وبطلب من ربنا العفو والمغفرة والذنب التاني مش عارف أكفر عنه بس قريب أوي إن شاء الله
تنهد الصعداء بيأس وقرر تغيير مجرى الحديث حيث قال بتذكر :
_ هو حسن فين ؟
تغيرت ملامحه عند ذكر شقيقهم الصغير وصاح منفعلًا :
_ متجبليش سيرته ، البيه طلع مقضيها شرب وسهر وقذارة من فترة واحنا منعرفش حاجة .. ولما حاولت اتكلم معاه واعقله مفيش فايدة منه ، بس اقسم بالله لو استمر في اللي بيعمله ده ما هيقعد في البيت يوم واحد تاني
ابتسم بعذوبة وتمتم برزانة وثقة :
_ سبهولي أنا بعرف اتعامل معاه ، هدى نفسك ياوحش بس
***
لا بأس في مقولة نزار قباني عن العشق ( قلوبنا لا تختار من العشق إلا أصعبه ! ) . فيخوضنا لحروبًا مع أنفسنا قد نخرج منها بهزيمة ساحقة .. ويبدأ بخيالات ترتفع بنا للنجوم ثم يتركنا في الأعلى فنسقط من النجوم للأرض في لمح البصر .
” شفق ”
تلك الشابة الجميلة التي في نهاية عقدها الثاني .. يتهاتف الشباب عليها لجمالها المغري ! . تمتلك قامة قصيرو بعض الشيء وجسد متناسق ، عينان بندقيتين واسعتان يلمعان في ضوء النهار ، وبشرة بيضاء ناصعة مع ابتسامة ساحرية .. وفوق كل هذا الجمال ، يشهد الجميع لها بشفق الفتاة المهذبة والخلوقة التي نجحت عائلتها الصغيرة في تربيتها تربية صالحة وصحيحة .
ولكن أصابتها لعنة العشق ، عشق صعب المنال بعض الشيء .. فتعاني في صراع بين دوافعها الداخلية التي تعشق ودافعها الخارجية التي تمنعها من كل شيء ليس مباح في مجتمعنا وديننا ، فبقيت تعاني من الشوق داخلها دون الإفصاح لأي شخص .. وترفض كل شيء بإمكانه أن يخل بسمعة عائلتها ويجعل أخيها مطرقًا رأسه في خزي .
داخل مقر جامعة الهندسة …..
تجلس بجانب صديقتها فتقطع الصمت هاتفة :
_ عملتي إيه مع عمر ؟
إجابتها شفق بأسى بعد ذكره أمامها :
_ لسا زي ما هو بيحاول يكلمني وأنا رافضة إمبارح كلمني وقولتله اللي المفروض يتقال وإنه لو فعلًا عايزاني ياخد رقم أخويا ويتكلم معاه غير كدا مفيش حاجة بينا
تأججت نيران الغيرة في أعشاش صديقتها ، فهي لا تعرف سبب تمسك ذلك الأحمق بهذه الساذجة ، وتخبرها بكل بساطة أنها تريد ارتباطهم الرسمي .. يجب عليها أن تقتلها أولًا حتى تحدث هذه التفاهات ! .
***
في المساء ……
داخل قسم الشرطة يحتسى كل منهم قهوته في صمت تام وبعد دقائق يقرر كرم أن يخترق فقاعة الصمة قائلًا بتريث :
_ وصلت لحاجة يا سيف ولا لسا ؟
قال بخيبة أمل :
_ للأسف لسا إنت عارف إن من ساعة اللي حصل والواد ده مختفي بس هيروح من البوليس فين مسيرنا هنجيبه
رمقه بنظرة نارية وهتف بصوت مريب قليلًا :
_ سيف إنت قولت هتساعدني وأنا وافقت يبقى كل اللي عليك تساعدني اوصله والباقي عليا أنا ، ومتقلقش لما اقتله واشفي غليلي وإنت تطبق عليا القانون مش هزعل منك
تأفف الآخر بغضب هادر وهو يصيح به بنبرة مرتفعة :
_ إنت دماغك دي فين ، عايز تقتله وتضيع نفسك عشان الحيوان ده يبقى إيه الفرق بينك وبينه كدا ، بعدين أنا قولتلك هساعدك نوصله وياخد جزائه مش عشان اسلمه ليك وتقتله ، بلاش جنان وأعقل ياكرم وفكر منطقية مراتك الله يرحمها خلاص مش هيبقى موت وخراب ديار
ضرب بقبضة يده على سطح المكتب مغمغمًا بنبرة خافتة لا تدل على خير :
_ بيك أو منغيرك ياسيف هوصله وهاخد حق مراتي بإيدي
أخذ يزفر النيران من فمه مغتاظًا من هذا العنيد وقرر أن يغير مجرى الحديث حتى لا ينفعل عليه كالعادة ويهتف برزانة :
_ طيب خلاص ياصاحبي اهدى وسيبك من الموضوع ده دلوقتي .. إيه الأخبار معاك ؟
_ تمام الحمدلله .. صحيح عاملة إيه والدتك ؟
أجابه مبتسمًا بمداعبة عند ذكر أمه :
_ زي الفل ، أنا بشك إن إنت اللي ابنها مش أنا ياراجل دي بتدعيلك أكتر ما بتدعيلي ، نفسي أفهم إيه سر حبها فيك للدرجة دي !
بادله الابتسامة ولكنها كانت ابتسامة صافية شبه خجلة على عادته وهو يجيبه باحترام :
_ والله ربنا يعلم ياسيف أمك دي معزتها في معزة أمي بظبط ، ربنا يخليها ليكم يارب
_ آمييين ، آه قبل ما انسى سيادتك معزوم عندنا بكرا ومفيش أعذار لإن الست الوالدة مبتقبلش بأعذار لما يكون الموضوع يخصك ، ولعلمك بكرا في وليمة من اللي يحبها قلبك قعدت تسألني هو بيحب إيه في الأكل وأنا اتوصيت بيك الصراحة
قهقه بخفة وأجابه بالموافقة في هدوء :
_ ماشي يا سيف هاجي إن شاء الله ، بس قولها ملوش لزوم تتعب نفسها أنا هاجي بس عشان مزعلهاش
ربما هو يجهل سبب حب الجميع له ولكن أفعاله واحترامه يجبر كل من يراه على احترامه وتقديره .
***
داخل منزل عائلة العمايري الذي يتكون من طابقين تحيط به حديقة كبيرة بعض الشيء كانت العائلة متجمعة في الحديقة يتبادلون الأحاديث والمرح والضحك ، ولكن كان التجمع العائلي ناقصًا بعض الأفراد .
هتف طاهر بتساءل محدثًا ابن أخيه الكبير :
_ امال فين كرم يازين ؟
صمت قليلًا وهو يتذكر طلب أخيه منه أن يتحجج لهم بأي شيء ، فهو ليس في وضع يسمح له بمقابلة أحد وربما يقضي الليلة في منزله الذي كان يخطط للزواج فيه ، فتنهد بعمق وتمتم مبتسمًا دون أن يكذب :
_ كرم والله ياعمي الفترة دي مضايق شوية وقالي اعتذر منكم بالنيابة عنه إنه مش هيقدر ياجي
قطع حديثهم قدوم هذه الفتاة الشابة ابنة محمد العمايري الصغرى وهو تحمل الشاي على صينية كبيرة وتلف بها على أفراد العائلة كلها فيلتقط كل منهم كأسًا ويبدأ في احتسائه ، حتى هتفت العمة الكبرى محدثة حسن بمشاكسة :
_ مش ناوي بقى تعقل ياحسن وتفرحنا بيك
ابتسم لمشاكسة عمته وأجابها ضاحكًا :
_ هو مفيش غيري في العيلة ولا إيه ياجماعة ، أنا الحمدلله مرتاح في حياة العزوبية
لاحظ نظرات أخيه المشتعلة له فأشاح بوجهه وهو يتأفف بعد أن فهم سبب نظراته ولكن انسحاب فردًا من جلستهم وهو يبدو على ملامحه الاستياء ، فأوقفتها أمها قائلة باستغراب :
_ رايحة فين يايسر ؟
أجابت بقرف وهي تخطف نظرة نارية لحسن :
_ رايحة الحمام ياماما
ثم اندفعت من أمامهم لداخل المنزل ، فلم تتمكن من البقاء في هذه الجلسة العائلية بعد أن تم ذكر الزواج أمامها مجددًا وأعادوا لذاكرتها اللحظات من جديد عندما رفضها أمام الجميع ، ومنذ هذه اللحظة تسأل نفسها هل هي قبيحة لهذه الدرجة الذي تجعله يرفضها رفضًا قاطعًا أمام كل أفراد العائلة .
اتجهت للمطبخ والتقطت كأسًا وسكبت الماء الباردة فيه ثم تناولتها دفعة واحدة لعلها تخفف من النيران المتأججة في قلبها ، وإذا بها بعد دقائق تجده ينضم لها ويأخذ أحد أكواب الماء أيضًا ويتمتم ببرود ونبرة غير مبالية بعد أن فهم سبب انسحابها من جلستهم :
_ أنا أكيد مكنش قصدي إني أرفضك قدام الكل زمان .. بس …
وضعت الكوب على الرخامة بقوة مما أصدر صوتًا هيأ له أنه انكسر وهتفت بحدة وحزم :
_ عن أذنك ياحسن !
همت بالالتفات والرحيل ولكنه قبض على ذراعها يرغمها على الوقوف هاتفًا باعتذار بدى لها غير صادق ، فقط يحاول أن يخلص ضميره من الذنب الذي ارتكبه في حقها :
_ أنا آسف لو اللي عملته لسا مأثر فيكي لغاية دلوقتي ومخليكي متعصبة مني ، أنا قولتلك إني مكنش قصدي .. بابا الله يرحمه فاجأني مرة واحد احنا وقاعدين وأنا مكنتش بفكر في الجواز ولا زالت مبفكرش فيه
نظرت ليده القابضة على ذراعها فابتسمت بسخرية وأبعدتها عنها برفق ثم همست بصوت يشابه فحيح الأفعى :
_ مأثر فيا !!! ، يبقى يؤسفني إني أقولك إنك متعرفش أي حاجة عني يا ابن عمي .. أنا مش ببص ورايا ببص قدامي بس مبنساش اللي فات فعشان كدا حاول تخلي تصرفاتك معايا بحدود وإياك تكرر اللي عملته من شوية ده تاني ، وإلا إنت اللي هتكون خسران لإني زي ما قولتلك من شوية إنت متعرفنيش فخليك حذر معايا
ثم استدارت وانصرفت تاركة إياه يحدق على آثارها بقرف وغطرسة مغمغمًا :
_ بنت مقرفة بصحيح ، والله خسارة فيكي الاعتذار أساسًا ، قال خليك حذر معايا إنتي تطولي أصلًا لما المسك !! .. وعاملة نفسها مش طيقاني وهي واقعة في دباديبي
***
خرجت من الحمام وهو تنشف شعرها وترتدي ملابس المنزل خاصتها .تفكر فيما عرضته عليها والدتها صباح اليوم عن صديقة لها لديها ابن وتبحث له عن عروس واختارتها هي العروس لابنها ! ، كيف تدخل في علاقة جديدة وهي لا زالت لم تخرج من السابقة ، لا زال خطيبها السابق يعيش في أعماقها ، ومع ذلك اعطتها والدته الوقت الكافي للتفكير والرد دون تسرع ، وأن تفكر بمصلحتها قبل كل شيء ! .
جذب انتباهها صوت هاتفها الذي لم يتوقف عن الرنين منذ أن كانت في الحمام ، فالتقطته لتجيب على هذا الرقم المجهول :
_ الو مين ؟
تجمدت دمائها عند سماعه صوته الذي لا تخطىء في تحديده من بين مائة رجل :
_ ملاذ ابوس إيدك ما تقفلي إنتي فاهمة الموضوع غلط أنا بحبك ومستحيل اخونك
صاحت به باندفاع بعد أن انسالت الدموع على وجنتيها :
_ كذاب يا أحمد أنا شوفتك بعيني محدش حكالي ، وكل حاجة بينا انتهت خلاص وإياك تفكر تتصل بيا تاني
همت بأن تغلق الهاتف ولكن صياحه المتوسل لها وهو يقول برجاء وندم مزيف :
_ لا لا متقفليش طيب خليني اشوفك ونتكلم وصدقيني لما تفهمي كل حاجة هتعرفي إنك ظلماني
هتفت بقسوة من خلف جدار قلبها الذي يتحرق شوقًا لرؤيته وسماع صوته ولكنها قررت أن تخبره بأمر العريس حتى تحرق قلبه كما حرق قلبها :
_ مفيش كلام بينا ، وأنا في عريس متقدملي وهوافق عليه .. أظن من كدا فهمت إن كل حاجة بح وصدقني لو اتصلت تاني هقول لإسلام واخليه هو يتصرف معاك
ثم أنهت الاتصال دون أن تدع لنفسها فرصة لسماع أي توسلات مزيفة منه أخرى وألقت بالهاتف على الفراش ثم جثت على الأرض مستندة بظهرها على الحائط ، تاركة لدموعها أن تنطلق بكل قوة لديها ، حتى تخرج الألم الذي يشتد كل يوم وكل ساعة قبل أن يقتلها . ولكنها انتفضت عندما سمعت صوت طرق الباب وأخيه الذي يقول بلين :
_ ملاذ ياحبيبتي إنتي صاحية
استقامت واقفة وجاهدت في إخراج صوتها طبيعيًا وهي تسرع في تجفيف دموعها بواسطة حجابها الملقي على الفراش :
_ صاحية يا إسلام تعالي
فتح الباب ببطء ثم دخل وهو يتعكز على عكازه الذي لم يفارقه منذ ما يقارب لعشر سنوات بعد حادث تعرض له أدى إلى عجز في قدمه اليسرى ، وبعد محاولات انتهت باليأس من أن يجدوا علاج لحالته ، قبلوا جميعهم بالأمر الواقع وهو يتصنع القبول من الخارج ولكن من داخله يشعر بالنقص والعجز دائمًا ويرفض إلحاح والدته في أن يتزوج قائلًا لها بأسى وشجن ” اتجوز إيه بس ياماما وبعدين مين دي اللي هتقبل بواحد عاجز زي ” .
عجزت هي عن المقاومة أمامه حيث اندفعت نحوه وارتمت داخل أحضانها وصوت بكائها يرتفع أكثر فأكثر فأسند هو عكازه على الحائط ثم ضمها بذراع وبالآخر أخذ يلمس على شعرها بحنو هامسًا بقلق :
_ مالك ياملاذ ؟!
_ مليش يا إسلام ، نفسيتي تعبانة بس ؟
تحامل على قدم واحدة حتى وصل إلى الفراش وجلس مشيرًا لها بيده أن تأتي بجواره فلبت رغبته بصدر رحب وجلست بجواره أو بالأخص بين ذراعيه وتسمع همسه الذي اختلط بين اللين والحزم :
_ الحيوان اللي زعلانة عليه ده ميستهلش تنزلي دمعة واحدة عشانه سمعاني ، وأنا لولا إنه أصلًا كان مجرد خطيبك كنت خليتك تتفرجي على اللي هعمله فيه
_ عارفة يا إسلام إنه ميستهلش بس كنت بحبه بجد ، وآخر واحد كنت اتوقع منه الخيانة والغدر هو ، لكن جات الخيانة منه للأسف .. صدقني غصب عني مش بسهولة دي هقدر انسى الموضوع
كانت تهمس بهذه الكلمات في أسى وصوت مبحوح فباغتها هو يقوله الناعم :
_ طيب فكرتي في العريس اللي قالتلك عليه ماما .. أنا تقريبًا شوفته قبل كدا مرة واحدة والصراحة كان باين عليه إنه محترم ومتدين وكويس أوي
صمتت لبرهة وهي تفكر بحديثها مع خطيبها السابق منذ قليل فتشتعل نيرانها مجددًا وتهتف حاسمة أمرها :
_ ما أنا كنت هطلع أقول لماما إني موافقة اشوفه
ابعدها عنه وقال باسمًا بسعادة :
_ اطمني أنا بضمنلك إن المرة دي ربنا مش هيخذلك وهيكون هو هدية ربنا ليكي
تصنعت الاهتمام بكلامه وقالت بخفوت غبر مبالي :
_ إن شاء الله يكون كدا ، أنا لسا هشوفه وبعدين هاخد القرار النهائي وكمان هو يمكن أساسًا ميوفقش لما يشوفني مثلًا معجبهوش أو كدا .. يعني موضوع الجواز ده بيبقى معقد شوية لما يكون الأتنين ميعرفوش بعض
أجابها بتأيد لكلامها وهو يهب واقفًا ويجذب عكازه :
_ ربنا يقدم اللي فيه الخير ياحبيبتي ، أنا هروح أنام بقى ونامي إنتي كمان ومتفكريش في حاجة هااا
أماءت له بابتسامة محبة لحنان أخيها عليها ، فعشقها لأخيها وأبيها لن يتمكن رجل آخر من أن يحظى بنفس قدر عشقها لهم !! .
***
مع إشراقة شمس يوم جديد .. يوم سيشتمل على بدايات ونهايات ! .
كان جالسًا أمام التلفاز يحتسي كأس الشاي الصباحي الخاص به بعد إن حضرته له والدته .. والتي تجلس بجواره تشاهد معه التلفاز .
“هدى” التي يصفها أولادها بالمرأة صاحبة القلب الأبيض كبياض الثلج ، تنعم بمعاملة طيبة وحنونة من جميع أولادها وبالأخص من زين وكرم ، أما حسن فلا يكتفي من المعاملة الطيبة كأشقائه بل يعامل أمه كحبيبة له يغازلها ويداعبها كلما يراها وكأي أم مصرية عندما يزداد مزاحه وتغضب منه يبدأ الشيء الذي في قدمها بالعمل فيفر هو منها ضاحكًا قبل أن يلحق به سلاحها المؤلم ! .
بينما الجو هادئ تمامًا تلفتت حولها حتى تتأكد من عدم وجود زين ثم اقتربت منه جدًا وهتفت في صوت منخفض :
_ واد يا حسن
رمقها متعجبًا وهتف باسمًا :
_ إيه ياست الكل عايزة إيه ؟ ، اشجيني بطلباتك
_ إنت عارف كرم فين ؟
هتف بعد أن عاد يرتشف من كأس الشاي :
_ أيوة مش زين قال إنه في شقته
هتفت بانفعال بسيط وخوف جلي :
_ وإنت صدقت الكلام ده .. أنا خايفة ليكون لقي الواد اللي قتل مراته وبيخطط لحاجة ، خايفة ليضيع نفسه ياحسن .. مش عارفة ليه قلبي بيقولي إنه مش مخنوق ولا حاجة وراح يريح دماغه شوية زي ما قال لزين
_ طيب وأنا أعمله إيه يا أمي ما إنتي عارفة ابنك ، كلنا حاولنا معاه في موضوع مراته ده ومفيش فايدة فيه وبتشوفي لما حد بيحاول يكلمه في الموضوع ده بيعمل إيه .. والصراحة هو عنده حق أنا لو مكانه مش هقتله بس لا ده أنا هقطع لحمه نساير وارميها لكلاب السكك تنهش فيها
تشاير الشر والغيظ من عيناها وهي تهتف بغضب عارم :
_ وأنا قولت إنه معندوش حق عنده حق طبعًا والبنت اللي يرحمها لغاية دلوقتي لما بفتكرها قلبي بيتقطع عليها ، بس أنا مش مستعدة اخسر ابني كمان ومتنساش إن سيف ظابط وأكيد هيساعده ..
هتف بنفاذ صبر وخنق شديد :
_ وهو المفروض بقى مياخدش حقها يعني !!
تلفتت حولها مجددًا ثم عادت بنظرها من جديد له في صرامة مغمغمة بصوت خفيض :
_ وأنا كمان والله عايزة حقها يرجعلها بس من غير خساير .. ابوس إيدك ياحسن أعمل حاجة أنا متكلمتش مع زين عشان هو دماغه قفل زي أخوه ومش بعيد هو كمان يعمل في الواد حاجة لو وقع تحت إيده
ضحك بخفة وقال مستنكرًا :
_ ده على أساس إن أنا اللي عاقل يعني ومش هعمل فيه حاجة !
قالت بثقة تامة ويقين :
_ أيوة أنا عارفاك مش متهور زي أخواتك .. عشان خاطري يابني اعمل حاجة بدل ما يضيع نفسه المجنون ده
صمت لبرهة من الوقت ثم تمتم باستسلام :
_ طيب ياماما حاضر ، هحاول اوصله أنا قبل كرم وهسلمه للبوليس بس موعدكيش إنه يروح للبوليس سليم لأن حتى أنا مش هرحمه لو وقع تحت إيدي ال**** ده .. وربنا يستر بقى وابنك ميعرفش عشان لو عرف مش بعيد يقتلني أنا
قربت رأسه من شفتيها وقبلت شعره هامسة بحنان أمومي ورضا :
_ ربنا يرضى عنك ياحبيبي ، ويريح قلبك زي ما ريحتني .. أنا دايمًا بقول حسن ابني اللي مبيرفضليش طلب !
رفع حاجبه اليسار قائلًا وهو يقهقه بقوة بسخرية :
_ لا والله .. ده على أساس إن في حد فينا أصلًا بيقدر يرفضلك طلب ما كلنا مبنرفضلكيش طلب .. بتثبتيني إنتي بالكلمتين دول يا لئيمة ، ماشي يا دودو هقبل الرشوة بس في رشوة أكبر عايز الكفتة اللي بحبها النهردا على الغدا
_ بس كدا من عنيا !
ازداد ضحكة وهو يضع كأس الشاي الذي انتهي على سطح المنضدة الصغيرة أمامه ويستقيم ثم ينحني ويقبل جبهتها ثم كفها هامسًا بحنو :
_ ربنا يخليكي لينا ياست الكل
ليقود خطواته باتجاه غرفته فتتنهد هي يارتياح بعد أن شعرت بأن ثقلًا انزاح عن قلبها ، فقد كان قلقها على ابنها يأكل صدرها آكلًا خشية من أن يقمح نفسه في نازلة لن يستطيع الخروج منها سالمًا كما كان .
***
خرج من الحمام بعد أن أخذ حمامه الصباحي المعتاد ، ثم توجه لخزانته ليخرج ملابسه ويبدأ في الاستعداد للذهاب للعمل ، وأثناء مروره من أمام المرآة لفت نظره الندبة التي في يمين ظهره من الأعلى ، فتجول بذهنه ذكريات ذلك اليوم المشؤوم ، الذي نتيجة لتهوره وانعدام مسئوليته فَقَدَ والده وكان هو على حافة الموت يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة وعندما عاد للحياة كان مشلولًا ! .. ظل لسنة كاملة يتجول بكرسى متحرك ويخضع لمختلف أنواع العلاج .. وأخيرًا بعد عناء مع المرض أعاده الله لحياته الطبيعية .
ولا يصف ما حدث معه في الماضي سوى عقاب من الله عن ذنوبه الذي حتى الآن يبذل كل وسعه في أن يكفر عنها بكل السبل ، صدقات وصلاة واستغفار ودعاء وزيارة بيت الله الحرام . فقد كان في غفلة وأفاقه الله من غفلته قبل فوات الآوان .
استفاق على طرق الباب وهو يسمح الطارق بالدخول التي كانت شقيقته البالغة من العمر ( 20 عام ) .
” رفيف ” صغيرة هذا المنزل وتمتلك مكانة متميزة ومختلفة في قلب كل واحد من اشقائها .. فمثلًا كرم يصفها ( بأميرته الصغيرة ) وزين ( ابنته ) وحسن يراها صديقة له ربما لتقارب سنهم العمري .
_ صباح الخير
قالتها بابتسامة عذبة فيجيبها هو بنفس ابتسامتها ثم تكمل هي في نبرة عادية :
_ لو خلصت تعالي يلا عشان ماما حضرت الفطار
_ لا أنا مش هفطر دلوقتي
لاحظت تعبيرات وجهه المتضايقة والمحتقنة فاقتربت منه وجلست بجواره مستندة بذراعها على كتفه وهامسة بمشاكسة جميلة لمعرفتها بأنها تنجح في رسم ابتسامته عندما تتحدث معه على هذا النحو :
_ إيه اللي مدايقك بس ، على أنا فكرة مبحبش اشوف آبيه زعلان !
نجحت بالفعل حيث انحرفت شفتاه قليلًا لليسار وازاح يدها بنفاذ صبر محبب لقلبها ، لتكمل هي مداعبتها ضاحكة وتعيد تكرار الكلمة التي رسمت الابتسامة على وجهه بطريقة مسرحية :
_ أيوة آبيه ! .. هي كلمة غريبة الصراحة فعلًا بس ده ميمنعش إنك زي بابا اللي يرحمه بنسبالي يازين وحتى لما كان بابا عايش أنا كنت بحس أني عندي أتنين مش واحد ، ويعتبر إنت اللي ربتني يعني .. ومش إنت كمان بتقولي دايمًا إني بنتك
حدجها بنظرة أخوية دافئة وأبوية حانية ثم انحني وقبَّل شعرها برقة مغمغمًا بصدق :
_ طبعًا بنتي .. وإنتي عارفة مكانتك عندي إزاي يارفيف
سرعان ما تذكرت بعد لحظات ونكزته في كتفه بلطف هامسة بمكر :
_ أيوة ياعم هتوقع واقف .. ماما لقيتلك عروسة قمر ، بس إيه عسل بجد يازين ، ومحترمة مؤدبة أنا عارفاها أكمن مامتها صاحبة ماما فشوفتها كام مرة يعني على ضمانتي ده حتى اسمها جميل
تهجمت ملامحه وقال بجدية تامة وشيء من الغضب :
_ عروسة إيه ! .. هي أمك عملت اللي في دماغها برضوا !!!
تعجبت من انفعاله ولكنها حاولت أن تظل على طبيعتها المرح وتهدأ من حدة الجو :
_ الله في إيه يازين .. عايزين نفرح ونبل الشربات ياراجل ، وإنت مش كنت بتتحجج إنك مش عايز تتجوز غير لما تلاقي وحدة كويسة وأهي ماما لقيتها
ثم صمتت قليلًا عندما خمنت سبب انفعاله ورفضه الزواج ، فلم تتمكن هي أيضًا من إخفاء سخطها واعتراضها على طريقة تفكيره الخاطئة حيث هبت واقفة وقالت باستياء دون أن ترفع نبرة صوتها عليه :
_ ولا إنت لسا بتفكر في اللي حصل زمان وهو ده اللي مخليك ترفض الجواز .. كفاية يازين إنت الحمدلله دلوقتي زي الفل ليه لسا بتفكر في اللي حصل ، انسى وعيش حياتك إنت معملتش حاجة بإرادتك إنت كنت الضحية في كل حاجة حصلت ، بلاش تفكر بالطريقة دي ارجوك
ثم لململت شتات غضبها ورحلت تاركة إياه يفكر فيما تقوله وخاصة بكلمة ” ضحية ” ربما كان حقًا ضحية في فيما كانت تقصد بكلامها ولكن بتأكيد لم يكن ضحية في الشيء المجهول بالنسبة للجميع والذي لا يعرفه سواه هو وأخيه .
***
ترجلت يسر من سيارتها أمام مقر شركة عائلة العمايري للإستيراد والتصدير ، كانت في طريقها للباب ولكن توقفت عندما رأت حسن يخرج من الباب ويشبه شعلة النيران ويسير بهدوء مخيف نحو أحدهم وعندما نقلت نظرها لجهة توجهه فوجدتها فتاة يبدو أنها من عمرها وعندما دققت النظر بها تعرفت عليها بسهولة فهذه هي حبيبته السابقة التي تركته وتزوجت بغيره ! .. ما الذي أتى بها إلى هنا ، هل يعقل أن يكونوا عادوا لعلاقتهم من جديد بعد كل ما فعلته حتى ينفصلوا ! ، لا يمكنه العودة لها وإن حدث فستأخذ روح تلك الساقطة بيديها ! ……
اسرعت واختبأت في مكان قريب منهم ولكن بعيد عن أنظارهم حتى تستطيع سماعهم جيدًا .
وقف أمامها بشموخ واضعًا كلتا يديه في جيبي بنطاله وهتف بتعالي يليق به :
_ حقيقي مش مصدق نفسي رحمة هانم بنفسها جاية تقابلني.. طيب كنتي اتصلي بيا حتى قبل ما تيجي عشان استقبلك استقبال يليق بيكي يامدام رحمة
تعمد الضغط على آخر جملة بين أسنانه فخرجت مخيفة بعض الشيء ، فأطرقت هي أرضًا بخزي وهمست بدموع تملأ عيناها :
_ أنا اطلقت ياحسن
ابتسم ساخرًا وهتف بغطرسة واضحة غير مكترثًا لأي شيء مما قالتها وفقط يتصنع الاهتمام :
_ ياخبر حصل إيه لده كله .. ده أكيد شيطان ودخل بينكم
ثم صمت لثانية وعاد يغمغم بعد أن اختفت ابتسامته وظهر محلها الغضب الحقيقي :
_ جاية ليه يارحمة ؟!
رفعت نظرها عن الأرض وثبتت نظراتها المستعطفة على خاصته لتيقنها بأنه لا يزال يعشقها حتى الآن ولا زال تأثيرها عليه مستمر ، وفي ظرف لحظة قبضت على كفه هاتفة بتوسل ضعيف :
_ أنا آسفة ياحسن سامحني ابوس إيدك .. أنا اللي كنت مغفلة إني سبتك وروحت للحيوان ده ، سامحني وتعالي نرجع زي الأول
كأنها ألقت عليه تعويذة وسقط في وحل سحرها ، ظل بحدق في عيناها كالمسحور ولمسة يدها ليده كانت كالخمر الذي اسكره .. وكان على وشك التعمق في السحر ويضعف أمامها ولكنه سحب يده فورًا بعنف محدقًا إياها بنارية .. أما على الناحية الأخرى كان هناك من تحرقه نيران الغيرة وتشتعل بداخله ، وكادت أن تندفع نحو تلك الساقطة وتجذبها من خصلات شعرها وتلقنها الدرس الذي تستحقه ولكنها تمالكت نفسها إلى حين رحليه حتى تنفرد بها .
صاح بها منفعلًا يحاول إخفاء تأثيرها عليه :
_ نرجع إيه ! .. والصراحة أنا اللي اكتشفت إني مكنتش بحبك وكانت مجرد مشاعر زائفة وراحت لحالها .. يعني من الأساس مكنش في بينا حاجة عشان اسامحك عليها ومكنش في بينا علاقة عشان تنتهي وترجع من تاني
سالت عبراتها على وجنتيها وقالت برجاء محاولة استعطافه :
_لا متقولش كدا ياحسن أنا بحبك .. ومستعدة أعمل إي حاجة عشان تسامحني ونرجع من تاني
تراجع خطوة للوراء ليثبت لها أنه لا يمكن تخطى الحدود الصارمة التي رسمتها بينهم منذ هجرها له ، وهتف بقسوة شديدة :
_ امشي يارحمة ومتورنيش وشك تاني
ثم استدار وفي لمح البصر دخل مبنى الشركة مجددًا وظلت هي واقفة غارقة دموعها ، أما الأخرى فقد قدمت لها فرصتها على طبق من ذهب حيث بدأت تشمر قليلًا عن ذراعيها وهي ترمق تلك الشمطاء بتوعد بالأخص بعد أن رأت تأثيرها عليه وضعفه أمامها .
اندفعت نحوها كالنسر حين يرى فريسته وقبل أن تستقل تلك الطوفيلية بسيارة الأجرة أوقفت الباب بيدها قبل أن تدخل وطالعتها شرزًا ، فرمقتها الأخرى باستغراب وقالت :
_ إنتي مين ؟
انتصبت في وقفتها وكانت وقفتها تشبه وقفته لحد كبير ولكنها اختلفت عنه في نظرتها النارية ونبرتها المهددة إياها بجراءة :
_ اسمعي ياقطة لو خايفة على نفسك تبعدي عن حسن خالص وإلا هخليكي تندمي على الساعة اللي شوفتيه وشوفتيني فيها
اصابها بعض الخوف من نظرتها وتهديدها الصريح ولكنها صاحت بها بغضب وشجاعة مزيفة :
_ إنتي مالك أساسًا أبعد ولا أقرب ، ثم إنك إزاي تكلميني كدا ومين إنتي أصلًا ؟!
أجابتها بحدة ونظرة ثاقبة وشرسة :
_ أنا مراته .. وخليكي فاكرة إني حذرتك ولو شوفتك بتحومي حَوليه تاني صدقيني مش هيحصلك طيب .. فاهمة ولا لا
ثم استدارت وقادت خطواتها نحو باب الشركة تاركة رحمة في صدمتها ورعبها من هذه الفتاة التي تعتقد أنها أنها لا تمزح فملامحها تخبر الجميع بأنها خطيرة وشيَّطانة ! .
أما يسر فكانت تسير داخل المبني وكل عضو في جسدها ينتفض من الغضب والغيرة وتهتف بحسم :
_ لغاية هنا وكفاية مش هسمح ليها تاخدك مني تاني سواء هي أو أي وحدة غيرها .. وأعتقد إن عقارب الساعة دقت الساعة 12 وخلاص حان الوقت فاستعد ياحسن بيه !
***
_ شــــفـــــــق خلصتي اللي قولتلك عليه ؟
جاءها صياح أمها عليها من المطبخ فعادت تجيبها بنبرة مرتفعة حتى تسمعها :
_ أيوة ياماما خلصت
كانوا في جلبة من أمرهم هي تتولى مهمة تنظيف المنزل وأمها في المطبخ تقوم بتحضير الطعام ، فقد اقترب موعد قدوم ضيف اليوم ويجب أن يكون كل شيء كاملًا على أكمل وجه ، فهذه هي الأصول وكرم الضيافة الصحيحة .
ارتفع صوت جرس الباب فهبت هي واقفة والتقطت حاجبها وهمت بأن تعتكف في غرفتها كعادتها عندما يأتي هذا الكرم ، ولكن صياح أمها وهي تطلب منها أن تفتح لهم الباب سمرها في أرضها وركلت الأرض بغيظ ثم اندفعت نحو أمها بغضب وهمست :
_ افتحي إنتي ياماما ، افتح أنا ليه ؟
قالت الأم باعتذار صادق وإيجاز :
_ معلش ياحبيبتي إيدي مش فاضية زي ما إنتي شايفة .. بعدين هو كرم غريب عننا يعني وأخوكي معاه يلا يابنتي روحي افتحي عيب يقف الراجل على الباب كدا
تأفف بغيظ واستغفرت ربها ، فهي لا تنكر خجلها منه أو ربما ليس منه بالأخص بل من أي رجل اجنبي عنها هكذا .. وبالرغم من أن كرم صديق أخيها منذ طفولته ، تتوتر بشدة عندما تراه ربما بسبب ما كانت تقصه لها والدتها عن طفولتها عندما كان يأتي لهم إما لزيارة عادية أو ليشارك صديقه في المذاكرة كيف كانت تصرَّ على الجلوس معهم كشيء من فضول الأطفال وعن طرائفها التي لا تعد ، كل هذه الأشياء سببًا لخجلها منه .
لفت حجابها على شعرها بانتظام وهندمت من عبائتها التي ترتديها ثم اتجهت لتفتح الباب فيدلف أخيها أولًا من ثم يهتف محدثًا الآخر :
_ تعالى ياكرم هو إنت غريب يا راجل .. ده أنت صاحب بيت
ابتسم له بعذوبة ثم تنحنح بإحراج ليس بجديد عليه والقى تحية السلام عليها خافضًا نظره أرضًا وهو يمر من الباب فترد هي السلام بخفوت ثم تغلق الباب وتنتظر دخولهم فتهرول ناحية غرفتها لكن أمها اوقفتها للمرة الثالثة وهي تهمس بجدية :
_ تعالي ياشفق ساعديني خليني اخلص بسرعة مينفعش اتأخر علي الغدا .. ولا أقولك اعمليلهم شاي وأنا هروح اسلم على كرم وبعدين هاجي أكمل
رفعت نظرها لأعلى بيأس وأصدرت زفيرًا حارًا باستسلام لأمرها المفروغ منه وهو عدم قدرتها على الهروب منه ، ثم دخلت المطبخ وبدأت في تحضير الشاي كما طلبت منها والدتها .
***
رائحة يدها لا تزال عاقلة في يده ، ولمستها له لا يزال يشعر بها .. كم تمنى أن يعانقها ويخبرها بأنه اشتاق لها كثيرًا وأن برغم كل مافعلته لم يتمكن قلبه الذي كان يعشقها بصدق إن يبغضها ، ولكن يجب عليه أن يلزم قلبه من بغضانها فهي لا تستحق حبه له .. تخلت عنه والآن تطلب العودة جديد حتى تخونه مجددًا ويعيش هو نفس الألم لمرتين ولكن بجرعة أكبر .
أحدهم تطفل عليه في هذه اللحظة بطرقه للباب ، فهو ليس من عادته القدوم لمقر الشركة إلا نادرًا جدًا .
_ ادخل !
هكذا اتاها صوته الذي يوحى بغضبه ففتحت الباب بثبات تام ودخلت حاملة بيدها كأس شاي راقي فهي تعلم جيدًا عشقه للشاي ، ثم أغلقت الباب بقدمها وتوجهت نحوه واضعة الكأس أمامه على سطح المكتب ، وسط نظراته المندهشة منها .. وهو يطرح التساؤلات في ذهنه كالآتي ” متي أتت هذه ؟! .. ولماذا جاءت إلي ؟! .. هل نسيت شجارنا بالأمس بكل هذه السرعة ؟! .. بالطبع لا فهي لا تمتلك ذلك القلب الصافي والنقي الذي ينسى الأذى في ظرف ساعات ! ” .
انتظرها حتى تبدأ هي وبالفعل جلست على أحد المقاعد وغمغمت ببرود ونبرة خبيثة :
_ متزعلش نفسك ، صدقني هي اللي خسرتك
_ قصدك على مين !!؟
قالها بشيء من الحزم فأكملت هي بهدوء مستفز وجراءة متوقعة منها :
_ على رحمة .. اصلي شوفتك بتتكلم معاها من شوية تحت
جاءها سؤاله المندهش :
_ وإنتي تعرفيها وتعرفي موضوعنا من فين ؟!
هبت واقفة وتمتمت ساخرة وبنبرة ممتعضة :
_ أنا جيت أقولك بس إنك تبقى مغفل فعلًا لو رجعلتها تاني لإن اللي باعتك مرة هتبيعك مليون مرة
ربما لم تكن من ضمن خطتها التحدث معه ولكنها كانت ستنفجر من غيظها إن لم تخرج الكلمات من داخلها ، واكتفت بقولها هذا حتى تريح قلبها قليلًا وهمت بالرحيل .. ولكن للمرة التانية كان يقبض على ذراعها هذه المرة كانت فبضة قاسية وقوية فالتفتت له ووجدته يحدقها شزرًا ويقول :
_ سألتك سؤال يايسر .. تعرفي رحمة منين ؟ ، اوعي تكوني ليكي إيد في المشاكل اللي حصلت بينا !
ضحكت بقوة وهتفت بغطرسة واستنكار :
_ وأنا مالي بيك أصلًا عشان أعمل مشاكل بينك وبين حبيبتك السابقة !
كان في زروة غضبه ولا يدري ما يفعله أو ما يقوله حتى ، كل ما يراه أمامه أن هذه هي ابنة عمه الذي طالما كان يبغضها وينتظر الفرصة لكي يخرج لها اشمئزازه منها وها هي سمحت له الفرصة وهو أفضل من يستغل الفرص ! :
_ إنتي هتستعبطي يايسر أنا وإنتي عارفين كويس أوي إنك بتحبيني وهتموتي عليا وطبعًا تلاقيكي غيرتي منها وقولتي أما أحاول أعمل مشاكل بينهم بأي شكل ومش بعيد تكوني إنتي اللي بعتيلها العريس ده .. بس أحب أقولك يايسر إني هرجعلها وبالعند فيكي، ومتنتظريش مني غير المعاملة دي وأنا بنصحك إنك تطلعيني من دماغك.. إنتي فاكرة إن ممكن حد يبصلك أصلًا ، وحدة زيك متعرفش تحب إنتي بس بتعرفي تأذي .. وبرأى قبل ما تفكري تحبي أبقى بصي لنفسك تصلحي للحب ولا لا !
كلماته كانت كالخنجر المسموم الذي رشقه في صدرها بدون رحمة ، كانت تعرف أنها يبغضها ولكنها لم تكن تتنظر منه كل هذه القسوة وعدم تقدير مشاعرها حتى لو كان لا يقبل حبها له.. كيف له أن يكون بكل هذا الجفاء ، الآن فقط أدركت أنه استحق ما سببته له من ألم عندما فصلت بينه وبين حبيبته .. استحق كل شيء قالته له المرأة التي عشقها .. واستحق هجرها له كأنه نكرة ؛ لأن هو الذي لا يعرف شيء عن العشق وجبر الخواطر حتى لو بكلمة بسيطة .. هو الذي لا يصلح للحب وليس هي ! .
شعرت بأن دموعها على وشك السقوط ولكنها أبت الظهور أمامه ضعيفة فسحبت يدها من يده بعنف تلقى عليه نظرة أخيرة ساخرة تحمل الألم ثم التفتت وفتحت الباب وانطلقت كالسهم إلى خارج الشركة ودموعها أخذت طريقها لوجنتيها وتهتف بتوعد حقيقي لا يحمل التهاون أو المزاح :
_ أنا فعلًا مبعرفش أحب لإني حبيت واحد زيك .. وعشان أنا مبعرفش غير الأذي هخليك تشوف معنى الأذي بجد ياحسن، وهدفعك تمن كل كلمة قولتها من شوية صدقني.. هتشوف يسر المؤذية على حقيقتها بقى
***
في مساء ذلك اليوم …..
\↚
كان عائدًا إلى المنزل بعد قضاء يوم مرهق ومتعب قضي نصفه في منزل صديقه الحميم وثم توجه إلى العمل لينهي بعض الأعمال المتعجلة والآن هو في طريقه للمنزل يتشوق لفراشه والنوم .
وإذا به يجد فتاة تظهر أمامه فجأة وهي غير منتبهة لوجود السيارة القادمة نحوها ولكنها انتبهت وانتفضت بهلع ومن فعل الخضة عندما حاولت الابتعاد انزلقت قدمها وسقطت .. أما هو فأوقف السيارة بعنف كادت أن تنقلب على عقبيها ، وتسارعت نبضات قلبه عندما رآها ساقطة على الأرض تتألم من قدمها ، ونزل من سيارته مسرعًا ليرى هذه الفتاة بخير أم أصابها مكروه .. وعندما دقق النظر بها جيدًا هتف بذهول :
_ أنسة شفق !!
رفعت نظرها له فأصابتها الدهشة الممزوجة بالخجل والتوتر ، وكأن دلو ماء بارد سكب عليها ، تحاملت على نفسها ووقفت على قدمها هاتفة وهي تطرق أرضًا موضحة له ذهولها بمقابلتها له أيضًا :
_ أستاذ كرم !
هتف بقلق حقيقي دون أن يكون في نبرته أو نظرته إى خجل على عادته :
_ إنتي كويسة ؟ .. أنا آسف جدًا والله ما أقصد لو رجلك فيها حاجة تعالي نروح المستشفى حالًا
أجابت مسرعة بارتباك واستحياء :
_ لا لا مستشفى إيه ملوش لزمة أنا بس عشان اتخضيت فوقعت .. الحمدلله ربنا لطف ، وكمان أنا اللي غلطانة مبصيتش على الطريق قبل ما أعدي
_ متأكدة إنك كويسة ؟!!
أماءت له بابتسامة متوترة ، أما هو فعاد لطبيعته المعتادة حيث أجاب بخفوت ونبرة مؤدبة :
_ طيب اتفضلي هوصلك للبيت .. البيت مش بعيد من هنا
غمغمت باعتراض بسيط بعد أن ازداد الامر سوءًا بالنسبة لها :
_ أنا كويسة والله ، هاخد تاكسي وهروح دلوقتي
رسم ابتسامة بسيطة على شفتيه وقال بشيء من الحدة واللين دون أن تكون نظراته على وجهها ثابتة :
_ تاكسي إيه في الوقت ده!.. مينفعش تاخدي تاكسي دلوقتي وحدك وأنا أكيد مس هسيبك تركبي تاكسي.. يلا اتفضلي هوصلك
تنفست الصعداء بيأس واتجهت إلى السيارة وهي تعرج قليلًا ثم استقلت بالمقعد الخلفي واستقل هو بمقعده المخصص وانطلق بالسيارة فخطف نظرات سريعة لها من مرآة السيارة العلوية التي تعكس الأجسام ، وهو يتردد في سؤالها سؤال كهذا أو بالأحرى يشعر بالخجل لأن هذا شيء ليس من شأنه .. ولكنه لا ينظر لها إلا أنها مثل شقيقته ولا مانع من سؤالها كشيء من الاطمئنان ! .
تنحنح بصوت مسموع قبل أن يطرح سؤاله عليها في أحراج شديد دون أن ينظر لوجهها مطلقًا :
_ أنا آسف على سؤالي .. بس هو إنتي كنتي بتعملي إيه في الوقت ده والمكان الشبه مقطوع ده ؟!
تعجبت من سؤاله لها واستاءت فهو ليس من حقه أن يسألها شيء كهذا ، ثم هتفت بشيء من الحزم بعد أن فهمت أنه يشك أنها كانت في مكان لا يليق بفتاة مثلها أو كانت تقابل أحدهم :
_ هكون كنت بعمل إيه يعني برأيك!! .. واتمنى أكون فهمت صيغة سؤالك و قصدك غلط !
ساد الصمت لبرهة من الوقت يحاول فهم ماتقصده حتى فهم فازداد أحراجه وقال معتذرًا بخجل :
_ أنا مقصدش كدا والله .. وآسف لو ضايقتك !
ربما فهمت سؤاله على هذا النحو وأنه يشك بها ؛ لأنها كانت فعلًا مع صديقتها بصحبة أحد اصدقائها ، ولكنها اصطحبتها شبه إجبارًا بعد الحاحها الشديد بأن تأتي معها ، مقنعة إياها أنه حبيبها ولا تستطيع مقابلته بمفردها وأنها تخجل منه كثيرًا واختاروا هذا المكان المخيف للتقابل وهي ذهبت معها مغلوبة على أمرها .. وإن عرف أخيها بهذا الأمر سيتخذ قواعد صارمة حيالها ! .
***
_ بس إيه رأيك ؟
قالتها بنبرة وضيعة ليجيبها هو بنظرات شيطانية :
_ لا البت طلعت جامدة الصراحة .. بس هتاخدي إيه مقابل اللي هتعمليه ليا
تمتمت بغل وحقد ينبعثان من مقلتيها :
_ هاخد بس مش هاخد منك إنت .. هاخد منها هي ، أنا عايزاك تعمل فيها اللي يخلي عمر ميفكرش يبصلها حتى مش يتجوزها
صمت لبرهة وهو يفكر بلؤم ونبرة حقيرة :
_ دي حتة بسكوتة حرام أخدها على الحامي كدا علطول.. خليها واحدة واحدة أصل الحقيقة مش حابب أجرب معاها العنف علطول كدا
_ أمال عايز تعمل فيها إيه ؟!
تطلع بعيدًا وهو تلوح بذهنه أفكار لعينة لهذه الفاتنة ثم عاد بنظره لها وقال بخبث :
_ هقولك وهتعملي اللي هقولك عليه بالحرف الواحد
***
داخل منزل طاهر العمايري بالتحديد في غرفة يسر …
تمعن ابنة خالتها الكامنة بجوارها النظرات لها بذهول .. فهذه الفتاة حتمًا فقدت عقلها ، ماهذا الجنون الذي تفكر به .. هل يعقل أن هناك عشق بهذا الجنون ! ، كانت دائمًا تسمع عن أفعال العشاق ولا تصدقها والآن اثبتت لها ابنة خالتها .
ساد الصمت للحظات حتى انفعلت صائحة بها :
_ لا يايسر متوصلش بيكي للجنان ده أنا مستحيل اساعدك في حاجة زي كدا
أظهرت عن حدتها وغضبها وهي تلقى أوامرها عليها بصوت خفيض :
_ وطي صوتك لحد يسمعنا .. وهتساعديني يازينب، أنا أكيد مش هأذي حد يعني أنا ههدده بس مش أكتر
كادت أن ترفع نبرة صوتها مجددًا ولكنها تحكمت في انفعالها وهتفت باستنكار :
_ وإنتي فكرك إن حسن هيتهدد يعني !؟
غمزت لها بطرف عيناها اليسار هامسة بثقة مطلقة:
_ هيتهدد وهتشوفي ، أو بمعنى أصح هيعملي حساب
ثم أكملت بنظرة حاقدة وغاضبة :
_ لإن بعد اللي عمله معايا النهردا وغيره لازم يدفع تمن عمايله معايا ، وهو عارف من زمان إني بحبه وحتى لو هو مبيحبنيش على الأقل يعاملني كويس ويحاول يفهمني بالحسني إننا مننفعش لبعض حتى لو مش هقتنع بس على الأقل هحترمه لإنه ماخدش مشاعري على أنها مشاعر سخيفة، والنهردا فعلًا اثبتلي إنه استحق كل اللي عملته فيه ولسا هعمله، عشان يعرف إني مش من ال**** اللي عرفهم .. لا وبيقولي هرجعلها بالعند فيكي ، طاب لو راجل وريني إزاي هتعملها وترجعلها ! .
حدقت بها زينب بصدمة فهي ليست طبيعية ، لا يمكن أن تكون هذه أفعال فتاة ناضجة وعاقلة .. عشقها لحسن قادها للجنون حقًا ! .
هتفت بسخرية :
_ حسن ده جننك بجد يايسر.. وبرأي أن كل اللي قولتيه ده مش هيأثر فيه والسحر هيتقلب على الساحر في الآخر واوعي تكوني فاكرة إنه هيتجوزك ولا حاجة
هبت واقفة وعقدت ذراعيها أمام صدرها هاتفة بابتسامة شياطنية ولئيمة :
_ ومين قالك إني عايزة أتجوزه أنا نسيت موضوع الجواز خلاص، دلوقتي كل هدفي إني أذله واهينه وأشوفه وهو بيترجاني
هي تخطت حدود الجنون وأصبحت مشاعرها مزيج بين العشق والانتقام لكرامتها الذي بعثرها هذا الفاسق ! .. أجل فاسق ولكن مع الأسف القلب لا يفهم هذه المصطلحات !! .
***
انضمت لجلسته الخلوية في حديقة المنزل وجلست بجواره تحدق به للحظات بصمت ، تفكر في طريقة تعرض عليه بها موضوعها الذي من المؤكد أنه سيواجهه بالرفض القاطع كعادته .
ولكنه بدأ الحديث بشيء من العدم مبالاة :
_ موافق ياماما شوفي يوم عشان نروح نتقدم
استغرقت الدهشة دقائق وهي تستوعب موافقته السريعة هذه بدون أي مقاومة منه ، ولكن لا يهم كيف وافق أو لماذا الأهم أنه أخيرًا تقبل فكرة الزواج ! .
_ ايوة كدا يازين فرحتني والله ياحبيبي ، صدقني مش هتندم البنت محترمة وكويسة أوي على ضمانتي .. بس مش هنروح نتقدم علطول لازم تشوفها الأول وهي تشوفك
هنا تحول هدوءه وعدم اكتراثه لسخط وحدة وهو يقول بحزم :
_ نشوف بعض إيه!! .. لتكوني عايزاني أخدها وافسحها كمان ماهو ده اللي ناقص يا أمي، ثم إني أصلًا مش هعمل خطوبة والكلام الفارغ ده هو كتب كتاب علطول وبعديها تاخد راحتها تجهز نفسها لغاية الفرح
_ يابني بلاش عمايلك دي ، أنا مش بقولك روح امسك إيدها ولا اعملوا حاجة حرام دي رؤية شرعية وأنا هكون معاك وهي تكون معاها أمها كمان يعني مش هتبقى خلوة زي ما بتفكر ، متبقاش معقد كدا يازين
هتف منفعلًا :
_ هو أنا عشان ماشي على الدين بقيت معقد ، ما أنا عشان كدا رافض الجواز .. وإنتي عارفة إني مبعترفش بالخطوبة دي وأقعد أكلمها وأخرجها وهي مش مراتي وكله ده حرام في حرام
قالت برزانة محاولة تهدئته بحنو :
_ ياحبيبي أنا معاك .. بس مفيش كدا إنت وهي مش عارفين بعض من سنين عشان تقبل تتجوزك علطول لازم تحصل خطوبة عشان تعرفك الأول و يمكن تلاقوا نفسكم مش متفاهمين
_ استغفر الله العظيم يارب
ضربت على قدمها بنفاذ صبر وقالت وهي تحاول البقاء هادئة أمام هذا العنيد :
_ يازين دي خطوبة وأنا مش بقولك أخرج معاها طبعًا لا ، ولا كلمها وأقعد حب فيها في التلفون لا إنت لما تكلمها هيبقى كلامكم في حدود مثلًا إنك تطمئن عليها مش أكتر أو تتفقوا على حجات في فرحكم والجواز وأنا مش محتاجة أقولك إن ده عادي مفهوش حاجة إنت عارف ده كويس .. إنت بس اللي عايز تحط العقد في المنشار ، بالله عليك يابني ماتعقد الموضوع وخليه يمشي وأفرح بيك بقى
بدأ وكأنه استسلم للأمر الواقع وخضع لها حيث قال بخنق :
_ اعملي اللي عايزاه يا أمي
قالت بسعادة وحماسة شديدة :
_ تمام هما فاضين بكرا ومعندهمش مانع لو طلعنا عشان الرؤية الشرعية ، فجهز نفسك بقى عشان قبل الظهر هنطلع
استقام وقال بموافقة ووجه شبه متضايق :
_ طيب !
لا يعرف ما سبب موافقته !! ، هل أراد أن يعطي لنفسه فرصة أخرى في الحياة ، أم أنه فكر أن لا مانع من تجربة حظه هل سيصيب أم يخيب ، أم أن الأمر ليس له علاقة به بتاتًا وهو قدر ونصيب جعله ينصاع لرغبته كالمغيب ! .
***
مع إشراقة شمس يوم جديد ، كان يوم هادئ منذ بدايته ولكن العواصف كانت تقيم بداخلها ، كلما تتذكر ليلة أمس وتلعن نفسها في الدقيقة ألف مرة لأنها اتَّبعت صديقتها وذهبت معها لهذا الشاب ورغم أنها لم تراه ولكنها شعرت بمشاعر سلبية في هذا المكان وكم توسلت صديقتها لكي يرحلوا ولكن دون فائدة وعندما خرجت اصطدمت بصديق أخيها .. وحتى الآن تشعر بالخجل عندما تتخيل كيف فكر بها وهي في منطقة مهجورة كهذه وفي وقت متأخر قليلًا لا يصح لفتاة أن تكون في هذا المكان حتى وإن كان في جوف النهار .
استفاقت من شرودها على صوت مألوف عليها وعندما انتبهت له ، تأكدت من شكوكها فهبت واقفة لولا يده الذي امسكت برسغها وهو يقول بنظرة مستعطفة :
_ اقعدي ياشفق عشان خاطري متقوميش
سحبت يدها من بين يده بصرامة وهتفت :
_ عمر مش هقولك تاني إياك تفكر بس تلمسني حتى لو بالغلط
استقام هو الآخر وهتف معتذرًا بصدق وندم :
_ طيب أنا آسف آخر مرة صدقيني ، نفسي أفهم إنتي بتعملي فينا كدا ليه ، أنا بحبك وإنتي كذلك
قالت بحدة بسيطة وصوت منخفض :
_ بحبك آه بس قولتلك الحل ، غير كدا متنتظرش مني حاجة ياعمر
_ طيب قوليلي هروح اتقدملك إزاي بس وأنا لسا طالب وحتى معيش شقة ولا حاجة ، اخوكي هيوافق عليا إزاي !
تمتمت ببساطة بعد أن عادت لرقتها المعهودة :
_ أنا مش بقولك نتخطب ياعمر ، بس عايزاك تثبتلي إن نيتك واضحة وصريحة وتكلم سيف وعلى الأقل نقرى فاتحة بس لغاية ما نخلص كلية وإنت ما شاء الله عليك بتطلع من الأوائل يعني إن شاء الله بمجرد ما تتخرج هتلاقي شغل بكل سهولة وسعتها نعمل الخطوبة
تنهد بعمق بعد اقتراحها ، وقد اقتنع به بالفعل ، فهو يريد أي شيء لكي يحصل عليها وتصبح له ، لا يطيق الانتظار لليوم الذي ستكون فيه زوجته . هتف باستسلام :
_ طيب لو ده اللي هيريحك ويثبتلك إني عايز اتجوزك النهردا قبل بكرا هعمله ، هاتي رقم أخوكي عشان أكلمه
ابتسمت له برقة وخجل ثم أخرجت هاتفها وعثرت على رقم أخيها من بين قائمة الأسماء ثم امتله إياه ، وودعت إياه ورحلت حتى لا تتأخر على محاضرتها القادمة ، وتسير بين الحشود وهي تبتسم تلقائيًا عند تخيلها أنهم سيصبحان لبعض بعد إعجابها به الذي طال لسنوات .
***
اقتحم الغرفة دون إنذار وقال مازحًا بضحك :
_ لا أنا أكيد بحلم يومين ورا بعض في الشركة !! ، إيه هي الدنيا زنقت معاك ولا إيه وقولت أما آجي آكل بلقمة عيشي !!
” علاء ” الوريث الوحيد لطاهر العمايري وشقيق يسر ، يتميز بشخصيته المرحة ونجح في جذب جميع أفراد عائلته وحتى الفتيات ، ويستنكر الجميع لصداقته الحميمية هو وحسن ، فحسن مشهور بعلاقته المتعددة وأنه شاب ماجن ، أما علاء فبرغم أنه يمتلك الدهاء كابن عمه وصديقه إلا إنه لا يتخطى حدوده مع أي امرأة ، وهذا هو المعروف عن عائلة العمايري وابنائها ذو الأخلاق الحميدة ! .
طالعه حسن بقرف وهتف :
_ لو جاي تستظرف لف وارجع من مكان ماجيت
تجاهله وتوجه جالسًا بجواره على الأريكة المتوسطة والتقط حبة عنب من الصحن الموضوع أعلى المنضدة الصغيرة أمامهم ، وتمتم بجدية حقيقية :
_ عملت إيه إمبارح مع رحمة ؟
_ ولا حاجة عملت معاها اللازم وطردتها بالذوق ، قال عايزة ترجعلي هو في حد بيجرب لدغة العقرب ويرجعله تاني عشان يلدغه للمرة التانية
كان يتحدث بعدم مبالاة وسخرية تضمر خلفها جدار قلبه الذي ينهار من شوقه لها ، ليجيبه علاء بتأييد :
_ بظبط .. بعدين أنا قولتلك من الأول البنت دي مادية حقيرة وبتجري ورا فلوسك ولما لقت واحد هيحققلها كل اللي نفسها فيه من غير ماتطلب منه حتى قالت وماله ابيع حسن ولما اداها على دماغها دلوقتي رجعتلك
حدجه باستنكار وغمغم بمرارة :
_ ده على أساس إن أنا مكنتش هحققلها كل اللي نفسها فيه ياعلاء !! ، أنا كنت مستعد افديها بروحي لو طلبت .. كنت هخليها ملكة وهعيشها عيشة عمرها في حياتها ماكانت تتخيلها
أصبح شبه منفعلًا وهو يصيح به باشمئزاز :
_ الأشكال اللي زي دي مبيهماش حاجة غير الفلوس ، هي مكنتش بتحبك كانت بتحب فلوسك يابن عمي ودلوقتي رجعت عشان فلوسك برضوا .. طلعها من دماغك
انحنى بجزعة للأمام دافنًا وجهه بين ثنايا كفيه ، وصورتها وهي تترجاه بالأمس لا زالت أمام عيناه ، دموعها الذي كان يكره كل شيء يجعل عيناها تذرف الدموع .. كم تمنى أن يجففهم لها ويهمس لها منذرًا إياها بعقاب يليق بمعشوقته أنها إن بكت أمامه مجددًا ستتلقى عقابها ، ولكنها لا تستحق عشقه ، فقط تستحق الكره .
خرج صوته مبحوحًا وشجينًا وهو لا يزال على وضعه :
_ مش عارف ياعلاء حاولت مليون مرة ، وفي كل مرة بفشل .. امبارح كان فاضل لحظة بس وارمي كل حاجة حصلت ورا ضهري واسيبها تتمكن مني تاني ، ولحقت نفسي بإني سبتها ومشيت وإلا كنت هضعف قدامها
_ أنا مظنش إنها هتيجي تاني بعد ما إنت بتقول إنك طردتها وعاملتها وحش ، ولو جات إنت مش غبي للدرجة اللي تخليك تسمحلها تستغل مشاعرك تاني
هو لديه كل الحق ! .. يجب أن يعطيها المشاعر الذي تستحقها ، ولا يظهر لها سوى الكره حتى يتمكن قلبه أيضًا من أن يكرها ويتحرر من قيودها ! .
***
داخل أحد المقاهي الراقية والهادئة ، المطلة على الماء كان هو وهدى على أحد الطاولات المتوسطة تتسع لخمس أشخاص ، وكانت هدى نظراتها معلقة على باب المقهى متنظرة قدوم العروس ! ، أما هو فبدى غير مهتم تمامًا لأي شيء حيث كان مثبت نظره على الماء يتأمل المنظر من حوله بذهن شارد ، حتى شَعرَ بأمه التي تنكزه في أعلى قدمه بيدها لتلفت انتباهه هامسة :
_ جم يازين
تلقائيًا منه نظر ناحية الباب فوقع نظره على السيدة التي تناظر أمه في السن وكان يعرفها جيدًا ثم تحول نظره للتي تسير معها وترتدي ملابس لا بأس بها .. عبارة عن بنطلون من الجينز ويعلوه شميز طويل يصل إلى أسفل الركبة وفوق كل هذا حجابها البسيط والجميل .. وكانت الفتنة عندما سقطت نظراته على وجهها ، حينها أدرك أن أخطأ بالجلوس في هذا المكان ، فهذه الفتاة فتنة ستسحبه للجحيم ، كانت ساحرة وفاتنة للدرجة التي تجعل أي رجل يفقد نفسه أمامها ، فأشاح بنظره فورًا قبل أن يرتكب ذنوب أكثر وعندما وصلوا لهم وقف هو ووالدته كنوع من الذوق والاحترام ونظر إلى والدتها مبتسمًا باحترام وهي تلقى عليه التحية دون أن تمد يدها للتصافح لعلمها أنه لا يصافح النساء كان يتحاشي النظر لهذه الفتنة الكامنة أمامه ولكنها كانت تنظر له بمزيج من التفحص والخجل وتلاحظ توتره الواضح وإحراجه .
جاءهم صوت هدى وهي تُعرف العروسين :
_ زين ابني الكبير
ثم نقلت نظرها لابنها الذي كان لا ينظر لها بتاتًا وهتفت مبتسمة وهي تشير على العروس :
_ أنسة ملاذ
ثم جلسوا جميعهم مجددًا على المقاعد وبدأت هدى الحديث وهي تنظر لملاذ هاتفة بعذوبة :
_ عاملة إيه ياملاذ آخر مرة شوفتك فيها كنت في الثانوية والله
اجابت ملاذ وهي تبادلها الابتسامة :
_ السنين بتعدى بسرعة ياطنط ، رفيف عاملة إيه
_ الحمدلله كويسة لسا مخلصتش كليتها فاضلها سنة
اماءت لها بهدوء ثم نكزت ابنها خلسة في قدمه حتى يقول شيء وينظر للفتاة ، لا يبقى كالمجبور على الزواج ، فباغت هو أمه بنظرة حادة ثم استغفر ربه ورفع راسه وتحدث إليها ونظراته زائغة ليست ثابتة عليها بادئًا بتعريف نفسه :
_ أنا زين 30 سنة خريج كلية تجارة ومدير عام لشركة العمايري
كانت تنظر له باستغراب وهي يتحاشى النظر إليها ويبدو عليه الخنق فشكت أنها قبيحة ولم تعجبه ، ولكن قطع تفكيرها تحدث أمها بدلًا عنها معرفة ابنتها :
_ ملاذ عندها 25 سنة وخريجة كلية تجارة برضوا
صمت لبرهة ثم هتف بخشونة ونبرة شبه خافضة :
_ كنتي مرتبطة قبل كدا .. اقصد خطوبة يعني ؟!
قالت بثبات وهي تجيب بوضوح :
_ أيوة وفسخنا من حوالي شهر والسبب إننا مكناش متفاهمين مع بعض
أماء بتفهم ثم عاد ليشيح بوجهه مجددًا عنها ثم انتقل الحديث طبيعيًا عن أمور الحياة بين السيدتان وكانت تشاركهم هي وأحيانًا هو وانتقل أيضًا إلي اسئلة طبيعية بين العروسين من آن إلى آن ، واستمرت الجلسة لعشر دقائق تقريبًا حتى أشارت ملاذ لأمها بعيناها أن ينهضوا وانتهت المقابلة التقليدية كأي رؤية شريعية وغادرت هي وأمها وبقوا هما مكانهم فنظرت هدى لأبنها وهتفت مبتسمة باتساع :
_ إيه رأيك البنت قمر وأدب واحترام صح ؟
هتف بخنق مستنكرًا :
_ أهاا فعلًا أنا لو كنت أعرف كدا مكنتش وافقت إني آجي أشوفها أصلًا
فهمت مقصده جيدًا فقهقت بقوة وهتفت ضاحكة :
_ ربنا يقدم اللي فيه الخير يابني ، صلي استخارة وخد قرارك النهائي وهنستني ردها هي كمان
أشار بيده للنادل أن يأتي لكي يدفع له حساب المشروبات التي طلبوها منذ قليلًا وعندما أخبره بالثمن أخرج النقود وتوجه للكاشير ثم دفع وأشار لأمه بأن تلحق به واستقروا بسيارته وانطلقوا عائدين للمنزل .
***
على الجانب الآخر كان سيف يجلس مع كرم داخل مكتبه في الشركة ويتحدثون بطبيعية وحديثهم لا يخلوا من المرح والمزاح ووسط المزاح قال كرم باستغراب :
_ مقولتش إيه سبب زيارتك ؟ .. أول مرة تاجيلي الشركة !
صمت لثوانِ وهو يتنهد بعمق ووجه مرير ويبدو عليه القلق ، مما جعل ابتسامة كرم تختفي فورًا ويحل محلها القلق المماثل له وازداد الأمر سوءًا عند قوله :
_ أصل أنا طالع مأمورية بليل فقولت آجي اسلم عليك
قطب حاجبيه بتعجب وهتف بعدم فهم :
_ طاب وإيه الجديد يعني ما أنت علطول بتطلع مأموريات ؟!
مسح على وجهه وغمغم بمرارة وخوف كان واضحًا في نبرة صوته :
_ المأمورية دي خطيرة ياكرم وأنا مش ضامن ممكن ارجع منها ولا لا .. عشان كدا جيتلك لو حصلي حاجة وأكيد أنا مش محتاج أوصيك على أمي وأختي هما ملهمش غيري وأنا معنديش حد أثق فيه ولا اسلمهم ليه وأنا مغمض غيرك
أثارت كلماته في نفسه وهيجت مشاعر الخوف أيضًا بداخله من أن يخسر صديق عمره ودربه ولكنه لم يعيره اهتمام وهتف مشاكسًا :
_ توصيني إيه !! ، إنت عبيط ياد من امتى وإنت بتروح مأمورية وشايل كفنك على إيدك ، ده هما بيختارولك المأموريات دي مخصوص عشان عارفين كفاءتك ، بطل هبل بقى
غمغم بيأس ونظرة منطفئة :
_ المرة دي أنا حاسس إنها غير ياصاحبي ! .. وأنا لو مكنتش بعتبرك اخويا عمري ما كنت هقولك خلي بالك من أمي وأختي لو حصلي حاجة
أطال النظر في عيناه فتمكن منه شعور الرعب والقلق ، ولكنه للمرة الثانية لم يدعه يسيطر على مظهره الخارجي حيث رفع سماعة الهاتف وتحدث للسكريترة طالبًا منها قهوة لكيلهما ، ثم هتف محدثًا إياه بضيق واضح :
_ إنت عيل نكدي أصلًا ، تشرب قهوتك ويإما تتكلم في موضوع عدل ياتتكل على الله
ضحك بقوة عندما فهم السبب وراء ضيقه هذا ، ففضل أن لا يزعجه أكثر فربما تكون هذه مقابلتهم الأخيرة حقًا ! .
***
في مساء اليوم ……
بعد رحيل سيف ووداع شديد من أخته وأمه ممتزج بدموع الخوف والقلق ، كانت تجلس شفق في غرفتها مع صديقتها التي أتت لها بعد رحيل أخيها بنصف ساعة .
هتفت مروة بحماسة تضمر خلفها المكائد واللؤم :
_ خلاص بقى ياشفق إن شاء الله هيرجعلكم سالم وبخير
_ أمييين
_ أنا النهردا اشتريت هدوم بيتي فظيعة وحابة اخليكي تجربيها قبلي وأشوفها عليكي
_أجرب إيه بس يامروة أنا مليش مزاج للكلام ده !
قالتها بفتور حقيقي وخنق فتكمل صديقتها برجاء :
_ عشان خاطري ياشفق والله هيبقوا فظاع عليكي
استسلمت لأمرها وأخرجت الملابس من الاكياس فدهشت بها حيث كانت كلها غير محتشمة بالنسبة لفتاة تعيش مع أشقائها وأبيها ، فصاحت به بغضب :
_ نهارك اسود إنتي بتلبسي كدا قدام أخواتك وأبوكي !
_ أكيد لا طبعًا بعدين إنتي ناسية إن اخواتي متجوزين وبابا مسافر في السعودية يعني مفيش غيري أنا وماما في البيت فبلبس براحتي.. يلا بقى ياشفق البسيهم
تنهدت بنفاذ صبر ثم طلبت منها ان توليها ظهرها حتى تستطيع تبديل ملابسها وارتدائهم ، ففعلت على الفور وهي لا تطيق الانتظار اللحظة التي سترتديهن فيها وتلتقط لها الصور . وبعد دقائق سمحت لها بأن تنظر لها وكانت فاتنة بالفعل في هذه الملابس رغم أنها ملابس منزلية ولكن بإمكانها أن تُذهب بعقل أي رجل سيراها بهذه الملابس ، رفعت هاتفها وهي تقول مبتسمة :
_ إيه يابت الحلاوة دي لا أنا لازم اخدلك صورة
جذبت الهاتف من يدها بعنف وهتفت بصرامة :
_ تاخدي صورة إيه يامروة إنتي مجنونة .. عايزة تصوريني بالمنظر ده ، أكيد لا طبعًا !
أجابتها الاخرى مبررة ومخترعة كذبة لتقنع بها هذه المسكينة والساذجة :
_ يابنتي هوريها لماما هي ماما غريبة عنك ياشفق ، هعمل بيها ايه الصور يعني بطلي هبل .. هوريهم لماما أول ما أروح وهمسحهم علطول أكيد
رفعت أصبعها السبابة في وجهها وهي تقول محذرة إياها بحدة بعد ان استطاعت أن تخدعها بسهولة بكذبتها :
_ تمسحيهم علطول يامروة ، وإلا والله هزعل منك بجد
أماءت لها بالموافقة في ابتسامة خبيثة ثم أشارت لها بأن تقف بزواية معينة حتى تلتقط الصورة جيدة ، ثم بدات في ارتداء باقي الملابس وبالطبع لم تنسي ان تلتقط لها الصور في كل شكل ترتديه من الملابس ، وهي تجهل حقيقة هذه الأفعى المتجسدة في صورة صديقة لها ! .
وبعد انتهائهم ذهبت شفق لتجلب لها الماء كما طلبت فاسرعت هي بإرسال الصور إليه عبر رسائل الواتس آب ومدونة أسفلهم بلهجة وضيعة ووقحة :
_ أهي صور المزة بتاعتك ، اعمل بقى اللي إنت عايزاه فيها وفي صورها ومتنساش تكتبلي رسالة شكر بعدين ، لأحسن بعد الصور دي أنا خدمتك خدمة عمرك في بنت جامدة زي دي ! .
_ الفصل الثالث _
داخل أحد النوادي التي تجمع بين الطبقة المتوسطة والغنية . كانت الأضواء مزعجة بعض الشيء وعلى كل طاولة مجموعة أصدقاء أو عائلة جاءوا لقضاء وقت جماعي وممتع باستثناء طاولة ! .
حيث تجلس فتاة عليها وتقوم بمذاكرة أحد دروسها الجامعية استعدادًا لامتحان غدًا ، غير مكترثة لأصوات الثرثرة والأزعاج من حولها وعندما شعرت بالصداع يتمكن منها فقررت أن تنهض وتطلب كوب قهوة لها حتى تكمل آخر درس وترحل قبل تأخر الوقت ، وبينما هي في طريق عودتها لطاولتها وهي بيدها كوب القهوة وباليد الأخرى هاتفها تتفحصه بتركيز شديد ، اصطدمت بأحدهم وشهقت بفزع عندما وجدت جزء من القهوة سكب على قميصه الأبيض ، رفعت نظرها له وقالت باعتذار ونظرة قلقة ومرتبكة من ردة فعله التي ربما تحتمل الغضب :
_ أنا آسفة أوي أوي
نظر هو لقميصه الأبيض الذي تلطخ جزء منه بالقهوة وكتم غيظه ثم عاد ينظر لها وقال بنبرة محترمة وبابتسامة راقية :
_ ولا يهمك يا آنسة حصل خير
دققت رفيف النظر به جيدًا ثم هتفت فورًا بعفوية :
_ إنت إسلام ابن طنط منى واخو ملاذ ؟
قطب حاجبيه باستغراب لمعرفتها اسمه وعائلته الصغيرة ، وخرج صوته مستفهمًا :
_ أيوة أنا ! .. إنتي تعرفيني من فين ؟
_ أنا أخت زين .. ” رفيف ”
بدا طبيعيًا جدًا ولم يبدى أي اندهاش فقط مد يده ليصافحها هاتفًا بابتسامة عذبة :
_ آهااا أهلًا وسهلًا تشرفت بمعرفتك .. اعذريني لو مش فاكرك
بادلته الابتسامة ولكنها كانت ابتسامة رقيقة وقالت باعتذار جديد :
_ لا عادي .. آسفة مرة تاني مخدتش بالي والله ، هتعمل إيه في القميص؟
نظر للقميص زامًا شفتيه بعدم حيلة وشيء من الخنق ثم عاد يرسم الابتسامة على وجهه وهو يقول :
_ في واحد صاحبي جايني دلوقتي هقوله يجبلي قميص معاه
أماءت له بالإيجاب ثم اعتذرت بذوق وانسحبت وهو كذلك قاد خطواته على عكازه إلى طاولته التي كانت على الجانب المقابل لها وأخرج هاتفه يتصل بصديقه ويخبره بأمر القميص .. وبقى لدقائق في انتظاره يحتسي كوب الكاكاو الخاص به وينقل نظره بين الجالسين والمارين وأحيانًا يقع نظره عليها وهي مندمجة في استذكار دروسها ، فتعجب أنه كيف لها أن تدرس في وسط كل هذا الأزعاج ! .
ماهي إلا نصف ساعة وحتى انضم صديقه لجلسته وهو يهتف بعد أن وضع الكيس الذي يحتوى علي القميص أمامه :
_ إيه ماله قميصك ياباشا ؟!
نظر لرفيف حتى يتأكد أنها لا تراه وقرب رأسه قليلًا من صديقه هامسًا حتى لا تسمعه :
_ البنت اللي هناك دي خبطت فيا بالغلط وقهوتها اتكبت على القميص
نقل نظره إلى ما يشير له بعينه فوقع عيناه عليها وظل للحظات يتفحص ملامح وجهه ثم عاد بنظره مجددًا لصديقه وهمس مشاكسًا :
_ يارتني أنا ياخي !
ضحك بخفة ثم هب واقفًا وجذب عكازه والقميص مغمغمًا :
_ هروح أغير القميص في الحمام ولغاية ما آجي اطلب لينا سندوشات أي حاجة لإني جعان وكنت مستنيك
قال مستنكرًا ضاحكًا :
_ هو إنت من إمتى مكنتش جعان أصلًا ، إنت 24 ساعة جعان يامعلم
انحنى قليلًا وهو يهمس محذرًا مانعًا ضحكته :
_ احنا في مكان عام فمتخليش لساني يغلط بالالفاظ
قهقه الآخر بقوة واستدار هو متجهًا إلى الحمام فنظرت هي له عندما مر من جانبها ولاحظت عكازه ولكنها لم تكترث لهذا كثيرًا ولفت رأسها ناحية طاولته فرأت صديقه ينظر لها وعندما التقت عيناهم ابتسم لها فخفضت نظرها في الكتاب فورًا بتوتر وخجل ولم تكف عن لعن نفسها وغبائها الذي وضعها في هذا الموقف المحرج ، وقررت أن تنسحب بهدوء قبل وقوع مصائب أكبر ، ثم استقامت ولملمت أشيائها وغادرت بسرعة البرق ، وعندما عاد هو بعد دقائق لاحظ فراغ الطاولة منها فنظر إلى صديقه بنظرة فضولية فيجيبه هو ضاحكًا :
_ بعد ما أنت قمت هي بصت عليا فأنا ابتسمت وبعديها علطول لمت حاجتها ومشيت شكلها اتكسفت !
نظر اسلام لصديقه بغيظ وهتف بغضب :
_ إنت متخلف يابني بتضحكلها ليه .. ماطبيعي تتكسف وتمشي
استمر في ضحكة بينما هو فتأفف وجلس على المقعد واكمل احتساء كوبه الذي تركه ناقصًا.
***
خرج حسن من المنزل واستقل بسيارته ثم انطلق بها وأشارت هي لسائق التاكسي أن يلحق به ، وبعد دقائق توقفت سيارته أمام المكان المقصود ، وترجلت من السيارة ثم اختبئت بمهارة حتى لا يراها ، أما هو فقاد خطواته نحو الداخل والذي كان عبارة عن ملهى ليلي لا يضم سوى أصحاب الطبقات الراقية ! .
توقفت من الخارج تنظر له خلف الزجاج وهو ينضم لإحدى فتيات الليل ويجلس بجوارها ثم يبدأ في طلب كأس الڤودكا خاصته ، وكانت الفتاة تتلفت حولها باحثة عن أحدهم حتى وقع نظرها على يسر من خلف الزجاج وأشارت لها يسر بأن تبدأ ، فأماءت بالموافقة والتفتت ناحية حسن ثم اقتربت منه بطريقة مغرية والتصقت به وكشفت على ساقها من الرداء الليلي الذي ترتديه حتى تسير الخطة كما يجب ، وكانت يسر من الخارج تلتقطت الصور بزاويات تعبر عن وضعهم الغير لائق واستغلت الفرصة عندما وجدتها تطبع قبلتها بجانب شفتيه ، والتقطت الصورة فورًا ، ثم وجدتها تنظر لها كأنها تسألها هل يكفي هذا فأماءت لها بالموافقة وأشارت بيدها على شيء أمامهم ففهمت هي مقصدها وشرعت في تنفيذه ، بينما هو كان غير مكترث لها تمامًا فقط يقلب نظره بين الفتيات بنظرات وقحة ، مما زاد إصرار يسر على معاقبته فهذا الفاسق يحتاج لشيء يعيده لرشده .. كانت تحترق غيرة وهي ترى هذه العاهرة تجلس بجانبه وتلمسه بإثارة وهو لم يبدى أي اعتراض ، ياله من وقح وفاسق .. ولكنها اقسمت أنها ستخرجه من هذه القذرات قريبًا ! .
بالداخل ……..
تحدثت الفتاة له بنبرة وضيعة :
_ ألا قولي ياحسن بيه ، هي مش يسر العمايري بنت عمك !؟
نظر لها عند ذكرها ليسر وقال بتعجب :
_ آه إنتي تعرفيها من فين ؟!
_ كانت معرفة قديمة !
ابتسم بسخرية وقال بوقاحة دون أي اعتبار أن هذه الفتاة ابنة عمه وسمعتها من سمعته :
_ لا ده أنا بعد كدا هغير وجهتي مدام بنت عمي تعرفك مش بعيد تكون زيك ، ليه أدور برا ! .. قال معرفة قديمة قال !!
قالت بتصنع الضيق :
_ أخس عليك ياحسن بيه ، إيه زيك دي إنت بتغلط فيا كدا !!
أطلق ضحكة مرتفعة ومستهزئة وقال بنظرة شياطنية وجريئة :
_ احنا هنستعبط يابت !! ، هتعمليلي فيها شريفة ولا إيه ، تحبي أفكرك بالليلة إياها !
أطلقت ضحكة أنوثية مرتفعة ومثيرة ، فرأتها يسر من الخارج وهي تضحك هكذا وهو يبتسم فبصقت عليهم باشمئزاز وهمست بتقرف وتوعد :
_ بسببك بتعامل مع الأشكال ال***** دي وبتفق معاها كمان ، صبرك عليا بس دي لسا البداية
لحظات قليلة ووجدتها تنهض من جانبه وتنسحب من أمامه للخارج دون أن يلاحظها وتقابل يسر في الخارج التي جذبت من يدها التسجيل الصوتي وقالت بشراسة :
_ عملتي اللي قولتلك عليه ؟
قالت الفتاة بثقة ونظرة وقحة :
_ طبعًا ياهانم اطمني ده قطع فيكي جوا …..
قاطعتها بحدة وهي تصيح بها بغضب :
_ إنتي هتنسي نفسك ولا إيه يابت عملتي اللي قولتلك عليه وأهي فلوسك ، وقسمًا بالله لو سمعت إنه عرف إني كنت هنا لاكون محياكي من على الوش الدنيا كلها
تقهقرت الفتاة بخوف وهتفت بتوتر وهي تجذب دفعتها من النقود منها :
_ مش هيعرف حاجة متقلقيش
رمقتها بنظرة احتقارية أخيرة قبل أن ترحل وهتفت بسخط :
_ جاتك القرف إنتي وهو !!
ثم استدارت واستقلت بالسيارة الذي أتت بها إلى هنا ، وستأخذها للمنزل مجددًا .
***
مر يومان دون أحداث جديدة في اليوم بالنسبة للكل .. زين ينشغل بعمله كالعادة وملاذ لا تزال تحسم قرارها النهائي حتى تخبرهم بقرارها .. أما حسن فكما هو في عالمه الخاص والقذر ويسر تنتظر الوقت المناسب لتطلق السهم عليه .. أما شفق فتواصلت مع أخيها هي وأمها مرة واحدة منذ ذهابه وكرم مازال يبحث عن قاتل زوجته ولا يتوقف ليوم واحد عن محاولة جمع أي معلومات عنه .
أما اليوم فسيكون يوم المفاجآت العالمية بالنسبة للكل ، وقد تكون فجائع للبعض وليست مفاجآت ! .
فتحت هاتفها عندما سمعت صوت أشعار ينبه بقدوم رسالة لها على تطبيق الواتس آب ، ووثبت واقفة عندما رأت صورها مرسلة من رقم مجهول ، وكانت صورها التي التقطتها لها زينب بملابسها الجديدة ، ظلت متسمرة بأرضها تتطلع في الصور بذهول وقد شعرت بارتعاشة جسدها ورعبها الذي استحوذ عليها ، بالأخص عندما وجدت هذا الرقم يتصل فأجابت فورًا صائحة به بغضب ممتزج بالارتباك :
_ إنت مين وجبت الصور دي منين ؟!
أتاها صوته الهادئ والخبيث :
_ اهدى ياقمر .. من غير عصبية كدا إنتي كنتي عجباني وزاد اعجابي بعد الصور الجامدة دي ، فإنتي هتجيني على المكان اللي هقولك عليه بالذوق ومن غير شوشرة وإلا أنا مش محتاج أشرح اللي هعمله بصورك دي
ابتلعت ريقها برعب حقيقي عندما سمعته يطلب منها القدوم لمقابلته ، ولكنها استجمعت قوتها وصاحت :
_ إنت تعرفني من فين أصلًا !
_ أعرفك كويس أوي يامزة ولما تاجي هنتعرف أكتر كمان ، هبعتلك العنوان بالتفصيل في رسالة بالوقت اللي هنتقابل فيه بليل وتاجي وإلا إنتي عارفة
_ آجي فين إنت مجنون ، وهتمسح الصور دي بالذوق وإلا والله هوديك في ستين داهية أنا أخويا ظابط
قالت جملتها الأخيرة بتهديد بريء ، بل كان تهديدها كله تهديد طفلة لشخص راشد ، تهدده وهي خائفة ومرتشعة دون أن تملك الثقة في نفسها مطلقًا .
أصدر هو ضحكة متأججة وأجابها ساخرًا :
_ أنا قولتلك اللي عندي وميهمنيش أخوكي ظابط ولا غيره ، لو مجيتيش بليل هتلاقي صورك منشورة على كل مواقع التواصل الاجتماعي وشبكة جوجل نفسها وابقي ووريني حضرة الظابط هيعرف يلم الفضيحة إزاي بقى ، فأنتي لو ناصحة متجيبيش سيرة لحد وتخلينا نستمتع مع بعض في هدوء من غير ما نعمل مشاكل ، هستناكي ياقطة بفارغ الصبر
ثم انهى الاتصال معها وبقت هي كالآلية مكانها لا تصدر صوت ولا حركة ولا أي شيء ، حتى سمعت صوت هاتفها يهتز معلنًا عن وصول رسالة جديدة ففتحتها فورًا لتجد العنوان الذي كان في منطقة مهجورة ومشبوهة ولا يجوز ملطقًا لفتاة بأن تدخلها بمفردها وبالأخص بالليل . فالقت الهاتف على الفراش وجثت على الأرض هامسة بذهول وأعين سابحة بهم الدموع :
_ هعمل إيه في المصيبة اللي أنا فيها دي .. وحتى سيف مش موجود ، أنا مستحيل أروح أقابل واحد غريب في منطقة زي دي .. يارب ساعدني يارب
***
فتحت الباب بعد أن سمح لها بالدخول ، وسارت نحوه وهي تحمل بيدها كوب القهوة الخاصة به ثم وضعته أمامه على مكتبه المتوسط وجلست على الفراش موجهة حديثها إليه برزانة :
_ مش ناوي بقى ياكرم تبعد عن موضوع اللي قتل أروى ده وتسيب البوليس يشوف شغله معاه
ليس من عادته أن يرفع نبرة صوته على والدته ، بل لم يفعلها منذ صغره وهو يحاول منع انفعالاته أمامها الآن حيث قال بنبرة واضح عليها الاستياء :
_أنا مش فاضي يا أمي !
استقامت واقتربت من مقعده جالسة في وضع الاستعداد وهي تستند بيدها على حافة المقعد وتطالعه بدموع امتزجت بنبرتها المتوسلة :
_ ابوس إيدك يابني ، أنا مقدرش أشوف فيك ضرر إنت وأخواتك ولو حصلك حاجة لقدر الله من ورا المجرم ده هموت فيها
فر استيائه وحل محله الحنان والرقة التي تذيب قلب أي امرأة حتى أمه ، وأمسك بيدها هامسًا بنعومة :
_ بعد الشر عليكي ياست الكل ، وبعدين هيحصلي إيه يعني ، أساسًا ميقدرش يعمل حاجة معايا ده واحد قاتل وهربان من الحكومة
هبت واقفة وصاحت به بانفعال أمومي خائف :
_ اديك قولت قاتل .. معنى كدا أنه مش هيتردد لحظة في إنه يقتلك كمان ، ولو معملكش حاجة إنت مش هتسيبه سليم وهتخش فيه السجن وفي كلتا الحالتين هخسرك ، ليه هتضيع نفسك يابني عشان واحد قذر زي ده .. فكرك إن اروى مبسوطة كدا وهي شيفاك بتقضي على حياتك وحتى الجواز رافضه بتاتًا
عادت نظراته للحدة مجددًا وهو يجيبها بشراسة :
_ أيوة هي فعلًا مش مبسوطة .. مش مبسوطة لإني مخدتلهاش حقها ، ده مش واحد قتلها بعربية ولا مسدس ولا سكين ، ده مسألة شرف وأنا يستحيل أسيب حق مراتي يضيع كدا ، هاخد حقها حتى لو على موتي .. وانتقامي منه هيكون مختلف زي طريقة قتله ليها ، وأنا معنديش حاجة أخاف عليها لا زوجة ولا عيال وإنتي ورفيف الحمدلله زين وحسن موجودين يعني غيابي مش هيأثر عليكم
صدمها رده الذي لا يحمل أي مسئولية ، وكأنه مراهق متهور لا يعرف الخطأ من الصح ويسير إينما تلقى به الرياح حتى وإن كان طريق كله الغام .. فكان الرد منها صادم أيضًا بالنسبة له حيث قالت بصرامة وجدية تامة :
_ إنت عايز تنقطني ياواد ، إيه الجنان اللي بتقوله ده إنت أكيد مش واعي للي بتقوله ! .. أنا مش بقولك متخدش حقها لا طبعًا خد حقها وانتقملها بس بالقانون مش بالبلطجة ، واسمع بقى ياكرم والله العظيم لو أذيت الواد ده وعملت فيه زي مابتقول اتأكد إنك خسرتني للأبد وهغضب عليك لآخر نفس فيا .. وابقى لما تلاقيه اختار ياتاخد حق مراتك بالقتل وتحرق قلبي عليك يإما تاخد رضايا عليك اللي هينفعك في دنيتك وآخرتك ، وأنا قولتلك أهو وحذرتك
هب واقفًا ثائرًا وهو يهتف بضجر شديد :
_ إنتي ليه مش عايزة تفهمي اللي جوايا ، أنا جوايا نار بتاكل فيا وبتزيد كل ما افتكر واتخيل اللي حصلها ، دي مراتي يا أمي وكانت أسبوع بس و هتبقى في بيتي ومعايا ، محدش فاهم وجعي ولا المي ، من جهة إني خسرتها قبل ما احصل عليها أصلًا ومن جهة الطريقة اللي ماتت بيها ومن جهة شوقي ليها ، وصورتها اللي مبتفارقش أحلامي من ساعة ما ماتت .. واللي واجعني اكتر إنها كانت حبيبتي مش مراتي بس وكنت مستني اللحظة اللي نجتمع فيها مع بعض في بيت واحد واتحرمت من ده كله ، بسبب ال******** اللي بتقوليلي لو أذيته هغضب عليك ، عايزاني انسى اللي حصل واقول يلا مش مشكلة ماهي ماتت والحي ابقى من الميت وهو مسيره ياخد جزائه .. أنا آسف يا أمي سامحيني ارجوكي بس مش هقدر أعمل اللي بتطلبيه مني ، لإني لو مخدتش حقها ناري اللي جوايا هتقتلني وتحرقني أنا
ثم انصرف من أمامها ومن الغرفة بأكلمها ، وتركها في نازلتها التي سيترتب عليها خسارتها لأحد ابنائها وزهرة قلبها ، فما كان عساها شيء سوى البكاء بحرقة وهي تندب حظها وتنوح بصوت خفيض كأنها في عزاء أحدهم .. فقد خسرت زوجها جراء لحادث أليم وكانت ستفقد معه ابنها الذي هو كان رافض الزواج ايضًا بسبب ماضيه الذي لا يرحل عن باله واقنعته بصعوبة أخيرًا بالزواج ، وحسن الذي لا يحمل مسئولية شيء مطلقًا ويعيش لنفسه فقط ، وكرم الذي سيقضى على نفسه بسبب غضبه وتهوره وحزنه على زوجته .. ماذا عساها أن تفعل مع ثلاث رجال كهؤلاء سوى الدعاء لهم بالهداية ! . احست بانفاسها تضيق وإنها لا تقوى على الوقوف فسقطت فاقدة للوعى جراء مرضها بالقلب ! .
***
داخل أحدي المستشفيات …
كان يسير إيابًا وذهابًا في الطرقة أمام الغرفة الكامنة فيها أمه ، ويلعن نفسه في اللحظة ألف مرة لأنه السبب في كل هذا ، وشقيقته تجلس على أحد المقاعد ولا تتوقف عن البكاء ، اقترب منها وانضم لها على مقعد مجاور لها وضمها لصدره هامسًا :
_ خلاص يارفيف ، كفاية عياط إن شاء الله هتبقى بخير .. ادعيلها ربنا يقومها بالسلامة
لم تجيبه واكتفت ببكائها بين ذراعيه ، أما هو فانتبه لحسن الذي يتجه نحوهم راكضًا وثواني حتى وقف أمامهم وقال بصوت لاهث ووجه مذعور :
_ حصل إيه ياكرم ماما مالها ؟
_ لسا الدكتور مطلعش من عندها ، قولت لزين ؟
هز رأسه نافيًا وأجاب برزانة :
_ لا لما يطمنا الدكتور عليها هتصل بيه بلاش نقلقه من دلوقتي ، فهموني حصل إزاي ده ؟
تحدثت رفيف بصوت مبحوح ونبرة واضح عليها البكاء العنيف :
_ كانت بتتكلم مع كرم وأنا سمعت صوتها بتزعق معاه وبعدين هو طلع وسابها وأنا طلعت أشوفها لقيتها واقعة على الأرض
تأفف حسن بعنف بعدما توقع سبب شجارهم ونظر إلى أخيه شزرًا هاتفًا بغضب هادر :
_ إنت مش عارف إن أمك عندها القلب يعني ! ، ولا هو عشان تاخد حق مراتك هتخسر أمك بسبب عنادك ياكرم
أشار إلى رقبته وأجابه بوجه محتقن بالدماء :
_ حسن أنا واصلة معايا لهنا ، متتكلمش معايا نهائي
أماء بحدة وغيظ وتمتم وهو غير واعي لما يخرج منه فمه :
_ آه ما أنت أهم حاجة عندك مراتك ، مش مهم أمك يحصلها حاجة ولا تموت ، ابقى خلي انتقامك لمراتك ينفعك لما أمك تحصلها بسببك
وثب واقف ورفع سبابته في وجهه محذرًا إياه بنظرة مميتة :
_ آخر مرة هقولهالك ، اتجنبني خالص ياحسن ، وموضوع مراتي محدش ليه دعوة بيه ، متشغلوش بالكم بيا بس ومحدش هيحصله حاجة
ثم انصرق وترك أخيه يتابعه وهو يغادر مندهشًا ، ثم عاد بنظره إلي شقيقته وقال :
_ شايفة بيقول إيه !! ، لا ده اتجن على الآخر
_ سيبه ياحسن متتغطش عليه ، هو كمان معذور حط نفسك مكانه وهتفهمه ، وعلى فكرة هو قلقان على ماما أكتر مننا
صاح حسن في انفعال :
_ ياعم أنا مقولتش إني مش فاهمه ولا إن هو مش قلقان على ماما ، بس يعمل حساب إن أمه مريضة ومش بتستحمل ويمسك أعصابه قدامها ، كلنا بنحاول نبعد عنها الضيق عشان متتعبش وهو مجرد ما حد يفتح معاه موضوع اروى بيتحول
قطع حدوثهم خروج الطبيب من الغرفة فركضت رفيف أولًا له تنتظر منه أن يخبرهم بوضع والدتهم ، وكان حديثه أعاد لهم الحياة من جديد حيث قال :
_ اطمنوا الحمدلله هي كويسة بس ياريت تتجنبوا إنها تتعرض لمواقف تزعلها أو تعصبها ، هي دلوقتي فاقت وزي الفل تقدروا تدخلوا ليها
_ تمام شكرًا يادكتور
قالها حسن ممتنًا بإبتسامة واسعة ، أما رفيف فلم تنتظر شيء حيث هرولت إلى داخل الغرفة وعانقت والدتها بقوة وهي تهتف بسعادة ممزوجة بالدموع :
_ حمدلله على سلامتك ياماما ، ليه كدا تضايقي نفسك إنتي مش عارفة وضعك يعني ياماما
غمغمت بصوت متعب ومنخفض :
_ الحمدلله ياحبيبتي
رأت حسن الذي انضم لهم للتو واقترب من فراش والدته ثم انحني وطبع قبلة رقيقة على جبهتها مغمغمًا بابتسامة مداعبة :
_ طاب ما إنتي زي الحصان أهو يادود ، أمال عايزة تقلقينا بس وخلاص عليكي
نظرت هدى إلى ابنتها وقالت بتصنع الضيق مازحة :
_ إيه اللي جاب الواد ده هنا
ضحكت رفيف بقوة وانطلقت هو منه ضحكة رجولية متأججة وأجابها معاتبًا :
_ اخص عليكي ده جزاتي يعني ياست الكل
نقلت نظرها بين أركان الغرفة ثم قالت باستغراب وقلق :
_ كرم فين ؟
تمتمت رفيف وهي تنظر لحسن بلوم :
_ اتخانق مع حسن قبل ما يطلع الدكتور من عندك وشكله طلع يقعد برا ، هروح انده وأقوله إنك فوقتي
ثم استقامت وغادرت ، بينما حسن فكان يخطف نظرات إلى والدته التي تطالعه باستياء وعتاب شديد ، وقبل أن ترمي عليه عتابها وغضبها قال :
_ متبصليش كدا ، هو غلطان !
_ لا مش غلطان .. إنت عارف أخوك عمره ما على صوته عليا ، أنا اللي حصلي ده بسبب خوفي عليه ليعمل حاجة في نفسه بسبب عنده .. وإياك ياحسن تكلم أخوك وتشد معاه تاني ، ده بيني وبينه ملكمش دعوة إنت وزين
جلس على حافة الفراش وقال ساخرًا بابتسامة :
_ حاضر مش هنقرب من ابنك حبيب قلبك ، بس أنا بقى مش هتدخله في أي حاجة
أظهرت عن وجهه الغاضب وقالت :
_ أهو إنت اللي هتتعبني .. هتتدخل ياحسن إنت وعدتني وإلا ….
قال ضاحكًا بمشاكسة :
_ من غير وإلا ياعم ، بهزر معاكي أكيد مش هسيبه يودي نفسه في داهية المتخلف ده
عادت الراحة لقسمات وجهها وقالت باسمة بحب أمومي :
_ ربنا يكرمك ياحبيبي ، أيوة كدا خليك ورا أخوك ومتسبهوش
قطع حديثهم دخوله الغرفة فرأى حسن أمه تشير له بعيناها إلى الباب ، ففهم مقصدها ووقف وغادر تاركًا إياهم بمفردهم ، وظل كرم متصلبًا بأرضه مطرقًا أرضًا ، يخجل من ان يرفع نظره في وجه والدته بعد أن فعله في الصباح معها ، حتى أتاه صوتها الناعم والحاني وهي تطلب منه الجلوس بجانبها ، فلبي طلبها وجلس بجوارها والتقط كفها يلثم إياه برقة ورفع نظره لها فرأت الدموع المتجمعة في عيناه وهو يهمس لها بندم وخجل :
_ أنا آسف يا أمي سامحيني والله ما أقصد اضايقك ، أنا مش عارف إزاي اتعصبت كدا عليكي
ثم دفن وجهه بين كفها وانفجر باكيًا كطفل صغير ، فانفطر قلبها عليه وملست بكفها الآخر على شعره الناعم هامسة بصوت يغالبه البكاء :
_ أنا مش زعلانة منك ياكرم والله ، وعذراك ياحبيبي ، أنا كل اللي بعمله ده بسبب خوفي عليك
رفع وجهه عن كفها وغمغم بخفوت :
_ غضب عني بعمل كل ده والله ، حاولت كتير إني اشيل من دماغي الأفكار دي وأخد حقها بالقانون بس رجولتي وكرامتي مش بتسمحلي ، أنا متأكد إنك حاسة بيا وباللي جوايا وعشان كدا مش بتزعلي مني ، بس من هنا ورايح هعمل اللي يريحك ويرضيكي
لاحت ابتسامة ساحرة على وجهها ، كلها رضا وحب لفريدها الذي أنعم الله عليها به ، ثم مدت يدها ووضعتها على وجنته هاتفة بثقة تامة وابتسامة دافئة :
_ إنت فاكر إني خايفة إنك تقتله لا أنا خوفي الحقيقي عليك منه ، لكن إنت متعرفش تأذي حد ياكرم حتى لو كان واحد قاتل ومجرم ، إنت بتقول هقتله بس أنا جوايا واثقة مية في المية إنك مش هتقدر تعملها ، ابني اللي ربيته مبيعرفش يأذي نملة بقى معقول هيأذي إنسان ويقتله مستحيييل ، عارف لو كان حسن أو زين أقولك أخاف فعلًا إنهم ممكن يقتلوه لكن إنت مخفش إنك تقتله أنا خايفة عليك .. خايفة يلبسك تهمة ويدخلك السجن أو يأذيك
أطرق رأسه في خنق واستياء من نفسه وهو يجيبها ينفى حديثها :
_للأسف في دي أنا مش هكون ابنك اللي ربتيه ومقدرش اوعدك بحاجة أنا عارف إني مش هقدر اوفى بيها
غمغمت هدى برزانة وصوت رخيم :
_ عشان كدا بقولك خد حقها بالقانون ، هي مستحيل تبقى مبسوطة لما تتأذي بسببها ، لكن لما تاخدلها حقها من غير ما تأذي نفسك هتفرح وهترتاح
تمتم باستسلام مؤقت وخضوع تام لها :
_ حاضر هشوف يا أمي إن شاء الله هعمل إيه ، يرجع بس سيف من المأمؤرية دي وهكلمه
قبضت على كفه في حنو أمومي وغمغمت بدفء :
_ ربنا يحميك يابني ويريحك زي ما ريحتني
طالعها بابتسامة بسيطة فبادلته بابتسامة محبة وحانية …
***
هل يمكن أن ينمو عشق نشأ من الكذب والخداع ! .
كانت تقول دائمًا أن العشق ثقة وهي الآن ستقبل بالزواج من رجل ، وقبل أن تأخذ هذا القرار دمرت مبدأ العشق لديها ، فهي هدمت الثقة بينهم قبل أن تبدأ ! .
ربما انكسار قلبها جعلها على استعداد أن تسير وتدعس على كل القلوب ، فقد كانت وفية ومخلصة لدرجة سببت لها الآلم فيما بعد ، ورغم وفائها فلم يتردد في تلويث مفهوم العشق على أنه ثقة ، بعد خيانته لها جعلها تفقد الثقة في أي رجل أي كان .. فقدت الثقة ولكن مازالت تحبه وهذا هو سبب زواجها !! .
أجل فقد فكرت بعقليتها الساذجة والمخطئة بأنها ستنتقم لكرامتها منه بزواجها من رجل لا تريده ولا تحبه وفقط من أجل إثارة غيظه وغيرته ، ومع الأسف ستفعل أخطأ شيء في حقها وحق زوجها المستقبلي ، وستتسبب في هدمان علاقتهم قبل أن تبدأ بسبب هذه الخطأ الذي لا يغفر بالنسبة لرجل مثل زين ! .
انفتح الباب ودخلت أمها وهي تحمل على يديها ملابسها المغسولة ووضعتها على السرير أمامها ، وقبل أن ترحل أوقفها صوت ابنتها وهي تنده عليها فالتفتت وقالت :
_ ايه ياملاذ مالك ؟!
_ هي طنط هدى مردتش عليكي ولا حاجة ؟
ابتسمت الأم بسعادة وعادت فورًا لتجلس بجانبها وتهتف بتلهف وحماس :
_ ردت كلمتني الصبح بدري وقالتلي إن زين موافق وصلى استخارة ومرتاح الحمدلله ، وبعدين ميوافقش إزاي ده انبهر لما شافك هو حد يشوف القمر ده ويرفض بس .. ما علينا إنتي موافقة صح ؟
أصدرت تنهيدة حارة قبل أن تجيبها كالمجبورة على شيء :
_ موافقة ياماما ، بس مش عايزة أعمل خطوبة ياريت نخليها كتب كتاب علطول أو فرح
اختفت ابتسامة والدتها فورًا وطالعتها بريبة شديدة واندهاش ثم قالت :
_ فرح إيه ده اللي علطول .. إيه اللي انتي بتقوليه ده ياملاذ ؟
هتفت بحدة بسيطة ونبرة تحمل الألم :
_ زي ما سمعتي ياماما ، أنا خلاص كرهت حاجة اسمها خطوبة .. يانكتب كتب الكتاب وبعديها ناخد فترة قليلة لغاية ما نعمل الفرح يانعمله علطول وأنا كدا كدا مش ناقصني غير حجات بسيطة جدًا في جهازي وابقى أكملها بعدين
صاحت بها أمها مغتاظة :
_ إنتي هبلة يابت يعني هروح أقول للراجل مثلًا بنتي مش عايزة خطوبة وعايزة جواز علطول ليه ارملة ولا مطلقة
_ مش يمكن يكون هو كمان عايز كدا خصوصًا إن كان باين عليه التدين والاحترام
اكملت الأم صياحها وكان هذه المرة بغضب عارم :
_ اكتمي يابت أنا هكلم هدى وأقولها إنك موافقة عشان ياجوا ويتقدموا رسمي قدام أخوكي وأبوكي وهنعمل خطوبة على الأقل شهر أو شهرين حتى
ثم هبت واقفة وانصرفت غاضبة دون أن تسمح لها بمجادلة قرارها أما ملاذ فظلت في فراشها تتأفف بغيظ !! .
***
في مساء ذلك اليوم ……
ترجلت من السيارة الأجرة أمام منزل متهالك وقديم في منطقة مهجورة ومرعبة ، وتلفتت حولها بارتيعاد جلي ، وهي تتوسل لربها بأن يحفظها ويحميها فهي جاءت لهذا المكان مترددة ولكن بداخلها يقين أن ربها لن يتركها بمفردها في وضع كهذا .
بدأت أصوات نباح الكلاب تتعالى ومع كل صوت يصدر ، جسدها ينتفض برعب ، ثم أخذت تقدم قدم وتأخر الأخرى بخوف حقيقي من الذي ينتظرها بالداخل ، بالرغم من انها أخذت احتياطتها ولكنها لا تأمن شرور هذا الحقير الذي ابتزها بصورها ، وأخيرًا تقدمت نحو الباب وطرقت الباب ولحظات قصيرة وجدت شابًا يبدو أن في بداية الثلاثينات يفتح لها وقسمات وجهه صارمة ومرعبة بالإضافة إلى ندبات وجهه البسيطة بالسكين جراء شجارات وبلطجة معروفة بين هؤلاء النوع من البشر وبمجرد رؤيته لها ابتسم بخبث فازداد يقينها أنه هو الحقير الذي يخفي صورها ، وهتفت فورًا بغصب عارم :
_ إنت عايز مني إيه !؟
_ ادخلي طيب يامزة ونتكلم جوا على رواق
تلفتت حولها بنظرات مرتعدة ثم عادت بنظرها إليه وقالت بحدة لا تليق ببراءتها ولطافتها التي تظهر أمام جميع الرجال عن طريق قسمات وجهها :
_ لا أنا مش هدخل قول إنت عايز إيه عشان تمسح الصور بتاعتي
_ عايزك
قالها بفظاظة وجراءة شديدة فتقهقرت هي للخلف في رعب حقيقي وفي هذه اللحظة أدركت أنها أخطأت أكبر خطأ في حياتها بالمجئ له بمفردها ، ولكن ارتفاع صوت ضحكته الرجولية والمستفزة وهو يجيبها لم تهدأها بل اخافتها أكثر :
_ إنتي فهمتي إيه ، لا أنا مبحبش العنف والشغل ده .. أنا عايز نبقى صحاب وحبايب مؤقتًا يعني وبعدين نشوف هنعمل إيه ، ولعلمك ده مش اختياري ده إجباري
لا زالت قلقة وخائفة ففضلت الانسحاب فورًا وعندما حاولت الهرب قبض على ذراعها وقال مبتسمًا بلؤم :
_ رايحة فين بس هو دخول الحمام زي خروجه ، تعالي ادخلي هنتكلم شوية ونتعرف على بعض
سحبت يدها من بين براثن يده وقالت بصوت مرتعش :
_ لا أنا اتأخرت وماما قاعدة في البيت وحدها مينفعش أسيبها كتير وحدها
_ ماشي يامزة هصبر عليكي ، معلش تتعوض بس خايكي فاكرة الصور يعني عشان متفكريش تتجاهلي اتصالاتي أو كدا
لم تجيبه وفقط هرولت إلى الخارج تستقل بسيارة الأجرة الذي أتت بها إلى هنا وهي تحاول التفكر في حل لهذه المعضلة فأخيها من المحتمل أن يتأخر في عمله ولن يعود خلال الأيام القادمة ، ماذا ستفعل !!؟ ، لا يمكنها محادثة هذا الحقير ومقابلته ! ، يجب عليها أن تفكر في حل بأسرع وقت ! .. كانت هذه هي الأفكار التي تجول بعقلها طوال الطريق .
***
في صباح اليوم التالي ….
التقطت الهاتف وعندما دققت النظر في شاشة الهاتف واستطاعت قراءة اسم المتصل بعد عناء بسبب ضعف نظرها ، أجابت فورًا مبتسمة بعذوبة :
_ ازيك ياكرم يابني عامل إيه ؟
أتاها صوته المهذب به لمسة ابتسامة بسيطة :
_ الحمدلله يا أمي أنا بخير ، أنا أتصلت أطمن عليكم لو عاوزين حاجة ، بما إن سيف مش هيعرف يكلمكم تاني لغاية مايرجع بسبب شغله فأنا زيه بظبط
علت الابتسامة الامومية المحبة وجهها لهذا الشاب الذي في نظرها مثال للشاب المهذب والمحترم وكل شيء .. ولم تستعجب من منادته لها بأمه فهو دومًا يقولها لها :
_ طبعًا ياكرم إنت زي سيف بظبط والله عندي يابني ربنا يبارك فيك يارب ، احنا كويسين الحمدلله أطمن ولو عوزنا أي حاجة هتصل بيك أكيد
هم بأن يجيب عليها ولكن صوت طرق الباب جعلها تهتف في لطف :
_ استني ياكرم الباب بيخبط خليك معايا على الخط يابني
أجابها بالموافقة أما هي فارتدت حجابها واتجهت للباب ثم فتحته واندهشت برؤيتها لعساكر وعلى مقدمتهم ضابط من رتبة رائد فنقلت نظرها بينهم وشعرت بانقباض قلبها فورًا ثم قالت بترقب :
_ خير في حاجة ياحضرة الظابط ؟
على الجانب الآخر تجمدت عروق كرم وشعر بأنه سيفقد الوعي وهو يسمع من الهاتف الظابط وهو يخبر المرأة العجوز بوفاة ابنها والتي انطلقت منها صرخة مدوية رشقت في قلبه قبل أذنه ، وكانت الصدمة تحتل جميع معلامه ويحاول تكذيب ما سمعه فلا يمكن لصديقه الحميم أن يتركه ويرحل هكذا في غمضة عين ، فقد أعطاه وعد أنه لن يرحل قبل أن يودعه وداع يليق بصداقتهم وهو رحل دون أن يودعه الوداع الأخير حتى . لم يشعر بنفسه إلا وهو يترك كل شيء وينطلق كالصاروخ بالسيارة نحو منزل صديقه أو منزل فقيده العزيز الذي لا يعرف كيف ستمر أيامه بدونه ! .
_ الفصل الرابع _
وصل أخيرًا إلى المنزل وصعد الدرج ركضًا حتى وصل إلى الباب ودخل فورًا عندما وجده مفتوح فرأى الظابط يجلس على المقعد في الصالون وبمجرد رؤيته لكرم هب واقفًا وهو يقول بتعجب :
_ إنت مين ؟
اقترب منه كرم وقال بتلهف ووجهه فرت منه الدماء :
_ أنا كرم العمايري صديق سيف المقرب ، قولي حصل إزاي ده ياحضرة الظابط ؟
تنهد الضابط بحزن وشجن وقال بأسف :
_ كانت في لحظة اشتباك قواتنا مع العدو وسيف الله يرحمه اتصاب والإصابة كانت خطيرة لدرجة إنه اتوفى في لحظتها فورًا ، سيادة الرائد سيف كان حقيقي مثال للبطل وكلنا في حالة صعبة من ساعة ما وصل لينا خبر وفاته أنا من اصدقائه المقربين في الشغل ومن وقت ما وصل ليا الخبر وأنا مش مصدق
أثارته كلمة ” الله يرحمه ” فهو لا يزال يحاول تقبل وفاته ، مسح على وجهه وهو يحبس دموعه التي على أتم الاستعداد للسقوط وأشاح بوجهه للجهة الأخرى وهو يردد آية واحدة :
_ والذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون .. إنا لله وإنا إليه راجعون
لملم أشلاء قلبه الممزقة واستعاد رباطة جأشه وقال بثبات مزيف :
_ طيب هي فين ….
قبل أن يكمل جملته قاطعه وقال الآخر :
_ طلبت الدكتور وجالها هي جوا من بنتها
أجابه كرم وهو يتصنع الظهور بطبيعية :
_ تمام شكرًا ياحضرة الظابط لو في أي حاجة هتصل بحضرتك أكيد
_ تمام .. البقاء لله وربنا يصبركم
أماء له بتفهم وانتظر رحيله ثم توجه نحو أحد الغرف وانتظر أمام الباب خروج الطبيب وعند خروجه هرول إليه وقال بتلهف حقيقي :
_ خير يادكتور طمني عليها ؟
_ إنت ابنها ؟
قال بدون تردد في قلق :
_ أيوة
_ طيب هي عندها انهيار عصبي وأنا ادتها حقنه عشان تهديها وياريت تحاول تهديها عشان ضغطها ميعلاش وتتعب أكتر لقدر لله ، والبقاء لله ربنا يصبركم
_ سبحان من له الدوام
ثم هم بإخراج النقود حق كشفه فأخبره بأن الضابط دفع حقه قبل أن يأتي ، فشكره كرم ثم استأذن الطبيب ورحل ، فاقترب هو من باب الغرفة وطرق على الباب بلطف ففتحت له شفق التي كان وجهها عبارة عن دموع فقط وعيناها غارقة في دموعها كالبحر وحمراء كالدم ، تمتم في صوت ممزق ومبحوح :
_ البقاء لله يا أنسة شفق
لم تجيبه فقط اكتفت بالبكاء العنيف فلم يعرف ماذا يقول لها حتى ، ولكن كيف له أن يخفف عن ألمها وهو يحتاج من يخفف عن ألمه أيضًا ، ولكن يتوجب عليه الثبات والقوة في مثل هذه المواقف كما اعتاد دومًا أن يظهر نفسه قويًا فغمغم في ابتسامة متألمة وعيناه شبه دامعة :
_ سيف شهيد وهو دايمًا كان بيتمنى الشهادة وربنا ناولها ليه ، العياط مش هيفيده أدعيله ربنا يرحمه هو في مكان أحسن منينا كلنا
رفعت نظرها له وقالت ببكاء عنيف وصوت متقطع :
_ أنا وماما ملناش غير سيف منقدرش نعيش من غيره وماما ممكن يحصلها حاجة من زعلها عليه
_ لا إن شاء الله هتبقى كويسة اطمني بس إنتي حاولي تمسكي نفسك قدامها وتواسيها الدكتور قال الزعل الشديد وحش عليها ، أنا هستنى برا وأول ما تفوق اندهي عليا
أماءت له بالموافقة وبمجرد رحيله انفجرت باكية بشدة وهي لا تلفظ سوى اسم شقيقها ، ثم جثت على الأرض ضامة ساقيها لصدرها وتكمل بكائها وحزنها على حبيب قلبها وأخيها .
***
داخل مقر شركة العمايري …..
قادت خطواتها الواثقة والثابتة نحو المصعد الكهربائي وضغطت على زر الطابق الثالث ، وبعد لحظات فُتح الباب وخرجت وهي تعبر الطرقة الطويلة المؤدية لمكتبه وعند وصوله لم تنتظر سماحه لها بالدخول حيث فتحت الباب بقوة بسيطة ودخلت فوجدت الغرفة كأنها ثلاجة ، وتلقائيًا رفعت نظرها للمكيف الذي في السقف وأدركت أنه على أعلى درجة ، وكان هو مسترخي على مقعده مغمض العينان وقام بفتح أول أزار قميصه وسترته الجلدية ملقية على الأريكة الصغيرة في آخر المكتب .
فتح عيناه على أثر صوت إغلاق الباب وعندما وقع نظره عليها قست ملامحه واعتدل في جلسته هاتفًا بحدة :
_ إزاي تدخلي كدا مش في حاجة اسمها باب
لم تظهر أي تأثر بنبرته وحدته وعلى العكس تمامًا ابتسمت ساخرة واقتربت من مكتبه الخشبي ذو اللون الأسود ثم جلست على المقعد وقالت بنظرة شرسة :
_ لو فضلت بالوضع ده صدقني هتندم أوي ياحسن
أطلق ضحكة رجولية متأججة وقال باستنكار :
_ عايزة إيه يايسر ؟!
استقامت ونزلت بكامل قوة يدها على سطح المكتب فاختفت هو إبتسامة فورًا واظهر مكانها الدهشة ولكن دهشته لم تندم طويلًا وتحولت إلى ضجر حيث سمعها تهتف بعنف وغضب هادر :
_ أنا كنت متوقعة إنك هتقول عني كلام وحش بس توصل بيك الوقاحة إنك تفكر بالقذارة دي ، إنت مشوفتش مني حاجة لسا ياحسن ، وإياك تقارني با**** اللي بتقعد معاهم في الكباريهات ، وقبل ما تتكلم أعرف إنت بتتكلم عن مين يا أستاذ .. بس معلش أصل واحد زيك هيعرف الشرف والرجولة منين .. تقريبا عمي محمد الله يرحمه مجبش رجالة غير كرم وزين لكن إنت أشك إنك تعرف حاجة عن معنى الكلمة دي أساسًا
أيقظت بركانه الخامد ، وهي تهين رجولته أمامه بجراءة .. رجولته التي تراها معدومة !! ، ولا تعلم أنها ارتكبت خطأ لا يُغفر عندما فكرت تهينه بهذه الطريقة .. فقد أثارت عواصفه وهيجت أمواج غضبه العاتية ، فلم تجد منه إلا أنه وثب واقفًا وقبض على ذراعها صائحًا بها بأعين نارية :
_ متخلنيش أوريكي الوقاحة والقذارة بجد يايسر ، احترمي نفسك !!
دفعت يده بعيدًا عن يده صارخة به بسخط شديد :
_ أبعد إيدك ، إياك تلمسني فاهم .. ياخي يلعن اليوم اللي حبيتك فيه ، واعتبر اللي هقوله دلوقتي ده تهديد أو أي مسمى ميفرقش معايا ، بس صدقني ياحسن مش هتردد لحظة إني أقول لمرات عمي عن قذُراتك وأقولها إنت قولت عليا إيه لو فكرت بس تضايقني بالكلام مجرد بالكلام
لاحت اباسامة مستهزئة على جانب ثغره وقال وهو لا يزال الغضب يستحوذ عليه :
_ وأنا قولت إيه بقى عنك ؟!
أخرجت هاتفها ثم بدأت تريه صوره مع تلك الفتاة الساقطة وقد اتسعت عيناه بدهشة واستياء وزادت الوضع سوءًا عندما قامت بتشغيل التسجيل الصوتي له والذي كان يقول فيه بحقها أبشع الكلام ، وعند انتهاء التسجيل نظرت له غمغمت بنظرات شيطانية :
_ مفكرتش لو بابا سمع التسجيل ده هيعمل إيه ولا علاء لما يعرف ، وزين لما يشوف صورك دي ، أو سيبك من ده كله أنا عارفة إنه مش هيفرق معاك قد ماهيفرق مامتك اللي هي مريضة قلب ، يعني لقدر الله لو سمعت التسجيل ده أو شافت الصور دي ممكن يحصلها حاجة
لحظة ذكرها لاسم أمه غضبه منذ قليل لم يكن شيء أمام ماهو عليه الآن لدرجة أنها انكمشت قليلًا بخوف بسيط عندما سمعت تهديده الصريح له :
_ اقسم بالله يايسر لو أمي عرفت بحاجة ، مش هخليكي تشوفي يوم عدل في حياتك وأنا لغاية اللحظة دي عامل حساب إنك بنت عمي فمتخلنيش استخدم معاكي القذراة فعلًا
استعادت شجاعتها مجددًا وضحكت بسخرية وهمست بتحدي :
_ وأنا مبتهددش ومحدش يعرف يهددني ، وحط اللي هعمله فيك ده تحت شعار انتقامي من كل كلمة قولتها في حقي ، وتحت اسلوبك القذر معايا ، واعتبره قرصة ودن بس ياحسن بيه
ثم استدرات وانصرفت وهي تشعر بالنشوة تعتريها فقد نجحت فيما تريده وهو إثارة غضبه ورؤية الخوف في عيناه ، وبالطبع هي ليست حقيرة بقدره لكي تخبر المرأة المريضة بحقيقة ابنها البشعة وتتسبب في قتلها ، ولكنها ستستمتع باللعب على اوتاره حتى تشفي غليلها منه ! .
***
فتحت هدى باب غرفته دون سابق إنذار فوجدته ساكن في فراشه ويقرأ القرآن بصوت منخفض ، فاندفعت نحو كالسهم وابتسامتها كادت تشق طريقها لأذنها ، وعندما جلست أمامه على الفراش هتفت بحماس وسعادة غامرة :
_ ملاذ واقفت يازين
توقف عن القراءة تلقائيًا وهمس ” صدق الله العظيم ” ثم رفع نظره لأمه يطالعها بجمود وهو لا يستطيع مقاومة مشاعر الفرحة في نفسه ، فا إنكار إن تلك الفتاة تركت في نفسه أثرًا كبيرًا منذ رؤيته لها ، أمرًا لا يمكن إنكاره !! ، هو ليس من هؤلاء المراهقين الذين ينجذبون للشكل أول شيء ، ولكن ماجذبه بها أنه شعر في قرارة نفسه إن هذه هي الذي يريدها زوجة وأم لأبنائه ، لا يعرف سبب شعوره ولكنه حتى بعد أدائه صلاة الاستخارة لم يقل شعوره بل ازداد وازدادت رغبته بها وكان ينتظر اجابتها بالموافقة وها هي وافقت أخيرًا ! .
_ مالك ساكت كدا ليه إنت مفرحتش ولا إيه
قال بثبات وبرود كعادته التي لا تظهر مشاعره للعامة :
_ خير إن شاء الله يا أمي
_ يارب صبرني عليكم والله أنا هتجرالي حاجة بسببكم
قالتها بنفاذ صبر فانفجر هو ضاحكًا ومسك بكفها يقبله بلطف وحنو هامسًا من بين ضحكاته مازحًا :
_ بعد الشر عليكي ، بعدين إنتي عايزة تسمعي إيه يعني .. أيوة فرحان أوي أوي كمان ومش قادر استني اللحظة اللي هتجوزها فيها ارتحتي كدا
نزعت يده بغيظ وقالت بضيق :
_ اتريق اتريق يابايخ
رتب على صدره كدليل على امتنانه لها وهو يقول مكملًا مشاكسته وضحكه :
_ تسلمي ياست الكل
ثم عاد لجديته وأكمل باسمًا بنعومة غامزًا لها :
_ شوفيهم بقى ياهدهد عشان نروح نتقدم رسمي
تهللت أساريرها مجددًا عندما رأت حماسه الذي فشل هو في إخفائه عنها وقالت بموافقة :
_ بس كدا من عنيا ياقلب هدهد إنت
اقتحمت الغرفة رفيف وعلامات الزعر على وجهها وهتفت بصدمة :
_ الحقي ياماما
ثبت كل من أمها وأخيها نظرهم عليها في تعجب بينما هي فأكملت بهلع :
_ كرم كلمني دلوقتي وصوته كان باين عليه إنه مضايق جدًا وقالي إن سيف اتوفى وقالي كمان نروح أنا وإنتي على بيتهم لإن حالة أمه وأخته صعبة وهو مش هيعرف يتصرف وحده
وثبت الأم واقفة وشهقت بزعر وهي تقول :
_ سيف مات !!! .. إزاي ده ؟
_ مش عارفة ياماما أساسًا كرم كان صوته غريب أوي ومتكلمش معايا غير أنه طلب إننا نروحله
مسحت هدى على وجهها ورددت بألم وحزن شديد على هذا الشاب الصغير ، وقد أدمعت عيناها بالدموع :
_ إنا لله وإنا إليه راجعون .. ربنا يرحمه يارب ، روحي البسي طيب يارفيف وأنا هلبس عشان نروحلهم
هرولت رفيف لغرفته وكذلك هدى همت بالرحيل ولكن زين قال بجدية :
_ أنا هلبس وآجي معاكم
قالت هظى بصوت باكي ومتأثر :
_ أيوة تعالى أقف مع أخوك ده تلاقيه هيموت من حزنه على سيف ، ربنا يرحمه يارب ويصبر أمه وأخته
تنهد هو بحزن مماثل لأمه فسيف كان صديق العائلة كلها والجميع يعتبره فردًا منهم من شدة تعلقهم به بسبب علاقته القوية مع كرم .
***
مرت أربعة أيام بدون أحداث جديدة …
الجميع في حالة حداد على فقديهم العزيز ويترددون كل يوم على منزله ليواسوا شقيقته التي انطفأت .. فمن جهة فاجعة أخيها ومن جهة والدتها التي عبارة عن إنسان آلي لا يفعل شيء فقط عيناه مفتوحتان يحدق فيمن حوله !! ، أما كرم فكان يتردد عليهم أكثر من مرة في اليوم ليطمئن على احوالهم .
مساء اليوم الرابع لم يتبقى معهم سواه هو ووالدته وشقيقته في المنزل وكان يقف في شرفة المنزل يتأمل كل شيء من حوله بشجن ، فأربعة أيام بدون صديقه كانوا كالأربعة سنوات ، وكل لحظة يتخيل أنه لن يراه مجددًا يحترق قلبه بنار الشوق له ، ومع الأسف لم تحرق النار قلبه فقط حتى وجهه انطفت بهجته وضوئه والبسمة لم تعد تعرف لوجهه طريق .. فقط الحزن هو اللي يظهر على محياه . وبينما هو واقفًا شاردًا ولفت نظره شفق التي كانت عائدة من الصيدلية والتي أصرت على أن تذهب هي لتجلب بعض مستلزماتها هي وأمها فلم يعارضها وتركها تذهب هي هذه المرة .. ولكن جمد نظرته عليها عندما رأى شابًا ينتظرها أمام باب المبنى وعند وصولها له وقفت تتحدث معه في حوار لم يستطع سماعه .
كانت غائصة في جلبابها الأسود وحجابها كذلك وتسمرت بأرضها فور رؤيتها له وبعفوية هتفت :
_ عمر !!
أجابها بخفوت ونبرة خشنة :
_ البقاء لله ياشفق
_ سبحان من له الدوام .. إنت بتعمل إيه هنا دلوقتي ؟
بدا عليه جادًا وصارمًا على غير عادته مما أصابها بالتعجب ، وعندما هتف بوضوح :
_ أنا كنت بروح وباجي طول الأربع أيام بطمن عليكي وبسأل جارتكم عنك وفي واحد كنت دايمًا بشوفه وبشوفك معاه علطول .. مين ده ؟!
قالت بتلقائية وعفوية :
_ قصدك كرم ؟!
كان واضح عليه الغضب الشديد وازداد غضبه عندما قالت اسمه بوضوح حيث قال :
_ مليش دعوة باسمه ، أنا سألتك مين ده ياشفق وبتقفي معاه ليه ثم إني مرتحتلهوش الراجل ده وباين عليه إنه مش كويس ؟!!
حتى هي لم يكن لديها طاقة لتتحمل أي عبء آخر أو جدال ، وقلبها يلتهب بالنيران وتجاهد في البقاء صامدة فقد من أجل والدتها ، وهو الآن يلعب في عداد علاقتهم المحدودة حيث صاحت به منفعلة وغاضبة وأكثر ما أثارها هو إهانته لكرم :
_ اللي بتتلكم عنه ده إنت متساويش ضفره أصلًا ، لا وجاي بتحاسبني وعامل فيها بتحبني ، بس إنت أساسًا عمرك ماحبتني .. ووفاة أخويا وضحتلي مين حبيبي من عدوي ، وبعدين أنا مشوفتكش في العزا ولا مرة ، وكنت متوقعة إنك هتكون أول واحد تقف جمبي في المحنة دي ، واللي بتقول عليه مش كويس ده طول الأربع أيام مسبناش لحظة واحدة ، ده صديق سيف الله يرحمه من طفولته وطول السنين اللي فاتت مشوفناش منه أي حاجة غلط ، فمتجيش تحاسبني على حاجة قبل ما تبص وتشوف نفسك بتعمل إيه ياعمر
همت بأن ترحل ولكنه اعترى طريقها وأخرج هاتفه وفتحه على صورة لها يريها إياها فحدقت بالصورة بصدمة .. أنها هي عندما ذهبت لمقابلة الرجل الذي يبتزها بصورها وكانت الصورة غير لطيفة بتاتًا حيث أنه كان قريب منها جدًا ، ولم تصدمها الصورة بقدر ما صدمها هو برده الوضيع :
_ وده صاحب سيف كمان .. ولا إنتي كنتي طول السنين دي عملالي فيها الشريفة وإنتي …
منعته من تكملة جملته بكفها الذي سقط على وجنته بقوة وهي ترمقه بنظرة متقرفة ومشمئزة ، امتزجت بخذلانها وأعينها الدامعة ، ولكنه لم يكتفى ويبدو أنه يريد أقوى من مجرد صفعة حيث قبض على ذراعها وهتف باستياء :
_ بتبصي كدا ليه ، أنا اللي مصدوم فيكي ياشفق إنتي آخر واحدة كنت أتوقع منها ده
سالت دموعها بغزارة ، فكما يقولون ” في كل شر خير ” وماحدث معها أخرجها من محيط عميق كانت ستغرق فيه وجعلها تدرك أنها مخطئة عندما ظنت أن هذا الرجل يمكن أن يكون زوجًا لها ، كيف كانت ستكون بينهم علاقة وهو ليس لديه درجة فقط من درجات الثقة فيها .
لم يدم الوضع كثيرًا حيث وجد عمر يد تقبض على ذراعه وتسحبه بعنف من على ذراعها ، فرفع نظره لها وأتضح أنه هو الذي كان محور حديثهم منذ قليل .
_ شيل إيدك دي .. إنت مين ؟
انتصب عمر في وقفته وقال ساخرًا بشجاعة :
_ حاجة متخصكش أنا مين ، وإنت مالك أشيل إيدي ولا مشيلهاش ..
لمحت شفق لمعة الشر والسخط تلمع في عيني كرم فاسرعت وهتفت محاولة تهدئة الأمر بتوسل ولأول مرة تلفظ اسمه بدون مقدمات !! :
_ كرم مفيش حاجة صدقني اهدى وبلاش تعمل مشكلة بالله عليك
ثم حولت نظرها إلى عمر وصاحت به بضجر :
_ امشي .. ومتورنيش وشك تاني
_ لا أنا حابب أشوف البيه هيعمل إيه
قالها عمر بتحدى واستهزاء واضح فلم يحرمه كرم من لكمة أطاحت به أرضًا وسالت دماء شفتيه على أثرها ، وهاتفه وقع على الأرض بجانبه وهم بأن يكمل لكماته له ولكن الصورة الذي كان مفتوح عليها الهاتف أوقفته بأرضه وهو يحدق بها بذهول ، فانتبهت هي إلي ما ينظر له وارتشعت بخجل وتوتر وهرولت إلى عمر وأول شيء فعلته هو أنها التقطت الهاتف وانهضته من على الأرض وهي تضع الهاتف بين يديه وتدفعه بعنف صائحة به :
_ امشي بقولك .. منك لله ياخي
هم بأن يقترب من كرم فدفعته بعنف أكبر وهي تصرخ به :
_ امشي إنت مبتفهمش
رمق كرم بنظرة نارية أخيرة قبل أن يستدير ويرحل ، فتنهدت هي بألم وأحست بأنها ستعاود البكاء مجددًا ، وفي لحظة غضب تسأل الله لماذا يحدث معها كل هذا ثم تعود وتستغفر ربها وتردد ” الحمدلله على كل شيء ” ، وقفت للحظات تتابعه وهو يتوارى عن ناظريهم وتفكر فيما ستبرره له عن هذه الصورة ، وأخيرًا التفتت له لتقابل نظراته التي المندهشة وهو ينتظر منها تبرير فقالت مخترعة كذبة سخيفة :
_ دي صورة مفبركة !
مسح على وجهه وهو يتأفف ثم قال بخفوت ونبرة شبه حادة :
_ بصي ياشفق أنا كنت ممكن أقولك إنك مش مضطرة تبرري حاجة وأنا مليش دعوة لو كان سيف لسا عايش ، بس حاليًا إنتي مضطرة لإن أخوكي موصيني عليكي وإنتي مسئوليتي ، ففهميني إيه الصورة دي ومتقوليش إنها متفبركة لإنها باينة أنها حقيقة جدًا
اطرقت أرضًا وسالت دموعها بحرقة وارتفع صوت شهقاتها فلانت نبرته وقال بتفهم :
_ من غير عياط الموضوع ميستهلش عياط ، أنا مش بقولك إنتي غلطانة ولا عملتي حاجة غلط ، أنا واثق تمامًا إنك متعمليش حاجة زي كدا ، فلو في حد بيضايقكي قوليلي عشان اساعدك ؟!
رفعت عيناها الدامعة لتنظر له بشيء من الصدمة ، فالرجل الذي احبته وكان يعرفها جيدًا لم يثق بها وهو الذي لا يعرفها سوى بالشكل لسنوات ، فكيف له أن يثق فيها ، وجدت نفسها تطرح سؤالها بتلقائية تامة :
_ وإيه اللي يخليك واثق كدا ؟
قال مبتسمًا بنفس نبرته السابقة ولكنه قالها بشيء من الإحراج وهو يجفل نظره عنها :
_ لإني واثق في تربية سيف ووالدتك ليكي ، وده سبب كافي اعتقد
ازداد حدة بكاءها وقالت بصوت مرتجف :
_ هو فعلًا في حد بيضايقني ، بس أنا آسفة ياكرم أنا حاليًا في وضع ميسمحش ليا بالكلام نهائي ، بكرا إن شاء الله صدقني أنا بنفسي هتصل بيك وهقولك على كل حاجة
كرم بهدوء ورزانة ولكن صوته برغم لطافته امتزج به شيء من الحزم :
_ طيب براحتك .. بس خلي في علمك موضوع زي ده مينفعش يتسكت عليه فبكرا إن شاء الله لازم تكلميني وتفهميني إيه اللي بيحصل
اماءت له بالموافقة وجففت دموعها ثم همت بالرحيل فوجدته لم يتحرك ، لتنظر له باستغراب فيبتسم بإحراج ويقول :
_ لا كفاية على كدا الوقت اتأخر ولما تطلعي فوق قولي لماما ورفيف إني مستنيهم تحت
بادلته الابتسامة وقالت بامتنان حقيقي :
_ طيب .. شكرًا ياكرم
لم يجيبها واكتفي بإماءته البسيطة وهو لا يزال يرسم ابتسامته التي تخطف قلوب النساء دون أن يدري ، أما هي فولته ظهرها وقادت خطواته إلى داخل المبنى وبعد دقائق جاءت أمه وأخته واستقلوا بسيارته ورحلوا وكانت هي تتابعهم من الشرفة بالأعلى ! ….
***
كان إسلام ساكنًا وهادئًا على مقعد في غرفته أمام النافذة يتأمل النجوم التي تنير في السماء .. فقط عيناه معلقة في هذه السجادة السوداء ولكن عقله على بعد أمتار بعيدة منه ثابت عند تلك اللحظة الذي رأى فيها ذلك الملاك وعلق بمخيلته ولم يتمكن من إخراجه ! ، ولكنه يحاول مقاومة ومحاربة هذه السخافة فمن تلك التي ستقبل برجل عاجز .. رجل ناقص ! ، ولهذا يكره أن يعرض نفسه لموقف انتظار موافقة فتاة بعد شفقة منها ، أو ربما لأن عائلتها اقنعوها بأن عاهة قدمه ليست معضلة في حياتهم فوافقت مرغمة ، هو كأي رجل لا يريد عيش حياة مجبرة أو حياة خالية من الحب والود والتضحية والتفاهم .. لا يريد أن يكون لديه أبناء من امرأة قبلت به مجبورة .. فقط يتمنى حياة زوجية طبيعية كباقي البشر !! .
فتحت ملاذ باب غرفته ببطء فوجدته ساكن هكذا وشارد الذهن ، ابتسمت بنعومة واغلقت الباب بحرص ثم تتسللت خلفة ووضعت يديها على كتفيه هامسة بمداعبة :
_ سرحان في مين هااا
انتفض بفزع بسيط ثم التفت برأسه لها وقال في اندفاع :
_ إيه ياملاذ هزارك البايخ زيك ده
فغرت شفتيها وعيناها بدهشة مزيفة وقالت بتصنع الضيق :
_ بايخ زي !!! .. أخص عليك يا إسلام وأنا اللي جاية افضفض معاك شوية ، وقولت أخويا الكبير حبيبي هحكيله وهيفرفشني
لانت نظرته ونبرته وقال بحب :
_ طيب اقعدي ياختي وقولي مالك ؟!
جلبت مقعد مماثل لمقعده وجلست بجانبه ثم قالت بلؤم وابتسامة :
_ لا قولي إنت الأول كنت سرحان في إيه ؟
رفع حاجبه اليسار واطال النظر في وجهها بغيظ ثم قال في حدة مزيفة :
_ إنتي جاية عشان تفضفضي معايا مش تتطفلي عليا !
قهقهت بصوت مرتفع وقالت معتذرة :
_ طيب خلاص مش هتكلم حقك عليا
ساد الصمت بينهم للحظات قبل أن تبدأ في سرد الكلمات التي تخنقها في صدرها بشجن :
_ العريس جاي بكرا عشان يتقدم .. كان نفسي بابا يكون قاعد
_ ما إنتي عارفة الوضع ياملاذ بابا ميقدرش ينزل بسبب الشغل .. وأنا موجود وعمك موجود
تنفست الصعداء بخنق وأسى فدقق النظر في قسماتها ثم قال بترقب :
_ ملاذ هو إنتي متأكدة إنك عايزة زين وموافقة عليه
طالعت أخيها بارتباك بسيط وقالت مسرعة بتأكيد :
_ ايوة طبعًا موافقة ، هو لعب عيال ولا إيه ده جواز يا إسلام .. أنا بس خايفة يكون مش كويس زي أحمد ومكملش معاه
تمتم بنبرة رجولية خشنة وصوت رخيم :
_ أحمد إنتي اللي صممتي عليه ولا أنا ولا أبوكي كان عاجبنا ، لكن دلوقتي أنا بقولك أهو زين أحسن واحد مناسب ليكي وأنا واثق إنه هيحافظ عليكي إن شاء الله .. وحتى أبوكي فرح أوي لما أمك قالتله إنه متقدملك ، يعني المرة دي أنا وأبوكي اللي اخترنا مش إنتي واختيارنا هيبقى في محله اطمني
هي تثق مثلهم أنه رجل يمكن لأي امرأة أن تتمناه ، ولكنها ارتكبت جريمة بشعة في حقها وحقه حين قبلت الزواج به وعقلها وقلبها ملكًا لرجل آخر ، وستأخذ من زواجها منه انتقام وصفقة لكي ترضي به كرامتها التي بعثرها خطيبها السابق .. هي تعلم أن الأمور ستصل لنقطة صعبة إن تم زواجهم وهو عَلِمَ بسبب زواجها منه ، ولكن الحقيقة أن الأمور ستفوق تخيلاتها تمامًا !!! .
***
منزل ضحم وغرفة واسعة ذات الوان رجولية صارمة حيث أن الخزانة من اللون الأسود وكذلك الفراش أما الحائط الأبيض فكان هو الشيء الوحيد المبهج في هذه الغرفة الذي كل شيء فيها أسود .. وبالرغم من كآبة الغرفة إلا أن الأسود أعطاها لمسة عظمة وفخامة .
وكان حسن مستلقي على فراشه العريض ويعقد ذراعيه أسفل رأسه يحدق في السقف بشرود ، فأن لعنته ترفض الرحيل عنه .. وهو عجز ويأس أمام محاولاته للتخلص من لعنة هذا العشق الملوث والملطخ بالكذب والخداع ، ليته لم يقابلها قط ولم ينصاع خلف قلبه مسبب المتاعب له .. ليته أبى الخضوع لها وانسحب من هذا العلاقة قبل أن يخرج خاسرًا ، ولكنه أصر على الاستمرار بها وهذا هو ما حصده من علاقة حب فاشلة .. حصد الخداع والكذب والاستغلال .
وبينما هو يسبح في ذكرياته المؤلمة ، سمع صوت جرس باب المنزل .. فعقد حاجبيه باستغراب ، وجعل يطرح سؤال واحد ” من الذي يعرف أنني هنا ” ، لم يدم تعجبه كثيرًا حيث هب واقفًا والتقط قميصه وارتداه دون أن يغلق ازراره ، واتجه نحو الباب وفتحه بقوة ففوجئ بمن كانت تشغل تفكيره للتو ، أما هي فحدقت بمظهره العلوي وبقميصه المفتوح الذي يبرز عضلات بطنه وصدره ورفعت نظرها له بشيء من الدهشة بعد أن ظنت أنه بصحبة فتاة بالداخل .. قرأ أفكارها من نظراتها وتأفف بخنق قائلًا :
_ أظن إني آخر مرة شوفتك فيها قولتلك متورنيش وشك تاني صح ولا لا
تجاهلت لهجته القاسية ونظرته النارية وحاولت اختراقه لتنظر داخل المنزل حتى تتأكد من شكوكها فأجابها هو بحدة امتزجت بنظرة وضيعة ولئيمة :
_ مفيش حد جوا بس لو إنتي حابة معنديش مانع ، بما إنك جاية بيت راجل عازب في الساعة دي
_حسن بلاش تتكلم بالاسلوب ده ارجوك .. إنت عارف إني بيتي قريب جدا من هنا وأنا جيت اتكلم معاك شوية وكنت متأكدة إني هلاقيك هنا النهردا ، لإن النهردا عيد ميلادي وإنت كنت بتجبني هنا كل سنة في عيد ميلادي وبتكون عاملي احتفال صغير فتوقعت إني ممكن الاقيك هنا
ضرب بكفة يده على جبهته وتصنع النسيان والضيق :
_ اووووه هو النهردا عيد ميلادك نسيت خالص للأسف وزي ما إنتي شايفة مفيش حفلة ولا حاجة .. أصل أنا مبقتش اعترف بأعياد الميلاد دي
تشربت سخريته منها وقسوته وقالت بأعين دامعة :
_ طيب ممكن ادخل هنتكلم خمس دقايق وبعدين همشي
اصدر تنهيدة حارة ثم افسح لها الطريق لتدخل وأغلق الباب خلفها ، فتوجهت هي وجلست على الأريكة الصغيرة وجلب هو مقعد وجلس في مقابلتها على مسافة منتظر منها التحدث فتنهدت هي وقالت بصوت مبحوح :
_ أنا مخدعتكش زي ما إنت فاهم .. أنا عمري ما بصيت لفلوسك ولا مالك أنا كنت بحبك فعلًا ياحسن ، اللي حصل إني سمعت إنك ناوي تخطب واحدة غيري وتخدعني فسعتها حسيت إن إنت اللي خدعتني وقررت إني كمان انتقم منك ولما جيت وقولتلك الكلام ده كنت بقوله عشان انتقم منك وانهي كل حاجة بينا .. لكن والله ما خدعتك زي ما أنت فاهم
أنهت حديثها وأخذت تنظر له في انتظار رده ولكنه كان جامدًا لا يصدر أي ردة فعل وتعبيرات وجهه طبيعية جدًا ، وفجأة وجدته ينفجر ضاحكًا بقوة وصوت ضحكة ملأ الأركان فطالعته بحيرة ، ولكنه مثلما انفجر ضاحكًا فجأة صمت فجأة وقال بنظرة شرسة ومميتة :
_ واللي قالك اني خدعتك نسي يقولك إني مش عبيط عشان تاجي تألفي عليا قصة وأنا هندهش واندم وأقولك اوووه أنا آسف ياحبيبتي ظلمتك سامحيني وانزل ابوس رجلك عشان تسامحيني .. لا مليش في شغل الروايات والمسلسلات ده احنا في الواقع والواقع بيقول إن اللي اتكسر مش بيتصلح
قالت مسرعة وهي تكمل كذبتها السخيفة ولكنها تتقنها باحترافية :
_ أنا مش بكدب عليك صدقني ياحسن
جلس بإياريحية أكثر على مقعده مما جعل جزئه العلوى العاري يظهر أكثر وغمز لها بوقاحة قائلًا :
_ أنا ممكن انسى اللي حصل ونبقى أنا وإنتي حبايب وزي السمنة على العسل .. لأن الصراحة أنا خلاص شطبت مبقيش عندي صنف الجواز و الحب والكلام الفارغ ده أنا بخش على التقيل علطول فلو حابة يبقى زي الفل ونبدأ من الليلة دي كمان وأهو نحتفل بعيد ميلادك ومتقلقيش هتطلعي الصبح بقرشين حلوين
فغرت شفتيها وعيناها بذهول واستقامت وهي تقول بغضب :
_ أنا عارفة إنك بتقول كدا عشان تعصبني وتخليني امشي واكرهك بس خليك فاهم ياحسن إني لآخر نفس فيا هفضل أحاول إني أخليك تسامحني
ثم استدارت وانصرفت من المنزل بأكمله ، وتركته كما هو ساكن بمقعده ولكنه يضغط على قبضة يده بعنف ويجز على أسنانه بقوة في غيظ ، فمازالت تحاول خداعه هذه الشيطانة .. مازالت تحاول التلاعب مشاعره ؛ فقط لأنها تعلم أنها لا تزال تعيش في صميمه !! .
***
مع صباح يوم جديد حافل بالمفاجآت والأحداث الدسمة ….
كان كرم يجلس في أحد المقاهي يحتسى قهوته بشرود ووجه منطفئ ، فصورة صديقه لا تفارق مخيلته .. وفي كل لحظة يتذكر موقف مختلف لهم مع بعض فتزداد النار المشتعلة في صدره اشتعالًا . جذبه من شروده جلوس شفق أمامه وهي تقول بصوتها الرقيق :
_ صباح الخير .. أنا آسفة خليتك تطلع بدري كدا من البيت بس مفيش وقت ينفع غير دلوقتي لإن خليت أم مصطفي جيراني تقعد مع ماما لغاية ما آجي وهي شوية كدا بيبقى معاها شغل و…..
قاطعها مبتسمًا بنبرة رخيمة ونظرة طبعت بصمتها عليها :
_ في إيه ياشفق هو أنا اشتكيت !! ، ليه ده كله !؟
أطرقت ارضًا خجلة وهمست بصوت يكاد لا يسمع :
_ أنا آسفة .. بس خوفت تكون اضايقت فحبيت ابررلك موقفي
لا زال يبتسم عليها ثم حاول أن يخفي ابتسامته تدريجيًا وقال بجدية :
_ هااا قوليلي بقى مين اللي بيضايقك وإيه موضوع الصورة دي ؟
تنهدت بقوة وحاولت استجماع قواها لتسرد له القصة منذ بدايتها .. كان الأمر صعبًا ومرهقًا للأعصاب ففكرة أنها تجلس مع رجل لا تعرف عنه سوى أنه صديق أخيها الحميم كانت مربكة في حد ذاتها ولكنها مرغمة لعله يخرجها من وحلها ويساعدها ، فهو الآن أملها الوحيد .
أجفلت نظرها عنه وبدأت تسرد بتوتر واضح كالآتي :
_ الموضوع بدأ يوم لما سافر سيف الله يرحمه للمأمورية دي ، في نفس اليوم أنا كان عندي وحدة صحبتي منها لله أعرفها من زمان جدًا سنين يعني فهي جاتلي بليل وكانت جايبة معاها هدوم قالتلي إنها اشترتها جديد والهدوم كانت مش كويسة لبنت تلبسها في البيت حتى لو هي معهاش اخوات أولاد ، وطلبت مني اقيسها وأنا رفضت رفضًا قطعًا إني البسها أصلًا ، وبعدين وافقت قولت مفيهاش حاجة لنا قالتلي أنها عايزة تشوفها عليا ، وبعد ما لبستها لقيتها عايزة تصورني فزعقتلها وقتها وبرضوا فضلت تحاول معايا لغاية ما وافقت لما قالتلي هتوريها لمامتها وتمسحها فورًا ومامتها أنا عارفها كويس أوي وهي عارفاني وعارفة ماما ، وأنا الحقيقة كنت واثقة فيها قولت ظي صحبتي ومستحيل تعمل حاجة تأذيني وبعدها بيومين لقيت رقم غريب باعتلي صوري دي واتصل وبيا وابتزني بيها إني لو مقابلتهوش هينشر صوري على النت فأنا حاولت اخوفه بأن اخويا ظابط بس مأثرش فيه ، فاضطريت اروح أقابله وكان المكان مهجور ومخيف وكان بليل وبعديها علطول أنا روحت لبيت صحبتي دي لقيت مامتها بتقولي إنها سافرت لجدها وجدتها ولما سألتها هي ورتها صور ليا ولا لا قالتلي لا و……
همت بأن تستكمل سردها ولكنه قاطعها بنظرة مندهشة وحازمة :
_ روحتي بيته !!!!!!
فهمت ما يدور في مخيلته فقالت مسرعة بخجل :
_ لا لا مفيش حاجة .. أنا مدخلتش حتى وقفت على الباب بس ومتخطتش الخمس دقايق وقعد يقول كلام قذر كدا إنه ….
توقفت فجأة ولم تتمكن من تكملة ما قاله هذا الوغد ، فقد كانت كلامته تعبر عن مبتغاه القذر منها .. عادت تتحدث من جديد قائلة :
_ ما علينا مش شرط هو قال إيه المهم إنه مقدرش يقربلي وأنا مشيت فورًا والصورة دي هو فيها مسك إيدي لما كنت عايزة امشي وحد شكله صورها بزاوية جابت الصورة بالشكل اللي شوفتها واللي استنتجته بعد اللي حصل إمبارح إن هي عملت كل ده عشان تفرق بيني وبين الولد اللي شفته إمبارح لإنه كان بيحبني وهيكلم سيف عشان نتخطب وكدا وشكلها كانت عينها عليه فحبت تأذيني بأي شكل وبعد ما صورتني بعتتله الصور عشان تفهمه إني مش كويسة ، بس هي متعرفش إني خدمتني لأنها كشفتلي حقيقتها وحقيقته
هتف كرم وهو يشعر بالتشتت :
_ شفق أنا مش فاهم وحدة وحدة عليا بالله عليكي .. دلوقتي إيه حكاية الواد بتاع إمبارح ده بظبط ؟
عادت تشرح له بتوضيح أكثر :
_ عمر أنا أعرفه من زمان أوي واحنا نعرف عيلته وهو معايا في الكلية وهو كان بيحبني وحاول كذا مرة أنه يكلمني وأنا كنت برفض وآخر حاجة طلبت منه إنه يكلم سيف ويتقدملي لو فعلًا هو بيحبني الكلام ده كان قبل ما يسافر سيف بيومين ، وصحبتي دي كانت غيرانة مني بمعنى أصح فحبت تأذيني بالطريقة دي
_ طيب والراجل ده كلمك تاني ؟
هزت رأسها نافية وقالت :
_ لا متصلش تاني
_ طيب اسمعي لو كلمك تاني وطلبت منك تروحيله تقوليله موافقة وتتصلي بيا تقوليلي على المكان وأنا هتصرف
أمامت له بالموافقة بدون جدال أو نقاش ولكنه أكمل بنبرة واضح عليها الاستياء :
_ إنتي غلطانة من البداية يا شفق .. إزاي توافقي تتصوري بهدوم زي دي نفترض إن هي صحبتك فعلًا ومكنش في نيتها حاجة ممكن يحصل أي حاجة تنسي ما تمسحهم وتلفونها يضيع منها أو حد يسرقه أو أي نيلة ، لكن هي طلعت بنت … ما علينا متتصرفيش من دماغك تاني نهائي ، لإن حاجة زي كدا مش هزار وإنتي روحتي لحيوان زي ده بيته الحمدلله إنه محصلش مصيبة ، من هنا ورايح مش هتعملي غير اللي هقولك عليه
_ حاضر
قالتها باستسلام تام فأكمل هو بوجه واضح عليه الضجر :
_ هاتي الرقم اللي كلمك منه ورقم صحبتك دي كمان
اخرجت هاتفها واملته الأرقام ثم ساد الصمت بينهم للحظات وهي تحدق أرضًا فقد أصبحت كالشجرة الذي اهلكها الزمن ومن أول رياح ستسقط بأوراقها الذابلة ، أو كطائر ليس لديه عش لكي يحتمي ويلوذ به .. جذبها من شردها صوته الهادئ وهو يقول :
_ هنا في فطاير وكريب غير المشروبات ، اطلبي اللي يعجبك من المنيو أكيد مفطرتيش
هزت رأسها باعتراض وتمتمت بحزن :
_ لا مش عايزة شكرًا أنا همشي عشان متأخرش على ماما
فهم سبب ضيقها وحزنها فقال برزانة وحنو :
_ شفق إنتي زي رفيف بنسبالي ، متزعليش مني لو قسيت عليكي في الكلام شوية ده عشان مصلحتك ، متقلقيش كل حاجة هتتحل سبيلي إنتي بس الموضوع ده وأنا هتصرف مع الحيوان ده .. يلا بقى اطلبي حاجة تاكليها أو حتى أشربي
_ كرم والله مليش نفس بجد .. خليني امشي أفضل
استقام وقال بعدم حيلة :
_ طيب براحتك يلا هوصلك معايا
همت بأن تعترض أيضًا فقال بشيء من الحزم وكأنه يلقي عليها أوامر مفروغ منها :
_ إنتي عارفة عربيتي طبعًا استنيني برا وأنا هدفع حساب القهوة وآجي وراكي
تأففت بنفاذ صبر ثم اندفعت إلى الخارج تنتظره أمام سيارته كما طلب منها أو أمرها بالأحرى .. وبعد دقائق وجدته يقترب منها وفتح أبواب السيارة بجهاز التحكم الخاص بها فاستقلت بالمقعد الخلفي وهو بمقعده المخصص ونظر لها وابتسم عندما وجدها مغتاظة وكجمرة نيران مشتعلة فحرك محرك السيارة وانطلق بها ثم هتف مداعبًا :
_ كل ده عشان قولتلك هوصلك !! ، ولا عشان اجبرتك ؟!
هتفت وهي تفرغ به كل عيظها :
_ أنا حكتلك عشان حسيتك عايز تساعدني فعلًا وعشان بثق فيك ، لكن الاسلوب ده مش هسمحلك بيه
أصدر ضحكة بسيطة وقال يكمل مرحه :
_ أنا مش شوية قولتلك إنك زي رفيف ، فاتعودي على اسلوبي ده لإننا هنتقابل كتير أوي من هنا ورايح
_ كرم متخلنيش اندم إني حكتلك وسمحتلك تتكلم معايا اساسًا
اختفى مرحه فورًا وعاد لجديته وقال برجولية صارمة :
_ سيف الله يرحمه قبل ما يسافر جالي الشركة وقعد يقول كلام كدا كتير أنا اتعصبت منه ونهيت الموضوع ، بمعنى أصح هو كان حاسس إن مش هيرجع فوصاني عليكم .. وأنا بعمل بوصيته ياشفق إنتي ووالدتك مسئوليتي دلوقتي وأنا هكون زي سيف بظبط بنسبالك وبالنسبة لوالدتك ، ولو مضايقة إني بتكلم معاكي بحرية شوية زي كأنك اختي أنا آسف وحقك عليا ، بس متتوقعيش إني هسيبكم وحدكم نهائي
أشاحت بوجهها عنه وهي تتنهد بحيرة من أمرها فهو لا يفهم سبب غضبها ، لا يفهم أنه بدأ يلقي تعوذيته عليها بابتسامته الساحرة ولطافته وحتى خجله في بعض الأحيان كل هذه الصفات تجرها لمحيطه تدريجيًا ، فتحاول أن تجعل كل شيء بينهم رسمي حتى لا تسقط في تعويذة العشق .. لأنها تعلم أن قلبها لا يختار من العشق إلا أصعبه ! .
سقط هاتفه من يده في العربية فانحنى لكي يلتقطه وكانت هي قد افاقت من شرودها وبمجرد وقوع نظرها على الطريق صرخت بهلع :
_ كـــــــــــرم !
سقط هاتفه من يده في العربية فانحنى لكي يلتقطه وكانت هي قد افاقت من شرودها وبمجرد وقوع نظرها على الطريق صرخت بهلع :
_ كـــــــــــرم !
رفع نظره على أثر صرختها وانحرف بالسيارة بقوة عن الطريق وأوقفها على الجانب ثم أصدر تنهيدة حارة واضعًا كفه على وجهه وقال دون أن ينظر لها :
_ أنا آسف .. إنتي بخير ؟
اخرجت هي الأخرى زفيرًا براحة وتمتمت برقة غير مقصودة :
_ حصل خير ، الحمدلله أنها جات سليمة .. خلي بالك إنت وبتسوق بعد كدا !
استغفر ربه مرارًا وتكرارًا ثم قال البسملة وحرك محرك السيارة من جديد وانطلق بها ولكن كان أكثر حذرًا ويقود بهدوء وبعد دقائق توقف أمام منزل صديقه وقبل أن تترجل من السيارة اتاها صوته الخافت :
_ زي ما قولتلك ياشفق اتصلي بيا
أردفت يإيجاب :
_ حاضر !
***
خرجت من إحدى محلات مستلزمات التجميل وهي تحمل بيدها أكياس بها ملابس وأكياس أخرى بها مستلزمات مختلفة وكانت على وشك الاستقلال بسيارة الأجرة لولا يده التي قبضت على ذراعها وهو يقول :
_ ملاذ !
التفتت خلفها وطالعته بدهشة وسرعان ما سحبت يدها بعنف صائحة به :
_ إنت إزاي تمسك إيدي كدا ! .. طبعًا ما أنت حقير وماخد على السفالة دي !
غمغم أحمد بنبرة شبه راجية :
_ ملاذ بلاش كلامك ده ابوس ايدك ، والله أنا ندمان ندم عمري اديني فرصة اثبتلك إني ندمان وإني استاهل ثقتك مرة تاني
ابتسمت ساخرة وأجابته باستهزاء :
_ ثقتي مرة واحدة !! .. أنا آسفة يا أحمد بيه اتأخرت أوي !
_ ملاذ أنا والله بحبك أوي ، أنا كنت حيوان فعلًا لإني ضيعتك من إيدي ، ابوس إيدك سامحيني واديني فرصة تانية
هي أيضًا لا تزال تحبه ، ولكن حبها صادق أما حبه ملوث ومدنث بماء عكر امتلأ بالكذب والخداع والخيانة ، هذا إن لم يكن حبه الذي يدّعيه كذب اساسًا ، وهي اقتربت من انتقامها لكرامتها وإن كان يحبها بالفعل فستكون حققت نصرًا ساحقًا بزواجها من زين ؛ فقط كي تشعره بنفس شعورها وتلهب نيران الغيرة في صميمه ! .
خرج صوتها صارم وجاف :
_ وللأسف مازالت حيوان في نظري وهتفضل كدا طول عمرك
ثم استدارت واوقفت سيارة أجرة ثم استقلت بها وانصرفت من أمامه ، بينما فبقى هو يفكر في طريقة لإعادة المياة لمجاريها ! .
***
وصلت رفيف إلى النادي الخاص بها بعدما قررت أن تشاركها اليوم إحدى صديقاتها والتي ستأتي بعدها . عبرت باب النادي الرئيسي وكانت في طريقها للحديقة العامة وقبل أن تتجه ناحية إحدى الطاولات لمحت الجالس بمفرده على نفس الطاولة ، فتسمرت بأرضها وبدأ هرمون السعادة في الأفراز وتذكرت مقابلتهم منذ فترة قليلة فزدادت ابتسامتها وإحراجها ولكنها قررت بأخذها وسيلة للتحدث معه !! .
لم تنسى إعجابها به منذ فترة عندما رأته صدفة مع والدته ، ربما هي مشاعر زائفة وليس لها أساسا ولكنها حتى الآن تراه جديرًا بهذه المشاعر ، وهناك شيء مجهول يجذبها إليه ! .
تحركت نحوه بتردد في بادئ الأمر وكان هو مندمج في قراءة إحدى الكتب حتى وقفت امامه وتمتمت بابتسامة مرتبكة :
_ السلام عليكم
رفع نظره لها وتجمدت ملامح وجهه لثوانٍ ثم استقام فورًا ومد يده مصافحًا إياها بلباقة مع ابتسامة مرحبة :
_ وعليكم السلام ، أهلا وسهلًا يا أنسة رفيف .. اخبارك إيه ؟
ردت عليه بنفس ابتسامتها السابقة وصوتها اللطيف :
_ الحمدلله بخير .. أنا شوفتك بالصدفة وقولت اسلم عليك
_ طيب اتفضلي اقعدي ولا إنتي مستنية حد ؟
قالها إسلام بنبرة مهذبة فأجابته هي بحرج بسيط ، أو شديد ولكنها تتغلب عليه فقط من أجل محادتثه ! :
_ آه صحبتي جاية في الطريقة ، بس مفيش مشكلة ممكن اقعد لغاية ما تاجي
أماء لها بابتسامة صافية ثم جلست على المقعد المقابل له وهو على مقعده فبدأت هي الحديث بنبرة تحمل الاعتذار :
_ طيب بمناسبة اللي حصل المرة اللي فاتت تسمحلي اعزمك على حاجة كعتذار مني
_ اعتذار إيه !! ، الموضوع بسيط والله مش مستاهل ده كله
_ أنا خُفت تكون اتضايقت جامد عشان القميص وكدا يعني !؟
أصدر ضحكة صامتة وغمغم برقة تليق بصوته الرجولي :
_ لا والله عادي خالص ، وبعدين أنا معايا غيره كتير مش هتفرق معايا القميص ده يعني ، على العموم لو حابة تعزميني معنديش مانع مع إن أنا اللي المفروض اعزمك بس مش هكسفك
كان لديها كامل الحق بالإعجاب بهذا الكائن الجميل ، ويبدو أن الأمر سيتخطى الإعجاب إن استمرت هكذا ! ، حاولت الظهور بمظهر عدم التوتر وقامت بطلب كوب من الكاكاو كما قال وطلبت لنفسها مشروب غازي ، ثم ساد الصمت بينهم للحظات فوقع نظرها على الكتاب الموضوع فوق سطح الطاولة وقرأت اسم الكاتب ففوجئت باسمه وبدون تردد رفعت نظرها له وقالت بحماس وفرح :
_ إنت اللي كاتب الرواية دي ؟
نقل نظره بين الكتاب وبينها وغمغم بخفوت باسمًا :
_ آه أنا !
قالت بعفوية في سعادة غامرة وتشوق :
_ إنت بتكتب روايات بجد !! .. أنا بحب اقراها جدًا ، ممكن اغلس عليك واطلب منك الكتاب اقراه وهرجعه تاني والله بعد يومين ؟
انطلقت منه ضحكة تلقائية مرتفعة على طريقتها وكلامها وغمغم بخفة وبساطة :
_ اتفضليه طبعًا واعتبريه هدية كمان مش عايزه
_ لا لا هرجعه طبعا أو هدفع تمنه !
_ أنا بكسب متابع فده مصلحة ليا برضوا !
ضحكت بخفة على مشاكسته وقالت باسمة :
_ لا اعتبر المتابع كسبته من دلوقتي ! ، بس برضوا هقراه وهرجعه والله
تنهد بعدم حيلة ورسم الابتسامة العذبة على ثغره وأردف :
_ طيب اقريه الأول وبعدين نشوف موضوع ترجعيه ده
قالها وهو يمده لها فالتقطته من بين يديه واستقامت وهي تمسك بيد زجاج المشروب الغازي وباليد الأخرى الكتاب وتهتف في جدية :
_ إن شاء الله هرجعهولك في خطوبة زين وملاذ ده لو مخلصتهوش قبل كدا
أماء لها مبتسمًا فبادلته الإماءة كتحية وداع واتجهت نحو طاولتها التي كانت بعيدة عنه ، وجعل ينظر لها مبتسمًا بعد أن بدأت مشاعره تتخبط داخل قلبه ، وأحس هو الآخر بأن هناك شيء مجهول يجذبه لها !! ، ولكن حين نظر لقدمه العاجزة ولعكازه المسنود على المقعد المجاور له ابتسم ساخرًا ووبخ نفسه بشدة ولام مشاعره السخيفة فليس هناك من ستقبل به وهو عاجز وضعيف ! .
***
ظلام كاحل ! ، وسماء صافية تزينها النجوم الساهرة ، مع ضوء قمر شارد ، ويزيد من جمال الأجواء الهادئة نسيم الهواء البارد وهو يلفح بشرته وشعره ، وعدم اكتراث منه للأجواء الباردة فكان يتأمل السماء بشرود ، تارة يعيد ذكرياته مع زوجته وتارة مع صديقه الذي لم يمر على وفاته أسبوع ! ، أحس بألم مميت يأكل في صدره وبالأخص في قلبه .. يأكل الأخضر واليابس وعلى وشك جعله أرض يباب لا حياة فيها .. أرض تحتاج للتعمير من جديد ، وربما التعمير يستغرق سنوات عمره الباقية ويموت دون أن يكمل إعادة تعميره ، في بداية الأمر فقدانه لأبيه ومن ثم زوجته والآن صديقه ، صديقه الذي لا يعلم أحد عن نيران قلبه التي لا تنطفىء ، لا أحد يرى مدى دماره الداخلي حينما يذهب لزيارة قبره فينكب أمامه باكيًا كالأطفال ، فقد كانوا كشيئين من المستحيل انفصالهم عن بعض سوى الموت ولقد فصل الموت أحدهم عن الآخر دون سابق إنذار ! .
اقتحم حسن خلوته مع أحزانه وجلس بجواره مداعبًا :
_ نزل عليك الإلهام ولا لسا ؟
نظر له ورفع حاجبه هاتفًا ببرود كشيء من المشاكسة بينهم :
_ اهااا وبيسلم عليك ياخفة !
لم يعلق حسن على ماقاله ولكنه قال ساخرًا :
_ عيني عليك البت حنين جاية بكرا ، يابني قولي لو حابب مساعدة والله اخليها تصرف نظر عنك خالص بدل ما إنت في المرار ده
_ كان القرد نفع نفسه !
قالها وهو يبتسم بمكر فالتزم الصمت للحظات حتى قال وقد تبدلت ملامح وجهه للحقد :
_ لا يسر دي عايزة حاجة تظبطها بجد
_ إن جيت للحق أنا اتخنقت من حنين ومبقتش عارف اعملها إيه دي لزقة ياعم ، دي نافص تدخل ورايا الحمام ، مكان ما اروح الاقيها في ديلي !
قهقه بصوته المرتفع وغمغم بمكر :
_ ما أنت غلبان وعلى قد نياتك وهي عارفة إنك بتتكثف ومش هتكسفها بس أنا صايع سيبهالي بكرا وأنا هظبطهالك
ابدا كرم الجدية وهتف :
_ طيب بمناسبة الصياعة مش ناوي تلم نفسك ياحسن ، أنا كنت متوقع إن أخرك صحاب والكلام بس شكله الموضوع تخطى الحجات دي
_ كرم أنا مش صغير وعارف كويس أوي بعمل إيه ، أكيد مش هتوصل بيا للي في دماغك ، ومتحاولش تفهمني إنك إنت وحضرة الشيخ زين كنتوا قمة في البراءة
عاد لابتسامته وهو يداعبه ولكن بطريقة رزينة :
_ إنت عارف كويس إني مليش في مواضيع البنات دي أصلًا وببذل مجهود عشان اتعامل مع أي بنت ، أما زين فلو كان ليه في الكلام ده كان زي أي شاب طايش وده بعد اللي كان بيحصله فزين وضعه مختلف وكان بيعمل حجات وهو مش في وعيه ودلوقتي الحمدلله ربنا هداه ، فاعقل كدا ياحسن احنا لينا سمعتنا ومعروفين ومش ناقصين فضايح وأمك لو عرفت بعمايلك دي هيجرالها حاجة
تأفف بعنف وهتف في ضجر شديد وانزعاج :
_ وفر نصايحك لنفسك ياكرم أنا عارف كل ده كويس ومش محتاج حد يفكرني بيه
_ لا مش عارف يا أستاذ .. ومتفتكرش إني عبيط أنا عارف كل المخاريب اللي بتروحها وبتسهر فين ، ورغم كل ده بقول إنك هتعقل بس مفيش فايدة واضح ، إنت مش مدرك عظمة الذنب اللي بترتكبه وأنا بحاول ابعد زين عنك بقدر الإمكان لأني عارف إنكم مش بتتفاهموا مع بعض وفي كل مرة بتتخانقوا ، بس كفاية اعقل كدا وبطل القرف ده أنا خايف على مصلحتك
هب واقفًا ورمقه بخنق وامتعاض كدليل على عدم اقتناعه بما حاول نصحه به أخيه ثم استدار وانصرف فأصدر كرم زفيرًا بنفاذ صبر ويأس ….
***
كان زين مستغرق في النوم وكذلك في الأحلام ، لكنها أحلام مفزعة باتت تسبب له حالة نفسيه وتذهب بعقله ! .
كان بؤبؤي عيناه يتحرك بعنف تحت جفنيه وانفاسه سريعة وغير منتظمة وكأنه يجاهد في الفرار من شيء .. شيء مرعب كأشباح أو ما إلى ذلك ! ، ولكن ياليته شبح ! .. فهو صديقه الذي رحل عنه بسببه ؛ هو من أطاح به لحافة الموت فقط من أجل شعور باللذة سيدوم لساعات ، ولكن الأمر لم يدم لساعات بل للأبد ، فذهب هو لرب كريم واستمر هو في مسيرة حياته ، تطيح به الحياة تارة من هنا وتارة من هنا ويتخبط في أزماتها مقاومًا دوماتها ، فيذهب ويأتي للحياة مرات عديدة ، والآن هدّأت الحياة من سهماها التي تطلقها عليه متتابعة ولكن ضميره لم يهدأ ، وسيظل يعاني من الآم الضمير في كثير من ذنوبه ، ولن تتركه كوابيسه المزعجة مطلقًا حتى يتصالح مع نفسه ! .
فتح عيناه دفعة واحدة مفزوعًا وهو يلهث من الهلع وهب جالسًا على فراش ثم أنزل قدماه في الأرض ودفن وجهه بين راحتي كفيه ويستغفر ربه مرارًا وتكرارًا ، محاربًا شعور يمزقه ويضغط على انفاسه التي تخرج متقطعة ، فعجز عن مقاومة دموعه التي تصرخ مطالبة بالنزول فسمح لها بالسقوط واجهش بالبكاء في صوت شبه مرتفع مرددًا من بين بكائه وصوته المبحوح :
_ سامحني يا وائل .. سامحني !!
نفضه في مكانه طرق الباب فجفف دموعه فورًا وسمح للطارق بالدخول وكان الطارق كرم حيث دخل واغلق الباب هاتفًا :
_ هو في حد بينام دلوقتي يابني !!!
حاول جاهدًا إظهار صوته طبيعيًا وهو يزيح بعيناه عنه ويتمتم :
_ ما أنت كنت معايا في الشركة وشوفت كان الشغل إزاي النهردا كتير ومتعب
تقدم ناحية الأريكة الصغيرة وجلس عليها بإرياحية مغمغمًا في جدية ونبرة حازمة :
_ طيب أنا ظبطت كل حاجة عشان البضاعة جاية بكرا ، قبل ما تستلمها يازين تتأكد كويس إن كل حاجة مظبوطة مش عايزين يحصل زي المرة اللي فاتت
_ متقلقش !!
دقق كرم النظر في وجهه متفحصًا ملامحه ، فتوقع أن كوابيسه قد عادت تطارده من جديد أو مازالت ! .. ليصدر تنهيدة حارة قبل أن يسأله باهتمام :
_ إنت لسا بتحلم بوائل !؟
ابتسم بمرارة وأجابه بخفوت وعَجّز عن مقاومة أي شيء ، فهو كطائر مكسور الأجنحة ينتظر حتفه :
_ وأنا من إمتى ارتحت أنا في العذاب ده من عشر سنين ياكرم ، لا أنا قادر اسامح نفسي ولا هو بيسبني ارتاح
انتصب في جلسته وانحني للأمام قليلًا هاتفًا في زمجرة مفرطة بعد أن استفزته كلماته التي كلها ضعف وعجز :
_ إنت ملكش ذنب في أي حاجة يازين إنت كنت ضحية زيه ، وسامح نفسك عشان ترتاح كفاية تأنيب في نفسك .. إنت غلطان أكيد بس غلطك كان عن غير وعي وهو ممتش بسببك ده قدره ويومه وساعته ، تعددت الأسباب والموت واحد يعني ده كان سبب وبيك أو منغيرك كان هيموت بأي سبب تاني
أشاح بوجهه للجهة الأخرى وهو يجز عن اسنانه بقسوة ، هو أكبر مذنب في كل هذا هو من أطاح بنفسه لهذا الطريق لم يجبره عليه أحد ، هو من كان سبب كل ما حدث في حياته ويستحق أن يدفع الثمن . عاد بوجهه لأخيه وصاح به في صيحة متألمة :
_ أنا مليش ذنب في وائل ومليش ذنب في الراجل اللي خبطته بالمخروبة بتاعتي ومعرفش عايش ولا ميت ومليش ذنب في اللي بيجرالي ! .. لا أحب اقولك أن أنا استاهل كل اللي جرالي واللي بيجرالي لإنه محدش جبرني على حاجة أنا اللي اخترت امشي في طريق المخدرات والإدمان بنفسي لغاية ما وائل مات بسببي
_ وإنت ندمت وتوبت واتعالجت وأخدت سنة في المصحة وربنا هداك ، وإذا كان بخصوص الراجل فقدامك احنا قلبنا مستشفيات القاهرة كلها وملقناش اسمه لا في سجلات الوفيات ولا المصابين حتى عشان نعرف نوصله ، لو ليك نصيب تقابله وتعرف مين هو هتقابله ، وقتها هيبقى ربنا بيحبك وبعتهولك عشان تكفر عن ذنبك ويريحك من العذاب ، بس باللي بتعمله ده هتأذي نفسك اكتر وعمرك ما هترتاح
اكتفى بالصمت وهو يطرق رأسه أرضًا ، فأكثر من يحب التحدث معه هو أخيه من شدة قربهم لبعض لا يوجد شيء لا يعرفه أحد عن الآخر ولهذا هو أكثر من يفهمه والعكس ، ربما كرم هو ملجأ كل من يود البوح بشيء يخنقه ، وتطلق عليه والدته ( المصلح الاجتماعي ) !! ، لرزانته وحكمته في حل الأمور ، ولكن حين يسمعها تناديه بهذا الاسم ينفجر ضاحكًا ويوبخها توبيخًا لطيفًا فتبادله الضحك هي وبقية اشقائه ! .
هب واقفًا واقترب من أخيه ورتب على كتفه هامسًا بلطف :
_ قوم اتوضي يلا إنت مصليتش العشا في الجامع بسبب إنك نايم بعد المغرب زي الفراخ وأنا كمان هروح اتوضى واقول لماما ورفيف يتوضوا كمان عشان تصلي بينا جماعة يلا قوم
اماء لأخيه بابتسامة طيبة فبادله إياها وانصرف مغادرًا لغرفته لكي يتوضأ كما قال له منذ قليل ، فعاد هو يستغفر ربه بحزن وشجن ثم وقف واتجه للحمام هو الآخر ليتوضأ …
***
مع إشراقة شمس يوم جديد ، كانت العائلة مجتمعة في المنزل وجميعهم على طاولة طعام الغذاء يتبادلون الأحاديث ويضحكون ويمرحون ، وكان على مقدمة الطاولة هدى وعند ذيلها يجلس كبير العائلة طاهر العمايري .. كان الجميع في مرح وسعادة معادا يسر التي تتطلع احسن في غل وحقد وأعين نارية ولن تتمكن من حجب نفسها وإلا ستنفجر بهم جميعًا ، القت نظرة على حسن الذي منشغل بالتحدث مع ابنة خاله التي أتت من السفر صباحًا وكان هذا سبب في اندلاع نيران الغيرة بقلبها أكثر حيث هتفت في ابتسامة صفراء ونظرة ماكرة :
_ طيب بما إننا كلنا متجمعين كدا ماشاء الله حابة اقولكم حاجة تخص حسن عشان افرح طنط هدى بيه !!
وقفت اللقمة في حلقه وأخذ يسعل بقوة فناولته هي كوب الماء هامسة بنظرة لئيمة ومتشفية :
_ على مهلك
زغرها بنظرة نارية ومتوعدة وهو يزأر من بين اسنانه ثم تناول الكوب من يدها وشربه دفعة واحدة ثم نقل نظرة بين العائلة وهو يرى نظرات الاستعجاب في عيناهم والاستفهام !! ، فلم تمهله هي الفرصة لينقذ نفسه حيث أكملت ببراءة متصعنة وهي تعطيه نظراتها الشيطانية :
_ أصل حسن رجع الشركة من كام يوم فقولت أما افرح مرات عمي بالخبر ده بما إننا كلنا قاعدين
ظل يحدق بها شزرًا وعيناه تطلق شرارات ملتهبة وكانوا يتبادلون النظرات بابتسامات لا يفهم ما تضمره هذه الابتسامات في الخلف سواهم ، ولكن كرم كان يتابع الموقف ويبتسم لفهمه ما يجري بينهم فدق هاتفه رنينه ونظر للمتصل ثم هب واقفًا وغمغم :
_ طيب ياجماعة عن أذنكم
_ ما تكمل أكلك يابني
_ شبعت يا أمي .. عن اذنك ياعمي
_ اذنك معاك يابني
ثم نقل العم نظره لحسن وهتف باسمًا بسعادة :
_ايوة كدا ياحسن ربنا يهديك يابني اقف مع اخواتك وساعدهم ، فرحتني والله !
رتبت امه على كتفه بابتسامة فخورة ومحبة ثم استقام زين واستأذن من الجالسين حتى لا يتأخر على موعد العمل المهم .
***
أجاب كرم على الهاتف في هدوء نبرته المعتادة ولكن جاءه صوتها المفزوع وهي تهتف مستنجدة به :
_ الحقني ياكرم ماما تعبانة أوي ورافضة ما تاخد علاجها ولا تاكل حتى ومش عارفة أعمل معاها إيه ؟
أثارت قلقه وخوفها من نبرته المتلهفة والمرتعدة فأجابها في خفوت محاولًا تهدئتها :
_ طيب اهدي ياشفق .. مش راضية تاخد علاجها ليه ؟!
_ مش راضية ياكرم والله دي من امبارح رافضة وانا سبتها محبتش اضغط عليها والنهردا تعبت اوي وحتى الأكل مش عايزة تاكل تعال يمكن تعرف تقنعها هي بتسمع منك
_ طيب حاضر أنا هلبس وهاجي دلوقتي وحاولي معاها لغاية ما آجي يمكن توافق
أجابته بالموافقة في صوت به شيء من الرجفة فاندفع هو ناحية غرفته ليرتدي ملابسه ويرحل فورًا .
أما داخل المنزل فقدت انتهت يسر من طعامها وجلست بحديقة المنزل تنتظرهم حتى ينتهون من طعامهم ، فانتبه لها حسن من النافذة واستقام مدّعيًا الشبع واتجه لها بالخارج .. رأته يندفع نحوها كالثور الهائج فلاحت ابتسامتها المتشفية على ثغرها ، وفي أقل من لحظة كان يقف أمامها ويجذبها من ذراعها خلفه حتى ادخلها بغرفة خارجية في الحديقة وأغلق الباب ثم تحدث وهو يحاول التحكم في نبرة صوته :
_ إنتي بتشتغليني يعني وبتلعبي بيا .. ما بلاش أنا يايسر ده أنا وسخ وممكن اخليكي تكرهيني بجد
اطالت النظر به وشفتيها تميلان للجانب في استنكار ثم تمتمت وهي تمر من جواره متجهة ناحية الباب :
_ وريني هتعمل إيه !!
قبض على رسغها بعنف ودفعها بقوة فاصطدمت بالحائط وتكمت تأوهًا رغبت في إخراجه فازدادت حمرة عيناها غضبًا وهو كذلك وصل لزروته حيث حاوطها بين الحائط وبينه بيديه وهمس في وقاحة معتادة عليه امتزجت بضجره :
_ طالما إنتي دايبة فيا كدا وهتموتي على نظرة مني بس .. اضايقتي ليه لما قولت عليكي الكلام ده .. أنا اراهن بالعشرة إنك مُنى عينك ده يحصل بينا !
لم تخجلها وقاحته ولما تدهشها كثيرًا ولكنها هيّجت عواصفها وبرزت عن مخالبها القوية .. هي تعرف أنه لم يتمكن من فعل شيء مما يقوله ولكن مجرد القول يثيرها بالكامل .. هذا الفاسق يتحدث وكأنها فتاة من الشارع وليست ابنة عمه الذي كان يتحدث معه بالداخل ويجلس معه على طاولة واحدة . فلم ترد على انحطاطه بالكلمات بل بيدها التي هوت على وجنته بقسوة وهي تهتف باشمئزاز :
_ حيوان صحيح ومش راجل .. عرفت إن اللي بعمله فيك تستاهله ولسا هتشوف مني ياحسن عشان أنا مبسبش حقي
ثم دفعته من أمامها واندفعت للخارج وتركت العنان لدموعها المريرة والمنكسرة ، نزلت الدموع حارقة كالنيران فقلبها يتحرّق من حبه وهو وغد لا يستحق عشقها له ، فقط يستحق الكره وهي تفشل في اعطائه الكره ، فكل ما تفعله به هو بدافع عشقها لها وتضعه تحت راية انتقامها .. انتقامها الكاذب !! .
***
متكورة في إحدى زوايا المنزل بجانب الحائط ومجهشة بالبكاء العنيف ، مع حرصها على عدم وصول صوت بكائها لأذن أمها المريضة .. تركهم أخيه فجأة ووالدتها بين الحياة والموت حالتها الصحية تزداد سوءًا مع مرور الوقت منذ فجيعة أخيها ، أن تركتها هي أيضًا فحتمًا ستلحق بهم ، لم يتبقى لها سواها وبدونها ستصبح وحيدة بلا عائلة أو ملجأ ، ستصبح كالطائر الذي بلا عش وتأخذه الرياح وتلقي به حيثما تريد ! . اليوم هو الخامس منذ وفاته ، وسئمت من التظاهر بالقوة الثبات وهي في أشد الحاجة للصراخ والبكاء .. في امس الحاجة لإخراج الألم الذي يأكل ويفتت قلبها ، ولكنها تتحمل من أجل والدتها وتفرغ عن ما في فؤداها ببكائها المنخفض والمتخفي بعيدًا عنها !! .
أخرجها من موجة بكائها صوت رنين الباب فوثبت واقفة وجففت دموعها عن وجنتيها ولكن لا يزال أثر البكاء في عيناها .. ارتدت حجابها ثم توجهت وفتحت الباب بتلهف بعد أن توقعت من الطارق ، فنظر هو لها وقال بقلق :
_ بقت كويسة ؟
أجفلت نظرها أرضًا وهزت رأسها بالرفض في مرارة وأعين تستعد بالانفجار مجددًا ، فهمس هو بإحراج وارتباك :
_ وليه العياط ده كله إن شاء الله هتبقى كويسة ، قوليلها بس إني جيت عشان ادخل اتكلم معاها
أماءت له وبسطت يدها تسمح له بالدخول فدخل هو على استحياء وجففت دموعها وتوجهت لوالدتها التي اشرقت من السعادة لعلمها بقدومه وخرجت لتخبره بأنه تنتظره فطلب منها أن تلحقه بالطعام والدواء خاصتها .
فتح الباب بعد أن طرقه بلطف ودخل فاستقبلته هي بابتسامة مشرقة وسعيدة ، ليقترب هو بعد أن بادلها الابتسامة العذبة وجذب مقعد وجلس قبالتها مغمغمًا برقة تليق بصوته الرجولي :
_ كدا برضوا تقلقينا عليكي يا أمي
التقطت الورقة والقلم وبدأت تدون له ما تود قوله ! ، فقد فقدت قدرتها على التحدث نتيجة لصدمتها بخبر وفاة وحيدها ، فأخذ من يدها الورقة وقرأ ما كتبت عليها والذي كان كالآتي ” مجيتش ليه امبارح ؟ ”
فأظهر الأسى والتأسف وتمتم باحترام :
_ أنا آسف حقك عليا .. كان معايا شغل كتير خالص والله ورجعت متأخر فمكنش ينفع اجيلكم
أماءت له مبتسمة كدليل على مسامحتها له ورتبت على كفه بحنو ، دخلت في هذه اللحظة شفق واتبسمت براحة حينما رأت سعادة والدتها ، وتأكدت أنها لم تخطىء عندما طلبت منه المساعدة ، أما الأم فقد عادت تكتب من جديد ” أنا حلمت بسيف امبارح ”
قرأ ما كتبته وحارب عيناه التي كادت إن تدمع ، ثم رفع نظره لها ورسم ابتسامة حانية على ثغره متشدقًا :
_ وقالك إيه ؟
بدأت تكتب الحلم بالتفصيل في الورقة ودموعها تنهمر في صمت ” كنا بنتغدي وكنت إنت معانا وأنا كنت لابسة أسود أنا وشفق فهو اضايق وقلنا ليه لابسين اسود وطلب مننا نلبس الوان ولما بصلك ولقيك قاعد ساكت وزعلان خالص حط ايده على كتفك وابتسم زي كأنه بيقولك متزعلش وبعدين قالك وهو شبه مضايق إنت مش فرحان ليا ولا إيه ! ”
قرأ الورقة وتلاشت ابتسامته لتحل محلها التوجع والحزن ولم يتمكن من حجب دموعه ففرت من عيناه دمعة متمردة واسرع بمسحها ، فقد آلمه قلبه كثيرًا بعد رسالته له الذي يخبره فيها بوضوح أن حزنه أو حزنهم جميعًا على وفاته أصبح يألمه ويعذبه . رفع نظره لها وأمسك بيدها يملس عليها بحنو وبابتسامة مريرة ثم أردف بخفوت :
_ طيب وأهو جالك بنفسه وقالك إنه مضايق ولما يلاقيكي مش بتاخدي علاجك ومش عايزة تاكلي وبتعيطي كدا هيضايق أكتر .. يلا كلي وخدي العلاج مينفعش تقعدي كدا
اقتربت شفق منها وجلست على الفراش وهي تمد لها الطعام بتوسل :
_ يلا يا ماما عشان خاطري كلي
أمام إصرارهم استسلمت أخيرًا وبدأت في تناول الطعام من يده ابنتها التي كانت تختلس النظر إليه خفية وهو شارد بشجن في الورقة التي لا تعرف مضمونها حتى الآن سوى أنه حلم عن أخيها روته له أمها !! .
وبعد دقائق ليست بطويلة استأذن هو منها ليغادر ثم خرج وتبتعه هي لتودعه فتوقف عند الباب وسألها :
_ لسا متصلش بيكي ؟
فهمت أنه يقصد ذلك القذر الذي يبتزها فهزت رأسها بالنفي ليكمل هو بجدية ممزوجة باللين :
_ طيب معلش ياشفق استحملي اليومين دول عشان مصلحتك ، لو حابة تروحي كليتك أو أي مكان اتصلي بيا وأنا هوديكي واجيبك
انفرجت شفتيها بذهول وأجابته في حياء شديد وتوتر :
_ لا ملوش لزمة مش للدرجة كفاية أوي اللي بتعمله معانا أنا مش عارفة اشكرك إزاي والله
_ لا ليه لزمة وأوي كمان احنا مش ضامنين الحيوان ده يعمل إيه ، فاسمعي الكلام بالله عليكي ومتطلعيش وحدك لغاية ما أعرف مكانه أنا حاولت أعرف مكانه من خلال الرقم اللي ادتهوني بس طلع بيتكلم من رقم كشك في الشارع
تمتمت بخجل بسيط وإحراج :
_ بس أنا مش عايزة اتعبك معايا كفاية أنه لما يتصل هتصل بيك بلاش تدخل نفسك في مشاكل بسببي
لم يبتسم ولكن نبرته ونظرته العفوية في لين ، سرقت الكلمات من فمها ووسمت وسامه على يسارها وطالعته ببلاهة :
_ وهو لو رفيف مكانك كنت هسبها مثلًا ، إنتي متعرفيش ممكن يعمل إيه متستهونيش بالموضوع ، ولو عليا مفيش تعب ولا حاجة اطمني ، بس خلينا نحل المشكلة دي من غير ما تتأذي
كان يخبرها بشكل غير مباشر أنه يرى اهتمامه بها كاهتمامه بشقيقته وأنها ليست سوى شقيقة له ، ولكن شرودها به عَكَسَ الآية وتوتر هو وشعر بالإحراج كعادته ثم اشاح بنظره عنها وغمغم على عجالة كأنه يتهرب من وضعهم :
_ طيب لو حصل أي حاجة لمامتك كلميني وياريت زي ما قولتلك على خروجك وكدا
لاحظت هي شرودها به فلعنت نفسها وخجلت ثم اماءت له بالموافقة لتنهي هي الأخرى هذا الحديث فاستدار وانصرف فورًا ولكن بعد خروجه رغم الكآبة التي تعم عليها ابتسمت مستنكرة وبتعجب من خجله وتذكرت كيف أشاح بعيناه ووجهه عنها بتوتر بعد أن رآها شاردة به ، كيف لرجل أن يخجل هكذا !! ، فهي لم يسبق لها رؤية رجل مثله ويبدو أن هناك خفايا أعجب من الخجل في شخصية هذا الرجل ! .
***
مع حلول المساء وهدوء الأجواء والظلام عم كل مكان ، كانت الساعة تقارب على الحادية عشر وكانوا مجتمعين في الصالون العائلي يتبادلون الأحاديث باستثناء كرم الذي لم يعد للآن .
تحدث زين في وجه صارم وحاد موجهًا حديثه لأمه :
_ بصي بقى ياست الكل متحطنيش قدام الأمر الواقع قدام الناس بعد الخطوبة وشغل اقعد مع خطيبتك واتكلموا أنا معنديش الكلام ده
نظرت هدى لابنها وضربت كف على كف متأففة وقالت في نفاذ صبر :
_ إنت مصمم تنقطني يازين !!!
تدخل حسن وهتف بنبرة تحمل السخرية وهو يكتم ضحكته :
_ بص يامعلم الصراحة إنت غلطان ، مكنش ينفع نروح تشوفها إنت كنت تخدتها زي ماهي ويوم الفرح تصدم بيها
طالعته هدى بنصف عينه هامسة بخبث :
_ ويتصدم ليه دي البنت ماشاء الله قمر ده حتى هو عجبته !
غمز بعينه اليسار في لؤم وهتف ضاحكًا باستنكار :
_ ايوة بقى امال عاملنا فيها قال الله وقال الرسول ليه !
رمقه شزرًا وهتف بحزم :
_ ما تتلم يالا !
انحت رفيف على حسن وهمست في أذنه وهي تكتم ضحكتها :
_ بس ياحسن لياكلنا .. احنا مش ناقصين
وضع يده على فمه يخفي ابتسامته التي انطلت منه رغمًا عنه فتكمل هدى في رزانة وحنو محاولة اقناعه :
_ ياحبيبي لازم تقعد مع خطيبتك بعد الخطوبة وتتكلموا كدا عشان تتعرفوا على بعض
هتف شبه منفعلًا :
_ ماما متجننيش بلا اقعد واتكلم معاها ليه واتكلم معاها ليه ما اخدها في الشقة ونقفل على نفسنا احسن ، انا لما اقعد معاها وحدنا ده اسمه خلوة ودي حرام
_ خلاص خلي رفيف تقعد معاكم أظن كدا معندكش حجة !
صاحت رفيف مسرعة في توتر وخوف :
_ لا اقعد مع مين أنا إيه يقعدني وسط مخطوبين وبعدين أنا لو قولت كلمة غلط وابنك معجبتهوش ممكن ياكلني
قال زين مبتسمًا ليتهرب من إصرار أمه :
_ ايوة عندها حق
نزعت هدى الشبشب والقت به على ابنتها صائحة باغتياظ :
_ اكتمي ياحيوانة يعني مش كفاية بحاول اقنع فيه !
انفجر حسن ضاحكًا بقوة فنكزته رفيف في كتفه بضيق ويتابعهم زين وهو يبتسم ثم هتف حسن من بين ضحكاته :
_ يا أمي احمدي ربك أنه تكرم وهيحضر خطوبته اصلًا
بادل أخيه في المزاح قاصدًا إثارة غيظ أمه وتمتم يجاريه في الحديث :
_ قولها ! .. ما تروح تخطب إنت بدالي ياحسن !
دخل كرم من الباب وهتف مبتسمًا عندما رأى تجمعهم وضحكهم :
_ متجمعين عند النبي إن شاء الله
ردوا جميعهم بـ ” آمين ” ثم عاد زين ونظر لحسن كأنه يأخذ رأيه فيما طرحه عليه للتو فهب واقفًا وقال وهو ينصرف بعيدًا عنهم :
_ اخطب مين صلي على النبي ياعم ، أنا مش ناقص وجع دماغ
أجابه زين بنظرة مشتعلة ومغتاظة :
_ آهاا ما أنت عجباك الصياعة ، امشي متورنيش وشك بدل ما احدفك بالسكينة
تشدق ضاحكًا بمشاكسة :
_ الشيخ زين بجلالة قدره يقول هحدفك بالسكينة لا مكنتش متوقعها منك دي ياشيخنا
نزعت هدى حذائها الآخر وصاحت به :
_ ولو ممشتش ياحسن هحدفك أنا بالشبشب
_ لا وعلى إيه امشي بكرامتي أحسن !!!
قالها ضاحكًا ومداعبًا بينما كرم انحني على رفيف وهو يسألها عن ما يجري فبدأت تقص له حوراهم منذ البداية فيبادلها الضحك ، بينما أكثر من يستشيط غيظًا بينهم هي هدى !! …
***
أيام مرت بروتينية بعض الشيء على البعض ، وباختلاف بسيط على البعض الآخر ! .
زين كان في الاستعداد لخطبته التي ستقام اليوم في إحدى المقاهي الفخمة وستكون بين العائلتان فقط وذلك بعد موافقة العروس والجميع وعدم ابداء أي اعتراض على اقتراحه . كان يستعد لهذه الخطبة وكأن يد تقبض على فؤاده وتعصره ومن الناحية الأخرى يد تربت على كتفه بحنو محاولة دفع الطمأنينة لنفسه المضطربة والوجلة ! …
أما كرم فكان يتخبط في أحزانه كما أعتاد ، لا يقطع زيارة صديقه الحميم هو وزوجته كل يوم والتالي ، ويلازم على زيارة منزل صديقه ليطمئن على أمه يوميًا حتى لا تبدي له ضيقها من عدم قدومه ، وقلت محادثته لتلك الشفق التي جعلت من قدومه يوميًا حجة لتحادثه !! ، فتلوم وتعنف نفسها بشدة بعد رحيله وتقسم بأنها ستتصرف بحزم وستجعل الحديث مقتصر على إلقاء التحية فقط ولكن في كل يوم تنكث وعدها لنفسها وتخترع حديث مختلف لتحادثه به ربما ما يدفعها لفعل تلك الأمور المنافية لطبيعتها الملتزمة معه هو أنها بدأت تنتبه لتفاصيله أكثر واصبحت تفهم أن عندما يتكلم وعيناه تقعان على كل شيء إلا عليها يكون مضطرب أو مُستحي ! ، وربما ايضا أنها بدأت تلذذ برؤية خجله الغير مألوف لها على رجل من قبل ، مع ابتسامته الساحرية عندما تميل شفتيه لليسار في لطف فتحلق في جمالها ونظرات عيناه الرمادتين كانت كسهام صائد محترف يصوبها نحو يسارها بإحترافية .. ” مهلا هل اتغزل به !!! ” قالتها لنفسها في ذهول فعادت تعنف نفسه بقسوة ” عودي لرشدك ايتها الحمقاء وكفاكي تصرفات فاسقة !! الرجال بالألوف ألم تجدي رجل سواه لتعجبي به ؟! ” فتعود وتجيب في هيام ” وكيف لامرأة تملك عقل تستطيع مقاومة هذا الرجل الفريد ” … !!
أما عن حسن فلا يزال في حياته الفاسدة ، بالنهار عمل لا يتقنه على أكمل وجه وبالليل سهرات وفتيات ، وأصبح في حرب حقيقة مع ابنة العم ، وصارت كعدو لدود تسعى لتدمير حياته في وجهة نظره ، فلم يحرمها من مزيد من معاملة المرء لخصمه ولا يمل من إظهار جانبه الفاسق أمامها ووقاحته المألوفة فتارة تقابله ببرود وتارة بغضب ولكن كل هذا يزيد من إصرارها على تلقيه الدرس الذي يستحقه ، مع إصراره هو على كسر انفها العالي وجرح كرامته عن طريق محاولاته الوقحة في الاقتراب منها وكلماته الفظة والوضيعة لها بالأخص بعد الصفعة التي تلقاها منها وزادت من لهيب النيران اشتعالا داخله وجعلته أكثر الحاحًا في خوض هذه المعركة التي سيخرج منها حتمًا منتصرًا كما هو متصور … !!
ورفيف منسجمة في تلك الرواية التي استعارتها من إسلام ، تقرأها مرة واثنان وثلاثة حتى قاربت على حفظها وتتشوق ليوم الخطبة أكثر من أخيها حتى تراه وتعيدها له وتخبره عن مدى سعادتها بقرائته وأنها جميلة بالفعل ! …
***
على الجانب الآخر كانت شفق تستعد للخروج للذهاب لكليتها بعد غياب دام لأسبوعين منذ وفاة شقيقها ، ولم تلتزم بتنبيهات كرم لها المتكررة بعدم الخروج بمفردها . وبعد ساعات دامت لآذان العصر في كليتها خرجت أخيرًا وقررت أن تذهب لزيارة قبر أخيها واستقلت بإحدى سيارات الأجرة وبعد دقائق نزلت منها أمام المقابر وقادت خطواتها نحو الداخل حتى وقفت أمام باب مرقده وفتحت الباب الحديدي ودخلت وأخذت تتطلع إليه لا تستوعب أنه في التراب وحين تتحدث إليه الآن لن يجيبها ولن يضمها ويجفف دموعها ، لن يشاطرها أحداث يومه بعد الآن ، ويخبرها عن مغامراته الشرطية وعن الجرائم التي تمر عليه يوميًا ، باختصار شديد هو لم يعد موجود جسديًا ولكنها تشعر بروحه تتنقل حولهم في كل مكان وبالأخص في المنزل وغرفته مفعمة برائحة عطره الرجولية ، حتى الآن تراه فيكل جزء منها ! .
خرت أمامه ببكاء عنيف ونشيج مسموع تتحدث إليه من بين بكائها بكلمات غير واضحة وتتلمس على التراب الذي يتواري جسده اسفله بتحسر وتهمس في صوت متقطع :
_ وحشتني ياسيف أنا بموت من بعدك .. لا أنا ولا ماما لينا غيرك .. أنا بقيت بحس بيك في كل مكان حواليا ، وحشني حضنك وضحكك وهزارك معانا وحكاوينا طول الليل ، ليه سبتني وحدي أنا ضهري اتكسر من بعدك ياحبيبي ، عارفة إنك بتتضايق لما نشوفنا بنعيط كدا بس غصب عني مش قادرة اتصنع القوة أكتر من كدا أناااا ….
شعرت بيد توضع على كتفها فلوهلة ظنته كرم لعلمه أنه هو الوحيد الذي لا يفارق قبر أخيها وملازم على زيارته وعلى إسقاء الأزهار الصغيرة والصبار الذي زرعه حول قبره فكادت ان تبتسم ولكن حين وقفت واستدارت بجسدها بالكامل فرت دماء وجهها وتملك الرعب منها بمجرد رؤيتها لهذا الوغد الذي يبتزها فتراجعت للجانب هاتفة بفزع :
_ إنت بتراقبني ؟
أجابها باسما بشيطانية :
_ أنا سبتك اسبوعين وقولت اخوها مات وحرام ، مش هو ده الظابط اللي كان هيودني في داهية برضوا ، خلاص يامزة معدش في حد هينقذك مني والصراحة بقى أنا صبرت عليكي كتير وياتديني اللي أنا عاوزه بالذوق يا افضحك ، فتدهوني بالتراضي لإني كدا كدا هاخده حتى لو بالغصب وسعتها هبقى اخدت اللي عاوزه وفضحتك
ثم اخذ يقترب منها وهي تتراجع حتى التصقت بالحائط ومال نحوها ببطء قاصدًا تقبيلها وهي تحاول أن تتفاده وتهتف بتحذير كان فاشل في تحريك شعرة منه :
_ ابعد عني بدل ما اصوت والم عليك الناس
_ مفيش حد في المقابر يامزة غيرنا وزي ما إنتي شايفة دي مقابر أوض يعني محدش هيشوفنا
بدأت ترتجف برعب وهي تراه يقترب أكثر ففكرت في أي طريقة لتهرب منه ولم تجد سوى طريقة واحدة فرفعت قدمها وركلته اسفل الحزام واندفعت للخارج تركض كالسارق الذي يهرب من مالك المحل الذي سرقه .. تركض وتتلفت خلفها في رعب حتى وصلت للشارع العام ومن رعبها لم تتمهل عند عبورها فلم تشعر بنفسها سوى وهي تفقد وعيها تدريجيًا على الأرض وصوت فوقها يردد في ارتيعاد :
_ يا أنسة ردي عليا إنتي كويسة .. يا أنسة !!!
_ الفصل السادس _
بعد العصر بساعة ونص مع ضوء الشمس الغاربة والأجواء المشمسة والدافئة في هذا الصقيع .. كان المقهي على قمة فندق ومتكدس بالعائلتان ومعارفهم المقربين فقط وكانت خطبة ملوكية وهادئة خالية من الضجيج المعتاد على الأفراح ، وكان يود أن يجعلها دون أي موسيقى أو اغاني وبعد محاولات من أمه وشقيقته وافق على موسيقى راقية وهادئة فقط لتضفي للأجواء شيء من الفرحة والابتهاج ، وكان الجميع منشغل بالحديث والضحك مع بعضهم البعض ، والفتيات لا تمل من التقاط صور السيلفي لها وبالأخص رفيف التي كانت مندمجة مع صديقاتها في الضحك والتصوير غير منتبهة لذلك المضطرب الذي يخونه نظره ويخطف نظرات إليها سريعة بعد أن قامت بإعادة الكتاب وابدت عن سعادتها به وقالت الكثير من الكلام المشجع والإيجابي . وحسن كان يتجول هنا وهناك وأغلب الوقت يقضيه مع ابن عمه وصديقه ” علاء ” ، أما كرم فكان على طاولة بمفرده يجلس واضعًا ساق فوق الأخرى وبيده كوب المشروب الغازي الذي طلبه ويتابع الجميع في سكون يراقب ذاك تارة وتارة ذاك .. طلته الرجولية والجذابة لا تختلف عن زين وحسن فكل منهم لديه طلته المختلفة التي سلطت أنظار الجميع عليهم ، اقتحمت جلسته الفردية وانسجامه مع الموسيقة الهادئة ومشروبه ابنة خاله ، حيث جلست أمامه وغمغمت باسمة في رقة شبه متصنعة :
_ قاعد وحدك ليه ؟!
ابتسم لها بلطف وتمتم في نبرة هادئة كطلته وجلسته وطبيعته :
_ عادي حبيت جو الموسيقى بس
هتفت في تطفل كان في نظرها محاولة اقتراب منه ولكن في نظره تطفل :
_ طيب هتمانع لو قعدت معاك
رسم ابتسامته ولكن هذه المرة كانت ابتسامة متكلفة حيث أجابها في استحياء منها :
_ لا أمانع ليه براحتك ياحنين !
اتسعت ابتسامتها أما هو فانتظر اللحظة التي نقلت بنظرها عنه وبحث بعيناه عن حسن حتى وقعت نظراته عليه وتلاقت اعيننهم فأشار له بيده على الجالسة أمامه في وجه مختنق وكانت نظرته تتحدث قائلة ” تعالي خُدها من قدامي أنا مش ناقص رط ” انفجر حسن ضاحكًا بقوة فنظر له علاء وغمغم باسمًا على ضحكه :
_ ماله عايز إيه ؟
_ حنين لزقت فيه زي العادة ومش عارف يتهرب منها وعايزني انقذه !
قهقه مثله وقال مستمتعًا :
_ والله أخوك ده مسخرة وحالته صعبة روحله ليفرهد بين ايدها !
ازداد ضحكه أكثر وجاهد في التوقف وهو يتوجه ناحيتهم حتي وقف وانحني قليلًا ناحيتها هامسًا بنظرة خبيثة وهو يغمز لها :
_ حنين ما تيجي اعزمك على حاجة حلوة ونتكلم شوية
هتفت في اعتراض بسيط وهي تلقي نظرة على كرم الذي يحاول تجنب نظراتها لها وتفاديها :
_ ميرسي ياحسن بس أنا مرتاحة كدا ومش قادرة أشرب أي حاجة والله
نظر لأخيه وهتف مشاكسًا وخو يضحك :
_ مرتاحة إيه بس ياشيخة .. إنتي إيه اللي مقعدك مع الكئيب ده تعالي ده الكل بيضحك وبيهزر وهو قاعد في ركن وحده زي المطلقة ، تعالي بس حتى اقعدي مع رفيف كانت بتسألني عليكي من شوية
القت نظرة أخيرة على كرم وهذه المرة رأته ينظر لها وبيتسم ابتسامة صفراء فكتم حسن ضحكته ونهضت هي مغلوبة على أمرها وسارت مع ابن خالها ولكنها فضلت أن تذهب لرفيف وتنضم لصديقاتها وهووأشار لشقيقته من بعيد على كرم ففهمت هي مقصده فورًا وابتسمت ورحبت بانضمام ابنة خالها بينهم في حب ….
بعد دقائق قرر حسن أن ينزل ليقوم بشراء شيء له وهرول ناحية المصعد الكهربائي قبل أن يغلق ووضع قدمه بينه حتى لا يغلق فإذا به ينصدم بيسر فيتأفف بغضب ويدخل مخنوقًا فتطالعه هي بنظرات استحقار من تقززه منها وكأنها قمامة ثم هتفت في استهزاء :
_ أنا اللي المفروض اقرف منك أصلًا !!
حدجها في نظرة تتصنع عدم الفهم وهو يضيق عيناه وقال بنبرة باردة كالثلج :
_ افندم !
جزت على أسنانها وكورت قبضة يدها وودت لو صفعته بها مرة أخري ، ولكنها جاهدت على الظهور بمظهر الغير مكترثة له وتمتمت في غيرة واضحة كشفت محاولتها الفاشلة في عدم الإكتراث :
_ متفتكرش إنك لما تقعد تتلزق في بنت خالك أنا كدا هغير مثلًا وهتغيظني أكتر
جلجلت ضحكته المصعد وهتف ساخرًا في نظرة استحقار ونبرة فظة :
_ وأنا مهتم بغيرتك مثلًا يعني ، ما تولعي بجاز و*** أنا مالي بيكي !
صاحت به في انفعال :
_ احترم نفسك واتكلم معايا بأسلوب كويس واحمد ربك إني مقولتش لحد لسا وصابرة عليك
أثارته واشعلت النيران في عيناه وبرزت عروق رقبته بسبب طريقتها المستفزة وكأنها تخبره يوضوح أنها تقبض على ذراعه المصاب وإن ازعجها ستضغط عليه وتؤلمه بشدة ، فقبض على ذراعها وصاح في استياء عارم :
_ يابنت الناس اعقلي وبلاش تخليني ازعلك بجد مني .. أنا لغاية دلوقتي اللي حايشني عنك أخوكي وأبوكي وإلا كان ….
قطع جملته فتح باب الظصعد تلقائيًا عند وصوله وكان ينتظر المصعد فتاة من أصدقاء العروس وتصلبت بأرضها عند رؤيتها لوضعهم فترك يدها فورًا ورمق يسر شزرًا ثم اندفع للخارج وغادر ولحقت هي به !
***
داخل إحدى المستشفيات الخاصة ….
متسطحة على الفراش وعيناها معلقة في السقف وتنهمر منهم الدموع بصمت ، إلى متى ستظل تتخبط في الطرقات بمفردها .. من جهة ألمها على فراق أخيها ومن جهة أخرى قلبها الذي يتمزق وينزف دمًا حزنًا على حال والدتها ، ويزيد بؤسها ذلك الرجل الذي لا يكف عن ملاحقتها وابتزازها بصورها ، واليوم لولا ستر الله وحمايته لها لكانت تبكي دمًا الآن على ضياع كل ما تملك .
” هل اخطأت حين لم أخبره ؟ فهو مد لي يد العون وأنا أثق به ثقة عمياء لما رفضت عونه !؟ ” كانت تتساءل في قرارة نفسها بمرارة ، وعقلها يكاد ينفجر من كثرة الهموم التي يحملها بداخله وعدم توقفه عن التفكير للحظة واحدة ! ، سحبتا من فقاعة بؤسها صديقتها الحميمية التي فتحت الباب ودخلت مهرولة نحوها فترتمي شفق داخل أحضانها تبكي بعنف وحرقة ليزداد قلق الأخرى وتهتف في ارتيعاد جلي :
_ شفق إنتي كويسة حصل إيه ؟!
أجابتها من بين بكائها وصوتها المرتجف :
_ شوفته وحاول يعتدي عليا يا نهلة
ابعدتها عنها فورًا وطالعتها بذهول ورعب ثم همست في ترقب وقلق :
_ يعني مقربش ليكي
هزت رأسها بالنفي وغمغمت في أعين مدمعة ولكن بكائها توقف :
_ لا ، أنا روحت الكلية النهردا وبعد الكلية روحت ازور سيف الله يرحمه وطلع بيراقبني وحاول يعتدي عليا وبصعوبة قدرت اهرب منه وطلعت اجري ومخدتش بالي من الشارع من كتر خوفي فعربية خطبتني ووصاحب العربية جابني هنا
ترنحت صديقتها من العصبية واخذت تسير إيابًا وذهابًا وهي تقرض أظافرها من الغيظ ثم التفتت لها وهتفت منفعلة :
_ مش هينفع الوضع ده ياشفق الحيوان ده لازم حد يوقفه عند حده ، حسبي الله ونعم الوكيل في مروة .. بعدين إنتي مش كرم قالك متطلعيش وحدك وأنه هو اللي هيوديكي الكلية
عبس وجهها بشدة بمجرد ذكر صديقتها لكرم ، تخشي أن تقحمه معها في مشاكلها فيصيبه الأذي بسببها وبجانب أنها تخجل منه أيضًا بعد كل ما فعله لأجلها ولهم ، وتضف لكل هذا السبب الرئيسي في محاولاتها لتجنبه وهو أنها بدأت تنجذب له تلقائيًا وهي تريد أن تكسر قاعدة قلبها الذي لا يختار من العشق إلا أصعبه .
خرج صوتها خافتًا وعابسًا :
_ أهو كرم ده مشكلة كمان وحده يانهلة ، كفاية اللي عمله معانا وبصراحة مكسوفة منه ومش عايزة ادخله في مشاكلي أنا لولا الحيوان عمر اللي فضحني بالصور قدامه مكنتش هقوله أصلًا ولا هعرف حد بالموضوع ده
هذه الساذجة تجهل خطورة الأمر ، هل هي مستعدة لأن تخسر نفسها للأبد بسبب ذلك الوغد والحقير ، ترفض يد العون ومن ثم تبكي من الخوف عندما يصبها مكروه ، يالها من حمقاء ولابد من ارجاعها لصوابها فإن كانت لا تخشي على نفسها فهناك من يبالي بأمرها ! . صاحت بها نهلة في اندفاع وعصبية شديدة :
_ هو بنفسه اللي طلب يساعدك لو مكنش حابب مكنش هيهتم بيكي أصلًا ، عارفة إنه كتر خيره وأنه ووقف معاكم كتير من وقت وفاة سيف الله يرحمه بس مفهاش حاجة لو كمل جميله شوية لغاية ما تخلصي من الحيوان ده وبعدين ابقى انسيه تمامًا ، وإنتي محتاجة لحد يكون جمبك دلوقتي مينفعش تطلعي وتدخلي وحدك ، كفاية استهتار ياشفق
اجفلت نظرها أرضًا في أسى ، فهي تدرك جيدًا خطورة الأمر ولكنها أصبحت لا تبالي بشيء سوى والدتها وأن كانت تحاول حماية نفسها فالأجلها فقط حتى لا تتركها بمفردها ، ويجب عليها أن تدفع ثمن خطأها وثقتها في من لا يستحق الثقة . اشفقت عليها نهلة ولانت نظراتها لتلك المسكينة التي تحمل همومًا فوق طاقتها فاقتربت منها وجلست بجوارها ثم امسكت بكفها تملس عليه بلطف هاتفة في حنو :
_ ياشفق أنا خايفة عليكي والله ، خايفة الحيوان ده يأذيكي في مرة ، عشان كدا بقولك قولي لكرم وخليه يساعدك
_ أنا دلوقتي بفكر هقول إيه لماما لما تشوف راسى المربوطة بالشاش دي ورجل اللي بمشي عليها بالعكاز ولا كرم كمان لما يشوفني هيضايق جدا لما يعرف إني طلعت ومقولتلهوش لإنه منبه عليا أكتر من مرة
قررت نهلة أن تتخلي عن انفعالها قليلًا وتستخدم المرح لتخرجها من حزنها قليلًا ، فغمزت لها بنظرات دقيقة وهي تردف بخبث :
_ وإنتي خايفة على زعله أوي كدا ليه يعني !
رمقتها شفق بارتباك وتلعثمت فلم تعرف بماذا تجيبها لتخفي عليها حقيقة مشاعرها نحوه التي تنمو يومًا بعد يوم ، فأجابتها يإيجاز ونبرة صوت مرتجفة :
_ هااا .. لا عادي عشان أنا وعدته إني مش هطلع من غير ما اقوله فأكيد هيضايق
ضحكت على تعلثمها وأكملت ضغطها عليها بالكلام فلن تتركها حتى تعترف بإعجابها به :
_ أيوة برضوا أنا مفهمتش إنتي مضايقة ليه لمجرد إنك فكرتي إنه هيضايق
حاولت إيجاد وسيلة للهرب من حصار صديقتها لها فتصنعت السعال وأخذت تسعل بقوة وتقول بصوت ضعيف :
_ هاتيلي مايه يانهلة معلش
أطلقت الأخرى ضحكة متأججة لكشفها خدعتها الفاشلة التي تحاول خداعها بها ولكنها قررت أن تسير معها لآخر الطريق وترى إلى أين ستصل محاولاتها للفرار منها ! ، فنهضت ولتجلب لها الماء وبينما هي تمر من جانب النافذة لمحت رجل يقف أمام المستشفي بالأسفل لتتسمر بأرضها وتحدق بها بتشكيك من مظهره الغير مهندم أو الراقي وهتفت دون أن تبعد نظرها عن النافذة :
_ شفق قوليلي كدا هو الراجل ده شكله إيه ؟
استعجبت سؤالها ولكنها أجابت بهدوء :
_ طويل وأقرع واسمر ، ليه ؟!!!
اقتربت أكثر من النافذة وهي تدقق في ملامحه جيدًا بأعين نارية ومشتعلة وتكمل اسئلتها في جدية تامة :
_ متعور في وشه ؟
بدأ الخوف يتسلسل إلى نفس شفق التي حاولت الاعتدال في نومتها ولكنها لم تستطع بسبب قدمها وأجابت على صديقتها بارتيعاد :
_ آه .. هو قاعد تحت ولا إيه !؟
التفتت لها بجسدها وقالت باستياء ونبرة تسللها القلق مثلها فقد يلحق بهم الأذي هم الأثنين من هذا الوغد :
_ ايوة قاعد تحت .. مستنيكي تطلعي أنا مش قولتلك الراجل ده مش هيسيبك في حالك ولازم نشوف حل معاه ، طلعي تلفونك ياتكلمي كرم ياهكلمه أنا
هتفت مسرعة في ارتباك ورفض قاطع للجوء إليه ومحاولة إيجاد أي حل للهرب والخروج من هذه المستشفى سالمين هي وصديقتها :
_ لا لا عشان خاطري متتصليش بيه يانهلة .. بصي الشاب اللي خبطتني بعريبته أنا طلعت أعرفه من بدري وهو راح مشوار بسرعة وقالي جاي تاني عشان يطمن عليا ويوصلني البيت فخلينا قاعدين لغاية ما ياجي ويوصلنا البيت
طفح كيلها ولم تعد تحتمل سذاجتها ، ولا تفهم أهذا بسبب إحراجها منه كما تقول أم أنها تخشي أن يصيبه مكروه أم تحاول الابتعاد عنه بسبب إعجابها به ، ولكن ما تفهمه أنها ترتكب خطأ فادح في حق نفسها عندما ترفض الاحتماء به وتركه يساعدها ، اندفعت نحوها وجذبت هاتفها من يدها قائلة في عزم وإصرار :
_ طالما مش هتكلميه يبقى أنا هكلمه !!
هتفت شفق برجاء متراجعة عن قرارها ورفضها القاطع لمحادثته :
_ خلاص أنا هكلمه بس بشرط لما ياجي مش هتجبيله سيرة عن اللي حصل وأنا هقوله إني روحت الكلية وأنا وجاية في عربية خبطتني بس ومش هقوله اكتر من كدا ، عشان أنا مش حابة حد يدخل في مشاكل بسببي
ذعنت نهلة لها فعلى الأقل ستطمئن عليها حين يأتي ويرافقهم هو للمنزل وستتأكد بأن ذلك المترصد لها بالأسفل لن يتمكن من أذيتهم ، أما هي فأخذت تفتش عن رقمه في قائمة الأسماء وحين وصلت له إخءت تحدق به بتردد تخجل ولا تريد محادثته ولكن ما باليد حيلة فإما هي أو صديقتها التي بالتأكيد ستفشي له بكل شيء إن حدثته ، حسمت أمرها وضغطت على اتصال ثم وضعت الهاتف على اذنها تنتظر إجابته حتى أجاب بعد وقت محاولًا الابتعاد عن صوت الموسيقي والأزعاج الذي حوله :
_ أيوة ياشفق
ألقت نظرة مترددة على صديقتها حين أجاب ثم عادت تتطلع أمامها وقررت أن تدخل في الموضوع فورًا دون مقدمات حتى لا تتلعثم وتخطىء في شيء :
_ كرم تقدر تاجيلي دلوقتي ؟ .. أنا في المستشفى
ابتعد عن حشد المعازيم تمامًا حتى وقف أمام المصعد الكهربائي مغمغمًا في هلع عندما ظن بأن والدتها قد اصابها مكروه :
_ مستشفى !! ، مامتك تعبت ولا إيه ؟!
همست خفوت وتوتر بسيط امتزج بالحياء :
_ لا أنا روحت الكلية وعربية خبطتني أنا وراجعة بس الحمدلله أنا كويسة ، وكنت محتجاك تاجيلي بس عشان أنا وحدي ومعيش حد غير صحبتي
ضغط على المصعد الكهربائي حتي يستقل به ويصله إلى الطابق الأرضي هاتفًا على عجلة واهتمام :
_ طيب أنا جايلك أهو دلوقتي علطول
***
دقائق من الانتظار كل منهم الخوف والرعب ينهشهم نهش خشية من إن يتسلل من بابا المستشفى خفية ويأتي لهم فيأذيهم ، كانت نهلة تقف على النافذة تتابعه بتركيز دون أن تغفل عنه لحظة وشفق على فراشها تقرض في أظافرها بقلق كدليل على فرط توترها واضطرابها الذي سرعان ما انجلي حين التفتت لها نهلة وقالت مبتسمة في سعادة :
_ كرم جه
أصدرت هي تنهيدة حارة بعد أن سكنت نفسها واطمأنت ، فهي لا تنكر شعورها بالراحة حين يكون معها ، ترى فيه الأمان التي افتقدته منذ وفاة أخيها ، وتراه هو في كل تصرفاته باستنثاء خجله الفريد بالطبع .. طرق الباب نفضها نفضًا واعتدلت سريعًا في نومتها ورفعت الغطاء إلي أعلى صدرها أما نهلة فاتجهت هي لتفتح له التي استقبلته بابتسامة بشوشة ليبادلها هو إياها مع محاولاته لتجنب النظر إليها ، دخل وجذب مقعد ثم جلس أمام فراشها وهتف باكتراث لأمرها :
_ إنتي كويسة ؟
اكتفت بإماءة رأسها له وتتحاشي النظر في وجهه استحياءًا منه مُهيأ نفسها لاستماع توبيخه الرقيق مثله لها ، وبالفعل جاء صوته به شيء من الانزعاج :
_ ليه طلعتي وحدك ؟! ، احنا مش متفقين إنك متطلعيش وحدك لغاية ما اوصل للحيوان ده
خرجه همسها مرتبكًا :
_ محبتش اتعبك معايا والله وأنا روحت وكنت هرجع البيت زي الفل لولا العربية االي خبطتني عند الكلية دي
نظر لصديقتها التي تتابعهم غي نظرات متربكة مثلها ومترقبة لما سينتهي به مطاف هذا الحديث ، ليعود بنظره لها ويهتف بصوت رجولي خشن :
_ امال ليه لما سألت تحت عند الاستقبال الحادث حصل فين قالولي عند المقابر ، ياريت تقوليلي ياشفق حصل إيه بظبط ؟
نقلت نظرها بينه وبين صديقتها التي تشير لها بعيناها أن تخبره ولكنها أبت وصممت على موقفها حيث هتفت مخترعة كذبة تحاول الهرب بها منه فما كان كذبها عليه إلا أنه زاده تأكيد بأن حصل شيء وهي لا تريد أخباره ، وربما يكون لعدم ثقتها فيه أو أنها لا تريد تدخله أكثر من ذلك ، هذا ما كان يحدث به نفسه .
هتفت بتلعثم واضح في اضطراب كلماتها :
_ مقابر !! ، لا يمكن هما غلطوا أنا مروحتش أصلًا غير الكلية !
هب واقفًا وقال بصلابة وضيق من محاولاتها الفاشلة للكذب ، هل تظنه غبي وأحمق لكي يصدق كل هذا الحمق !؟ ، ولكنه لا يتمكن من إجبارها على شيء لا تريده وإن كانت لا ترغب أن يساعدها فلها القرار ، هو حاول اقصى جهده لكي يحميها ولكنها ترفض وليس له الحق في إعطائها اوامر :
_ طيب ياشفق لما تكوني محتجاني اتصلي بيا وأنا مش هتأخر عليكي ، يلا عشان اوصلك إنت وصحبتك للبيت أمك قلقت عليكي وخلت جيرانكم اللي قاعدة معاها تكلمني
أطرقت رأسها في خزي وخنق عندما لمست نبرة الغصب والانزعاج من كذبها عليه ، لا تعرف بما فكر ولكن حتمًا انزعج منها بشدة ، اسرعت نهلة نحوها لتساعدها في الوقوف عندما انصرف هو من الغرفة لينتظرهم بالخارج ، وتمتمت لها باغتياظ من غبائها :
_ غبية إنتي مش شيفاني بشاورلك عشان تقوليله ، عنده حق يضايق الله اعلم فكر ازاي ، انا الصراحة لو مكانه هقول إنك مش واثقة فيا
رمقت صديقتها بنظرة ضعيفة وعاجزة عندما تفوهت بآخر كلماتها وداهمتها مشاعر الندم لكذبها عليه ولكنها تصنعت التجاهل واستندت عليها حتى لملموا أشيائهم وغادروا معه ، واستقل هو بالمقعد الأمامي في السيارة وهما في الخلف ثم انطلق بالسيارة يشق بها الطرقات دون أن تنحرف عيناه حتى بالخطأ في المرآة العاكسة عليهم !! .
***
تتابع الجميع من حولها أهلها وأقاربها في كامل سعادتهم حتى أبيها الذي جاء صباح اليوم ليحضر خطبة ابنته ، كان منذ قليل يتحدث مع كرم قبل رحيله ويضحك بقوة ! ، وفرحة أمها وأبيها وأخيها تستطيع الوصول لها وتشعر بها ببساطة .. ولما لا يفرحون ! فلقد اعطوها لرجل جميعهم على ثقة تامة به وربما هي أيضًا تثق به بأنه لن يكون كخطيبها ، ولكن مع الأسف ستكون الضربة القاضية منها هي وليس هو ، هي ليس لديها شك في إخلاصه لها طوال حياتهم ، سيكرث حياته لأجلها ولأجل أولاده ، بينما هي ستكون نموذج للخداع وعدم الثقة والكذب .. وربما هذا هو الأمر الذي سيجعلها تفكر في أمر الارتباط به رسميًا فمازال لديها الفرصة قبل الزواج إما أن تقبل أن تكون الزوجة الخائنة أو تنسحب بهدوء ! .
انتفضت بخفة على أثر صوته الذي جذبها من محيط أفكارها العميقة ، كانوا يجلسون على أريكة فاخرة متوسطة الحجم والمسافة بينهم تتسع لشخص آخر أن يجلس في المنتصف .. التفتت له برأسها تسمعه وهو يهتف في خفوت بابتسامة صافية :
_ لو كنت أعرف إنك هتضايقي من الجو الهادئ كدا كنت قسمت الخطوبة وخليت الستات والرجالة وحدهم وكنتوا شغلتوا اغاني وفرحتوا مع بعضكم
هزت رأسها نافية فورًا وغمغمت وهي تبادله نفس الابتسامة :
_ لا لا خالص مش مضايقة بالعكس أنا بحب الهدوء ومش بحب الأزعاج بتاع الأفراح .. بس تقسم ليه الرجالة والستات ؟!!
أخذ شهيقًا قوي وقال في نبرة رجولية صلبة وجادة :
_ مش بحب اشوف أهل بيتي بيرقصوا قدام رجالة .. لإن اللي بيحصل في الأفراح دلوقتي كله غلط في غلط ، وأنا أحب إننا نبدأ حياتنا صح عشان ربنا يباركلنا فيها .. صح ولا لا ؟
” صح !!! ” وماذا عن زوجة ستدخل منزله وتنام بجانبه على فراشه وهي تفكر برجل غيره ، هل ستكون حياتهم بالشكل الصحيح الذي يريده !! .. هل ستستمر علاقتهم كثيرًا ؟!! .. غامت عيناها بالعبارات وخشت أن يراهم فلم تتمكن من الرد عليه وهبت واقفة واسرعت نحو الحمام تختبئ فيه من كل شيء فلاحظت إحدى صديقاتها المقربة انسحابها من جانبه فجأة واسرعت نحوها أما هو فوقف مستعجبًا وأشار لشقيقته التي اسرعت نحوه وذهبت معه لها .
هتفت صديقتها قبل أن تدخلها :
_ أنا هدخل وراها
ثم فتحت الباب ودخلت وأغلقت الباب خلفها فوجدتها تقف أمام المرآة وعيناها ممتلئة بالدموع لتهمس بانفعال وصوت منخفض حتى لا يصل لمسماعهم :
_ في إيه ياملاذ ، إيه عاوزة تبوظي خطوبتك !!
أجابتها بهمس ودموعها على وشك السقوط :
_ ايوة أنا مش هقدر أكمل معاه ، أنا مستحيل أقدر أكون ليه الزوجة اللي عايزها .. مش هقدر اخدعه أنا هبقى كدا بخونه
لانت نظرات صديقتها لها وغمغمت في لطف وحنو :
_ طيب متعيطيش عشان مكياجك .. ومتبقيش غبية دي فرصة جاتلك ومينفعش تضيعيها ، طلعي أحمد القذر ده من دماغك وقلبك وادي لنفسك فرصة يمكن تحبي خطيبك .. امسحي يلا دموعك اللي في عينك دي واطلعي عشان هو واخته برا ومستنينك ولو اتأخرتي الباقي هياجيوا كمان لما يلاحظو غيابك ، يلا ياحبيبتي ابوس ايدك
ربما تكون فرصة ارسلها الله لها بالفعل ، ولا يجب عليها تضيّعَها بهذه السهولة ، ستحاول أن تستغل هذه الفرصة وإن لم تستطع ستنهي هذه المهزلة الذي بدأتها بنفسها فالتلاعب بالمشاعر ليس من شيمها ! ، جففت دموعها بحذر شديد حتى لا تفسد المكياج ثم خرجت لهم فوجدت رفيف تهتف مسرعة في قلق :
_ مالك ياملاذ إنتي كويسة ؟!
اخترعت كذبة محترفة عليها مغمغمة في خفوت :
_ آه كويسة ، أنا بس ماخدة دور برد في معدتي وعشان الجود برد فمستحملتش
ثم نظرت للذي كان يبدو على وجهه القلق الممتزج بنظرات الشك في أمرها ، فأرسلت له ابتسامة عذبة ثم عادت بصحبة رفيف وصديقتها إلى مكانها وهو لحق بهم ، ثم رأته يشير لشقيقته بأن تأتي له وهمس لها في اذنها بشيء لم تسمعه نتيجة لصوت الموسيقى المرتفع قليلًا ، ورحلت ” رفيف ” وعادت بعد دقائق وهي تحمل وشاحًا نسائيًا رائعًا يبدو باهظ الثمن ولفته حول كتفيها هاتفة في رقة :
_ حطيها عليكي عشان البرد
لفتها جيدًا حول كتفيها ثم حوّلت نظرها له فتلقت منه ابتسامة لطيفة ، وأدركت أن همسه في أذنها منذ قليل كان يطلب منها أن تأتي لها بالوشاح حتى لا تصاب بالبرد أكثر وهما في الهواء الطلق على قمة فندق ، فأشاحت بنظرها عنه فورًا وهمست في نفسها بمرارة ” لا تكون لطيفًا معي هكذا ارجوك ، فلطفك سيجعلني انهي هذه المهزلة دون تردد للحظة واحدة في إني أضعت فرصة صائبة ! ” .
***
مع صباح يوم جديد وداخل مقر شركة العمايري …..
خرجت يسر من مكتب زين بعد أنتهت من حديث العمل معه وكانت في طريقها نحو مكتبها ولكنها توقفت حين لمحت ” رحمة ” تقف مع السكرتيرة الخاصة لحسن وتحاول اقناعها بأن تقبل بدخولها له ، والسكرتيرة تخبرها بوضوح أنه لا يريد رؤيتها وإن تركتها تدخل قد تتعرض للعقاب والتوبيخ القاسي منه فلاحت الابتسامة الشيطانية على ثغرها وتحركت نحوهم ثم وقفت بجوارهم ووجهت حديثها إلى السكرتيرة :
_ في إيه ياميرنا ؟!
أجابتها الفتاة بنفاذ صبر وخنق :
_ عاوزة تدخل لحسن بيه وأنا لما قولتله قالي متدخليش حد ، وهي مصممة تدخله
اعتدلت بجسدها ناحية الواقفة التي ترمقها شزرً فهي لم تنساها منذ آخر لقاء لهم حين هددتها بعدم الاقتراب ، فقابلت يسر حقدها ببرود وسرعان ماتحول لشراسة وتشدقت في نظرة مريبة ونبرة صوت اخافتها بالفعل :
_ ما قالك مش عايز يشوفك ياقطة ولا هو غصب
_ وإنتي مالك أصلًا !! ، أنا مش هتحرك من هنا غير لما ادخل واشوفه ولو مش هتدخلوني بالذوق يبقى هدخل بالعافية
هيجت ثورتها واشعلتها في داخلها ، تلك الشمطاء تقف أمامها وتتحداها وهي لا تدري ما قد تلحقه بها إن أثارت جنونها أكثر ، فجذبتها من ذراعها بعنف صائحة بها بانفعال :
_ طيب امشي من هنا بكرامتك بدل ما اطلعك من غيرها ، ورجلك متعتبش الشركة هنا تاني وإلا إنتي حرة
أجابت السكرتيرة على رنين الهاتف الخاص بتواصلها مع حسن وكانت تومىء له بالإيجاب وتهتف ” حاضر ” ثم أعطت الهاتف لرحمة لتحادثه التي اجابت بتلهف محاول التماس فرصة لها ولكنها وجدته يصيح بها مستشيطًا غيظًا :
_ امشي يارحمة مش عايز اشوف وشك حتى ، لو ممشتيش هخلي الأمن يطردك برا
لم يمهلها لحظة واحدة لتجيب عليه حيث اغلق الأتصال فورًا فانزلت هي الهاتف من على اذنها ولململت أشلاء قلبها المبعثرة بيأس واستدارت ورحلت بصمت لتبتسم يسر بتشفي وهمت هي الأخرى لتسدير وتذهب لمكتبها ولكن اوقفها كلمات السكرتيرة :
_ أنسة يسر حسن بيه عايزك
لم تلتفت لها حتى وهتفت في عدم اكتراث مزيف وغرور :
_ قوليله مش فاضية
ثم اتجهت صوب مكتبها وفتحت الباب وجلست على مقعدها الهزاز تنتظر اقتحامه عليها المكتب وتبتسم بمكر ، فلقد قصدت أن تتجاهله حتى تثير جنونه أكثر ويأتي هو بنفسه فيتلقى نصيبه من جنونها أيضًا ، وستكون هذه آخر محاولة له لتغير طريقته معها وأن اخطأ معها بشيء بسيط تقسم بأنها ستسحقه بما لديها من صور وتسجيلات له .
كما توقعت تمامًا فتح الباب على مصراعيه وأغلقه بعنف ثم اندفع نحوها يفرغ بها شحنة غضبه التي لم يجد شيء سواها ليفرغها بها :
_ أول وآخر تحذير ليكي يا يسر ملكيش دعوة برحمة نهائي فاهمة ولا لا
استقامت وقد تأججت نيران الغيرة بداخلها ، هل يفضل تلك المخادعة والساقطة ويدافع عنها رغم كل ما فعلته له .. ادركت الآن أنه اغبي مما كانت تتوقعه ، فهتفت في استنكار ونظرة مشتعلة :
_ ولما إنت محروق عليها أوي كدا ليه مخلتهاش تدخلك ولا طلعت وقولتلي الكلمتين دول قدامها ولا كنت خايف تضعف قدامها !! ، لما تفضل تتلزق فيك وتقولك أنا آسفة ياحسن وإنت زي الغبي بتضعفلها ، عارف ليه بتضعف قدامها عشان إنت معندكش كرامة وحقير زيها وإنتوا الاتنين الو**** بتجري في دمكم
رأت عيناه تلتهب كجمرة نيران وبرزت عروق رقبته وانفاسه التي تخرج من انفه كانت تستطيع الشعور بحرارتها ، ولا تنكر خوفها منه حيث غمغمت في اضطراب تحاول اخفائه :
_ اطلع برا ياحسن !
تحرك نحوها ببطء وحاربت هي عقلها الذي يرسل لها الإشارات بالتقهقر للخلف وبقيت ثابتة بأرضها حتى وقف أمامها مباشرة وجذبها من خصرها إليه هامسًا أمام شفتيها مباشرة بنبرة صوت مرعبة :
_ إيه آخر حاجة تتوقعيها مني يايسر ؟ .. إني اقربلك مش كدا ودي فعلًا آخر حاجة ممكن أفكر فيها عشان أنا مستنضفش أصلًا أقرب منك ، بس ممكن اعصر على نفسي لمونة واوريكي اقذر حاجة عندي ومش هيهمني إنتي مين ، تحبي اوريهالك ولا لا !!
انتابتها الرعشة من اقترابه وانفاسها التي تلفح صفحة وجهها ولوهلة أحست نفسها ستضعف له ، فعشقها له لا يمكن لعقله الغبي ولقلبه الذي لم يذق طعم العشق الحقيقي أن يتخيله ، ولكن ضربت صافرات الإنذار في عقلها واعادتها لرشدها وبكل ما اوتيت لها من قوة دفعته بشراسة بعيدًا عنها صارخة به وهي تخوض حرب عنيفة مع دموعها التي تود السقوط :
_قولتلك برا ياحسن !!
رمقها بنظرات وضيعة وهتف باستهزاء قبل أن يستدر ويرحل :
_ اعقلي وحطي عقلك في راسك عشان إنتي مش قدي
جلست على المقعد بعد رحيله وانفجرت باكية بقوة ، لعنت نفسها الحمقاء ألف مرة فكيف تسمح له باختراق مسافتها وكيف تنسحر من مجرد لمسه منه . فكم تتمني أن تتحول مشاعرها لنقم وبغيضة عليه ، ولكنها لا تستطيع ولا تتمكن من الوقوف صامتة وتحارب لكي تظفر به في النهاية فلقد عانت لسنوات من عشقه وأخذت العهود والمواثيق علي نفسها بأنها لن تجعله يكون لفتاة غيرها ، وأنها ستحارب لأخر لحظة ولن تيأس حتى تحصل على ما تريد وهو قلبه ! .
***
انتهت من تحضير كوب القهوة ، فهي لديها بعض المعلومات من أخيها عنه وحول إدمانه للقهوة .
وقد أتى اليوم كما أعتاد أن يتردد عليهم يوميًا منذ وفاة أخيها الذي أتم بالأمس ثلاث أسابيع ، كان سيرحل بعد أن اطمئن على والدتها ولكنها طلبت منه التريث قليلًا لكي تتحدث معه ، فمنذ آخر مرة تقابلًا في المستشفى منذ يومين يحدثها قلبها بأنه لا يزال يحمل الضيق في صدره خصوصًا بعدما ارسل لها حارس شخصي يرافقها إينما ذهبت !! ، فعدلت من وضعية حجابها وخرجت له فوجدته شارد في صورة أخيها المعلقة على الحائط أمامه ، فنتحنحت بخفوت ليلتفت لها فورًا ويهمس معتذرًا بابتسامة تكاد لا ترى :
_ آسف سرحت شوية
لم تعلق وكانت اتبسامتها كافية وهي تضع فنجان القهوة على المنضدة أمامه فتسمع صوته الخافت يقول بإحراجه المألوف :
_ شكرًا
توجهت وجلست على الأريكة المقابلة له ثم التفتت برأسها للخلف ورفعت نظرها لأعلى تتطلع لصورة أخيها ، أما هو فرفع فنجان القهوة لشفتيه وارتشف منه رشفة واحدة ثم انزله حين وجدها تهتف وهي مازالت معلقة نظرها على الحائط :
_ بفكر اشيلها من هنا
ضيق عيناه وقال بحيرة :
_ ليه ؟!!
همهمت في صوت يغالبه البكاء ونبرة شجينة :
_ ماما زي ما إنت عارف مش بتتحرك كتير بسبب تعبها ولما بتكون كويسة بخليها تطلع تقعد معايا شوية هنا واشغلها التلفزيون عشان تفك عن نفسها ، وأول ما بتشوفها بتنهار في العياط وبتتعب جدًا ، مع إن أنا لما بكون قاعدة هنا في الصالة وحدي بحس صورته بتونسني وبفضل احكي معاه وأحيانًا كتير بنام هنا ففكرت اشيلها واوديها اوضتي
يشعر بمدي انهيارها الداخلي وقلبها الذي يمزقه الحزن والشوق تمزيقٌا ، ولكن للأسف فحاله ليس أفضل منها .. ولا يستطيع حتى إبذال أقل جهد في تخفيف عنها فهذا الألم لم تخففه حتى ألف كلمة ، ليجفل نظره أرضًا ويردد بصوت مسموع لها ” ربنا يرحمه ” فتهمس هي بألم ” آمين ” ، ثم وضعت نظرها عليه وهتفت في تساءل حقيقي وفضول لمعرفة إجابته :
_ إنت ليه خليت واحد يحرسني !؟
_ عشان ده الافضل ليكي بعد اللي حصل
كلماته تشير لمعنى واحد فقط وهو أنه عرف بالحقيقة كاملة التي اخفتها عنه ، ولكن كيف عرف !!؟ :
_ إنت عرفت إزاي ؟!!
بعد أن حاولت الكذب عليه وهو كان يعرف بأمر اخفائها عليه شيء ، فتواصل مع صديقتها التي كانت معها وقصت له كل شيء حتى السبب الذي جعلها تخفي عنه الحقيقة وطلبت منه ألا يخبرها بأنها هي التي اخبرته حتى لا تنزعج منها بشدة .
اتاها صوته الغليظ والجاد وهو يقول بشيء من الرفق واللين رغم غلظة صوته :
_ عرفت وخلاص ، المفروض إنك كنتي تقوليلي ، لإن طالما عمل كدا مرة يبقى هيحاول يعمل كدا ألف مرة .. وأنا وإنتي متفقين إنك هتقوليلي أي حاجة تحصل في الموضوع ده لإني بحاول الاقي أي حاجة توصلني ليه ، فمكنش ينفع تخبي عليا لمصلحتك ياشفق .. إنتي امانة واخوكي امني عليكي فلو جرتلك أي حاجة هبقى خنت الأمانة ومش هعرف بأي وش بعدين هقابله ولا اروح ازوره في قبره
من أين اتيت لي ياليتك لم تكن صديقه !! ، فأنا احاول الفرار مش شبكاك التي تنصبها لي دون قصد كلما رأيتك ، وإنت لا تكف عن ملاحقتي ولسوء الحظ إنك بالفعل اوشكت على تصويب الهدف .. فارجوك توقف أنا لا أريد إرهاق قلبي بتجربة عشق جديدة ستكون أبشع من السابقة ، وستكمن بشاعتها في استحالة الوصول إليك وسيظل عشقك ووفائك لزوجتك نقطة فاصلة بيني وبينك .
اسعفت الكلمات بصعوبة من ارتجافة قلبها الذي يواجه صراعًا عنيفًا مع عقلها وتمتمت مجفلة نظرها أرضًا في حزن لا يفهم سببه الحقيقي سواها :
_ أنا مقدرة خوفك وقلقك علينا ياكرم وبذات أنا ، بس أنا بجد مش عاوزة ادخلك في مشاكلي اكتر من كدا ولو حصلتلك حاجة بسببي مش هسامح نفسي إني دخلتك في مشكلتي
وضع فنجان القوة على سطح المنضدة وهب واقفًا حتى لا يأخذ أكثر من اللازم في الحديث معها وأيضًا بقائه في منزلهم أكثر من ربع ساعة لا يصح ! ، هتف باسمًا ببساطة :
_ لا متقلقيش عليا ، المهم إنتي تعملي زي ما قولتلك وأقل حاجة تحصل تتصلي بيا وتقوليلي .. وشكرًا على القهوة
لا فائدة فلن يرحل عنها إلا حين يتأكد من أنها سقطت في وحله !! ، استقامت هي الاخرى ورافقته إلى الباب ثم تأففت بعدم حيلة من أمرها وذهبت لتطمئن على والدتها وترى إن كانت تحتاج شيء أو لا !! …..
***
منذ يومين وهو يفكر في حل لتلك المعضلة التي وقع بها فتلك ” اليسر ” لن تكف عن أفعالها التي أصبحت لا تطاق ، وقد طفح كيله منها ولابد أن يجد الحل الذي سيسكتها للأبد ، يريدها أن تبتعد عنه ولا يعلم كيف يفعلها .. ولكن ماذا عن استخدام مبتغاها سبيلًا للوصول لمبتغاه هو ، ماذا لو حقق لها ما تتمناه وتوده أكثر من أي شيء في الحياة فقط لتحقيق أهدافه في التخلص منها للأبد .. أجل هذا هو أفضل حل ليتمكن من فعل بها ما يشاء دون أن يضع في الحسبان أي شيء !! .
مجتمع مع عمه على طاولة واحدة الذي جاء لزيارتهم والاطمئنان على والدتهم التي تعبت مؤخرًا قليلًا وكانت يسر برفقته .. يتبادلوا النظرات النارية بين بعض وهي تقسم له في نفسها أن اليوم ستخبرهم بكل شيء حتى تنتقم على ما فعله بها منذ يومين ، وانتظرت حتى انضمت لهم زوجة عمها والقت نظرة عليه أخيرة مليئة بالحقد والغل قبل أن تنظر لوالدها وتقول في شجاعة وأعين مشتعلة بنار الانتقام لمشاعرها التي يتلاعب بها هذا الفاسق :
_ بابا أنا عايز اقولك حاجة ، حسن بــــ……..
التقط الجملة من بين شفتيها ليكملها هو كما خطط لها ويشكلها كما يريد ، ويهتف في نظرة ثابتة وثاقبة مع ابتسامة متصنعة اتقنها بمهارة هي وقسمات وجهه الذي لونها بشكل مناسب لما سيقوله :
_ أنا طالب إيد يسر منك ياعمي
تتخيل !! .. حتمًا هذا ينبع من خيالها المريض به ، هل طلبها للزواج للتو ؟! .. من سابع المستحيلات أن تخرج منه هذه الكلمات أو أنه يفكر في الزواج منها بكامل ارادته ، أتحلم أم ماذا !!؟ ، ليقرصها أحد لتتأكد بأنها في الواقع وليس حلمًا ! .
لم تكن هي وحدها المصدومة فكذلك أمه وأبيها الذي لجمت الدهشة السنتهم ، فساد الصمت بينهم للحظات وهم يحدقون به فاغرين فمهم بذهول ، حتى اخترق هو فقاعة الصمت المريب بينهم وغمغم متصنعًا الأسف والضيق :
_ أنا آسف ياعمي .. عارف إن كان لازم افاتحك إنت وعلاء الأول في الموضوع ده ، بس أنا محبتش اخد الخطوة دي غير وأنا متأكد من رأى يسر في الأول هي مقالتش موافقة بس ردها شجعني إني افاتحك
كانت هدى تتطلع لابنها بصدمة فهي تعرف أنه لا يحب ابنة عمه مطلقًا من أين جاء بعرض الزواج المفاجئ هذا دون أن يفاتحها هي أو من أشقائه في الأمر ، أما طاهر فاستجمع نفسه وعاد لطبيعته هاتفًا بجدية وريبة :
_ وإنت فجأة كدا طلبت في دماغك الجواز ؟!
أجابه نافيًا غي نبرة خشنة وصلبة :
_ لا طبعًا أنا ليا فترة بفكر في الموضوع ومخدتش خطوة غير لما اتأكدت إني هكون قدها ، وأنا عارف إني مش هلاقي أفضل من يسر زوجة ليا بعد إذن حضرتك أكيد
لازالت يسر على وضعها نظرها معلق عليه ، لا تستوعب ما يدخل من أذنها لعقلها الذي يرفض تصديق كل هذا الهراء ، ولا ترفع نظرها عنه فقط تحملق به كالصنم حين يضعوه أمام الشخص فتكون عيناه مباشرة على ما أمامه ، حتى أنها لم تسمع اسمها الذي نطق به أبيها إلا حين هزها بخفة في ذراعها لتنتفض وتنظر له هاتفة في تلعثم وتوتر غير واعية لما تقوله :
_ موافقة .. أقصد أيـ..وة حسـ..ن فاتحني من يومين في الموضوع وأنا قولتله يكلمك إنت وعلاء الأول ومدتهوش رد
نقل نظره بينهم ثم سألها في جدية :
_ يعني هو ده الموضوع اللي كنتي عاوزة تقوليلي عليه
قالت وقد زاد تلعثمها وارتباكها فقد كانت الكلمات تأتي لشفتيها وتخرج مبعثرة :
_ آااه .. قصدي لا حاجة تاني بس خلاص هبقى اقولك بعدين
حاول منع ابتسامته الماكرة من الانطلاق حيث اخفي وجهه وهو يحك ذقنه شبه النامية ، بينما هي فطلبت منهم الأذن واستقامت مسرعة نحو المطبخ لتشرب بعض الماء قبل أن تسقط مغشية عليها ، فيهتف طاهر مبتسمًا بحب وحنو :
_ وهو أنا هلاقي لبنتي مين احسن منك ، ده إنت ابن الغالي ياحسن .. بس اصبر كام يوم وهديك الرد النهائي بإذن الله
_ براحتك ياعمي أنا مش مستعجل
ثم انزل هاتفه تحت الطاولة وقام بتشغيل نغمة رنينه وهب واقفًا وهو يستأذن بعد أن وضع الهاتف على أذنه متصنعًا أنه يحادث أحد ، وانتظر حتى اندمج هو وأمه في الحديث وتسلل دون أن يشعروا به إلى المطبخ حيث هي وتحرك على اطراف أصابعه من حتى وقف خلفها مباشرة فالتفت هي بعفوية غير متوقعة وجوده فانتفضت واقفة وفتحت فمها على وشك إصدار صرخة من أثر فزعها ولكنه اسرع وكتم على فمها مشيرًا بسبابته على فمه بمعنى ” لا تصدري أي صوت ” فهدأت ضربات قلبها سريعًا وارتخى جسدها المنتصب بسبب الخضة لتجده يهمس مبتسمًا بلؤم ونظرة تحمل في طياتها الوعيد والانتقام :
_ مش كنتي بتعملي ده كله عشان رفضتك وعشان هتموتي وتتجوزيني واديني هتجوزك أهو ، ويوسفني إني أقولك إن إنتي اللي هتطلبي الطلاق مني بعد الجواز وهوريكي العذاب الوان وأشكال
تكره اقترابه منها الذي يضعف قوتها ويجعلها مسلوبة الإرادة ، هذا الحمق يعتقد بأنه انتصر عليها وهو لا يعلم أن الانتقام لكرامتها التي بعثرها لما يبدأ بعد ! ، يعتقد أن الزواج ستكون نتيجته في صالحه وسيخرج من حربه معها بانتصاره مفتخرًا ولكنه للأسف لا يدري أنه سيخرج بهزيمة نكراء وستسلبه هي كل شيء ، ففي كل مرة يسهين بها يندم .. والآن هي في أقصى درجات سعادتها فلقد اعطاها فرصة على طبق من ذهب ولن ترفضها ، و ستحقق كل أهدافها بفضل غبائه !! .
***
كانت تتحدث إليه في عنف وعصبية شديدة نتيجة لنقضه لاتفاقهم :
_ يعني إيه لغاية دلوقتي معملتش اللي متفقين عليه !! ، امال أنا مدياك فلوس ليه !
أجابها ضاحكًا بسخرية وهو يشاطرها انفعالها :
_ عشان تاخدي الواد اللي عينك عليه ياقطة واهو معاكي .. ثم إن إنتي اللي ضحكتي عليا ومقولتيش إن البت دي تبع كرم العمايري ومكان ما تروح بيكون معاها ولولا إني شوفته في المستشفى ولحقت نفسي قبل ما يشوفني كان زماني دلوقتي مع الأموات
_ وإيه يعني كرم إنت مالك بيه وتعرفه منين ؟!
غمغم في شراسة :
_ اعرفه عز المعرفة وهو لو عتر فيا هو واخواته مش هيخلوني عايش يوم زيادة
قطبت حاجبيها وهتفت بحيرة من أمره وسرعان ما تحولت لصدمة :
_ ليه إنت عملتلهم إيه ، لتكون إنت اللي … يانهار ابوك أسود !!
_ بقولك إيه يابت إنتي اطلعي من نفوخي أنا عملتلك اللي إنتي عاوزه والبت دي تبعي أنا وأنا اللي افكر هعمل فيها إيه وامتى وإزاي ، ولو كلمتيني تاني مش هيحصلك طيب وعارفة لو جبتي سيرة لكرم عليا مش هتردد لحظة في إني اخلي نهايتك زي نهايتها وإنتي فهماني أنا قصدي على مين !
اغلقت الخط فورًا في وجهه وهي تنتفض من الخوف وقد فضلت الابتعاد عن هذا الرجل المريب تمامًا ، فهو الآن ليس في حاجة لتوصية فيبدو أنه ينوي بتلك ” الشفق ” الحمقاء الشر وستشفي هي غليلها منها بلا ادني تعب وسيقوم هو بكل شيء !! …
***
..شهر !! .. تركض الأيام كسيارات سباق وتمر حتى دون أن يشعروا بها ، والمواعيد تقترب ومنهم من يخشي من هذه السرعة التي تمر بها الأيام ويتوسل الأيام أن تتمهل قليلًا خشية من أن يجد نفسه أمام المحتوم والذي لا مفر منه ، ومنهم من يتوسلها لتسرع أكثر فلقد طال انتظاره وهو يتحرق شوقًا لينل ما تطوق نفسه له من شهر أو سنوات ، والبعض الآخر تمر عليه الأيام كسابقيها لا تختلف كثيرًا ، وروتينها لم يتغير فقط يستيقظ وينام على نفس أحواله المملة والتي تقتله بالبطيء !!! .
فقد واجه حسن الاستنكار والاستهجان من جميع أخوته بعدما عرفوا برغبته في الزواج من ابنة عمه ، ليس حقدًا ونقمًا عليها ولكن سخرية من أنه فكر بالزواج ومن أكثر امرأة لا يطيقها !! ، وحاولت هدى محاولات فاشلة أن تجعله يتراجع ولكن بلا فائدة وقد حَصَلَ هو على الموافقة من عمه وتجهزوا جميعًا لحفل الزفاف ، وكان بينهم من يحسب الأيام بالساعات والدقائق من فرط تشوقه لقدوم هذا اليوم وبالطبع هي غنية من التعريف ، تتجهز لزواجها وسعيدة كأنها عروس حظيت بالزواج من الرجل الذي سقط في عشقها من الوهلة الأولى وليس مجرد زواج سيكون تحقيق لرغباته الشيطانية والانتقامية منها وحرب ستخوضها هي معه لتنتصر في النهاية وترفع شعارها على قلبه .
أما زين فلقد اتفقوا مؤخرًا أن يكون عقد قرآنهم في نفس ليلة زواج أخيه بعد أن وافق الجميع وحتى ملاذ ! ، فخطبتهم دامت لشهر وكان هو كل يومين يحادثها بالرسائل كالعادة يطمئن عليها ، وفكرت هي في البداية ألف مرة في إنهاء هذه الخطبة ولكن هناك قوى خفية تمنعها لا تعرف ماهي ، وداهمها شعور يخبرها بأن ربما هذه العلاقة تنجح أن اعطتها الفرصة كما اخبرتها صظيقتها ، وقررت أن تمنح نفسها فرصة ثانية لتنعم بالعشق مجددًا فلقد أحست في قرارة نفسها أنها ربما تقع في عشقه إن تزوجته ، حتى وإن كانت حتى الآن لا يوجد أي مشاعر تجاهه ، فهي متأكدة بأن هذه المشاعر ستوجد مع الوقت ، وما عليها سوى أن تدعه يعشقها وأن تثق برجل مجددًا وتتركه يستحوذ على مفاتيح قلبها حتى يفتحه حيثما شاء !! .
كرم لا يزال حتى الآن يتردد عليهم يوميًا ، ويشفق على تلك المسكينة التي وضعها النفسي يزداد سوءًا كلما ترى وضع والدتها الذي لا يتحسن وفقط يسوء أكثر مع الوقت ! ، وكان يطلب من شقيقته أن تأخذها ويخرجوا للتسوق أو التنزه مع بعضهم لعلها تخرج من حالتها المزاجية الكئيبة ، وكانت” رفيف ” من أشد المرحبين بهذه الفكرة فهي أحبت ” شفق ” كثيرًا وأحستها كأخت لها خصوصًا مع تقارب سنهم الذي لا يتخطي السنة ، وفي ذلك الشهر تقاربت علاقتهم كثيرًا واصبحوا أصدقاء ، والمتضرر الأكبر من كل هذا كانت شفق ! ، ومعاناتها تزداد يوم بعد يوم والنقطة الصغيرة في قلبها تجاه ذلك ” الكرم ” تنمو كل يوم أكثر من سابقه ، تخشي أن يستحوذها بالكامل ولا يكون لها ضوءًا حتى للخروج فيتم الحكم عليها بالسجن الأبدي في ظلام عشقه المستحيل ، وتكون قد أثبتت لنفسها وللجميع أن قلبها لا يختار من العشق إلا أصعبه !!! ….
أنه معاده كل يوم والباب يدق في الوقت المحدد كما اعتادت عليه منذ ما يقارب الشهرين ، فوضعت حجابها على شعرها ولفته بانتظام ثم خرجت وفتحت فقطبت حاجبيها باستغراب وهي ترى ” رفيف ” تقف أمامها وترتدي رداء يناسب السهرات والحفلات المسائية ، كانت رائعة وفائقة الجمال به .
_ رفيف !!
دخلت رفيف واغلقت الباب وهي تقول بعجلة من أمرها :
_ يلا يلا ادخلي البسي عشان هتاجي معايا وهتحضري فرح حسن وكتب كتاب زين وخلاص كتب الكتاب بعد العشاء يعني يدوب تلحقي تلبسي وده مش اختياري في أوامر صدرت بكدا !
قالت آخر كلماتها غامزة بلؤم ، فزداد تعجبها وقد اصابتها الدهشة من دخولها عليها المفاجئ وهي تطلب منها حضور عرس اخويها
، لا لم يكن طلب بل أمر كما قالت ، حيث تشدقت بعدم فهم :
_ أوامر إيه دي ؟!
قالت رفيف باسمة بنظرات ماكرة :
_ كرم هو اللي جابني وقالي اطلع اقولك تلبسي عشان تاجي معانا ومستنينا تحت بالعربية يلا بقى
تجمدت الدماء في عروقها وتسارعت انفاسها تلقائيًا ، حين قالت بأنه هو الذي يرغب في حضورها ، ولكنها لملمت أشلاءها التي بعثرت بمجرد نطق اسمه أمامها وهتفت متلعثمة في توتر :
_ لا فرح إيه يارفيف أنا معملتش حسابي ، ثم إني مقلعتش الأسود لغاية دلوقتي على سيف الله يرحمه
_ ياستي وهو حد قالك اقلعيه ولا اتزيني وحطي مكياج والبسي فستان ، تعالي بهدومك السودا احنا عايزينك تحضري معانا عشان تفكي شوية وتفرفشي
تنفست الصعداء بعدم حيلة ثم اتجهت نحو غرفة والدتها لتأخذ الأذن منها وترى رأيها هل توافق أم لا ، فتجدها تبتسم لها باتساع وتومىء لها برأسها بالموافقة ثم تشير إلي ملابسها السوداء بمعنى أن تبدلها بملابس تناسب سنها ، فرفضت هي في البداية ولكن حين شعرت بانزعاج أمها فانصاعت لأوامرها وذهبت لتستعد وتلبس شيء مناسب ، أما رفيف فقد جالست المرأة المريضة وأخذت تتحدث معها عبر كتباتها التي تكتبها على الورقة فلم تستعد صوتها حتى الآن . كتبت لها على ملاحظة صغيرة عبارة ” كرم ليه مطلعش معاكي ” أجابتها رفيف مبتسمة في حنو :
_ هو قالي إنه هيطلعلك بعد الفرح لما يجيب شفق البيت
ابتسمت ودونت على الورقة كالآتي ” تعرفي هو اللي مصبرني على اللي أنا فيه ، واللي مخليني كويسة إنه بيجيني كل يوم يطمن عليا ، بمجرد ما اشوفه بحس إن سيف قدامي وهو اللي مصبرني على فراقه ”
قرأت ما دونته وادمعت عيناها بتأثر و وشفقة على هذه المرأة التي شقيت ألم فراق وحيدها وعزيز قلبها وقلبها ينزف الدماء كل يوم على فراقه وتحاول إيجاده في أخيها وتلهم نفسها الصبر بتخيله مكان عزيزها ، فاقتربت وطبعت قبلة على جبهتها مغمغمة في نبرة تغلبها البكاء :
_ وكرم والله بيحبك جدًا وبيعتبرك أمه التانية ومش بيقدر يتأخر عليكي يوم واحد من غير ما يجيلك
حضنت كفها بين ثنايا كفها ورتبت عليه بحنو ثم عادت تكتب من جديد بابتسامة متسعة ومشرقة ” مبروك لحسن وزين ، عقبالك ” هتفت رفيف وهي تبادلها نفس فسمات وجهها المشرقة :
_ آمين أنا وشفق يارب
ارتدت رداء بسيط من الألوان الغامقة ولفت حجابها ببساطة أيضًا فوق شعرها دون أن تضع أي مساحيق جمال ، ثم توجهت نحو نافذتها ونظرت منها فتجده يقف مستندًا على السيارة وينظر لساعة يده متفقدًا الوقت ثم رفع نظره للأعلى فتراجعت هي للخلف فورًا بفزع وامسكت بهاتفها تجري اتصال بجارتهم المقربة التي تقارب أمها في السن تطلب منها أن ترافق والدتها قليلًا حتى تعود من الزفاف ففعلت هي على الفور وبعد دقائق أتت لهم ، فودعت شفق أمها وذهبت بصحبة رفيف وصعدت بالمقعد الخلفي في السيارة بينما استقلت الأخت بجانب أخيها في الأمام !! …
***
ردهة طويلة والبساط الأحمر على الأرض من بداية الردهة لنهايتها ، وكانوا قد تأخروا على عقد القرآن والجميع ينتظرهم حتى يبدأو فسبقها كرم ورفيف للداخل التي كانت تتلفت برأسها لها طالبة منها الإسراع وبقيت هي تسير بهدوء وتتلفت حولها تحدق في هذه الردهة الفخمة والملوكية ، إن كانت هذه الردهة فما حال الباقي .. لحقت بهم ثم وقفت بعيدًا تشاهد مراسم عقد القرآن لكل من حسن وزين والذي ما إن انتهى ارتفعت نبرة المأذون وهو يقول ” بارك الله لكم وبارك عليكم وجميع بينكم في خير ” فانطلقت التهئنات من الجميع ، وكانت هي تتابع ما يحدث بابتسامة بسيطة حتى وجدت رفيف تسحبها معها وجلسوا جميعهم على طاولة واحدة .
وضع حسن كلتا يديه حول خصرها وهي بدورها لفت ذراعيها حول عنقه يرقصون على الحان اغنية قامت رفيف باختيارها وتطالعه يسر بابتسامة متسعة بها شيء من الثقة ليتلفت هو حوله ثم يقترب من أذنها ويهمس ساخرًا :
_ افرحي واضحكي براحتك عشان لما نخلص من الفرح المستفز ده ونروح البيت معتقدش إني هشوف الابتسامة دي على وشك تاني
لم تؤثر بها كلماته التهديدية والشرانية بل بالعكس زادتها حماس وزادت ابتسامتها اتساعًا وهي تجيبه بدورها في أذنه هامسة بثقة تامة :
_ متقدرش تعمل حاجة ، وأنا بقول منستعجلش ونشوف النتيجة هتكون في صالح مين في النهاية
رأت عيناه التي تحولت إلى جمرة نيران وقسمات وجهه الملتهبة وحمراء كالدم وهو يصر على أسنانه فتوقعت ما يدور في ذهنه وما يود فعله بها بهذه اللحظة لتعود وتهمس مجددًا في أذنه ببرود أثار براكينه التي على وشك الانفجار :
_ ابتسم يابيبي عشان الناس مينفعش كدا !!
شعرت بقبضته على خصرها تشتد ويضغط عليها بعنف لتشتد عضلات جسدها وتصدر شهقة خافتة متألمة ، ثم يقترب هو ويهتف متوعدًا لها بنظرة مخيفة :
_ وحياة أمي يا يسر لاوريكي اللي ميقدرش يعمل حاجة ده بس نوصل البيت
***
الآن الخطر أشد بعد إن أصبحت زوجته ، تحاول توقع فعله إن عرف بمخططها الدنىء للزواج منه الذي لا يحقق سوى مصالحها الشخصية الأنانية ، كيف ياترى سيتقبل الأمر هل سيسامحها ويتغاطي عن الأمر أم أنه هو الذي سينهي كل شيء بينهم ويطلقها .. ولكنها تقسم له ألف مرة أنها حاولت مرارًا وتكرارًا أن تبتعد ولا تعرف ما الذي يمنعها من محادثته إلى أن انتهى بها المطاف زوجة له ، عليها واجبات ولها حقوق ومن أول واجباتها الأخلاص له ، ولكن كيف وهي حتى الآن لم تتخلص وتتمكن من نزع ذلك العشق المدنس من قلبها . أما هو فكان في ذروة سعادته يشعر بقلبه يتراقص فرحًا فهي لا تدري ما مدى الفوضى التي صنعتها بداخله منذ أول لقاء بينهم وفي شهر واحد بعثرته أكثر واسقطته في وحل عميق والآن فقط أعادت ترتيب قلبه الفوضوي حين باتت زوجة له ، وهذا يعني لا حدود في المعاملة ، لا حذر ، لا خوف من ارتكاب ذنوب ، لا حرج في معانقتها وامطارها بوابل من كلمات العشق وستكون حلاله في كل شيء ، ولكن للأسف فمازالت حتى الآن بعض الحدود قائمة إلى حين زفافهم ودخولها منزله وهنا تنقشع كل الحواجز وتزول جميع الحدود ! .
لاحظ شرودها لدرجة أنها لم تلاحظ توقف السيارة ووصولهم فهتف متساءلًا برفق :
_ ملاذ إنتي كويسة ؟!
انتفضت على أثر صوته والتفتت له فورًا راسمة ابتسامة رقيقة على شفتيها ليكمل هو ببساطة :
_ يلا وصلنا انزلي
اماءت لها بالإيجاب وفتحت الباب ثم ترجلت ورفعت نظرها لأعلى تتطلع لمبنى الشركة الضخم ثم التفتت له برأسها مغمغمة في استغراب :
_ إنت ليه جايبني الشركة
احتضن كفها الرقيق بين كفه هاتفًا في مشاكسة جميلة :
_ قولتلك مفاجأة .. يلا
قاومت الشعور الغريب الذي راودها بمجرد لمسته ليدها وسارت معه ناحية الباب بدون أن تلفظ ببنت شفة ، فرأت ابتسامة الحراس على الباب الرئيسي بمجرد رؤيته وسارعوا في فتح الباب لهم وقادت هي خطواتها معه للداخل ثم استقلوا بالمصعد الكهربائي ووصلوا للطابق الأخير ومازالت مستمرة في السير معه وهي تتلفت حولها في خوف من الظلام الذي يعم أركان الشركة بأكملها ولا تستطيع حتى رؤية كل شيء بوضوح فغمغمت في نظرات مرتعدة :
_ زين المكان ضلمة أوي أنا بخاف من الضلمة .. إنت جايبني هنا ليه ؟
ترك كفها ولف ذراعه حول كتفيها ضامًا إياها لصدره ، كنوع من بث الإطمئنان لنفسها الخائفة وإخبارها من خلاله أنه معها ، فلعنت نفسها بأنها تفوهت بهذه الكلمات ووضعت نفسها في هذا الوضع المحرج وأكملت السير معه بصمت حتى توقفوا أمام باب إحدى الغرف وابتعد هو عنها ثم أخرج المفاتيح الخاصة به من جيبه ووضع المفتاح المخصص لهذا الباب ثم لفه عدة مرات وبعدها انفتح ودخل هو أولًا ثم هي خلفه فتلفتت حولها تحاول رؤية أي شيء ولكن الظلام كان أشدة من أن يساعدها على الرؤية ، وحين لم تشعر به بجوارها تلفتت حولها بارتعاد حتى سكنت روحها المرتعدة لما انفتح الضوء وتجولت بنظرها في أرجاء الغرفة التي هي عبارة عن مكتبة صغيرة جميع حوائطها ممتلئة بالكتب ، فتحركت هي نحو أحدهم تتلمسها بابتسامة منذهلة ثم استدارت حول نفسها تحدق في كل هذه الكتب بانبهار ، ولكن صوته الدافىء من خلفها جعلها تلتفت له فورًا وتستمع لما يقوله وابتسامتها لا تزال على شفتيها :
_ أنا عرفت من إسلام إنك من عشاق القراءة والكتب فقولت أجيبك تشوفي ده وتعرفي إنك مش لوحدك اللي مجنونة كتب ، والأوضة اللي في بيتنا اللي قولتلك محدش يفتحها لما تروحوا هناك إنتي ومامتك وأهلك دي ناوي أعملها زي دي بس نخلص من الحجات الأهم الأول وبعدين إنتي تعمليها على ذوقك وتختاري الوانها والخشب وكل حاجة
فغرت شفتيها وعيناها بصدمة ، ورمشت عدة مرات بعدم تصديق ثم خرج صوتها المنذهل فورأى عيناها التي تضحك بدلًا عن شفتيها :
_ بتتكلم جد هتبقى عندنا اوضة في البيت زي دي ؟
كان صمته وابتسامته إجابة توكد لها سؤالها فوضعت كفها على فمها تكتم ضحكتها التي انطلقت من فرط سعادتها بما أخبرها به للتو ، وبعد ثواني تهتف من بين ضحكاتها بعفوية لما تتحدث بها معه من قبل :
_ إنت كدا هتلاقيني معتكفة في الأوضة دي اليوم كله !!
أجابها مشاكسًا بنظرة اربكتها كثيرًا :
_ هعتكف معاكي !
تلاشت ابتسامتها تدريجيًا من نظرته وحاولت الفرار منه عن طريق تجولها في جميع أركان الغرفة تتفحص كل الأرفف ، المقسمة بانتظام إلى قسم يحوي كتب الدين والسيرة النبوية وإلى قسم الفلسفة وعلم النفس وإلى قسم العلوم البيئية المختلفة وغيره كثيرًا من الأقسام ، ولكنها توقفت حين رأت القسم الذي يضم كتب باللغة الإنجليزية فالتفتت له برأسها وقالت باسمة :
_ وبتقرى English كمان !!
ضحك بخفة وأردف بخفوت يسرد لها قصة هذه الغرفة :
_ مكنتش بحب آجي الشركة هنا أبدًا كان عندي حاولي عشرين سنة وأنا من صغرى بحب الكتب فبابا الله يرحمه عشان يحببني في الشغل وإني آجي هنا عملي المكتبة دي ومن وقتها وأنا مبقتش اتأخر على الشركة يوم واحد ولغاية دلوقتي بخلص الشغل في المكتب وباجي أقعد هنا وأحيانًا برجع البيت بعد الفجر بكون ماخد الليل كله هنا ولما بيأذن الفجر بروح اصلي في الجامع وبعدين برجع البيت ، ومش عايز أصدمك وأقولك إني قريت الكتب دي كلها أكتر من تلات مرات يعني حافظها
اتسع بؤبؤ عيناها بذهول ولكنها ابتسمت بإعجاب وتوجهت نحو الأريكة الصغيرة وجلست عليها هاتفة بتساءل وجدية :
_ طيب والوقت اللي كنت بتقضية في قراية الكتب دي مكنش بيخليك تقصر في فروضك ولا حق ربنا عليك بما إني أعرف إنك ماشاء الله عليك ملتزم في كل حاجة
أصدر تنهيدة حارة ثم اقترب وجلس بجوارها مجيبًا بهدوء :
_ لا بالعكس أنا كنت بفضل الوقت اللي باخده هنا وأغلب الساعات اللي بقعدها هنا مش بكون بقرأ الكتب لا بستغل الوقت لإن زي ما قولتي إنا مش بحب أقصر في حق ربنا عليا وكنت دايمًا بقرأ القرآن أو بسبح وبقول أذكار يعني أغلب الوقت اللي بقضيه هنا بيكون للعبادة وفي نفس الوقت بخصص وقت محدد للكتب بس عشر سنين كتار أوي وكافيين جدًا إنهم يخلوني أحلص ده كله وأعيد قرايته من أول وجديد حتى لو مكنتش بستغل كل وقت فراغي في القراية ، كل ما في الموضوع إني برتاح في القعدة هنا جدًا
ذلك الرجل كلما تتحدث معه تنكشف شيء في شخصيته يجعلها تتمسك به ويثبت العكس لعقلها الذي يصرخ بها باستمرار أنها أخطأت حين سمحت لهذه العلاقة بالاستمرار ، وفي كل مرة يعلو شأنه لديها ويكبر في نظرها أكثر وهذه المشاعر لا تزعجها بل بالعكس تسعدها لأنها تعطيها الأمل في ما توده وهو أن يحل عشقه هو محل العشق الذي بات يخنقها ولا تتحمله نفسها .
عادت لواقعها واستندت بذراعها على حافة الأريكة المرتفعة وكفها مكانه على وجنتها قائلة وهي متشبعة بحرارة الحديث معه محاولة التصرف بطبيعية وإقناع عقلها وقلبها بأنها تحبه !! :
_ وطبعًا مش محتاجة تفكير إن اكتر رف محبب لقلبك هو رف كتب الدين والسيرة
ضحك لطريقتها الجديدة في التحدث وتشدق مؤكدًا ما قالته :
_ أكيد أهو ده بقى بذات أنا حافظه زي اسمي بظبط من كتر ما قريته كذا مرة
عم الصمت بينهم للحظات وهي تعود وتعلق نظرها على الكتب لتسمع صوته المترقب والرخيم يقول :
_ منتظمة في الصلاة ياملاذ؟
استقر نظرها عليه ولكن سرعان ما اجفلته وقالت بضيق وحياء :
_ مش أوي أحيانًا بقطع وحاولت كذا مرة انتظم بس باخد فترة زي شهرين أو أكتر وبرجع أقطع تاني ومش عارفة أعمل إيه ؟!
أخذت نفسًا عميقًا ثم أخرجه زفيرًا متمهلًا وهتف برفق به شيء من الحزم :
_ غالبًا ده بيبقى بسبب إن إنتي متعودتيش على الصلاة من صغرك فبتلاقي صعوبة في الالتزام لكن أكتر حاجة تخلي قلبك يجري على الصلاة جرى إن الله سبحانه وتعالى بينادي عليكي ويقولك يلا تعالي ، حي على الصلاة يعني يلا جري على الصلاة ، الفلاح اللي هو فلاح الدنيا والآخرة ، ووقت ما تسمعي حي على الفلاح دي تجري على الصلاة فهل يصح أو يحق أو يجوز إن الله عز وجل بينادي عليكي ومتروحلوش ، وعايزة تعرفي تعملي إيه تسيبي اللي في إيدك أول ما تسمعي الآذان وتقومي فورًا تتوضى وتصلي ، سواء إي كانت الحاجة اللي بتعمليها مش هتكون أهم من لقاء ربنا والصلاة ومتقوليش لا خمس دقايق هخلص اللي بعمله واروح اصلى ، لا في لحظتها علطول ، فمينفعش إن ربنا سبحانه وتعالى يكون بينادي علينا واحنا ننشغل عنه بأي عرض من أعراض الدنيا ، دي دنيا يعني زايلة وحاجة ملناش دعوة بيها ، فحي على الصلاة دي يعني يلا على فلاح قلبك يلا على صلاحك يلا على الرزق وعلى الخير والبركة والهداية ، وعشان لما تطلبي حاجة من ربك يعطيهالك فمينفعش تكوني إنتي مش بتصلي وتقولي اعطيني يارب واديني ومعرفش إيه ، ده من عظم ومكانة الصلاة إنها مفرضتش في الأرض لا ده سيدنا جبريل طلع بالرسول صلى عليه وسلم فوق وفرضت فوق لقدسية وعلو مكانة الصلاة ، فإنتي خلي ضميرك يأنبك دايمًا وافتكري الكلام ده وأنا هعينك واشجعك متقلقيش ، أنا معنديش تهاون في النقطة دي بذات يعني لما نكون في البيت والآذان يأذن وأقولك يلا قومي عشان نصلي فورًا تقومي ومتقوليش إيدي مش فاضية
كانت تستمع لحديثه وهي تعاني في تفاصيله وتحملق به بشرود ، كيف له أن يكون بكل هذا الحسن واللطف ، ماذا فعلت هي ليرزقها الله بزوج مثله حتى وإن كانت لا تحبه .. ولكنها الآن فقط أدركت هذا ” الزين ” لا يمكن أن يُرفض وستكون أحمق النساء إن ضيعته من بين يديها ، وستحاول جاهدة أن تحبه وهي متأكة بأنها لن تعاني كثيرًا في محاولات عشقه فبالفعل هي بدأت تعجب بشخصيته الفريدة ! .
همست في صوت رقيق ونظرة ممتنة لاهتمامه ولكل نصائحه التي ستعمل بها بالتأكيد :
_ حاضر متقلقش مش هقولك كدا ، واوعدك إن شاء الله هنتظم وهعمل زي ما قولتلي بظبط
أرسل لها ابتسامة محبة ونظرة غرامية ثم التهم المسافة التي بينهم في الأريكة حتى أصبح ملاصقًا لها واقترب منها طابعًا قبلة ناعمة على وجنتها مغمغمًا في عاطفة :
_ ربنا يهديكي ياحبيبتي ويجعلك من مُقيمي الصلاة
تجمد جسدها وانكمشت عضلاته هو ووجهها ، وسرت رعشة في جميع أنحاء جسدها أثر ملامسة شفتيه لبشرتها ولحيته الكثيفة كان لها دور بالتأكيد فيما أصابها الآن ، ثم رأته يبتعد سنتي مترات لا تحسب ويثبت نظره على شفتيها المزينة بأحمر شفاه فابتلعت ريقها بصعوبة وتوتر حين توقعت ما سيفعله ، وشعرت بانحباس انفاسها في صدرها وجفاف حلقها ، ولم تهدأ فوضتها إلا عندما رأت عيناه تنطلق منها نظرات صارمة ويهمس في حدة محاولًا تزينها بابتسامة متصنعة :
_ وحاجة تاني كمان معنديش تهاون فيها المكياج .. الروج ده في بيتك ولجوزك بس أنا محبتش اتكلم لما شوفتك بيه في الفرح وسكت عشان أول مرة بس مش عاوز اشوفه تاني ، اولًا حرام ولما اسمحلك تطلعي بيه عشان اللي رايح واللي جاي يبص على شفايفك ابقى مش راجل ثانيًا أنا بغير جدًا وغيرتي وحشة وبغير على أهل بيتي وحتى رفيف ممنوع عليها منعًا باتًا إنها تحط مكياج
ثم أخرج منديلًا من جيبه وتولى مهمة إزالته عن شفتيها برفق وهو يكمل بنبرة أقل حدة :
_ جيبي كل أشكال وألوان المكياج اللي تحبيها بس تحطيها ليا أنا بس وفي بيتك ، ومفيش مانع لو حطيتي حاجة بسيطة في الفرح بما إنه هيكون منفصل والرجالة وحدهم والستات وحدهم ، وبعدين إنتي حلوة وحدك ياحبيبتي مش محتاجة تحطي الحجات دي عشان تحلوي اكتر !
خافت قليلًا من نبرته ونظرته العجيبة وتأكدت بأنه لا يكذب حين قال إن غيرته سيئة فمن الواضح أنه يشتعل من الغيرة ويحاول تمالك أعصابه أمامها ، سحبت من يده المنديل بهدوء وأكملت مسحه هي دون أن تجيبه فقط تخطف إليه نظرات مرتعدة بعد أن أتضح لها أنه لديه غضب مدمر وهي بالطبع لا تريد رؤيته في يوم من الأيام على الأقل إلى حين تتمكن من حبه ، كان يتابعها بصمت حتى انتهت والقت المنديل في صندوق القمامة الصغير بجانب الأريكة ونظرت لها متمتمة في توتر واضح :
_ يلا نرجع الفرح عشان منتأخرش عليهم
أماء لها بالموافقة ثم هب واقفًا وسبقته هي للخارج فأغلق الضوء وقفل الباب بالمفتاح ثم لحق بها ، واقترب من رأسها طابعًا قبلة حانية عليها وكأنه يعتذر بطريقة غير مباشرة عن طريقته الحادة واللاإرادية معها منذ قليل ولف ذراعه حول خصرها يسيران معًا في الطريق المؤدي للباب الرئيسي ، فلم ترفع هي نظرها له بتاتًا ووانشغلت بعقلها الذي يهتف ساخرًا بشيء من الانفعال ” أرأيتِ أخبرتكِ أنه لا يصلح لك فإنتِ لا تحبين السيطرة ويبدو أنه ذو ميول تسلطية ! ، كيف ستتحملي تحكماته التسلطية هذه ؟!! ” ولكنها رفضت هذه الأفكار بعنف وأبت الاستماع لكلمات عقلها المريض الذي يحاول تخريب كل شيء جميل ، وحين افاقت وجدت نفسها أمام السيارة ويفتح لها الباب فاستقلت بها ثم التف هو وأخذ مكانه المخصص للقيادة بجوارها !! …..
***
اقترب الحفل من نهايته وقد قاربت الساعة على الحادية عشر …
لم تتحرك من على الطاولة بجوار هدى وكانت عيناها معلقة عليه تتابعه وهو يقف مع رجل خمسيني ويتحدث معه بجدية تامة وملامح وجهه حازمة بشدة ولكن لا يهمها كل هذا ، هي مكتفية بالنظر إليه فقط وتأمله .. كم يبدو اليوم جذابًا وكله وقار وشموخ بملابسه التي تزيده فخامة .. حيث كان يرتدي بنطال من اللون الأسود يعلوه قميص أبيض اللون وفوقهم سترته الجليدية الطويلة من إحدى درجات اللون البني ( الكافيه ) ، ويضعها على كتفيه دون أن يغلغل ذراعيه داخل الأذرع الخاصة بالسترة مما أعطته لمسة رجولية مذهلة ، كان عقلها يصرخ بها محاولًا إيقاظها من أحلامها الوهمية التي لا صحة لها في الواقع ولن تجلب لها سوى المتاعب ، هذا الرجل هو آخر رجل في الكون قد يكون من نصيبها أو أن تحظى بعشقه لها ، لهذا يجب عليها التوقف عن عشقه قبل أن تكون سببًا في دمار نفسيًا لها !! .
حاولت إزاحة نظرها عنه ولكنها لا تستطيع وفجأة وجدته يلتفت برأسه ناحية طاولتهم بحركة عفوية منه فوقعت عيناه على التي تتأمله بهيام ، لتشهق هي بزعر وتشيح بوجهها بعيدًا مغمغمة لنفسها في اغتياظ منها :
_ شافني .. شافني ، غبية .. أنا غبية !!
أخذت تخطف إليه نظرات خلسة تتأكد هل ما زال ينظر ناحيتها أم لا فوجدته عاد يكمل حديثه مع هذا الرجل لتتنفس بارتياح وهي تقسم بأنها لن تنظر له مجددًا أبدًا إلى حين رحيلها الذي لابد أن يكون الآن قبل أن تقع في موقف أكثر إحراجًا ، انضمت لها رفيف وهي تهتف باسمة :
_ هاا إيه رأيك أنا اعتقد إنك فكيتي شوية
نظرت لها وتمتمت برقة :
_ آهاا فعلًا طلعت شوية من الطاقة السلبية اللي جوايا ، ميرسى يارفيف جدًا إنك فكرتي فيا وجبتيني
نقلت رفيف نظرها لأخيها وهتفت في صوت منخفض بأذنها به شيء من الخبث ويحمل تلميحات فهمتها جيدًا :
_ بس دي مش فكرتي !! ، يعني الشخص اللي المفروض تشكريه مش أنا !
نظرت بدورها إلى مكان استقرار نظراتها ثم عادت لها وقالت بإحراج امتزج بخنقها البسيط :
_ ممكن تبطلي تلمحياتك دي عشان أنا فهماكي ، كرم زي سيف الله يرحمه بالنسبالي يعني اخويا
رفعت حاجبها باستنكار على كذبها الساذج وأصدرت ضحكة مرتفعة ثم عادت تهمس في أذنها بنبرة أكثر لؤمًا :
_ لا والله وهو أخوكي برضوا هتفضلي تتأملي فيه ومتشليش عينك من عليه ، إنتي مفضوحة أوي على فكرة !
ضمت عيناها بتوتر واضطراب وفورًا تخلت عن محاولاتها الفاشلة لإقناعها بأنها ليست معجبة به وقالت بعفوية واضطراب :
_ بجد !! ، يعني ممكن يكون لاحظ أو حس ؟!
قالت مندهشة وهي تضحك بتلقائية :
_ كرم مين ده اللي يلاحظ !! ، عارفة لو كان حسن أو زين كنت أقولك كانوا زمانهم كشفوكي مش زمان عشان دول مش ساهلين لكن كرم ده خايب اراهنك إن كان شك للحظة أصلًا ، انتي احمدي ربك إنه بيتكلم معاكي طبيعي من غير ما يتوتر دي معجزة في حد ذاتها .. بس تعرفي أنا عذراكي إنتي عندك حق هو اخويا يتحب فعلًا
رمقتها شزرًا باغتياظ وغمغمت محاولة إخفاء خجلها :
_ أنا عايزة امشي الوقت اتأخر !
_ حاضر هروح اندهولك
قالتها بمشاكسة وهي تهم بالقيام ولكنها قبضت على ذراعها هاتفة بصرامة :
_ لا متروحيش مش عاوزاه يوصلني أنا همشي وحدي
تركت رفيف مزاحها جانبًا وأجابتها بقوة جادة :
_ أولًا مش هيرضى يسيبك تمشي وحدك ، ثانيًا الساعة 11 يعني الوقت متأخر
هل لا تهتم بكل هذا فقط لا تريد أن تكون معه فقربها منه يبعثرها ويشتت ذهنها ويزيد من ترسيخه في قلبها ، وهي ترفض شعور استسلامها له على الرغم ما أنها تعرف أن هذا العشق لن يجدي بنفع عليها ، ولكنها تركتها تذهب لتخبره واستقامت فورًا تتسلل إلى الخارج دون أن يروها محاولة الهرب منه وأن تستقل بأي سيارة أجرة قبل أن يأتي خلفها ، ولكنها تسمرت واقفة في نصف الردهة الطويلة والحمراء المؤدية للشارع الرئيسي حين سمعت صوته المرتفع نسيبًا ينده عليها :
_ شـــفــــــق !!!
فتأففت بيأس وأخذت نفسًا عميقًا لتحبسه لثانية في صدرها وتخرجه زفيرًا متمهلًا ، وتجاهد في لملمة قلبها الذي تبعثر بمجرد سماعها لصوته ، وأخيرًا التفتت له مغلوبة على أمرها لتجده أمامها مباشرة ويردف متساءلًا :
_ رايحة فين ؟
رسمت ابتسامة مزيفة وخلفها كانت تخفي قناع هزيمتها للمرة الألف في الفرار منه ، فيخرج صوتها رقيقًا كهيئتها الضئيلة والصغيرة :
_ مش رايحة مكان كنت هستناك عند العربية لغاية ما تاجي
_ اممم طيب يلا
سارت معه نحو السيارة الخاصة به واستقلت بالمقعد الأمامي بجواره واستقل هو بمقعده ثم انطلق بها يشق الطرقات ، وهي تتابع الطريق بسكون تام مستندة برأسها على زجاج السيارة ، اتاها صوته الهادئ يسألها باهتمام :
_ شوفتيه تاني أو كلمك ؟!
تمتمت بنفي وهي لا تزال على نفس وضعيتها :
_ تؤتؤ .. من ساعة الحادثة ومشفتهوش تاني والمفروض إني اطمن وافرح بس قلقانة اكتر
ثم اعتدلت في جلستها وطالعته مغمغمة في ثبات وحرارة :
_ فاكر صحبتي اللي كانت معايا في المستشفى
_ آه فاكرها ليه ؟!
قالت بتوجس وقلق :
_ إنت أكيد عرفت طبعًا إنه كان مستنينا في الشارع لغاية ما نطلع ، فهي شافتك لما وصلت وقالتلي إنه أول ما شافك كأنه شاف عفريت واتنفض واستخبي بسرعة قبل ما تشوفه وبتقولي إنه خوفه كان غريب
كان مركز نظره على الطريق وقد كان قلقها بالنسبة له مبالغ فيه قليلًا ولا داعي لكل هذا الخوف حيث أجابها مبتسمًا في عدم اقتناع :
_ طبيعي ياشفق يخاف ماهو عارف أكيد أنا مين وإني دايمًا معاكي وإني بحاول اوصله
تأففت بضجر من تصرفه على أنها طفلة وتخشي من أي شيء وغمغمت في نبرة مستاءة وهي تنتصب في جلستها وتعتدل لتكون مواجهة له تمامًا :
_ كرم افهمني أنا قصدي غير كدا ، خوفه مش طبيعي هو عارفك ودي حاجة احنا مختلفناش فيها بس هو كمان عارف إنك أكيد متعرفهوش شكلًا وإلا كان هيخاف كدا ليه أوي ، تصرفه بيوحي بحاجة واحدة وهي إنه عارف إنك لو لمحته بس هتعرفه فورًا وهو يعرفك كويس ، والصراحة أنا خوفي زاد أوي وبذات بعد ما شكيت إنه ممكن يكون …….
توقفت عن الكلمات ولم تتمكن من البوح له بما يدور في ذهنها منذ شهر كامل وهي تعاني من رعبها أن يكون ماتظنه صحيح ، فإن كان هو بالفعل لن يلحقها من الأذي بقدر ما قد يلحقه هو ، ومن جهة أخرى تخشي أن تكون نهايتها مشابهة لها بالأخص بعدما اتضحت رغباته القذرة بها !! ، أما هو فكلامها قد أيقظ عاصفة القلق الكامنة بداخله وبدت له كلماتها مقنعة جدًا ولكن توقفها في النهاية أثار فضوله بشدة حيث هتف في ترقب وحزم :
_ شاكة في أيه ؟!
اشاحت بوجهها عنه وعادت لجلستها الطبيعية تنظر للطريق أمامها هاتفة في تصنع عدم المبالاة بالأمر ونبرة صوت قوية وجديدة تمامًا :
_ لا متركزش حاجة تافهة أساسًا ومش مقنعة ، بس أنا مش عاوزاك تتدخل في الموضوع ده تاني لو سمحت ، ملكش دعوة وأنا هتصرف وحدي لإنه ممكن يأذيك
استعجب من نبرتها وطريقتها مما جعل الشك في أنها تخفي أمرًا خطرًا عنه ينمو ويسقتر في أعماقه أكثر ، وأخذ يفكر ما الذي قد تخفيه عنه ولكن كان شكها أبعد من أن يتمكن هو من توقعه .
حاول تمالك أعصابه فهي لا تكف عن طلب الشيء الذي لا يمكنه تنفيذه لها وغمغم في صوت أجشَّ :
_ شفق احنا اتكلمنا في الموضوع ده كذا مرة وقولتلك إني مش هقدر اتصرف كأني معرفش حاجة وهقولهالك تاني إنتي أمانة وأخوكي موصيني عليكم ولو إنتي شيفاني من النوع اللي بيخون الأمانة فأنا عندي استعداد اسيبك تتصرفي وحدك زي ما بتقولي ، ثم إني مش فاهم إيه سبب خوفك ده !!!
تمكن هو من تمالك أعصابه ولكنها فشلت حيث صاحت مندفعة من فرط خوفها عليه فهذا الأحمق سيؤدي بنفسه للهلاك وهو لا يشعر .. وهي لن تسمح بأن تكون سببًا في أي أذى يصيبه :
_ بقولك هيأذيك أنا متأكدة مش عايز تفهم ليه ! وبذات بعد ما عرف إنك تعرفني ومعايا ولو كان اللي في دماغي صح فأنا مش هسمحلك تتدخل في أي حاجة تخص الموضوع ده تاني نهائي لإنه كدا هيبقى بنسبة 100% بيخططلك عشان يبعدك عن طريقه !!
أصدر زفيرًا حارًا ، وهو حقًا لا يفهم ماتحاول تلميحه بكلماتها الغامضة هذه ، ولكن انفعالها المفاجئ جعله يتأكد من أنها تعاني من الضغط العصبي والنفسي منذ فترة ، فقرر أن يتعامل معها بلطف ورقة كما اعتادت منه حيث أوقف السيارة جانبًا وغمغم مبتسمًا برزانة :
_ طيب وأنا سامعك أهو قوليلي إيه اللي في دماغك عشان نعرف نتكلم بدل ما إنتي متعصبة كدا
أدركت فداحة الخطأ الذي ارتكبته للتو بانفعالها الغير لائق عليه فمهما كانت معاناتها وضغطها العصبي وخوفها عليه ، لا يشفعوا لها حين تتحدث إليه بهذه الطريقة وبالأخص حين تقابل منه هذا الرد اللطيف والجميل مثله تمامًا ، وضعت كفها على وجهها مغمغمة في إحراج شديد منه :
_ أنا آسفة ياكرم انفعلت غصب عني والله بس أنا اعصابي تعبانة جدًا الأيام دي ، ممكن نقفل على السيرة دي دلوقتي ارجوك وتوصلني البيت لإني تعبانة وعايزة أنام
تفهم رغبتها في عدم التحدث و العودة للمنزل ، فعاد يحرك محرك السيارة وينطلق بها متمتمًا في خفوت مازحًا ليحاول تلطيف الأجواء المشحونة بالطاقة السلبية :
_ ماشي بس أنا رأي إنه أي كان اللي في دماغك فهو أكيد ميستهلش كل القلق والتعب العصبي ده ، ولا يستاهل قلقك عليا كمان .. يعني ميغركيش الوش البرئ ده لإن وراه بلاوي !
حاولت قدر الإمكان منع ابتسامتها ولكنها فشلت بعدما فهمت ما يقصده من آخر جملة ، وأن قلقها عليها ليس في محله وإنه يخفي خلف رقته ولطافته وحسن معاملته مع الجميع أشياء لا يتوقعها أحد منه ، أي أن لا قلق عليه فهو يحسن التصرف في هذه المواقف .. ولكن مهما حاول أقناعها بأنه يخفي شخصية مرعبة في داخله لن تصدق ، فكيف لكتلة اللطافة والرقة هذه أن تكون في وجه الشر والانتقام ، وهي تشك إن كان يستطيع أذية نملة من الأساس !! ، ولكن لا مانع في المثل الشهير ( اتق شر الحليم إذا غضب ) !! ……..
***
انتهى الحفل وعاد الجميع لمنزله وكانت يسر في غرفتها بمنزلها الجديد ( منزل زوجها ! ) ، كان يقسم لها في الزفاف إن حين ذهباهم للمنزل ستنال من عقابه ما تستحقه وهي حقًا تتساءل بسخرية عن عقابه هذا أين ذهب ، فلقد أتوا للمنزل منذ ما يقارب النصف وهي دخلت الغرفة ولم تسمع له صوت حتى ، ولا تعرف أنام أم ماذا يفعل ؟ ولكن ما تثق به أنه فقط يقول كلمات ولا يمكنه التنفيذ !! .
ثم بدأت في خلع الفستان عنها وارتدت منامة قطنية قصيرة وكانت على وشك أن ترتدي فوقها رداء منزلي طويل فهي لا تأمن شر هذا الفاسق ، و لا تود أن تكون أول ليلة بينهم على هذا النحو فلديها خطط لهذه الليلة يجب أن لا تفسد أبدًا . انتفضت واقفة بزعر حين وجدته يقتحم الغرفة عليها ويدخل ثم يغلق الباب بالمفتاح لتتراجع هي للخلف وتلتقط أقرب شيء لها وهو الروب المنزلي وتلفه حولها محاولة ستر أجزاء جسدها العارية وتهتف بخوف كان حقيقي هذه المرة :
_ بتعمل إيه !؟
التفت لها وقال بنظرات شرانية ونبرة تحمل كل معاني الغل والانتقام لأفعالها معه ، وكانت نظراته كصياد صبر كثيرًا حتى ظفر أخيرًا بفريسته بين قبضتيه ولن ينقذها منه أحد :
_ هوريكي اللي ميقدرش يعمل حاجة ده !
هل سيحاول تعذيبها وضربها أم أنه سيستغل فرصة زواجهم ويحاول كسرها وقهرها بالنيل منها رغمًا عنها ، كلها تساؤلات تدور في حلقة ذهنها ولا تجد لها أجابة سوى أنها في مأزق حقيقي الآن ويجب أن تتصرف قبل أن تجعله يحصل على مايريد !! .
_ الفصل الثامن _
هل سيحاول تعذيبها وضربها أم أنه سيستغل فرصة زواجهم ويحاول كسرها وقهرها بالنيل منها رغمًا عنها ؟ .. كلها تساؤلات تدور في حلقة ذهنها ولا تجد لها أجابة سوى أنها في مأزق حقيقي الآن ويجب أن تتصرف قبل أن يحصل على مايريد !! .
تقهقرت للخلف ونظراتها تجول في جميع انحاء الغرفة تبحث عن شيء يحميها من بطشه ، بينما هو يقترب نحوها ببطء وبوجه تعلوه معالم السعادة لرؤيته لها تقف في أحد أركان الغرفة تخشاه ، انتهي تقهقرها عندما اصطدمت بالحائط فوقفت ثابتة كالجبل تعيد ارتداء رداء الشجاعة حتي وجدته اشرف عليها بهيئته واستند بكلتا قبضتيه على الحائط يحاوطها من الجهتين ويهمس أمام وجهها وأنفاسه الملتهبة بحرارة الغضب تلفح وجهها كرياح حارة في نهار درجة حرارته تخطت 50 درجة :
_ لا متقوليش إنك خايفة !! ، دي آخر حاجة ممكن اصدقها عنك ! .. ولا لتكوني مضايقة مع إنك المفروض تكوني في اقصي درجات السعادة حققتلك اللي نفسك فيه وبقيتي مراتي وكمان هخليكي تنعمي بقربي ، وده عرض خاص مش بقدمه غير للغالين عليا
هو لا يبتعد عنها سوى سنتي مترات لا تحسب ، وهذه الفرصة المناسبة لتستغلها وتسرق من جيبه مفتاح الباب وتفر من بين براثينه .
هي لا تخشاه بقدر ما تخشي أن يتدني لدرجة إجبارها على شيء لا تريده !! ، ولكن الحكمة هي سيدة الموقف الآن حيث ابتسمت بغنج أنوثي وانتصبت في وقفتها ثم لفت ذراع حول رقبته متخلية عن خجلها منه والذراع الآخر كانت تحاول تسلله إلى جيب بنطاله دون أن يشعر ، وهمست بدلال مغري :
_ ومين قالك إني مش فرحانة ، بالعكس أنا في قمة سعادتي .. لإني بحبك لدرجة متتخيلهاش ، ومش هحل عنك غير لما تحبني إنت كمان
كانت نظراته متقززة منها وجسده يشمئز حين يفكر بأنها تحاول اغوائه ، إن كانت هي تحبه لدرجة لا يتخيلها فهي أيضًا لا يمكنها تخيل مدى كرهه ونقمه عليها ، ولكنها لم تكن تبالي بنظراته لها وركزت على الهدف الذي نجحت به بالفعل وقد التقطت المفتاح من جيبه ، ثم دفعته بعنف بعيدًا واندفعت نحو الباب راكضة ولكنها قبل أن تضع المفتاح في الباب أصدرت صرخة متألمة عندما شعرت بقبضة يده القوية تجذبها من خصلات شعرها وتسمع همسه المرعب في أذنها كالرعد :
_ حاولت كتير أكبر دماغي منك وأقول عيب عليك ياحسن دي مهما كانت بنت عمك ومينفعش بس إنتي كنتي مصممة تطلعي الشخص القذر اللي جوايا في كل مرة كنتي بتستفزيني وبتعملي نفسك فيها شجاعة وتهدديني بإنك هتفضحيني وبسبب انانيتك وجنانك كنتي هتقولي لأمي لولا إني لحقت الموقف ، وبدل ما كنتي هتأذيني أنا كانت هي اللي هتتأذي ، وإنتي دلوقتي هتدفعي تمن تهورك ده وإنك كنتي بتلعبي معايا من غير ما تدركي العواقب
امسكت بكفه وحاولته نزعه عن خصلاتها وهي تجيب بصدق متألمة :
_ مكنتش هقولها أنا كنت بخوفك بس ، وبعدين لما سيادتك خايف على أمك أوي كدا متحترمش نفسك ليه ، يعني إنت قذر وحقير وكمان بجح
_ كملي كملي واغلطي اكتر كمان عشان تستفزيني بزيادة والعقاب يبقى بالضعف
قال آخر كلماته ثم جذبها والقى بها على الفراش لتسقط على ظهرها ثم ينحني إليه بنظرات كلها تشفي وخبث لتلمح هي الانتيكا الصغيرة على المنضدة بجوار الفراش وتسرع لتلتقطها وتضربه بها ولكنه قبض على رسغها ورفعه لأعلى مكبلًا معمصميها بكفه الضخم لتحاول هي التملص من بين يديه بمحاولات بائسة ، حتى خرت قواها وقررت رفع راية الاستسلام و أشاحت بوجهها للجهة أخرى تتفادى اقترابه منها ناحية رقبتها وتهمس برجاء مغمضة عيناها وصوت مبحوح :
_ حسن ، ارجوك كفاية !!
ارتخت قبضته على معصميها حتى تركهم تمامًا وهتف في صوت رجولي مريب :
_ اعتقد دلوقتي شوفتي أنا أقدر أعمل إيه ، نصيحة متحاوليش تتحديني وتستفزيني تاني عشان المرة الجاية مش هيأثر فيا توسلاتك
ثم ابتعد عنها واعتدل في وقفته وغمغم بابتسامة سخرية وبرود مستفز :
_ تصبحي على خير ياعروسة !
ثم ولاها ظهره وتحرك صوب الباب ليفتحه و ينصرف ، فتثب هي واقفة وتسرع نحو الباب تغلقه خلفه ، وقد أحمر وجهها غيظًا وغلً ، وكانت تصدر زئيرًا من بين شفتيها واسنانها تجز عليهم بعنف مع كف يدها الذي كورته ضاغطة عليه بشراسة ثم اندفعت نحو الانتيكا الضعيرة التي حاولت التقاطها ولكنه منعها وألقت بها على الأرض لتتناثر لجزئيات صغيرة !! ….
***
تململت في فراشها بانزعاج من رنين الهاتف وأيضًا أشعة الشمس المتسللة من النافذة لعيناها ، تأففت بنفاذ صبر والتقطت هاتفها تجيب على المتصل بصوت ناعس دون النظر لاسمه أولًا :
_ الو
أجابها بنبرة رقيقة هو ينظر لساعة يده يتفحص الساعة التي قاربت على الحادية عشر ظهرًا :
_ صباح الخير ، إنتي لسا نايمة لغاية دلوقتي ؟!!
انتفضت جالسة بعدما تعرفت عليه من صوته وأخذت تفرك عيناها لتزيح آثار الخمول عنها ، وتهتف بإحراج :
_ صباح النور ، معلش كنت نايمة ومخدتش بالي من الاسم ، امبارح رجعنا متأخر من الفرح ونمت متأخر و…..
قاطعها بصوته الضاحك الذي وصلها عبر الهاتف وهو يهدر ببساطة :
_ كفاية ياملاذ خلاص ، أنا مقولتش حاجة عشان ده كله !!
منذ أن رأت جانبًا مختلفًا في شخصيته بالأمس ، وهي لا تنكر خوفها البسيط منه وتوترها ازداد أكثر ، فحسمت قرارها أنها ستكون حذرة في كل شيء معه ، لم تغضب منه ولكنه سبب لها اضطرابات أكثر وحرصًا في التعامل معه ! . انتبهت لصوته وهو يتمتم في خنق من نفسه معتذرًا بحنو :
_ متزعليش مني بخصوص امبارح أنا عارف إن طريقتي كانت شديدة شوية بس مكنش قصدي والله .. أنا آسف !!
ابتسمت هي على الجانب الآخر بصفاء وهمهمت بنبرة صوتها الناعمة :
_ متقلقش مزعلتش يازين .. وإنت عندك حق تتعصب
_ متأكدة إنك مزعلتيش ؟!
قالها مبتسمًا بمشاكسة لتجيبه بنفس نبرتها السابقة :
_ آهاا متأكدة
اتسعت ابتسامته ولمعت عيناه بوميض رجولي ماكر ، قبل أن يهتف بخفوت ونبرة يعلم أثرها جيدًا عليها :
_ لا بس أنا عايز اصالحك وش لوش عشان أتأكد إنك مزعلتيش !!
لحظات من الصمت القاتل بينهم كان هو يتخيل ملامح وجهها الحمراء من الحياء بينما هي فكانت تحاول التغاطي عن كلماته الخبيثة وعدم التفكير فيها كثيرًا حتى لا تتلعثم في الحديث ، فأخرجت صوتها ضعيف ومرتبك :
_ وش لوش إزاي يعني ؟!!
اتاه ردها ونبرة صوتها المحرجة كما كان يتوقعها تمامًا ، ليكمل جرعته ويضيف قليلًا من البهارات الحارة حتى يزيد من تلعثمها :
_ يعني جهزي نفسك عشان بليل هعدي عليكي وهاخدك وهنروح نقعد في مكان لطيف كدا على انفراد وهناك هقولك وش لوش إزاي
” انفراد ” مجددًا !! .. ألم يكفيه توترها واضطرابها بالأمس وهي معه على انفراد أيضًا ، مجرد التفكير في أنهم سيكونوا معًا مجددًا ولا أحد معهم يؤدي لتسارع دقات قلبها ، وخصوصًا وهو يُلمح لها بهذه التلميحات الجريئة .. يبدو أنها خُدعت به وكانت تظنه رجلًا صارمًا ولا يعترف بأمور الحب التي يمارسوها العشاق ، بالإضافة إلى أنها لم تكن تتوقعه أنه يعرف كيفية إرسال تلميحات منحرفة بالكلام !! ، واتضح أنه ماكر محترف وتدينه والتزامه سينقشع ويزول حين يكون معها .
هتفت بتلعثم كان واضح هذه المرة في صوتها :
_ تاني !!!
قال مستنكرًا بحب :
_ واحنا طلعنا امتى اولاني عشان نطلع تاني ، امبارح مكملناش نص ساعة ورجعنا
_ طيب يازين هجهز على بعد المغرب واستناك إن شاء الله ، إنت في الشركة دلوقتي ؟!
قال بجدية بسيطة :
_ آه ومعايا اجتماع بعد نص ساعة
هتفت بلطف :
_ ربنا يعينك
_ آمين .. أنا هقفل وإنتي قومي اغسلي وشك واتوضى عشان دلوقتي الساعة 11 وخلاص فاضل على آذان الضهر ربع ساعة
أجابته بعذوبة ورقة :
_ حاضر
غمغم مبتسمًا بدفء :
_ في حفظ الله
ردت عليه بنفس جملته كما اعتادت منه ثم أنهت الاتصال وتنهدت بعمق ونهضت من فراشها متجهة صوب الحمام لتفعل كما طلب منها للتو على الهاتف !! …..
***
خرجت من الحمام بعد أن أخذت حمام صباحي دافىء وقطرات الماء تتساقط من خصلات شعرها المبتلة ، فتوقفت في منتصف الغرفة الواسعة ودارت بنظرها في جميع أرجائها ، الخزانة التي تحوي ملابس لشخص لا يريد دخول الغرفة لمجرد وجودها بها ، والفراش الضخم الذي يتسع لأثنين وأكثر ولكنه لا يضم سوى واحدًا .
بنعتها بعديمة الكرامة !! ، وهي منذ لحظتها تفكر هل العشق يفقد المرء كرامته ؟! ، تتساءل لآلاف المرات عن سبب عشقها له ! ، وإن نظرت بالمنظور الواقعي فهو رجل لا يُحب ولا تقبل به فتاة إلا الأقلية .. إذا هي من الأقلية ؟! ، لا بل هي من الذين حرق الهوى عيناهم فأعماهم ، أو بالأحرى هي ليست عمياء بل مطلعة على كل عيوبه ولكنها تتصنع العمى ، وتخبر نفسها مرارًا وتكرارًا بأنها عشقت مرة واحدة وستكون الأخيرة ولن تترك فرصتها في العشق تذهب هدرًا ، ستقف صامدة في وجه الصعاب لآخر نفس فيها ولن تجعل اليأس يتملكها ، وسواء أبا أم شاء لن تتوقف عن عشقه ولن تهدأ إلا حين تحصل على مرادها ، وتجعله يخر بدماء العشق والهوى أمامها مثلما أرهق دمائها لسنوات !! .
ارتدت ملابسها وصفصفت شعرها ثم توجهت نحو الباب وقبضت على المبقض وقبل أن تديره لينفتح أخذت شهيقًا طويل وأخرجته زفيرًا متمهلًا مغمغمة لنفسها محاولة تهدئتها حتى لا تنغز في عقلها الأفكار السيئة أن تخنقه وتفشي غليلها منه بمجرد تذكرها ما فعله معها بالأمس :
_ خليكي relax خالص واهدي ومهما يقول متتعصبيش ، يعني باختصار كوني باردة
ثم فتحت الباب وغادرت الغرفة متجهة صوب المطبخ محاولة قدر الإمكان تجنبه على الأقل إلى حين يزول سخطها منه ، فتحت التلاجة تأخذ منها ما تحتاجه لتحضير الأفطار وحين اغلقت بابها والتفتت بجسدها أصدرت شهقة مرتفعة وانتفضت واقفة بهلع ثم ابتلعت ريقها وأخرجت زفيرًا مضطرب ، لتجده يهتف بقسوة متوقعة منه :
_ لتكوني صدقتي نفسك فعلًا وإنك عروسة ، عارفة الساعة كام دلوقتي !!
أصدرت تأففًا حارًا ثم ازاحته بهدوء من أمامها لتتجه نحو الحوض وتقوم بغسل الطماطم الطازج والحمراء تحت الماء مولية إياه ظهرها ، متمتمة ببرود :
_ عارفة ، وبعدين إنت هيفرق معاك إيه صحيت بدري ولا متأخر ، فارقة معاك أوي مثلًا !!
قبض على خصرها من الخلف يضغط عليه بقسوة وعدم رحمة هادرًا بشراسة وصوت مريب في أذنها :
_ إنتي هنا خدامة ووظيفتك خدمتي وبس ، تحضري الأكل وتغلسي وتنضفي ومن هنا ورايح هيكون الأكل بمواعيد ولو اتأخرتي هيكون في عقاب وخيم ، مفهووووم
لم تجيبه ، اغمضت عيناها تحاول تمالك ذمامها قبل أن تفقدها ، فهي يجب عليها استغلال زواجهم وتجرب معه كل الطرق لتسقطه في تعويذة العشق ! ، سمعته يهتف وهو يضغط على خصرها أكثر لتشتد عضلاتها وتنفرد في وقفتها من الألم :
_ ردي مفهوم ولا لا ؟!
كان يتفنن في استخدام كل الوسائل التي تغضبها وتستفزها ويستمتع برؤيتها ذاعنة له ، يتلذذ بإذلالها وإهانتها ظنًا منه أنه انتصر عليها ولكنها لا يدري أنها هي التي تسمح بهذا الانتصار بكامل إراداتها ورغبتها . خرج صوتها خافت بعد أن وجدت صعوبة في أن تقولها بكل هذا الهدوء :
_ مفهوم .. ممكن تبعد عني وتطلع برا بقى !
ابتعد عنها والقى عليها نظرة متقززة ثم التفت وانصرف لتمسك هي بالسكين وتبدأ في تقطيع الطماطم بعنف تفرغ بها شحنة غضبها المكتظة داخلها ، وتبتلع غصة مريرة في حلقها وعيناها بدأت تذرف الدموع تلقائيًا فأسرعت وجففتهم رافضة سقوطهم !! …
***
تبًا لهذا القلب ! ، الذي يقسم دومًا أن يجلب لصاحبه العناء والشقاء ، ويختار الأشخاص الخطأ فلا يجلبوا له سوى الألم .. هل هذا هو العشق ؟!! ، يحزن ويقهر ويشقي صاحبه ! .. إن كان كذلك فيسعدها أن تقول أنها تكره هذا العشق ولا تريد أن تعشق أبدًا وتفضل أن تكون طوال حياتها خالية الوفاض !!! ….
كانت تجلس على طاولة صغيرة في أحد الكافيات وتطقطق أصابعها بخنق ثم التفتت للحارس الذي يقف خلفها وتهدر به منفعلة :
_ إنت سمعتني وأنا بتكلم وعرفت رايحة فين وفورًا مضيعتش وقت وروحت اتصلت بيه !!
أجابها برسمية تامة دون أن ينظر لها :
_ كرم بيه منبه إن أي مكان حضرتك تروحيه يكون عنده علم بيه ، وهو قالي أجيبك هنا تستنيه وهو جاي دلوقتي
قالت في ضجر شديد :
_ المفروض إنه جايبك عشان تحميني مش تقوله على كل حاجة بعملها
لم يجيبها وكان صامتًا تمامًا يحدق حوله منتظر قدومه حتى تنتهي مهمته ويرحل من جوارها ، أما هي فأخذت تضرب كعب حذائها في الأرض بعنف مغتاظة ، ولتمر دقائق طويلة ثم تجده يقترب نحوهم ويشير بيده للحارس الذي يقف بجوارها أن ينصرف فغعل على الفور ، وسحب هو المقعد المقابل لها ليجلس عليه ويطالعها بأعين ساخطة لتهتف هي متوترة من نظراته :
_ متبصليش كدا !!
_ اتصل بيكي إمتى ؟
كان صوته خشنًا وصلبًا ولكنها التزمت الصمت المستفز ولم تجيبه ليكمل هو مغتاظًا من إهمالها :
_ إنتي مش مدركة خطورة الموضوع صح ؟!
قالت بخفوت وقلبًا ممزقًا :
_ مدركة كويس جدًا وزي ما مدركة خطورته عليا مدركة كمان خطورته على اللي حواليا ، وأنا لازم اتحمل العقاب وحدي عشان اتعلم من غلطتي ومثقش في حد تاني
لم يفهم سبب تصرفاتها المختلفة معه منذ أيام ، ولكنه لا يهتم كثيرًا لطريقتها فكل ما يهمه هو حمايتها والعمل بوصية عزيز قلبه ! .
تنهد بعمق وغمغم بعد أن لانت نبرته وأصبحت أقل دقة وإحكامًا :
_ ليه لما اتصل بيكي متصلتيش بيا وقولتيلي عشان اتصرف !؟
اشاحت بنظرها عنه مغمغمة بجفاء :
_ لإني قولتلك امبارح مش عايزاك تتدخل تاني في الموضوع ده
_ وأنا رديت علي الكلام ده !
عادت بنظرها له مغمغمة في حزم :
_ وكمان أنا قولتلك إني مش عايزة حد يتأذي بسببي
تمتم في صوت رخيم :
_ ولو سيف الله يرحمه كان عايش كنتي هتقوليله كدا !! ، أكيد لا ، وأنا دلوقتي زيه ومكانه
لما يصر دائمًا على تذكيرها بأنه يتولى دور أخيها ويراها شقيقة له ، كلما يقول هكذا تلتهب النيران في قلبها .. فهي لا تراه أخًا ويصعب عليها أنها لا تنظر له مثلما ينظر هو لها ! .
وجدت نفسها تهتف بنبرة شبه مرتفعة وقاسية جدًا غير متنبهة لما تتفوه به :
_ متقولش زيه ، إنت مش سيف ومحدش هياخد مكان أخويا
أماء بتفهم وقال بخفوت بنظرات طبيعية بعض الشيء :
_ عندك حق !!
القت عليه نظرة أخيرة ثم استقامت واندفعت لخارج المكان تحاول حبس دموعها التي تصرخ بالسقوط ، بينما هو فتنهد بعبوس وأخرج هاتفه يجري اتصال بالحارس الذي ينتظرهم بالخارج ، هاتفًا بصلابة :
_ وصلها البيت
أجابه منصاعًا لأمره ثم انهي معه الاتصال وانتظر خروجها وهو يفتح لها باب السيارة فنظرت له شزرًا وهمت بأن تذهب رافضة أن يقوم هذا الحارس بتوصيلها ولكنها سمعت صوته الأجشَّ يهتف :
_ أنسة شفق لو سمحتي اركبي
توقفت للحظات مولية إياه ظهرها تفكر بالأمر من منظور سلامتها لأجل والدتها المريضة التي تحتاج لمن يرعاها ، فوجدت أن من الأفضل أن تستمع لما يقوله وتصعد بالسيارة .
مدت يدها لعيناها تمسح الدموع المتجمعة بهم ثم تلتفت له وتعود لتستقر بالمقعد الخلفي ويذهب ليتولي هو مقعده الأمامي وينطلق بالسيارة عائدًا بها للمنزل ……
***
مع تمام الساعة السابعة مساءًا …..
كانت هي تقف أمام المرآة تلقي علي نفسها النظرات الأخير وتتأكد من حسن مظهرها ، ترتدي رداء طويلًا وفضفاض من اللون المستطردة ليس به أي نقوش كان ممسوحًا تمامًا إلا لمسات كلاسيكية وبسيطة تميزه ، وفوقه حجابها من إحدى درجات اللون البنفسجي المناسبة للون بشرتها ، وقد حرصت هذه المرة على عدم وضع أي مساحيق جمال حتى لا تعصي أوامره حول عدم وضعها لهذه المساحيق خارج المنزل .
باتت لا تستطيع تحديد حقيقة مشاعرها أهي سعيدة بأنها تخلصت من هذه الفاسق الذي كانت تعشقه وستتزوج برجل لا يمكن مقارنته به سوى أنه يستحق هذه الكلمة وبجدارة ” رجل ” ، أم حزينة لأنها إخرجته من حياتها وتعجز عن إخراجه من قلبها حتى الآن ، ويمثل هذا عائق بينها وبين زوجها الذي تريد أن تعطيه فرصة وأن تنعم بعشقه وتجرب مفهوم العشق معه كيف سيكون ، وبين كل هذا هي مع كامل الأسف تجد صعوبة في الوقوع بحبه نتيجة لأن المكان الذي يجب أن يكون هو فيه في قلبها مشغول لغيره ، فلا تستطيع أن تكن له في قلبها سوى الاحترام والثقة والإعجاب بشخصيته .. مما يسبب لها الكثير من المتاعب النفسية !! .
انتشلها من شرودها صوت رنين هاتفها فظنت أنه هو ، لتستنشق الهواء بعمق وتمسك بالهاتف لتجيب ولكن تجد المتصل صديقتها فتفتج بنفس مرتاحة أنه ليس هو :
_ أيوة يامي
اتاها صوت صديقتها المرح :
_ عاملة إيه ياعروسة .. مفيش مفر دلوقتي هتحكيلي كل حاجة بالتفصيل حصل إيه إمبارح
غمغمت ملاذ باسمة لحماس صديقتها المقربة :
_ مفيش حاجة حصلت والله يامي هو اخدني لمكتبة خاصة بيه واتكلمنها هناك وبعدين رجعنا
_ إزاي !! .. يعني مفيش حاجة كدا ولا كدا
_ لا مفيش ياحشرية
قالت مي بعبث ومزاح :
_ إيه ده يعني طلع محترم مع الناس ومعاكي !
تذكرت حديثها معه بالصباح فابتسمت على وصف صديقتها له بـ ” المحترم ” ، فهذا الماكر يخدع الجميع وهو بداخله يخفي رجل منحرف ينتظر حتى تحين له فرصة الزواج ليخرجه . هتفت ملاذ مشاركة صديقتها في المزح :
_ بصي هو عمليًا محترم علميًا لا
قالت الاخرى ضاحكة بقوة :
_ أممم عارفاه النوع ده بيبقى مايه من تحت تبن ، بس أنا شايفة إنك اخدتي عليه خلاص وده مؤشر حلو
تنفست الصعداء بشجون وهي تجيبها بخفوت مرير حتى لا يصل صوتها لأحد من أهلها :
_ مش عارفة يامي أحيانًا كتير بحس إني غلطت لما وافقت وكملت ومش مطمنة حاسة إن في مصيبة هتحصل بسبب الغلط اللي ارتكبته ده ، واللي مخليني مضايقة إن زين بني آدم كويس جدًا وألف بنت تتمناه ، يعني باختصار شايفة إنه خسارة فيا ، وفوق ده كله قلقي من أحمد وتفكيري فيه دايمًا لإنه ليه فترة طويلة مش بيكلمني زي ما كان بيعمل ويحاول يخليني اسامحه ولا حتى بشوفه وخايفة يكون مسافر ولما يرجع ويعرف إني اتجوزت ويعملي مشكلة كبيرة
غمغمت مي في عصبية ونقم على هذا الماجن والوغد :
_ مش هيقدر يعمل حاجة خلاص ، ولو إنتي حابة تكملي في جوازك لازم تطلعيه من قلبك ياملاذ وتحبي جوزك لإن هو ده اللي يستاهلك بجد ، وحاولي تتقربي منه أكتر صدقيني هتحبيه لإنه باين عليه إنه شخصية جميلة وتستاهل تتحب ، لكن الحيوان ده ميستهلش غير الحرق
همت بأن تجيب عليها ولكن سمعت صوت أشارة في هاتفها بأن هناك من يحاول الاتصال بها فتهتف على عجالة :
_ طيب يامي هكلمك بعدين عشان هو بيتصل دلوقتي
أنهت الاتصال مع صديقتها وأجابت عليه بهدوء وهي تتجه نحو شرفتها لتنظر منها وتتأكد من قدومه :
_ أيوة يازين .. إنت وصلت ؟
_ أيوة وصلت أنا مستنيكي تحت بالعربية ، إنتي خلصتي ولا لسا ؟
قالها في نبرة صوت ساحرة لتجيبه هي بإيجاب :
_ أيوة خلصت هلبس الشوز وأنزل
أسرعت وارتدت حذائها ثم ألقت نظرة أخيرة على مظهرها في المرآة وسحبت حقيبتها الصغيرة وهاتفها وانصرفت مودعة والدتها الكامنة في غرفتها بصوتها المرتفع حتي يصل لمسامعها تخبرها بأنه أتي وهي ستغادر ، فتجد الرد من أمها لطيفًا موصية إياها كأي أم أن تنتبه لنفسها ، ثم ترحل وتصعد بمصعد البناية الخاصة بهم وبعد لحظات تجد نفسها أمام الطابق الأرضي فتخرج وتقود خطواتها للخارج حتى وصلت لسيارته وفتحت باب المقعد المجاور له وتنحني بجزعة لتركب بجانبه وترسل له ابتسامة رقيقة فتقابل منه ابتسامة عريضة وأول شيء يهتف به في مغازلة صريحة بها :
_ ماشاء الله إيه القمر ده بس !
توردت وجنتيها بحمرة الخجل وأخفضت نظرها هامسة في استحياء :
_ شكرًا
اتاها صوته الرجولي حازم والممتزج بابتسامته التي لطفت الجو :
_ شوفتي شكلك أحلى بكتير إزاي من غير الروج والمكياج !
ضحكت بخفة وقررت أن تتصرف معه على طبيعتها وعفويتها مع القليل من التحفظ في كلامها بالطبع ، فإن كانت لا تتمكن حتى الآن من الوقوع في حبه ربما يكون تصرفها معه بتلقائية كأنه أنه صديق لها ينجح في جعلها تحبه :
_ أنا أساسًا مش بحط مكياج وإمبارح ماما اللي يسامحها هي اللي غصبت عليا أحط والنتيجة إنها جابتلي الكلام وأخدت كلمتين حلوين منك إمبارح ، فأطمن كانت أول مرة وآخر مرة .. مش لازم تفكرني كل شوية بقى
كانت تتحدث بعفوية واضحة أحس بها مما أسعده أنها بدأت تتأقلم معه ، ونبرتها المرحة وطريقتها وهي تتحدث جعلته يطلق ضحكة رجولية مرتفعة نسيبًا هاتفًا في حدة مزيفة :
_ عارفة لو كنتي منقبة كنت أنا بنفسي اللي هقولك حطي لإن محدش هيشوفك غيري
عندما تحدث عن النقاب ابتسمت تلقائيًا ، فهي كانت تود ارتدائه منذ زمن وحين عرضت الفكرة على خطيبها السابق لم يوافق ، وبالطبع كيف يوافق وهذا التقاب كان سيمنعه من رؤيتها ونظرًا لأنه كان لا يود الزواج من البداية وكان مستعدًا لخيانتها ويعلم أنه لن يستمر معها فكان يريد التمتع من رؤيتها ومحادثتها بحرية وهي كانت ساذجة وسمحت له بهذه المسافة وأن يتخطى الحدود والعرف والدين .
هتفت في حماس حقيقي وأعين تلمع بسعادة :
_ زين إنت عاوزني البس نقاب ؟!
نظر لها مستعجبًا سؤالها المفاجيء وطريقتها الحماسية ولكنه أجاب ببساطة وابتسامة دافئة :
_ النقاب فيه قولان لأهل العلم واختلفوا بين وجوبه وجوازه والعلماء اللي قالوا بجواز كشف الوجه هما هما اللي قالوا بوجوب تغطيته في زمن الفتن ومفيش شك في إن احنا في زمن الفتن دلوقتي ، دي أول حاجة وثاني حاجة إن الوجه محل الأثارة حتى للزوج من زوجته في فراش الزوجية ، فأنا أكيد هفضل إن مراتي تكون لابسة نقاب وخصوصًا لو كانت في جمالك كدا لإن دي الفتنة بعينها حتى لو مش بتحطي مكياج ، وأنا مقدرش أقول على النقاب فرض لإن العلماء ذات نفسهم اختلفوا فعشان كدا لو إنتي مش حابة تلبيسه أنا مقدرش أجبرك عليه لكن اللي أقدر أجبرك عليه هو اللبس المحتشم والحجاب الشرعي بمعني إنه ميكونش واصف أو لازق أو شفاف يعني بيبقى واسع وبيغطي منطقة الصدر كلها وإنك متطلعيش من بيتك متزينة ومتعطرة وتطلعي بهدوم فضفاضة ومتظهرش محاسن ومنحنيات جسدك ، فهمتيني ؟
أماءت له بالإيجاب وهتفت وهي مازالت تحتلها السعادة وتسأله بتأكد :
_ يعني إنت مش هتمانع لو لبسته ؟
قال بابتسامة مستنكرًا سؤالها :
_ بعد ده كله ولسا بتسألي همانع ولا لا !! .. بس إنتي ناوية تلبيسه بجد يعني ؟
تشدقت باسمة في خفة :
_ أنا من زمان نفسي البسه بس مكنتش متشجعة أو لاقية اللي يشجعني الصراحة وإنت دلوقني شجعتني فأنا هصبر شوية لغاية ما أكون متأكدة من القرار ده علشان لما البسه إن شاء الله مقلعهوش تاني وربنا يثبتني
أوقف السيارة جانبًا ثم نظر لها وغمغم بحنو :
_ يلا وصلنا
_ إيه ده بسرعة كدا !!
هتف مشاكسًا إياها ومازحًا :
_ هتحسي بالطريق ازاي وإنتي من ساعة ما ركبتي العربية وبتتكلمي !!
فغرت شفتيها بصدمة من رده الصادم والغير متوقع ولكنها شاركته المزاح :
_ أنا !!!! ، ربنا يسامحك بس على فكرة بقى إنت اللي بدأت الكلام
اطلق ضحكة صامتة قبل أن يمسك بكفها ويقربه من شفتيه ليقبله برقة هامسًا في عاطفة :
_ بهزر .. اتكلمي براحتك ياحبيبتي ، على قلبي زي العسل
توترت بشدة من تقبيله لكفها وسحبتها برقة تنظر حولها متفحصة المكان الذي جاءا إليه لتهتف :
_ إيه هناخد رحلة نيلية صغيرة !
ترجل من السيارة ثم التف ناحيته فتنزل هي بدورها وتسير معه ناحية اليخت النيلي الصغير وتقول عابسة :
_ على فكرة أنا بخاف من الميا بليل
_ وهو أنا بقولك انزلي عومي احنا هنركب يخت
سارت معه حتى وصل أمامه وصعد هو إليه ولحقت به ثم تطلعت حولها في الماء وسمعته ينادي عليها من الداخل فدخلت له وجلست على الأريكة الجليدية والبنية اللون ، المتلصقة في أساس اليخت نفسه ، ثم أحست به بدأ يتحرك في الماء فنظرت من الزجاج تتابع الماء ومنظرها الليلي المريب ، حتى وجدته يجلس بجوارها ويمد يده إليه بمشروب دافئ نظرًا لأنهم في الشتاء ، فأخذته من بيده بابتسامة ممتنة ثم قال هو يفتح حوارًا للحديث :
_ هااا قوليلي بقى بتخافي من الميا ليه ؟
تردد قليلًا ولكنها قالت بإحراج :
_ هقولك بس متضحكش
_ تمام قولي !
غمغمت في خفوت :
_ بسبب الأفلام الأجنبي ، عشان أنا من صغري بحب أتفرج الأجنبي وخصوصًا الأفلام اللي بتبقى في الميا وفيها سمك قرش والتماسيح وسمك البيرانا فعملتلي عقدة من الميا وبقيت بخاف ما أنزلها
أطلق ضحكة متأججة بعفوية على طفوليتها لتزم هي شفتيها وتقول بتذمر وعبس :
_ قولتلك متضحكش
كتم ضحكته وقال معتذرًا وهو يحاول منع نفسه من الضحك مجددًا :
_ حاضر ، بس احنا في النيل وإيه اللي هيجيب سمك القرش والبيرانا للنيل
عادت لطبيعتها وغمغمت ببساطة :
_ عارفة بس أنا عمومًا بخاف من البحر ولما بنزل بيكون أخري رجلي بس وعلى الشط كمان ، وبليل لو قطعتوا إيدي مستحيل أحط صباع واحد في الميا وأصلًا منظرها بليل بيخوفني معرفش ليه بس بحس برهبة من الميا وبليل بذات ، صحيح إنت ليه جبتني هنا ؟!
_ ملقتش مكان حلو نقعد فيه وحدنا على رواق غير ده
هزت رأسها بالتفهم ثم لفت ذراعيها حول نفسها تأخذ وضعية الحضن وكفيها يفركان على أعلى ذراعيها نزولًا وطلوعًا بسبب شعورها بالبرد محاولة تدفئة نفسها وإذا بها تشعر به يلف سترته الجليدية والثقيلة حولها مغمغمًا :
_ اشربي اللي جبتهولك هيدفيكي ، أنا لو أعرف إنك مش بتلبسي هدوم شتوي كنت قولتلك عشان تعملي حسابك
نظرت له وقالت باهتمام بسيط :
_ طيب وأنت كدا هتبرد !
_ لا أنا عامل حسابي متقلقيش
لم تعقب مجددًا واكتفت بأنها لفتها حولها جيدًا وأدخلت ذراعيها في الأزرع لتنل أكثر قدر من الدفء فجسدها أصابته قشعريرة البرد العنيفة ، ولكن رائحة عطره الرجولي النفاذة والرائعة تسللت لأنفها من خلال سترته التي ترتديها ، لم تنكر أنها رائحة مغرية ومثيرة خصوصًا أنها تحب عطر الرجال وتتعمد من وضع عطر أخيها في المنزل دون الخروج به ، وبينما هي منسجمة في احتساء المشروب الدافىء وبدأ الدفء يعود لجسدها مجددًا ، وجدته يقترب ويطبع قبلة على رأسها من فوق حجابها ثم يجذبها لصدره مملسًا على ذراعها بلطف كنوع من إبعاث الدفء لها والسكينة ، فهمَّت هي أن تبتعد عنه ولكنها تراجعت وفكرت بعقلها هذه المرة الذي يخبرها بأنها إذا ارادت نسيان الماضي وبدء حياة جديدة معه يجب عليها أولًا أن تسمح لنفسها بأن تنعم بين تفاصيل العشق وتتركه يحبها بحرية وتجرب العشق كاملًا ومن ثم تقرر هل تحبه أم تفضل الأبتعاد ، فسكنت وهدأت بين ذراعيه وعادوا يتبادلون الأحاديث مجددًا !! ….
***
تمسك بهاتفها وتحدق بصوره الذي أرسلها لها الرجل الذي كلفته بمهمة مراقبته لتعرف إلي أين يذهب ، كانت هادئة معه تمامًا منذ الأمس واستحملت طريقته القاسية ولم تعقب ولكن وصل للخط الأحمر الذي لا تهاون فيه ، يجب عليه احترام زواجهم حتى ولو كان بالنسبة له اتفاق وصفقة بينهم ، وسواء شاء أم أبى هي زوجته وغيرتها عليه مخيفة تصل للجنون . ويؤسفها القول بأنه سيرى مخالب القطة الشرسة وكيف تكون قوة المرأة الحقيقة ! ….
ظلت واقفة وتجوب الصالة إيابًا وذهابًا وهي تضرب بهاتفها على كفها بخفة وعيناها معلقة على الساعة التي قاربت على الثالثة فجرًا وكلما يمر الوقت تهيج نفسها الثائرة أكثر ، وأخيرًا سمعت صوت الباب ينفتح فاندفعت نحوه ثائرة لتجده ينظر لها بعدم اكتراث ويتوجه نحو غرفته المنفصلة عن غرفتها ويغلق الباب ليبدأ في تبديل ملابسه ولكنها لم تبالي بشيء سوى تفريغ جموحها بهذا المنحل ، ففتحت باب الغرفة ودخلت وتجده فك جميع أزرار قميصه ويهم بنزعه ولكنه توقف نتيجة لاقتحامها عليه الغرفة وصاح :
_ في إيـه ؟!!
رفعت شاشة هاتفها في وجهه تريه إحدى صوره وهو في ملهى ليلي صائحة بدورها :
_ إيه ده ياحسن !!
التقط الهاتف من يدها ودقق النظر في الصور ليجدها صوره اليوم بالفعل ليلقي به على الفراش ويصرخ بها بصوت جهوري :
_ وإنتي مالك إيه ده ، إنتي هتحاسبيني ولا إيه ! ، وبعدين جبتي الصور دي من فين لتكوني مكلفة حد يراقبني مهو مش بعيد عليكي أصل هنتظر إيه من شيطانة
بالأمس كانت أنثى وتخشى صوته وغضبه والآن هي لا تدري عن مفهوم الأنوثة بشيء وصوته لا يهز شعرة واحدة منها ، حيث اندفعت نحوه ووقفت أمامه مباشرة هاتفة في شراسة :
_ أهااا هحاسبك ، أنا ممكن استحمل معاملتك ليا لكن خيانتك علني كدا وفي أول يوم جواز مش هسكت عليها
ضحك باستهزاء من فرط انفعاله وصاح مستشيطًا غيظًا :
_ إنتي عبيطة يابت ! .. خيانة إيه !!! ، هو أنا إمتى حبيتك ولا كان في بينا حاجة عشان اخونك أصلًا
اقتربت منه أكثر وهو لا يظل ثابتًا في أرضه ووجدها تهتف مباشرة أمام وجهه في صوت يشبه فحيح الأفعى وأعين شيطانية :
_ إنت اتجوزتني عشان تكرهني فيك وتنتقم مني على اللي عملته معاك ومتخلنيش افضحك ، وأنا وافقت وقفلت على موضوع الصور والتسجيل وقولت مش مشكلة هستحمل ، يعني احنا في بينا اتفاق ومن شروط الاتفاق إنك تبعد عن القرف ده .. خاف مني ياحسن عشان أنا ممكن أقلب عليه الطرابيزة بجد وافضحك وأقول إنك بتخوني وأقول على كل بلاويك وهتبقى خسرت أهلك وعمك وبرضوا هفضل وراك وهقولهم إني مسمحاك وإني مش عايزة اطلق وبكلمتين ودمعتين مني الكل هيصدق حبي النقي ليك وإنك قذر وحيوان ولما يلاقوني مصممة إني مطلقش هيوافقوا والكل هيبقى في صفى أنا وهتبقى إنت الوحيد اللي طلعت خسران من اللعبة .. ده نبذة بسيطة عن اللي ممكن أعمله فيك
كان جامدًا تمامًا ودمائه تغلي في عروقه وعقله يرسل له إشارات متتالية أن يقبض على رقبتها ويخنقها ليتخلص منها نهائيًا ولكنه تظاهر بالثبات لتكمل هي بنبرة أكثر شراسة من السابقة :
_ مش بعد السنين دي كلها هسمح لحد ياخدك مني إنت ليا لوحدى .. تعرف أنا ماشية بمبدأ إيه ، لو الحاجة مش هتكون ليا يبقى مش هتكون لحد غيري أبدًا
هذه مجنونة ، حتمًا فاقدة لعقلها !! ، كان يقولها لنفسه فلا يمكن أن يكون حبها له وصل لهذا الحد من الجنون . فهتف منذهلًا مما تقوله :
_ إنتي مستحيل تكوني طبيعية ، إنتي محتاجة تروحي مستشفى مجانين وتتعالجي بجد
لم تبالي بما قاله فهي الآن في ذروة غضبها ، واستمرت في الحديث قاصدة استفزازه :
_ لو أنا عملت زيك وشوفت صوري وأنا في كباريه وفي حضن راجل ، أنا عارفة إنك مش طايقني ومش هتفرق أوي معاك بس هتحس بإيه لإني في الأول وفي الآخر مراتك للأسف
هتف ضاحكًا بسخرية وعدم مبالاة :
_ روحي اعملي هو أنا منعتك
لن تتركه إلا حين تثير جنونه كما أثاره حيث قالت بنبرة صوت وهي تطلق كلمات تعرف مدى تأثيرها عليه جيدًا :
_ متأكد ! ، أصل أنا دلوقتي زي ما قولتلك أنا مراتك يعني أي كلمة هتاجي في حقي هتكون في حقك إنت وإنت اللي هتتفضح يعني أهلي مش هتطولهم الفضيحة قد ماهتطولك ، والناس بقى لسانها مش بيسكت هيقولوا إيه اللي يخليها تعمل كدا إلا لو كان جوزها مش راجل ولا مؤاخذة مش عارف يحكمها ولا يشكمها وكلام كتير كدا أنا اتكسف ما أقوله بس إنت فاهم
نجحت في إثارة عواصفه حيث أحمرت عيناها بسبب جملتها الأخيرة الذي فهم مقصدها منها جيدًا فتحول لجمرة نيران ملتهبة وبحركة مفاجأة جذبها من خصلات شعرها هاتفًا في صوت يأتي كالرعد في أذنها :
_ إنتي عاوزة إيه !؟ ، عاوزاني أمد إيدي عليكي وأوريكي أنيل من اللي شوفتيه إمبارح ، رسيني إنتي عاوزة إيه عشان أفهم والبّيلك طلباتك
دفعت يده عنها بعنف صائحة محذرة إياه :
_ اوعى تفتكر نفسك إنك قدرت عليا إمبارح أنا اللي سبتك بمزاجي ، وإياك ياحسن تجرب تمد إيدك عليا تاني فاهم ..
ثم استدارت وغادرت تاركة إياه يتستشيط وبترنح من الأنفعال ولا يعلم ما الذي يمعنه عن تلقيها ألوان العذاب والضرب المختلفة التي تستحقها ، فربما لأن ليس من شيمه استخدام العنف مع النساء سواء بالضرب أو التعذيب ، ولم ينشأ على هذه العادات السادية !! …..
***
… عروس !!!! .. تتلقى التهنئيات من الجميع منذ صباح اليوم ، لما الكل سعيد ماعداها ؟ ، بالبرغم من أنها هي التي يفترض بها أن تكون أسعدهم ! ، ترتدي فستان زفافها ولا تشعر به على جسدها .. كأنه رداء للعيد قامت بشرائه ولم تنتظر قدوم العيد وارتدته قبل الآوان في مكان وزمان غير مناسب فلم تشعر بفرحته كما يجب ، وتكثر ملامسته والنظر لنفسها في المرآة لعلها تجد سعادتها الخامدة في الأعماق ولكن كلما تنظر لا ترى سوى عبوس وألم وحسرة على حظها السيء الذي حرمها السعادة في مثل هذا اليوم الذي لا يتكرر سوى مرة واحدة ! ، وانقباض قلبها يزداد كلما يقترب انتهاء الزفاف لا تعرف سبب هذا الانقباض ، فيأتي دور عقلها الذي لا يهدأ عن تشويشها وإتعابها ويقول ” لما الحزن ياعروس !؟ ، فأنتِ من اخترتي الزواج وإنتِ لا تحبيه .. وأخبرتكِ أنه لا يصلح لك وعلاقتكم لن تستمر كثيرًا ولكنك أصرّيتي على قرارك الخاطىء ، هذا الرجل لا تستحقيه يامخادعة ، هو يستحق امرأة تحبه كما يجب أن يُحب .. ولكن بقائه معك أكبر خطأ ارتكبه وكلاكما سيدفع ثمن هذا الخطأ ! ” هذه المرة عقلها قال الحقيقة كاملة ولكنها تجهل الإجابة عن سؤاله عن سبب حزنها !! ، ربما يكون سببه عدم تمكنها من حبه وهي تريد أن تنعم بحياة زوجية سعيدة معه ، أو ربما يكون لأن ضميرها يأنبها بشدة أنها كذبت عليه واستغلته طعم في بادئ الأمر لترضي كبريائها الذي دمره خطيبها السابق !! ، وهي لا تنكر أنها كانت ترغب في زواج يعيد لها كرامتها ولكن بعدما تعرفت عليه جيدًا تغيرت أهدافها لتصبح محاولات للتمسك به والوقوع في شباك عشقه ولكن يزال ضميرها يذكرها دومًا بهدفها منذ البداية والذي ربما يكون قائم حتى الآن !! .
فاقت من شرودها على صوت رفيف وهي تسألها عن أحولها ولما شاردة فتقابلها بابتسامة مزيفة وتنظر للجميع بأسى وبعد لحظات تجد صديقتها تسرع نحوها بوجه مذعور وتهمس في أذنها :
_ ملاذ أحمد برا
انتفضت جالسة وقالت بتوتر شديد :
_ إيــــــه ، وهو عرف إزاي إن فرحي النهردا !!؟
_ معرفش أنا تلفونك كان معايا ورن فرديت ومعرفش إنه هو ، لقيته بيقولي خلي ملاذ تطلعي وإلا هعملها مشكلة
تطلعت لصديقتها بتردد وخوف ولكنها حسمت أمرها وشعرت بأنها فرصة لكي تستعيد كرامتها المهدرة ، فاقتربت من أذن مي هاتفة :
_ أنا هطلعله ولو حد سألك عليا قوليلوا روحت الحمام أظبط الفستان
قبضت على ذراعها بعنف هاتفة بارتباك امتزج بالغضب :
_ تطلعيله إيه إنتي اتهبلتي ولو حد شافك هتقولي إيه !!
لم تصغي لها وقالت بإصرار :
_ متقلقيش محدش هيشوفني أساسًا مكان الرجالة بعيد من هنا شوية
_ طاب استني هاجي معاكي !
قالتها مي بعدم حيلة عندما وجدتها مصرة ولكنها رفضت رفضًا قاطعًا وتحركت نحو الحمام أولًا حتى لا تجعل أحد يشك بها ومن ثم تسللت دون أن يشعر بها أحد ، وجدت مي هدى تسألها بتساءل :
_ راحت فين ملاذ ؟
هتفت بارتباك بسيط :
_ راحت الحمام تظبط الفستان وجاية ، قولتلها أروح معاكي قالتلي لا هعرف اتصرف لوحدي
أماءت لها بإيجاب في ابتسامة عذبة أما رفيف فقد راحت تجيب على أخيها الذي كان صوته متلهفًا :
_ رفيف قولي لو في حد قاعد بشعره يلبس الطرحة أنا واقف برا وهدخل اشوفها
أجابت على أخيها ضاحكة :
_ إيه يازين شغل العيال ده ، ما خلاص كلها ساعتين وتاخدها وتروحوا بيتكم وتشوفها
قال بعدم صبر واغتياظ :
_ عايز أشوفها مشوفتهاش وإنتوا خلتوها تلبس الفستان وخدوتها علطول عندكم من غير ما أشوفها حتى
أكملت ضحكها هاتفة تقترح عليه حل وسط :
_ مينفعش تدخل بص إيه رأيك هصورها وابعتهالك تشوفها طالما إنت مش قادر تصبر كدا
_ طيب صوريها بس يلا بسرعة
_ حاضر بس هي راحت الحمام دلوقتي لما ترجع هصورها وابعتهالك
دهش عندها رآها تتجه نحو الخارج للباب الرئيسي وهي تتلفت حولها كأنها تخشي من أن أحد يراها ، ماذا تفعل هنا ألم تقل شقيقته بأنها ذهبت للحمام .. أنزل الهاتف من على أذنه وتسلل خلفها دون أن تشعر فيجدها تقف مع رجل لم يراه من قبل ويسمع حوارهم الذي كالآتي …
_ إنت إيه اللي جابك مش مكفيك اللي عملته معايا وكمان جاي عاوز تعملي مشكلة في فرحي
انطلقت منه ضحكة ساخرة وهو يهدر في غضب :
_ فرحك !! ، ده على أساس إنك في قمة السعادة ، أنا متأكدة إنك لسا بتحبيني ومش قادرة تنسيني
هزت رأسها بالنفي وهي تجيبه بألم :
_ لا !!
قال في ثقة تامة واستنكار :
_ بجد !! ، كدابة ومتعرفيش تكدبي لو مكنتيش بتحبيني مكنتيش وافقتي تطلعيلي .. وكمان مكنتش هشوف الدموع دي في عينك ، مفكرتيش إيه رد جوزك لما يعرف إنك لسا بتحبي خطيبك القديم و إنك مبتحبهوش .. أنا بقول إننا بقينا متعادلين وإنتي كمان بقيتي كدابة ومخادعة والأفضل إنك تنهي المهزلة دي ونرجع لبعض
تبغضه بشدة ، لوهلة شعرت بأنها تستحقره أكثر من السابق ، والآن هي تكره ضعفها له ودموعها الحارقة المتجمعة في عيناها ، لا تريد أن تكون تحت رحمة عشقه ستجاهد في نزعها وستكون هذه البداية .
هتفت في تحدي وصوت مهزوز :
_ لمس السما اسهلك من التفكير في إننا ممكن نرجع لبعض ، وعارف أنا اتجوزت ليه ؛ عشان انتقم منك واخليك تحس بنفس الأحساس اللي حسيته لما خونتني يا أحمد ، يمكن أكون لسا بحبك فعلًا بس تأكد إن المشاعر دي زائلة ومش هتستمر كتير و…..
توقفت عن الكلام حين وجدته يصوب نظره على شيء بالخلف فالتفتت فورًا وهمست برعب جلي وصدمة :
_ زين !!!
…… نهاية الفصل …….
توقفت عن الكلام حين وجدته يصوب نظره على شيء بالخلف فالتفتت فورًا وهمست برعب جلي وصدمة :
_ زين !!!
رأته يقترب نحوهم حتى وقف أمام أحمد مباشرًا وجذبه من لياقة قميصه موجهًا له حديثه في صوت كان مرعبًا بالنسبة لها :
_ امشي من هنا بالذوق بدل ما أخليهم ياخدوك على نقالة
القي أحمد نظرة متشفية على ملاذ فلقد حالفه الحظ ويبدو أنه نجح في تخريب زفافها دون أن يبذل جهدًا ، عاد بنظره لزين ونزع قبضته عن ملابسه ثم هندم قميصه والقى عليهم نظرة بابتسامة استهزاء ثم استدار ورحل ، أما هي فكان جسدها يرتجف من الخوف والارتباك فآخر شيء كانت توده هو أن يعرف الحقيقة بهذا الشكل .. رأت في وجهه جموح وسخط مرعب ، لأول مرة تراه بهذا الشكل المخيف ، كان يتحاشي النظر لوجهها حتى لا يرتكب جرم يندم عليه فيما بعد ، فاستجمعت شجاعتها المزيفة وهمست في صوت كان به بعض التوسل أن يتركها تفسر له كل شيء :
_ زين أاااا…….
قطع كلامها صوته المريب والمتحشرج وهو يلقي عليها أوامر مفروغ منها ويضغط على كفه ليتمالك أعصابه التي على وشك الانفجار :
_ ارجعي الفرح جوا
وقفت تحدق به بأعين بائسة ودامعة وسرعان ما انتفضت واقفة وتراجعت للخلف قبل أن تستدير وتذهب مسرعة نحو الحمام ، عندما سمعته يصيح بها بصوت جهوري ووجه محتقن بالدماء :
_ سمعتي !
رأتها مي وهي تتجه نحو الحمام مسرعة عندما خرجت لتراها ولكنها دهشت حين رأت زين يتجه نحو سيارته ليصعد بها وينطلق مغادرًا الزفاف بأكمله ، فهرولت هي الأخرى راكضة وراء صديقتها وفتحت باب الحمام خلفها فتجدها منكبة على نفسها تبكي بحرقة وعنف لتسرع لها وتهتف بهلع :
_ ملاذ حصل إيه ؟!!
رفعت نظرها وقالت بصوت مرتعش من أثر البكاء :
_ عرف كل حاجة وسمعني وأنا بتكلم معاه وبقوله إني بحبه وإني اتجوزت زين عشان انتقم منه
كتمت شهقتها المنصدمة و المرتفعة بكف يدها ثم قالت في عتاب شديد :
_ أنا قولتلك متطلعيش إنتي اللي صممتي ومسمعتيش كلامي ، أنا شوفت زين دلوقتي وهو بيركب عربيته ومشي وساب الفرح
فغرت شفتيها بدهشة وازداد بكائها وهتفت بقلق حقيقي وندم :
_ هو عصبي جدًا ولو حصلتله حاجة وهو متعصب كدا مش هسامح نفسي أبدًا .. أنا السبب في كل حاجة واستاهل كل اللي يجرالي
ضمتها مي لصدرها مرتبة على ظهرها بحنو وتهمس في رزانة :
_ مش وقته الكلام ده دلوقتي ، إنتي دلوقتي هتفكري هتعملي إيه وهتتصرفي إزاي في اللي حصل ده، ومتقلقيش عليه إن شاء الله من هيحصله حاجة ، كفاية عياط بقى وقومي عشان اظبطلك المكياج ونرجع لهم
_ مش عايزة حاجة يامي أنا تعبت بجد
ملست على وجنتها برقة وهي تجفف لها دموعها هامسة في إشفاق عليها :
_ عارفة بس صدقيني كل حاجة هتبقي زي الفل والله أنا واثقة .. قومي يلا ابوس إيدك ومتخليش حد يشك كفاية هو عرف ، خلينا نحاول ننقذ ما يمكن انقاذه قبل ما يفوت الآوان
بقت جامدة تمامًا لا تصدر حركة ودموعها أخذت تسقط في صمت للحظات حتى توقفت وبدأت صديقتها تعيد مكياجها البسيط جدًا من جديد حتى لا يشك أحد بالأمر وأخذتها وعادوا لهم ، وجلست على مقعدها المخصص لها كالآلية لا تشعر بشيء مما أثار وضعها ريبة والدتها التي اقتربت منها وسألتها في قلق :
_ ملاذ في إيه مالك ؟
انتبهت لها فنظرت لها وتمتمت في هدوء مرير :
_ مفيش حاجة ياماما مرهقة شوية بس
***
أوقف السيارة جانبًا في أحد الشوارع ، ورجع بظهره للخلف مغمضًا عيناه باستياء امتزج بمرارته ، هل قبلت به لتأخذ منه درع تحمي به الباقي من كرامتها المهدرة !! .. كيف كانت تنظر في وجهه وتضحك وهي تحمل في قلبها غيره !! ، بل كيف يمكنها أن تكون بكل هذا الانحطاط وتقبل نفسها أن تكون زوجة لرجل وتترك قلبها لغيره !! . هل كان هذا هو جزاء الإحسان ؟! .
لا يدري أيلومها لأنها وضعته محل المغفل أم يلوم نفسه لأنه وثق بها ثقة عمياء وأحبها من أعماقه ، كان على أتم الاستعداد أن يجعلها أسعد امرأة في الكون سيغمرها بعشقه ولطفه وحنانه للدرجة التي تجعلها لا تطيق الابتعاد عنه للحظة ، ولكنها لا تستحق أن تظفر بهذا الحنان .. ياليتها أخبرته بكل شيء بنفسها كان سيحترم صراحتها وسيعلوا شأنها في نظره ولكن بفعلتها تلك سقطت من مقصورة نظره إلى أدني مستوى وأحقره .
الآن هو يجب أن يتحلى بالحكمة والرزانة وينهي كل شيء بهدوء ، هي أخطات وهو لا شك بأنه أخطأ أيضًا ويجب أن يكون عادلًا ، فمهما فعلت هو لن يتمكن من معاقبتها بقسوة وسيكتفي بهذا القرار الذي اتخذه الآن والذي سيكون أسلم حل لوضعهم . حرك محرك السيارة وانطلق عائدًا للزفاف بعد أن هدأت نفسه الثائرة قليلًا وأجاب على رنين هاتفه المتكرر بخشونة :
_ أيوة ياحسن
اتاها صوت أخيه مازحًا بمرح :
_ إيه شوفتها ياعم الحبيب ؟!
قال ساخرًا في نبرة صوت كان يجاهد في إخراجها طبيعية :
_ أممم شوفتها
_ طيب إنت فين ليه مرجعتش ، الكل بيسأل عليك هنا ؟
اكتفي بكلمة واحدة في حزم وأنهي الاتصال دون انتظار إجابة منه :
_ جاي
انزل حسن الهاتف من على أذنه باستغراب ونظر لكرم الجالس بجواره الذي سأله في فضول :
_ في إيه ؟!
زم حسن شفتيه للأمام بجهل متمتمًا :
_ معرفش شكل في حاجة حصلت ، صوته غريب
_ لا عادي متاخدش في بالك تلاقيه مش طايق نفسه عشان من الصبح مانعينه يشوف مراته
_ عندق حق
قالها حسن هو يضحك ليبادله هو بابتسامة بسيطة …..
***
كانوا مجتمعين في حديقة المنزل بعد أنتهاء الزفاف ويقضون جلسة عائلية مرحة وجميلة ويشاركهم حسن ويسر في هذه الجلسة التي كانت بين عائلة محمد العمايري فقط …..
هتفت رفيف في عبس بسيط :
_ والله القعدة دي ناقصة زين
هتف حسن بدوره مازحًا :
_ آه كان هيقولنا إيه القعدة اللي قاعدينها دي قوموا استفادوا بالوقت بدل ما إنتوا بتحكوا كدا
كان كرم يستمع لحديثهم ويكتفي بالابتسام كعادته في أي تجمع عائلي يفضل أن يكون مستمع صامت ، أما يسر فكانت تقشر من اللب الموضوع في الصحن أمامها وتهتف في جدية وابتسامة صافية :
_ لا بس ملاذ لايقة جدًا على زين ، اخترتي صح يامرات عمي طلعتي مش ساهلة !
قهقهت هدى بقوة وأجابت عليها في فخر :
_ لازم انقيله ست البنات ده الغالي ، وملاذ أدب وأخلاق ماشاء الله
قالت رفيف وهي تزم شفتيها للأمام في عدم اقتناع :
_ أنا مش نزلالي من زور معرفش ليه ، حساها خبيثة ولئيمة
_ بالعكس أنا شيفاها طيبة وكيوتة خالص
قالتها يسر ببساطة وهي لا تتوقف عن أكل وتقشير اللب كنوع من التسالي المفضلة لديها ، لتجيب عليها رفيف بضحك ومشاكسة :
_ الدنيا حصل فيها إيه ! .. يسر بتشكر في حد ، لا مش مصدقة !!
نقلت نظرها بينهم جميعًا في دهشة امتزجت بالإحراج وقالت متصنعة الغضب في كذب مكشوف :
_ على فكرة إنتوا ماخدين عني فكرة غلط ، أنا قلبي طيب وبحب كل الناس والله
نظرت رفيف لكرم الذي يطالع زوجة أخيه وابنة عمه مبتسمًا باتساع وقالت في مكر مرح :
_ طبعًا إنتي هتقولي كلنا نشهد على ذلك من طفولتك بتحبي الناس وعمرك ما أذيتي حد
أصدر كرم ضحكة مرتفعة رغمًا عنه عندما تذكر تلميح شقيقته لتستغرق هدى لحظات حتى تفهم سبب ضحكهم وتنفجر هي الأخرى ضاحكة ، أما هي فأخذت تفكر وتحاول فهم ما الذي تذكروه ولما انفجر كرم ضاحكًا ؟ ، وأول شيء خطر على ذهنها عندما كانت في سن السادسة وأخبرها والدها وعمها محمد بأنهم سيزوجوها لكرم فأخذت تصرخ بهم قائلة أنها لن تتزوج سوى حسن وأنها تكره كل البشر معادا هو وبعد دقائق خرجت لحديقة المنزل وكانوا هم يبنون غرفة خارجية في الحديقة فجمعت في يدها مجموعة من الحصى الكبير نسبيًا واتجهت حيثما يجلس كرم الذي كان يبلغ من العمر إثني عشر وأخذت تحدفه بالحصى وحاول هو أن يتفادها ويصيح عليها أن تتوقف إلى أن أصابت أحدهم رأسه ونزف الدماء !! .
اخفضت نظرها فورًا في إحراج وهي تتحاشي النظر إليهم و تخفي ابتسامتها الخجلة من ضحكهم حتى وجدت هدى تهتف من بين ضحكها :
_ طول عمرك مفترية يايسر ياحبيبتي
_ خلاص بقى ياجماعة أقوم طيب عشان تبطلوا تحفيل عليا !!
توقف كرم عن الضحك عندما أخرج هاتفه الذي يصدر رنينه وقرأ اسم المتصل لينهض من جانبهم ويبتعد قليلًا ليجيب ، أما حسن فقد اقترب من أذنها هامسًا في خنق :
_ ممكن تبطلي أكل اللب عشان صوته بيعصبني
رمقته ببرود ثم وضعت واحدة بين أسنانها وضغطت عليها لتصدر الصوت الذي يستفزه وغمغمت في أذنه بهدوء مثير للأعصاب :
_ ملكش دعوة مش عاجبك قوم من جمبي
صر على أسنانه ياغتياظ يحاول أن يبدو بمظهر الهادئ وأن يتصنع الثبات ، فانحني للأمام ناحية المنضدة الصغيرة والتقط الصحن من عليها متصنعًا أنه يريد أن يأكل وأسقطه عمدًا على الأرض للتتناثر حبات اللب جميعها على الأرض فتنحني يسر لتلمهم حتى لا يدعس أحد عليهم أحد فتجد هدى تخبرها بعفوية أن تتركهم وأن حارس الحديقة سيأتي بعد قليل وسيقوم بتنظيف الحديقة بأكملها ، لتعود لجلستها الطبيعية وترمق الجالس بجانبها شزرًا وهو لا يبالي لها مطلقًا .
أجاب كرم على الهاتف ليتلقى خبرًا من الحارس الخاص بشفق كان بمثابة الصاعقة التي نزلت عليه ، ويخبره بوضوح أن والدة صديقه قد أخذوها للمستشفى وتوفت نتيجة لغيبوبة سكري مفاجأة والمسكينة ابنتها في حالة يرثي لها وقد اعطوها حقنة مهدئة حتى تتوقف عن الصراخ والبكاء ، فانهي معه الاتصال فورًا وهرول ناحية سيارته ليستقل بها وينطلق وسط نداء أمه عليه التي فزعت من منظره المذعور !!! …..
***
مرت نصف ساعة منذ قدومهم للمنزل وهي كامنة في الغرفة لا يصدر لها صوت وهو بالصالون يجلس على الأريكة ، مستندًا بمرفقه على مسندها الجانبي وكفه على جبهته .
هل كان يستحق مافعلته به !؟ .. لماذا أخفت عليه أنها لا تحبه ولا تريده ؟!! .. هل العبث بالمشاعر مباح بالنسبة لها !؟ .. قبلت أن تكون زوجة له وهي تعرف عواقب هذه الخطأ الذي لا يغفر ! ، ياليته لم يحبها مثلما فعلت هي ، فربما معاناته الآن كانت ستكون أقل .
اعتدل في جلسته وأخذ نفسًا عميقًا بعد أن استعد لمواجهتها وهب واقفًا ثم سار صوب الغرفة التي من المفترض أن تكون غرفتهم !! ، فتح الباب دون أن يطرق ليجدها تجلس على الفراش وكما هي منذ أن دخلت الغرفة لم تنزع حجابها حتى ، فيدخل ويترك الباب مفتوحًا ثم يجلس على المقعد الوثير أمام المرآة وعم الصمت بينهم لدقيقة كاملة وهو يتابعها ويرى قسمات الخوف الممزوجة بالحزن على محياها وهي تطرق رأسها أرضًا ، ليبتسم بسخرية ومرارة عندما فهم مايدور في ذهنها .. هل حقًا تظنه سيثأر منها لكرامته ورجولته التي كسرتها عندما رآها تتحدث مع رجل وتقول له بكل وضوح أنها تحبه هو ولا تحب زوجها !! .. ولكن لديها العذر فهي لم تعرفه جيدًا بعد وإلا لما كان رأى نظرات الخوف في عيناها من أن يرفع يده عليها ويضربها ! .
أصدر زفيرًا قوي سمعته هي جيدًا ثم سمعت صوته القاسي وهو يتحدث بثبات لم تتوقعه منه :
_ أنا مش هطلب منك تفسير على اللي حصل لإني مش عايز أعرف واللي سمعته كفاية أوي ، فأنا عايزك تركزي في اللي هقوله دلوقتي كويس .. كل اللي بينا انتهى واظن إن احنا مش لبعض وإنتي أكيد هتلاقي الشخص اللي يناسبك وتحبيه ، فعشان كدا هعمل حساب لكلام الناس وجوازنا هيستمر لمدة شهر وبعديها هطلقك وكل واحد فينا هيروح لحاله ، لأن أنا مش هقبل إني أعيش مع واحدة عقلها وقلبها مع راجل غيري .. مش هقبل تكوني في حضني وبين إيديا وعقلك مشغول بالتفكير في غيري ، إنتي وافقتي تتجوزيني واستخدمتيني وسيلة عشان تنتقمي من خطيبك السابق اللي إنتي لسا بتحبيه .. وكملتي لغاية ما كتبنا الكتاب ، إنتي عارفة يعني إيه تكوني على ذمة راجل .. يعني قلبك وتفكيرك ميبقاش غير ليه بس واللي إنتي كنتي بتعمليه ميطلقش عليه غير مسمى واحد وهو الخيانة ، وكنتي بتكدبي عليا لما بسألك عن سبب انفصالك بخطيبك
سالت دموعها وهتفت مقاطعة إياه في صوت باكي ونادم محاولة الدفاع عن نفسها المذنبة :
_ أنا مكنــ ……
توقفت حين وجدته يهتف في حزم ونظرات مميتة :
_ أنا لسا مخلصتش كلامي ومش عايز اسمع صوتك نهائي لغاية ما اقول اللي عندي وأقوم
التزمت الصمت فورًا وعادت تجفل نظرها أرضًا مجددًا وتترك العنان لدموعها التي تنهمر بصمت وتستمع له وهو يكمل بنفس نبرته القاسية بل وأشد قسوة :
_ الحياة بينا خلال الشهر دي هتكون بحدود ، كل واحد فينا في أوضة ولو مش حابة تواجهي قسوتي يبقى تجنبيني ومتخلنيش اشوف وشك أبدًا طول ما أنا موجود في البيت ، لإني مش طايق أشوفك أصلًا ولا اسمع صوتك ياملاذ ، واللي حصل ده ياريت محدش يعرف بيه ولا يعرف إننا بعد شهر هنتطلق هنتصرف طبيعي قدام أهلك وأهلي .. مفهوووم
هزت رأسها بالموافقة ودموعها تزداد في الأنهمار ، أما هو فوقف وانصرف متجهًا للغرفة المجاورة ، لتقف هي وتسرع بإغلاق الباب وتنكب على الأرض باكية بعنف ولا تتمكن من التقاط أنفاسها من شدة البكاء ، تقسم له أنها لم تكن تقصد خيانته وتغيرت تمامًا بعدما تزوجته وأصبحت تحاول جاهدة لنزع ذلك العشق المحرم من قلبها لتكون ملكًا له بجميع جوارحها .. ولكن الأمر يحتاج لبعض الوقت ولو اعطاها الفرصة فهي بالتأكيد ستصلح الجرم الذي ارتكبته في حقه وستثبت له أنها تريد أن تكون زوجته هو ولا تريد أن يكون في قلبها رجل غيره ، ولكن للأسف فلا سلطان على القلب !! .
***
كان يقود خطواته الراكضة نحو باب المستشفى حتى استوقفه انتظار الحارس فتوجه إليه وهتف في زعر :
_ حصل إيه يامسعد ؟
أطرق رأسه في أسف وحزن مغمغمًا :
_ أنا كنت تحت عند باب العمارة ومرة واحدة لقيت عربية الإسعاف وقفت وطلعوا على فوق مجاش في بالي إنها هتكون والدة الأنسة شفق نهائي وبعديها بدقايق لقيتهم نازلين وهما شايلنها على النقالة وكانت قاطعة النفس يعني متوفية من قبل ما توصل المستشفى وركبت الأنسة شفق معاها في العربية وأنا جيت وراهم علطول والدكتور بمجرد ما كشف عليها قال إنها متوفية بسبب غيبوبة سكر
مسح على وجهه وهو يتأفف بقلب موجوع ويهتف معنفًا إياه :
_ وإنت متصلتش بيا ليه من وقت ما جات عربية الإسعاف
_ تلفوني كان فاصل شحن واستنيت لغاية مايشحن شوية واتصلت بيك
_ طيب وهي فين دلوقتي ؟
أجابه في خفوت :
_ منتظرين حد يخلص إجرارات الوفاة والخروج عشان تبدأ في تصريحات الدفن ، والأنسة شفق انهارت وادوها حقنة مهدئة وصحبتها جات من حوالي خمس دقايق ومعاها دلوقتي
استقرت في عيناه نظرة مريرة ثم تركه وسار نحو الداخل ببطء ، إلى متى سيستمر في تلقى أخبار وفاة احبائه ، إلى متى سيظل هو من يتولي تصريحات دفنهم ويكون هو أول من يدخلهم لقبرهم .. ذاق العذاب لأول مرة عند وفاة والده ومن بعده زوجته ولحق صديقه بها والآن المرأة التي لطالما أحبها وأعتبرها أمًا ثانية له !! .
جلس على أقرب مقعد وجده أمامه واحني رأسه دافنًا إياها بين راحتي يديه وأعتق دمعة كانت تحارب من أجل السقوط ، كانت تحارب لأجل كل الآلام والأوجاع التي سكنت قلبه بفراق أحبته .. أصبح يخشى العيش أكثر فيشهد فَقد عزيز آخر ! .
بعد مرور دقائق من الصراع والحزن هب واقفًا واتجه نحو الغرفة التي تكمن بها شفق وطرق الباب بهدوء شديد ، ففتحت له نهلة التي كانت عيناها تذرف الدموع بغزارة .. حتى جاءها صوته الضعيف وهو لا ينظر لها :
_ عاملة إيه دلوقتي ؟
غمغمت في صوت باكي :
_ جاتلها حالة انهيار وعصبية بقت تصرخ بطريقة هستيرية أنا مشوفتهاش كدا يوم وفاة سيف ، والممرضات ادوها حقنة مهدئة ولسا نايمة
قال في إيجاز لعدم قدرته على التحدث :
_ طيب خليكي جمبها معلش ومتسبهاش لغاية ما اخلص الإجراءات وكل حاجة
أماءت له بالموافقة وهي تمسح دموعها التي تسقط تلقائيًا حزنًا على صديقتها وأمها ، بينما هو فاستدار وانصرف …..
***
انتهت اجراءات الدفن كاملة وتم العزاء ومر يوم كاملًا ومع فجر اليوم الأول كان ضوء الشروق خافت في السماء والأجواء هادئة تمامًا في الشوارع ، إن قمت بإلقاء أبرة ستسمع صوتها كأنها قطعة حديد سميكة !! .
كان يسير على قدميه وحيدًا واضعًا قبضتيه في جيبي بنطاله ، بعد أن قضى وقته المعتاد مع كل من زوجته وصديقه يشكو لهم همه وألمه ولا تخلو جملة دون أن يبوح بمدى شوقه وتعطشه لمعانقتهم مجددًا ، فقد بدأت الأعباء تثقل وظهره بدأ في الانحناء ولكنه يعافر ولا يقبل الضعف ! .
وصل أخيرًا بعد دقائق طويلة من السير على الأقدام وفتحوا له حراس البوابة الرئيسية الباب ليدخل بهدوء تام ويتجه نحو الأريكة المتوسطة في آخر الحديقة ثم يلقى بجسده عليها ، لتركض التي كانت تقف في شرفتها منتظرة قدومه على أحر من الجمر وبعد لحظات وقفت أمامه ثم انحنت وملست على شعره الغزير مغمغمة في حنو وعتاب رقيق :
_ كرم كنت فين يابني لغاية دلوقتي قلقتني عليك ؟!
فتح عيناه المرهقة وابتسم لها ببساطة ثم التقط كفها وقبَّل باطنه في رقة واعتدل جالسًا لتجلس هي بجواره وتهمس في شفقة :
_ مالك ياكرم ؟!
تطلع إليها بأعين تسبح بها الدموع الموجوعة ثم اقترب والقي بنفسه بين ذراعيها لينعم بحنانها الذي يزيح عن نفسه شقائها ، ويخرج صوته مبحوحًا :
_ تعبان يا أمي تعبان أوي
هطلت دموعها بغزارة حرقة وألم على عزيزها وفلذة كبدها الذي ينهار رويدًا رويدًا أمامها وهتفت بنبرتها الباكية :
_ ليه بتعمل في نفسك كدا ياحبيبي .. كفاية يابني ابوس إيدك !
وجدته يهتف في ابتسامة تحمل كل أصناف الشقاء :
_ الموت مخدش مني غير اللي بحبهم ، وبقيت بفكر ياترى الدور على مين تاني ، وبتمني يكون عليا أنا عشان ارتاح
عنفته بشدة من وسط بكائها الذي اشتد :
_ بعد الشر عليك .. لو حصتلك حاجة هتلاقيني وراك أنا مستحملش أشوف فيك شر إنت وإخواتك ، أنا حاسة بيك بس حزنك مش هيفيدهم بحاجة ادعيلهم وبص لحياتك ولنفسك ياحبيبي
غمغم في مرارة وأسى :
_ سيف سابلي أمانة تقيلة أوي وخايف مكونش قدها واضيع الأمانة ، أروى برضوا كانت أمانة وضيعتها ومحافظتش على الأمانة .. في اليوم ده فضلت ترن عليا عشان تقولي إنها طالعة ورايحة فين وأنا مردتش عليها .. ليه ؟! ، عشان كنت في اجتماع .. أنا فضلت الشغل عليها وهي راحت !!! ، وراحت بأبشع الطرق وسابت نار جوايا مش هتتطفي غير لما أخد حقها
_ ربنا يرحمها ياحبيبي ، هي في مكان أحسن منينا
غمغم في صوت يغلبه البكاء :
_ وحشتني أوي يا أمي
جففت دموعها وحاولت امساكهم حتى لا يسقطوا مجددًا ، ثم أخذت تملس على شعره كما كانت تفعل في صغره .. فشعره نقطة ضعفه يهدأ وسسكن تمامًا عندما يلامسه أحد .
مرت دقائق قليلة وهي لا تزال تملس عليه بحنو حتى خرج صوتها مهتمًا :
_ شفق عاملة إيه دلوقتي ؟
ابتعد عنها ومسح على وجهه مغمغمًا بأسى وإشفاق على تلك المسكينة :
_ عدى يوم وداخلين في التاني أهو ولسا زي ما هي مبتتكلمش والأكل صحبتها بتخليها تاكله بالعافية دخلت ليها النهردا حاولت اتكلم معاها وهي كأنها مش عايشة ومش سمعاني ومبصتش عليا حتى
تنهدت هدى في حزن وشفقة وقالت بقسمات وجه متأثرة :
_ ربنا يصبرها ، الصراحة كتر خيرها .. البنت لسا مفاقتش من موت أخوها ودلوقتي أمها وهي ملهاش غيرهم ، إلا صح ياكرم هي ملهاش عم أو خال أو أي حد ؟
_ أمها كانت وحيدة أبوها وأمها وأبوها معاه أخ وفي مشاكل كبيرة أوي بينهم وعايشين برا وحتى لما مات ابن اخوه مهنش عليه ياجي يحضر العزا ، ربنا يصلح الحال .. أنا هستني الصبح يطلع وهغير هدومي وهروح أجيبها من المستشفى وأخليها تاجي تقعد هنا معانا مش هقدر أسيبها وحدها في البيت
ابتسامة خبيثة داخلية انطلقت في نفس هدى ، ولكنها اخفتها مم الظهور على شفتيها وقالت بإذعان لرغبته في جلبها للعيش معهم :
_ أعمل اللي تشوفه صح يابني
***
داخل شركة عائلة العمايري بعد ساعات ليست بقليلة ……..
كانت يسر في مكتبها وبيدها كوب الشاي الدافىء الصباحي الخاص بها ، وترتشف منه ببطء وهي تقف أمام النافذة تشاهد الداخل والخارج للشركة من نافذتها ، فإذا بنظرها يقع على المدعوة بـ ” رحمة ” وهي تسير صوب الباب مسرعة ، لتبتسم بسخرية امتزجت باللؤم وهي تهمس في نظرات شيطانية :
_ أدخلي ادخلي ياعمري .. ده أنا كنت مستنياكي !
ثم وضعت كوب الشاي على المنضدة وهندمت من ملابسها وتنصب جسدها لتقف شامخة ثم اندفعت للخارج متجهة نحو مكتب زوجها ، وقبل أن تدخل وقفت تتحدث للسكارتيرة في جدية مغمغمة :
_ ميرنا ، البنت اللي اسمها رحمة طالعة لما توصل اديني رنة وخليها تدخل علطول وادخلي وراها وقولي إنها دخلت بالغصب فاهمة
أماءت لها في إيجاب بابتسامة عذبة ، بينما هي فتوجهت نحو الباب وفتحته دون أن تطرق ودخلت لتجده يقف أمام الزجاج الشفاف ويولي ظهره للباب ، فأغلقت الباب ببطء واقتربت له بعد أن التقطت حبة عنب من الصحن الموضوع على المنضدة المتوسطة في نصف المكتب ، فسمعت صوته المختنق يهتف دون أن يستدير نحوها :
_ كان المفروض امنعك من الشغل مش هتبقى في البيت والشركة
اقتربت منه وعانقته من الخلف مغمغمة في دلال :
_ اخص عليك ياحسن !! .. على فكرة إنت بتجرح مشاعري !!
قبض على ذراعيها الملتفين حول خصره وازاحهم بهدوء وهو يستدير له هاتفًا في استهزاء :
_ إيه ده هو إنتي عندك دم !! ، أنا كنت فاكرك عديمة الإحساس
لفت ذراعيها حول رقبته ورسمت ابتسامة صفراء على شفتيها وهي تجز على اسنانها وتجيبه بغيظ مكتوم :
_ دمك شربات يابيبي !
لف ذراعه حول خصرها وقال في نظرة وقحة وكلمات قاصدًا منها أن يثير غضبها التي تحاول كبحه أمامه :
_ إللي يشوفك وإنتي عمالة تتدلعي كدا عليا ميشوفكيش يوم الفرح لما فضلتي تتوسليني عشان ملمسكيش ، لو غيرتي رأيك يبقي وفري الدلع ده لما نروح البيت ، بس خليكي فاكرة إن مهما تعملي مش هتقدري تغيري نظرتي ليكي
سمعت رنة هاتفها في جيبها ، فتحكمت في أعصابها وابتلعت كلامته المهينة في جوفها حتى لا تفسد خطتها وزادت من اتساع ابتسامتها المزيفة ثم قربت رأسها منه وطبعت قبلة رقيقة على وجنته وهمست بالقرب من أذنه في ثقة تامة :
_هنشوف !!
وكما خططت فتحت رحمة الباب وهي تبتسم باتساع وسعادة غامرة ولكنها تسمرت بأرضها عندما رأته في هذا الوضع مع زوجته التي كان يخبرها بالأمس أنه لا يحبها وسيطلقها !! ، لتتصنع يسر الانتفاض وتلتفت لها صائحة في غضب مزيف ومكر :
_ إيه ده إنتي ازاي تدخلي كدا ؟!
نظرت إلى ميرنا الواقفة خلفها واكملت صياحها المزيف بنظرات استطاعت فهمها :
_ إزاي تسمحيلها تدخل
تصنعت الأخرى الأسف وقالت :
_ أنا آسفة يايسر هانم مقدرتش امنعها
نظر حسن لميرنا وأشار لها بعيناه أن تنصرف ففعلت على الفور ثم عاد بنظره لرحمة هاتفًا في نفاذ صبر :
_ إيه اللي جابك تاني ؟!
صاحت رحمة في بكاء وحرقة :
_ إنت مش كلمتني إمبارح بليل وقولتلي إنك سامحتني خلاص وإنك بتحبني و هتطلق مراتك عشان مش بتحبها .. هي دي اللي مش بتحبها !!
طالعها بدهشة فهو لم يذكر أنها تحدث معها أبدًا ، أما يسر فقد بدأت تظهر عن مخالبها خاصة أنها تذكر هذه المحادثة جيدًا ، عندما عاد للمنزل بالأمس وهو ثملًا وقد سمعته وهو يحدثها بالهاتف ويخبرها بمدى عشقه لها وأنا سيطلقها وسيتزوجها تحت عبارة تافهة ” لإني بحبك ” ، تبًا لك ولحبك الساذج هذا .. فاقسمت بأن تذيقه من نفس الكأس الذي يجبرها على ابتلاع ما به من جفاء ولكن عندما يحين الوقت المناسب .
هتف وهو يضحك بسخرية :
_ أنا قولتلك كدا !! .. أنا مش فاكر إني قولت حاجة زي دي أبدًا وحتى لو قولتها فهي أكيد مش حقيقة
همت بأن تجيب عليه ولكنها وجدت قبضة يسر تقبض بعنف على ذراعها وتسحبها معها للخارج ، فلم يحاول أن يمنع زوجته بل تركها لتفعل بها ما تشاء فتلك الساقطة تستحق كل شيء حتى ولو كان يزال يضمر لها القليل من العشق في قلبه .
زجت بها يسر داخل المصعد وقالت في نظرات نارية ومتقدة تحمل التهديد :
_ أظن شوفتي وادركتي إنه بيحبني أنا وإني مراته وهفضل لغاية آخر نفس فيه مراته ، فإنتي زي الشاطرة كدا هتبعدي عن جوزي وهتبطلي تحومي حواليه وإلا هتشوفي مني حاجة مش هتعجبك ، ومتنسيش إنه معرفش غير نص حقيقتك فاحترمي نفسك وابعدي بكرامتك ، ده آخر تحذير ليكي يارحمة إنتي متعرفنيش لسا فتجنبي غضبي أحسن
ثم ضغطت على زر المصعد لكي يعود بها للدور الأرضي وطالعتها شزرًا والباب ينغلق ببطء ثم التفتت وعادت لمكتبها وهي تستشيط من الاستياء والازدراء وتهمس :
_ قال يطلقني ، دي نجوم السما اقربلكم !!
***
انتهى من ارتداء ملابسه التي هي عبارة عن بنطال أسود وقميص رصاصي اللون ويعلوه سترته السوداء ، وقف أمام المرآة وصفصف شعره جيدًا ثم وضع مفاتيحه وهاتفه في جيبه وهم بالانصراف
ولكنه توقف عندما خطرت على ذهنه ، من أين أتى قلبه بكل هذه القسوة ليترك المسكينة حبيسة غرفتها منذ ليلة الزفاف ، مر يوم وليلة واليوم هو اليوم الثاني لهم ولم يراها سوى مرة واحدة وكأن كل منهم يعيش في منزل منفصل وليس الغرف فقط !!! .. انتابه القلق والخوف عليها من أن يكون قد أصابها مكروه فهي لم تخرج من غرفتها مطلقًا ولا يسمع لها نفس حتى ، هو من اختار أن يستمر زواجهم لشهر كاملًا ويجب عليه أن يحكم بينهم بالعدل ولا يترك جموحه يسيطر عليه ، لابد من الاعتناء بها قليلًا حتى لو كانت لا تستحق اعتنائه .
خرج من غرفته وكانت وجهته الأولى نحو المطبخ فتش في الثلاجة عن الطعام الذي أحضره صباح الأمس فوجده كما هو لم يلمس حتى ليتأفف بمفاذ صبر مرددًا ” استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيم وأتوب إليه ” ، هذه الحمقاء على الغالب تود أن تموت من عدم الأكل !! .
تحرك صوب غرفتها وفتح الباب على مصراعيه ، لتنتفض هي واقفة مطأطأة رأسها أرضًا من على الأريكة التي كانت تجلس عليها وتضم ساقيها لصدرها متفردة بعنائها وشقائها ، شعرت به يقف أمامها مباشرة ويهتف في صوت غاضب :
_ وآخر ما تحبسي نفسك هنا ومتاكليش هيحصل إيه ولا هيتغير إيه يعني !
كانت لا تجرؤ على رفع عيناها والنظر إليه فما كان منها إلا أنها أغمضت عيناها وعضت على شفتها السفلى في مرارة ، وتسمعه يكمل في صرامة :
_ مكالتيش حاجة من إمبارح صح !!؟
هزت رأسها بالإيجاب وهي تحاول الإمساك على دموعها التي تقيم الحرب عند جفنيها لتنل حريتها وتسقط ، ليأتيها سؤاله الثاني في ترقب ولكنه لم يكن يقصد به عدم تناولها للطعام أبدًا :
_ ليه ؟!
لم تجبه وظلت على حالها تنظر للأرض في صمت وإذا بها تشعر بقبضتيه على ذراعيها ويهزها بقوة هاتفًا في أعين تعاني من ألم الخيانة والعشق :
_ بصيلي وردي عليا .. ليه ؟! .. ليه عملتي فيا كدا أنا عملتلك إيه ! ، ده أنا كنت مستعد اعيشك عيشة الملوك ، كنتي شيفاني مغفل للدرجة دي ! ، لدرجة إنك هتدخلي بيتي وتنامي معايا في نفس السرير ومش هحس ولا هشك فيكي ، كنت مسيري هعرف بس ربنا أراد إني أعرف قبل ما يفوت الآوان
انفجرت باكية ورفعت نظرها إليه أخيرًا وهي تهتف بصوت مرتجف :
_ صدقني ما كانت في نيتي إني أخدعك أو أخونك بمجرد إني أقبل أكون على ذمتك وأنا بفكر في راجل غيرك ، أنا مش هنكر إني غلطت بس والله العظيم بعد ما كتبنا الكتاب أنا خدت عهد على نفسي إني هعمل المستحيل وهشيله من عقلي وهكون ليك بكل جوارحي ، أنا مكسوفة ما أرفع عيني في عينك لإني معترفة بغلطي
تركها وهدر ضاحكًا بسخرية وجفاء :
_ عارفة أنا كنت بحبك وبحترمك وبعزك بس أتضح إنك متستهليش المشاعر النقية دي ، وحتى لو حصل في يوم وسامحتك عمرك ما هتقدري تسترجعي المشاعر دي
ثم استدار واتجه ناحية الباب مغادرًا وتوقف قبل أن ينصرف هاتفًا في حدة :
_ مش عايز ارجع بليل الاقي الأكل في التلاجة زي ماهو .. كلي مش هتعاقبي نفسك بعدم الأكل !
قال آخر كلماته واندفع مغادرًا المنزل بأكمله لتنهار هي على الأرض باكية بعنف ولا تعرف كيف تتصرف في هذه المعضلة ، كيف يمكنها أن تستعيد ثقته بها وتجعله يسامحها ! .. فهي إن لم تمت من عدم الأكل فسيقتلها تأنيب ضميرها وشعورها بفداحة الذنب والخطأ الذي ارتكبته في حق نفسها وحقه ، لم تكن تود أن تصل الأمور لهذا المنحني أبدًا ! .. كانت ستعيش معه حياة ستشكلها بنفسها وكانت ستجاهد وتسعى لإزالة هذا العشق المحرم والمدنث من قلبها وتعلنه هو سلطانها الجديد ورئيس قلبها الأبدي لأنها تدرك قيمة الفرصة التي ارسلها الله لها وإن لم تكن تدركها كما يقول فما كان حالها هكذا الآن وهي تشعر بأنها خسرت فرصة ذهبية لن تعوض !! .
***
انتظر بالخارج لحظات وهو يبتسم براحة بسيطة فقد هدأت نفسه قليلًا عندما اخبرته صديقتها بأنها أخيرًا تحدثت ووضعها النفسي تحسن بعض الشيء ، خرجت مي من الغرفة وأشارت له بعيناها أن يدخل لها بعد ان طلب منها أن تخبرها بأنه بالخارج ويريد رؤيتها ، ففتح الباب ببطء ودخل بينما مي فذهبت للحمام .
جلب هو مقعد وجلس على مسافة معقولة منها مغمغمًا في ابتسامة رقيقة :
_ عاملة إيه دلوقتي ؟
غمغمت في أعين تائهة دون أن تنظر له :
_ الحمدلله كويسة
ساد الصمت لثوانٍ قليلة قبل أن تهمس في امتنان صادق :
_ شكرًا ياكرم على وقفتك جمبي ، أنا مش عارفة هوفيلك حق كل اللي عملته معانا ومعايا أنا بذات إزاي
هتف في نظرة دافئة وابتسامة شفتيه الساحرة تزين وجهه :
_ مفيش شكر بين الاخوات ياشفق ، ده واجبي !
هزت رأسها بالإيجاب وهي تبتسم بمرارة وألم ، يبدو أنها يجب عليها أن تكون نظرتها له أخوية فقط !! .
غمغمت في خفوت بابتسامة مزيفة :
_ أيوة مفيش شكر فعلًا بس إنت تستحق الشكر
_ طيب يلا جهزي نفسك عشان هتاجي تقعدي معايا في الڤيلا
نظرت له بذهول تحاول استيعاب ما سمعته أذنيها ! ، فلم تمر دقيقة وهي تقول أنها يجب أن تنظر له كأخ وهو يريدها الآن أن تقيم معهم في منزلهم وتعيش في نفس المنزل معه لتراه دائمًا أمامها في الصباح والمساء .. مستحيييل ! .
همست في صوت ضعيف :
_ لا لا أنا هقعد في بيتنا
تشدق في جدية تامة :
_ مينفعش ياشفق تقعدي وحدك في البيت
_ مش هقدر اسيب بيتنا ياكرم بجد .. متقلقش عليا هبقى كويسة إن شاء الله
قال بنبرة صوت خشنة :
_ متبقيش عنيدة واسمعي الكلام
تمتمت في بساطة شديدة :
_ مش موضوع عند والله بس أنا هبقى مرتاحة أكتر لما أقعد في بيتنا صدقني .. ارجوك بلاش تضغط عليا وسيبني على راحتي وأنا لو حصلت أي حاجة اوعدك هتصل بيك والله
لانت نبرته وقال في لطف وهو يهم بالنهوض :
_ طيب هسيبك على راحتك .. بس برضوا قومي يلا البسي عشان اوصلك البيت وأنا هستناكي برا
_ حاضر
قالتها في رقة وهي تقابل لطفه بابتسامة ناعمة على شفتيها الصغيرة وانتظرت انصرافه لتنهض من فراشها وتبدأ في تبديل ملابسها !! …..
***
…..في المساء …..
كان يقود سيارته بسرعة جنونية ولا يطيق الانتظار حتى يصل للمنزل لكي يطبق على حنجرتها ويخنقها ويتخلص منها للأبد ، تلك الشيطانة التي دمرت كل شيء بحياته .. فرقت بينه وبين الفتاة التي أحبها وجعلته يضطر للزواج منها ، والآن تغلي الدماء في عروقه كلما يتذكر ما روته له رحمة منذ قليل عندما اتصلت به وتوسلته أن يأتي لمنزلها لكي تخبره بشيء مهم يخص زوجته !! .
” مراتك هي اللي كانت السبب في اللي حصل بينا ، دلوقتي بس عرفت إنها هي اللي ورا كل حاجة ، أنا متجوزتش برضايا زي ما إنت فاهم أنا كنت مضطرة هددني إني لو متجوزتهوش هيأذي اخويا الصغير واتضح إن يسر هي اللي كانت مخططة لده كله ، ودلوقتي لما لقتني بحاول اقرب منك تاني هي اللي هددتني المرة دي بإنها هتأذيني وهتاذي اخويا ، دي شيطانة ياحسن صدقني ! ”
توقفت سيارته أمام المنزل وقاد خطواته الثائرة نحو الباب وفتحه بالمفتاح ليدخل ويغلقه خلفه بعنف صائحًا عليها :
_ يــــــــســــــــر !!!
توقفت سيارته أمام المنزل وقاد خطواته الثائرة نحو الباب وفتحه بالمفتاح ليدخل ويغلقه خلفه بعنف صائحًا عليها :
_ يــــــــســــــــر !!!
كانت تشاهد التلفاز وانتفضت جالسة بفزع على أثر صياحه وفورًا وثبت واقفة وقبل أن تخطو خطوة من مكانها وجدته يتقدم نحوها ويغرس أصابعه بعنف في ذراعها صائحًا :
_ إنت إيه .. شيطانة ! ، أنا كنت متوقع إنه هيكون ليكي إيد في اللي حصل بيني وبين رحمة لكن توصل بيكي الحقارة إنك تهدديها بأخوها الصغير اللي ملهوش ذنب وتبعتيلها واحد عشان تتجوزه بالغصب
أخذت ترمش بعيناها بذهول مما تسمعه منه وسرعان ما انطلقت منها ضحكة أنوثية مرتفعة وهي تشير إلى نفسها بسبابتها :
_ أنا هددتها بأخوها !!!!
استمرت بالضحك وهي تراه يشتعل واقفًا من الغضب وبعد ثانية بظبط توقفت عن الضحك واكتفت بابتسامة شرسة وهي تهتف :
_ أنا فعلًا هددتها ، بس هددتها بحاجة هي مش هتقدر تقولها ليك .. أنا مصدومة فيك كنت متوقعاك أذكي من كدا طلعت طيب لدرجة السذاجة وغبي عشان بكلمتين صدقتها
_ ومصدقهاش ليه ما أنا اتوقع منك أي حاجة !
دفعت يده عنها بعنف وصاحت به بنبرة صوت مرتفعة وقد وصلت لذروة سخطها :
_ أنا مش بخاف منك ولو عملت كدا هقولك في وشك أيوة أنا عملت ، لكن دي بنت **** ، كلبة فلوس وبعدين جواز إيه اللي اتغصبت عليه ضحكتني والله ، أنا فعلًا أنا اللي بعتلها الراجل ده ، وجوزها ده كان معرفة قديمة من أيام الكلية ومن عيلة كبيرة زينا بظبط وعشان هي قذرة وبتموت في الفلوس لما عرض عليها الجواز وقالها هيكتبلها الڤيلا اللي هيعيشوا فيها باسمها وهجيبلها عربية وهيديها اسهم في الشركة بتعتهم باعتك فورًا ، لازم تبيعك مش الموضوع فيه فلوس وأملاك ، هي كانت طمعانة في فلوسنا ولما لقت فرصة افضل منك باعتك ، وإنت بكل غباء قالتلك كلمتين وصدقتهم ، تقدر تقولي لو هو هددها فعلًا ليه مجاتش وقالتلك الحقني ياحسن وده عايز يأذيني أنا وأخويا ، مقالتش ليك عارف ليه ؟ ……
توقفت عن الكلام للحظات تعيد لملمة شتات قلبها الممزق والسيطرة على دموعها السابحة في عيونها ثم عادت تستكمل صياحها به بحرقة :
_ عشان هي أصلًا عمرها ماحبتك ، وإنت كنت دايب فيها ويمكن مازالت ، هي باعتك في أول محطة ولسا بتحبها ويسر هتفضل وحشة لو قتلت نفسها عشانك ، إنت مبتفكرش حتى تحاول تعاملني كويس وكرهك ليا مخليك أعمي .. أعمي عن أي حاجة حلوة بعملها عشانك .. مخليك مش شايف غير عيوبي ، وبنسبالك يسر قذرة وحيوانة وبتتكلم عن العشق وهي متعرفش يعني إيه عشق ، اللي لسا بتحبها دي تخلت عنك رغم كل اللي عملته عشانها وأنا رغم كل حاجة لسا متمسكة بيك وحبي ليك بيزيد مش بيقل ، رغم معاملتك واهانتك وكلامك اللي مفيش واحدة تستحمله لسا زي ما أنا بحبك وللأسف مش عارفة أكرهك وأحيانًا بتمنى إني أكرهك بجد ، ومش بعيد في يوم من الأيام أكرهك ووقتها هباركلك على الفوز العظيم اللي حقته ده وهقولك إنت اللي انتصرت
دفعته بعنف من أمامها لتعبر وتتجه نحو غرفتها وتغلق الباب على نفسها مطلقة حرية دموعها تسمح لهم بالانهمار بقوة !! ….
***
مذنبة !! .. هي لا تحتاج لأحد لكي يذكرها بأنها مذنبة هي تعرف حق المعرفة أنها اخطأت ويجب أن تدفع الثمن أي كان ، ولكن ماذا إن اختارت هي الطريقة التي تعاقب بها فهناك عقاب يحتمل وآخر لا يحتمل !! .
ربما لم يتمكن من اعتلاء عرش قلبها حتى الآن ولكنه بالتأكيد نجح في تثبيت وسامه في مكان ما بداخلها .. ولا يفشل في أن يزيد كل يوم مكانة وشأن في نظرها .. لا يفشل في كل مرة أن يجعلها تصمم على عدم خسارته حتى لو كانت تعرف أنها ستعاني قليلًا معه ، ولكنها على اعتقاد تام بأن سيأتي يوم وستعلن عهد السلطان الجديد على مملكتها الخاصة ولا سيما في أنها ستحارب من أجل الوصول لهذا اليوم ! ، هي مازالت لا تعشقه ولكنها أيضًا لا تكرهه بل تكن له كامل الود والاحترام .
هو لديه الحق فيما قاله صباحًا إضرابها عن الطعام لن يجدي بأي نفع عليها ، لن تستفاد شيء عندما تسجن نفسها بين أربعة حوائط وتزج بنفسها بين طيات الحزن ، بل يجب عليها أن تتصرف كالنساء وتحمي عشها من الانهيار حتى ولو كان هذا العش تم بنائه على الكذب والخداع فهي بإمكانها أن تعيد بنائه بالثقة والعشق والرحمة والرفق .. بإمكانها أن تحول العش لقصر منيع لا تهدمه حتى أقوي الرياح المدمرة ، وسيكون ثابتًا كالجبال في وجه كل الظروف ، ولكنها تحتاج لمزيد من الشجاعة والثقة بالنفس حتى تتمكن من النجاح وإصلاح ما أفسدته ، ولتثبت له أنها لا تريد ذلك العشق الذي كان يحتلها وتريده هو .. أجل كان ! ، الآن هي تشعر بنفسها طائر حر طليق وتركوه حرًا ولكن تركو بيده الإغلال ، أي أنها لا زالت تحمل آثار الماضي وذلك العشق ولكنها ستلوذ للشخص المناسب وسيفك عنها هذه الإغلال التي باتت تخنقها.
الآن هي يجب عليها أن تعمل بنصيحة صديقتها وتحاول التقرب منه .
نهضت من فراشها واتجهت للحمام لتأخذ حمامًا دافىء ثم خرجت وارتدت ملابس منزلية جميلة ورقيقة وصفصفت شعرها جيدًا ثم تركته حرًا وغادرت غرفتها متجهة نحو المطبخ وقامت بتحضير عشاء قيم يكفي لفردين وبعد دقائق طويلة انتهت وقادت خطواتها المترددة نحو غرفته ، وقفت أمام الباب للحظات تفرك كفيها بتوتر تحاول استجماع شجاعتها للتحدث إليه ، أخذت شهقيًا وأخرجته زفيرًا متمهلًا ببطء لثلاث مرات حتى حسمت امرها وطرقت الباب منتظرة منه الرد ولكنه لا يجيب فعادت تطرق مجددًا ولا يأتيها صوته أيضًا ، فقبضت على مقبض الباب تديره ببطء وتفتح الباب بحذر شديد لتنظر بنصف وجهها من الباب فتجده راكعًا على سجادة الصلاة يقضى فرضه ، فابتلعت ريقها بارتباك وفتحت الباب جيدًا ثم أهلت منه ووقفت بجانبه تنتظر إنتهائه ، وبعد لحظات قليلة انتهي ونظر لها بريبة مغمغمًا :
_ في إيه ؟!
تلعثمت ولفت ذراعيها خلفه ظهرها لتعيد فرك كفيها بتوتر هامسة :
_ أنا حضرت العشا
هب واقفًا والتقط المصلاة من على الأرض ويجيبها ببرود وهو يطويها :
_ بالهنا والشفا
اقتربت نحوه في خطا متعثرة ووقفت خلفه تهدر برقة وأعين راجية :
_ تعالى اتعشى معايا أنا مش بحب اكل وحدي .. ممكن ؟!
القى بالمصلاة على الفراش ثم التفت بجسده كاملًا وهتف في حزم وامتعاض :
_ لا مش ممكن
ثم هم بأن يعبر من جانبها لينصرف فاعترت طريقه ووقفت أمامه مباشرة تطالعه بنظرات استعطاف وتهمس في توسل :
_ متكسفنيش .. ارجوك
ساد الصمت بينهم للثواني حتى وجدته يقول في خشونة دون أن يتخلي عن وجوم وجهه :
_ طيب روحي وهاجي وراكي
ارتفعت الابتسامة لشفتيها وأماءت فورًا في موافقة وانصرفت متجهة لطاولة الطعام المتوسطة ، تجلس على أحد مقاعدها بانتظار قدومه دون أن تمد يدها في أي صحن ، وإذا بها تجده يقترب ويسحب المقعد الذي في مقدمة الطاولة ويجلس ثم يبدأ في تناول الطعام وهي تنظر له بحزن تحاول جمع بعض الكلمات لتقولها ، وأخيرًا تحدثت بأسف وهي مجفلة نظرها أرضًا :
_ أنا .. غلطانة وأنا مش بلومك على أي حاجة قولتها وعملتها أو هتعملها وهتقولها ، لإنك عندك حق أنا مكنتش قد الثقة وخنتها أنا كنت بتكلم دايمًا وبقول إن مفيش علاقة بتكمل لو مفيهاش ثقة والعشق بنسبالي ثقة ، وأنا خنت نفسي قبل ما أخون ثقتك فيا .. أنا مش هطلب منك تسامحني لإني عارفة إنه صعب بل شبه مستحيل دلوقتي ، بس كل اللي هطلبه منك أنك تديني فرصة تانية أثبتلك إني ندمانة على اللي عملته وإني عايزاك إنت
ترك المعلقة من يده وهو يضحك بسخرية ويهتف في نظرة مشتعلة :
_ آااه اللي هو أنا بحب راجل غيرك بس عايزاك إنت !! ، أنا اديتك فرصة وإنت ضيعتيها وأهدرتيها من غير ما تدركي قيمتها وللأسف أنا مش بدي غير فرصة واحدة ومعنديش فرص تاني
قالت في صوت مبحوح وأعين دامعة :
_ مش عايزة أحبه أنا بكرهه ومبقتش بطيق اشوف وشه أصلا يعني اعتبرني خلاص مبقتش احبه ، أنا عاوزة أكمل حياتي معاك إنت يازين
أخذ نفسًا عميقًا وغمغم في قسوة :
_ إنتي لسا قايلة إن مفيش علاقة مفيهاش ثقة بتستمر ، وأنا مبقتش أثق فيكي ومش قادر اصدقك ، فمتحاوليش في حاجة أساسًا انتهت بنسبالي
سقطت دمعة متمردة من عيناها فاسرعت ومسحتها بأناملها ثم هبت واقفة وقالت بصوت يغلبه البكاء :
_ بالعكس دي لسا هتبدأ وأنا مش هيّأس ومش هرتاح غير لما اخليك تسامحني
ثم ابتعدت وقادت خطواتها السريعة نحو غرفتها ، فالتفت برأسه ناحية باب الغرفة الذي اغلقته خلفها وتنهد باختناق ثم عاد ينظر للطعام الذي أمامه بدون شهية وهب هو الآخر واقفًا ينقل الصحون للمطبخ ويضعها بالثلاجة ثم توجه بدوره لغرفته !! ….
***
كانت تسير في الشارع عائدة من الكلية في صباح شمسه دافئة تبعث الدفء والراحة في الجسد مع رياح الشتاء الباردة ، تضم كتاب ضخمًا إلى صدرها بذراعها اليسار وعلى الذراع الآخر حقيبة يدها المتوسطة ، وبينما هي في طريقها تسير مباشرة دون أن تتلفت حولها ، استمعت إلى من ينده عليها كأنها قطة ( بالبسبسة ) ! فالقت نظرة بطرف عيناها لتجدها سيارة ولكنها لم ترى وجه من يقودها فظنت أنه شاب منحل من الشباب الذين يغازلن الفتيات في الشوارع لتسرع في سيرها حتى تتفاده ولكنها توقفت حين سمعته يهتف باغتياظ :
_ بت يارفيف !!
قطبت حاجبيها واحست بأن الصوت مألوف عليها ، وفورًا التفتت تنظر له وأذا بها تصدر تأففًا قوي :
_ والله وقعت قلبي في رجليا ياخي حرام عليك
ابتسم ثم مد يده وفتح باب السيارة هاتفًا :
_ اركبي ياختي
استقلت بجواره واغلقت الباب لينطلق هو بالسيارة ويهتف مستنكرًا :
_ عرفتيني اول ما قولت يابت .. صحيح مبتجيش غير بالتهزيق !
امسكت بالكتاب الذي في يدها ورفعته في وجهه قائلة في تحذير باغتياظ :
_ علاء اتلم بدل ما تلاقي الكتاب ده نازل على دماغك واخليك تدخل في غيبوبة
كان عين على الطريق وعين على الكتاب الذي بيدها وهو يضحك مغمغمًا :
_ ده يفتح راسي مش يدخلني في غيبوبة ، اعوذ بالله بيتذاكر إزاي ده !!
اشاحت بوجهه للجهة الأخرى تخفي ابتسامتها ثم عادت له وقالت في استهزاء :
_ طبعًا هتعرف بيتذاكر ازاي ما تلاقيك مكنتش بتفتح كتاب في الكلية
_ طاب وليه الإحراج ده يابنت عمي بس !!
اطلقت ضحكة بسيطة لتجده يكمل في جدية بخفوت :
_عاملة إيه إنتي ؟
_ الحمدلله كويسة ، لقيت شغل وحاولت اقنع ماما وزين بس رافضين
هتف في صوت رجولي قوي :
_ شغل إيه دلوقتي بس يارفيف مش لما تخلصي كليتك الأول على الأقل
اعتدلت في جلستها وهتفت محاولة اقناعه :
_ أنا زهقت من قعدة البيت ياعلاء وخلاص أنا فاضلي ترم وأخلص وهاخد الشهادة وهشتغل بيها وماما كل اللي عليها تشتغلي ليه وفين وزين إنت عارفه دماغه قفل مفيش شغل .. طيب السبب ، من غير سبب طالما إنتي مش محتاجة للشغل يبقى ملوش لزمة ، ده حتى كرم بيقولي لا .. وحسن اللي بينصفني في كل حاجة يقولي الدنيا مش آمان وإنتي لسا صغيرة !! ، يعني هو عندي أنا لا وعند مراته تشتغل عادي
اطلق ضحكة قوية وأجابها ببساطة :
_ يسر بتشتغل ليها خمس في الشركة معانا وبعدين دي قدام عينا يعني مع ابوها ومعايا
_ وأنا كمان عايزة اشتغل في الشركة ، ولا عشان يسر محدش بيقدر عليها وبتفرض كلمتها عليكم مش بتقدروا ترفضوا ليها طلب
قالتها وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها باحتجاج ليجيبها ضاحكًا برزانة :
_ خلاص هكلم بابا وأقوله اخليه يقنع زين واخواتك وتشرفي معانا في الشركة
اشرق وجهها بابتسامة عريضة وأردفت بسعادة :
_ بجد ياعلاء هتقول لعمي !
رمقها بطرف عينه غامزًا بابتسامة وهو يهتف :
_ أممممم وهو احنا عندما كام رفيف في العيلة
رجعت بظهرها على المقعد وهي تقول بتحمس :
_ مع إني مش حابة الشركة بس يلا أهو امري لله هبدأ منها
القي نظرة عليها مبتسمًا ثم عاد بنظره للطريق يقود السيارة متجهًا إلى منزل عمه ، بينما هي فأخرجت هاتفها واخذت تعبث به تارة وتارة تتابع الطريق في صمت !! …….
***
جاثية أمام قبر والدتها تتلمس بيدها التراب المدفونة اسفله ودموعها لا تتوقف للحظة عن البكاء .. تذرف الدموع كأنها دماء من شدة ألمها وحزنها ، بقيت بلا أب ولا أم ولا أخ .. لم يعد هناك شيء يدعى أهل ، ستحرم من الدفء والحنان والعناية والسعادة وكل شيء ، ستكون حبيسة شجونها والآمها إلى الأبد ، وستظل تعاني ألم الفراق حتى تخرج روحها وتذهب لهم !! .
كان الحارس الخاص بها يقف على مسافة بعيدة قليلًا عنها ليترك لها حريتها في إفراغ ما يخنق نفسها ، فشعر بيد توضع على كتفه ليلتفت ويجده كرم ، فيبتسم في هدوء ويبادله هو الإبتسامة مربتًا على كتفه يسمح له بالذهاب ، فأماء له بالموافقة واستدار وسار مبتعدًا مغادرًا المكان بأكمله أما هو فحمل دلو الماء الصغير واقترب ناحيتها ثم وقف خلفها بمسافة قصيرة واسنده على الأرض ورفع كفيه لأعلى يبدأ في قراءة سورة الفاتحة بصوت منخفض ثم حمله مجددًا واتجه به نحو زرعة الصبار الصغيرة بجانب قبرها وقام بسقيها بالماء ، لتنتبه هي له وتنتفض واقفة لتنفض عن ملابسها السوداء الأتربة هاتفة باستعجاب :
_ عرفت إزاي إني هنا ؟!
وضع الدلو على الأرض بعد أن فرغ من الماء وغمغم في خفوت جميل :
_ مسعد اتصل بيا وقالي ، وحتى لو مكنش قالي أنا باجي كل يوم هنا بزور سيف وأروى
نسيَّت أن ذلك الحارس لا يتأخر في إخباره بأي مكان تذهب له ، ولكن لم تعد تهتم فليخبره كما يشاء وليؤدي مهتمه على أكمل وجه ، فبؤسها الآن أشد من أن تنشغل بأمره .
لاحت ابتسامة شبه خفية على شفتيها وعادت تحدق بقبر والدتها تدعو لها في صوت لا يسمع بأدعية خاصة بالمتوفي ودموعها تسقط من حفنيها في صمت ، ولتمر دقائق قصيرة وكل منهم يستخدم طريقة مختلفة في الدعاء ، وعندما وجدت نفسها ستنهار في البكاء أمامه ففضلت الرحيل وطلبت منه أن يذهبوا فلم يبدي أي اعتراض ورافقها حتى وصلوا لسيارته واستقلت بالمقعد المجاور له .
خرج همسها بعد دقيقيتن وهي مستندة برأسها على زجاج السيارة وعيناها معلقة على الطريقة :
_ قبل ما تتوفي بيومين كان بتكتبلي على الورقة دايمًا وتقولي أنا حاسة إني هروح لسيف قريب أوي وأنا كنت بضايق منها وبقولها وهتسبيني إنتي كمان زيه انا مليش غيركم وهفضل وحدي .. وأهي سابتني وبقيت لوحدي مليش حد حتى عمي ميعرفش إنها ماتت أساسًا ولو عرف مش هيسأل فيا ، مفضليش في الدنيا دي ناس غيرك
آخر كلمة نطقت بها جعلته ينظر لها باستغراب بسيط ، ولكنه لم يعرف بماذا يجيب عليها ، فأطال النظر إليها لثواني يحاول إيجاد الكلمات ولكنها لا تأتي وحين وجدها ستلتفت برأسها ناحيته فأشاح بنظره فورًا وثبته على الطريق ، لتبتسم هي بخفة رغم الكآبة المهيمنة عليها عندما فهمت أثر كلمتها الأخيرة على نفسه الخجولة وفهمت اضطرابه وعدم إيجاد الكلمات المناسبة .. نفسه الخجولة التي لا تزال حتى الآن تستعجب منها ولا يستوعب عقلها أن هناك رجل يخجل من النساء هكذا ، فقررت إصلاح ما تفوهت به وغمغمت في رزانة :
_ اقصد إني مبقليش حد غيرك إنت وطنط هدى ورفيف يعني مفاضليش غيركم
اتاها صوته أخيرًا وهو يبتسم بساحرية متمتمًا :
_ فاهم ياشفق ومتقلقيش هفضل دايمًا معاكي وجمبك لغاية ما اسلمك بإيدي لعريسك اللي يصونك عشان سعتها ابقى مطمن عليكي وأكون وفيت بوعدي لأخوكي ، واحنا بقينا اهلك خلاص وإنتي بقيتي واحدة مننا فمش عاوز اسمعك بتقولي تاني إنك لوحدك وملكيش حد
عادت تنظر للطريق وهي توميء له بتفهم وإيجاب لتجده يهتف بدفء بعد لحظات من الصمت بينهم :
_ أنا عازمك على الفطار النهردا ، أعتقد معندكيش مانع
هدرت في رفض رقيق وصوت ناعم :
_ مليش نفس والله ياكرم للأكل نهائي
هتف ببساطة متجاهلًا رفضها الهامشي بالنسبة له :
_ تمام يبقى موافقة .. على العموم احنا خلاص قربنا نوصل للمطعم أهو !
حدقت به لثلاث ثواني بالظبط ثم اشاحت بنظرها وهي تهز رأسها متنهدة بابتسامة مغلوبة على أمرها .. فلم يترك لها حق الاختيار واصبح حتى تناول الطعام بالإجبار ، مثل الحارس وغيره !! …..
***
نزع حذائه بجانب الباب ثم اتجه صوب غرفته وقام بتبديل ملابسه و القى نظرة على ساعة الحائط يتفقد الساعة ليجدها الثالثة عصرًا فيتنهد بإرهاق ويقترب من الفراش يلقي بجسده عليه سامحًا لعيناه بالانغلاق حتى ترتاح قليلًا من مشقة العمل منذ الصباح الباكر ، ولكن صوت ارتطام إحدى الأدوات المعدنية الخاصة بالمطبخ على الأرض والتي اصدرت صوت مفزع جعلته يثب جالسًا بزعر بعد أن كانت عيناه ستنصاع خلف رغبتها في الراحة وتشوقها للنوم .
مسح على وجهه متأفف ثم هب واقفًا وغادر متجهًا إلى المطبخ ثم وقف مستندًا على باب المطبخ بكتفه عاقدًا ذراعيه أمام صدره يتابعها وهي توليه ظهرها وومركزة كامل انتباهها على الطعام التي تقوم بتحضيره ، بينما هو فكان انتباهه على شيء آخر يتفحص ملابسها بتمعن ووقاحة حيث ترتدي ثوب منزلي قصير يصل لركبتيها ضيق بعض الشيء وتثبت شعرها لأعلى بمشبك الشعر وينسدل بعضًا منه على وجنتيها من الجانبين ، رغم نقمه وبغضه لها هذه الشيَّطانة إلا أنه لا يمكنه إنكار أن لديها جسد وانحناءات تذهب العقل بلحظة واحدة ! .. كان يتابع حركاتها العفوية بجمود ظاهري ، تارة ترفع مشط قدمها لتلتقط شيء في الاعلى وتارة تنحني لتلتقط شيء آخر في الجزء السفلي من المطبخ ، إلى أن وجدها التفتت بجسدها تلقائيًا ناحيته غير منتبة لوجوده وبمجرد ما وقع نظرها عليه انتفضت واقفة وسقط الصحن من يدها فتكسر وتناثر لجزئيات صغيرة متفرقة على الأرض ، فانحنت للأسفل فورًا وبدأت تلم في جزئياته وجرحت أصابعها عن غير قصد فامسكت بالصابع المجروح تضغط عليه حتى لا يذرف الدماء ثم رفعت نظرها لتجده كما هو ينظر بجمود وثبات مما استفزها بشدة فصاحت به مغتاظة :
_ واقف كدا ليه !!
لم ينطق ببنت شفة فقط القي عليها نظرة مريبة ثم استدار وانصرف غير مكترثًا لجرح أصابعها الذي هو سببه ، أما هي فانشغلت بتنظيف الأرضية من الزجاج ثم قامت بوضع ملصق طبي على صابعها المجروح ، وبعد دقائق بدأت في وضع الصحون على طاولة الطعام في الصالون وجلست على مقعدها تبدأ في الأكل دون انتظاره ، وبعد لحظات رأته ينضم لها ويجلس في مقابلتها على أحد المقاعد فلم تعيره اهتمام وركزت على طعامها فنظر هو لها مختنقًا مجرد جلوسها معه على نفس الطاولة لا يتحمله ، ولن يستطع تحملها سينهي هذا الزواج في أقرب فرصة ، باتت نفسه تضيق كلما يعود ويجدها بمنزله .. اخفض نظره للصحون الممتلئة بالطعام المتنوع ثم التقطت معلقة وبدأ بتناول أول لقمة من الصحن الذي أمامه فتصنع التقزز من مذاقه والقى بالمعلقة جانبًا هاتفًا في قسوة وغلظة :
_ لو مبتعرفيش تعملي أكل قولي بدل ما إنتي بتأكليني حاجة ملهاش طعم .. إيه القرف ده !!
ثم امسك بالصحن وسكبه في سلة القمامة الصغيرة بجانبه وهب واقفًا عائدًا لغرفته تاركًا إياها معلقة نظرها على سلة القمامة ثم التقطتت قطعة خيار والقتها بفمها وهي تهمس محاولة تمالك أعصابها :
_ خليكي relax يايسر اساسًا ده مستفز وميستهلش تعصبي نفسك عشانه .. قال قرف !!
***
تقلب في البوم صورهم ، كان يجمع الألبوم ما بين صور عقد القرآن وبين الخطوبة وأخيرًا الزفاف ، توقفت عند صورة ليوم زفافهم ودققت النظر بملامح وجهه كيف كان يبتسم بسعادة ودفء ، وهي بكل سهولة قضت على فرحته سرقت ابتسامته ، وشوهت أجمل شيء في العلاقات وهو الثقة .. فقدت ثقته بها وهذا يعني أن ليس هناك أمل في زواجهم ما لم تستعيد ثقته .
كانت لا تريد هذا الزواج وربما لم تكن تريده هو أيضًا ولكن الآن هي أكثر من يريده ، وشعورها بنمو مشاعر الود والاحترام والتقدير والحب له وتزايدهم عن الطبيعي في كل ساعة تعيشيها معه في المنزل حتى ولو كانوا لا يتحدثون وكل منهم منعزل عن الآخر إلا أن هذه المشاعر تسعدها وترضي ضميرها الذي يعذبها بأنها لا ينبغي عليها أن تستمر في هذه العلاقة وهي لا تحبه ، فتخبره بكل وضوح أنها بدأت تخطوا أولى خطواط العشق وهي الآن في أولى درجات السلم وبالتأكيد بعد وقت قصير ستصل للقمة وستكون انتصرت على نفسها المتمردة !! .
سمعته يتحدث في الهاتف بالخارج فنهضت من على الفراش ووقفت وراء الباب تحاول سماع حديثه وتسمعه يتحدث مع والدته عبر الهاتف ويسألها عن اسم دواء يسكن الآم الرأس التي تداهمه بسبب مشقة العمل ، فتستغرق هي لحظات بسيطة تفكر في شيء وتتردد في فعله ولكنها حسمت أمرها واتجهت ناحية خزانتها وأخرجت شريط اقراص مسكن للآم الرأس تستخدمه دومًا عندما يصيبها الصداع الشديد ، وانتظرت لدقائق قصيرة حتى ينهي حديثه مع والدته ثم خرجت وذهبت للمطبخ تملأ كوب ماء بارد وسارت باتجاهه في الخارج وجلست بجواره على الأريكة تمد يد تحمل كوب الماء واليد الأخرى بها شريط الاقراص متمتمة في لطف وابتسامة عذبة :
_ اشرب ده مفعوله حلو جدًا أنا باخد منه دايمًا لما أكون مصدعة
اطال النظر إليها في صمت ونظرات ثاقبة كالصقر ثم التقطه من يدها وأخرج قرص والقاه في فمه ثم شرب الماء كله عليه فهو لا يطيق ألم الرأس ويريد أي شيء لكي ينهيه ، أما هي فابتسمت له بدفء واقتربت منه تمد كفيها لرأسه حتى تقوم له بمساج بسيط لعله يخفف من ألم رأسه وهتفت في رقة تأخذ منه الأذن :
_ تسمحلي ؟
لم تجد أجابه منه بالرفض ، فقط كان يحدق بها كالمغيب فهو يعاني ألم الخيانة والعشق .. يحبها ولا يتمكن من مسامحتها وربما لن يتمكن فما فعلته خطأ لا يغفر بالنسبة له وبرأيه أنها حتى الفرصة الثانية التي تريدها لا تستحقها فمن أهدر الأولى بسبب إهماله وعدم وعيه لأهميتها بإمكانه إن يهدر الثانية أيضًا أن مُنحت له ولذلك هي لا تستحقها ابدًا ولن يسمح لها بأن تستحوذ عليه أكثر من ذلك ! .
لمسة يديها الناعمة على وجهه هيجت عواصفه ورغباته الذي يحاول كبحها عنها منذ أن عرف بالحقيقة ولوهلة ود بمعانقتها وتقبيلها ولكنه ذكّر نفسه بما فعلته حتى لا يدع قلبه يرق ويلين لها مطلقًا ، فازاح يديها عنها وقال منذرًا بجفاء :
_ آخر مرة هقولها ليكي ياملاذ ابعدي عني نهائي ، أنا مش عايز اتعصب عليكي يابنت الناس واخليكي تكرهيني
ثم هب واقفًا واتجه لغرفته فلوت فمها بيأس وحزن وهبت هي الأخرى متجهة خلفه وفتحت الباب دون أن تطرق ثم اغلقته خلفها واقتربت لتجلس بجواره على الفراش مغمغمة في خفوت بائس :
_ لما ماما قالتلي إنك متقدملي أنا مكنتش اعرفك ولا حتى شوفت صورتك فرفضت ومكنتش عايزاك واللي خلاني أوافق إني كنت عايزة انتقم من أحمد ولما شوفتك في الرؤية الشرعية حسيت بحاجة غريبة بس احساسي في إني مش عايزاك كان لسا موجود ولغاية يوم الخطوبة لما كنا بنتكلم وقولتلي إنك حابب نبدأ حياتنا صح ومن غير ذنوب عشان ربنا يباركلنا فيها أنا مقدرتش استحمل وقومت روحت الحمام لو فاكر وعيطت ودخلت صحبتي عليا وقولتلها إني مش هقدر أكمل ومش هقدر أكون ليك الزوجة اللي عايزها وقولتلها مش هقدر اخدعك واخونك ، قالتلي ادي لنفسك فرصة وطلعي احمد من قلبك يمكن تحبي خطيبك ، المهم أنا أهديت وقررت إني هكمل بس لو لقيت مفيش أي أمل إني أكمل معاك هفسخ الخطوبة فورًا وفي خلال شهر الخطوبة حسيت إنك بني آدم كويس أوي وإني لو اتعرفت عليك أكتر أكيد هحبك ، فكملت وكتبنا كتب الكتاب وفي اللحظة اللي قال فيها المأذون بارك الله لكم وبارك عليكم أنا خدت عهد على نفسي إني هعمل المستحيل وهشيل أحمد من قلبي وهكون ليك ، ولما اخدتني الشركة هناك ادركت إنك فرصة متتعوضش ولو ضيعتها ابقى غبية وإنك هدية ربنا بعتهالي عشان يعوضني وخلال الأيام اللي كانت قبل فرحنا كنت كل ما بكلمك أو بشوفك كنت بزداد تمسك بيك وبزداد اصرار في إني هعمل المستحيل وهحافظ على جوازنا وعلى الرابط اللي بينا لإنك انسان يتحب يازين ، ويوم الفرح أنا غلطت مكنش ينفع اطلعله بس كنت شايلة اوي في نفسي و كان نفسي جدًا اقوله الكلمتين اللي قولتهم وللأسف مش هعرف ابرر اللي قولته وقتها لإن أنا غلطانة جدًا كمان ومكنش المفروض أقول كدا .. آخر الكلام اللي عايزة أقوله ليك من بين كل الكلام ده أنا اتجوزتك بكامل ارادتي ومكنتش مغصوبة أو مضايقة ولو كنت مضايقة فده بسبب إني مكنتش قادرة اشيل احمد من عقلي ومش عارفة احبك واكون ليك بكل جوارحي وأكون الزوجة اللي بتتمناها ، وعمري ما كرهتك أو حسيت نفسي في مرة مش طيقاك بالعكس أنا دايمًا كنت بكن ليك الحب والاحترام والود وكنت برتاح جدًا معاك ومازالت وهفضل كدا
اتاها صوته الخافت وهو يقول بأسف :
_ كل اللي قولتيه مش مبرر لكدبك عليا ياملاذ وخداعك ليا ، للأسف أنا مش بعرف اسامح بسهولة ومش هقدر أكمل معاكي حتى لو إنتي عايزة تكملي ، قولتها ليكي امبارح وهقولها تاني أنا مبقتش بثق فيكي ومش هقدر أعيش مع واحدة وأقبل تكون أم لأولادي وأنا مش واثق فيها واحدة خدعتني وقبلت على نفسها تتجوزني وهي بتحب راجل غيري ، وعشان كدا اسلم حل لوضعنا ده الطلاق ، ومش عايزك تحبيني ولا تكرهيني ولا أنا عايز أحبك ، عاوزك بس تبعدي عني لغاية ما الشهر ده يخلص
غامت عيناها بالعبرات ، فيبدو أن طريقها سيكون صعبًا ومليئًا بالعوائق ولن تتمكن من نيل مسامحته بسهولة كما توقعت ، ولكن طالما مازالت زوجته لن تيأس وستستخدم جميع الطرق معه حتى تصل لمبتغاها . هبت واقفة واسرعت مغادرة الغرفة قبل أن تنهار بالبكاء أمامه تاركة إياه معلق نظره على آثارها بألم !! ……..
***
في تمام الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل ……
كانت شفق على فراشها مستغرقة في النوم وضوء الغرفة مغلق وكذلك الباب ، وفجأة وثبت جالسة بفزع من نومها عندما صك سمعها صوت ارتطام شيء قوي بالخارج ، فابتلعت ريقها برعب جلي ونهضت من الفراش ببطء شديد ثم تحركت نحو الباب بقدم مرتجفة وفتحته بحذر حريصة على عدم إصدار أي صوت ، ففتحت جزء صغير منه وأخرجت رأسها تتلفت يمينًا يسارًا لتطمئن من عدم وجود أحد ، فتجمدت الدماء في عروقها وشعرت بأن نفسها انقطع من الخوف حين رأت ذلك الوغد من ظهره الذي لا يكف من ملاحقتها وأذيتها ، وتلقائيًا دخلت فورًا غرفتها مجددًا وأخذت تتلفت حولها بزعر ويداها ترتجف من الارتعاد ، كيف دخل وهي تحكم إغلاق باب المنزل جيدًا !! ” يا الله ماذا أفعل أين اختبأ منه حتى انجو بنفسي ” ، استمرت في الالتفات حول نفسها وهي تمسك برأسها وتحاول تمالك نفسها من الانهيار .. ليس بغرفتها أي شيء تستطيع حتى حماية نفسها به ، وقع نظرها على الفراش فهرولت واختبأت اسفله وقد بدأت دموعها في الانهمار بشدة في صمت ، إن وجدها بالتأكيد سيأذيها وسيحاول الاعتداء عليها ، خرجت من تحت الفراش والتقطت هاتفها ثم عادت مجددًا تختبأ وجعلت تبحث عن رقمه في قائمة الأسماء بيد مرتعشة حتى وجدته ووضعت الهاتف على أذنها تنتظر رده وهي تهمس برجاء وبكاء :
_ رد ابوس إيدك ياكرم
_ الفصل الحادي عشر _
كان يقود سيارته في طريق عودته للمنزل وجذب انتباهه صوت هاتفه الهزاز ليلتقطه وينظر للشاشة فيغضن حاجبيه باستغراب من اتصالها في هذا الوقت المتأخر ، وفورًا أجاب بدون تفكير بعد أن أصابه القلق من أن يكون حدث شيء معها واتاه صوتها الباكي والمرتجف :
_ كرم الحقني ، دخل عليا البيت وبيدور عليا وأنا مستخبية في اوضتي
هتف بزعر وقلق أشد :
_ دخل ازاي ياشفق أنا مش قايلك اقفلي الباب كويس عليكي
همست في صوت خفيض وبكاء عنيف :
_ معرفش أنا خايفة أوي تعالى بسرعة
_ حاضر ، حاضر أنا قريب من بيتكم دقيقتين وهكون عندك اياكي تطلعي من اوضتك واقفلي الباب عليكي بالمفتاح
انهت معه الاتصال والقت بالهاتف على الأرض ثم خرجت مهرولة وأغلقت الباب بالمفتاح كما قال ووقفت خلفه تستمع لصوت خطا قدميه بالخارج وجسدها يرتجف كطفل صغير بلا مأوي في ليالي الشتاء القارصة ، مرت دقيقتين حتى شعرت به يحاول فتح الباب فارتعدت للخلف مرتجفة واتاها صوته النشاز والمقرف وهو يهتف ضاحكًا :
_ افتحي يامزة أنا عارف إنك جوا .. افتحي بالذوق بدل ما اكسره
اخذت تهز رأسها بالنفي وهي تضع كفها على فمها محاولة كتم صوت بكائها المرتفع وتتوسل ربها بأن يصل كرم بسرعة ، وجدته بدأ يحاول كسره فتقهقرت للخلف وتتلفت حولها كالمجنونة تبحث عن أي شيء ولكن لم يكن هناك شيء يسعفها في هذا الموقف وبعد لحظات صغيرة انفتح الباب وأطل بهيئته الضخمة والمرعبة لتهتف هي في صوت مرتجف وبكاء :
_ إنت عايز مني إيه حرام عليك
طالعها مبتسمًا بشيطانية وغمغم في نظرة كلها شهوة ورغبة :
_ عايز كل خير
وفي ظرف لحظة وجدته أغار عليها والقى بها على الفراش محاولًا تقبيلها فتعالي صوت صرخاتها وهي تركله بقدميها ويديها محاولة إبعاده .
وصل كرم في الطابق الذي فيه الشقة وكان الطابق الثاني وبمجرد ما سمع صرخاتها فهرول نحو الباب كالمجنون يطرق عليها صائحًا :
_ شــــــفــــــق
توقف وابتعد عنها مزعورًا عندما سمع صوته وهتف بنبرة تهديد قبل أن يغادر ويفر هاربًا من النافذة كما دخل :
_ كرم العمايري مش هيعرف يحميكي مني ، هرجعلك ياقطة
تذكر كرم أن لديه نسخة من مفاتيح المنزل فأخرجها من جيبه مسرعًا ووضعه في قفل الباب ثم أداره لليمين وانفتح ليدخل هو صائحًا مناديًا عليها وحتى وصل عند باب غرفتها وقبل أن يخطو خطوة سمع صوتها المرتجف والباكي تطلب منه عدم المجىء فهي بملابس منزليه لا تسمح وشعرها منسدل على كتفيها :
_ متجيش ياكرم أنا كويسة ثانية وهطلعلك
تحاملت على ساقيها المرتجفين وارتدت إسدال للصلاة ووضعت حجابها على شعرها ثم خرجت له فوجدته يقف أمام النافذة المفتوحة التي فر هاربًا منها يتلفت يمينًا ويسارًا باحثًا عن أي أثر له ، وعندما رآها اقترب منها هامسًا بترقب وقلق حقيقي :
_ إنتي كويسة ؟ ، عملك حاجة ؟
هزت رأسها بالنفي وعيناها تذرف الدموع في صمت هامسة بارتعاد :
_ أول ما سمع صوتك هرب وقالي إنك مش هتقدر تحميني منه ..
مسح على وجهه وهو يصدر زئيرًا من بين أسنانه هاتفًا في توعد :
_ مسيري هجيبه هيروح مني فين ااااا……
توقف عن التحدث حين وجدها تفقد توازنها وأغمضت عيناها معلنة عن تغيبها المؤقت عن الوعي وكادت أن تسقط على الأرض لولا يديه التي احاطت بها جيدًا ، ولوهلة توتر من اقترابه منها وشعر بالخطر ولكن الآن ليس الوقت المناسب لتوتره وخجله فانحني بجزعة وحملها متجهًا بها نحو الأريكة واجلسها عليها ثم ذهب للمطبخ وجلب كوب ماء وعاد لها ثم أخذ ينثر الماء على وجهها بلطف حتى فتحت عيناها تدريجيًا ونظرت له لترى في عيناه نظرات الارتعاد والاهتمام فانفجرت باكية تخفي وجهها بين ثنايا كفيها هاتفة بارتجافة صوتها الرقيق :
_ خـ..وفت أوووي ، حـ..اول يـ..عتـ..دي عليا
انحني وجلس بوضيعة الاستعداد أمامها مغمغمًا في صوت دافىء ينسدل كالحري ناعمًا :
_ متخافيش أنا معاكي ومش هسيبك واوعدك همسكه وهدفعه تمن كل اللي عمله معاكي .. اهدي بس إنتي وقومي اغسلي وشك يلا والبسي ولمي هدومك عشان تاجي معايا بيتنا
لم يكن بمقدورها الرفض هذه المرة فبعد ما حدث الآن أدركت أنه كان لديه الحق في عدم موافقته منذ البداية على بقائها في المنزل بمفردها . هزت رأسها بالموافقة ثم هبت واقفة واتجهت نحو الحمام بخطواط ضعيفة وعاجزة عن السير بطبيعية نتيجة لنوبة الارتجاف والرعب التي اصابتها منذ قليل …….
***
توقفت سيارته أمام المنزل بعد دقائق طويلة ونزل منها ثم فتح الباب الخلفي وأخرج حقيبة ملابسها بينما هي فنزلت وجعلت تنظر لهذا المنزل الضخم والجميل .. فانتبهت له وهو يرمقها مبتسمًا بعذوبة ويشير لها بعيناه أن تلحقه ، فلحقت به على استحياء وهي تتلفت حولها تتفحص بنظراتها الحديقة الواسعة كأي إنسان طبيعي ذهب لمكان جديد لأول مرة ، وجدته يفتح الباب ويسبقها بالدخول ثم يهتف في نبرة هادئة :
_ ادخلي ياشفق
دخلت بتردد وحياء بينما هدى ورفيف كانوا يشاهدون التلفاز وبمجرد ما رأو بيده حقيبة ملابس وهو يهتف بجملته الأخيرة هذه هبوا واقفين بدهشة ، وسرعان ما استقبلتها رفيف بالترحيب الحار والعناق واقتربت منها هدى معانقة إياها وهاتفة بحنو :
_ عاملة إيه ياحبيبتي .. نورتينا
اكتفت بابتسامة خجلة وبسيطة على شفتيها حتى سمعته يهتف محدثًا شقيقته :
_ خوديها يارفيف خليها ترتاح شوية في الأوضة عندك فوق
اماءت لأخيها بالموافقة واصطحبتها معها لغرفتها بالأعلي بينما هدى فراقبتهم بنظراتها حتى تواروا عن ناظريها والتفتت برأسها لابنها هاتفة بفضول :
_ إنت مش قولت موافقتش تاجي معاك .. إيه اللي خلاها توافق وليه جايبها في الوقت ده
_ في حرامي دخل عليها البيت وطبعًا مقدرش اسيبها تقعد وحدها تاني
شهقت بهلع وهتفت مهتمة بأشفاق :
_ وعملها حاجة ؟
هتف بخفوت :
_ لا الحمدلله .. المهم متخلوهات تحس إنها غربية في البيت عشان متضايقش
رتبت على كتفه متمتمة بلطف :
_ حاضر ياحبيبي متشلش هم إنت عارف أنا بعزها إزاي .. روح ريح جسمك في اوضتك ونام باين عليك تعبان
هز رأسه بالإيجاب ثم التقط كف يدها وقبَّل ظاهره هامسًا بحنو :
_ تصبحي على خير
_ وإنت من أهل الخير ياحبيبي
***
فتحت الباب بحذر ونظرت له فوجدته في فراشه نائم بسكون وثبات تام ، لتبتسم بحب ثم تدخل بحرص حتى لا توقظه وتغلق الباب وتقترب من فراشه ، لتقف للحظات طويلة تتأمل ملامح وجهه الهادئة التي لا تشبهه أبدًا عندما يكون مستيقظًا ، ثم جلست على حافة الفراش ومدت يدها تملس على شعره برقة ولطف خشية من أن يستيقظ فغامت عيناها بالعبرات وهي تهمس بصوت يكاد لا يسمع :
_ احيانًا كتير ببقى نفسي امسك في زمارة رقبتك من غيظي منك ، وببقى مش طيقاك بس تعرف لو جيت في مرة وقولتلي كلمة واحدة حلوة وأنا متعصبة كدا صدقني هنسي كل حاجة في لحظتها …
توقفت عن الكلام لثواني ثم عادت تكمل وقد سقطت دموعها على وجنتيها :
_ ليه بتكرهني كدا أنا عملتلك إيه عشان تشيل مني ومتبقاش طايقني بالشكل ده ، صدقني ياحسن عمرك ما هتلاقي حد يحبك قدي .. أنا بحبك لدرجة إن لو نظرة حب منك تكفيني ومش هبقى عاوزة حاجة تاني ، بس إنت حتى الكلمة الطيبة بتستخسرها فيا وكأني عدوتك
جففت دموعها وانحنت برأسها قليلًا لتطبع قبلة رقيقة على جبهته ثم تتسطح بجواره وتسحب الغطاء عليها وكان هو يضع كفه أسفل رأسه فاقتربت والتصقت به ثم استندت برأسها على صدره وأغمضت عيناها سامحة لها بسرق لحظات من الزمن وهي بين ذراعيه ربما لن تتكرر مجددًا ! .
فتح هو عيناه في صباح التالي وإذا به تلجمه الدهشة حين يجدها نائمة بين ذراعيه ، ولوهلة شك بنفسه أن قد يكون فعل فعلًا متهورًا ، فاستعاد ليلة الأمس في ذهنه فورًا وتذكر أن آخر شيء فعله هو تبديل ملابسه وتسطحه على الفراش ليخلد للنوم فأطمئن ، ونظر لها متفحصًا ملامحها التي تبدو عليها الراحة والسكينة ، وهي تغط في نوم عميق كأنها لم تذق النوم منذ أيام ، فتأفف باشمئزاز وخنق ثم هز كتفها بقوة بسيطة وصوت أجشَّ :
_ يسر ! .. يـــســـر !
انتفضت جالسة بفزع وفركت عيناها لتزيح آثار النوم عنها وسمعته يهتف في استياء بعد أن اعتدل في نومته :
_ بتعملي إيه جمبي !؟
تلعثمت قليلًا ولم تعرف بماذا تبرر له نومها بجواره طوال الليل ، ولكنها سرعان ما رسمت قسمات الاهتمام والقلق على محياها ومدت يدها تتحسس جبهته هاتفة :
_ الحمدلله حرارتك نزلت
رفع شفته العليا مستنكرًا وهو يجيبها :
_ حرارتي برضوا !!
مثلت الدور باحترافية حيث هتفت في براءة مزيفة ونظرة متأثرة :
_ أيوة أصل إنت امبارح حرارتك كانت عالية بليل وفضلت تخترف بالكلام فقعدت جمبك وعملتلك كمادات والحمدلله نزلت وغلبني النوم ونمت جمبك
لا تفوت فرصة للكذب وتخترع كذبة لكل شيء باحترافية ولكنه لا يخيل عليه كذبها الذي بات يخنقه ويستفزه بشدة .. فدفعها من أمامه بعدم اكتراث لكي يعبر وينزل من الفراش هاتفًا بقرف :
_ لما تحبي تكدبي روحي اكدبي على حد غيري ، ابعدي من وشي
تقوص وجهها بضيق وأسى وبقيت معلقة نظرها على آثاره بعد أن غادر تاركًا لها الغرفة بأكملها ، شعرت بعيناها على وشك ذرف الدموع فشدت على محابسهم بسرعة وهبت واقفة وهي تأخذ نفسًا عميقًا مستمدة القليل من قوتها وشموخها ثم غادرت هي الأخرى واتجهت لغرفتها لتأخذ حمامًا دافىء ………
***
كان يقف أمام المرآة يقوم بتسريح شعره ويستعد للذهاب للعمل ، فيسمع طرق الباب ليتنهد بعدم حيلة فهي لن تستسلم ولم تكترث لكلامه ورغبته في عدم تحدثه معها مطلقًا حتى ينتهي هذا الزواج ! .
هتف بغلظة :
_ ادخلي
فتحت الباب ودخلت هامسة بعذوبة :
_ صباح الخير
رد على مضض دون أن ينظر لها :
_ صباح النور
تمتمت في ترقب ونظرات رقيقة :
_ مش هتفطر ؟
_ لا هفطر في الشغل
تقدمت خطوتين للأمام نحوه وخرج همسها ناعمًا :
_ طيب ممكن اطلب منك طلب ؟
التفت لها بجسده وحدجها بقوة ثم قال بنفاذ صبر :
_ قولي ياملاذ عايزة إيه ؟!!
فركت يديها بتوتر وتمتمت في نظرات استعطاف تحاول من خلالها إذابة القليل من ثلوج قلبه بعدما بدأت تتأكد من أنه يحبها بشدة :
_ ممكن تاخدني معاك الشركة ، أصل أنا زهقانة وحابة اقرى في المكتبة اللي هناك
كانت ملامح وجهه جامدة ولم تتأثر بنظراتها بتاتًا حيت اتاها صوته الصارم دون أن يوجد به أي شيء من اللين :
_ لا ، بعدين إنتي عاوزة إيه بظبط من الحركات دي ؟!!
_ مش عايزة حاجة !!
قالتها بارتباك بسيط من نظراته المريبة ليكمل هو بتوضيح أكثر :
_ كل اللي بتعمليه ده ملوش لزمة مش لما تحاولي تقربي مني وتفتحي معايا أي كلام وخلاص هسامحك .. هتفهمي امتى إن احنا كل اللي بينا انتهى خلاص
قالت بإصرار فهي لن تتخلى عنه ولن تخلف بوعدها هذه المرة :
_ مفيش حاجة انتهت يازين أنا لسا مراتك ، لما تطلقني سعتها ابقى اقولك إن فعلًا كل حاجة انتهت
أبعدها من أمامها بهدوء وهم بالانصراف ولكنها اعترت طريقه وتمتمت برجاء ولين :
_ طيب طالما مش موافق اروح معاك .. ينفع تنقيلي كام كتاب على ذوقك وتجبهملي معاك
لوى فمه بخنق ونفاذ صبر ثم خرج صوته قاسيًا بكلمات يقصد قولها جيدًا حتى يحرق نفسها ويذيقها من الآم قلبه التي يعانيها :
_ من عنيا هنقيلك كتب عن الوفاء والإخلاص والصدق يمكن تتعلمي منهم حاجة
أصابت كلماته بسهامها الهدف تمامًا ، كلما تتحدث معه وتحاول نيل السماح منه تكشتف أنه ليس كما توقعته أبدًا بل لديه قلب أن حمل داخله الغضب والنقم من شخص ما لن يتمكن من الصفاء له مهما فعل ، ويبدو أنه لن ينسى خداعها له وقد يكون أكثر ما يغضبه ليس أنها كانت تحب رجل غيره بل أنها وضعته محل الغبي والأحمق وكانت تكذب عليه وهي تنظر لعيناه دون خجل واستحقرته ولم تحترم الثقة التي منحها لها !!! ………..
***
كانوا يجلسون حول مائدة الطعام على مقاعدهم ومنتظرين قدوم البقية ، وكانت هدى تضع كفيها أسفل ذقنها تفكر بذكاء شديد لما يدور في ذهنها وغير منتبهة لأي شيء حولها ، حتى سمعت صوت ابنتها تهتف بتساءل :
_ ماما مالك ؟!
رمقتها بجدية وأشارت لها بيديها أن تقترب منها ففعلت رفيف على الفور وجلست على المقعد المجاور لها تمامًا وقربت وجهها منها وهي تهز رأسها بتشويق لمعرفة الأمر ، لتتمتم هدى بمكر :
_ إيه رأيك في شفق ؟
_ رأي فيها ازاي يعني ؟!
قالتها بعدم فهم في بادئ الأمر ثم دققت نظرها في معالم وجه أمها الخبيثة وابتسامتها التي كلها ذكاء ففغرت شفتيها وقالت ضاححة بعدم تصديق :
_ لا مش للدرجة .. وسعت منك أوي دي يادودو !
نكزتها في كتفها بضجر من رفضها لفكرتها وهمست في صوت منخفض :
_ بطلي هبل يابت .. دي حتى لايقة على أخوكي أوي كأنهم فولة واتقسمت نصين ، عارفة أروى الله يرحمها على قد كدا مكنتش حباها أوي كانت فيها شوية من اللؤم بتاع البنات ده ومكنتش لايقة على أخوكي انا مش بقول إنها كانت وحشة بالعكس أنا على قد ما كنت بضايق منها أحيانًا بس كنت بحبها برضوا والله وربنا يعلم إني لغاية دلوقتي كل لما بفتكرها قلبي بيوجعني عليها ، لكن شفق قمر ومؤدبة وهادية ماشاء الله عليها يعني هي وكرم شبه بعض بظبط في كل حاجة
هدرت رفيف برزانة ونبرة جادة :
_ ماشي ياماما وأنا كمان مش بقول حاجة على شفق .. بس بلاش تسرحي بخيالك أوي ، كرم رافض فكرة الجواز دي نهائي من بعد أروى وإنتي بنفسك جربتي معاه كتير وشوفتي بتبقى ردة فعله إزاي بمجرد ما تفتحي معاه الموضوع بس
غمغمت بنبرة صوت تحاول إخفاضها ونظرات نارية ومتقدة :
_ بلا رافض بلا قرف وأخرة ما يقعد رافض كدا .. هتطلع من تربتها وترجعله مثلًا ، اتفرجي واتعلمي وشوفي هخليه يوافق إزاي إما خليته يتجوز شفق مبقاش أنا هدى العمايري
كتمت رفيف ضحكتها المرتفعة بيدها ثم قالت في حماس لمعرفة مخططاتها :
_ ياماما يالئيمة .. هتعملي إيه بقى قوليلي ؟!
_ ملكيش دعوة هتشوفي وحدك هعمل إيه
همسمت رفيف بنظرات كلها ذكاء وحذر :
_ بس خلي بالك ولادك كلهم عندهم العند وبذات كرم يعني مش هتعرفي تخليه يوافق بسهولة لازم تحبكي الخطة كويس ، أقولك تعاليله من نقطة ضعفه واضغطي عليه هينخ وهيوافق
رمقت هدى ابنتها التي تحمل نفس جيناتها الخبيثة وتفكر مثلما تفكر تمامًا فابتسمت وقالت بخبث شديد :
_ ماهو ده اللي هعمله .. المشكلة بس لمتوافقش هي
_ لا من ناحية شفق اطمني 100% هتوافق وعلى ضمانتي خليكي إنتي مع كرم وسبيلي شفق في المرحلة التانية و…..
نغزتها هدى في قدمها هامسة بحذر عندما رأته ينزل الدرج قادمًا نحوهم :
_ هششش خلاص اسكتي جه
ثم تطلعت لابنها وهتفت ببشاشة :
_ صباح الخير ياحبيبي تعالى افطر يلا كنا مستنينك
اقترب ناحيتهم ثم التقط قطعة خيار صغيرة والقاها في فمه هاتفًا على عجلة من أمره :
_ لا كلوا إنتوا بالهنا والشفا أنا هفطر في الشركة مستعجل عشان معانا اجتماع وزين مستنيني من بدري هو وحسن
أجابته بحنو تدعو لهم بحنو أمومي :
_ ماشي ياحبيبي ربنا يقويكم .. وقول لزين خليه يجيب مراته وياجي بكرا لأحسن وحشني أوي
انضمت لجلستهم العائلية شفق التي غمغمت بخفوت واستحياء عندما وصلت عند آخر درجات السلم :
_ صباح الخير
التفتت هدى برأسها ناحيتها وكانت أولهم التي ترد عليها تحية الصباح هاتفة بوجه مشرق :
_ صباح النور
ثم رد كل من كرم ورفيف التحية وانصرف هو فورًا دون تلكع بينما هي فتقدمت نحوهم واتخذت مقعدها بجوار هدى من الجهة المقابلة لرفيف وتمتمت بإحراج :
_ معلش بقى ياطنط هتقل عليكم لكام يوم أنا والله كنت ………
قاطعتها هدى بنظرة حازمة قليلًا تحمل الرفق واللين مع ذلك :
_ هتزعليتي منك كدا ياشفق .. البيت هنا اعتبريه بيتك خلاص واحنا أهلك وإنتي زي رفيف بنسبالي
أجفلت نظرها أسفل وأجابتها شاكرة إياها بخجل ” شكرًا ” أما رفيف فكانت تنقل النظر بينهم وهي تمنع نفسها من الضحك كلما تتذكر ما كانوا يخططون له منذ قليل !! …….
***
آذان العشاء ارتفع في المآذان وكان هو يجلس في مكتبته الخاصة في الشركة بعد أن قضى فرضه ، ويخلو بنفسه ويقرأ القرآن براحة وهدوء تام مع ضوء بني خافت ، استمرت جلسته الهادئة لساعات حتى جذبه من تركيزه في ترتيل القرآن رنين الهاتف الذي كان اتصال من زوجته ، فتأفف بخنق وأجاب على مضض :
_ الو
سمع عدة كلمات منها غير مفهومة بسبب بكائها العنيف فاعتدل جالسًا فورًا وقال بزعر :
_ براحة ياملاذ أنا مش فاهم حاجة .. في إيه بتعيطي ليه كدا ؟!!
غمغمت من بين بكائها بصوت أوضح :
_ بابا تعبان أوي وأنا رايحة المستشفى دلوقتي
استقام واقفًا وجذب مفاتيح سيارته وهتف على عجالة ونبرة قلقة :
_ مستشفى إيه ؟
أملت عليه اسم المستشفى فانهى معها الاتصال واندفع مغادرًا حتى يلحق بها على هناك وبعد ما يقارب النصف ساعة وصل وقاد خطواته نحو الطابق الثاني بعد أن استعلم عن اسمه في الاستقبال فأخبروه بأنه يكمن في الطابق الثاني ، وجدها بين ذراعين والدتها لا تتوقف عن البكاء وهي تشاركها البكاء الصامت وعندما رآه إسلام تقدم نحوه ليجده يهتف بارتعاد :
_ الف سلامة على عمي حامد ، حصل إيه ؟
قال إسلام بحزن ونظرات ضعيفة :
_ بابا عنده القلب وتعب جامد فجبناه على هنا
رتب على كتفه مغمغمًا بحزن مماثل له :
_ ربنا يشفيه يارب .. إن شاء الله هيقوم بالسلامة
ظلوا لدقائق طويلة بانتظار خروج الطبيب حتى يطمأنهم على وضعه وأخيرًا بعد ما يقارب الساعة خرج وأخبرهم بأنه وضعه مازال حرجًا وسيتم وضعه تحت المراقبة إلى حين تحسن حالته وانهى كلامه بتمنيه الشفاء له ، كما أخبرهم بأن بقائهم هنا لن يجدي بنفع ولا يجوز إلا بقاء أثنين كحد أقصى ، فطلبت ملاذ من والدتها الذهاب وأنها هي وشقيقها ستبقى معه ، ولكنها عارضتها بشدة وطلبت منها الذهاب مطمئنة إياها بأنه إذا حدث أي شيء ستتصل بها ، فرفضت بشدة التحرك من جانب أبيها ولكنها حين وجدت إلحاح والدتها وكذلك أخيها فذعنت لهم وخرجت تنتظر زوجها عند سيارته الذي كان يتحدث مع الطبيب في غرفته ومن ثم وقف يتحدث مع أخيها لدقائق قصيرة قبل أن يأتي ويستقل بمقعده المخصص له في السيارة .. وهي تترك العنان لدموعها في الانهمار بصمت حزنًا وخشية من أن يصب أبيها مكروهًا .
وصلا للمنزل فأمسك هو بيدها عندما وجدها لا تتحمل السير على قدميها وقادها نحو غرفتها ثم أجلسها على الفراش ، فنزعت هي حجابها عنها وانفجرت باكية بشدة ليتنهد هو بعدم حيلة وجلس بجوارها هامسًا في صوت رخيم :
_ اهدي ياملاذ أنا اتكلمت مع الدكتور وقالي إن احتمال كبير بكرا الصبح يفوق وحالته تتحسن بسرعة .. ادعيله ربنا يشفيه بلاش العياط ده
خرج صوتها مبحوحًا ومرتعش من أثر البكاء وهي تتطلع إليه بعيناها الغارقة في الدموع :
_ خايفة أوي عليه أنا مش هقدر استحمل لو حصلتله حاجة يازين
نظراتها العاجزة والمنكسرة مع دموعها هدموا السور الذي قام ببنائه بينهم فلم يتمكن من مقاومتها وأعلن هزيمته المؤقته متجاهلًا الصوت الذي في عقله ويصر على تذكيره بما فعلته ، ويذكره بوعده لنفسه أنه سيحاول نزعها من صميم قلبه حتى يكون الطلاق سهلًا عليه ، ولكن لا حياة لمن تنادي حيث مد كفه ووضعه على وجنتها بلطف ممررًا إبهامه برفق ونظرة استقرت في عيناه كانت تظن هي أنها لن تراها مجددًا منه ، حيث نظر لها بحنو وحب ودفء كما كان يفعل بالضبط قبل زفافهم وهمس في خفوت جميل :
_ مش هيحصله حاجة بإذن الله ، قومي يلا اغسلي وشك وصلي ركعتين بنية الشفا لوالدك
كانت ترتبك بشدة ولا تشعر بأي مشاعر سوى التوتر عندما تتلامس يده مع يدها أو وجهها أو جسدها قبل حفل الزفاف ولكنها الآن تعتريها مشاعر جديدة تمامًا ، دفء يديه ارسلت حرارة في جسدها اصابتها بالسكينة والدفء وكأنه يحتضنها بكفه ، لتصعد لشفتيها ابتسامة محبة وهي تميل برأسها على الجانب الموضوع كفه على وجنتها تستشعر دفئه أكثر ، ثم القت بنفسها بين ذراعيه دافنة نفسها بين ثنايا صدره الواسع مغمضة عيناها وتعطي إشارة السقوط لدموعها بصمت ، دموع امتزجت ما بين الألم والحزن وبين الأمل والسعادة .
سعادة !! عجيب أمر هذا العشق هل هناك من يسعد لمجرد شعوره بأنه بدأ يعشق ، ويسعد كلما تداهمه مشاعر جديدة بأنه يخطو خطوة أخرى في طريق العشق الذي عزم على أنه لن يمل ولن يكل إلا حين يصبح من المصطفين الذين يختارهم العشق ! .
ارتفع صدره عندما أخذ نفسًا عميقًا وهبط ببطء وهو يخرجه زفيرًا متمهلًا من أنفه ومد يده مترددًا ليمررها بسطحيه شديدة على ذراعها مغمغمًا في رزانة :
_ قومي يلا ياملاذ عشان تصلي العشاء
قالت في صوت به أثر البكاء وهي تتشبث بقميصه أكثر بعدما فهمت رغبته في الابتعاد عنها ولكنه يرفض قولها نظرًا لوضعها :
_ صليت من بدري .. خليك جمبي يازين ارجوك
هو من أصدر مرسوم هدم السور مؤقتًا والآن يأمر بإعادة بنائه فهذه اللحظات كانت كافية وزائدة عن اللازم لإشباع نفسه الجائعة إليها حتى لو بمجرد عناق دافىء ، حيث ابعدها عنه برفق وتمتم بنبرة عادت بها بعض الحزم والجفاء مع ابتسامة متكلفة :
_ أنا موجود في اوضتي لو عوزتي حاجة اندهي عليا
ثم استقام وانصرف تاركًا إياه تصارع الحزن وتمزق القلب بين أمواج مميتة ، فلا يكفيها خوفها وشجونها على والدها ،بل حتى هو يرفض التخلي عن عقابه له ، يرفض أن يكون معها زين العاشق ويفضل أن يكون زين الصارم الذي لا يصفح ، ولكنها لا تجرؤ على وصفه بالقاسي لإنه مهما يفعل ومهما يقول تظل ترى الحنان في عيناه وكأنه يقسو عليها بكلامه وعيناه تعتذر لأنه لا يستطيع تصديقها والوثوق بها ! .
وحتمًا سيأتي يوم ويقر ويعترف باستسلامه لقلبه الذي يتألم وتسوء حالته يومًا بعد يوم بسبب الشقوق التي بينهم ، مثلما بدأ قلبها هي أيضًا يتألم !!! …..
***
فتح باب المنزل ودخل ثم نزع حذائه وتلفت حوله بالمنزل باحثًا عنها بنظره فسمع صوت التلفاز وقاد خطواته نحوها ليجدها تمسك بهاتفها وتقلب في صور زفافهم ودموعها تملأ وجنتيها ، فانتبهت هي لوجوده وأشاحت بوجهها فورًا للجهة الأخرى تسرع في تجفيف دموعها .
تنهد هو بعد أن شعر بالإشفاق على حالها فهو يدرك عشقها الجنوني له ولكنه لا يستطيع أن يبادلها نفس المشاعر أبدًا ، وأيضًا يصعب عليه أن يكون قاسيًا القلب لهذه الدرجة معها .
اقترب وجلس بجانبها ثم جذب الهاتف من يدها وأخذ يقلب بين الصور حتى هتف بخشوع :
_ إنتي اللي بتعملي في نفسك كدا ، مفيش حاجة تغصبك إنك تحبيني ، ولا أنا عايز حبك ده !
التزمت الصمت لثواني ثم هتفت بقوة وصوت يغلبه البكاء :
_ بس أنا عايزة أحبك وعايزة أفضل جمبك ومعاك
وضع الهاتف بجانبه ثم اعتدل في جلسته ليصبح مواجهًا لها ويردف في جدية تامة ونظرات لا تحمل أي حب لها :
_ أنا مش بحبك يايسر ومش هحبك ، فخلينا ننهي الجواز ده في اقرب وقت واللي كان غلطة مني وتهور وندمان عليه دلوقتي وكل واحد فينا يرجع لحياته الطبيعية واوعدك إن بعد ما نتطلق هنبقى أصدقاء وهحاول احبك كصديقة ليا ، وبعتذرلك وبقولك أنا آسف على الكلام اللي قولته عليكي في التسجيل اللي معاكي ، أنا مستعد انسى كل حاجة حصلت بينا وأي حاجة عملتيها أاااا……..
ذاك الأحمق أيطلب منها أن تتخلى عن عشقها له ؟!! .. الذي احتفظت به في داخلها لسنوات ورفضت أن يأخذ مكانه أي رجل غيره ، وبعد أن أصبحت زوجته .. يريدهم أن ينفصلوا ويقول لها بكل وقاحة كوني صديقتي !! ، هل عشقته كل هذه السنوات لتصبح صديقته ؟! ، هل يتوقعها أنها ستقبل بهذا العرض السخيف !!! .
صرخت به ببكاء رافضة إياه الاسترسال في هذه السخافة التي يخرجها من بين شفتيه :
_ وأنا مش عايزة انسى حاجة ومش عايزة أكون صديقة أنا محبتكش لكل السنين دي عشان أقبل في الآخر بالدور السخيف ده ، أنا عايزة أكون مراتك وعايزاك تحبني زي ما بحبك .. أنا دلوقتي عندي 24 عارف بحبك من إمتى من وأنا عندي تمن سنين يعني 16 سنة
قبض على ذراعيها يهزها بقوة هاتفًا في حدة حتى يجعلها تفيق من أوهامها :
_ افـــهـــمـــي أنا بقولك مش عايزك ومش هحبك أبدًا
دفعت يديه بعيدًا عنها وهبت واقفة وهي ترفع سبابتها في وجهه محذرة إياه بأعين دامعة تحمل الشراسة والألم :
_ مش هتطلقني ياحسن ولو طلقتني ، زي ما هتخليني اخسرك هخليك تخسر كل حاجة حتى أهلك وأمك وأخواتك وإنت عارف إني أقدر أعملها
ثم اندفعت نحو غرفتها مسرعة لكي تترك الحرية لدموعها أكثر وتركته هو يهز رأسه بنفاذ صبر وعصبية .. !!
***
كانت شفق في طريقها للحديقة حتى تجلس في الهواء قليلًا ولكنها توقفت حين مرت من أمام غرفته فانتابها الفضول للدخول وإلقاء نظرة عليه .. تختلس فرصة غيابه عن المنزل ، فالتفتت حولها تتأكد من عدم وجود أحد في الطرقة ثم تسللت ببطء نحو غرفته وفتحت الباب ودخلت .. أغلقته خلفها وأخذت تتأمل الغرفة بإعجاب ، كانت الحوائط من اللون الكافيه الفاتح الذي يميل للأبيض وخزانة متوسطة الحجم من اللون الأبيض وسجادة على الأرض من نفس لون الحائط ، والفراش كان لونه أسود لامعًا ويوجد حمام داخلي صغير ، ابتسمت بانبهار من جمال وبساطة هذه الغرفة فهي لم تخطىء عندما قالت أنه لديه ذوق رفيع في كل شيء ليس ملابسه فقط ، لفت نظرها الصورة المبروزة في غلاف زجاجي وموضوعة على منضدة صغيرة بجانب الفراش ، فاقتربت والتقطتها تحدق بها بصمت تتفحص ملامح تلك الكامنة بين ذراعيه ، لم تكن تحتاج لأحد ليخبرها أنها زوجته فابتسامته وسعادته كانت كافية لتوضح مدى السلام الروحي لكليهما وهم مع بعضهم ، عادت ووضعتها مكانها بتعاسة وعبوس واضح على معالم وجهها وهمت بالالتفات والمغادرة قبل أن يدخل أحد ويراها ولكن الدرج العلوي للمنضدة كان جزءًا منه مفتوحًا وبداخله صورة تعلم صاحبها جيدًا فاسرعت بفتحه كليًا والتقاطها وهي تحدق بصورة ذلك الوغد الذي حاول الاعتداء عليها بالأمس ، استغرق معها الأمر للحظات وهي تحدق بصورته بدهشة وتطرح الاسئلة في ذهنها عن سبب وجود صورته معه ، وسرعان ما شهقت بذهول ووضعت كفها على فمها فما كانت تشك به كان حقيقيًا هذا الحيوان هو الذي قتل زوجته والآن يحاول العبث معها ليجعل نهايتها مثلها ، تذكرت جملته لها بالأمس قبل أن يهرب ” كرم العمايري مش هيعرف يحميكي مني ” تسارعت دقات قلبها وبدأت تتوتر ومازاد توترها انفتاح الباب ودخوله عليها ليتسمر هو بأرضه مندهشًا من وجودها بغرفته أما هي فتلعثمت بشدة وغمغمت بارتباك :
_ أنا آسفة كنت رايحة لرفيف واتلخبطت في الأوضة ودخلت اوضتك بالغلط
ابتلعت ريقها وهي تشعر بأن دلو من الماء المثلج سكب فوقها مدت يدها له بالصورة وهي تقول يإيجاز متلعثمة أكثر :
_ كانت واقعة على الأرض
قالت جملتها واندفعت للخارج في ظرف لحظة أما هو فأخفض نظره للصورة يلقي عليها نظرة ثم يلتفت خلفه متطلعًا عليها وهي تنزل الدرج مسرعة ، فلم يشغل ذهنه بما حدث كثيرًا وقرر التجاهل وأغلق الباب ثم بدأ في تبديل ملابسه ودخل الحمام ليأخذ حمامًا دافئًا ويعيد لجسده قليلًا من نشاطه .. بعد دقائق قصيرة خرج وتوجه لشرفة غرفته يقف فيجدها تجلس على المقعد الهزاز في الأسفل وتهز قدماها بعنف وكفها على فمها تفكر بتركيز شديد في شيء ما ، مما أعاد الشك لعقله بها من جديد وخصوصًا بعدما رأى تلعثمها وهي تعطيه الصورة وكيف كانت تحدق بها بصدمة امتزجت بالرعب ، فجال بعقله فورًا كلامها في يوم زفاف حسن ” كرم افهمني أنا قصدي غير كدا ، خوفه مش طبيعي هو عارفك ودي حاجة احنا مختلفناش فيها بس هو كمان عارف إنك أكيد متعرفهوش شكلًا وإلا كان هيخاف كدا ليه أوي ، تصرفه بيوحي بحاجة واحدة وهي إنه عارف إنك لو لمحته بس هتعرفه فورًا وهو يعرفك كويس ، والصراحة أنا خوفي زاد أوي وبذات بعد ما شكيت إنه ممكن يكون ….. ” وتلقائيًا ربط كلامها بالموقف الذي حدث للتو وملامح الزعر على وجهها فاتسعت عيناه وأظلمت بطريقة مخيفة ، ومعالم وجهه الهادئة واللطيفة تحولت لأخرى لتشبه وحشًا مرعبًا ، فالذي يدور بذهنه الآن هو التفسير الوحيد لكل شيء !!!
في صباح اليوم التالي داخل منزل محمد العمايري ……
كانوا على طاولة الطعام يتناولون فطورهم بهدوء ولا أحد يتحدث ، كان الكل يأكل معادا هو يعبث بصحن الطعام الذي أمامه دون أن يضع لقمة في فمه وينتظر اتصال معين بفارغ الصبر ولا يزال الغضب يهيمن عليه منذ أمس ، سمع أمه تهتف باهتمام :
_ مالك ياكرم مش بتاكل ليه .. إنت متعصب من حاجة ؟!
رد عليها باختصار شديد :
_ مليش نفس !
نظرت له شفق بتدقيق وتحدثت لنفسها بخوف ” هل يعقل أن يكون شك بشيء عندما وجدني أمسك بصورة ذلك الرجل بالأمس ” اهتز هاتفه على الطاولة بجانبه وأخيرًا جاء الاتصال المنتظر فوقف فورًا وأجاب وهو يسير باتجاه الباب ليغادر :
_ ألو يامسعد عملت إيه ؟
أجابه الآخر باستياء شديد :
_ هو ياكرم بيه شوفت الكاميرات وطلع هو
تحول لجمرة نيران ملتهبة وأطلق من بين شفتيه الفاظ بذيئة من بينها كلمات وعيد بالانتقام ، ليكمل مسعد بجدية وحزم :
_ سبلي أنا الموضوع ده ياكرم بيه وهجبهولك خلال كام يوم
_ عايزه سليم يامسعد ومحدش يلمس منه شعرة واحدة
_ حاضر
***
كان حسن بمكتبه داخل الشركة يدور بمقعده بحركة دائرية حول نفسه وبيده مفاتيح سيارته يعبث بها ويحركه يمينًا ويسارًا أمام عيناه ، شارد الذهن يتذكر كلامها ” عشان هي أصلًا عمرها ماحبتك ، وإنت كنت دايب فيها ويمكن مازالت ، هي باعتك في أول محطة ” .. ” اللي لسا بتحبها دي تخلت عنك رغم كل اللي عملته عشانها ” ، لا يزال يحبها للأسف ولم يتمكن من نزعها من قلبه بأي شكل من الأشكال ، لم يعد حبًا كما كان سابقًا ولكنه لا يستطيع القول أنه يكرهها ، رغم أنها لا تستحق سوى الكره وكل ما قالته له يسر كان حقيقة .. هي تخلت عنه وخدعته وهو كالأحمق مازال يحمل لها القليل من الحب !! .
قطع شروده دخول يسر المفاجئ وهي تحمل بيدها ملفات صغيرة فاغلقت الباب خلفها وهتفت بإيجاز :
_ حسن اتصل بزين شوفه فين لغاية دلوقتي مجاش !!
عقد حاجبه وهدر باستغراب :
_ وإنتي عايزة زين ليه ؟!
هتفت بامتعاض وابتسامة صفراء :
_ يمكن عشان الشغل مثلًا ، وعشان في ملفات عايزة اورهاله ضروري
قال في حزم ونظرة قوية :
_ طاب ما أنا موجود أهو ولا هو لازم زين !! ، تعالي وريني إيه اللي عايزة تورهوله
أشاحت بوجهها للناحية الأخرى متأففة بخنق فهي قررت منذ ما حدث بالأمس أنها ستحاول تجنبه وعدم التحدث معه بقدر الإمكان حتى تهدأ نفسها الثائرة منه .
اقتربت منه ووقفت بجواره وانحت للأمام بجزعة وفتحت الملفات ثم بدأت تتحدث وتشرح له الأمر بالتفصيل وكان هو بكامل انتباهه معها ولما تقوله ولكن انحرفت عيناه عن غير قصد واستقرت على حجابها المزحزح من الأمام فأظهر عن منطقة صدرها البيضاء العلوية ونظرًا لأن الرداء الذي ترتديه لديه فتحة صدر واسعة قليلًا فعندما انحت كشف عن داخلها !! ، استغرق الأمر ثلاث ثواني بالضبط حتى مد يده وسحب حجابها لأسفل جيدًا ليخفي لحمها وهتف بغلظة صوته الرجولي :
_ لما تلبسي الفستان ده تاني البسي حاجة تحته يإما تلبسي طرحة طويلة وتثبتيها عشان مترجعش لورا
اعتدلت بسرعة وانتصبت واقفة ثم عدلت من حجابها وقالت في انفعال بسيط :
_ وإنت تبص ليه أصلًا !!!
ازاح نظره عنها وقال بوقاحة مبتسمًا :
_ فرجة ببلاش .. متفرجش ليه !!
صرت على أسنانها بغيظ ولملمت الملفات فورًا قائلة بقرف وهي تتجه نحو الباب :
_ وقح !
وقبل أن تقبض على مقبض الباب وتفتحه تذكرت شيء فتوقفت والتفتت بجسدها ناحيته ثم اقتربت مجددًا وجلست على المقعد المقابل له مغمغمة بمضض واختناق :
_ عايزة اطلب منك طلب
اتسعت ابتسامته وأجابها بوقاحة وخبث أشد :
_ إيه متفرجش تاني ؟!!!
قالت بنظرة منذرة وهي تضبط غضبها :
_ احترم نفسك ياحسن
تخلي عن وقاحته واخفي ابتسامته ليجيبها بجدية وخشونة :
_ طاب قولي عايزة إيه ؟
_ رفيف كلمتني وبتقولي إنها نفسها تاجي تشتغل هنا وطلبت مني احاول اقنعك وأخليك تقنع زين وكرم ، هي بتقولي إنكم رافضين فكرة الشغل بس أظن معندكمش حجة طالما هتشتغل معانا وقدام عينا ، وأنا هدربها وهعرفها كل حاجة
أصدر تنهيدة حارة وصمت لبرهة من الوقت ثم تشدق بصوت أجشَّ :
_ طيب هشوف
استقامت وارسلت له ابتسامة وهي تهمس :
_ شكرًا
نظر لها بجمود ووجه خالي من التعابير فاستدارت هي وانصرفت وبعد أن اغلقت الباب وقفت خلفه تبتسم بسعادة داخلية حين استعادت توجيهاته الحازمة لها حول ردائها ، وقوي الأمل بداخلها أنها قد تكون أوشكت على تحقيق هدفها ! .
***
في تمام الساعة الثانية ظهرًا ……
كانت بمنزل والدها وتجلس بجانبه على الفراش وبين ذراعيه في صمت حتى همست بعتاب :
_ بس كان المفروض تقعد في المستشفى يابابا عشان تبقى تحت رعاية الدكاترة علطول
أجابها بصوت هادئ :
_ ما إنتي عارفاني ياحبيبة بابا مبحبش أقعد في المستشفيات وأنا الحمدلله كويس دلوقتي وأمك ربنا يخليها لينا مش بتخليني اتحرك من مكاني من وقت ما جينا من المستشفى
ابتسمت له بحب وامسكت بيده تقبلها هاتفة :
_ ربنا يخليكم لينا
_ عاملة إيه مع جوزك .. وهو عاملة إيه زين ؟
سألها بابتسامة عذبة لتختفي ابتسامتها تدريجيًا ويحل محلها العبوس ولكن سرعان ما رسمتها باحترافية وقالت بتصنع السعادة :
_ الحمدلله يابابا كويسين وزي الفل .. وهو كويس اتصل بيا من شوية وقالي إنه جاي في الطريق
أماء لها بالإيجاب ثم دخلت أمها وهتفت ضاحكة بمداعبة :
_ مش هتكبري على الحركات دي يابت
همت بأن تجيب عليها ضاحكة ولكن رنين الباب أوقفها وأشارت لأمها التي همت بالذهاب لتفتح بأنها هي التي ستذهب وتفتح وقالت :
_ خليكي أنا هروح افتح ده تلاقيه زين
قادت خطواتها الطبيعية نحو الباب وفتحته وكما توقعت كان هو فابتسمت له برقة وافسحت له الطريق للعبور ، ليهمس هو بتساءل قبل أن ينزع حذائه بجانب الباب :
_ في حد عندكم ؟
فهمت مقصده حول هل يوجد نساء من اقاربهم أو معارفهم أتو لزيارة والدها وتمني الشفاء له أم لا ، فهزت رأسها بالنفي وتمتمت بصوتها الناعم :
_ لا مفيش حد غير ماما
بدأ في نزع حذائه عنه وهو يغمغم بخفوت :
_ طيب قوليلها إني جيت
خرجت أمها من الغرفة وهي ترحب به ترحبيًا حارًا ومدت يده تصافحه ففعل وهي يرد عليها ترحبيها به باحترام شديد ثم اصطحبته معها إلى غرفة زوجها وجلس معه بعدما عانقه وتمنى له الشفاء العاجل أما ملاذ فذهبت للمطبخ وبدأت في تحضير كوب شاي له فقد عرفت خلال الأيام القليلة منذ زواجهم أنه يفضل الشاي كثيرًا وأكثر من أي شيء آخر ، وبعد دقائق قصيرة عادت لهم وهي تحمل الكوب على صينية صغيرة ثم وضعته أمامه على منضدة صغيرة الحجم وجلست على مقربة منه تتابع حديثة مع والدها الذي استمر لربع ساعة بالضبط ثم استأذن منهم بالرحيل ليوقفه أبيها هاتفًا :
_ خليك اتغدى معانا يابني !
أجابه بامتنان ونبرة مهذبة :
_ ربنا يخليك ياعمي مرة تاني إن شاء الله .. معايا شغل في الشركة لسا مخلصتهوش والله
_ ماشي يابني مش هعطلك عن شغلك ، ربنا يعينك ويقويك
ودعه ثم انصرف ووقف بجانب الباب يرتدي حذائه ، لتلحق هي به وتقف خلفه تنتظره حتى ينتهي ويلتفت لها لتهمس بنبرتها الأنوثية الخافتة :
_ هتاجي تاخدني إمتى ؟
أجابها بجفاء بسيط وإيجاز دون أن يكون في وجهه أي شيء من البشاشة أو جزء من انحراف شفتيه للجانب كابتسامة لطيفة :
_ على الساعة 8 إن شاء الله
ثم فتح الباب ورحل فأغلقته خلفه ببطء وهي تأخذ نفسًا عميقًا بأسى وشجن ، فهو لن يجعلها تحصل على المسامحة منه بسهولة وكأنها لم تخطأ في شيء يستحق الخصام والعقاب !! ….
***
مر أسبوعًا كاملًا وطرأت معه بعض التغيرات الطفيفة ، يسر لا تزال تحاول تجنب حسن قدر الإمكان حتى تفكر ماذا ستفعل وماذا ستكون خطتها القادمة ولكن تجد أن الشجار قد أدي بنتيجة إيجابية معه على عكس توقعها ، وملاذ لم تجد أي نتيجة لمحلاتها البائسة في إثبات أنها نادمة على كل شيء .. ولكنها لا تنكر أنه بدأ يكون أقل حزمًا معها ، وشفق باتت لا ترى كرم سوى دقائق قليلة إما على الطعام أو حين يكون في الحديقة يشرب قهوته .. لم تكن مدركة أنه يتجنب محادثتها عمدًا !! .
كانت تجلس في الحديقة على نفس المقعد الهزاز التي تجلس عليه دومًا ، تتأمل النجوم الساهرة وتسترجع ذكرياتها من أخيها وأمها ، وتحزن على الحال الذي هي فيه ثم تعود وتحمد ربها رغم كل شيء ، وتفكر إلي متى ستقطن في منزل الغرباء لابد من وضع الحدود لكل هذا ، وجال بذهنها فكرة أن تتصل بعمها ولكنها تعرف جيدًا شر زوجته وابنائه وبالأخص ابنه الأكبر الذي تهاتف عليها لسنوات ورفضته وكان هذا بداية المشاكل بينهم عندما وقف أخيها ضد عمه الجبار وطلب منه أن يبتعد عنهم تمامًا ويبعد ابنه عن شقيقته وإلا ستكون نهاية هذا الأمر سيئة .. أخيها !! ، أصبحت عارية لا تجد الستار الذي كانت تستتر خلفه ، لم يعد هناك السند أو القصر المنيع الذي تلوذ إليه وتحمي نفسه داخله وهي متيقنة أنها ما دامت داخله فهي في آمان من شرور الناس .
اعتدلت في جلستها فورًا حين رأته يقترب منها وهو يحمل في كل يد كوب قهوة دافئة ثم اقترب وجلس على المقعد المجاور لها ومد يده لها بكوب القهوة الثاني فأخذته من يده وهي تبتسم بحياء واضطراب من ملامح وجهه الصارمة على عكس طبيعته مع الجميع وليس معها فقط ، فساد الصمت بينهم للحظات وكلاهما يحتسي من كوبه في صمت حتى أتاها صوته القوي وهو يقول :
_ عدى اسبوع واستنيت تاجي وتقوليلي بنفسك مجيتيش .. ليه مقولتيش إنك عارفاه لما شوفتي صورته في اوضتي ؟!!
قُيَّد لسانها وأصابها الارتباك والقليل من الدهشة حين تأكدت أنه عرف بكل شيء ، فابتلعت ريقها وتمتمت بخفوت وهي تتحاشى النظر إليه :
_ خوفت أقولك لتصمم على اللي في دماغك أكتر لإني كنت عارفة من سيف الله يرحمه إنك مش سايب مكان وبتحاول تلاقيه وعايز تنتقم منه ، محبتش أكون سبب لو بسيط في حاجة ممكن تأذيك
هتف في صوت غليظ وغضب مكتوم :
_ إنتي عرضتي نفسك للخطر .. لو كنتي قولتيلي من وقت ما كنتي شاكة فيه مكنش اللي حصل معاكي في بيتكم ده هيحصل لإني مكنتش هسمحلك تقعدي وحدك أبدًا ، وأنا كدا كدا كنت هلاقيه وهوصله سواء عرفت إنه هو اللي بيبتزك أو لا بس زي ما قولتي اللي عمله ده خلاني اصمم أكتر على اللي ناوي أعمله فيه
فهمت في لمح البصر ما ينوي الفعل به ، وهو الثأر لروح زوجته التي خرجت وهي تتعذب ، فهتفت في ذهول وشيء من الرجاء :
_ ولما تدخل السجن بسببه هتستفاد إيه ، هتبقى خسرت مراتك وخسرت حياتك .. الأفضل إنك تسلمه للشرطة وتسيب القانون يعاقبه
نظر لها مبتسمًا بإزدراء وهو يتمتم :
_ وهي الشرطة هتقدر تطفي النار اللي جوايا !! .. خلاصة الكلام ياشفق أنا جيت عشان أقولك مش هينفع تمشي من هنا غير لما امسكه لإن ماما قالتلي إنك عايزة تمشي
ثم هب واقفًا واتجه نحو الداخل مجددًا وتركها معلقة نظرها عليه وهو يبتعد عنها بأعين دامعة !! ……..
***
عاد من عمله مبكرًا اليوم على غير عادته وكان متعبًا ودخل فورًا لغرفته حتى ينام والآن الساعة قاربت على العاشرة مساءًا ومازال لم يتسيقظ !! .
القت هي نظرة على ساعة الحائط بنظرات قلقة ثم استقامت وقررت أن تدخل له وتطمئن عليه وتعرف سبب نومه لكل هذه الساعات فهو منتظم في ساعات نومه ولا ينام لساعات طويلة هكذا ، قادت خطواتها نحو غرفته وفتحت الباب ببطء وادخلت رأسها تنظر له فوجدته في فراشه متدثر بالغطاء حتى كتفه ووجهه يعطي أحمرارًا ليس طبيعيًا فدخلت دون تردد واقتربت منه تتلمس بباطن يدها جبهته ووجنته لتجد حرارته مرتفعة جدًا فتخرج فورًا لتجلب دواء للانفلونزا وملأت كوب ماء ثم عادت له وهمست في رفق وهي تهزه بلطف حتى يستيقظ :
_ زين .. زين قوم خد البرشام ده
فتح عيناه بصعوبة واعتدل نصف اعتدالة في نومته حتى يتمكن من شرب الماء وأخذ الدواء ثم عاد وتدثر مجددًا بالغطاء مغمغضًا عيناه التي لا يقوي على فتحهما من ارتفاع حرارة جسده ، بينما هي فخرجت مجددًا وعادت بعد لحظات وهي تحمل بيدها منشف صغير أكبر من حجم اليد قليلًا وغمسته في الماء ثم أخرجته وعصرته وطوته ثلاث مرات ثم وضعته على جبهته فرفع هو يده وازاحه هامسًا بصوت ضعيف يكاد لا يسمع :
_ اطلعي ياملاذ وسبيني أنا هنام وهصحى الصبح كويس إن شاء الله
هتفت برفض قاطع وشيء من الغضب :
_ لا مش هسيبك إنت مش قادر تفتح عينك من التعب
ارتفعت نبرة صوته قليلًا وهو يقول بخشونة :
_ قولتلك اطلعي ملكيش دعوة بيا
امسكت بالمنشفة الصغيرة وعادت تضعها على جبهته مجددًا هاتفة في إصرار وحدة :
_ متعاندش معايا لما حرارتك تنزل إن شاء الله هبقى اطلع وأسيبك ، وممكن تسكت بقى وتسيبني أعملك الكمادات
ليس لديه القدرة لمقاومتها أو الجدال معها فاستسلم لأمره وأغمض عيناه من جديد تاركًا إياها تفعل به ما تريد ، واستمرت لدقائق تضع الكمادات على جبهته حتى هدأت حرارته المرتفعة قليلًا ، فتنهدت هي بارتياح وجعلت تتفرس ملامحه بابتسامة جميلة ومحبة ثم مدت يدها تمررها برقة على شعره الأسود الغزير .
لم يمر أسبوعين على زواجهم ولكنه نجح بسهولة أن يتولى منصبه في قلبها وأصبحت شبه متأكدة من أنها الآن يمكنها إعلانه سلطانها الجديد وتدق الطبول احتفالًا ببداية عهده .
سمعته يهمس في صوت خافت :
_ اطفي المروحة ياملاذ .. أنا بردان
_ مش هينفع اطفيها لازم اشغلها عشان تجدد الهوا في الأوضة أنا مشغلاها على أقل درجة
ثم رفعت جزء من الغطاء وتدثرت بجانبه دون أن تضع رأسها على الوسادة ليقترب هو برأسه من جسدها يستمد منها الدفء فتبتسم بحب ودفء وتضمه لصدرها بعد أن تمددت كليًا بجواره وأخذت تغلغل أصابعها بين خصلات شعره وتعبث به برقة حتى غلبه تعبه ونام بين ذراعيها ولحقت هي به بعد دقائق .
فتح عيناه في صباح اليوم التالي بتكاسل وخمول ونظر لها بصمت للحظات وهي نائمة بسكون بجانبه فاعتدل في نومته وانحني طابعًا قبلة رقيقة على جبهتها ثم نهض من الفراش وغادر الغرفة متجهًا للحمام لكي يأخذ حمامًا دافيء ويزيح آثار الحمى عن جسده ، وبعد دقائق خرج وهو يرتدي بيجامة منزلية من اللون الأسود والرصاصي ، ثم ذهب للمطبخ وبدأ في تحضير كوب الشاي الصباحي الخاص به .
فتحت عيناها وتمطعت بذراعيها للأمام ثم اعتدلت جالسة ونظرت بجوارها فلم تجده لتقطب حاجبيها باستغراب ونهضت لتغادر الغرفة فسمعت صوت قادم من المطبخ .. علمت أنه فيه فتوجهت صوبه ووقفت بجوار الباب متمتمة في رقة :
_ صباح الخير
رد عليها باقتضاب دون أن ينظر لها :
_ صباح النور
اقتربت منه ووقفت بجواره ثم مدت يدها لتتحسس جبهته هاتفة بنعومة :
_ بقيت كو……
امسك بيدها قبل أن تلمسه وابعدها هاتفًا في صلابة :
_ كويس .. كويس الحمدلله
طالعته بنظرات رجاء أن ينهي عقابه لها ، فقد بدأت نفسها تتألم من جفائه معها ، ليخرج صوتها عابسًا :
_ هتفضل لغاية إمتي كدا يازين ؟
وضع السكر في كوب الشاي ثم بدأ يقلب بالمعلقة وهو يردف بصوت رجولي أجشَّ :
_ هيفضل حبك لخطيبك حاجز بينا ، وهيفضل خداعك ليا نقطة سودا في علاقتنا
هتفت بنبرة صوت مرتفعة قليلًا وصدق ينبع من صميم فؤادها :
_ مبقتش أحبه ، والله العظيم مبقتش بحبه ليه مش عايز تفهم !! .. أنا مفيش حياتي حد غيرك ومبقتش بفكر غير فيك ، وعايزاك تديني فرصة اثبتلك ده واثبتلك إني مش بفكر فيه نهائي وإني ندمانة على اللي عملته ، اديني فرصة استعيد ثقتك فيا من جديد
نفسًا قويًا أخذه وأخرجه زفيرًا حارًا قبل أن يهتف في غلظة صوت ونظرة ثاقبة كالصقر :
_ طيب هديكي فرصة ولو معرفتيش تستعيدي الثقة دي هيحصل إيه
_ مفيش لو .. أنا هصلح كل حاجة عملتها صدقني
امسك بكوب الشاي والقي عليها نظرة قوية قبل أن ينصرف ويتركها تتراقص فرحًا من داخلها وتفكر ماذا ستفعل لتتمكن من إعادة المياه لمجاريها ، فارتفعت لشفتيها ابتسامة مختلطة بمزيج من المشاعر الرومانسية حين تذكرت نومها ليلة أمس وهو بين ذراعيها ، إحساس داهمها لا تجد الكلمات لوصفه سوى أنها شعرت بالسلام والراحة النفسية بجواره !! .
***
فتحت الباب ببطء ودخلت حتى توقظه فتجده مازال نائمًا ، تنهدت بعمق ثم اقتربت من الفراش وجلست على الحافة بجواره تبتسم بحب ، لا تعرف سبب تغيره معها منذ آخر شجار بينهم والذي كان من أسبوع كامل .. لم يكن تغيرًا جذريًا ولكنه لم يعد يعاملها باحتقار وتقرف بل أصبح عاديًا تمامًا يتحدث بطبيعية مما جعلها تشك بأمره وتتساءل بفضول وحيرة ، هل خطتها تسير في الطريق الصحيح أم أنه أشفق عليها ؟ أم ماذا ؟ ، كانت تسأل نفسها هذا السؤال منذ ثلاث أيام وتخشى أن تسأله فتسمع منه ردًا يدخل اليأس لقلبها أو تسمع ما لا تريد سماعه وينفعل فيشب شجار جديد .. وكانت تفضل عدم معرفتها سبب هذه المعاملة يكفي أنها تسعدها وتعطيها المزيد من الأمل .
انحنت نحوه وطبعت قبلة طويلة على وجنته تبث بها كل شوقها وحبها له ، ففتح هو عيناه دفعة واحدة بشيء من الفزع حين شعر بها وخرج صوته تلقائيًا :
_ بتعملي إيه !
ارتدت للخلف فورًا في زعر وهتفت بتوتر مع قليل من الخجل :
_ ولا حاجة كنت جاية اصحيك عشان منتأخرش على الشغل
اعتدل وفرك عيناه متمتمًا بابتسامة مزدردة :
_ وإنتي كدا بتصحيني ولا بتتحرشي بيا وأنا نايم
أشارت إلي نفسها بسبابتها هادرة بدهشة وترفع :
_ أنا !! .. بيك إنت !! ، ده على أساس إن إنت ملاك طاهر نازل من السما عشان اتحرش بيك مثلًا
أبعدها عن طريقه وهو يقول بضحكة خفيفة :
_ طيب ابعدي
نزل من الفراش وتوجه للحمام لكي يأخذ حمامًا صباحي قبل الذهاب للعمل أما هي فقد همست لنفسها في فضول قاتل :
_ لا ما أنا هتحصلي حاجة لو مفهمتش هو بيتعامل معايا كدا ليه !
خرجت وبدأت في وضع طعام الإفطار في الصحون ومن ثم ترتيبها على الطاولة الأمر الذي استغرق منها ما يقارب العشر دقايق ، وبعدما انتهت اندفعت نحو غرفتها مجددًا حتى تستعجله وفتحت الباب لتجده يلف منشفة على نصفه السفلي وكان سيهم بفكها لولا دخولها الذي اوقفه ، فاستدارت فورًا بجسدها كاملًا توليه ظهرها هاتفة بإيجاز :
_ أنا حطيت الفطار يلا عشان ميبردش
ثم خرجت وأغلقت الباب بسرعة وهمت بالرحيل من أمام الباب ولكنها توقفت حين عزمت على أن تحصل منه على إجابة للسؤال الذي تطرحه منذ أيام ، فانتظرت لدقيقة وطرقت على الباب هاتفة :
_ حسن
_ اممممم
قالت بترقب لإجابته :
_ خلصت ؟ .. عايزة اقولك حاجة
_ ادخلي خلصت
فتحت الباب من جديد فوجدته ارتدي بنطاله فقط ، هل سألته انتهيت أم لا لتقصد البنطال فقط ، ولكنها لم تركز كثيرًا عليه وحاولت أن تثبت نظرها على وجهه فقط ثم اقتربت منه ووقفت بجانبه وتابعته وهو يفتح الخزانة ويلتقط قميصًا من اللون الازرق الداكن ويدخل ذراعيه في أذرعته وكان على وشك أن يغلق أزراره ولكن سؤالها جعله ينتبه لها أكثر وينظر لها ، حيث قالت بوضوح دون أي مقدمات :
_ إيه سبب تغيرك معايا من ساعة ما اتخانقنا على موضوع الطلاق
اتاها صوته القوي وهو يبتسم ببساطة :
_ أنا متغيرتش ، بس تقدري تقولي إني لقيت إن شغل القط والفار ده مش هيفيد بحاجة بالعكس هيوجع دماغي أنا والأفضل إني اتعامل معاكي بسلاسة وعادي جدًا لغاية ما نتطلق
هذا ما كانت تخشى سماعه ولهذا كانت مترددة في سؤاله ، وعلى عكس المتوقع منها غمغمت في شيء من السخرية :
_ يعني إنت خلاص قررت إنك هتطلقني
بدأ يزرزر قميصه وهو يقول بمبالاة :
_ إنتي شايفة إننا ينفع نكمل مع بعض !!
قالت بهدوء تام :
_ ومينفعش ليه !؟
نظر لها وقال ببرود قاسيًا وكلمات دخلت في قلبها كالسقم الذي يفتت الأعضاء :
_ عشان احنا مننفعش لبعض وعشان أنا مش قادر أحبك
رفضت الكلمات الخروج ورفض صوتها أن ينطلق من حنجرتها وفقط شعرت بأن دموعها على وشك التجمع في عيناها ، وما زاد الأمر سوءًا استرساله في الحديث ولكن هذه الأمر ببعض اللين :
_ إنتي مش هتقدري تغصبي حد عشان يحبك يا يسر .. أنا مش بحبك فعلًا بس كمان مش بكرهك أنا بكره تصرفاتك وأفعالك ومش عايز أكرهك فعشان كدا هننصبر لغاية ما تعدي فترة على جوازنا وبعدين هنطلق .. صدقيني ده أفضل حل لينا احنا الاتنين
لديه الحق في جملة واحدة فقط ، هي لن تستطيع إجباره على حبها .. فكل شيء يمكن أن يكون بالإجبار إلا القلب فلا تتمكني من فرض سيطرتك عليه وجعله يخضع لقوانينك ويذعن لك ، لن تتمكني من جعل القلب يستلطف شخصًا أو يكرهه أو يحبه بالإجبار .
الآن فقط يمكنها أن تبارك له على الفوز وتتقبل خسارتها النكراء .
امتلأت عيناها بالدموع وقالت في انكسار وعجز :
_ موافقة ياحسن
أحاط بكتفيها وتمتم في لطف وحنو مع زرانة وتعقل :
_ من غير زعل يايسر أنا مدرك حبك ليا بس احنا مش لبعض ، وإنتي أكيد هتنسيني بعدها بفترة وهتلاقي الشخص اللي ينسابك ويحبك إنتي تستاهلي واحد يقدرك ويحبك لكن أنا مش هقدر أكون الشخص ده .. إنتي محتاجة واحد زيك !
قال جملته الأخير بابتسامة مداعبة لتجيبه بتعجب :
_ زيّ إزاي يعني ؟!
أكمل بمزيد من المشاكسة حتى يجعلها تبتسم :
_ واحد خبيث زيك عشان تتأقلموا مع بعض لكن أنا طيب وغلبان جمبك وبخاف على نفسي منك أحيانًا
ابتسمت بالفعل وأظهرت عن أسنانها البيضاء الناصعة ثم قالت بنبرة عادية تتصنع من خلالها الثبات :
_ طيب خلص لبس وتعالى أنا هستناك برا عشان الأكل
أماء لها بالموافقة لتستدير هي وتنصرف وبمجرد ما خلت بنفسها في الخارج تركت العنان لدموعها تسقطهم في صمت وهي تشعر بتمزق قلبها من الألم والحرقة …….
***
يبحث في مكتبه الصغير عن بعض الأوراق الخاصة بالعمل لكي يأخذها معه ، وبينما هو منشغل بالبحث عنها دخلت عليه هدى وأغلقت الباب خلفها وهاتفة :
_ رايح الشركة من دلوقتي ياكرم ؟
_ أهاا إنتي عايزة حاجة ولا إيه ؟!
استغرقت لحظات وهي تجهز الكلمات بذكاء في عقلها حتى تصل لمبتغاها ، ثم اقتربت منه وهمست في صوت منخفض قليلًا :
_ هتعمل إيه مع شفق وأخرة ما تقعد هنا يعني أهو عدي أسبوع وهي ذات نفسها عايزة تمشي
قال يإيجاز وعدم اهتمام وهو لا يزال يبحث في الأدراج عن ما يريد :
_ أنا اتكلمت معاها إمبارح ياماما وفهمتها الموضوع
استفزها عدم اكتراثه للأمر فهتفت في حدة ملحوظة في نبرتها :
_ مينفعش تقعد هنا كتير ياكرم وهي مهما كان فهي غريبة عننا ومش من عيلتنا وملاذ ويسر لما بياجوا هما وإخواتك بحسهم بيضايقوا وبذات يسر ، ده غير إن جدتك كمان أسبوع ولا حاجة وهتاجي وهتعوز تخلي حسن وزين ياجوا ياخدوا يومين معانا هنا ، وعيب تقعد وسطيكم وهي غريبة عنكم كلكم
عثر على الأوراق أخيرًا ثم القاها على سطح المكتب وهو يجيبها بفتور وشيء من الانفعال البسيط :
_ وأنا أعمل إيه بس أسيبها في بيتهم وحدها ويحصل معاها زي ما حصل لما جبتها ، أنا تعبت والله كل حاجة بتضغط عليا !! ، لو عندك حل وهيخليها في آمان قوليه وريحيني
ابتسمت بمكر وقالت مباشرة دون أي مقدمات :
_ اتجوزها
الجمته الكلمة في أرضه وجعلته يحدق بأمه في دهشة ولا يستوعب ما اخترق سمعه للتو ، وسرعان ما ضحك ساخرًا دون أن يتحدث ويسمع استرسالها في الحديث وهي تقول بحكمة :
_ ده الحل الأمثل ، إنت هتفضل تحميها كدا لغاية امتي لكن لما تتجوزها هتبقى تحت عينك وهتكون برضوا نفذت وصيت سيف الله يرحمه وهتخلي اخته في كنفك وجمبك علطول وفي حمايتك
استمر في ضحكه المندهش وهمهم في ازدراء :
_ أنا مش مصدقك والله ، ولا مستوعب اللي بتقوليه
رسمت محل ابتسامتها قسمات الحزم والاستياء البسيط وقالت في شيء من الجفاء :
_ مش مستوعب ليه !! ، إنت عايز تفضل عازب كدا علطول.. هي اروى هترجعلك تاني مثلًا ولا إنت بقى هتوقف حياتك عليها وهتتقمص دور المخلص ليها لآخر عمرك
اطال النظر في وجهها للحظات فلقد كانت كلماتها قاسية عليه ولم يتوقعها منها قط ! .
خرج صوته الغليظ وهو يهم بالانصراف :
_ بظبط هو ده اللي هعمله يا أمي
وصل عند الباب وتوقف عندما سمعها تهتف في قسوة ونبرة لا تحمل المزاح أو الرحمة :
_ لو موافقتش تتجوزها اعتبرني مت وهغضب عليك لغاية ما أموت ولساني مش هيخاطب لسانك أبدًا .. شوف بقى هتختار إيه
التفت لها برأسه ومال بها قليلًا للجانب وكأنه يتوسلها بنظراته قائلًا ” لا تفعلي هذا بي أرجوكِ ، لا تجبريني على الاختيار بينكم ! ” ، بينما هي فوضعت الصخر على قلبها حتى لا تلين له ولنظراته التي تذيب الثلج واشاحت بوجهها بعيدًا عنه ترفض النظر إليه موضحة له عدم رغبتها في رؤيته إلا حين يخبرها بقراره النهائي ، فيصدر هو تنهيدة مسموعة في حيرة وألم ثم قام بفتح الباب ورحل وتركها تتخبط في مشاعرها مابين شفقتها عليه وما بين رغبتها في أن تراه سعيدًا حتى لو لن يكون في البداية سعيدًا ولكنها متأكدة بأن هذه الفتاة هي التي ستعالج الآمه وفي النهاية هو بنفسه سيشكرها !! ….
***
أوقف سيارته في المكان المخصص داخل الحديقة ثم نزل منها وقاد خطواته الطبيعية نحو الباب وطرق عدة طرقات خفيفة لتفتح أمه الباب وتهتف بدهشة امتزجت بالسعادة :
_ إيه ده زين .. مقولتش ليه إنك جاي
انحنى والتقط كفها يقبله برقة ثم يعانقها وهو يردف :
_ عاملة إيه يا أمي ؟
_ الحمدلله ياحبيبي بخير وإنت عامل إيه .. مراتك مجاتش معاك ولا إيه ؟!
أجابها بالنفي وشيء من العجلة :
_ لا مجاتش أنا جيت اتكلم مع رفيف في حاجة وماشي تاني عشان معايا اجتماع
قطبت حاجبيها باستغراب وتشدقت بريبة والقليل من القلق :
_ خير هو في حاجة ولا إيه ؟
ملس على وجنتها بحنو هامسًا :
_ خير إن شاء الله .. أنا هروح اشوفها
ثم تركها وتوجه للأعلى مسرعًا وبينما هو في طريقه لغرفة شقيقته قابل شفق التي كانت في طريقها للأسفل حتى تشرب فأجفل نظره عنها فورًا أرضًا وتوقف لثانية واحدة القى عليها تحية السلام وقاد آخر خطواته لغرفة شقيقته دون أن ينتظر منها الرد حتى لترد هي في نفسها تحية السلام عليه وتكمل طريقها للأسفل وهي تبتسم بتعجب من هؤلاء الإخوة ، فكرم كان يرفع نظره إليها بصعوبة في البداية بسبب حياءه وأخيه الأكبر لا يختلف عنه كثيرًا سوى أنه ملتزم ولا يرفع نظره في امرأة أيضًا ولكن ليس من حياءه بل من فرط تدينه وأخلاقه الحميدة ، وخلال المرتين التي رأت فيهم حسن اتضح لها من مجرد نظرة أنه لا يشبه إخوته بتاتًا في شيء ! .
طرق الباب وانتظر أن يأتيه صوتها تسمح للطارق بالدخول حتى فتح الباب ودخل وبعفوية شديدة وثبت من فراشها واقفة وعانقته مرحبة به بحرارة فغالبًا يكون الأخ الأكبر للفتاة الوحيدة بمثابة أب وليس أخ .
بادلها هو ترحبيها به بحنوه المعتاد عليها وهو يهمس في صوت ينسدل كالحرير ناعمًا :
_ عاملة إيه يارفوفتي ؟
دلعه المميز لها هو ما قاله ” رفوفتي ” ولكن من أشقائها يدلعها على طريقته ، فمثلًا حسن يقول لها أحيانًا ” فيفي ” وكرم ” رورو ” ولكن الأقرب لقلبها هو ما يناديها به أخيها الأكبر .
غمغمت في رقة :
_ الحمدلله كويسة وإنت ؟
_ بخير الحمدلله ، أنا حسن كلمني من كام يوم في موضوع الشغل وقالي إنك قولتي ليسر وكدا وكنت عايز آجي اتكلم معاكي في الموضوع ده بس مكنتش فاضي
تهللت اساريرها وقالت بحماس :
_ يعني موافق بجد !؟
جذبها من يدها بلطف واجلسها على الفراش وبدأ يتحدث بنبرة صوت جادة ونظرة ثاقبة تعرفها جيدًا منه مما جعلها تتوتر :
_ موافق وكمان جهزي نفسك وتعالي مع كرم بكرا عشان تبدأي ويسر تعلمك زي ما قالت ، بس مش هو ده الموضوع اللي جاي عشان .. قوليلي بقى إنتي كلمتي يسر فعلًا ؟!
ارتبكت بشدة وتلعثمت فطالما سأل هذا السؤال حتمًا عرف بأنها تحدثت مع ” علاء ” وكان يسألها بوضوح وبنظرته هذه لأنه متيقن أنها لم تتمكن من الكذب أمامه وإلا ستكون عواقب كذبها أشد ، فأخذت شهيقًا قوي واخرجته زفيرًا متمهلًا ثم تمتمت في توتر :
_ الصراحة لا .. بص هو مفيش حاجة أصلًا والله كل كل ما في الموضوع إني كنت راجعة من الكلية وعلاء شافني بالصدفة وقالي تعالي هوصلك البيت في طريقي وأنا ركبت وهو سألني عن الكلية والكلام جاب بعضه واتكلمت عن الشغل وكدا يعني وقولتله إنكم مش موافقين فقالي إنه هيكلم عمي ويخليه يحاول يقنعكم وعشان عمي مسافر فشكله قال ليسر وهي قالت لحسن ، بس هو ده اللي حصل والله
لو كانت كذبت كان سيغضب بشدة منها ولكن صراحتها هدأت من روعه كثيرًا وتمتم في رزانة ونبرة دافئة :
_ طيب وهو هل يصح إنك تركبي معاه في العربية وحدك
هزت رأسها بالنفي وهي تطرق رأسها أرضًا بإحراج وهمست في صدق وضيق من نفسها :
_ أنا مكنتش اقصد أعمل حاجة غلط والله ، هو لما قالي اركبي محبتش اكسفه وإنت عارف إن علاء كويس جدًا ولو كان غير كدا أنا مكنتش هتكلم معاه كدا نهائي أو هركب معاه أصلًا
أكمل بنفس نبرته السابقة :
_ أنا مقولتش حاجة على علاء أنا عارف علاء كويس وإلا كان زمانك هتشوفي ردة فعل مني مختلفة ، أنا بتكلم عليكي إنتي ، ده غلط واسمه خلوة وإنتي فاهمة يعني إيه خلوة .. فأنا مش هقول حاجة المرة دي وهعديها بس هتكون آخر مرة ولو حصلت تاني الصدفة دي ابقى اعتذري منه بأي طريقة ودايمًا تخلي في حدود في تعاملك مع أي راجل مش مع علاء بس وتبقى الحدود دي كمان لما تكوني مضطرة يعني في عمل أو شيء تاني إنتي مضطرة تتعاملي فيه مع راجل فتحطى حدود ومتسمحلهوش ولا تسمحي حتى لنفسك إنتي تتخطيها
ثم توقف عن الكلام للحظات واسترسل حديثه بابتسامة ساحرة ولين :
_ في مقولة بتقول زينة الغني الكرم وزينة الفقير القناعة وزينة المرأة العفة
هزت رأسها بالإيجاب وهي ترسم ابتسامة ناعمة على شفتيها :
_ حاضر صدقني آخر مرة ومش هتتكرر تاني
قرب رأسها من شفتيه ليقبل جبهتها متمتمًا قبل أن يستقيم واقفًا :
_ يحضرلك الخير ياحبيبتي أنا همشي بقى عشان متأخرش
ودعته بعناق سريع ثم انصرف وتركها تفكر في كلامه وتلوم نفسها بشدة على ما فعلته فهو لديه الحق في كل كلمة قالها ، وهي أخطأت حين سمحت لنفسها بأن تتخطى الحدود سواء مع شقيق ملاذ ” إسلام ” أو مع ابن عمها !! …
***
تجولت إلى مايقارب الساعة والنصف بين محلات الملابس النسائية وخاصة محلات الملابس الفضفاضة كالرداءات والعباءات والتنانير .. ألخ ، وبينما هي في آخر محل تحاسب على آخر شيء ستشتريه لفتت نظرها ساعة الحائط التي تجاوزت الثالثة عصرًا ، فخفق قلبها ببعض التوتر واسرعت للخارج بعد أن حملت أكياس ملابسها عازمة على الوصول للمنزل مسرعة داعية ربها ألا يكون وصل قبلها فهي لا تدري كيف ستكون ردة فعله .
نزلت من السيارة الأجرة أمام البناية الضخمة التي تقع شقتها في الطابق العاشر منها ، وتلفتت حولها فوجدت سيارته لتغمض عيناها بيأس وهو تزفر معنفة نفسها بشدة ، ثم أخرجت هاتفها ونظرت للشاشة وكان عدد الاتصالات الواردة منه تجاوزت الخامسة عشر مما أثبت لها أنها ستتلقى توبيخًا وسخطًا عنيفًا منه ، فقادت خطواتها المتعثرة لداخل البناية ثم استقلت بالمصعد الكهربائي وبعد لحظات وقفت أمام طابق شقتها فخرجت وتحركت صوب الباب ببطء وتردد تحاول إيجاد الحجج والأعذار التي ستبرر بها خروجها دون إذنه ، تفكر كيف ستهدأ من ثورته ! .
وضعت المفاتيح في قفل الباب وأدارته للشمال ثم فتحته بحذر وأدخلت جسدها تدريجيًا .. أولًا رأسها التي تلفتت يمينًا ويسارًا باحثة عنه ثم خطت بقدمها اليمني للداخل وأخيرًا جسدها كله ثم أغلقت الباب بحرص شديد وبطء ، وإذا بها تنتفض واقفة كأن عقرب لدغتها حين سمعت صياحه مناديًا عليها :
_ مـــــلاذ
ازدردت ريقها بارتباك والتفتت بجسدها بعد أن القت بالأكياس على أقرب مقعد منها ثم ذهبت له وهي تقدم رجل وتأخر الأخرى حتى وقفت أمامه وخطفت نظرة سريعة له لتجد وجهه مشتعلًا يعطي أحمرارًا مريبًا وخرج صوته الذي وقع في نفسها وقع مهيب ومخيف :
_كنتي فين ؟!
انزوت نظرها عنه في ربكة ملحوظة وهمهمت بأسف صادق :
_ أنا آسفة
ارتفعت نبرة صوته قليلًا وصارت أشد قسوة :
_ أنا مش بقولك اعتذري ، أنا بسألك كــنـــتي فــــيــــن ؟! ، وطلعتي من غير ما تقوليلي ومش بتردي على تلفونك كمان
كان صوتها منخفضًا وفيه شيء من للإحراج منه وهي تتمتم :
_ روحت اشتري كام حاجة ليا ومكنتش متوقعة إنك هتتعصب كدا أوي والله ولو كنت أعرف كنت قولتلك وأنا أساسًا كنت ناوية أرجع قبل ما ترجع بس تأخرت غصب عني
سرت رعشة في جسدها أثر صرخته العنيفة والثائرة بها وهو يخرج شحنة غضبه المكتظة داخله :
_ مفيش حاجة اسمها مكنتش متوقعة .. في حاجة اسمها إنك متجوزة ولما تطلعي من البيت تشاوريني وتاخدي إذني الأول مش تطلعي وتدخلي على مزاجك
هي لم تكن تقصد أن تخالف قواعد المرأة المتزوجة عند خروجها من المنزل ولكنها كانت تريد أن تفاجئه بما عزمت عليه ولا تريد أن يعرفه حاليًا إلا تحين اللحظة ، فرفعت نظرها له وقالت باعتذار ينبع من صميمها وصوت رقيقًا به خضوع كامل لأوامره :
_ حاضر .. أنا آسفة ، أول وآخر مرة صدقني مش هتتكرر تاني
لانت نظراته قليلًا لها وسكنت ثورته في الأعماق بعض الشيء ثم اقترب منها وهو يتفحص يديها الفارغتان مغمغمًا بغلظة صوته الرجولي :
_ وفين الحجات اللي جبتيها دي وإيه هي ؟!!
ابتسمت بلطف وتحدثت بنبرة انوثية ناعمة :
_ عملاها مفاجأة ليك لما ياجي وقتها هتعرفها
ران الصمت عليه لثوانٍ يحاول تخمين هذه المفاجأة التي تتحدث عنها ولكن لم يعطيها إهتمامًا زائدًا عن حده حيث نفضها عن ذهنه ، وثبت تركيزه على نفسه المتأججة بنيران الغيرة فكما أخبرها هو لا يستطيع الوثوق بها حتى الآن ولم تتمكن من إستعادة هذه الثقة ، وما يدور في عقله الآن هو سبب كل هذا الغضب ويجعله يحترق ويأكله أكلًا حيث همس في نظرة تركت أثرًا سلبيًا في نفسها ونبرة صوت خافتة تحمل لهيب الغيرة والازدراء معًا :
_ وياترى روحتي تشتري الحجات اللي عملاها مفاجأة ليا دي بس ، أصل إنتي متعودة بتقولي للناس رايحة مكان وبتكوني روحتي مكان تاني خالص
وقعت كلماته الجافة التي لا تحمل الرحمة كصخور ضخمة وتركت أثارها من جروح على جسدها وبالأخص قلبها ، أيشك بها ؟! ، يذكرها بليلة زفافهم حين أخبرتهم بأنها ذاهبة للحمام وخرجت لتقابل خطيبها السابق ، هل حقًا يظنها الآن خرجت لتقابله مجددًا ؟!!! ، ولكنها وعدته بأنها ستكف عن حبه وهي بالفعل فعلت ووعدته بأنها ستوهب حياتها لأجله وستكون ملكًا له ، واقسمت بأنها لا تريد سواه وأنها نادمة أشد الندم على الخطأ التي اقترفته وستبذل كل الجهد لتصحيحه ، هل يظن أن خنث الوعود من شيمها ؟! .. ربما خدعته واستغلته وخانته ولكنها لم تخنث وعدها أبدًا ولن تفعل .
غامت عيناها بالعبارات الحارقة والمعاتبة على ما قاله :
_ إنت شاكك فيا يازين !! ، أنا وعدتك إني مستحيل أقرر الغلط مرة تاني ومش معقول هكون بعمل كل اللي أقدر عليه عشان أصلح الوضع بينا واستعيد ثقتك واروح أعيد الغلط تاني ده يبقى اسمه غباء ووقتها ابقى استاهل إنك متدنيش فرص فعلًا .. أنا حلفت بالله أن القذر ده مبقيش في بالي أصلًا وإن إنت الراجل الوحيد في حياتي دلوقتي بس واضح إن حتى القسم بالله مخلكش تصدق ولسا بتشك فيا ومبقتش مجرد عدم ثقة لا كمان بقى شك إني بخونك وبقابله وبكمل علاقة حبي معاه
ثم استدارت وذهبت لغرفتها بعد أخذت أكياس ملابسها معها واجهشت ببكاء قوي وصل لأذنيه ، ليزفر متسغفرًا ربه فمهما حدث بينهم فإن آخر شيء يريد سماعه أو رؤيته هو بكائها ، اتجه نحو غرفتها وحاول فتح الباب ولكنه أبى ولم يفتح ففهم أنها أغلقته بالمفتاح من الداخل ، ثم أطرق على الباب بلطف هاتفًا :
_ افتحي ياملاذ
جاءه صوتها الباكي وهي تهتف بتضجر :
_ مش هفتح يازين وممكن تسبني وحدي لو سمحت
قال بلهجة آمرة بها شيء من الرفق :
_ قولت افتحي الباب ياملاذ .. افتحي يلا !!
وقفت مغلوبة على أمرها وفتحت له بوجه غارق في الدموع ليخرج منديلًا من جيبه ويمد يده به إليها وبنظرة دافئة ثم يهمس في هدوء ساحر :
_ فهمتي أنا ليه بقول الطلاق أفضل حل ولازم يحصل لإن أنا لا قادر اسامحك ولا قادر اشوفك بالوضع ده ، فده هيكون فيه خير ليكي أكتر مني
جففت دموعها بالمنديل الورقي الذي أعطاه إياه وهتفت بإصرار وحزم :
_ وإنت ادتيني فرصة ، لما استنزفها وقتها ابقى طلقني
_ ياريتك تمسكتي بالفرصة الأولى زي كدا وحافظتي عليها على الأقل مكنش ده هيبقى وضعنها
_ تمسكت بيها والدليل إني رفضت أسيبك وخدت عهد على نفس إني هشيل خطيبي من تفكيري ونجحت وزي ما نجحت هنجح دلوقتي كمان ، لإني مش عايزة اتطلق منك .. عايزة أفضل مراتك ، أنا بفتخر إني مراتك يازين وبقيت بحب ارتباط اسمي بإسمك
كانت تتحدث بثقة مفرطة وهي تخبره بأنها كما نجحت في تطهير قلبها من هذا الحب الخبيث المدنس ، ستنجح في استعادة ثقته بها وستتمكن من إزالة العوائق التي تحجب ضوء الشمس عنهم ، أما هو فقد دوت كلماتها الأخيرة في أذنيه التي ارسلت كلامها لعقله والذي بدوره قام بإفراز هرمون السعادة المسئول عن تحسين الحالة المزاجية ، فكان هو على وشك أن تنطلق منه ابتسامة عاشقة لهذا الكلام الذي بإمكانه أن يترك أثر إيجابي في نفس ورجولة أي رجل ولكنه كبح تلك الابتسامة بصعوبة وتكلف الجمود ولف ذراعه حول كتفيها طالبًا منها السير معه حتى الحمام ثم فتح الباب لها وقال بنبرة عادية :
_ اغسلي وشك واتوضي يلا عشان العصر أذن من نص ساعة
اماءت رأسها بالإيجاب ثم دخلت وأغلقت الباب عليها بهدوء ، وشرعت في غسل وجهها والوضوء لأداء فرضها وهي تجاهد في كبت دموعها من الانهمار مرة أخرى ! …
***
مع صباح يوم جديد كانت ملاذ تقف أمام مرآة غرفتها تستعد للذهاب لزيارة أهلها بعد أن طلبت منه الأذن ووافق وقال أنه سينتظرها ليأخذها معه في طريقه ثم يتجه هو لعمله بعد ذلك .
كانت ترتدي عباءة عصرية من اللون البينك مطرزة بفصوص بيضاء من الخرز وفوقها ترتدي حجابًا طويلًا اشبه بـ ( الخمار ) ثم قامت بإنزال النقاب على وجهها ، لم تكن تود أن تكشف عنه الآن وكانت تخطط لشيء آخر لتكشف له المفاجأة ولكن بعد ما قاله لها البارحة وشكوكه بها أنها لم تذهب لشراء بعض الأشياء الخاصة بها كما قالت وأنها ذهبت لمقابلة خطيبها السابق ، أثارت في نفسها الآم عنيفة وجعلتها تتخذ قرار حتمي بأن ترتديه اليوم وتثبت له صحة كلامها لعلها تستعيد ولو جزء صغير من ثقته بها .
القت نظرة أخيرة على مظهرها الخارجي فشعرت ولأول مرة أنها راضية عن نفسها وعن مظهرها ، رأت نفسها في هذه الملابس المحتشمة وهذا النقاب الذي يخفي وجهها أجمل من أي شيء ارتدته سابقًا ، فأخذت نفسًا عنيقًا واخرجته زفيرًا حارًا تستعد لمواجهته وترتب الكلمات التي ستقولها له ، فاستجمعت شجاعتها وثقتها بنفسها ثم خرجت من الغرفة واتجهت نحوه فوجدته جالس على أريكة متوسطة الحجم أمام التلفاز المغلق ويويلها ظهره وفي سبابة يده اليمنى مسبحة رقمية من اللون الأسود كلما يذكر الله يضغط على زرها فتقوم هي بالتسجيل والعد ، ازدردت ريقها بتوتر وهمست في صوت رقيق :
_ أنا خلصت !
التفت لها برأسه فلجمت الدهشة لسانه وتفحص مظهرها وملابسها بتدقيق ثم ثبت نظره على وجهه يحدجها بشيء من الذهول الممتزج بالإعجاب ، واستغرق الأمر ثلاث ثوانٍ بضبط حتى هب واقفًا وقال باستغراب متفهمًا عن سبب ارتدائها له فجأة هكذا :
_ إيه ده !!!
رفعته لأعلى لتظهر عن وجهها ثم تقترب منه بثقة تامة لا تعرف من أين جاءت بها وتهمس بصوت انوثي جذاب :
_ أنا اتفقت معاك من قبل الجواز إني هلبسه بإذن الله لما أكون واثقة من قراري ، ودلوقتي ده انسب وقت عشان اثبتلك إني مش عايزة أي راجل غيرك يشوفني !!
رفعته لأعلى لتظهر عن وجهها ثم تقترب منه بثقة تامة لا تعرف من أين جاءت بها وتهمس بصوت انوثي جذاب :
_ أنا اتفقت معاك من قبل الجواز إني هلبسه بإذن الله لما أكون واثقة من قراري ، ودلوقتي ده انسب وقت عشان اثبتلك إني مش عايزة أي راجل غيرك يشوفني !!
هيمن عليه الصمت للحظات بعد ما قالته فقد دفنت أي شيء كان من الممكن أن يقوله بعد أخر جملة تفوهت بها ، ولم يجد شيء ليقوله سوى تهنئتها حيث غمغم بابتسامة :
_ مبروك ياملاذ ، ربنا يثبتك
ثم هم بالاستدارة ليذهب فقبضت هي على ذراعه واردفت بتعجب :
_ بس !!
_ بس إيه !؟
قالها في ريبة حقيقية لتكمل هي بخيبة أمل :
_ اقصد مبروك بس ! .. يعني مش هتقول حاجة تاني ؟!
عاد يستدير بكامل جسده لها ويضيق عيناه متشدقًا ببرود وجفاء :
_ المفروض أقول إيه مثلًا أكتر من كدا !
زمت شفتيها بيأس وقالت في قسمات وجه واضح عليها العبوس :
_ أنا توقعت إنك هتفرح لأنك كنت متحمس جدًا ومبسوط جدًا بالفكرة لما قولتلك عليها بعد كتب الكتاب
ابتسم بازدراء وهمس بكلمات جعلتها تتأكد بأن جميع جهودها معه لم تجدي بنفع :
_ وانتي قولتي اهو بعد كتب الكتاب يعني قبل ماتحصل أي حاجة بينا .. دلوقتي إنتي متعنيش ليا بحاجة ياملاذ
شعرت بأن غدتها القنوية ستبدأ في افراز دموعها ، فقد اوشكت على فقدان الأمل في أن تعود العلاقة بينهم كما كانت ويعود هو لطبيعته الحانية والجميلة التي لم تشهدها سوى لمرات قليلة ولوهلة شعرت الآن أنها تشتاق لرؤية حبه لها ومعاملته التي شبه بمعاملة الملوك لزوجاتهم ، خرج صوتها مبحوحًا بنظرات منكسرة :
_ زين إنت بجد بقيت تكرهني !
اصدر تنهيدة حارة وقال متهربًا من الأجابة على هذا السؤال الذي لا يستطيع الأجابة عليه بـ لا ، فبرغم كل ما حدث بينهم مازالت تستحوذ على جزء كبير منه :
_ أنا بقول إن يلا بينا عشان اتأخرت على الشركة ، انا هسبقك على تحت وهستناكي في العربية وإنتي تعالي ورايا
ظلت مكانها تتابعه وهو يغادر المنزل ثم انزلت النقاب على وجهها مجددًا واخذت حقيبة يدها ولحقت به ، لتستقل بجواره في السيارة دون أن تنظر له مستغلة فرصة تغطيه وجهها لتترك العنان لدموعها من أسفله ، أما هو فكان يختلس نظرات سريعة لها من آن لآن فلا ينكر سعادته حين رآها ترتديه وبالأخص حين سمع جملتها بأنها لا تريد رجل سواه يراها ، والآن هو يواجه صراع بين رغبة قلبه وحكمة عقله التي ترفض الخنوع لها ويقتنع أن التي قامت بخداعه مرة بإمكانها أن تفعلها مجددًا !! ……
***
داخل منزل محمد العمايري ….
ينظر لصحن الطعام الذي أمامه بصمت ويحرك المعلقة يمينًا ويسارًا فيه دون أن يرفعها لفمه مطلقًا ، يفكر فيما قالته أمه له فقد كان جزء من كلامها صحيح والجزء الآخر يستحيل حدوثه ، هي لديها الحق عندما قالت إلى متى سيظل يحاول حمايتها ويرعاها هكذا وإلى متى ستبقى معهم في المنزل ، ولكن حلها للمشكلة بزواجه منها لا يمكن بل مستحيل .. ولا يستطيع أن يوهب قلبه لامرأة سوى زوجته التي تمثل مانع وحاجز بينه وبين أي امرأة أخرى ، فلقد نجحت في أن تعميه عن النساء اجمعهم في حضورها وحتى بعد مماتها ! .
انضمت لطعامه أمه التي جلست على مقعد في آخر الطاولة وبدأت في تناول طعامها دون أن تنظر له أو حتى تلقى عليه تحية الصباح فزفر هو بخنق وتمتم مبتسمًا بلطف :
_ صباح الخير !
ردت عليه في اقتضاب متصنع حتى توهمه بأنها بالفعل غاضبة منه ولن ترضى عنه إلا حين ينفذ ما تريد :
_ صباح النور
نهض من مقعده واقترب ليجلس على المقعد المجاور لها ثم امسك بكفها وقبل ظاهره بحنو متمتمًا في اعتذار صادق :
_ أنا آسف سامحيني اتعصبت عليكي امبارح غصب عني والله .. واوعدك لو إنتي مضايقة من وجود شفق هنا هشوف حل في أقرب وقت
سحبت يدها من بين يديه وهتفت في إصرار وقسوة وهي تكمل تناول طعامها :
_ وأنا قولتلك الحل ياكرم ومعنديش غيره وهنفذ اللي قولتهولك فعلًا لو متجوزتهاش
استغفر ربه وهو يزفر بنفاذ صبر ويتمتم متوسلًا إياه برقة :
_ يا ماما ابوس إيدك بلاش اللي بتعمليه ده ، إنتي عارفة إني مقدرش ازعلك مني وفي نفس الوقت مقدرش أعمل اللي بتقوليه ده ، متجبرنيش اختار بين حاجتين أنا مقدرش أعمل ولا واحدة فيهم
نظرت له واغلقت على قلبها بالمفتاح حتى لا يدخله بنظراته وكلامه ويضعف من موقفها ، وليخرج صوتها قاسيًا لا يحمل رحمة :
_ لازم تضحي بحاجة وشوف بقى إنت هتضحي بإيه
قال شبه غاضبًا دون أن يرفع صوته :
_ دي مفيهاش اختيار ولا تضحية ، إنتي كأنك بتطلبي مني ادمر حياة البنت ، أنا لو عملت اللي بتقوليه هبقى بظلمها وأنا مش هقبل بكدا لإني عارف إني مش هقدر انسى اروى ولا أحبها
_ هتحبها وابقى افتكر اللحظة دي لما تتجوزها ويحصل اللي بقولك عليه
هو رأسه نافيًا بعدم حيلة عندما أدرك استحالة الحديث معها ومحاولة اقناعها بأن تتوقف عن ما تفعله ، فهتف محاولًا تغيير مجري الحديث حتى لا يفقد زمام نفسه :
_ فين رفيف ؟
_ معاها محاضرة مهمة طلعت من الصبح بدري وبعد ما تخلص هتروح على الشركة
_ وشفق ؟!
هنا التزمت الصمت للحظات قصيرة ثم التقطت قطعة خيار والقتها في فمها متمتمة في برود وهدوء تام :
_ مشيت الصبح صمتت إنها تمشي وأنا مقدرتش امنعها .. أصل همنعها بأي حق ، وهي بنفسها قالت إنها مش مرتاحة هنا يعني رأيها من رأي في موضوع إنها مينفعش تقعد
هتف غير مستوعبًا ما قالته وفي شيء من الصدمة :
_ مشيت إزاي يعني !! ، وليه مصحتنيش ؟! ، وإزاي تسبيها تمشي بالسهولة دي ؟!!
_ هعملها إيه يعني هربطها في السرير مثلًا !
هب واقفًا وهو يتأفف بأنفاس ملتهبة فلقد نجحت الظروف في إخراج جانبه السيء ، ورغم كل هذا لازال ينجح في السيطرة على جموحه أمام أمه حيث هتف بهدوء مزيف :
_ وراحت فين ؟!
هزت كتفيها لأعلى بمعني ” لا أعرف ” ليخرج هو هاتفه ويتصل عليها فيجد هاتفها خارج نطاق الخدمة ليلقى نظرة معاتبة على أمه قبل أن يندفع لخارج المنزل ظنًا منه أنه عندما يذهب لمنزلها سيجدها فيه !! ……
***
مرت ساعة منذ استيقاظه وهو يجلس أمام التلفاز ولم يسمع لها صوت فليس من العادة أن يستيقظ ويجدها مازالت نائمة ، مما أثارت شكوك القلق بداخله فهب واقفًا واتجه نحو غرفتها ثم فتح الباب ببطء هاتفًا مناديًا عليها بصوت عادي :
_ يسر !!
فسمع صوت رذاذ المياه في الحمام ليدرك أنها استيقظت وتأخذ حمامها الصباحي ، ولكن فضوله دفعه للدخول وتفحص غرفتها واشيائها ، والقى نظرة شاملة وعامة أولًا على الغرفة متفحصًا جميع أجزائها بعيناه وبتلقائية قام بفتح الخزانة كنوع من الفضول أيضًا ولسوء الحظ أنه فتح الباب الخطأ حيث رفع حاجبه مبتسمًا بشيء من السخرية ومد يده يقلب بين ملابس العرائس النسائية التي لا تخلو خزانة زوجين منها ، كانت الوان وأشكال ومعظمها من الألوان المفضلة لديه هل هذه صدفة أم تلك الخبيثة خططت لكل شيء ! ، كان يخرج واحدًا واحدًا يمسكه من رأس الشماعة ويقلبه يمينًا ويسارًا ، هل كانت حقًا تظن أن الحياة بينهم ستكون ورديه لتقوم بشراء كل هذه الملابس المثيرة !! ، كان يحدث نفسه هكذا ، وبعد ما يقارب الدقيقتين أغلق الخزانة وهم بالمغادرة ولكن البوم الصور الموضوع على الفراش لفت نظره فاقترب وجلس ثم التقطته وبدأ يقلب في صوره كانت صورة تجمعها مع أصدقاء لها وصور جماعية عندما كانت في الجامعة ولكن احتوى الألبوم على صور كثيرة جدًا تجمعها بشاب لا يعرفه ربما كانت كثيرة أكثر من اللازم إلى الحد الذي جعله يتساءل بشدة وتصيبه الشكوك حول ما العلاقة التي تجمعها بذلك الشاب والذي تسمح لها بأن تلتقط كل هذه الصور معه وتقوم بحفظها داخل البوم !! .
خرجت من الحمام وهي ترتدي ملابس منزلية تصل لركبيتها وبحملات أظهرت عن ذراعيها كاملًا وجزء من صدرها العلوي وبمجرد ما رأته انتفضت واقفة بزعر واسرعت تنزل المنشفة التي على شعرها وتلفها حول ذراعيها لتخفي شيء قليلًا ثم هتفت باستغراب :
_ بتعمل إيه هنا ؟!!
تجاهل سؤالها ورفع الألبوم أمامها يسأل في ريبة واضحة وصوت غليظ :
_ مين ده ؟!
اقتربت وسحبت من يده الألبوم واغلقته ثم وضعته علي المنضدة الصغيرة بجانب الفراش وقالت في ضيق ملحوظ من عبثه بأشيائها دون إذنها :
_ مش لازم تعرف اعتقد إن مش هتفرق معاك ، ثم إن إنت أصلًا مين سمحلك تقلب في حاجتي من غير أذني
استفزه جدًا طريقتها ولكنه تمكن من تمالك انفعالاته وغمغم في برود كان مستفز أكثر بالنسبة لها :
_ أنا سألتك سؤال واحد وأظن أن الأجابة مش محتاجة الرغي ده كله
_ وأنا مش عايزة أقولك أساسًا
أجابها بنظرة صارمة وحادة :
_ أعرف ليه بقى ؟!
هتفت بعدما اكتراث له مطلقًا وكلمات اشعلت فتيل النيران في أعماقه :
_ حاجة متخصكش وبما إننا قريب أوي هنتطلق أعتقد ملهاش لزمة وممكن بقى تطلع عشان عايزة البس
صر على أسنانه وكور قبضة يديه كدليل على هيجانه الداخلي وأنه يمنع نفسه الثائرة عنها بصعوبة ، ثم هتف بابتسامة مزيفة تخفي خلفها جموح مخيف :
_ ماشي يايسر !
ثم انصرف وتركها تفكر في أمره وتبتسم بسعادة داخليه فلأول مرة ترى اهتمامه بشيء يخصها ، كان دومًا يشعرها بأنها نكرة وليست ضمن قائمته بتاتًا ، ولوهلة شعرت أنه تضايق بسبب هذه الصور ولكن رفضت هذه الأفكار السخيفة فآخر شيء تتوقعه منه الآن هو الغيرة ، ما حدث للتو ليس سوى بدافع فضوله وتطفله عليها !! …….
***
مع تمام الساعة الواحدة ظهرًا داخل شركة العمايري …..
كانت رفيف تتفحص مكتبها الجديد بابتسامة عريضة ، تتفقد كل شيء به وبالمكتب الخشبي ذو اللون الأسود والنافذة التي تعطي اطلالة رائعة على الشارع بالخارج من الأعلى ، وبينما هي منشغلة بالنظر من النافذة سمعت طرق الباب فالتفتت وسمحت للطارق بالدخول ، فوجدته علاء حيث فتح جزء من الباب وهتف باسمًا بمشاكسة مألوفة منه :
_ مبروك على الوظيفة الجديدة .. خلاص بقينا business woman
ضحكت بخفة ثم أجابته في رقة طبيعية منها :
_ ادخل ياعلاء
دخل وترك الباب مفتوحًا وجلس على مقعد وثير أمام المكتب وهتف ضاحكًا :
_ على حظك الوحش إن يسر مجاتش النهردا
جلس على مقعدها الخاص أمام مكتبها وقالت ببساطة وهدوء محاولة ان تكون أكثر حذرًا في التحدث معه حتى لا تتخطى الحدود كما وعدت أخيها :
_ مش مشكلة لسا الأيام جاية كتير إن شاء الله .. شكرًا جدًا ياعلاء إنت السبب الأكبر أني بدأت شغل هنا لولا إنك قولت ليسر وهي اقنعت حسن مكنتش هعرف اقنعهم نهائي
ابتسم لها بلطف وحدجها بنظرات دافئة مغمغمًا في صوت هاديء وجذاب :
_ أي خدمة يابنت العم ، أي حاجة تعوزيها هتلاقيني موجود اطمني .. يلا أنا همشي بقى أنا قولت آجي ابارلك على السريع بس ، عايزة حاجة ؟
هزت رأسها بالنفي وهمست مبتسمة بصفاء :
_ عايزة سلامتك !
هب واقفًا وانصرف بعد أن أغلق الباب خلفه أما هي فاستمرت في تفحص كل شيء يحتويه داخل الأدراج هذا المكتب متوسط الحجم …….
***
في مساء ذلك اليوم وبينما الساعة كانت قد تخطت الثانية عشر بعد منتصف الليل فتحت ملاذ عيناها ونهضت من فراشها وهي تفرك عيناها لتزيح بعض من أثار النوم حتى تتمكن من الوقوف والذهاب للمطبخ لشرب الماء ، فذهبت للمطبخ وشربت كوبًا من الماء البارد وبينما هي في طريق عودتها لفراشها وغرفتها سمعت صوتًا هاديء وجميل يتلو القرآن لوهلة ظنت أنه الراديو أو تسجيل لأحد الشيوخ من شدة جمال الصوت ، لتقود خطواتها نحو مصدر الصوت وتفتح الباب ببطء فتجده هو الذي يمسك بكتاب القرآن الكريم ويتلو آياته كسلاسل من ذهب بصوت يبعث السكينة والاطمئنان في النفوس ، فتبتسم هي بحب وتدخل ثم تغلق الباب خلفها بحذر شديد وتقترب منه لتجلس بجوايلا
على الأريكة الصغيرة وتستند بمرفقها على حافة الأريكة العلوية وهي مثبتة نظرها عليه تتلذذ بجمال صوته ، أما هو فانتهي من الآية وتوقف عن القراءة لينظر لها ويقول باستغراب :
_ إيه اللي مصحيكي دلوقتي ؟!
قالت برقة ساحرة وابتسامة تخطف القلوب بغمازتها :
_ قومت أشرب وسمعت صوتك فجيت
_ طيب روحي كملي نومك !
هزت رأسها بالرفض وهي تقول بصوت ينسدل كالحرير ناعمًا :
_ لا هنام جمبك هنا على صوتك ، كمل يلا
أردف في جدية بسيطة وحزم :
_ هتنامي هنا إزاي يعني قومي روحي اوضتك ياملاذ
تشدقت بإصرار والحاح تام :
_ يبقى تاجي معايا الأوضة وتقعد جمبي تقرأ قرآن لغاية ما أنام ، يا إما أقعد هنا
أدرك أنه لا مفر من عنادها وإصرارها فاستسلم لها وهتف مغلوب على أمره :
_ استغفر الله العظيم .. طيب اسبقيني على الأوضة وأنا جاي وراكي
ارتفعت ابتسامتها وكادت أن تشق طريقها حتى أذنيها من فرط سعادتها بموافقته أن يبقى بجوارها لدقائق الليلة في غرفتها حتى تنام ، ثم استقامت وعادت لغرفتها مجددًا وتدثرت بالغطاء لنصف جسدها وهي جالسة في انتظار مجيئه وبعد لحظات دخل واغلق الباب خلفه ثم اقترب ناحيتها وجلس على الفراش من الجهة الأخرى فمددت جسدها كاملًا ورفعت الغطاء حتى صدرها ونامت على الجهة المقابلة له اما هو فعاد يكمل التلاوة بداية من الآية التي توقف عندها ، وهي تحدق به بصمت وكم تمنت لو أن حياتهم تصبح طبيعية ، وكل ليلة يكون بجوارها ويقضي ليله معها في غرفة واحدة ، بدلًا من أن يكون لكل منهم غرفة منفصلة ! .
الآن فقط هي تستطيع وبكامل الثقة وعدم التردد أن تعلن عهده الجديد ، وقد ذعنت لقلبها وقبلت بما يحاول اقناعها به وهو أنها ” أحبته بشدة ” ولا تريد رجل سواه أن يكون معها .. ترغب في أن تكون زوجته لآخر نفس يخرج منها ، بل وأيضًا تود أن تكون أمًا لأولاده ولكن هيهات فهو لم يسمح لها بعد بالتوغل في قلبه من جديد وستضطر أن تعاني عقاب خطأها وتنتظر لحظة الإفراغ عن مشاعره المحبوسة خلف القضبان ! .
بدأت تغمض عيناها تدريجيًا حتى ابحرت في ثبات عميق وبعد دقائق انتهى هو من القراءة فالتفت لها وهمس بترقب :
_ ملاذ !
لم يجد الأجابة منها فيتنهد بعمق ثم يضع كتاب القرآن الكريم على المنضدة بجانبه ويلتفت لها ليتأمل ملامحها بأسى ، يلومها بشدة على ما فعلته بهم .. فقد دفعته إلى الدرجة الذي يكون فيها في أقصى لحظات رغبته واشتياقه لها ولا يستطيع تلبية رغبته فقط لأنه لا يتمكن من استعادة ثقته بها ، يجد صعوبة في أن يسلمها قلبه ونفسه مجددًا .. يخشي أن يثق بها من جديد فتخذله للمرة الثانية ، ومن جانب آخر لا يستطيع مكابحة عقله الذي يلح عليه أن يطلقها ويقي قلبه ونفسه من هذه العلاقة المزعزعة ، فيواجه تعنيف قلبه الذي يتوسل له أن لا يستمع لعقله ويعطيها فرصة ثانية فهي اخطأت واعترفت بخطأها و ندمت ثم طلبت منه السماح وقطعت الوعود بأنها لن تسمح بشيء كهذا أن يتكرر مرة أخرى ، وستكون له بكامل جوارها لتصبح زوجة تليق به ويفتخر بها ، وإن خلفت بوعودها هذه المرة وخانت الثقة مجددًا يحق له أن يستمع لعقله ، ولكن إذا استمع له الآن سيكون الظالم والجلاد الذي نفذ حكم الأعدام في مذنب قام بالسرقة بينما هو في القانون لا يستحق الأعدام ! .
ولكن حتى وإن استمع لرغبة قلبه لن يتمكن من الصفاء بسهولة ، ولن يعدها بأن تعود علاقتهم كما كانت إلا بعد وقت طويل .
مد يده وابعد خصلات شعرها عن وجهها وارجعها للخلف ثم مرر ابهامه على وجنتها بلطف يتحسس بشرته الناعمة فتفتح هي جزء بسيط من عيناها لترى صورته غير واضحة ولكن شفتيها انحرفت قليلًا لليمين وبدون وعي مدت يدها وقبضت على كفه الذي على وجنتها وقربته من شفتيها لتطبع قبلة ناعمة على باطنه وهي تحت تأثير النوم ثم اغلقت عيناها من جديد وأكملت نومها كما كانت وكأن لم يحدث شيء ، فسحب هو كفه من بين كفها بحرص ثم نهض من الفراش واطفأ ضوء الغرفة وقبل أن يرحل انحنى وطبع قبلة مطولة على رأسها في ابتسامة حانية وبعدها رحل فورًا قبل أن يفقد زمام السيطرة على نفسه التي تطوق إليها ! ……..
***
ترجل من سيارته وقاد خطواته نحو الأريكة المتوسطة في منتصف حديقة المنزل وجلس واضعًا رأسه بين راحتي يديه بيأس وشجن ، ماذا عساه أن يفعل من أين له القوة لكي يتحمل كل هذا تباعًا ، لقد سئم حياته حقًا فكل شيء يضغط عليه من جميع الجهات وبات لا يعرف يرضي من أو ماذا يفعل .
من جهة والدته التي تصر على رغبتها في زواجه ، ومن جهة تلك العنيدة التي لا تدرك خطورة ماهي فيه وتعرض نفسها دومًا للخطر فمنذ الصباح وهو يبحث عنها في كل مكان قد يمكن أن تكون به ولكن لا أثر لها حتى هاتفها لا يستطيع الوصول إليها من خلاله . أما بالأعلى تقف كل من هدى ورفيف التي هتفت بإشفاق على أخيها :
_ قوليله ياماما حرام عليكي كرم بذات فيه اللي مكفيه
قالت هدى بإصرار وشيء من الشفقة :
_ وإنتي فاكرة إني مبسوطة كدا !! ، ما أنا بعمل كدا عشان مصلحته وهو عنيد مش عايز يفهم وأنا مش هسيبه كدا لغاية ما يدمر حياته ونفسه ، سبيه يومين يدور عليها وبعدين هيدرك إن عندي حق وهيوافق
قالت محتجة ومعاتبة أمها بلطف :
_ إيه ياهدهد مكنتش أعرف إنك قاسية كدا .. ولما تقسي بتقسي على كرم ، على فكرة بقى أنا مش هستحمل اشوفه كدا وهروح أقوله
قبضت هدى على ذراعها وصاحت بها معنفة إياها في تحذير حقيقي :
_ إياكي يارفيف تقوليله وإلا والله العظيم يكون ليا تصرف تاني معاكي ، ملكيش دعوة دول ولادي وأنا عارفة أنا بعمل إيه كويس وفاهمة دماغ كل واحد فيهم
تراجعت وهي تلوى فمها بامتعاض وتتأفف بخنق وإشفاق على أخيها المسكين ، أما هدى فأخذت تحدق به بأعين دامعة وقلب يحترق على حزنه وألمه ولكنها متيقنة أن ما تفعله سيكون السبب في تضميد جروحه التي تنزف منذ افتراقه عن زوجته !! …..
***
داخل منزل حسن العمايري …….
كانت تجلس أمام التلفاز تشاهد إحدى قنوات الطبخ وبينما هي مندمجة في التلفاز ، جال بعقلها ما حدث بينهم في الصباح فانزلت نظرها عن التلفاز وثبتته على اللاشيء بشرود ، ليأتيها صوت بداخلها ويخبرها بأنه لم يكن من الجيد وليس في صالحها أن تحادثه هكذا ، هي الآن في أمس الحاجة لأي شيء ليقربها منه فتستطيع من خلاله امتلاك مفاتيح قلبه ، وما فعلته بالصباح له تفسير واحد وهو أنه غباء منها ، والحل الوحيد هو الأعتذار منه ومحاولة تلطيف الجو بذكائها ودهائها الانوثي ! .
استقامت وقادت خطواتها الواثقة نحو غرفته ثم طرقت على الباب عدة طرقات متتالية في لطف هاتفة :
_ حسن إنت صاحي .. أدخل ؟
أتاها صوته الحازم يسمح لها بالدخول ففتحت الباب ببطء ودخلت ثم اغلقته خلفها كما كان ، ونظرت له فوجدته متسطح على ظهره فوق الفراش ويعقد كفيه خلف رأسه ، فتحنحت باضطراب بسيط واقترب لتجلس على حافة الفراش بعيدًا عنه قليلًا وتطرق رأسها أرضًا هامسة باعتذار صادق وهي تعبث بأصابعها :
_ أنا آسفة بخصوص الصبح متضايقش مني
أطال النظر إليها في سكون دون أن يجيبها أو يكون على وجهه أي تعابير ، لتكمل هي بجدية بعد أن نظرت له :
_ لسا حابب تعرف مين ده ؟
رسم ابتسامة متصنعة على وجهه وغمغم بصرامة :
_ مش عايز أعرف حاجة ، أنا عايز أنام ممكن تطلعي برا !
وردة فعلها كانت غير متوقعة بالنسبة له حيث هزت رأسها بالنفي وتمتمت مبتسمة :
_ تؤتؤ لما أقولك الأول بعدين هطلع عشان ابقى ريحت ضميري
مالت شفتيه لليسار بابتسامة ساخرة لتستكمل هي حديثه بنبرة عادية :
_ ده كان زميلي في الكلية وكنا مجموعة كبيرة بنات وأولاد أصدقاء جدًا بسبب إننا كنا مع بعض في كل نشاطات الكلية وكدا ، واللي شوفته في الصورة ده كان صداقتنا قوية شوية وكنا في كل حاجة في الكلية مع بعض والصور دي اتصورناها لما كنا في حفلات تبع النشاطات أو حجات تبع الكلية نفسها فإنا شيلاها كنوع من الذكرى برضوا عادي ولغاية دلوقتي احنا احيانا بنتواصل
عبارة ” لغاية دلوقتي ” التي تفوهت بها جعلته يرفع حاجبه بشيء من الدهشة ويهتف بنبرة رجولية خشنة :
_ لغاية دلوقتي !!!
_ أيوة أقصد يعني مجرد سؤال كلنا بنسأل على أحوال بعض كل فترة وفترة والفترة دي ممكن تبقى مرة كل تلات شهور أو اربعة
هز رأسه بتفهم وهو لا يزال يحتفظ بتفاصيل وجهه الصارمة ولكن اختفت في سرعة البرق هذه التفاصيل وحل محلها التوتر حين وجدها تسأله وهي تضيق عيناها بلؤم :
_ إنت كنت بتسأل ليه بقى ؟!
نظر لها بذهول لعدم توقعه لسؤالها هذا وتمتم بتوتر ملحوظ :
_ بسأل ليه !؟
اعتدل في نومته وغمغم بطبيعية جاهد الظهور بها وبنبرة صوت كان يحاول أن تبدو عادية :
_ عادي فضول حبيت أعرف لما شوفتها
اتسعت ابتسامتها وقالت بنبرة صوت ماكرة تمكن من فهمها جيدًا :
_ أممممم ما أنا قولت كدا برضوا .. المهم إنت مش زعلان مني خلاص صح ؟!
قال ببرود متعمدًا استفزازها وحتى يخرج تلك الأفكار السخيفة من ذهنها التي لمحت لها للتو :
_ لا مش زعلان أنا أصلًا مكنش في بالي ومكنش الموضوع فارق معايا أوي يعني
نجح بالفعل في أغضابها حيث قالت وهي تجز على أسنانها بغيظ :
_ أه فعلًا ما أنا لاحظت ده .. طيب تصبح على خير ياحسن !
قالت آخر كلماتها وهي تستقيم واقفة وتستدير لتنصرف فيأتيها رده الذي لا يختلف في نبرته عن سابقتها وهو يحاول منع ابتسامته من الانطلاق :
_ وإنتي من أهله !
***
في مساء اليوم التالي …….
كان كرم في غرفته يحتسي كوب القهوة خاصته ويشغل بأن رأسه ستنفجر من كثرة التفكير ، حيث بدأت الوساوس تنهشه نهش ، فلو ذهبت لماذا هاتفها خارج نطاق الخدمة ومالذي يدفعها للذهاب لمكان لا يستطيع حتى تخيله ، فهذه ليست عادتها وهو اعتاد منها على الصراحة لا الهرب ، إن كانت لا ترغب بالقباء بمنزله لكانت قالت له بنفسها وصممت على الرحيل .. ولكن كل ما يحدث الآن يزيد الأمر سوءًا بالنسبة له يخشي أن يكون ذلك الوغد قد نال منها قبل أن ينل هو منه . اليوم هو اليوم الثاني لها منذ اختفائها وكل هذا يذكره بحادثة زوجته حيث تم العثور عليها بعد ثلاث أيام في إحد الأمكان المهجورة وبعد أن فاحت رائحة الجثة وبدأت تتعفن ، وكلما تجول بذهنه هذه الذكريات الأليمة يحاول إخراجها ولكن بلا جدوى .
قطع لحظات هدوءه صوت رنين هاتفه الصاخب فالتقطه وأجابه بهدوء :
_ أيوة يامسعد
أجابه الآخر مبتسمًا بشيطانية :
_ عرفت مكانه ياكرم بيه
وثبت واقفًا وتشدق بمزيج من الفرحة والنشوة التي اعترته :
_ متأكد ؟!
_ متأكد طبعًا .. هستناك عند الشركة عشان المكان قريب من هناك
انهى الاتصال فورًا وقد لمعت عيناه بوميض الأنتقام والثأر وشرع في ارتداء ملابسه ثم فتح أحد ادراج المكتب الصغير بجانب الفراش والتقط السلاح ثم وضعه في بنطاله من الخلف وارتدي فوقه السترة السوداء الجليدية وانطلق مغادرًا المنزل مستقلًا بسيارته لينطلق بها كسرعة البرق …. !!!
***
انتهت من تسريح شعرها وثبتته بمشبك للشعر ورفعته لأعلى ثم نزعت عنها روب النوم وكانت على وشك أن تتسطح على الفراش ولكنها التفتت مزعورة على أثر فتح الباب ووجدته هو يدخل بهدوء ويغلق الباب خلفه فتهتف في توتر :
_ حسن !! .. إنت جيت إمتى ؟!
وجدته يقترب منها في خطوات غير متوازنة لتتراجع للخلف بنظرات مرتبكة ومرتعدة قليلًا من هيئته الغريبة ، انتهت قهقرتها عندما اصطدمت بباب الخزانة وهو لا يزال يقترب منها حتى وقف أمام مباشرة ولا يفصله عنها سوى سنتي مترات قليلة ثم همهم بنبرة متألمة وأعين تلمع بالدموع :
_ كان عندك حق أنا كنت غبي جدًا وساذج .. تعرفي إن رحمة هي اللي لفقت ليا تهمة القتل من سنتين ودخلت السجن بسببها وكله ده ليه عشان تسرق فلوس المشروع اللي كنت ناوي أعمله ، حلمي !
أدركت أنه ليس بوعيه وأنه قام بشرب جرعة زائدة مما جعلته ثملًا قليلًا ، لتتنهد بأسى وتحاوط وجهه بكفيها هامسة بإشفاق :
_ عارف عارفة ياحبيبي .. تعالى خد دش وفوق وبعدين نبقى نتكلم
انحنى ودفن وجهه بين ثنايا عنقها يستمد من حرارة جسدها بعض الدفء والقوة لتشدد هي من عناقه وتملس على شعره بحنو ، وبعد لحظات قصيرة احست بأن الأمر سيكون أكثر من مجرد عناق فابتعدت عنه وهي تردعه عن مايحاول فعله في اضطراب وتلعثم :
_ حسن بتعمل إيه !! .. إنت مش في وعيك و…..
قاطعها واضعًا سبابته على شفتيها هامسًا بنبرة ونظرات سلبتها علقها قبل قلبها ، فهي ضعيفة ومسلوبة القوة أمامه وأمام عشقها لها :
_ أنا محتاجلك يايسر !!
توقفت السيارة بمكان اشبه بصحراء خالية من البشر ويوجد بها مبنى مهجور غير مكتمل البناء ، تطلع كرم بالمبنى بإمعان وعادت لذهنه كل لحظة في ذلك اليوم .. عندما وصلت الشرطة وصديقه وكان هو معهم ووجدوها في ذلك المكان ودمائها حولها تملأ الأرض وكانت شبه جافة من المدة التي أخدتها مختفية ولم يعثروا عليها . واليوم ذلك الوغد موجود بنفس المكان ليكون ثأره وانتقامه منه أفضل انتقام وسيتعمد أن يسلبه روحه بنفس القطعة التي وجدوا فيها جثتها .
نزل من السيارة وهتف محدثًا الذي بجواره :
_ خليك هنا يامسعد
أجابه الآخر رافضًا :
_ لا هاجي معاك مش هسيبك وحدك
رمقه بحدة وغمغم بنبرة لا تقبل النقاش :
_ قولتلك خليك هنا !!
ثم قاد خطواته نحو ذلك المبني وكان قد اقترب من الباب ليدخل فيراه صديق ذلك الوغد الموجود بالأعلى معه ةيهتف مفزوعًا :
_ كرم العمايري هنا
وثب الآخر واقفًا وقال مرتعدًا وقد ظهرت علامات الرهبة على وجهه وقال مسرعًا :
_ طيب يلا بينا نمشي بسرعة قبل ما يلاقينا
ثم اسرعوا وغادروا البناية من باب آخر وهم يركضوا نحو سيارتهم القديمة ولسوء حظهم أنهم شعر بخطوات قدمهم فأسرع راكضًا خلفهم ولمحه وهو يركض بعيدًا ليستقل بالسيارة ، وبدون تردد أخرج سلاحه وصوبه نحوه ليصيب قدمه حتى يعوق حركته ويستطيع الإمساك به ولكن الطلقة اصابت كتفه فاستكمل هو ركضه متألما وممسكًا بذراعه المصاب حتى استقل بالسيارة مع صديقة وانطلقوا .. أما مسعد فترجل من السيارة في هلع فور سماعه لصوت إطلاق النيران وركض نحو مصدر الصوت من خلف البناية وهتف محدثًا كرم بدهشة عندما رأى السلاح في يده :
_ إنت اللي ضربت النار !!!
قال في أعين نارية ومتوعدة لذلك الوغد :
_ فلت مني المرة دي كمان بس مش هيفضل يهرب كتيير كدا ، مسيره هيوقع تحت إيدي
***
كانت تجلس على طاولة الطعام الفارغة وتحملق في اللاشيء بشرود وأشعة الشمس الذهبية تتسللت من النافذة لتعطي لمعة ساحرة لوجهها الأبيض والنقي وكذلك شعرها الكستنائي .
عيناها متجمعة بها الدموع الحارقة ولا تعرف كيف استسلمت له بالأمس ، كيف سمحت لنفسها بأن تكون بهذه السذاجة .. هي تريده وبشدة وتريد أن تعيش معه كأي زوجين طبيعية ولكن ليس بهذه الطريقة ، هي حتى الآن تحاول إيجاد تفسير لفعلتها الغبية و أجابة لسؤالها أنها كيف وقعت أسيرة للمساته ونظراته بكل هذه السهولة ، هذه ليست طبيعتها الشرسة والقوية والصامدة .. ولوهلة تمنت لو أن بإمكانها استعادة الأمس لردعه بعنف ومنعه من ما فعله وهي شاركته فيه بسذاجة لا تقل عنه !! .
وجدته يخرج من غرفته بعد أن ارتدي ملابسه لكي يذهب للعمل وقبل أن يرحل وقف وهتف في قسوة وجفاء مع نظرات نارية وغاضبة للدرجة التي جعلت من عيناه حمراء كالدم :
_ اللي حصل إمبارح ده انسيه نهائي واعتبريه محصلش فاهمة ولا لا ، أنا مكنتش في وعي وإنتي استغليتي الفرصة دي
ولم يمهلها اللحظة لتجيب عليه حيث اندفع للخارج وهو يتوهج كالنيران الملتهبة ، أما هي فسقطت دموعها فورًا بدون إنذار وهي تفغر شفتيها بصدمة مما قاله ” استغليتي الفرصة !!! ” هل هي من استغلت فرصة أنه ليس بوعيه ليحدث ما حدث بينهم ، لقد حاولت منعه ولكنه أذاب ما تبقى من صمودها أمامه بكلماته ونظراته وهمساته ولمساته ، هل اصبحت هي المخطئة الوحيدة الآن .. اخطأت لأنها تعشقه ولا تستطيع مقاومته ، ربما هي أخطأت فعلًا لأنها سمحت لهذا العشق أن يكون سبب في خطأ لا يمكن إصلاحه ولكن هذا لا يمنع أنه هو المخطأ الأكبر .. هو المستغل .. هو الذي استغل حبها وضعفها أمامه لينجح في السيطرة عليها وينل ما أراد في تلك اللحظة والآن يُلقي اللوم عليها !! …..
***
ارتفع آذان الظهر في المآذن ثم بدأت خطبة الجمعة في المساجد وكان هو في غرفته يرتدي عبائته البيضاء بعد أن توضأ ليذهب إلى المسجد ويؤدي صلاة الجمعة وبينما هو متجه نحو الباب لينصرف اوقفته هي متسائلة :
_ رايح تصلي الجمعة في المسجد
غمغم بنبرة عادية في إيجاب :
_ ايوة عايزة حاجة ؟
هتفت تطلب منه بتهذيب مبتسمة :
_ طيب ممكن تاخدني معاك اصلي في مسجد الستات
_ طيب يلا روحي اتوضي والبسي بسرعة عشان الحق الخطبة قبل ما تخلص
أماءت فورًا بسعادة واندفعت نحو غرفتها لتتوضأ وترتدي ملابسها وبعد عشر دقائق بالضبط خرجت له وانصرفا واستغرق الطريق خمس دقائق حتى وصلا إلى أحد المساجد الكبيرة فذهبت هي للجزء الخاص بالنساء وهو ذهب للرجال بعد أن أخبرها بأنه سينتظرها بعد الصلاة أمام السيارة ، وبعد انتهاء الصلاة خرجت واتجهت نحو سيارته فوجدته كما أخبرها ، وعندما وقعت عيناه عليها فتح باب السيارة واستقل بمقعده .. اتخذت هي مقعدها بجواره ثم رفعت النقاب عن وجهها لتتنفس بعض الهواء النقى وتهتف باسمة :
_ تقبل الله
أجابها بخفوت :
_ منا ومنكم إن شاء الله
ثم انطلق بالسيارة يخترق بها الطرقات وبعد مرور دقيقة هتفت هي بتردد ملحوظ وحياء :
_ إيه رأيك نتغدى برا النهردا يازين ، نفسي أخرج جدا ، من وقت لما اخدتني في اليخت قبل الفرح مخرجتش تاني
كان يثبت نظره على الطريق ولم ينظر لها بتاتًا وفقط اكتفى بقوله الجاف والحازم :
_ في يوم تاني إن شاء الله ياملاذ مش النهردا
زمت شفتيها بيأس وخنق من نبرته القاسية وأنه لم يكلف نفسه لينظر لها ، فاشاحت بوجهها للجانب الآخر تتابع الطريق من النافذة ، فهي لم تستاء من رفضه للذهاب بل استاءت من طريقته وعنده الذي باتت لا تعرف إلى متى سيستمر ، وقد رغبت بالذهاب فقط من أجل أن تحظى بمزيد من الوقت معه وتحاول من خلاله إذابة بعض الثلج المتراكم على قلبه .
لاحظ هو ضيقها وحزنها من رفضه فتنفس الصعداء بعدم حيلة ولم يرد أن يكسر برغبتها ونفسها وكان رد فعله الطبيعي هو أنه قال :
_ عايزة تروحي فين ؟
تهللت أساريرها في لمح البصر وزُين وجهها بابتسامة جذابة لتجيبه بحماس جلى :
_ أي مكان .. ودينا مكان على زوقك إنت !
رمقها بنظرة مطولة صامتًا ثم أشاح بنظره وعاد ليثبته على الطريق وهو يتخذ بالسيارة طريق لمكان سيقضوا فيه وجبة الغذاء أو بالأحرى باقية اليوم ! .
***
فتحت باب السيارة ونزلت وعيناها معلقة على ذلك المنزل الذي أشبه بقصر قي ضخامته واتساعه ، ولكنه منزل ذو طراز قديم ويبدو إن الزمن قد ترك آثاره عليه حيث لونه بهت ، ومن ينظر له من الخارج يظنه مسكون بالأشباح .. وبينما هي تتأمل جماله الكلاسيكي رأته يتجه ناحية الباب فلحقت به مسرعة وفتح هو الباب بالمفتاح ثم دخل أولًا ومن بعده هي ، كان المنزل من الداخل أكثر فخامة وجمالًا حوائطه سليمة تمامًا من أي خدش ويوجد نجفة في الأعلى ضخمة ولكنها نظيفة كأنها تنظف كل يوم ! ، والأثاث مُغطى بقماش أبيض اللون فاتجهت نحوه ورفعت القماش لتنكشف أمامها تحفة الأثاث الذي لا يبدو أبدًا أنه صناعة مصرية ، فسمعت صوته وهو يهتف بهدوء :
_ ده قصر عيلة العمايري .. البيت ده احنا عشنا فيه طفولتنا كلها ولما نقلنا لبيتنا اللي عايشين فيه دلوقتي أنا كان عندي عشرين سنة ، كنا عايشين مع جدي الله يرحمه وجدتي اللي هي مسافرة دلوقتي في المانيا ، كنا كلنا في دلع وعيشة ملوكي ، اللي بنطلبه بيجيلنا في لحظتها من غير تعب وكان جدي مبيرفضش طلب لحد فينا سواء احنا أو ولاد عمي طاهر اللي هما علاء ويسر والدلع ده تسبب في مشاكل كتير علينا وظهرت أثاره عليا وعلى حسن ، بس تقدري تقولي إن أنا ربنا هداني وحسن فضل طايش زي ماهو ، وبابا بعد ماحس إن مينفعش يعيش هنا ولازم يستقر لوحده هو وأولاده في بيت عشان يقدر يتحكم فيهم بعد ما شاف اللي حصلي وبقى شبه فاقد السيطرة على حسن رغم إنه أصغر مني بأربع سنين ، اخدنا واشترى بيت لينا وعشنا وحدنا والكلام ده طبعًا بعد ما جدى اتوفى وجدتي اضايقت جدًا إن ازاي محمد يسيب بيت ابوه وبيتهمهم إنهم السبب في اللي حصل ليا لأنها بتحبني جدًا وبتعزني أوي ولما عرض عليها بابا وحاول يقنعها إنها تاجي تعيش معانا رفضت وقالت إنها هترجع المانيا تعيش مع عمي اللي هو اتوفى بعد جدى بسنتين وكان معاه بنت عندها 18 سنة بتدرس هناك فجدتي فضلت معاها لغاية ما كملت تعليمها وبعدها اشتغلت ولغاية الآن جدتي عندها ومش بتاجلينا هي وبنت عمي دي غير زيارات صغيرة وبيمشوا تاني
اقتربت منه ووقفت أمامه وركزت نظرها عليه هاتفة بترقب لإجابته بريبة شديد :
_ ربنا هداك !!! .. وبعد اللي حصلك !! ، ممكن أعرف إيه اللي حصل معاك ؟!
أجابها بخشونة وهو يتجه ناحية الدرج :
_ الأفضل إنك متسأليش لإن الإجابة مش هتعجبك ، وبعدين أنا جايبك هنا عشان افرجك على البيت واهو نتغدى في مكان مختلف زي ما كنتي حابة مش نحكي في القديم
لم تعلق كثيرًا وقررت أنها ستحاول أن تعرف فيما بعد ما يخفيه عنها ، واتبعته شبه راكضة حيث وجدته صعد لآخر الدرج ثم اتجه نحو الغرف وفتح واحدة واحدة يريها إياهم وأحدهم كانت ” لكرم ” والأخرى ” لحسن ” وهذه ” لأبوه وأمه ” وتلك الغرفة تخص ” جدي وجدتي ” حتى وصل أخيرًا عند غرفته وفتح الباب فتسبقه هي بالدخول وتتطلع في أجزاء الغرفة التي كانت عبارة عن فراش عريض يتسع لثلاث أشخاص وخزانة متوسطة من اللون الأبيض مثل لون الحوائط وحمام داخلي لونه بنى اللون مع لمعة مذهلة ، أما هو فقد استدعت ذاكرته كل ما مر به داخل هذه الغرفة ، التي شهدت على حبسه بين حوائطها الأربعة لشهور دون أن يدخل له سوى أبيه وأمه وكرم ، بقى لشهورًا حبيسًا غرفته لا يري الشارع عندما اُكتشف أمره وأنه كان يتعاطى مواد مخدرة فحاول أبويه أن يردعاه ويعالجاه عن طريق منعه من الخروج حتى لا يلتقى بأصدقاء السوء الذين افسدوه ولكن الأمر لم يجدي نفعًا حيث كانت حالته تسوء كلما يمر عليه الوقت وكان يخرج ليلًا متسللًا من الشرفة دون أن يشعر به أحد ويعود قبل استيقاظهم ، حتى جاء اليوم المشؤوم الذي فقد فيه صديقه بسببه هو .. فقرر أن يضع الحد لما هو فيه وطلب من أبيه أن يدخله مصحة ليعالج كما يجب أن يتم وبالفعل عاني أشد سنة مرت عليه في حياته .
نظرت عيناه على جانب الفراش ولاحظ الكسر البسيط فيه لتعصف بذهنه ذكرى أخرى تعود ليوم معرفة أبيه وأمه بأفعاله فتلقى الضرب العنيف من أبيه والتوبيخ والإهانة وكانت أمه تحاول منع أبيه عنه الذي كان كجمرة النيران المتوهجة وتدَّخل كرم محاولًا أيضًا تهدئة الأمر ونجح في تهدئة أبيه وأخرجه وتركه هو مع أمه تحاول مواساته وتلومه بعتاب وبكاء على فعلته .
اخترقت فقاعة ذكرياته المؤلمة بصوتها وهي تقول بإعجاب :
_ اوضتك جميلة أوي
أحس بأنه سيختنق أن بقى للحظة أخرى داخل هذه الغرفة فهتف بثبات مزيف :
_ طيب كفاية بقى ويلا تعالي عشان الأكل على وصول
ولم ينتظر إجابتها حيث اندفع للخارج يتنفس بعض الهواء النقى عن هواء هذه الغرفة المُخنق أما هي فتلفتت حولها بخوف من ذلك المكان المريب ولحقت به مسرعة لتجده قد وصل للأسفل ورفع أحد الأقمشة عن مقعد من المقاعد وجلس عليه يتنفس الصعداء بخنق ، وقد شعر للتو أنه أخطأ عندما اختار المكان وهو يعلم أنه لديه ذكريات مؤلمة لا يريد حتى تذكرها وقبل أن تقترب منه وتسأله عن سبب تغيره المفاجئ ، ارتفع صوت رنين هاتفه فأجاب وقد كان الطعام فخرج ليستلمه وعاد لها بعد دقائق فأخذته من يده وسألته عن مكان المطبخ فدلها عليه بإشارة يده وذهبت هي لتضع الطعام في الصحون أما هو فنزع سترته عنه ورفع القماش عن الأريكة الكبيرة ليتسطح بجسده عليها مغمضًا عيناه في محاولة بائسة لاستبعاد هذه الذكريات عن ذهنه ، كانت تنقل الصحون من المطبخ على طاولة الطعام بعد إن قامت بمسحها من أي اتربة فوقها وكانت مثبتة تركيزها عليه باستغراب من أمره ، حتى انتهت فهتفت في هدوء :
_ زين !!
فتح عيناه واعتدل جالسًا ثم اتجه للحمام ليغسل وجهه ويديه و عاد لها ، جلس بجانبها على الطاولة وبدأ في تناول طعامه ، فخشيت هي أن تسأله فيجيب عليه بغلظة وفكرت في أن تمهد للأمر بطريقة مختلفة حيث سألت في ابتسامة عذبة :
_ بس البيت باين عليه أن حد بينضفه علطول
_ آه ، عمي حسين اللي برا بيجيب علطول ناس تنظف كل اسبوع عشان لو حد فينا جه فجأة زي كدا يكون البيت نضيف
التزمت الصمت للحظات ثم عادت تسأل من جديد بنبرة بها شيء من الحيرة :
_ بس إنت ليه جبتني هنا ومروحناش مطعم أو أي مكان تاني ؟!
غمغم بصلابة دون أن يرفع نظره لها وهو منشغل بطعامه :
_ هنا أفضل في المطعم مش هتاخدي راحتك عشان النقاب واللي رايح وجاي قدامك مش هينفع تاكلي ، وأهو جبتك مكان جديد وجبتلك أكل المطعم لغاية عندك
حدجته بحنو وهمست بامتنان صادق بعد أن مدت يده لتضعها على كفه :
_ شكرًا إنك مكسفتنيش ومكسرتش بنفسي لما طلبت منك نتغدى برا
نظر ليدها التي على كفه ثم رفع نظره لها بنظرات ثاقبة وسحب كفه ببطء من أسفل يدها بعد أن أبدى على وجهه علامات الضيق وقال باقتضاب :
_ العفو !
ضمت كفها وارجعته للخلف بقليل من الاستحياء بعد أن فهمت نفوره من لمستها له وجاهدت بالظهور بطبيعية أمامه وأكملت طعامها وداخلها يحترق من الألم والحرقة ، تجنبت النظر له بتاتًا حتى لا تفقد زمام التحكم في نفسها التي تغزها بقوة لتبكي ولكنها تقاوم بصلابة !! .
***
كانت الساعة قاربت على العاشرة مساءًا عندما قرر كرم أن يذهب لوالدته ويضع حدًا لكل شيء بعد أن شك بأنها تعرف مكان ” شفق ” ولا تخبره ، بالأخص بعد أن نفذت وعدها وقطعت الحديث معه نهائي وهاهي نجحت فيما سعت من أجله ! .
طرق على الباب عدة طرقات خفيفة هاتفًا :
_ ماما إنتي صاحية ؟
اتاه صوتها وهي تجيبه بقوة :
_ ادخل ياكرم
فتح الباب ودخل ثم أغلق الباب خلفه مجددًا فوجدها تمسك كتاب القرآن الكريم بيدها وجالسة على الفراش ليتنهد بعمق ويقترب ليجلس بجوارها على الفراش متمتمًا في نظرات ثابتة :
_ ماما إنتي عارفة مكان شفق مش كدا ؟
أطالت النظر في وجهه ثم اشاحت بنظرها وقالت بكذب :
_ لا معرفش
قال متوسلًا إياها في نفاذ صبر :
_ ياماما ابوس إيدك قوليلي هي فين ومتتعبنيش أنا فيا اللي مكفيني ، ومش هستحمل البنت تحصلها حاجة بسببي ، قوليلي مكانها خليني اروح واجيبها
أبت الرد عليه وتجنبت النظر في وجهه كدليل على رفضها لطلبه ، ليأخذ هو نفسًا عميقًا قبل أن يلفظ بهذه الكلمات من بين شفتيه في عدم حيلة :
_ لو كنتي بتعملي ده كله عشان اوافق على اللي إنتي عايزاه ، فأنا بقولك أهو أنا موافق اتجوزها
لمعت عيناها بمجرد سماعها لكلمة ” موافق ” وطالعته بدهشة ممزوجة بالسعادة والابتسامة العريضة وسرعان ما هتفت بفرحة غامرة :
_ بجد موافق ياكرم !!
_ أيوة موافق قوليلي بقى هي قاعدة فين
قالها بإيجاز كالذي لا يريد أن يطيل في هذا الحديث لتبتسم هي وتهتف بهدوء :
_ في البيت اللي في اكتوبر
_ وهي إيه اللي وداها هناك ؟!!
تنهدت بحرارة ثم بدأت تسرد له كل شيء :
_ هي كانت بتتكلم معايا في اليوم اللي مشيت فيه وبتقولي إنها عايزة ترجع بيتهم فأنا قولتلها لو هي مش مرتاحة هنا تروح تقعد هناك في الشقة وهتكون في آمان وخليت ابن الحج حسين يحرص شقتها ويخلي باله منها
فغر عيناه على آخرهم وهتف شبه منفعلًا :
_ ابن الحج حسين إيه يا أمي ! .. ده لو آخر واحد مأمنهوش على حاجة وإنت رايحة تأمنيه على بنت
_ وفيه إيه الولد محترم ومؤدب والله وعمري ما شوفت منه حاجة وحشة !!
مسح على وجهه مستغفرًا ربه من فرط اغتياظه الداخلي وتمتم :
_ طيب وتلفونها مقفول ليه ؟!
ابتلعت ريقها بتوتر وتحدثت بتردد :
_ أنا طلعت الخط بتاعها وشلته وهي افتكرت إنه ضاع فجبتلها واحد جديد
قال بابتسامة ساخرة :
_ وطبعًا ده كله عشان معرفش أوصلها وتجبريني أوافق .. والله ما عارف أقول إيه ، ربنا يصبرني !
ثم هب واقفًا وهم بالمغادرة لولا صوتها وهي تقول بتوتر أشد :
_ هي فاهمة إنك مسافر لشغل فلما تروحلها قولها إنك رجعت من السفر ، أنا قولتلها إنك مسافر عشان متقولش هو ليه متصلش حتى يسأل عليا
هز رأسه مغلوبًا على أمره غير مصدقًا لأفعالها التي كلها مكر هذه ، وانصرف ليلحق بتلك المسكينة قبل أن تتعرض للأذى على يد أي أحد !!! …….
***
كانت عيناها معلقة على ساعة الحائط وقد قاربت الساعة أن تدق الحادية عشر قبل منتصف الليل ومن المفترض أنه عاد للمنزل للآن كعادته ، هل هي بلا قيمة لهذه الدرجة بالنسبة له ، لدرجة أن عاد للمنزل ولم يجدها فيه ولم يحاول الوصول لها أو الاتصال بها حتى ليعرف أين ذهبت !! .
بعد ماحدث بينهم بالأمس لم تراه إلا مرة واحدة في الصباح قبل أن يغادر عندما حملها الذنب فيما حدث بينهم والذي لا يرضى كلاهما ولم يرغبوا في أن يحدث حتى ، وعندما ذهبت للعمل بعدها وعندما حان وقت الذهاب ذهبت لمكتبه لانهم اعتادوا العودة معًا إلى المنزل بعد أنتهاء العمل ، لتخبرها السكرتيرة بأنه ذهب منذ نصف ساعة فتكتم شرارات نيرانها في الأعماق وتسير منكسرة لا تدري إلى أين تذهب بعد أن قررت عدم العودة لمنزلها ، فيتنهي بها المطاف أمام منزل أبيها لتستقبلها أمها وكذلك أبيها بترحيب حار وتخبرهم بأنها ستقضى معهم يومان بعدما كذبت وقالت بأن زوجها ذهب لرحلة خاصة بالعمل ستسغرق يومان ! .
وأخيرًا انتبه أن لديه زوجة وغير موجودة بالمنزل ( هكذا قالت لنفسها حينما سمعت صوت رنين هاتفها ورأت المتصل هو ) ولكنها تجاهلته ولم تجيب عليه ليس عنادًا كالعادة ولكن لأنها لا ترغب في التحدث معه حتى ، وللوهلة الأولى في حياتها تشعر بأنها لا تريد رؤيته أو سماع صوته ، استمرت اتصالاته .. اتصالًا تلو الآخر وهو يصر على الاتصال حتى تجيب عليه ولكنها وضعت الهاتف في الوضع الصامت والقتها على الفراش ثم تدثرت بالغطاء مغمضة عيناها وترغمها على النوم حتى تهرب من خلاله لعالم الأحلام الذي قد يكون أجمل من واقعها الأليم ! .
توقف الهاتف عن الرنين وانطفأت إضاءته وبعد مرور ما يقارب العشر دقائق شعرت بأحدهم يهزها بلطف وللحظة خدعها عقلها بأنه هو وجاء لكي يأخذها لمنزلهم ولكن كانت أمها حيث تقف أمامها وتمد يدها لها بالهاتف هامسة في صوت خافت :
_ يسر ! .. خُدى كلمي حسن
اعتدلت في جلستها وهي تزفر بخنق ثم التقطت الهاتف من يدها ووضعته على أذنها ثم انتظرت حتى انصرفت أمها لتجيب عليه بمضض :
_ عايز إيه ؟!
اتاها صوته الجهوري وهو يصرخ بها :
_ هو إيه اللي عايز إيه !!! ، مبترديش على الزفت التلفون ليه !؟
قالت ببرود تام وثبات متصنع :
_ مليش نفس أرد ، أو بالأحرى مش عايزة اسمع صوتك ياحسن
أجابها في صوت أجش لا يحمل أي رفق أو رحمة وباستنكار ادمي قلبها على أثره :
_ إيه يعني كرهتيني خلاص !! ، لو كنت أعرف إن اللي حصل إمبارح هيعمل كدا كنت عملته من زمان عشان اخلص منك
كادت أن تنزل الهاتف من على أذنها لتنهي هذه المكالمة السخيفة والمثيرة للأعصاب لولا سؤاله الذي كان بدافع الفضوا فقط وليس الاهتمام :
_ هتقعدي لإمتى عند أهلك ؟
اكتفت بكلمة واحدة قبل أن تنهي الاتصال دون انتظار رده :
_ معرفش
أثارت جموحه عندما أنهت المكالمة فورًا دون أن تجيب عليه إجابة واضحة ، وود لو ذهب لمنزل عمه الآن وجذبها من خصلات شعرها ليلقنها الدرس على اسلوبها المستفز وعلى خروجها دون إذنه وتجاهل اتصالاته عمدًا !! …..
***
أجابت شفق على الهاتف بعد رأت الرقم المجهول نتيجة لخط الاتصال الجديد الذي اعطتها إياه “هدى ” والدة كرم .
خرج صوتها جادًا وهي تجيب على المتصل المجهول :
_ الو مين ؟!
أشرق وجهها ولمعت عيناها بسعادة ، ورفرف قلبها كطائر أطلق حرًا في السماء ، عندما سمعت صوته الذي لم تسمعه منذ ثلاث أيام :
_ أنا كرم ياشفق ، عاملة إيه ؟
اجابته برقة وابتسامة لا تفارق شفتيها :
_ الحمدلله كويسة إنت رجعت من السفر ؟!
تشدق يجيبها على الكذبة التي اخترعتها أمه ويكملها هو بصوته المختنق :
_ رجعت أيوة ، أنا في الطريق جايلك دلوقتي
ثم انهى معها الاتصال فتطلعت هي في الهاتف بدهشة وتردد في ذهنها ” قادم الآن ” فوثبت واقفة وبدلت ملابسها سريعًا ولفت حجابها على شعرها وخرجت للصالون ترتب كل شيء بنظام ، ثم وقفت أمام النافذة تتابع الطريق بانتظاره .. ولا تستطيع منع نفسها عن الظهور بهذه اللهفة تجاهه وقلبها هو الذي يقودها لفعل هذا الأفعال التي ستندم عليها إن لاحظ هو هذا ، ولكن ماذا عساها أن تفعل فقد اعتادت عليه واعتادت أن تراه يوميًا وإن أتى يوم ولم تراه فيه يحدثها بالهاتف فتستمع لصوته ولكن في وضعها هذا لم تراه ولم تحدثه منذ ثلاثة أيام ، تشعر بأن قلبها سيقفز من موضعه ليحلق له من فرط اشتياقها له .
وأخيرًا بعد دقائق طويلة رأت سيارته تستقر أمام المنزل وينزل منها فترتفع ابتسامتها إلى شفتيها وتكاد تصل لأذنيها ، أما هو بالخارج فقد وصل إلى الباب ووجد ابن الحج حسين كما اخبرته أمه ، ليهب الآخر واقفًا احترامًا له ، ليطالعه كرم بنظرات قوية وقال بغلظة صوت :
_ روح يا أشرف خلاص ملوش لزمة قعدتك
أجابه الآخر شبه معترضًا بأدب :
_ بس ياكرم بيه الست هدى قالتلي احرص …..
أردف كرم مقاطعًا إياه بحزم ونظرة لا تليق بطبيعته اللطيفة أبدًا :
_ وأنا بقولك روح ، اعتقد الكلام واضح !
_ واضح .. عن أذنك يابيه
ثم استدار وانصرف ليظل معلقًا نظره عليه حتى توارى عن ناظريه ، فطالما يبغض هذا الشاب لسبب غير معلوم وفوق هذا أمه تأمنه على فتاة وحيدة بالمنزل ، تأفف بنفاذ صبر ثم طرق على الباب لتنتفض التي كانت تقف خلف الباب من الداخل تستمع لحديثه مع ذلك الشاب الذي لم تراه سوى مرات قليلة طوال الثلاث أيام ، تراجعت خطوتين للخلف ودقات قلبها بدأت تدق بصوت عنيف يصل لأذنها وارتبكت بشدة ، ولكنها أخذت شهيقًا طويل وحبسته لثانية ثم أخرجته زفيرًا متهملًا وتعهدت بأنها ستتمالك نفسها وستتظاهر بطبيعية أمامه ولكنها بمجرد ما فتحت الباب ورأته أمامها افترت شفتيها عن ابتسامة واسعة وسرعان ماخنثت وعدها مع نفسها ، أما هو فطالعها معاتبًا برقة مألوفة وغمغم بنفاذ صبر :
_ وبعدين معاكي ياشفق !!
لم تعلق وقد فهمت مقصده بأنه لا يرغب في بقائها هنا ويعاتبها على عندها الدائم ، وفقط اكتفت بابتسامتها وهي تقول بلطف :
_ حمدلله على السلامة
كان هو قد بدأ في نزع حذائه ولكنه رفع نظرها لها بعدما سمع ماقالته واخفض نظره تاني متمتمًا بخنق من هذه الكذبة الذي يُجبر على استكمالها :
_ الله يسلمك
انتهي من نزع حذائه ودخل وفور دخوله هتف في جدية وقد اختفت نبرة الرقة في صوته :
_ اللي كان واقف بيحرص البيت ده ضايقك أو عملك حاجة ؟!
قالت فورًا نافية :
_ لا خالص هو أساسًا كان قاعد برا بس ومكنتش بشوفه غير مرة في اليوم لما بيجيب الطلبات وباخدها منه من على الباب وبقفل بالمفتاح بعد كدا
هم بأن يسأل عن ذلك الحيوان هل حاول أذيتها أو وصل لمكانها أم لا ولكنها توقعت سؤاله فهتفت قبل أن يسأل :
_ مفيش حاجة اطمن أنا كويسة الحمدلله
عادت ابتسامته التي تذيب قلبها وهو يجيبها بلطف من جديد :
_ الحمدلله ، يلا روحي البسي ولمي هدومك عشان هترجعي تاني معايا
اصدرت تنهيدة حارة وتمتمت في اعتراض بسيط :
_ كرم أنا مرتاحة هنا اكتر صدقني ومحدش عارف مكاني ، سيبني على راحتي ارجوك
توجه وجلس على أحد المقاعد ليقول برزانة عقل وصوت رخيم :
_ وأنا عايز أسيبك على راحتك والله ، بس مش قادر وبالأخص بعد اللي حصل إمبارح
اقتربت وجلست على المقعد المقابل له بمسافة بعيدة تقريبًا وهمست بحيرة شديدة وقلق :
_ حصل إيه ؟!
_ عرفت مكانه إمبارح ورحت وكان نفس المكان اللي حصل فيه جريمة القتل ، وكان قاعد هناك هو وواحد صاحبه ولما شافوني هربوا وأنا ضربته بالنار في دراعه قبل ما يركب العربية ويهرب فممكن يحاول يوصلك بأي شكل عشان ينتقم مني ، عشان كدا لازم تكوني قدام عيني طول الوقت
فغرت شفتيها بصدمة وهي لا تستوعب أنه كان على وشك أن يقتله بالفعل ، ثم اردفت بغضب بسيط :
_ ضربته بالنار إزاي ياكرم !! ، ولو كانت جات الطلقة في مكان غير دراعه وكان مات كنت دلوقتي هتبقى في السجن بسبب القذر ده
غمغم بتمنى وأعين متقدة كلها سخط :
_ يارتيها كانت جات في مكان تاني ومات على الأقل كان زمانك هتلاقيني دلوقتي مبسوط آخر انبساط
اشاحت بوجهها عنه تخفي ملامح وجهها المغتاظة من تهورها بالرغم من رقته ولطافته مع الكل وبالأخص معها لكنها يثبت لها دومًا بأن لديه جانب مظلم في شخصيته لا يرحم إن تطلب الأمر ! ، عادت بنظرها له من جديد عندما وجدته يهتف بخفوت وكأنه يقول الكلمات بصعوبة :
_ يلا قومي البسي عشان لما نروح ماما ورهف هيفهموكي السبب التاني اللي خلاني آجي أخدك !
أطالت النظر في وجهه بريبة حقيقية للحظات ثم هبت واقفة واتجهت لغرفتها لترتدي ملابسها وتستعد والتساؤلات تتناطح في عقلها ” ماهو السبب الثاني ولما بدا عليه التوتر البسيط وهو يتحدث عنه ؟! ” ، ولم يهدأ عقلها لثانية واحدة وكانت طوال الطريق صامتة تتابع الطريق والفضول ينهشها نهش وتتساءل ” ترى ماهو السبب ؟! ” … !!!
***
كان زين في غرفته كعادته يقضي الشطر الثاني من الليل وهو يقرأ في كتاب القرآن الكريم ويرتل آياته بصوت عذب ، وبينما هو يثبت كل تركيزه في كتاب الله .. رفع نظره عنه فور انفتاح الباب ودخولها ودموعها تملًا وجنتيها والعبارات سابحة في عيناها وتسقط بغزارة على وجهها ، فتمتم بصوت خفيض وهو يغلق المصحف ” صدق الله العظيم ” ، وأصابته الريبة والقلق بشأن بكائها المفاجئ هذا ثم هب واقفًا واقترب ناحيتها وهو يهمس بتعجب ونظرات مرتعدة :
_ مالك ؟!!!
مدت يدها وجففت دموعها بظاهر كفها ولكنها لا تزال تنهمر بغزارة لتنتابه الشكوك السيئة بأن مكروه قد أصاب أحدهم أو أصابها هي ، واقترب منها أكثر حتى وضع كفه على ذراعها اليسار هاتفًا :
_ في إيه ياملاذ مالك ؟!
ارتمت داخل أحضانه وهي تهمس بصوت مرتعش وجسد لاحظ ارتجافته :
_ حلمت بكابوس وحش علطول بيجيلي
ضيق عيناه وهو يستمع لكلامها وفور انتهائها أصدر هو تنهيدة طويلة بارتياح وابعدها عنه برفق متشدقًا بنظرة معاتبة :
_ يعني كل العياط ده عشان كابوس ياشيخة حرام عليكي وأنا اللي افتكرت إن في حاجة لقدر الله حصلتلك ولا حصلت لحد
رفعت عيناها الدامعة له وقالت بخفوت :
_ دايمًا بحلم بالجاسوم وكان بيجيلي من أنا وفي الثانوي ولغاية دلوقتي بيجيلي وكل ما بيجيلي بخاف أوي وبفضل أعيط زي كدا .. عارفه ؟
هز رأسه بالإيجاب وغمغم في حنو :
_ أيوة عارفه .. تعالي واحكيلي بيجيلك إزاي عشان يخليكي خايفة كدا وبتعيطي بالشكل ده
جذبها من كفها بلطف وأجلسها على الفراش ثم جلس بجوارها لتقول هي بهدوء :
_ بحس نفسي متكتفة في السرير ومش بقدر أتحرك ولا أتكلم وببقى عايزة أفوق مبعرفش وبحس كأني بغرق وكل ما بقاومه بيزيد أكتر مش بفوق منه غير لما افضل أقول اعوذ بالله من الشيطان الرجيم وبصحى مخضوضة مش قادرة أخد نفسي ، وأنا بطبيعتي أساسًا خوافة فمبالك لما أحلم بكابوس زي ده وغالبًا بسمع أصوات مرعبة وأحيانًا بشوف خيالات والنهردا شوفت أيد مخيفة ماسكة في إيدي ومكتفاها وصوت حواليا بيضحك وأصوات كتير متداخلة ومرعبة ، ولما بفوق منه وبعد كدا بنام تاني بيجيلي تاني يعني ممكن يجيلي أربع أو خمس مرات ورا بعض وفي كل مرة بصحى مخضوضة
لم يكن يتوقع بأنها تخاف لهذه الدرجة المفرطة حيث كانت تتحدث وعلى وجهها علامات الإرتيعاد والرعب ، فسرعان ما أشفق عليها ومد يده يملس على شعرها بحنو يشعرها بالقليل من الآمان والاطمئنان :
_ طيب اهدى ، أنا سمعت إنه بيبقى صعب فعلًا واللي أعرفه والله أعلم إن العلماء بيقولوا إنه بيبقى بسبب الضغوط والحالة النفسية والتوتر والمشايخ بيقولوا إنه من الشيطان ، فإنتي التزمي بأذكار الصباح والمساء والحمدلله إنتي ملتزمة في الصلاة يعني فبإذن الله مش هيجيلك تاني
تطلعت إليه بنظرات مستعطفة ومتوسلة فخرج صوتها به شيء من الرجاء :
_ ممكن تخليني أنام معاك النهردا لإني خايفة ما أنام وحدي ويجيلي تاني !
أخفى ابتسامته بصعوبة وتمتم في دفء :
_ نامي ياملاذ السرير قدامك كله أهو
ترددت قليلًا قبل أن تسأل سؤالها القادم وهيمن عليها الصمت للحظات قبل أن تستجمع شجاعتها وتسأل باضطراب :
_ هتنام جمبي ؟
رفع حاجبه وهو يبتسم بلؤم لسؤالها المتوقع وكذلك الإجابة المتوقعة التي ترغب في سماعها ، فلم يحرمها مما ترغب فيه حيث تمتم بنظرات ثابتة :
_ اممممم !!!
كتمت سعادتها في الأعماق واكتفت بالإماءة الصغيرة ثم تمدد بجسدها على الفراش وتدثرت بالغطاء ، لينهض هو ويجلب هاتفه ثم يقوم بتشغليه على سورة البقرة ويضعه على المنضدة الصغيرة بجانب الفراش ويهتف في نظرات حانية لا تشهدها منه كثيرًا بسبب إضطراب علاقتهم :
_ اقري المعوذتين وآية الكرسي قبل ماتنامي وأهو شغلت سورة البقرة جمبك
ابتسمت له بحب وهي توميء بالموافقة وطرحت سؤالها الثالث عندما وجدته يتجه نحو باب الغرفة :
_ رايح فين ؟!
التفت لها برأسه وغمغم باسمًا :
_ رايح اشرب ياملاذ وراجع ، نامي ملكيش دعوة بيا أنا ممكن منامش دلوقتي
هزت رأسها بالموافقة وأغمضت عيناها محاولة النوم من جديد ، أما هو فعاد بعد ثلاث دقائق وجلس يكمل القرآءة حتى ينهي ورده اليومي وبعد مايقارب النصف ساعة انتهى واتجه نحو الفراش ليتسطح بجوارها على الجهة المقابلة لوجهها يحدق فيها بإمعان شديد ليلتقط كفها الناعم ويطبع قبلة رقيقة على ظاهره ويقترب برأسه ناحيتها يخطف قبلة سريعة من جانب ثغرها خشية من أن تستيقظ نتيجة للمساته ، ثم يرجع برأسه لوضعها الطبيعي ويغمض عيناه متهربًا عن طريق النوم من الأفكار المنحرفة التي تعصف برأسه الآن !!! …….
***
مع إشراقة شمس يوم جديد يحمل الكثير من المفاجآت للبعض ……..
سمحت شفق للطارق بالدخول وهي تقوم بتسريح شعرها ، لتدخل رفيف وعلى وجهها ابتسامة مشرقة كصباح اليوم هاتفة :
_ صباح الخير
أجابتها الأخرى بابتسامة عذبة ونقية :
_ صباح النور
كانت رفيف في اقصى درجات الحماس والتشوق حيث جذبت المقعد الآخر وجلست بجوارها متمتمة بابتسامة أصبحت أكثر اتساعًا :
_ يلا جهزيلي نفسك كدا وخدي نفس عميق عشان تستقبلي اللي هتسمعيه دلوقتي
تركت مابيدها وركزت كل انتباهها عليها وهمست بريبة وفضول وهي كلها آذان صاغية لما ستقول :
_ في إيه قولي يارفيف متقلقنيش ؟!
هتفت الأخرى في صوت منخفض ونظرات بها لمعة ماكرة :
_ كرم عايز يتجوزك !
_ الفصل الخامس عشر _
_ كرم عايز يتجوزك !
وكأن صاعقة برقية ضربتها فحرقتها في أرضها ، كانت فاغرة فمها وعيناها ترمش بها عدة مرات ، تحاول استيعاب الكلمات التي دخلت لأذنها للتو ولكن عقلها يرفض استيعابها ويهمس بجملة واحدة ” ما هذا الهراء !! ” ، واستغرق الأمر لحظات طوال حتى هزتها ” رفيف ” ببطء متعجبة من تسمرها بمكانها كالصنم ، لتخرج هي أخيرًا من دوامة صدمتها وتهتف بصدمة أشد :
_ كرم مين أخوكي إنتي ؟!!
_ أمال أخو الجيران !!
عادت تسألها بشيء من البلاهة وعدم التصديق :
_ عايز يتجوزني أنا ؟! ، يعني متأكدة إنه قصده عليا أنا ، ليكون قصده على واحدة تاني !!
تمالكت رفيف أعصابها ورفعت كفها ضاغطة عليها بشدة وهاتفة بأغتياظ وهي تجز على أسنانه :
_ هرزعك حتة قلم يخليكي تفوقي كدا كويس ، بت متجبليش الجلطة أيوة إنتي ، هو في حد اسمه شفق غيرك نعرفه !!
التزمت الصمت لبرهة من الوقت ثم ابتسمت بمرارة وطالعتها بابتسامة بائسة :
_ وإنتي جاية تسأليني طبعًا موافقة ولا لا !
_ أكيد .. دي ماما فرحانة أوي ولو وافقتي مش بعيد تخلي كرم يكتب كتابه عليكي من بكرا
هب واقفة وعقدت ذراعيها أمام صدرها هامسة بصوت حزين :
_ بس مش هقدر اوافق يارفيف
هبت الأخرى واقفة بدهشة وهتفت بجدية تامة لا تحمل المرح ولا المزاح :
_ نعم !! .. بلاش هبل ياشفق أنا وإنتي عارفين كويس أوي إنك معجبة بكرم أوي كمان
التفتت لها وطالعتها بأعين دامعة وغمغمت بألم :
_ أيوة ده فعلًا بس كمان عارفين إنه مبيحبنيش وإنه عايز يتجوزني بس عشان يبقى نفذ وصية سيف الله يرحمه وفي نفس الوقت هبقى مراته فمش هبعد عنه أبدًا وبكدا هيبقى حماني ومخليني تحت عينه
أخذت نفسًا عميقًا وهي ترى جانبًا من كلامها صحيحًا والجانب الأخر ليس صحيحًا ، وقررت أن تتمسك بالجانب الخاطىء وتحاول تصلحيه لها لعلها توافق :
_ كرم بيعزك جدًا ياشفق والله وإنتي ليكي معزة خاصة في قلبه ولو وافقتي واتجوزتوا هتقدري بسهولة تكسبي قلبه صدقيني .. دي فرصة جاتلك ولو ضيعتيها مش هتجيلك زيها تاني فمتهدريهاش وحاولي تستغلي الفرصة لصالحك
اقتنعت بكلامها ورأت أن آخر كلمات تفوهت بها قد تكون على حق ، فهذه فرصة والفرص لا تأتي دائمًا على طبق من ذهب مثلما جاءت لها الآن ، وطالما أتتك فرصة جاهزة فلن تخسر شيئًا إن جربتها لربما تنجح وتكون سبب في تحقيق هدف كنت تسعى من أجله .
رتبت رفيف على ذراعها بلطف مهمهمة بحنو :
_ فكري في كلامي كويس وردي عليا بليل بقرارك
***
فتحت أمها الباب ودخلت ثم أغلقته خلفها ببطء واتجهت نحوها بعد أن وجدته تجلس في شرفة غرفتها وبيدها كوب قهوتها الصباحي تتنسم الهواء الطلق باستمتاع ، وبمجرد ما أن انتبهت لوجود أمها اعتدلت جالسة وقالت بابتسامة حانية :
_ صباح الخير
ملست على شعرها بحنان وأجابتها بعذوبة جميلة :
_ صباح النور ياحبيبتي
جذبت مقعدًا واتخذت لها مكانًا بجوارها هامسة في نظرات مترقبة ونبرة صوت حادة قليلًا :
_ إنتي متخانقة مع جوزك يايسر ؟!
توترت في باديء الأمر وهي تحاول إيجاد كذبة تفسر بها سبب شجارهم ولكن عقلها لم يسعفها في نفس اللحظة حيث هتفت بابتسامة مرتبكة وأعين تحاول إبعادهم عن نظرات أمها الثاقبة :
_ لا ياماما مش متخانقين ولا حاجة قولتلك حسن مسافر وأنا قولت آجي أقعد معاكم يومين
ازدادت نظرات أمها حدة عندما استمعت لكذبها مجددًا ومحاولات إخفاء شيئًا عنهم قد يكون خطيرًا ، فخرج صوتها صارمًا :
_ حسن مش مسافر .. حسن في الشركة علاء لسا كان بيسألني عليكي وإنك ليه جيتي فجأة كدا فقولتله إن حسن مسافر قالي مسافر إيه حسن مرحش مكان وأنه كان لسا بيكلمه ورايحله على الشركة دلوقتي
أدركت سخافة الكذبة التي املتها عليهم بالأمس وقد فضح الأمر أمام الجميع وليس والدتها فقط وستضطر لإيجاد كذبة أخرى حتى تنهي بها هذه التساؤلات ، ولكن يجب أن تكون مدروسة جيدًا وإلا ستقع في مأزق أكبر ! .
أخذت من الوقت لحظات طويلة حتى قالت بوجه هادئ تمامًا لكي تقنعها بكذبتها :
_ أنا محبتش أقولكم عشان مشغلش بالكم ، هي مش خناقة يعني ياماما كل ما في الموضوع إننا شدينا مع بعض في الكلام بس
_ ولما هو مجرد جدال بينكم وحاجة بسيطة ليه جيتي على هنا ؟
قالت الأخرى شبه مازحة لتضيف على الجو المشحون بالتوتر بعضًا من نسمات التلطيف :
_ في إيه ياماما إنتي مش عايزاني اقعد معاكم يومين ولا آية ، اطمني مفيش حاجة أنا بس اتخنقت شوية وحبيت افك عن نفسي وعشان كدا جيت على هنا واتفقت معاه إني هقعد يومين
رفعت أمها حاجبها بشك وقالت باقتناع بسيط :
_ يعني مفيش حاجة بينكم !
هزت الأخرى رأسها بالنفي وأكملت كذبتها باحترافية حتى وصلت لعقل أمها وصدقتها تمامًا :
_ لا الحمدلله مفيش ، وبعدين أنا اللي غلطانة واستفزيته فهو اتعصب عليا وشدينا مع بعض متشغليش بالك احنا بخير الحمدلله
تنهدت الصعداء بارتياح ورتبت على كتفها بلطف متمتمة :
_ طيب الحمدلله أصل أنا إمبارح قلقت لما لقيته متصل على تلفوني وقالي إنك مبترديش عليه
_ آه تلفوني كنت عملاه صامت عشان كدا مسمعتهوش
هبت واقفة وقالت بصوت رخيم قبل أن تستدير وترحل :
_ طيب ياحبيبتي .. يلا قومي عشان تفطري معانا
أماءت لها بالموافقة وانتظرت حتى انصرفت لتأخذ هي بدورها شهيقًا وتخرجه زفيرًا بارتياح فقد حالفها الحظ واستطاعت خداع أمها ، فهي لا تتوقع ردة فعلهم إن علموا بكل شيء وما فعلته مع زوجها قبل الزواج والظروف التي تزوجوا فيها وكيف أن كلاهما خدعوهم بقصة العشق النقي الذي كان يضمره لابنة عمه وانتهى به المطاف إلى طلب يدها من عمه والزواج منها !! .
***
في مساء ذلك اليوم …..
كانت كل من رفيف هي وأمها وكرم يتناولون طعام العشاء والصمت يهيمن عليهم جميعًا حتى اخترق هو فقاعة الصمت بسؤاله عندما انتبه لمقعدها الفارغ :
_ امال شفق منزلتش ليه تاكل ؟
أجابت رفيف قبل أمها في ابتسامة تضمر خلفها الخبث :
_ قالت إنها مش جعانة
تبادلت النظرات المتشابهة مع والدتها وكلاهما يبتسم بلؤم ، فبعد أن عادت تسألها رفيف مجددًا نجحت وحصلت على موافقتها .. ورفضت تناول الطعام معهم خجلًا من البقاء معه على نفس الطاولة ، نقل نظره هو بينهم مستغربًا وغمتم بحيرة :
_ مالكم بتبصوا لبعض وتضحكوا كدا ليه ؟!
هنا تولت هدى هي الدور حيث تنهدت بعمق قبل أن تبدأ في الحديث بشيء من الجدية الممتزجة بالسعادة :
_ شفق وافقت
رفع حاجبه متمتمًا بريبة تحمل القليل من الشك :
_ بالسرعة دي ؟! .. ماما أنا وافقت بس قولت بشرط إنكم تدوها فرصة براحتها تقرر وبعدين تقول موافقة أو لا ، ومعنى الكلام ده أنكم متضعطوش عليها
قالت هدى محاولة تبرير موقفها بذكاء مألوف منها :
_ واحنا مضغطناش عليها ، ومش هنغصبها مثلًا على الجواز .. احنا قولنا ليها الصبح و رفيف سألتها تاني من شوية لو قررت أو لا فقالت موافقة
_ وهي كدا لحقت تقرر صح مثلًا !!؟
هتفت هدى بشيء من الغضب والانفعال :
_ وإنت مالك مدقق وعايزاها تاخد وقت تفكر فيه ، ماهي فكرت وقالت موافقة وخلاص خلص الموضوع
تمتم في رزانة تامة وصوت هاديء يختلف قليلًا عن نبرته السابقة :
_ عشان ده جواز مش لعب عيال ، وأنا مش عايزها تاخد قرار متسرع وتندم عليه بعد كدا ، كفاية إني وافقت مضطر بسبب إصرارك فمش هيبقى أنا وهي .. ادي لشفق فرصة تاني ياماما ومتقوليش نكتب الكتاب علطول لإني هصبر على الاقل أسبوع لغاية ما تبقى هي متأكدة تمامًا من قرارها بعدها نبقى نكتب الكتاب
همت والدته بأن تجيب عليه مغتاظة ولكن رفيف ضغطت على كفها بهدوء تهدأ من روعها وتهتف باقتناع وتأيد لرأي أخيها :
_ كرم عنده حق ياماما ، خليها تاخد وقت براحتها تفكر فيه مرة واتنين وتلاتة وبعدين يبقى يكتبوا الكتاب
قالت مغلوبة على أمرها عندما وجدت الضغط من كلاهما وأنهم لا يؤيدوا فكرتها مطلقًا وشعرت في قرارة نفسها بأنهم قد يكونوا على حق :
_ طيب ياكرم براحتك
هب واقفًا بعد أن انهى طعامه واقترب منها ثم انحنى وقبَّل رأسها بحنو هامسًا في صوت يبعث في النفس راحة وسكينة :
_ تصبحي على خير ياست الكل .. عايزة حاجة ؟
استطاع رسم ابتسامتها الامومية المحبة له وامسكت بكفه الذي فوق رأسها وانزلته لتقبله بحنان متمتمة :
_ عايزة سلامتك ياحبيبي
اتجه نحو شقيقته وطبع قبلة سريعة على رأسها أيضًا ثم اتجه لغرفته ليخلد للنوم ويستعد لصباح يوم جديد مليء بروتينية العمل التي لا تنتهي !! .
***
كان جالسًا أمام التلفاز يشاهد إحدى قنوات الأخبار وهي بجواره تعبث بهاتفها تتصفحه ، كانت عيناه معلقة على شاشة التلفاز وعقله بعالم آخر مشغول بالتفكير وبين آن وآن يلقي نظرة إليها فيجدها مندمجة في هاتفها جدًا فيتنهد بقوة شبه متأففًا وبعد لحظات طوال من التفكير غمغم في هدوء تام :
_ احكيلي ياملاذ كل حاجة عن خطيبك قابلتيه إزاي وفين ؟
توقف إبهامها الذي يتحرك على شاشة الهاتف التي تعمل باللمس ، واخترق كلامه مسامعها فأصابها بالذهول وتجمدت على حالها ، فآخر شيء كانت تتوقع أن يسأل عنه في يوم من الأيام هذا الشيء الذي يُدعى بخطيبها السابق ، هل هو بالفعل مستعد لسماع كل شيء دون أن يفقد أعصابه أو يزداد كرهه لها ، انتفضت جالسة على أثر صوته الخشن :
_ ملاذ !!
_ هااا .. بس إيه اللي جاب الموضوع ده على بالك دلوقتي ؟!
تمتم بثبات ملحوظ ونظرات ثاقبة :
_ عادي حابب أعرف كل حاجة ولا إنتي عندك مانع ؟!!
هزت رأسها بالنفي في توتر وحاولت ارتداء لباس الشجاعة وأن تقص عليه كل شيء دون كذب لعلى يكون هذا جزء يساهم في استعادة مافقدته وهو ” ثقته ” ، قالت بابتسامة مرتبكة :
_ لا طبعًا معنديش مانع ، بس إنت مستعد إنك تسمع حجات أكيد مش هتعجبك !
_ لو مكنتش مستعد مكنتش هسأل
أخذت شهيقًا ارتفع معه صدرها قليلًا ثم أخرجته زفيرًا متمهلًا وتبدأ بالسرد قائلة :
_ هو كان قريب واحدة صحبتي وفي مرة طلعنا أنا وهي وروحنا مطعم فهي وماشية جه هو ياخدها وشافني ، بعديها بكام يوم لقيتها بتقولي إنه أعجب بيا وحابب يتعرف عليا فقولت ليها يتعرف عليا إزاي يعني ؟! ، قالتلي يعني يكلمك وكدا في التلفون لإنه ناوي يتقدملك بس عايز يتعرف عليكي في الأول فأنا وقتها بهدلتها وقولتلها أكيد لا مش موافقة ولو عايز يتقدملي ياجي أهلًا وسهلًا ولو حصل نصيب في حاجة اسمها خطوبة وهنتعرف على بعض كويس أوي ، وبعدها بأسبوعين لقيته اتقدملي بالفعل واللي اكتشفته بعدين إنه شافني كذا مرة مش مرة واحدة ، وطبعًا أنا من غبائي وافقت لما اتقدملي وكنت فرحانة جدًا كان في نظري بقى شاب جميل وشبه الأجانب بالرغم من إني لو كنت ناضجة وفاهمة كنت هدرك إن طلاما واحد قبل على نفسه إنه يكلمني قبل ما يبقى في أي حاجة بينا وكان عايز بمعنى أصح يرتبط بيا من ورا أهلي فده معناه إنه مش كويس بس أنا بغبائي صممت عليه مع إن إسلام وبابا مكنوش مقتنعين بيه ومكنوش بيطقوه ، بس وبعدها تمت الخطوبة وكان بيكلمني كل يوم تقريبًا وكنا بنتكلم في حجات ملهاش أي ستين لزمة وكان بيجيلي بعد شغلي وبنقعد في كافتريا وفي وقتها أنا مكنتش مدركة حجم الغلط ده كنت عارفة إنه مينفعش ويمكن يكون حرام بس مكنتش مدركة إن أنا كنت باخد ذنوب بالهبل بسببه وسمحتله بحجات كتير وإنه يتخطى حدود في التعامل معايا كتير مكنش ينفع يتخطاها ، كنت ساذجة لدرجة الغباء ، وبعدها بفترة من الخطوبة لقيت بابا بيكلمني على موضوع إنه بيكلمني كل يوم ومتعصب وقالي مينفعش وأنا بقيت بحاول اتجنبه ولما يتصل اتكلم كلمتين واتلكك بأي حاجة عشان اقفل ، بعديها لقيته هو من نفسه بقى يبعد وحده وحده وحس إني مش عايزة اكتر معاه في الكلام ، بقى يتصل مرتين في الأسبوع وبعديها مرة وفي النهاية مبقيش يتصل خالص بقيت برن عليه أنا يا يرد يامردش ولو رد كان بيعمل زي وبيتلكك ويقفل معايا وبعديها بفترة بقيت ارن عليه وميردش ولا يعبرني أصلًا بقيت بضايق جدًا وبتعصب وفي مرة قولت أنا هروحه كان تفكيري وقتها إن يمكن هو تعبان ومبيردش عشان مش عايز يقلقني وقولت هطمن عليه ، كان حبي ليه عميني عن كل حاجة ولما روحتله بعد الشغل هو كان محامي ومعاه مكتب خاص بيه فروحتله على مكتبه ولما دخلت عليه المكتب لقيته .. لقيته مع بنت وكانوا في وضع مش كويس بعديها فورًا احنا فسخنا الخطوبة وحصلت مشكلة كبيرة بين بابا وإسلام مع ابوه وأمه واخواته ……
فرت دمعة متمردة من عيناها رغمًا عنها فجففتها مسرعة والقت نظرة خاطفة إليه فوجدته يحدق فيها بتركيز شديد ويستمع لما تسرده باهتمام ، لتكمل دون أن تنظر في وجهه وصوتها يحمل بحة البكاء وعيناها تسبح في بحر دموعها :
_ مكنتش متوقعة منه الغدر نهائي ، كنت بثق فيه ثقة عمياء وزي ما قولت بسبب حبي ليه كان مخليني عمية عن كل عيوبه كان كتير بيتجاهلني ولما نكون خارجين تلفونه يرن كتير ويقولي صاحبي ويقوم يكلمه بعيد وهو أصلًا مش صاحبه دي واحدة من البنات اللي يعرفهم ، هو لما ملقيش مني فايدة وإني مش بسمحله إنه يقرب مني لأنه هدفه كان من البداية هو أن يحصل عليا ويحاول يجرني لطريقه القذر فزهق مني وشافله واحدة غيري ، وهو من البداية عارف إنه مش هيتجوزني لانه مش حاطط في باله الجواز أساسًا ده كان بيتسلي بس بيا وأنا زي الحمارة صدقته ووثقت فيه لا وبعد ده كله فضلت برضوا بحبه وحبه مكفاش في إنه يدمرني بوجوده لا حتى في غيابه وكان السبب في وضعنا دلوقتي .
سمحت لدموعها بالسقوط ثم نظرت له وأكملت وهي تعلق نظرها بنظره في أعين تنبض بالعشق :
_ أحيانًا كتير بقول يارب ليه مكنتش إنت أول حد يدخل حياتي ليه مكنتش إنت بداله على الأقل مكنتش هتكسر زي ما كسرني ، مكنتش هخسر ثقتك فيا ومكنتش علاقتنا هتبقى كدا ، بس برجع وبستغفر ربنا وبقول أكيد ربنا كان ليه حكمة وأنا اتعلمت كتير من التجربة دي ، ولما اتقدمتلي إنت أنا كنت لسا في عز صدمتي ومخرجتش منها وبحاول استجمع نفسي ومع ضغط ماما عليا وبعد ما فكرت بغبائي إني لو اتجوزتك هسترجع كرامتي اللي بعترها وهخليه يتغاظ ، وافقت ومكنتش أعرف إني كدا بدمر حياتك وحياتي ، وبالرغم من إني كنت لسا مفوقتش من الغدر اللي اتعرضلته لقيت نفسي من غير ما احس بثق فيك وبتشدلك ، حسيتك مختلف عنه في كل حاجة لما اتخطبنا مكنتش بتكلمني وكنت بستغرب بعدين فهمت إن إنت خايف تكلمني فتقول حاجة كدا أو كدا وتغلط فناخد ذنوب أنا وإنت وكنت بتكتفي بمكالمة واحدة طول الأسبوع تطمن عليا وتقفل فورًا لدرجة إني كنت بحس إنك مش طايقني بس ما كتبنا الكتاب واخدتني معاك للشركة وسمعت كلامك وغيرتك عليا بسبب المكياج كبرت في نظري جدًا وحسيت إن إنت فرصة ربنا بعتها ليا ولو ضيعتها هبقى اثبت لنفسي للمرة التانية إني غبية جدًا .. ومن لحظتها اخدت عهد على نفسي إني هشيله من قلبي وهحاول اكون ليك لإنك تتحب فعلًا ، وفي تاني يوم لما اتكلمت معاك في موضوع النقاب ولقيتك مبسوط وبتقولي ياريت ، كبرت أكتر في نظري وتمسكي بيك زاد اكتر لاني عرضت علي احمد موضوع النقاب قبل ما ننفصل ورفض وقالي بلاش هبل ، طبعا كان هيوافق ازاي والنقاب ده كان هيحط حدود في تعاملنا مع بعض وهيمنعه من انه يشوفني ، ولما إنت عرفت كل حاجة يوم الفرح كنت متوقعة إنك هتتعصب وممكن تمد إيدك عليا لما نرجع البيت بس خيبت ظني وكان رد فعلك طبع بصمته في قلبي بالرغم من إنك كنت قاسي في كلامك بس حسيت اني مندمتش لما تمسكت بيك وقولت لازم مضيعكش من إيدي ، عارف حسيت بإيه بظبط ، حسيت إنك راجل بمعنى الكلمة واحترمتك جدًا وقتها .. ولغاية دلوقتي وحتى لو حصل واتطلقنا اهيني بقولها ليك إنت هتفضل أجمل راجل قابلته في حياتي يازين !
لم يزح نظره عنها بل ظل مثبتًا نظره عليها وهو بيتسم بدفء ونظرات تعكس ما يحدث داخل قلبه وكأنها تخبرها بشكل غير مباشر عن طريق لغة الأعين ” أحبك ” ، نجحت وهزمته شر هزيمة بكلامتها التي صوبت سهام العشق نحو قلبه فطبعت أثرها ، وحينما شعر بدنو استسلامه التام لها ووجد نفسه سيقترب ليقبلها فاشاح بوجهه وقال متصنعًا الجفاء في محاولة فاشلة :
_ اعتقد إن اللي قولتيه في الآخر ده ملوش لزمة أنا كل اللي كنت عايز أعرفه عن خطيبك بس
انزوت نظرها عنه مبتسمة بعدم حيلة بعدما توقعت رده الجاف ولكنها قررت أن تستخدم رده كورقة رابحة فتسكته بها بتاتًا وتجعله غير قادر على التحدث ، حيث رفعت نظرها من جديد وجففت دموعها هاتفة في ابتسامة واثقة ونظرة كلها تحدى :
_ يمكن هو ملوش لزمة بالنسبالك بس بالنسبالي ليه لزمة أوي كمان ، وكان لازم اقوله ليك !
لم تفشل للمرة الثانية في هدفها حيث خطفت أي رد يمكن أن يجيب به عليها فنظر لها بسكون ولا يعرف بماذا يجيب ليكتفي بالصمت واشاح نظره عنها مجددًا ، لتزداد ابتسامتها اتساعًا في انتصار ثم تقول بشيء من المرح والضحك :
_ عارف إول مرة شوفتك في المقابلة الشرعية ، قولت ده باين عليه معقد وتفكيره رجعي ومن نوع الناس اللي بتحب تفرض سيطرتها في كل حاجة وبيكتم الست ومفيش خروج ، مفيش فسح ومعرفش إيه بسبب إن كان باين عليك الالتزام والتدين جدًا ، بس بعد كتب الكتاب اثبتلي العكس وكنت لطيف جدًا آه خوفت منك شوية منكرش في الشركة بس عادي ، وكنت جنتل أوي وإنت بتعتذر تاني يوم .. ولما كلمتني في التلفون ولقيتك بتقولي عايز تصالحني وش لوش ومعرفش إيه اكتشفت إني اتخدعت فيك وفي وش الملاك وقناع الاحترام والأدب اللي كنت بتلسبه قدام الكل ومكدبش عليك قلقت منك وقولت ده هيعمل فيا إيه ! ، بس هديت نفسي وقولت عادي يعني هو بيقول كلام بس وهو مطلعش كلام للأسف و إنت فعلًا حاولت تستغل الفرصة بس باحترام برضوا
رأت ابتسامة ترتفع لشفتيه وهي تسرد له على افعاله ، وكيف كانت تظنه خلوقًا ، بل في الواقع هو حتى الآن خلوقًا معها ولم يريها الانحراف الحقيقي ، لتكمل هي متسائلة في ضحك :
_ قولي ومتكدبش كانت نوياك مش تمام صح ؟ ، بس شكلك تراجعت على آخر لحظة !
قال في ابتسامة عريضة وهو يبادلها جلستها المرحة :
_ الصراحة ابقى كداب لو قولتلك غلطانة
أصدرت ضحكة بسيطة وتمتمت بخذي مزيف ومداعبة :
_ وأنا قال اللي كنت مدياك الأمان وإنت كنت هتغدر بيا في نص النيل
اطلق ضحكة مرتفعة ثم هم بأن يجيب عليها ولكن صوت رنين هاتفه قطع جلستهم المرحة والأولى منذ زواجهم ، حيث التقطه وأجاب على المكالمة التي كانت تخص شيء خاص بالعمل ثم نهض واتجه نحو مكتبه ليتأكد من شيء وهو مازال يتحدث في الهاتف ، وتركها تتراقص فرحًا وتكاد تقفز من السعادة .. فلقد نجحت اليوم في احراز اول نقاطها ، وقويّ شعور الأمل في قلبها من جديد وازدادت إصرارًا وعزيمة في إذابة الثلوج المتراكمة على قلبه وتحول بينها وبين قلبه النقي والصافي والجميل … !!
***
مع صباح يوم جديد ومشرق ، داخل شركة العمايري …..
خرجت يسر من مكتبها تقود خطواتها ناحية مكتب زوجها لكي تعطيه بعض الأوراق المهمة الخاصة بالعمل ، بالرغم من أنها لا تريد رؤيته إلا أنها مجبرة على التعامل معه في الشركة من أجل العمل . وأخيرًا وصلت أمام مكتبه وهمت بأن تدخل لولا السكرتيرة الخاصة به منعتها فورًا باحترام مغمغمة :
_ مدام يسر .. حسن بيه قال مدخلش حد نهائي
لوت فمها بأعين نارية وتمتمت بابتسامة صفراء :
_ وهو أنا حد ياحبيبتي !!
توترت الفتاة بشدة وقالت باضطراب وصوت خافت :
_ هو موجود جوا مع أنسة دنيا وقالي إنك لو جيتي وجبتي الاوراق تدهاني وأنا هدهاله لما يخلص مقابلته
طفحت حمم البركان الخامد داخلها ، وتأججت نيران الغيرة لدرجة أن وجهها ظهرت عليه آثار انفجار هذا البركان ! ، فهو لن يكف عن تحقيرها وإهانتها أمام الجميع .. يجلس مع فتاة في الداخل ويرفض دخول زوجته غير مبالي لوضعها أو كرامتها ، ولكنها تمكنت من التحكم في زمام ثورتها الداخلية وطالعت الفتاة بابتسامة قاتلة كلها شر وغيظ ثم استدارت وعادت لمكتبها دون ان تعطيها شيء وهي تتوعد له بأنها سترد كرامتها التي بعثرها للتو .
دخلت في مكتبها ودفعت الباب بعنف خلفها ثم جلست على المقعد وهي تلف به يمينًا ويسارًا وتقضم أظافرها من فرط غيظها وغيرتها وعقلها لا يتوقف عن التفكير وطرح الأسئلة ” ترى ماذا يفعل هذا المنحرف ؟! ، ولما يرفض دخول أحد عليهم ؟! ” ، فنهضت وقامت بتحضير كوب قهوة لم تجهزه لها بل له ، وبعد دقائق معدودة من تجهيزه كما توقعت اقتحم عليها المكتب ودخل ثم اغلق الباب وهتف بسخط :
_ مسبتيش الورق ليه مع السكرتيرة ؟!
اقتربت منه وهي تحمل على يدها كوب القهوة الساخن وتهمس بتصنع البراءة :
_ معلش اتلهيت أصل جالي تلفون مهم ومشيت علطول عشان أعرف أرد
تقدم نحوها وقال ساخرًا منها :
_ لا والله وتلفون إيه ده بقى المهم ؟!!
وقفت أمامه مباشرة تكاد تكون ملتصقة به وتمتمت في نظرات ثابتة وابتسامة لئيمة :
_ فاكر اللي شوفتني معاه في الصورة وحكتلك عنه أهو هو ده ، كان بيتصل يطمن عليا لإني إمبارح كنت تعبانة جدًا بس الحمدلله دلوقتي بقيت كويسة ، ده حتى كان عايز ياجي يشوفني بس قولتله لا متتعبش نفسك ولإني كمان مش فاضية
تبدلت ملامحه ولاحظت أنها اتخذت طريقًا مغايرًا لتسلك طريق الاغتياظ والاستياء فتبتسم هي بانتصار لتحقيق أول نقاطها ثم تسكب القهوة على قميصه ليرتد هو للخلف فورًا مُصدرًا تأوهًا متألمًا لسخونتها ثم بدأ فورًا بفك أزرار قميصه في ألم حتى ينزعه عنه وهو يصيح بها بجموح عاتي :
_ إيه الغباء ده !!
يخطأ مجددًا ولابد أنه يصر على أن تزيد عقابها له فاقتربت منه وضغطت بقدمها على قدمه ليصدر هو تأوهًا متألمًا أكثر فتقول هي بتأسف مزيف ودهشة :
_ أنا آسفة ياحبيبي مقصدش ، بسبب التعب بس حاسة نفسي من مظبوطة لسا
فهم أنها تفعل كل هذا عمدًا حين قرأ نظرات الغل في عيناها فنزع عنه قميصه والقاه على الأريكة الصغيرة ثم جذبها من ذراعها هامسًا في صوت مريب :
_ اللي بتعمليه ده هتبقى نتائجه سلبية خلي في علمك ، بلاش حركاتك دي يايسر ومتعمليش نفسك ذكية عليا احسن اوريكي اللي عمرك ماشوفتيه مني
قالت ضاحكة باستهزاء واضح منه :
_ نفسي جدًا اشوف اللي مشوفتهوش منك ده ، من ساعة ما اتجوزنا وإنت بتقول الكلام ده ، بس واضح إنه كلام بس
ضغط على ذراعها ولواه خلف ظهرها لتصدر هي تأوهًا بسيطًا ثم همس أمام شفتيها بالضبط وفي صوت يشبه فحيح الافعي :
_ اظن منستيش اللي كنت هعمله يوم الفرح ، عندي استعداد أخدك دلوقتي على البيت واوريكي أسوأ ما فيا عشان تتأكدي إذا كان كلام بس ولا لا .. ها إيه رأيك تحبي اثبتلك !
أدركت أنه لا يمزح وقد يفعلها حقًا فقررت السماع لنصيحة عقلها وهي عدم استفزازه وتحديه أكثر من ذلك حتى لا تقع في وضع صعب معه ، فأغمضت عيناها وهمست بخنق :
_ ابعد عني ياحسن
ترك يدها وشعرها لتعتدل هي واقفة ويقع نظرها على صدره الذي يعطي أحمرار بسبب القهوة التي سكبتها عليه لتتنهد بعمق وإشفاق وتلتفت خلفها ثم تمد يدها في درج المكتب وتخرج مرهم للحروق ثم تعطيه له هاتفة في امتعاض وهي تتحاشي النظر إليه :
_ خد حط منه
سمعت صوته الرجولي القوي وهو يقول ببرود :
_ حطيلي إنتي .. مش إنتي اللي دلقتي القهوة عليا
نظرت له رافعة حاجبها بنظرة لا تختلف عنه وفهمت مقصده أنه يريد أن يثبت لها أنها لا تستطيع مقاومته وتضعف أمامه كالعدو الجريح ، لتبتسم له بمكر وفتحت العلبة ثم وضعت جزء صغير على أصبعها ودهنته على مكان الإحمرار بلطف به شيء من الحدة ، وهو يتابعها مبتسمًا بخبث وهي تمرر اصبعها على صدره بمكان الحرق ، لتفتح في هذه اللحظة رفيف الغرفة وسرعان ما وقع نظرها عليهم فاشاحت بوجهها وعادت تغلق الباب متمتمة :
_ احم !
وضعت يسر علبة المرهم في يده وابتعدت عنه هاتفة لرفيف :
_ ادخلي يارفيف مفيش حاجة القهوة ادلقت على اخوكي بالغلط وكنت بحطله مرهم للحروق
التقط قميصه المتسخ ونظر لها هاتفًا في طبيعية يحاول إخفاء غيظه حتى لا تشعر شقيقته :
_ وده البسه إزاي بقى ؟!!
_ قول لعلاء يجبلك قميص من المخزن تحت ، مش موضوع يعني ياحسن
نقلت رفيف نظرها بينهم باستغراب ولكنها لم تعلق فهذا ليس من شأنها واقتربت من يسر تملي عليها بعض الأشياء الخاصة بالعمل ثم همت بأن ترحل لولا صوت أخيها الذي قال بتساءل :
_ كرم جه معاكي يارفيف ؟
قالت نافية :
_ لا النهردا الجمعة وإنت عارف إنه متعود بيزور اروى وسيف كل جمعة فوصلني ورجع على المقابر ، ممكن شوية وتلاقيه وصل
_ طيب لما ياجي قوليلي
أماءت له بالإيجاب لتقابل ابتسامته الحانية فتبادله إياها ثم تستدير وتنصرف ، ليعود هو بنظره لزوجته ويرمقها شزرًا ثم يخرج هاتفه من جيبه ويجري اتصال بابن عمه ليأتي له بقميص نظيف .
***
يوم وتوالت خلفه الأيام ، وكانت ذات أثر جيد على بعضهم وعلى البعض الآخر تمر بروتينية وبعضهم في تردد وضيق .
تمكنت ملاذ من أن تحقق نجاحًا ساحقًا في علاقتهم التي تحسنت كثيرًا وتمكنت من إزالة بعض العوائق التي تحول بينها وبين زوجها ورأت جزءًا من لطفه وحنانه الذي كان يخفيهم عنها .
أما حسن فقد قضي أسبوعًا كاملًا بمفرده في المنزل ، يستيقظ فيذهب للعمل ويعود ليقضي سبع أيام في روتينية مملة ، ويعترف أخيرًا بينه وبين نفسه أنها تركت بصمتها بمجرد رحيلها عن المنزل ، ولقد اعتاد عليها برغم من شجارهم اليومي ، وخلال هذا الأسبوع خلفت فراغ في نفسه خلفها .. حتى في العمل كانت لا تأتي سوى ساعات قليلة ولا يراها فيهم حيث تحرص على القدوم والذهاب دون إن يراها !! .
بينما كرم فقد كان مشغولًا في البحث عن ذلك الوغد الذي حتمًا سيحاول أذية ” شفق ” مجددًا ومن جهة أخري مشغولًا ببعض التعديلات التي يجريها في منزله استعدادًا للانتقال والعيش فيه بعد زواجه ، أما شفق فقررت وتراجعت أكثر من مرة وبالأخير استمعت لصوت قلبها الذي يرغب في قربه فاعلنت موافقتها النهائية ، وها هو اليوم موعد زواجهم وسيعقد القرآن بعد ساعات قليلة بحديقة المنزل وسط حضور عائلته كاملة ، وستكون حفلة عائلية هادئة دون موسيقية بناءًا على رغبتها بسبب وفاة أخيها وأمها الذي لم يمر على وفاتهم الشهر ! .
كانت تكمن في غرفتها وتتطلع لمرآتها تمعن النظر في ملامحها وفستان السهرات البسيط الذي قامت رفيف بشرائه خصيصًا لها واقنعتها بعد عناء بأنها لا يجب أن ترتدي الأسود في مناسبة كهذه فرضيت أخيرًا مغلوبة على أمرها . رأت الدموع تنهمر من عيناها في ألم وحرقة امتزجوا بالشوق ، شوق لأحبائها الذين سرقهم الموت منها فتركها وحيدة بلا عائلة ، وبلا سند أو حصن تحتمي به فليس هناك شيء يعوض العائلة ، وكم تمنت أن يكون أخيها معها وهو من يسلمها بيده لزوجها وترى السعادة في أعين والدتها التي طالما ودت أن تراها بفستان زفاف ابيض ولكن ماذا عساها أن تفعل سوى تذكّرهم والاشتياق لهم والحزن على فراقهم الذي يمزقها كل يوم وكل دقيقة ! .
فتحت رفيف الغرفة ودخلت وحين رأتها في الفستان الحراري وحجابها الذي يأخذ نفس اللون ابتسمت بإعجاب وتمتمت :
_ إيه القمر ده بس يلا عشان المأذون وصل تحت
جففت دموعها فورًا قبل أن تلاحظها وبادلتها الابتسامة العذبة ثم القت نظرة من النافذة على حديقة المنزل لتجدهم جميعًا بالأسفل ويتحدثون فيما بينهم ، وأخيرًا وقع نظرها عليه لتراه يأخذ مكانه بجانب المأذون وشارد تمامًا في اللاشيء أمامه لتتنهد بعمق وترفض عقلها الذي يخبرها في غضب ” حمقاء وبلا كرامة وافقتي على الزواج منه وإنتي تعرفي جيدًا أنه لا يحبك وربما أيضًا لا يريدك وتستمعي لأوهام قلبك المريض بأنك ستجعليه يحبك وهذا غير ممكن ! ” استفاقت من تعنيف عقلها الشديد لها على صوت هدى هذه المرة وهي تطالعها بلطف وحب هاتفة :
_ يلا ياحبيبتي عشان المأذون مستعجل
التفتت لها فأخذتها من يدها وخرجت لهم ليضرب حسن كتفه بكتف أخيه الشارد حتي ينتبه لهم وبمجرد ما عاد لواقعه ووقعت عيناه عليهم هب واقفًا يرسم ابتسامة جميلة على شفتيها يستقبلها بها حتى وصلت وجلست بجواره وبدأت مراسم النكاح فورًا والتي انتهت بقول المأذون كالمعتاد ” بارك لكما وبارك عليكما وجمع بينكم في خير ” ثم يبدأ هو في تلقي التنهئات التي كانت بسعادة غامرة من أفراد عائلة باستثناء اشقائه الذين عانقوه وهنئوه في ابتسامات هادئة لعلمهم جيدًا بأنه لم يتزوج رغبة منه أو رغبة فيها ، ولكنه رغم هذا وبداية من هذه اللحظة وقع الوثائق مع نفسه بأنه سيكون رجلًا معها كما يجب أن يكون ! .
***
بعد قضاء ما يقارب الثلاث ساعات وهم مجتمعين يضحكون ويتحدثون في مرح وسعادة ، لم يتبقى سوى عائلة محمد العمايري وبينما كان طاهر وزوجته وابنه في طريقهم لليسارة حتى يرحلوا استقامت يسر من جانب زوجها وهمت بأن تلحق بهم لتعود معهم فتجد يده تقبض على رسغها بعنف وهو يوجه لها نظرات قاتلة في همس :
_ رايحة فين ؟!
انحت قليلًا ناحيته وغمغمت في هدوء مستفز :
_ راجعة معاهم
اجلسها بجانبه مجددًا عنوة وهمس في أذنها بنبرة صوت ملتهبة :
_ هترجعي معايا البيت كفياكي أوي كدا ، أنا سبتك أسبوع براحتك ومتكلمتش
القت نظر على الباقية لتجد كل من رفيف وملاذ وشفق منشغلين بالحديث مع بعضهم وكرم وزين يتحدثون مع والدتهم في شيء ما بصوت خافت ، لتعود بنظرها له وتبعد يده عنها ببطء متمتمة في استهزاء :
_ ده على اساس أنك دايب في دباديبي مثلًا ومش قادر تقعد من غيري
ابتسم وقد قرر أن يشعل نيران سخطها ويستفزها حيث أكمل همسه في إهانة واضحة لها بها شيء من الوقاحة :
_ لا بس مش قادر اقعد من غير الخدامة اللي بتأكلني وبتغسلي هدومي وبتخدمني وبتلبيلي كل طلباتي ، حتى الطلبات اللي بالي بالك
جزت على أسنانها وقد نجح في تحقيق مبتغاه وهو إشعال نيرانها واندلاع ثورتها الداخلية فوجدها تطالعه بأعين نارية تكاد تحرقه بها وتهتف في استحقار ونظرات وضيعة :
_ تعرف إن أنت حيوان أوي !
عاد ليقبض على ذراعها من جديد ولكن في قوة المتها وهتف بتحذير مبتسم يحاول إخفاء سخطه من إهانتها المباشرة له :
_ احترمي نفسك يامزتي بلد ما اقصلك لسانك الطويل ده
دفعت هذه المرة يده عنها في خنق واشاحت بوجهها عنه بل ونهضت من جانبه تمامًا واتجهت لتجلس بجانب الفتيات تشاركهم حديثهم قبل أن تنفجر في ذلك المستفز من الغيظ .
وبعد مايقارب الساعة كل منهم أخذ زوجته وذهب لمنزله ولم يتبقى سوى رفيف وهدى حيث هتفت رفيف مداعبة :
_ خلصتي من ولادك التلاتة يادودو .. يارب تكوني مرتاحة مفضلش غيري أنا وإنتي أهو في وش بعض
قهقهت هدى ضاحكة وتمتمت براحة ولكنها امتزجت بشيء من الضيق :
_ أكيد مرتاحة وهبقى مرتاحة أكتر لما اشوفهم مبسوطين واشيل ولادهم إن شاء الله ، واشوف كرم مبسوط مع مراته يارب وأنا واثقة إن شفق هتنسيه اروى وهتشوفي وتقولي ماما قالت
شاركتها الضحك وهي تقول :
_ مابلاش الثقة المفرطة دي يادودو !
_ يس يابت اتلمي قومي يلا من جمبي سبيني استجم شوية مع نفسي
فعلت كما أمرتها واستقامت ضاحكة وهي تبتعد عنها تاركة إياها ترفع يداها للسماء وتدعي لجميع ابنائها بقلب أم صادق في دعائه وحبه لأولاده ! .
***
وضع كرم المفتاح في قفل الباب واداره للشمال ثم فتحه ودخل أولًا لتدخل هي بعده ويغلق الباب بهدوء ويتابعها وهي تتأمل في المنزل الذي تراه لأول مرة ، كان يحتوى على أثاث عصري وجميل والوان الحوائط هادئة وجميلة ، لتنتفض من شرودها على صوته الرخيم وهو يتمتم باسمًا :
_ مكنش في وقت عشان اجيبك تتفرجي وتشوفي لو حابة تغيري حاجة أو كدا ، بس احنا فيها أهو واعملي اللي إنتي عايزاه لو في حاجة مش عجباكي ، خلاص ده بيتك
التفتت له برأسها وهمست في رقة ساحرة وهي تهز رأسها نافية :
_ لا بالعكس كل حاجة في البيت جميلة خالص ماشاء الله
_ طاب كويس تعالي بقى قبل ما تدخلي أي مكان في البيت هوريكي حاجة
قطبت حاجبيها باستغراب ولكنها تبعته في صمت حتى وصلا أمام باب غرفة لونه بني ثم مسك المقبض وفتح الباب وهو ينظر لها بابتسامته المعهودة التي تسرق قلبها ، يطلب منها الدخول أولًا ، لتخطو أول خطواتها وتلجم الدهشة لسانها وهي تحدق بالحائط فاغرة عيناها وشفتاها !! ……
ظلت للحظات طويلة تحدق في هذه الصورة الضخمة التي تملأ الحائط من أعلاه لأسفله ، وسرعان ما غامت عيناها بالعبارات وسقطت دموعها غزيزة على وجنتيها ، حيث كانت الصورة تجمعه مع أخيها ، فاقتربت ناحية الحائط وهي تملس بيدها على أخيها في الصورة بابتسامة مريرة حتى سمعته يهتف :
_ الصورة دي عملتها بعد وفاته بأسبوع وكنت كل ما باجي البيت هنا بفضل اتفرج فيها
التفتت له وقالت بصوت باكي ووجه مملتيء بالدموع مع ابتسامة واسعة :
_ جميلة اوي ياكرم بجد ، هو كان بيحب الصورة دي أوي ليكم
توجه ناحيتها ووقف خلفها مغمغمًا في حنو ودفء استشعرته في صوته :
_ فعلًا .. بس لو إنتي كل ما تدخلي الأوضة وتشوفيها هتعيطي كدا ، أنا ممكن اشيلها
التفتت له بجسدها كاملًا وهتفت تنهاه بسرعة وهي تجفف دموعها بظهر كفها :
_ لا لا اوعى متشيلهاش هزعل منك أوي بجد لو شلتها ، شكلها جميل خالص
اكتفى بابتسامته اللطيفة لتبتعد عنه وتبدأ في تفقد بقية المنزل وهو معها ثم جلسوا يتحدثون في امور مختلفة إلى مايقارب النصف ساعة تارة يغلب عليهم الضحك وتارة الجدية في أحاديث أخرى ، إلى أن دخلت غرفتها وبدلت ملابسها وارتدت بيجامة منزلية مريحة ورفعت شعرها الناعم لأعلى بشيء تثبته به لتنسدل بعض خصلاته على وجهها من الأمام وعنقها من الخلف ، وسرعان ما انتفضت واقفة في فزع عندما سمعت طرقه على الباب وصوته فتوترت بشدة وترددت قبل أن تفتح ولكنها حسمت أمرها واتجهت لتفتح له ، ولم يكن وضعه يختلف عنها كثيرًا ولاحظت توتره في نبرة صوته وهو يقول :
_ أنا في الاوضة التانية لو عوزتي حاجة اندهي عليا
ظهرت علامات الأسى والخنق على محياها وهي تقول في يأس :
_ إنت هتنام في الأوضة التانية ؟!
أطال النظر في محياها لثلاث ثواني قبل إن يهتف في لطف :
_ آه ، لو إنتي حابة أنام معاكي مفيش مشكلة
ارتبكت وهزت رأسها بالنفي وهي تقول متلعثمة :
_ لا لا براحتك مقصدش كدا ، أنا كنت بسأل بس
_ أمممم طيب تصبحي على خير
ردت عليه في ابتسامة مزيفة رسمتها بمهارة ” وإنت من أهله ” ثم اغلقت الباب ببطء واتجهت ناحية فراشها لتجلس عليه وهي تلوي فمها بحزن ، وتسمع صوت عقلها الذي لا يكف عن تأنيبها ” لما الحزن ، وفري حزنك فهذه البداية فقط ” ، زفرت بشجن وعدم حيلة ثم جففت الدموع التي ركضت لعيناها وتمددت على الفراش متدثرة بالغطاء وهي تغمض عيناها لتهرب من أحزانها عن طريق النوم .
أما هو فقد ذهب للمطبخ ليشرب المياه وقبل أن يضع كوب الماء في فمه انزله وهو يتأفف مغلوب على أمره ، فلا يستطيع تجاهل صوته الداخلي الذي يأنبه بأنه سيتركها تنام بمفردها في أول ليلة لهم في منزلهم ولا يستطيع أيضًا التغاطي عن شعوره بأنها تضايقت ، ليرفع كوب الماء مجددًا لفمه ويشربه دفعة واحدة ثم يعود متجهًا نحو غرفتها أو غرفتهم بالمعنى الأصح ثم فتح جزء صغير من الباب في تردد وهو يجاهد في السيطرة على مشاعره المضطربة فهو لا ينكر توتره بمجرد اقترابه منها أو اقترابها هي ، واليوم سيبذل مجهود عظيم ليشاركها في نفس الفراش والغطاء ، تغلب على اضطرابه وفتح الباب كاملًا ثم دخل وأغلقه خلفه بينما هي فظلت توليه ظهرها وتتصنع النوم ظنًا منها أنه دخل ليأخذ شيء وسيغادر مرة أخرى ولكن لحظات ووجدته يتسطح على آخر الفراش لتلتفت له برأسها في شبه ذهول وتتمتم في عدم فهم :
_ إنت مش كنت هتنام في الأوضة التانية ؟!
ابتسم بساحرية وهتف مازحًا :
_ ده اعتبره طرد بس بشياكة يعني ولا إيه !!
لعنت نفسها على حماقتها وما قالته لتقول مصححة قصدها في ارتباك :
_ لا والله أكيد مقصدش كدا ، انا استغربت بس إنك غيرت رأيك بسرعة يعني !
اجابها مخترعًا كذبة محترفة مكملًا مزاحه :
_ بيني وبينك أنا دايما متعود لما باجي الشقة بنام في الأوضة دي فاتعودت خلاص عليها وطلاما اتعودت على أوضة معينة مش بعرف أنام في مكان تاني ، متقلقيش نومي هادي ومش هزعجك والله
اعادت رأسها للوضعها الطبيعي وهي تبتسم على جملته الأخير وبنفس الوقت تفهم جيدًا سبب تراجعه في قراره وأنه خشي من أن تكون تضايقت فقرر قضاء الليلة معها أو ربما كل ليلة ، وبمجرد التفكير بأنه سيكون بجوارها كل ليلة أيقظ في أعماقها مشاعر متضاربة مابين السعادة والقلق والخجل ، مما جعلها ترفع الغطاء جيدًا إلى صدرها وتغمض عيناها محاولة الفرار من صراع عقلها ، أما الآخر فكان يواجه صراعًا مع توتره البسيط ويلقي نظرة بين الحين والآخر عليها إلى انتهى به الأمر وولاها هو الآخر ظهره أيضًا وأغمض عينه فارًا إلى النوم من صراعه مثلها !! ……
***
كانت تقف يسر في المطبخ تقوم بتحضير كوب شاي حتى تشربه وهي تشاهد التلفاز وبينما كانت تسكبه في الكأس لتشعر به يقف بجواره ويهتف ساخرًا :
_ وكنتي ناوية بقى تقعدي عند أهلك لغاية إمتى ؟!
قالت في هدوء تام :
_ لغاية ما الاقي نفسي عندي القدرة إني استحمل تصرفاتك من تاني ياحسن ، لإن اللي حصل وكلامك في اليوم إياه كافي إنه يخليني مش طيقاك لشهر كمان مش أسبوع
استند بساعده على رخامة المطبخ وغمغم في ابتسامة غير مبالية ووقاحة معتادة منه :
_ تقدري تنكري إن إنتي اللي استغليتي وضعي ، طاب أنا ومكنتش في وعي ولا عارف أنا بعمل إيه ، إيه وإنتي كمان مكنتيش في وعيك ؟!! ، إنتي كنتي قادرة تمنعيني بس اللي حصل كان يمزاجك قبل ما يكون بمزاجي أنا
كلماته الهبت النيران من جديد واشعلت ماقد اخمدته الأيام السابقة حيث التقطت السكين ورفعتها في وجهه هاتفة في غضب عارم :
_ إنت اللي مستغل واستغليت حبي ليك وسيطرت عليا بكلامك لغاية ما ضعفت للأسف قدامك ، فمتقولش إنه كان بمزاجي ، عشان إنت غدار ومحدش يديك الآمان خدعتني بكلامك وإنت داخل عليا وزعلان على الحيوانة اللي خدعتك وغفلتك وللأسف كان جزاء شفقتي عليك وعلى وضعك إنه اللي حصل .. وكلامك بعدين في الصبح اللي بيوضح قد إيه إنت معندكش دم وحقير
انزل يدها وهو يحدجها في عدم اكتراث لعصبيتها ويتمتم :
_ لا أنا مش حقير أنا بقول الحقيقة اللي إنتي مش عايزة تتقبليها وخلاص بقى ملوش لزمة نعاتب بعض اللي حصل حصل ومش هنقدر نغيره يامــدام يــســر !
ضغط على آخر كلمتين وهو يلفظهم من بين شفتيه قاصدًا إثارة جنونها أكثر ليستمتع به وبالفعل وجدها تحدق به بأعين لا تبشر بخير ولكنه لم تكفيه النظرات فقط حيث أراد أن يرى أسوأ ما في هذه الشرسة فهتف في كلامات تحمل معاني منحطة وهو يغمز بعيناه في لؤم :
_ بس تصدقي مكنتش متوقع إنك جامدة كدا !!
نجح ووصل إلى ذروة جنونها حيث تحول وجهها إلى كتلة نيران متوهجة وأحمرت عيناها ثم التقطت كأس الشاي وهي تقول بنبرة صوت توضح مدى شدة عاصفتها :
_ المرة اللي فاتت كانت القهوة وجات سليمة المرة دي الشاي فاير يعني هتتسلق ياحسن
أطلق ضحكة شبه مرتفعة وجذب الكأس من يدها وهو يرتشف منه ويقول ببرود مقصود :
_ ده ليا !!!! ، شكرًا يامزتي ، ابقي اعملي واحد تاني بقى ليكي
ثم استدار وانصرف من أمامها لتضرب هي بقدمها الأرض وترفع كفها ضاغطة عليه بشدة وتجز على أسنانها مصدرة أصواتًا تدل على شدة غيظها من كتلة الثلج المتحركة الذي تعيش معه !! ………
***
فتحت عيناها مع صباح يوم جديد وتسللت آشعة الشمس من خلف الستائر إلى عيناها فمدت يدها تحجبها عنها ثم القت نظرة بجانبها لتجد مكانه فارغ فتنهدت بهدوء وهبت جالسة وهي تفرك عيناها ثم اتجهت إلى المرآة وعدلت من وضعية ملابسها وكذلك شعرها الذي سرحته سريعًا وغادرت متجهة نحو الحمام لتغسل وجهها ويديها ثم خرجت واتجهت إلى الصالون لعله يكون فيه ولكن لا أثر له فظنت بأنه في غرفة المكتب الصغير الذي يوجد بها الصورة وذهبت باحثة عنه ولكنه ليس فيها أيضًا لتعقد حاجبيها باستغراب فلا يعقل أن يكون ذهب للعمل !! .
اخذت تبحث عنه في المنزل الكبير حتى وقفت أمام المطبخ وابتسمت عندما رأته يقف أمام آلة كبيرة نوعًا ما تبدو لتحضير القهوة موضوعة على الرخامة ، كانت آلة عصرية وحديثة لم يسبق لها وأن رأت آلة مثلها ولكنه كان يتقن التعامل معها ، انتبه لوجودها فالتفت برأسه لها وتمتم مبتسمًا :
_ صباح الخير
ردت عليه في خفوت جميل :
_ صباح النور
هتف بنفس نبرته السابقة وتعبيرات وجهه الدافئة :
_ تحبي اعملك معايا ؟
هزت رأسها نافية وأجابته ببساطة وابتسامتها لا تزال تزين شفتيها :
_ لا لا مش عايزة
عاد وأكمل تحضيرها حتى وجدها تقترب وتقف بجواره تتفحص الآلة بعيناها في فضول لمعرفتها ليأتيها صوته وهو يقول :
_ دي مش من مصر ، سافرت استراليا من حوالي تلات سنين وشوفتها بالصدفة ومترددتش إني اشتريها
هزت رأسها بتفهم وهي تتابعه وهو يتعامل معها حتى هتفت بصوت رقيق :
_ بس اللي أعرفه إنها مضرة لما تشربها كتير وخصوصًا لو على معدة فاضية
انتهي أخيرًا ووضع الكأس بجوار الآلة وهو يجيبها بنبرة صوت لا تفشل كل مرة في أثرها :
_ متقلقيش متعود على كدا
أخذت نفسًا عميقًا تستعيد ثقتها وشجاعتها بعد أن فقدتهم بسبب نبرته وابتسامته وتمتمت في خفوت مشجع وصوت انوثي ساحر :
_ يعني مش هتفطر
التقت فنجان القهوة خاصته وهمهم في لطف وحنو :
_ هو أنا مش جعان الصراحة بس عادي ممكن اكل حاجة بسيطة معاكي عشان متاكليش وحدك
حبست أنفاسها ومجرد ما ولاها ظهره وانصرف اخرجته زفيرًا قوي وهي تهز رأسها بالنفي ، فهو كالتعويذة التي تسحب الفتيات فقط لوحله وهي تفقد السيطرة على قلبها المتيم به كلما تنظر له وترى ابتسامته وتسمع صوته الهاديء الذي يعزفه على اوتار قلبها كسمفونية غرام ونظراته تغرقها في بحور عشقه الذي لا نهاية لها ، وفجأة عصفت بذهنها كلمات رفيف لها ” كرم بيعزك جدًا ياشفق والله وإنتي ليكي معزة خاصة في قلبه ولو وافقتي واتجوزتوا هتقدري بسهولة تكسبي قلبه صدقيني .. دي فرصة جاتلك ولو ضيعتها مش هتجيلك زيها تاني فمتهدريهاش وحاولي تستغلي الفرصة لصالحك ” استغلال الفرصة !! ، وهي أفضل من يستغل الفرص وللمرة الأولى ستكون انانية في عشقها ولن تسمح للظروف والأسوار والحصون أن تحول بينها وبين عشقها ، ستبذل قصارى جهدها في البحث عن مفتاح قلبه الذي امتلكته زوجته وتمكنت من الدخول بسهولة ، وستكون هي الشفق الذي يبشر بقدوم ليالي مليئة بالعشق والغرام !! ..
بعد مايقارب النصف ساعة انتهت من تحضير الإفطار ثم بدأت في نقل الصحون إلى الطاولة واتجهت إليه في الشرفة تخبره بأن الطعام جاهز فأماء لها بالإيجاب وبعد لحظات انضم لها على الطاولة ونظر إلى أنواع الطعام المختلفة ثم جلس وبدأ في الأكل وهو يستطعم مذاق الطعام فيجده ألذ مما توقعه ، أما هي فكانت تعلق نظرها عليه تتابع قسمات وجهه وقد قررت من اليوم أن تتوقف عن الخجل منه وتتحلى بدهاء النساء وانوثتها ، وتجد حلًا لمشكلة خجله وتوتره منها وتمحوه نهائي ، حيث هتفت باسمة :
_ يوم لما عزمك سيف الله يرحمه قبل ما يتوفى أنا اللي كنت عاملة الأكل كله لإن في اليوم ده ماما تعبت ومقدرتش تقف في المطبخ وحظك كان دايمًا إن لما سيف يعزمك عندنا كانت ماما بتتعب وكنت أنا اللي بعمل الأكل
رفع نظره لها ولاحت بشائر الابتسامة على شفتيه ثم قال ضاحكًا :
_ إنتي بتتكلمي جد ؟!
_ آه والله كانت بتبقى صدفة في كل مرة سبحان الله ، وفي الغالب لما كان سيف بيعزم حد ماما هي اللي بتعمل الأكل وأنا مبحبش أعمل الأكل بخاف الأكل ميعجبش الضيوف فكنت بكتفي بإني اساعدها لكن دايمًا في اليوم اللي بتاجي فيه إنت كانت بتتعب فجأة وبضطر أنا احضر الأكل وكنت ببقى خايفة جدًا يكون في حاجة مش مظبوطة وبمجرد ما كنت تمشي كنت بسأل سيف لو الأكل فيه حاجة
ضحك بخفة وهتف في تلقائية متحدثًا معها وكأنها صديق له :
_ لا مكنتش متوقع إنك شيف محترفة كدا ، تسلم إيدك ياشفق والله ، من هنا ورايح عايز من الأكل اللي كنتي بتعمليه ده كتير
شقت ابتسامتها طريقها وهي تجيبه شبه ضاحكة :
_ من عنيا !
ثم عادت تكمل طعامها وتجمعت الدموع في عيناها على ذكرها لأخيها وأمها ، الألم الذي يسكن قلبها الضعيف لا يمكنها تحمله فكم اشتاقت لمعانقتهم وكم اشتاقت لأمها وحديثها وصوتها وابتسامتها حتى توبيخها لها ، فلو هناك آلة تعود بالزمن كما في الأفلام الخيالية لما ترددت لحظة في استخدامها ، انهمرت دموعها دون أذنها فهبت واقفة واسرعت لغرفتها بعد أن لاحظت أنه انتبه لدموعها ، وبالفعل وجدته يفتح الباب ويقترب ليجلس بجانبها على الفراش هاتفًا في قلق :
_ مالك ؟!
لم تتمكن من التحكم في شلال دموعها الغزير فكلما تعصف صورتهم في ذهنها تزداد حدة بكائها ومعه يزداد قلقه وحيرته ، كانت بحاجة ماسة لشعورها بالدفء والحب الذي حرمت منه ولم تدرك ما تفعله حيث ارتمت بين ذراعيها متشبثة في رقبته بذراعها وتدفن وجهها عند مقدمة صدره اسفل وجهه بضبط هاتفة بصوت مبحوح من بين بكائها العنيف :
_ وحشوني أوي ياكرم ، نفسي اشوفهم مش قادرة استحمل حياتي من غيرهم .. خسرتهم هما الأتنين ورا بعض كنت لسا ملحقتش افوق من حزني على سيف وماما كمان اتوفت وراه في اللحظة دي حسيت إني خسرت كل حاجة وفكرت إني انتحر وكنت هعمل كدا فعلًا بس تراجعت في آخر لحظة
ضربت اشارت الإنذار في عقله واضطرب بشدة ولم يعرف كيف يتصرف أو ماذا يقول حتى من فرط ارتباكه ، انفاسها الحارة تلفح رقبته ويداها ملتفة حوله ، كل هذا يشعره بالخطر فهو رجل ورغباته الفطرية خارجة عن ارادته كأي رجل عندما تقترب منه انثى ولكنه تحكم في اضطرابه ومد يده مترددًا ثم مررها على ظهرها بسطحية شديدة متمتمًا في صوت واضح عليه التوتر محاولًا إيجاد الكلمات المناسبة :
_ عارف وحاسس بيكي لأن نفس الأحساس أنا لغاية دلوقتي بعاني منه ، بس الحياة مبتقفش على حد صدقيني وهما أكيد في مكان أفضل منينا ، وأنا معاكي ياشفق احنا عيلتك دلوقتي ، كفاية عياط وادعيلهم وإن شاء الله ربنا يجمعنا بيهم في الآخرة
خرجت من نوبة بكائها وانتبهت لوضعها فنالها ما ناله من التوتر والاضطراب ، وابتعدت عنه وهي تجفل نظرها وتجفف دموعها متمتمة في صوت خافت ومضطرب :
_ آمين ، آسفة نكدت عليك على الصبح
رسم ابتسامة عذبة وتمتم في حنو :
_ ولا يهمك .. قومي اغسلي وشك يلا عشان نكمل فطارنا
أماءت له بالموافقة ثم استقامت واسرعت باتجاه الحمام تختبيء فيه من فعلتها الحمقاء ، فهي نوت أن تتخلى عن خجلها منه ولكن ليس لهذا الحد ، أما هو فمسح على وجهه وهو يزفر بقوة ليزيح ما قد كان يكتم على انفاسه للتو وهي بين ذراعيه ، فقط شعور لا يود أن يشعر به مجددًا فلوهلة حس نفسه مكبلًا ومقيدًا لا يستطيع فعل شيء واقترابها الحميمي منه جمده بمكانه كالصنم وافقده السيطرة على مشاعره المضطربة ! …
***
خرجت ملاذ من غرفتها وقادت خطواتها نحو طاولة الطعام وبدأت تشاركه طعام الإفطار وهو ينظر لها بأعين ثاقبة وحادة بعض الشيء بعدما سمعها تتحدث في الهاتف منذ قليل وكانت تضحك بعفوية وتتكلم بطبيعية ولكنه فشل في معرفة مع من تتحدث وفقط فهم من صيغة الكلام أنها تحادث رجل ومنذ تلك اللحظة وقد غليت دماؤه في عروقه ، فانتبهت هي لنظراته المريبة لها لتتوقف عن الأكل وتحدقه باضطراب بسيط وتهز رأسه بمعنى ” ماذا حدث ؟! ” .
اتاها صوته الرجولي الصلب وهو يسأل مباشرة في جدية تامة :
_ كنتي بتكلمي مين ؟
غمغمت في بساطة دون تردد في الإجابة وهي مازالت تعقد حاجبيها باستغراب من طريقته ونظراته :
_ إسلام .. أصل ماما قالتلي إنه كان تعبان إمبارح واتصلت اطمن عليه واتكلم معاه شوية
تابعت تعابير وجهه فلم تجد منه أي تعابير تخفف من حدة نظراته وفقط انزل نظره وأكمل طعامه بصمت ، فتأخذ نفسها في التفكير للحظات حتى تغيرت ملامحها من الهدوء واللطف إلى اليأس والضيق وتركت من يدها المعلقة هاتفة تسأله بوضوح دون مقدمات :
_ هتفضل لإمتى تشك فيا كدا يازين ؟!!
رفع نظره والقى نظرة جامدة وقوية عليها دون أن يتفوه ببنت شفة فابتسمت بمرارة وأسى وهدرت بعبوس :
_ كلها كام يوم ونكمل شهر وأنا طول الشهر ده بذلت كل حاجة اقدر أعملها عشان اثبتلك إني ندمت وإني مستحيل أكرر الغلط مرتين وإني عايزاك إنت .. بس تقريبًا مش أنا اللي فشلت في إني استعيد ثقتك فيا لا إنت اللي بتختار إنك متثقش فيا في كل موقف وبتختار إنك تشك فيا .. أنا بحاول أعمل المستحيل عشان العلاقة دي تستمر ومخسركش بس واضح إن إنت اللي مش فارق معاك تخسرني أو لا ومش عايزها تستمر ، وإنت كمان اللي عايز تحط خطواط النهاية لعلاقتنا مش أنا !
ثم استقامت وهمت بالعودة إلى غرفتها ولكن صوته اوقفها وهو يقول في لهجة شبه آمرة :
_ اقعدي كملي أكل
همهمت في عبث :
_ شبعت كمل إنت بالهنا والشفا
ثم دخلت إلي غرفتها وتركته ، حتى هو الآخر فقدَ شهيته عن الطعام فجعل يستغفر ربه وهو يمسح على وجهه بكفيه .. هي مخطئة هذه المرة ربما هذه هي المرة الأولى له منذ زواجهم التي لم يشك بها ، فقط ما داهمه كانت مشاعر غيرة وغضب عارم من أنها تحادث رجل وتضحك هكذا معه ولكن حين عرف أنه أخيها هدأت نفسه الثائرة قليلًا ، ولكنها اساءت فهمه ولفظت بكلمات من بين شفتيها لا تعرف مدى صحتها ، فهو مثلها يحاول الحفاظ على هذه العلاقة بل يبذل مجهودًا أكبر منها في نسيان ما حدث والعيش معها حياة طبيعية كأي زوج وزوجة ويواجه صعوبة في التأقلم مع هذه الأوضاع ، لهذا تجده غير متوازن في انفعالاته معها .. لحظات يكون جميلًا وحنونًا ولحظات يعود لجفائه معها وهو بالفعل سيبدأ في وضع نقاط حروف عشقه لها ، حيث هب واقفًا واتجه خلفها لغرفتها ثم فتح الباب ودخل ليجدها جالسة على فراشها وقدمها تضرب في الأرض بحركات متتالية وكفها على وجنتها تقرض ظافر سبابتها بحرقة ودموعها تجد طريقها على وجنتيها ، فأصدر زفيرًا متأففًا ثم تحرك نحوها وجلس بجانبها ومد يده يزيح خصلات شعرها التي تغطي جانب وجهها ويتمتم في خفوت صادق :
_ أنا مش عايز أحط خطواط النهاية ومش عايز اخسرك ، وصدقيني بحاول اصدقك وأثق فيكي بس مش قادر وكل ما بفتكر خداعك ليا برجع للصفر تاني .. أنا كمان عايزاك ياملاذ ومش عايز اطلقك بس لو علاقتنا استمرت بالوضع ده مش هنقدر نكمل لإن لا إنتي هتستحملي ولا أنا ، وعلى فكرة أنا مشكيتش فيكي دلوقتي أنا اتعصبت لما افتكرتك بتكلمي راجل غريب وبتضحكي كدا معاه
هتفت ببكاء حاد وحرقة قلب فهمها من كلامها ودموعها :
_ لا إنت مبتحاولش يازين ، ومتقولش إنك حاولت لإنك لو كنت حاولت وحاولت تصدقني مكنش وضعنا هيبقى كدا لغاية دلوقتي
حك ذقنه النامية وصمت لبرهة من الوقت وهو يأخذ شهيقًا قوي ثم تمتم في نظرة دافئة :
_ طيب هدّي لعلاقتما فرصة إننا نثبت لبعض بأفعالنا ومش هتبقى فرصة ليكي بس لا كمان ليا عشان اثبتلك إني زيك بحاول احافظ على العلاقة دي ويمكن اكتر منك كمان
_ وهو كل اللي عملته ده لسا ميثبتش ليك يازين ؟!
قالتها باستغراب وباسمة بسخرية ليقابل سخريتها برزانته المعهودة ويتمتم في صوت ينسدل كالحرير ناعمًا :
_ لا ميثبتش لأن علاقتنا تستحق أننا نثبت بأفعالنا ثقتنا وصدقنا واخلاصنا لبعض .. نثبت بالأفعال مش بالكلام
هدأت نوبة بكائها وسألت في استفهام وحيرة :
_ بالأفعال إزاي يعني ؟!
ابتسم وأجابها بلطف وحنو :
_ دي حاجة تخصك متخصنيش .. الفترة الجاية دي فترة اختبار لينا احنا الاتنين وياننجح فيها يانرسب
” لا بأس فإذا كان اختبار فكما اجتزت جميع اختبارات الحياة سأجتاز اختبار العشق وسأتفوق عليك ” كانت تحدث نفسها بهذه الكلمات ، ثم نظرت له وبادلته نفس الابتسامة وهي تهز رأسها بالموافقة لتجده يمد انامله ويجفف دموعها برقة هامسًا في أعين تلمع بوميض مختلف :
_ يلا قومي عشان تكملي فطارك
امسكت بكفه الذي على وجنتها وانزلته لتطبع قبلة رقيقة بشفتيها على ظاهره وهي تهمس بعاطفة جياشة :
_ حاضر
***
بعد ساعات قليلة داخل مقر شركة العمايري …….
خرج حسن من مكتبه ومر من أمام مكتبها في طريقه فتوقف لبرهة من الوقت مترددًا ، ثم اقترب بعد تفكير عميق وفتح الباب والقى نظرة متفحصة في مكتبها فلم يجدها به ليعقد حاجبيه باستغراب ويدخل ويغلق الباب خلفه وهو يلقى نظرة متأملة ودقيقة على محتويات مكتبها وأذا به ينتبه إلى الاجندة المتوسطة التي بحجم الكراسة ووجعل يتطلع لها بصمت وفي غلافها الجميل الذي عبارة عن صورة سماء زرقاء وبها لمسات اعطته جمال أشد ، فابتسم فور تذكره أنها هدية منه قدمها لها في عيد ميلادها السابع عشر عندما اقامت حفل عيد ميلاد فأهدى لها هذه الأجندة ومعها قلم فاخر صناعة مستوردة .. لعلمه في ذلك الوقت حبها للكتابة والقراءة ، ولكنه لم يكن يتوقع أنها لازالت تحتفظ بهذه الهدية بعد كل هذه السنوات ، فالتقطها وفتحها ليجد بداخلها ذلك القلم الفاخر فيلتقطه ويتفحصه بالتأكيد لم يعد يكتب ولكنها تحتفظ به ، اخرجه ووضعه على سطح المكتب ثم اتجه وجلس على الأريكة وبدأ يفتح صفحات عشوائية ويقرأ ما دونت به ، كانت ملاحظات مراهقة وهي تكتب احداثها المميزة بعضها اضحكه والبعض الآخر مر عليه كأنه لم يمر ولكنه توقف عند صفحة وهو يقرأ ما دونت به بإمعان “ربما كنت مخطئة بشأن مفهوم العشق على أنه يقود للجنون ، والآن يجب على الاعتراف بأنه قادني لمستنقع مظلم حبس انفاسي وحجب رؤيتي فغرقت في ظلماتي وحيدة دون أن أحصل على أي شيء ، وفقط حصلت على الخذلان للمرة الألف وأنا أفشل في تحقيق ما اسعى إليه من العشق ، ربما كان يجب على أن أكون أكثر واقعية وأن لا اتعلق بأوهام تمكنت من أن تتطيح بي إلى اقصى البلاد ، ورغم كل هذا مازالت ابحث عن العشق في هذه القلوب الغريبة ولست متأكدة إلى متى سيتسمر بحثي ، ولكن حتمًا ستكون نهاية هذا البحث أما أن أجد ما أبحث عنه أو اتوقف أنا عن البحث ويدب اليأس في قلبي ، فأعلن عهد جديد لا يوجد به مكان للعشق في قلبي !! ” كان يقرأ وهو يعرف جيدًا بأنها تقصده في كل كلمة ويأسف بشدة لأنه ربما لن يستطيع أن يبادلها العشق سواء الآن أو مستقبلًا ، ويتأسف لها لأنه لن يتمكن من أن يكون دليلها في طريق بحثها عن طرق قلبه ، هو يمكنه أن يعطيها كل شيء معاملته الطيبة وحنانه وعطفه ولطفه والصداقة والحب النقي في داخله لها ولكن عشق بمفهومه الذي يكون بالتحام الأرواح والقلوب والنظرات .. لن يتمكن ! .
تنهد بعمق ثم اخرج هاتفه واجري اتصال بها لتجيب عليه في صوت هادىء وتسمع سؤاله :
_ إنتي فين ؟
غمغمت بخفوت جميل :
_ في الكافيه اللي جمب الشركة
لم يجيب عليها وانهى الاتصال مما اصابها بالتعجب والاغتياظ بنفس الوقت وظنت أنه تطفل منه لا أكثر وحين عرف لم يكلف نفسه ويسألها عن سبب ذهابها حتى لهناك ، ولكنها لم تركز عليه حتى لا تعكر مزاجها بدون داعٍ .. أما هو فهب واقفًا ووضع الاجندة بمكانها وغادر يقود طريقه لخارج الشركة بأكملها .
كانت هي تتفحص هاتفها وبيدها الأخرى القهوة ترتشف منها بتأني واصابتها الدهشة حين رأته يجلس أمامها على المقعد المقابل لها في الطاولة ، فرمشت عدة مرات ثم هتفت بريبة :
_ إيه اللي جابك ؟
هدر في هدوء مشجع :
_ جاي لنفس السبب اللي جيتي عشانه .. وأهو اسليكي بدل ما أنتي شكلك وحش كدا والكافية كله ياما اتنين صحاب أو ولد وبنت !
التفتت برأسها حولها وهي تلقى نظرة سريعة على جميع الطاولات لتجد أن ليس هناك طاولة يجلس عليها فردًا واحدًا سواها بالفعل ثم تعود بنظرها له وتقول بعدم تصديق لما قاله للتو :
_ حسن أنا بتكلم جد ليه جيت ؟!
التزم الصمت للحظات وهو يطالعها دون أن يجيب ثم رسم ابتسامة واسعة وقال بمشاكسة :
_ عايزة الحق ! ، أصل أنا لقيت نفسي زهقان فقولت آجي اتخانق معاكي شوية
ضحكت بعفوية ولم تتمكن من كتم ضحكتها وأجابته مستنكرة :
_ وهنتخانق قدام الناس هنا !؟
قال مصححًا ومؤيدًا لكلامها في نبرة كانت شبة جادة :
_ اممم عندك حق .. طيب قومي نروح البيت عشان نتخانق على راحتنا
هزت رأسها مغلوبة منه وهي تضحك وقررت مسايرته في مشاكسته الجديدة وتمتمت متصنعة الجدية هي الأخرى بعد أن استندت بمرفقيها على سطح الطاولة وانحت للأمام قليلًا حتى تقرب وجهها منه في حركة تلقائية تدل على اهتمامها بالموضوع :
_ وهنتخانق على إيه بقى ياترى ؟!!!
استند هو الآخر على مرفقيه مثلها وقال وهو يزال يرسم الحدية المزيفة على محياه :
_ ياسلام ده مفيش اسهل من الخناق !! .. كلمتين وقحين مني على كلمتين مستفزين منك وندبها خناقة عادي جدا الموضوع أسهل مما تتخيلي
خرجت منها ضحكة شبه مرتفعة ثم قالت مستهزئة :
_ شكلك فايق ورايق النهردا !
عاد لجلسته الطبيعية وغمغم باسمًا بعد أن عاد لطبيعته :
_إنت شايفة إيه !؟
اكتفت بابتسامتها وعادت ترتشف من قهوتها من جديد حتى سمعته يهتف في جدية حقيقية هذه المرة :
_ جهزي نفسك عشان ماما عزمانا على العشا النهردا وممكن نقضي الليلة هناك
اماءت له برأسها في وجه لا يبدو عليه أي اعتراض وعادت تكمل قهوتها ويدخل هو في فقاعة الصمت ويكتفى بمتابعتها في شرود !!! .
***
في مساء ذلك اليوم …….
كانت يسر مستعدة ومتنظرة عودته حتى ينطلقوا ويذهبوا لمنزل عمها ، وبينما هي تجلس على الأريكة تنتظره سمعت صوت طرق الباب فهبت واقفة واتجهت ناحيته لتفتح ظننًا منها أنه هو الطارق ، فقبضت على مقبض الباب وفتحت لتتفاجىء بتلك الساقطة المدعوة برحمة !! ، هل جائتها الجراءة التي مكنتها من القدوم إلى منزلها بقدمها !! .. ولكنها على عكس العادي ضحكت يسر وقالت في سخرية :
_ إيه جاية تعتذري منه بعد ما عرف حقيقتك !
دفعت رحمة الباب بيدها في عنف لتفتحه جيدًا ثم دخلت ووقفت أمامها مباشرة صائحة في غل وسخط :
_ أنا عارفة كويس إن إنتي اللي قولتليه عشان تكرهيه فيا
مازالت هادئة ولم تفقد زمام نفسها حيث قالت بابتسامة مستنكرة :
_ ده على اساس إنه كان بيحبك مثلًا قبل ما يعرف اللي عملتيه فيه !!
رفعت الأخرى سبابتها في وجهها بنظرات نارية وأعين مشتعلة وغمغمت بنبرة محذرة ، ولكن كل هذه الشراسة لم تؤثر بها خاصة عندما تكون أمام مرأة كيسر :
_ اسمعي يايسر حسن ليا من قبل ما يكون ليكي ومش هيكون غير ليا ، فالأفضل إنك تطلقي منه وتصلحي اللي عملتيه بينا لأني أساسا مش هخليكم تتهنوا مع بعض ولا يوم
اطلقت ضحكة متأججة وأجابتها في شيء من الشيطانية الممتزجة بالدهشة المزيفة :
_ إيه ده إنتي جاية تهدديني وفي بيتي كمان ، لا وواثقة من نفسك أوي ! .. عجبتني الثقة دي الحقيقة شابو بجد
قررت رحمة أن تشعل فتيل النيران وهي غير مدركة لعواقبه التي ستعود عليها ، فقد اشعلت الفتيل بجانب قنبلة إن انفجرت ستفجرها إلى أشلاء ، وهتفت في ثقة حقيقية هذه المرة ونبرة متشفية ولئيمة :
_ بالظبط زي ما أنا واثقة بظبط إنك عايشة معاه زي الأخوات ، وكمان عارفة إنكم متفقين على الطلاق وعارفة إن الجواز ده اتفاق من البداية .. يعني حسن لا بيحبك ولا نيلة ده مبيطقكيش أصلًا !!
قررت رحمة أن تشعل فتيل النيران وهي غير مدركة لعواقبه التي ستعود عليها ، فقد اشعلت الفتيل بجانب قنبلة إن انفجرت ستفجرها إلى أشلاء ، وهتفت في ثقة حقيقية هذه المرة ونبرة متشفية ولئيمة :
_ بالظبط زي ما أنا واثقة بظبط إنك عايشة معاه زي الأخوات ، وكمان عارفة إنكم متفقين على الطلاق وعارفة إن الجواز ده اتفاق من البداية .. يعني حسن لا بيحبك ولا نيلة ده مبيطقكيش أصلًا !!
نجحت في اشعال فتيل النيران والآن هي في الثواني الأخيرة قبل الانفجار ، لا يهمها الآن من أين عرفت ولكن كلماتها أثارت جنونها وهيجت عواصفها المميتة ولن تهدأ إلا حين تعطيها نصيب من هذا الجنون لتعيدها إلى رشدها وتذكرها بقيمتها ، وبدون أي مقدمات قبضت على رقبتها نخقنها بعنف ونظرات لا تحمل أي ذرة رحمة أو رفق وهي ترى الاخرى تحاول التملص من قبضة يدها على رقبتها ولكنها لا تبالي وهمست في شراسة وشر يناسبها كثيرًا :
_ بقولك إيه ياحلوة خليكي بعيدة عني وعن حسن احسنلك ، لإن إنتي مش قد الكلام ده ولا قدي .. أنا ممكن امحيكي مش غير ما يرفلي جفن ، متحاوليش تستفزيني وتخليني احطك في دماغي بجد عشان صدقيني هتندمي
بدأت الأخرى تختنق بالفعل وأصفر لون وجهها وهي لا تقوي على أخذ أنفاسها فتركتها على آخر لحظة وجذبتها من ذراعها إلى الخارج ثم القت على الأرض هاتفة بقرف :
_ مش عايزة اشوف وشك تاني ، ومتنسيش كلامي هاا
ثم أغلقت الباب بعنف في وجهها واندفعت نحو غرفتها وهي تترنح من شدة الغيظ فجلست على الفراش واخذت تهز قدمها بشكل متتالي كدليل على فرط سخطها ثم هبت واقفة من جديد وأخذت تتحرك ذهابًا وإيابًا في الغرفة وتهتف محدثة نفسها في نفس ثائرة :
_ طبعًا هيحبني ليه ماهو غبي ومعندوش نظر عشان يحب جاموسة زيك مبتفهمش ، لا غبي إيه ده مخه محتاج يتعمله إعادة تركيب بسبب إن بعد ده كله ولسا بغبائه شايفك الملاك بتاعه ، وأنا الشيطان والشريرة اللي هتطلع في نص القصة وتفرق بين العشاق .. أها بقى ما أصل أنا يسر المستفزة والحيوانة والقذرة والبيئة وهي ياعيني الملاك الطاهر النقي اللي نزل من السما ، لا وهو واثق من نفسه أوي ومغرور .. هي مين أصلًا اللي هتحبك غيري ياعديم الاحساس لتكون فاكر نفسك توم كروز ده إنت تحمد ربك إنك لقيت واحدة تحبك وياريت بيطمر فيك يا…….
توقفت عن الكلام عندما انتبهت له .. فقد عاد للتو ودخل لها على أثر صوت تحدثها المرتفع من نفسها وكان يقف يستند بكتفه على الحائط ويعقد ذراعيه أمام صدره وعندما لاحظ توترها قليلًا حين رأته فأشار لها بيده أن تكمل وهو يبتسم بزيف متمتمًا :
_ كملي كملي متخليش حاجة في نفسك لتجرالك حاجة وابقى أنا السبب !
اخفت ابتسامتها بصعوبة ثم تحركت ووقفت أمامه هاتفة في صرامة واستياء :
_ إنت كنت عند رحمة قبل ما ترجع البيت يوم لما كنت مش في وعيك صح ؟!
استرجع ذكريات ذلك اليوم محاولًا تذكر ذلك الجزء وهل ذهب إليها أم لا ولكنه لم يتذكر أي شيء حول ذهابه لها ، ليمط شفتيه للأمام بعدم حيلة هاتفًا في صدق ونبرة عادية :
_ مش فاكر .. بس معتقدش إني روحت ، ليه ؟!!
أغضبتها إجابته بـ ” مش فاكر ” فإذا لما يذهب ولم يخبرها هو ، إذا من أين عرفت ؟!!!! ، بالتأكيد هو ذهب لها وأخبرها بكل شيء بينما هو ثملًا والآن ستقع المصائب فوق رأسيهما بسبب إهماله .
وجدت نفسها تهدر في اغتياظ جلي :
_ أهاا مش فاكر !! ، بس فاكر اللي حصل بينا بالتفصيل مش كدا !
لم يأخذ حديثها على محمل الجد مطلقًا حيث قال بابتسامة لئيمة ونظرات تضمر خلفها معاني منحطة :
_ أكيد طبعًا .. هي حاجة زي كدا تتنسي برضوا ، تحبي احكيلك ؟!
رمشت بعيناها عدة مرات في ذهول على آخر كلماته وشعرت بالحمرة تصعد لوجنتيها ولكنها أبت إظهارها له وتصنعت الثبات أمامه وهي تقول بازدراء يخالطه ابتسامة مستنكرة :
_ هو مينفعش اتكلم معاك في مرة وتتكلم باحترام من غير وقاحة !
غمغم في خفوت ونظرة أشد لؤمًا من سابقها مما زادت من اضطراب نفسها الخجلة :
_ إنتي تعرفي عني إني محترم !
هزت رأسها بالنفي وهي تحت تأثير نظراته واقترابه منها لتسمع منه الرد بعد أن حصل على الرد منها بالنفي :
_ بس يبقى منتظرة مني اتكلم باحترام ازاي !!
قالت مؤيد كلامه في ابتسامة عريضة :
_ اممممم في دي عندك حق الصراحة
بادلها الابتسامة ثم عاد لطبيعته وهتف في جدية تامة :
_ طيب يلا عشان منتأخرش لإن ماما مستنيانا
التفتت وجذبت حقيبة يدها وهاتفها ولحقت به وارتدت حذائها عند الباب ثم غادرت واستقلت بالسيارة بجواره لينطلق هو محدد وجهته نحو منزل أبيه .
***
في مساء اليوم ……
وقفت أمام الباب مترددة تنظم الكلمات التي ستقولها بل هي لا تعرف ماذا تقول ، ولكنها سئمت من الجلوس بمفردها منذ الصباح وتريد الجلوس معه ، أخذت نفسًا عميقًا ثم طرقت برفق على الباب ليأتيها صوته يسمح لها بالدخول ، ففتحت الباب وادخلت نصف جسدها ونظرت له لتجده يباشر أعماله على الحاسوب النقال وأمامه اوراق خاصة بالعمل على المكتب وبيده قلم ينظر إلى الحاسوب ثم يعود للورق ويسجل أشياء ، ولكن كل هذه تفاصيل لا تهمها فقد ثبتت تركيزها على نظارته الذي يرتديها ولأول مرة تراه يرتديها ، ليس هذه المشكلة بل يكمن عمق المشكلة أنها زادت من وسامته أضعافًا ، فجذبها من هيامها به صوته الغليظ وهو يهتف دون أن يرفع نظره لها :
_ ادخلي ياشفق !
هزت رأسها بحركة منفرة لتخرج أفكارها الحمقاء من ذهنها وفرت الكلمات من عقلها وتوترت وانعقد لسانها فلم تعرف ماذا تقول ، ولكنها استدعت شجاعتها وتحلت بالجراءة المزيفة لتقول في صوتها الطبيعي الذي به بحة انوثية رقيقة وهي تبتسم ويداها تلفها خلف ظهرها :
_ أنا كنت قاعدة برا ومش جايلي نوم من الملل فحبيت اقعد معاك لو مش هعملك إزعاج يعني
رفع نظره لها وطالعها بابتسامة طاحت بها إلى أعمق نقطة وجعلت الأمر يزداد سوءًا بالنسبة لها ، وأشار لها بعيناه أن تدخل وتجلس على الأريكة المتوسطة ، فسيطرت هي على عواطفها وابدت عن سعادتها ثم اغلقت الباب وتوجهت لتجلس على الأريكة المقابلة لمكتبه وتتابعه بعيناها الذي تبتسم قبل شفتيها .. كانت تشاهد الأفلام والمسلسلات وترى الأبطال ولا تصدق بوجود هذا النوع من الرجال في الحقيقة ، والآن هي مع أحد الرجال الذي لا يختلف عن شخصيات الأبطال المذهلة في كل شيء .. وأحيانًا كثيرة تشعر أنها داخل حلم جميل وستستيقظ منه قريبًا وأن كل هذا ماهو إلا حلم رائع ! .
خرج صوتها الناعم وهي تسأله في لطف :
_ تحب اساعدك في حاجة ؟!
_ ياريت .. بس للأسف مش هتعرفي
هدرت في ثقة وابتسامة واسعة :
_ جربني الأول وبعدين احكم
تمتم في ضحك خفيف بإيجاب :
_ طيب تعالي
استقامت وجذبت مقعد لتجلس بجواره فيمسك هو بدفتر كبير نسبيًا وورقة ووضعهم أمامها هاتفًا في خفوت ساحر :
_ بصي انقلي اللي في الورقة دي في الدفتر بنفس الطريقة وافرزيهم بشكل منظم ، هاا هتعرفي ؟
أماءت له بالإيجاب ثم التقطت قلم وبدأت بإنجاز المهمة التي كلفها بها وهو بجانبها يحاول إنهاء شيء آخر ليأتيه سؤالها المتعجب :
_ هو حسن أو زين مش موجودين ولا إيه ، أصل إنت من الصبح في الأوضة وبتشتغل
أجابها بهدوء تام :
_ موجودين بس أنا اللي مسكت المشروع ده لإني أفضل من زين وحسن في الحسابات والهندسة والحجات دي ، يعني احنا بنقسم الشغل بينا وكل واحد فينا متميز في حاجة ولما بيكون في مشروع أو صفقة زي كدا بيمسكها المتمكن فينا في الموضوع ده
اكتفت بهز رأسها بتفهم ثم عادت تكمل ما بيدها وبعد مرور دقائق بسيطة رفعت نظرها عن الدفتر ونظرت له خلسة تتأمله عن قرب ، فهذه هي المرة الأولى التي سنحت لها الفرصة بالنظر له عن قرب ولن تكون الأخيرة ، تأملت تفاصيل وجهه بنظرات عاشقة .. ذقنه الخفيفة وشعره الناعم والجميل الذي يعطي لمسة كستنائية بسيطة ، بشرته التي تنضج بالشباب والساحرية ، وعيناه الرمادية التي بمثابة مغناطيس تجذبها إليها كلما أبت الخنوع لعشقه .. شفتيه حين تنفرج لتكشف عن أجمل ابتسامة رأتها من قبل وبينما هي منشغلة بتأمل تفاصليه الجذابة وذائبة بين بحور عشقه ووسامته ، نسيت نفسها هي واستندت بمرفقها على سطح المكتب واضعة كف يدها أسفل خدها وتحدق به في ابتسامة شبه خفية وقد فقدت حاسة السمع من شدة تركزيها به ولم تسمعه وهو يحدثها إلا أنها انتفضت جالسة فورًا حين انتبهت لصوته وهو ينظر لها بحيرة هاتفًا :
_ شفق أنا بكلمك !!
ابتلعت ريقها باضطراب واعتدلت في جلستها متمتمة في تلعثم وحياء :
_ أسفة سرحت شوية بس .. كنت بتقول إيه ؟
قطب حاجبيه وغمغم في نظرات دقيقة لاضطرابها العجيب :
_ ولا حاجة .. إنتي كويسة يعني ؟!
كانت تحاول تجنب النظر إليه وبداخلها تلعن نفسها الساذجة على فعلتها وتود أن تنشق الأرض وتبتلعها وتهتف في ارتباك ملحوظ :
_ آهاا كويسة مفيش حاجة
ثم ابتعدت بمقعدها قليلًا عنه وركزت كامل انتباهها على الورق وهي تقسم بأنها لن ترفع نظرها له مجددًا ، فهو يجذبها إليه كالسحر ليغرقها في الأعماق ولا تستطيع الخروج ، أما هو فتابعها وهي تبتعد وتضع مسافة شبه كبيرة بينهم وتثبت نظرها على الورق كأنها تتهرب منه فزاد استغرابه من أمرها وارتباكها المفرط ولكنه لم يعلق وفضَّل أن يتركها على راحتها !! …….
***
خرجت من المطبخ وهي تحمل على يديها صينية فوقها كاسات الشاي ثم لفت عليهم وانحنت على زوجة عمها وابنة عمها ليلتقطوا كأسهم فتهتف هدى بحنو :
_ يعني أنا عزماكم عشان تحضري إنتي يايسر
ابتسمت لها وتمتمت في احترام ورقة :
_ وفيها إيه يامرات عمي هو أنا غريبة يعني ده بيتي
ثم انتقلت ناحية حسن الجالس على الأريكة وانحنت نحوه تمد له كأس الشاي فيبتسم لها ويهتف في لطف :
_ شكرًا
بادلته الابتسامة ثم جلست بجواره لتهتف رفيف في خنق عند تذكرها لشيء :
_ الأسبوع الجاي هيبقى أسبوع الحوادث
نظر لها بريبة وهو يرتشف شايه وينقل نظره بين أمه التي عبست مثل شقيقته حتى وجد أمه تقول بصوت مختنق :
_ جدتك جاية هي وميار
ابدي الدهشة البسيطة وقال بضحك ساخرًا وجدية في الكلام :
_ جدتي وميار !!! ، لا ربنا يكون في عون زين !
تنفست يسر الصعداء وقالت في نفس منفرة من هذا الأمر الذي بات يخنق الجميع وليس زين وحده :
_ هي تيتا مش هتطلع موضوع ميار ده من دماغها بقى خلاص زين اتجوز
قالت هدى بعدم حيلة :
_ والله ما عارفة يابنتي ، أنا شايلة الهم من دلوقتي وخايفة البت ميار دي تعمل مشاكل بين زين ومراته ومش بعيد جدتكم تساعدها ، والخوف مش من ده لا القلق الأكبر من زين لأن أنا كنت بهديه بالعافية وهو كان بيعمل حساب لجدته لإنه بيحبها ومبيقدرش يزعلها ، وإنتوا عارفينه دماغه قفل يعني لو حاولت ميار تتقرب منه تاني الله أعلم ممكن يعمل إيه ! ، وبذات لو حاولت تضايق ملاذ هي وجدتكم
لاحظ حسن أن الجو بدأ يشحن بالتوتر والعصبية فقرر أضفاء لمسته الخاصة هاتفًا وهو يوجه حديثه ليسر ضاحكًا :
_ والله كان نفسي اقول سيبوا ميار للي مبترحمش يسر وهي تظبطها بس الصراحة أنا أخاف على البت وتصعب عليا دي متربية برا وحتة بسكوتة يعني بكلمة واحدة من الجبارة دي مش بعيد يغمى عليها
انطلقت منهم ضحكة مرتفعة باستثناء يسر التي طالعته باغتياظ وقد اشتعلت غيرتها فملست على كتفه هاتفة بغل :
_ ميصعبش عليك غالي ياحياتي
لاحظ نظرة الحقد والغيرة في عيناها فانفجر هو ضاحكًا لتهتف رفيف في ثقة وخبث :
_ ليه وهي ملاذ ساهلة استنوا واتفرجوا مش بقولكم هيبقا اسبوع الحوادث
قالت هدى موجهة حديثها لابنها في رفق وحنان أمومي :
_ ليه ياحسن متاخدش مراتك وتروحوا مكان تاخدلكم شهر عسل ياحبيبي ده إنتوا من ساعة ما اتجوزتوا ومخدتوش أجازة حتى من الشغل
هم بأن يجيب عليها بإجابة كانت تعرفها جيدًا يسر فقاطعته وقالت في رقة متصنعة البراءة وهي تضمر خلف قناع وجهها المكر الذي لا يستطيع رؤيته سواه هو :
_ لسا كنا بنتكلم إمبارح وقالي هياخدني وناخد اسبوعين في ايطاليا اول ما نفضى من الشغل شوية ، هو بيزن عليا من أول ما اتجوزنا وأنا اللي كنت بأجلها
أفغر عن شفتيه وفتح عيناه منذهلًا مما قالته ، وحدق بها في دهشة من الكذبة التي اخترعتها للتو أمامه وأمام أمه وشقيقته .. هو لا يصدق هذه الأفعى الجالسة بجواره ، ماذا تظن نفسها فاعلة !! ، يأمل أن لا تكون تود الذهاب في شهر عسل بالفعل وإلا لن يكون مسئولًا عن ردات فعله المعاكسة !! .
اكتفى بنظرته لها وهو يقول باستنكار يحاول إخفائه أمام أمه :
_ بزن عليكي !!!
قررت إن تكمل كذبتها باحترافية وتلعب على اوتار أعصابه حتى تستفزه وتستمتع بإغضابه فقالت في نظرات حازمة وابتسامة صفراء :
_ أيوة ياحبيبي إنت نسيت ولا إيه ؟!!
فهم من خلال نظراتها أن تنبهه لوجود أمه وشقيقته فجز على أسنانه وهتف يجاريها في كذبتها المستفزة بالنسبة له :
_ لا منستش طبعًا
رأي في عيناها نظرة متشفية وعلى شفتيها ابتسامة مستمتعة فبادلها الابتسامة وهو يود اقتلاع حنجرتها من رقبتها من شدة الغيظ .. لتبادل نظرات الحقد منه ببرود أشد استفزازًا !! .
***
دخل خلفها الغرفة بعد أن انتهت جلسة حديثهم الجماعية بالأسفل وأغلق الباب ثم اقترب ووقف خلفها هاتفًا في غطرسة وغضب دفين :
_ إمبارح وايطاليا !! ، لا وكمان بزن عليكي ده إيه الحلاوة دي
التفتت بجسدها له وطالعته بابتسامة خبيثة ومسكت لياقة قميصه تعدلها برقة هاتفة :
_ أصل إنت هتاخدني فعلًا ايطاليا
_ وأنا المفروض اوافق بقى ؟!
أماءت له بالإيجاب وهي تزيد من اتساع ابتسامتها وتقول في دلال انوثي مدروس :
_ للأسف هتوافق لإن مفيش غيرك هياخدني وأنا نفسي اروحها جدًا وهتوديني ياحسن ياروحي
ابعد يدها عنه في نفور وقال بصرامة :
_ لا مش موافق يايسر ومش هوديكي وياريت بلاش تعيشي دور المتجوزين بجد لإنك عارفة إننا هنطلق
عادت بيدها وهي تتعمد لمسه لترى مدى تأثيرها عليها وتزيد جرعة الأنوثة والغنج أكثر وهي تهمس :
_ ومين قالك إني بعيش الدور .. بالعكس خالص أنا حابة اروحها فسحة مش اكتر وطبعًا مينفعش اروح وحدي لازم تروح معايا ، وبعدين إنت مش قولت اننا هنتعامل مع بعض كإننا اصدقاء لغاية ما نطلق اعتبر نفسك بتفسح صحبتك
لم تؤثر به نظراتها ولكن لمساتها اربكته فدفع يدها وهتف في هدوء أعصاب مثير للعصبية :
_ لا ما أنا نسيت أقولك إني مبصحبش
يبدو أن الحسنة لن تجدي معه نفع وستسخدم الطريقة التي تجدي نفع معه حيث قالت في لهجة آمرة :
_ وأنا قولت هتوديني ياحسن وهنشوف كلام مين اللي هيمشي
قهقه باستهزاء ودفعها من أمامه هاتفًا :
_ هنشوف يامدام يسر
ثم اتجه وتمدد على الفراش فالقت هي نظرة متفحصة في الغرفة بحثًا عن مكان تنام فيه ولكنها لم تجد ، يبدو أن اليوم ستضطر إلى النوم بجوار هذا المنحط ، لاحظت هي نظراته المبتسمة بلؤم لها وهو يراها تنقل نظرها في الغرفة فوجدته يشير بيده على جانب الفراش الفارغ بجانبه يحثها على الانضمام له فلوت فمها بغيظ ثم التفت حول الفراش من الجهة الأخرى وتمددت عليه بدورها ورفعت سبابتها محذرة إياه :
_ متلمسنيش !
ضحك بغطرسة واضحة وازدراء على حماقتها ، هل تظنه حقًا يتلهف لها ولكي ينعم بليلة أخرى معها ، فهو لا يزال حتى الآن يندم على خطئه في تلك الليلة التي اصبحت فيها زوجته فعلًا وقولًا !! .
فقال لها بجفاء وعدم مرعاة لمشاعرها :
_ إنتي آخر واحدة أصلًا هببقى حابب إني المسها يايسر !
رمقته شزرًا ثم ولته ظهرها وسحبت الغطاء لأعلى جسدها ثم اغمضت عيناها لتخلد للنوم في ظرف دقائق بسيطة ! .
فتحت عيناها في صباح اليوم التالي وهي تشعر بثقل على جسدها واستغرق الأمر ثواني لتدرك الأمر وتفق من أثر النعاس ، حتى فهمت أنه يحتضنها من الخلف وانفاسه المنتظمة والدافئة تلفح عنقها من الخلف وذراعه ملتف حول خصرها يضمها إليه بحميمية ، فلجمت الدهشة لسانها والتفتت برأسها للخلف لتجده في ثبات عميق وفي البداية ابتسمت بسعادة وحب لشعورها بهذا الموقف الجميل وهو يحتضنها ولكن اشتعلت غيظًا بمجرد تذكر آخر جملة قالها قبل أن يخلدوا للنوم فلفت ذراعها للخلف تضرب على كتفه برفق وتبتسم في غيظ ليفتح هو عيناه وبمجرد ما أدرك وضعهم ارتد للخلف مبتعدًا عنها في فزع لتهب هي جالسة وتقول متغطرسة في ضحك ساخر تقلده بضبط :
_ إنتي آخر واحدة هبقى حابب إني المسها !!
ثم القت عليه نظرة أخيرة في استنكار ووقفت لتتجه نحو المرحاض ، فيمسح هو على وجهه متأففًا بضيق !!! ….
***
وقفت ملاذ أمام مقر الشركة .. ترفع نظرها لأعلى تحدق في هذا البناء الضخم ، وتذكرت المرة الأولى التي جاءت بها إلى هنا كانت في عتمة الليل معه بعدما عُقد قرآنهم مباشرة ، لم تسمح لها الفرصة في ذلك الوقت بتأمل ذلك البناء جيدًا ولكن ذكرياته مازالت عالقة في ذهنها ولن يتمكن الزمن من محوها بتاتًا .
أخذت نفسًا عميقًا ثم قادت خطواتها نحو الداخل وهي ترى الجميع يتحرك هنا وهناك مابين رجال ونساء وبحثت عن رفيف أو يسر بنظرها بينهم ولكنها لم تجد فاتجهت نحو الدرج وصعدت للطابق الثاني فوجدت فتاة تمر من جانبها استوقفتها وسألتها في لطف :
_ هو مكتب زين فين ؟
قالت الفتاة وهي تشير بيدها للطابق الثالث :
_ في الدور التالت في آخر الدور على إيدك الشمال هتلاقي مكتب وحده هو ده ، بس زين بيه معاه اجتماع دلوقتي ومش موجود في مكتبه
فهمت الآن لما الكل على عجالة من أمره ولما لا ترى أي من أخوته أو يسر في أنحاء الشركة ، فأماءت لها وهي تبتسم من خلف نقابها شاكرة إياها بامتنان ثم صعدت للطابق الثالث وتلتفت يمينًا ويسارًا ثم اتجهت يسارًا كما قالت عندما لمحت المكتب ، وعندما وصلت فتحت الباب ببطء وادخلت رأسها لتتأكد من وجود أحد أم لا وكان فارغ فدخلت واغلقت الباب خلفها وهي تتفحص بإمعان ، مكتب كبير من اللون الأسود وأريكة فخمة وعصرية تعطي لونًا رصاصيًا وسجادة طويلة من نفس لون الأريكة وكانت الغرفة مكونة من ثلاث حوائط فقط والحائط الرابع عبارة عن زجاج كامل يطل على الشارع مباشرة .. أعجبت بطراز الغرفة كثيرًا وظهرت علامات الانبهار على وجهها فاقتربت ناحية الزجاج ووقفت أمامه تتابع حركة السيارات والناس في الشارع ثم عادت بخطواتها نحو مكتبه ووجدت هاتفه على سطح المكتب وبجانبه إطار صغير بداخله صورة لرجل يبدو في عقده السابع أو السادس وتوقعت بأنه قد يكون والده ، تنهدت بعمق وتحركت نحو الأريكة لتجلس عليها وترفع النقاب عن وجهها لتتنفس القليل من الهواء الصافي .. ظلت بانتظاره إلى ما يقارب الربع ساعة حتى وجدت الباب يفتح ويدخل وهو بيده ملف غلافه من اللون الأحمر ويقلب بين ورقه في تركيز شديد وحين لمحها فزع واصابته الدهشة وأول شيء خرج من بين شفتيه هو :
_ ملاذ !! ، بتعملي إيه هنا ؟!
هبت واقفة واقتربت منه هامسة في ابتسامة عذبة :
_ أنا مش قولتلك واخدت الأذن منك الصبح قبل ما تطلع إني هطلع مع صحبتي هشتري كام حاجة ، فقولت اعدي عليك وسألت عليك قالولي في اجتماع فدخلت وقعدت استناك
إعاد ذاكرته لصباح اليوم قبل أن يغادر المنزل ، فتذكر أنها بالفعل طلبت منه الأذن وهو سمح لها فاتجه نحو مكتبه ووضع الملف عليه هاتفًا في حزم بسيط :
_ وليه متصلتيش بيا تقوليلي إنك جاية ؟!
احست باستيائه أنها جاءت دون علمه فقالت متوترة بنبرة تحمل الأسف :
_ أنا مكنتش ناوية آجي أصلًا بس عديت بالصدفة ودخلت .. لو كنت أعرف إنك هتضايق مكنتش جيت أو كنت اتصلت بيك الأول
تمتم في حنو وعطف راسمًا علي شفتيه ابتسامة هادئة :
_ أنا مش مضايق أنا بقول كدا عشان أكون عارف لإنك جيتي أهو ولقتيني في اجتماع ولما مبكونش موجود في المكتب ممكن أي حد يدخل ويطلع فهمتي ليه
هزت رأسها بالإيجاب ولم ترد أن يزيد هذا الحوار أكثر من ذلك حتى لا يأخذ منحني سيء ، فتوجهت نحو حقيبة يدها وفتحتها ثم اخرجت منها كيس بداخله علبة طعام كانت رائحته نفاذة وشهية واقتربت منه تخرج له واحدة هاتفة في صفاء وعفوية :
_ كان نفسي فيه واشتريت واحد ليا وجبتلك معايا
جذبه من يدها وهو يبتسم ثم قال في صوت رخيم :
_ شكرًا ، مع إني مش بحب أكل المطاعم والمحلات بس مفيش مشكلة هاكله عشانك
حدجته بأعين مليئة بمشاعر جياشة ثم وجدها تجلس على الأريكة وتبدأ في تناول الطعام الذي احضرته ليقول مستعجبًا :
_ إنتي هتاكلي هنا !!
قالت بعفوية وحماسية أصابت جزئه الأيسر :
_ اممم وإنت هتاكل معايا أنا كنت ناوية إني هاكله في البيت بس بما إني جيت هنا فناكل مع بعض
لم يجيبها ولكن اكتفى بنظرته التي تتحدث بدلًا عنه متأملًا إياها بابتسامة خفية وهو يراها تأكل بشراهة كأنها لم تأكل منذ يومين ، ثم التقت خاصته وبدأ هو الآخر يأكل ولكنه استقام واتجه ليجلس بجوارها عندما اشارت بيدها له أن يأتي بجوارها لتريه شيئًا على الهاتف ، كانت بيد تمسك الشطيرة وبالأخرى الهاتف وتقلب في الصور تريه مجموعة مختلفة من الأحذية التي رأتها اليوم في تسوقها تأخذ رأيه وأيهم أجمل ، ثم تنتقل لقسم آخر في الصور وتريه إحدى مغامراتها مع أخيها وتشرح كل صورة وموقفها فيعم في المكان جو مرح يشوبه الضحك المتبادل بينهما !! …..
***
على الجانب الآخر من العالم تحديدًا في أحد منازل المانيا الفاخرة ، تجلس امرأة سبعينية على مقعد وثير وبيدها أحدى الكتب باللغة الإلمانية تقرأ بها في تركيز شديد وترتدي نظراتها الطبية ، بدت امرأة شامخة وذات قسمات وجه صارمة تنضج بالشدة والقوة ، بها قليل من جمال الشباب نتيجة لاهتمامها المفرط بمظهرها وصحتها ، تملك جسد بصحة جيدة ومتوسط الحجم ولوهلة من يراها لا يعتقدها تخطت عقدها الثامن أبدًا .
احست بقبلة رقيقة على وجنتها من الخلف وسمعت صوت حفيدتها الجميلة تهتف برقة :
_ Guten morgen oma ( صباح الخير ياجدتي )
التفتت برأسها لها وقالت بابتسامة حانية :
_ صباح النور ياحبيبتي يلا عشان تفطري قبل ما تطلعي
قالت ميار في عجالة من أمرها وهي ترفض رفضًا قاطعًا :
_ nein , ich kann nicht ( لا ، لا استطيع )
قالت الجدة في حزم وضيق :
_ مش هينفع ياميار تخرجي من غير فطار ، افطري بسرعة مش هتتأخري على الحفلة
هرولت ناحية الباب وقد كانت ترتدي فستان بحمالات يصل إلى ركبتيها بالضبط وتترك العنان لشعرها الاسود ، فارسلت قبلة في الهواء لجدتها تجيبها بالمصرية أخيرًا وهي تضحك :
_ باي يانينا مش هتأخر متقلقيش
ثم خرجت واستقلت بسيارة صديقها الذي كان ينتظرها بالخارج بعد أن تبادلا العناق أما الجدة فكانت تفكر في ابن أخيها التي اسرعت أمه وزوجته قبل عودتها حتى لا تتعقد الأمور أكثر !! …..
***
فتحت شفق الباب ظنًا منها أن الطارق هو ” كرم ” ولكنها عقدت حاجبيها باستغراب حين رأت رفيف أمامها فافسحت لها الطريق بالعبور وهي ترحب بها بسعادة امتزجت بنظرات الحيرة :
_ ادخلي يارفيف عاملة إيه .. ليه متصلتيش بيا تقوليلي إنك جاية ؟
قبضت على رسغها وسحبتها بعدما اغلقت الباب خلفها وجلسوا على الأريكة لتقول رفيف في وجه مضطرب :
_ أنا جيتلك عشان تشوفيلي حل لإن أنا حرفيًا في مصيبة
اتسعت عيناها بهلع وظهرت علامات الرعب على محياها وفورًا اجابتها في خوف وقلق بالغ :
_ مصيبة إيه قولي متقلقنيش بالله عليكي اكتر من كدا !
_ زين عايزني اشرف على تعديلات المطعم اللي بابا الله يرحمه كان قافله من سنين وعايز يمسكني الإدارة بمجرد ما اخلص آخر ترم في الكلية !
هدأت نفسها المضطربة والوجلة وقالت في هدوء بتعجب :
_ طيب كويس هي دي مصيبة يعني ؟!
أكملت وقد ازدادت ملامحها ارتباكًا :
_ استني ما أنا جيالك في الكلام أهو .. عارفة مين بقى المهندس اللي هيكون هناك عشان التعديلات اللي هنعملها وأنا هشرف معاه !
حدجتها بأعين متسائلة تطالب باستكمال حديثها لتعرف من هو الشخص ، لتظهر رفيف عن ابتسامة عريضة وبلهاء وهي تقول :
_ إسلام اخو ملاذ
شهقت بدهشة ووضعت كفها على فمها تكتم ضحكتها ثم أجابتها بتأكيد :
_ مش ده برضوا اللي حكتيلي قبل كدا عنه وإنك كنتي معجبة بيه !
قالت وهي تجز على أسنانه من الغيظ والتوتر :
_ ومازالت للأسف أنا بحاول اتجنبه أصلًا بقيت كل ما اشوفه مع ملاذ وشوفته كذا مرة في الشركة من فترة وبقيت اعمل نفسي مش واخدة بالي ، آخر واحد توقعت إنه يدخلني في الحوار ده زين لإنه مبيبحبش الاختلاط أصلًا وحتى في الشركة بيخلي تعاملي محدود مع الموظفين وبيضيق عليا جدًا
_ طيب وإنتي مش عندكم تقريبا اخو يسر ومهندس زينا ليه مدهوش هو الموضوع ده
قالت موضحة الأمر ببساطة أكثر :
_ علاء مش فاضي وكذلك حسن وكرم وحتى هو زين مش فاضي ، محدش فاضي كلهم مشغولين الفترة دي جدا ويسر ملهاش في شغل الهندسة أوي فمفيش غيري ، وهو بنفسه قالي إنه لو كان ينفع يخلي حد منهم يمسك الموضوع مكنش ادهولي ابدًا ، لإن زين دمه حامي ومتشدد ده غير إنه بيخاف عليا جدًا زي كرم .. بس أنا فاهمة الموضوع هو واثق في إسلام لإنه الحق يتقال هو محترم جدًا جدًا وكمان واثق فيا وعارف إني هخلي حدودي في الشغل بس ، وده فعلًا اللي هعمله ، بس فكرة إني هضطر اتعامل معاه علطول بحد ذاتها قادرة إنها توترني من قبل ما اشوفه… يعني هو زين ملقيش غيره مافي ألف مهندس !!
ضحكت وقالت في صوت رخيم وعقلية رزينة :
_ ولا توتر ولا حاجة ده شغل وإنتي حطي في دماغك إنه شغل هتلاقي الموضوع سهل ، وكمان عشان متحصلش مشكلة مع زين لو حس إنك بتتخطي حدودك معاه حتى لو من غير قصد
اخذت تقرض اظافرها بوجه مرتبك بشكل زائد عن الحاجة وهي تجيبها بتوتر مبالغ :
_ قلقانة أوي ياشفق .. هو كرم مش قاعد صح ؟
هزت رأسها بالنفي لتقول رفيف ضاحكة بعدما تبدل مزاجها بسرعة هائلة :
_ ماما بقت كل يوم تاخدلها ربع ساعة عياط ، بتعيطي ليه ياماما ؟ ، اخواتك وحشوني البيت فضي من غيرهم ! .. واللي يشوفها وهي بتعيط ميشوفهاش وهي بتزن فوق راس كل واحد فيهم عشان يتجوز !!!
اطلقت ضحكة شبه مرتفعة وقالت باسمة برقة :
_ طبيعي أي أم كدا .. هتتعود بعدين على غيابهم وهيبقى الموضوع عادي
بادلتها الضحك لتهب شفق واقفة وتقول في لطف :
_ هروح اعملك حاجة تشربيها
ثم تركتها واتجهت للمطبخ فبقيت رفيف لدقيقتين بضبط تحدق في السقف وتنقل نظرها بين ارجاء المنزل وأثاثه المألوف عليها فداهمها الملل ولم تتمكن من منع نفسها حيث اندفعت خلفها نحو المطبخ لتكمل حديثها معها بالداخل ويتبادلوا احاديث مختلفة بعضها مضحكة والأخرى جدية !! ……
***
أسبوع كاملًا مرت أيامه بروتينية على الجميع دون أن تطرأ أي تغيرات أو احداث جديدة ، ولكن اليوم هو بداية الحوادث التي ستعم علي زين بالأخص فهو يوم عودة الجدة وابنة العم التي تخطت 23 من عمرها وتنضج بالجمال الصارخ وبشرة بيضاء كالثلج مع شعر أسود ناعم وطويل يلمع بساحرية ، وجسد أنوثي مثير بإمكانيات انوثية مغرية .
استقبلهم من المطار حسن الذي رحب بجدته في شوق بالغ وجعلت هي تعانقه في اشتياق والقى نظرة فاحصة على كتلة الانوثة التي مع جدته فهذه الفتاة يرونها كل شهور مرة واحدة وفي كل مرة تزداد جمالًا أكثر ، فلم يضيع الفرصة ليصافحها ويغازلها تحت شعار المزاح ، ثم استقلوا بسيارته واتخذوا طريقهم نحو المنزل وكان كرم وزوجته بانتظارهم أيضًا في المنزل للترحيب بجدته وجلسوا إلى مايقارب الساعة يتبادلون الاحاديث والضحك حتى صعدت ميار لغرفتها لتبدل ملابسها بأخرى وتأخذ حمامًا دافي لتزيح عن جسدها إرهاق السفر وفي هذه اللحظات رن الجرس معلنًا عن وصول زين أخيرًا هو وزوجته وكانت الجدة في كامل التشويق لمعرفة المرأة التي اخترتها له أمه وفضلها هو عن ابنة عمه .
فتحت هدى الباب ورحبت بابنها ترحبيها حارًا وكذلك بزوجته ثم انتقل هو لجدته وانحنى مقبلًا جبينها وظاهر كفها متمتمًا :
_ حمدلله على السلامة ياست الكل
ضمته تعانقه بشوق وتشتم رائحته في حب :
_ الله يسلمك ياحبيب جدتك .. وحشتني ياولا
_ وإنتي اكتر والله
اقتربت منها ملاذ وبدورها قالت لها في تهذيب وهي تصافحها ” حمدلله على السلامة ” ، لم تتمكن الجدة من رؤية وجهها بسبب النقاب الذي يخفيه ولكنها اكتفت بابتسامة صفراء ومزيفة تضمر خلفها الحقد والضيق ليلاحظها زين ويتضايق ولكنه لم يبدي أي ردة فعل واتجه وجلس بجانب والدته واتخذت ملاذ مقعدًا لها أيضًا بجواره وبعد دقائق قليلة وقعت نظرات يسر على الدرج الذي كانت تنزل عليه ميار ، فافغرت شفتيها بذهول مما ترتديه فقد كانت ترتدي رداء من اللون الأسود يصل إلى اسفل ركبتيها ويغطي فقط اكتافها وبفتحة صدر واسعة بالكاد تخفي مقدمة صدرها ، وكان أول واحد يلاحظ ذهول يسر هو حسن الجالس بجوارها ليلتفت برأسه ويصيبه ما صابها بالضبط ومن ثم الجميع بدأو ينظروا وآخرهم زين !!!! …….
ابعد حسن نظره وكذلك كرم وقد بدت عليهم علامات الاستياء البسيط ، أما زين فخانه نظره والقى نظرة سريعة عليها كنوع من الفضول وبمجرد ما وقع نظره عليها اشاح بوجهه فورًا ومسح على وجهه متأففًا في غضب شديد متمتمًا :
_ استغفر الله العظيم يارب
كانت يسر قد اتت قبل زين بلحظات قليلة ولم تتمكن من الترحيب بها فاقتربت هي منها ومدت يدها تقول في رقة طبيعية منها :
_ Hi !!
مدت يسر يدها وصافحتها في عنف هاتفة باغتياظ وغل :
_ هاي ورحمة الله وبركاته ياحبيبتي
حك حسن ذقنه محاولًا إخفاء ابتسامته التي كانت ستنطلق على شفتيه بعدما رأي قسمات زوجته وردها المليء بمشاعر الحقد على ابنة عمها .. أما ميار فاقتربت من ملاذ أولًا تمد يدها لتسلم عليها ولكن ملاذ رمقتها بنظرة فاحصة كلها غيرة خاصة بعدما عرفت من زوجها قبل أن يأتوا أن جدته كانت تحاول تزويجه من هذه الفتاة المتحررة ، ثم صافحتها بخنق ولم تقترب من زين ولم تحاول أن تمد يدها المصافحة لعلمها أنه لا يصافح النساء ، وكان واضح على معالمه أنه ينقصه دقيقة أخرى وينفجر بالكل بلا استثناء من فرط غيظه وهو يتحاشي النظر إليها ولا يرفع نظره بتاتًا واحترامًا لجدته فقط هتف بامتعاض دون أن ينظر لها :
_ عاملة إيه ياميار ؟
ردت عليه في خفوت هاديء وتوتر من ملامح وجهه المحتقنة بالدماء :
_ الحمدلله كويسة
كان يسود الصمت المشحون بالتوتر والضيق من الجميع على ما ترتديه أمام أولاد عمها دون احترام لأحد ولكن زين لم يكن يستطيع تحمل هذه المهذلة حيث وجه حديثه لشقيقته في نظرة صارمة ومخيفة وصوت رجولي أجش :
_ قومي يا رفيف خدي ميار واديها حاجة تلبسها من هدومك
نقلت ميار نظرها بين الجميع في شيء من الدهشة وبالأخص جدتها التي اشارت لها بأن تفعل دون جدال فنهضت ولحقت برفيف إلى اعلى حيث غرفتها ، ليصدر هو زفيرًا ملتهب ويزداد سوء غضبه عندما سمع جدته تهتف مدافعة عن حفيدتها :
_ زين ميار متربية طول عمرها في المانيا واتعودت على اللبس ده كنت قولتلي أنا وأنا كنت هقولها
هدر في اندفاع وعصبية بصوت به لمسة خشنة مريبة :
_ اللبس ده تلبسه في المانيا ملناش دعوة بيها لكن هنا تحترم وجودنا .. مش طالعة قدامنا بقميص نوم
ثم هب واقفًا واندفع لغرفته بالاعلى وبدون تفكير لحقت به ملاذ .. وهدى كانت تنظر في عدم حيلة فهذا ما كانت تخشاه أما الجدة فقد ظهرت علامات الغضب على وجهها فلأول مرة يصيح بها حفيدها هكذا ، ليهتف كرم في هدوء ولطف :
_ متزعليش من زين ياتيتا إنت عارفاه عصبي ، انتي اتكلمي مع ميار بس وفهميها بهدوء
ثم تحولت نبرته من الهدوء إلى الحدة البسيطة وهو يكمل :
_ لان هو عنده حق برضوا تلبس اللي عايزاه في المانيا .. بس هنا تحترم وجودنا
كان حسن يتابع الذي يحدث في صمت وفضل أن لا يتحدث أبدًا حتى لا يكون فظًا أكثر من أخيه الكبير ، و لتنهي هذا التوتر هدى وهي تهتف معاتبة ابنائها في ضيق :
_ خلاص ياولاد حصل خير جدتكم لسا جاية من سفر هتضايقوها من أول كام ساعة كدا .. تعالي ياماما اوضتك فوق وغيري هدومك وارتاحي شوية من السفر
استقامت واقفة ثم اتجهت إلى غرفتها بالأعلى ولحقت بها هدى وانتهت الجلسة على كرم وزوجته وحسن ويسر ، ليقول حسن ساخرًا وهو يضحك بشيء من الضجر في اندهاش من جرائتها التي مكنتها من الخروج أمامهم بهذه الملابس الفاضحة :
_ على رأى زين ده قميص نوم فعلًا !!
بادله الضحكة الساخرة بنفس الضجر .. لتهب يسر واقفة وهي تتنهد الصعداء وتشير لشفق بأن تأتي معها ويجلسوا في أي مكان آخر ويجددوا مودهم الذي عكرته تلك الالمانية الصغيرة !! ……..
***
اغلقت ملاذ باب الغرفة خلفها برفق ورفعت النقاب عن وجهها ثم اقتربت منه وملست بيدها على كتفه هامسة :
_ ممكن تهدى الموضوع مش محتاج كل العصبية دي !
صاح منفعلًا :
_ مش محتاج ازاي ياملاذ إنتي مش شايفة كانت لابسة إيه … إزاي اصلًا قدرت تطلع قدامنا بالمنظر القذر ده !!
قبضت على كفه تضغط عليه بلطف وتتمتم برزانة :
_ هي صغيرة لسا وزي ما قالتلك جدتك هي عايشة برا فمتعودة على كدا
قال ضاحكًا بسخرية على حسن نية زوجته :
_ ميار مش أول مرة تاجي عندنا يا ملاذ دايمًا بتاجي ولما بتاجي أنا بسكت وبستحمل وعمرها في مالبست اللبس ده
عقدت حاجبيها وهي تتساءل عن سبب تغير الأمر الآن وتهدر في حيرة :
_ وإيه اللي اتغير دلوقتي يعني ؟!!
قال بتوضيح أشد ونظرة مشتعلة :
_ اللي اتغير إن جدتي مش عجبها إني اتجوزتك وأكيد موصياها وهي فاكرة إنها لما تلبس كدا أنا هغير رأي وهتجوزها وهطلقك مثلًا .. من الآخر يعني كل ده مقصود وهو ده اللي مجنني ومخليني متعصب كدا عشان فاهم حركاتهم دي كويس أوي
تركت يده وظهرت علامات الغيظ والغل على محياها هل تسعى تلك الشيطانة الصغيرة للتفريق بين زوجها بعد كل ما فعلته لكي تحسن علاقتهم ، بالتأكيد لن تسمح لها بالعبث معها وستضع الحدود لردعها كما يجب ! .
مدت يدها وقالت بدلال وهي تعبث بقميصه وتنهدم من مظهره :
_ ومين قالك إني هسمحلها أصلًا إنها تفرق بينا حتى لو كانت جدتك
نظر إلى يدها التي على قميصه وتلمس صدره ونبرة صوتها المغرية ونظرتها فكاد لوهلة أن ينصاع خلف رغباته ولكنها اكملت في لؤم :
_ هي جدتك مش عايزاك تاخد اسبوع معاهم هنا .. أنا بقولك نقعد اسبوع وسبلي البت ميار دي
ابعد يدها بكامل الهدوء حتى لا تؤثر عليه أكثر من ذلك بلمساتها المذهلة وقال باسمًا بتحذير :
_ ملاذ أنا مش عايز مشاكل !
أجابته ضاحكة بمداعبة محببة لقلبه :
_ إنت تعرف عني إني بتاعت مشاكل برضو ياحبيبي .. اطمن
واستجمعت ثقتها وشجاعتها لتقترب وتطبع قبلة ناعمة على وجنته ، لتذيبه بالكامل على أثرها .. ألم تكفيها كلمة ” حبيبي ” حتى تضع هذه القبلة المسحورة على وجهه ، فأخذ هو نفسًا عميقًا ليخرج قليلًا من النيران التي اشتعلت في أعماقه على أثر قبلة واحدة ، ولم يغب عنها وضعه بالتأكيد حيث لاحظت تأثيرها عليه فابتسمت بعاطفة وتلفتت في الغرفة بحركة دائرية وهي تقول :
_ إيه ده أول مرة ادخل اوضتك
كانت غرفة هادئة والوانها تبعث الراحة والسكينة ، واسعة إلى حد ما وعلى الحائط لوحة صغيرة مكتوب عليها آية الكرسي ، ثم وقع نظرها على الفراش العريض فنقلت نظرها في ارجاء الغرفة بحثًا عن أريكة وعندما لم تجد شكرت ربها في قرارة نفسها وسعدت لأنها ستقضي اسبوعًا كاملًا وهي بجواره في نفس الفراش ، وستأخذ هذا الأسبوع وسيلة لتقوية علاقتهم أكثر ولن تسمح لجدته أو ابنة عمه بأن يشعلوا فتيل المشاكل بينهم ! .
عادت بنظرها مجددًا له وقالت في جدية وحنو :
_ روح اعتذر من جدتك مينفعش إنت عليت صوتك عليها برضوا ، متخليهاش زعلانة منك وهي لسا جاية من سفر
أماء لها بالموافقة ثم قرب كفه وملس بابهامه على وجنتها في حنان نابع من عيناه وهو يهمس شاكرًا إياها لأنها نجحت في امتصاص غضبه بأقل الكلمات :
_ شكرًا ياملاذ
طالعته بابتسامة عاشقة وأعين تلمع بوميض جميل لتصنع ابتسامتها وعيناها مزيج غرامي رائع ، واستقرت هو من عيناه نظرة دافئة أخيرة قبل أن يستدر وينصرف متجهًا إلى غرفة جدته حتى يعتذر منها عما صدر منه من فظاظة وانفعال ليس بإرادته ! ……
***
فتحت الباب ودخلت بعد أن اخبرتها رفيف بأنه في غرفته ، اغلقت الباب خلفها وسمعته وهو يتحدث مع أحدهم عن البحث عن شخص وكان مستاء بشدة ويقول بوضوح ” مهو أنا هجيبه يعني هجيبه هيروح مني فين ” فتوقفت للحظات تحاول توقع عن من يتحدث ولم يتعبها التفكير كثيرًا وبسهولة فهمت أنه يتحدث عن ذلك الوغد الذي قتل زوجته و لا يكف عن ملاحقتها ، فأخذت نفسًا عميقًا واقتربت منه بعد أن انهى الاتصال وكانت نظراتها تطلع اشارات مباشرة بعتاب وخوف فتستقبل منه الريبة والتعجب في نظراته حتى تمتم بخفوت :
_ في إيه ؟!!
قالت بأعين زائغة :
_ لسا مصمم علي اللي في دماغك وإنك مش هتسلمه للشرطة لو مسكته
أجابها في حزم ونبرة غليظة :
_ ومش هتراجع ابدًا
ازدادت نظرات عيناها حزنًا وقلقًا وغمغمت في رجاء :
_ ارجوك بلاش ياكرم .. إنت معقول عايز تقتله !! ، إنت لو حابب تخلص عليه نهائي ممكن تدخله السجن وهتقدر تخليه ياخد اعدام وهيبقى أخد جزائه بس بالقانون ومن غير ما تضيع نفسك بسبب الحيوان ده
حدجها بصمت دون أن يجيب فعلمت أنه لم يقتنع بما قالته ومازال مصر على قراره أي أنه لن يزيل فكرة القتل من عقله بتاتًا ، اصابها اليأس والشجن وقالت بأعين دامعة :
_ يعني مفيش فايدة !
هز رأسه نافيًا في اصرار واضح على ملامح وجهه الحازمة فتضيق هي عيناها بخزي وتتجه نحو الفراش وتجلس عليه بألم ، فشعور القلق يزداد بداخلها كلما تتذكر أنه لا زال يلاحقه ، التفت هو لها بجسده كاملًا وتمتم في نبرة رجولية خشنة :
_ أنا عايز اخد حق مراتي واخد حقك إنتي كمان
لم تتمكن من منع دموعها ورفعت نظرها له تقول مندفعة من بين بكائها :
_ وأنا بقولك أهو مش عايزاك تاخدلي حقي أنا عايزة القانون هو اللي ياخدلي حقي منه ، ومراتك ماتت خلاص .. يعني لما تقتله محدش هيستفيد حاجة إنت الوحيد اللي هتخسر حياتك
استغفر ربه مغلوبًا على أمره ولم يتضايق من كلامها الذي قد يكون قاسيًا على أحد لا يعرفها ، ولكنه بات يفهمها جيدًا ويفهم أنها لا تقصد فقط قالت هكذا من ضيقها واضطراب نفسها ، ولامه ضميره عندما رأى دموعها فاتجه وجلس بجوارها متمتمًا بعد أن عاد لطبيعته الساحرة والرقيقة :
_ طيب فهميني بس إيه سبب العياط أنا زعقت فيكي وأنا مش واخد بالي مثلًا !!
التفتت برأسها ناحيته وقالت بصوت مبحوح ونظرات راجية دون أن تفكر فيما تقول حيث اعترفت له بشجاعة ومباشرة :
_ سببه إنك مش عايز تفهم إني خايفة عليك ، ومش عايز تفهم إني مبقليش حد غيرك ومعنديش استعداد اخسرك إنت كمان .. قولي كدا إنت لما تقتله وتدخل السجن أنا إيه وضعي ، هيحصل فيا إيه !!
الجمته كلماتها وصنمته في مكانه فأخذ يتطلع إليها بسكون دون أن يتكلم ، بل ما قالته كان كافي لعدم إيجاده الكلمات التي سيجيب عليها بها ، فمن جهة ألم قلبه وناره على زوجته التي قتلت بابشع الصور ونفسه التي لن ترتاح إلا حين تأخذ بثأرها ومن جهة مسئوليته تجاهها ، والآن فقط فهم كم هو صعب مفهوم التضحية فعليه أن يضحي أما بثأره لزوجته أو يضحي بها ! .
حارب توتره الدئم بمجرد ما أن يقترب منها ومد كفه الكبير بصعوبة يضعه على كف يدها الناعم والصغير محاولًا تهدئتها وإبعاث الآمان إلى نفسها المضطربة والخائفة وهمس بالقرب منها باسمًا في حنو مع قليل من المداعبة ليخرجها من الكآبة المهيمنة عليها :
_ طيب ياشفق وإنتي دلوقتي شوفتيني قتلته ودخلت السجن ، أنا تقريبًا كل ما اتكلم معاكي بتعيطي لدرجة إني بقيت اخاف اكلمك لتعيطي ومبقتش فاهم في إيه !! .. أكيد عارفة إن الزعل الكتير مضر وخصوصًا لو كان على بنوتة قمر زيك كدا !
قال جملته الأخيرة بجرعة زائدة من الرقة افقدتها توازنها ولوهلة احست بأنها ستسقط بين ذراعيه فاقدة لوعيها حيث حدقت به بأعين هائمة وهي تقول في نفسها برجاء ” توقف ارجوك لا تنظر لي بعيناك الجميلة هذه وبهذه النظرات الدافئة ، فأنا لم اعد اتحمل وسامتك ورقتك ” ولكنها عادت لوعيها بسرعة واجفلت نظرها عنها في خجل واستحياء من مغازلته لها بل في الغالب كانت خجلة وفي نفس ذات اللحظة ترغب في الابتسام من دهشتها بأنه تغزل بها لأول مرة وهي تعرف جيدًا توتره الشديد منها ، فلم يكن الأمر مخجل بقدر ما كان مدهش بالنسبة لها !! .
ثم رفع كفه عنها وقال ضاحكًا عندما تذكر شيء :
_ استني هوريكي حاجة بس يارب متكونش ماما شالتها
ثم هب واقفًا واتجه نحو خزانته وفتحها وانحني للأسفل يفتش عن شيء معين بين الملابس حتى وجدها وكانت عبارة عن لعبة مهرج شكله قبيح قليلًا ثم عاد وجلس بجوارها مجددًا فاخذتها من يده تحدق به باستغراب هاتفة :
_ إيه دي ؟!
_ دي ياستي طفولتي البائسة .. كنت دايمًا وأنا صغير بعيط على أقل حاجة ومش عياط طبيعي لا ده ازعاج يعني كنت مزعج فبابا سافر برا مصر لشغل ولقي اللعبة دي بالصدفة وجبهالي مخصوص وهو جاي .. اللعبة دي بقي بمجرد ما تعيطي بصوت عالي بتقلدك بس بطريقة كوميدية ، وفي مرة بابا حبسني في اوضتي وسابها معايا وكنت كل ما اعيط من الزعل والضيق انهم حبسوني هي تقلدني وافضل اضحك .. طبعًا هي بنسبة لطفل لعبة مضحكة جدًا مع إن شكلها وحش .. ولما كنت بعيط قدامهم كانوا بيطلعوها قدامي فتقلدني واضحك فورًا ، فاللعبة دي كانت وسيلة للتخلص من الازعاج بتاعي ولغاية دلوقتي محتفظ بيها وكل ما اشوفها اضحك تلقائيًا فأنا هخليها جمبك في البيت في الاوضة عشان كل ما تعيطي كدا تضحكك
اطلقت ضحكة مرتفعة وقالت تبادله مداعبته في حب :
_ اممم انت عندك حق أنا فعلًا محتاجة اللعبة دي لأن الفترة دي بعيط بسبب ومن غير سبب
_ أهاا ما أنا ملاحظ كدا برضوا ، أهم حاجة ميكونش السبب أنا بس !
هزت رأسها بالنفي قائلة من بين ضحكاتها :
_ لا اطمن مش إنت
اظهرت شفتيه عن ابتسامة عريضة وقال في صوت به لمسة مريحة :
_ طيب الحمدلله .. يلا قومي عشان ننزل لهم تحت لاحسن تيتا تزعل لما متلاقيناش
مدت يدها وجففت دموعها بظهر كفها ثم استقامت بعد أن نهض هو واتجه نحو الباب فلحقت به حتى تخرج لهم معه ، فهي لازالت لم تتعود على اشقائه وزوجاتهم جيدًا وتتوتر منهم ، ولكن علاقتها قوية بأمه وشقيقته فقط ! …..
***
داخل غرفة الجدة …..
هتفت هي في عتاب وغضب دفين :
_ وصلت إنك تعلي صوتك عليا يازين !!
اجفل نظره أرضًا في خجل وقال بندم واعتذار صادق :
_ أنا آسف مقصدش والله ياجدتي اعلي صوتي عليكي أنا فقدت اعصابي ومقدرتش اتحكم في نفسي
هتفت في حدة وصرامة بضجر :
_ أي كان السبب مكنش ينفع تحرجها كدا قدام الكل ، رفيف بتقولي فضلت تعيط في الأوضة لما طلعت فوق
ضحك باستهزاء وهو يحاول تمالك اعصابه التي على وشك الانفجار من جديد وقال بنبرة مستنكرة مما تقوله جدته :
_ احرجها !!! ، ثم إن إنتي إزاي بتدافعي عنها !
_ أنا قولتلك إنها متعودة من صغرها بتلبس كدا وأنا مش بتدخل ومش بحب اضيق عليها البنت لا ليها أب ولا أم وملهاش غيري وغيركم إنتوا وعمك طاهر
لم يتمكن من حجب نفسه أكثر من ذلك حيث حدج جدته بنظرات مريبة وهدر بلهجة مخيفة :
_ وهي في بنت محترمة تلبس كدا !! ، ومفيش حاجة اسمها مش بحب اضيق عليها ياجدتي ، في حاجة اسمها إن دينا بيأمرنا بالحجاب والاحتشام والأدب والأخلاق لكن تطلع قدامنا بفستان بالمنظر ده يبقى لازم نحطلها حدود أنا مكنتش بتكلم لما كنتي بتاجي إنتي وهي كل مرة بس جبت اخري خلاص
لم يعجبها كلامه مطلقًا حيث قالت باعتراض وفي آخر كلامها ختمته بالشيء الذي زاد من اشتعال نيران غيظه :
_ برضوا مكنش ينفع تقولها كدا قدامكم كلكم .. وبعدين فهمني إنت إيه مش عاجبك في بنت عمك مش كنت إنت اولى بيها بدل ماروحت اتجوزت بنت لا نعرفها ولا تليق بيك أصلًا
تمالك أعصابه بصعوبة شديدة ومسح على وجهه متأففًا وهو يستغفر ربه وقال في هدوء يضمر خلفه أعصار تسونامي :
_ مراتي أنا اللي اخترتها وقررت إني أكمل معاها وطالما قررت القرار ده يبقى أنا شايف إنها تليق بيا .. بس برضوا هتكلم معاكي بالمنطق قوليلي ياجدتي بالله عليكي هي ميار تليق بيا ؟!
صمتت لبرهة وهي تحاول اسكات الصوت الذي بداخلها ويخبرها بأن تجيب عليه بـ ” لا ” وقالت باصرار على رأيها :
_ ومتلقش بيك ليه بقى ؟!
تنهد بعمق وقال في رزانة وقد هدأت ثورته الداخلية قليلًا :
_ إنتي عارفة إني عصبي ودمي حامي وعندي حدود وقوانين ومينفعش حد يتخطاها وميار متنفعش مع حدودي وقوانيني ، لان لا هي هتستحملني ولا أنا هستحمل دلعها واسلوب حياتها اللي اتعودت عليه .. من الآخر أنا عايز واحدة تقدر تفهمني وافهمها ، واحدة اقدر استأمنها على بيتي وولادي وأنا مغمض وتكون على خلق ودين وعاقلة ، لكن ميار مستحيل أنا وهي ننفع مع بعض فعشان كدا ارجوكي ياجدتي طلعي الموضوع ده من دماغك .. كفاية أنا تعبت والله
مازالت لم تتخلي عن رغبتها في تزويجه من ابنة عمها وخصوصًا بعدما رأت زوجته ولم تستلطفها أبدًا وقالت في استسلام سريع وعجيب بالنسبة له :
_ طيب ياحبيبي ربنا يسعدك مع مراتك
اقترب وقبَّل جبهتها في حنو وقال بشيء من الجدية :
_ أنا هقعد معاكي الأسبوع زي ما إنتي عايزة عشان خاطرك بس وعشان مزعلكيش بس ارجوكي خلال الأسبوع ده مش عايز أي حاجة تحصل تضايق مراتي أو توجهي ليها أي أهانة سواء إنتي أو ميار لإني مش هضمن ردة فعلي وقتها .. احترامها من احترامي ياجدتي !
رتبت على كتفه برفق مغمغمة بنبرة من الخارج تبدو عادية ولكن من في جوفها تحمل كل أشكال الغيظ والحقد والمكر :
_ حاضر اطمن متقلقش ده إنت الغالي ابن الغالي ومقدرش على زعلك ، ومراتك فوق راسي ياحبيبي
ابتسم له في دفء ثم رفع كفها لشفتيه يقبل ظاهره في مشاعر نقية وعذبة فتبادله نفس نظرة الحب النقية والصادقة وتملس على شعره بكفها الآخر في حنو ! …….
***
في تمام الساعة الثامنة مساءًا …..
خرج حسن من المنزل وقاد خطواته نحو الأريكة الكبيرة المتوسطة في نصف الحديقة وأمامها طاولة صغيرة فاخرة ، وكان في يده كأس الشاي الخاص به ! ، وجلس على الأريكة بجوارها بعدما وجدها تجلس بمفردها في الخارج وقال وهو يرتشف من كأسه :
_ قاعدة وحدك ليه ؟!
هتفت ميار في بساطة مبتسمة :
_ عادي زهقت شوية وحبيت اقعد هنا ، وإنت ليه مش قاعد معاهم جوا ؟!
أجابها بنبرة صوت عادية :
_ بحب اشرب الشاي في روقان
اماءت له برأسها في تفهم ثم هيمن الصمت بينهم لدقائق قليلة حتى نظرت له وقالت بمزاح لطيف :
_ لما نينا قالتلي في المانيا إنك اتجوزت يسر اندهشت الحقيقة
عاد يرتشف من كأسه مرة أخرى ويجيبها باسمًا في شيء من الفتور :
_ أمممم شوفتي .. هي الدنيا كدا يوم ليك ويوم عليك !!
ضحكت بخفة وانوثة ليست متكلفة منها ثم أكملت في ضحك أشد متشبعة بحرارة الحديث :
_ لا بس بجد آخر بنت كنت اتوقع إنك تتجوزها هي يسر ياحسن
قال بضحكة خفيفة في خنق :
_ هتصدقيني لو قولتلك وأنا كمان
اعتدلت في دي جلستها واصبحت مواجهة له وهي تقول بتشويق وفضول :
_ وإيه بقى إيه اللي خلاك تفكر تتجوزها
سكت للحظات قصيرة يعيد شريط الأحداث التي حدثت قبل أن يتزوجوا وماذا فعلت وكيف استغلت الصور والتسجيلات ضده لكي تصل لمبتاغها وهو الزواج منه ولا ينكر أنها نجحت بالفعل في إحراز أول اهدافها في معركتهما ! .
رفع نظره لأعلى بتلقائية فرأى زوجته في شرفة الغرفة تنظر لها بأعين نيرانية والغيرة قد وصلت لذروتها لديها ، وفقط يستطيع وصف نظراتها بأنها كانت تود أن تفتك بالجالسة بجواره ، وفي ظرف لحظة وجدها تدخل للداخل فعرف أنها قادمة إليهم ، ليقترب من ميار ويهتف ضاحكًا :
_ نصيحة مني لو خايفة على نفسك اهربي
حدجته بحيرة وقالت بتعجب متساءلة :
_ اهرب !! .. ليه ؟!
_ هتعرفي دلوقتي ليه
ولحظات بظبط وكانت يسر تتحرك في اتجاههم وهي تبتسم بتصنع ، وحده هو استطاع فهم الحقيقة التي تخفيها خلف الابتسامة المزيفة وهي أنها تشتعل بنيران الغيرة ! ، وحين وصلت لهم جذبت مقعد صغير وجلست بجوار ميار ثم وجهت حديثها له هاتفة في رقة متكلفة :
_ إيه ياحبيبي ليه مش قاعد معانا جوا ؟!
افتر عن ابتسامة عريضة ومتحمسة لما سيحدث الآن ولم يجب عليها فقط جلس بإرياحية أكثر على الأريكة مستندًا بساعده على ذراع الأريكة وهو يجهز نفسه لمشاهدة المعركة الكلامية التي ستحدث الآن !! ، وبالفعل تحدثت إلى ميار بشيء من الغيظ ولكنها تخفيه بابتسامة صفراء :
_ عاملة إيه ياميار ؟
اجابتها في عفوية وابتسامة عذبة :
_ gut
كنا لسا بنتكلم عنك وبقوله إني مكنتش متوقعة ابدًا إنكم تتجوزوا
القت نظرة مشتعلة عليه لتراه يحاول كتم ضحكاته ثم تعود بنظرها لميار وتهتف في هدوء ما قبل العاصفة :
_ مكنتيش متوقعة ليه ياحبيبتي ؟!!
_ يعني أصل الكل بيشهد دايمًا على خناقكم وعارفين إن كان حسن كان مش بيستلطفك أوي يعني العلاقة ما بينكم مش قد كدا
لم يتمكن هو من حجب ابتسامته ولكنه اخفاها بيده متصنعًا أنه يحك ذقنه ويقول في قرارة نفسه ” بتقولي إيه يابنت الهبلة هتاكلك ! ” وبالفعل رأى في عيناها علامات الغيظ والسخط ولكنها تحكمت في انفعالاته وقالت باقتضاب :
_ كااان .. لكن دلوقتي الوضع يختلف مش كدا ولا إية ياحبيبي ؟
وجهت له سؤالها في نظرات متقدة كلها غيرة وعصبية ليجيبها ضاحكًا مسايرًا إياها في كذبتها العلنية باستمتاع بغيرتها وعصبيتها التي تحاول اخفائها :
_ اممممم أكيد طبعًا يختلف ويختلف كتير أوي كمان !!
هتفت يسر محدثة ميار في لؤم :
_ ألا قوليلي ياميار هو الفستان اللي كنتي لبساه الصبح ده مش من مصر صح أصل عجبني أوي وكنت عايزة اشتري زيه
ارتبكت قليلًا بمجرد ذكر ماحدث بالصباح ولكنها قررت أن أن تكون لؤمًا أكثر منها وتسكتها تمامًا عن الكلام حيث قالت باسمة باستنكار :
_ وإنتي هتعملي بيه إيه يايسر ، اعتقد إنك مينفعش تلبيسه لإنك محجبة
بدأ الحديث يأخذ المنحني المفضل بالنسبة للشاهد الذي كان يتابع ما يحدث وهو يبتسم فوجد زوجته تضحك بخبث فاق مكر تلك الحمقاء التي ظنت نفسها قادرة على الانتصار عليها ، حيث قالت في خفوت ماكر ونبرة تقصد بها الإهانة ولكن بشكل غير مباشر :
_ لا ماهو إنتي متعرفيش إن الهدوم دي البنت بتلبسها في بيتها لجوزها بس مش في العلن عشان أمة لا اله إلا الله تتفرج ، بس واضح إن تيتا مقالتش ليكي الكلام ده لإنك لو كنتي عارفة مستحيل كنتي هتطلعي قدام ولاد عمك بالمنظر ده وللأسف الكل فاهم لبستي كدا ليه واولهم زين و……
نقلت ميار نظرها بين حسن الجالس وقد بدت علامات الدهشة على محياه حيث لم يكن يتوقع أن يكون ردها بهذا القسوة ، فقد أصابت الهدف تمامًا بكلماتها ، ولم يعجبه آخر ما قالته بالأخص في وجوده ، فلم يكن هناك داعي لآخر جملة حيث هتف مقاطعًا إياها بنظرة حازمة ونبرة قوية :
_ يــــســـــر !!!
التزمت الصمت بعدما رأت نظرته الغاضبة أما ميار فرمقتها شزرًا وباغتياظ ثم هبت واقفة واتجهت لداخل المنزل ، فتقول يسر ساخرة بقرف :
_ وكمان ليها عين ترد عليا .. ده إيه البرود ده أما بنت معندهاش دم صحيح !!
القى عليها نظرة مستاءة وزفر بنفاذ صبر وهو يشيح بوجهه عنها محاولًا تهدئة نفسه حتى لا ينفجر بها ، وفي ظرف لحظة وجدها تثب وتجلس بجواره ملتصقة به وتضربه على ذراعه بخفة هاتفة في غيرة شديدة :
_ شفتك بتضحك معاها ، بتضحك معاها ليه وكنتوا بتقولوا إيه هاااا ؟!!
بدا مفزوعًا من وثوبها المفاجيء إلى جانبه وضربها له على ذراعه فصاح بها منفعلًا :
_ وإنتي مالك كنا بنقول إيه !
فتحت عيناها على أخرهم مدهوشة من رده وقالت بعصبية وانفعال أشد منه :
_ أنا متقوليش إنتي مالك .. أنا مراتك ومن حقي اعرف كنت بتقول إيه لما تقعد مع بنت
ارغمته كلماتها وطريقة عصبيتها على الضحك ولكنه أيضًا مازال محتفظًا ببعض الغيظ حيث دفعها عنه هاتفًا بأعين مشتعلة :
_ الشاي هيتكب عليا !! .. ابعدي كدا بقى دي إنتي لزقة إيه الغلاسة دي
عادت تلتصق به من جديد قاصدة استفزازه وهي تقول بسخط حقيقي وليس مزيف :
_ مش هبعد وهتقولي كنتوا بتقولوا إيه ياحسن
رفع كأس الشاي لأعلى يوهمها بأنه سيسكبه عليها ويقول بضحكة بسيطة منذرًا إياها :
_ ابعدي هكب الشاي عليكي لو مبعدتيش والله
تراجعت للخلف وهي ترمقه شزرًا بامتعاض وعيناها تطلق شرارات حمراء فاطمئن لها وانزل الكأس ليجدها تهجم عليه وتغرز اسنانها بغل في وجنته فيرتفع صوت تأوه بتألم وتثب هي واقفة راكضة بعيدًا عنه حتى لا ينال منها وتسمعه يقول بغضب حقيقي هذه المرة واضعًا كفه على وجنته :
_ آاااه يابنت الـ ……..
هزت له كتفها يسارًا ويمينًا كوسيلة لزيادة ضجره وهي تضحك بخبث وتشفي ثم استدارت ودخلت للداخل تاركة إياه يتوعد لها !! ………
***
انتهى اليوم العائلي والجميع رحل باستنثاء زين وملاذ الذين سيقضون اسبوعًا كاملًا معهم في المنزل بناءًا على رغبة الجدة ، وقد دقت الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل وجميع من في المنزل بمضاجعهم نائمون في ثبات بعد اليوم الطويل والمرهق الذي مر على الجميع بلا استثناء ! .
كان زين في فراشه جالسًا ويستند برأسه على حافة الفراش من خلفه وبيده أحد الكتب الدينية يقرأ بها بتركيز شديد ولكن تشتت انتباهه بمجرد ما لمحها وهي تخرج من الحمام بعد أن أخذت حمام مسائي دافيء وكانت ترتدي منامة بنصف أكمام ، ضيقة بعض الشيء على جسدها أي أنها تظهر منحياتها بوضوح وتصل إلى أسفل ركبيتها ولديها فتحة صدر واسعة بعض الشيء تأتي على شكل مثلث ، فقد مر على زواجهم شهر ولم يراها ترتدي شيئًا كهذا قط من قبل والغريب من كل هذا أنها كانت تتصرف بطبيعية تمامًا ولم تنظر لها مطلقًا فقط تجفف شعرها بالمنشفة الجافة ومن ثم اتجهت إلى امام المرآة لتبدأ في تسريحه ! .
وكانت افكاره كالتالي ” ماذا تفعل ؟! ، هل تحاول اغوائي ؟!! .. أم أنها تحاول أن تسلبني عقلي حتى لا أفكر مجرد التفكير في ميار ، أي أنها تريد أن لا تجعل أي فرصة بيني وبين أي أفكار معاكسة قد تظهر فجأة في ذهني ! ” ، أخذ يحدق بها وهي تسرح شعرها وعيناه لا تنحرف عنها لثانية ، ويترك لعيناه الحرية في التأمل بهذه المرأة الفاتنة التي تقف أمامه بملابس مثيرة ، ولم يعلم كم مر من الوقت وهو على هذه الحالة حتى وجدها تقف أمامه وهي تبتسم برقة وتتمتم في إحراج بسيط :
_ لو مش حابب أنام جمبك أنا ممكن أنام على الأرض عادي
يقسم لها أنه لو كان يوجد بهذه الغرفة اريكة لكانت ستجده فورًا عليها ، فهو لا يضمن نفسه السيئة عندما تدخل معه في نفس الفراش بملابسها هذه ، وبالتأكيد لم يتركها تقضي ليلتها على الأرضية فافسح لها في الفراش عن مكان وقال بسخرية وجدية :
_ تعالي جمبي وبلاش هبل قال أنام على الأرض !!
ابتسمت ابتسامة خفية لن يتمكن من مشاهدتها ثم تمددت بجواره وسحبت الغطاء إلى جسدها وأخذت تتابعه بصمت وهو يقرأ في كتابه وبعد دقائق اعتدلت في نومتها وقالت بحماس مترددة في طلبها :
_ ينفع ندردش مع بعض شوية لو مش هتضايق ؟
ترك الكتاب من يده واسنده على الفراش بجواره ونظر لها متمتمًا بتنهيدة عميقة :
_ ندردش في إيه ياملاذ !
اقتربت منه واستندت بمفرقها على وسادة الفراش وكفها كان تحت وجنتها وهتفت في وجه بشوش :
_ في أي حاجة ، وأنا كنت حابة اسألك عن حاجة كدا
_ حاجة إيه ؟ .. اسألي !
أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تبدأ في سؤالها وهي تقول بهدوء مشجع :
_ يعني أنا كنت عارفة إنك في فترة خطوبتنا مكنتش بتكلمني لإنك كنت خايف تغلط وتقول حاجة وتاخد ذنوب عليها من غير ماتحس ، لكن سؤالي بقى هو حرام فعلًا إن البنت تكلم خطيبها ؟!
ابتسم لها بحنو وأجابها بنبرة متشبعة بحرارة الحديث في ابتسامة ناعمة :
_ لا مش حرام طبعًا ياملاذ وإلا مكنتش هكلمك نهائي .. بس مش حرام لما المكالمة تبقى لمجرد السؤال والاطمئنان فقط زي ما كنت بعمل يعني كل كام يوم كنت بكلمك اسأل عليكي واطمن عليكي واقفل ، أو مثلًا لو كانوا بيتكلموا عن حاجة تخص شقتهم وكدا لازم يتفقوا مع بعض ويتكلموا عشان يجهزوا شقتهم وبرضوا بيبقى الكلام بحدود وبضوابط محددة ، لكن إيه هو الحرام بقى .. الحرام اللي بيحصل حاليًا ده خطيبي وبتكلم معاه في التلفون بيطمن عليا .. وبيطمن عليها دي اللي هي ساعتين أو تلاتة في كلام ملوش لزمة ، وعاملة ايه ياحبيبتي ووحشتيني ومعرفش إيه الكلام ده كله حرام زي ما هو حرام إن يبقى في خلوة بينك وبين خطيبك ولازم يبقى في غض بصر وكمان أنه يلمسك أو يمسك إيدك زي ما بيحصل حاليًا ده غلط ، لإن الخطوبة دي وعد بالزواج مش زواج يعني خطيبك ده غريب عنك واجنبي زيه زي أي راجل ماشي في الشارع غريب ، هل هتسمحي لحد غريب يلمسك أكيد لا وهو كذلك مينفعش
هزت رأسها متفهمة كلامه جيدًا ثم قالت باسمة بمشاكسة :
_ وإنت عشان كدا عجلت في الجواز
_ امممم لإني مبحبش الخطوبة دي نهائي وكنت بتعمد إني مكلمكيش أو اشوفك غير لما تبقى مراتي عشان تبقى كل حاجة حلال ومفيش حاجة غلط
تمتمت في نظرات غرامية وهائمة في بحور عشقه ونبرة تعزف سيمفونية حب ساحرة :
_ بجد أنا بحمد ربنا كل يوم إنه كرمني بيك يازين .. ربنا يخليك ليا وميحرمنيش منك
افترت شفتيه عن ابتسامة عاطفية ومد يده يعبث بخصلة شعرها المتمردة هامسًا :
_ طيب نامي يلا عشان الوقت اتأخر ، تصبحي على خير
ثم تمدد على الفراش وهم بأن يوليها ظهرها ولكنها اوقفته بقبضة يدها التي على كتفه وقالت بتعجب به بعض المداعبة :
_ مش هتقولي ويخليكي ليا إنتي كمان !!
قهقه بخفة وأجابها معيدًا ماقالته للتو في دفء :
_ ويخليكي ليا ياملاذ ، حلو كدا ؟!!
انحنت وخطفت قبلة سريعة من وجنته ثم تمددت بجسدها كاملًا على الفراش وجعلت وجهتها أمامه بالضبط تحدق به وهي تبتسم بسعادة غامرة بعد أن شعرت بدنو هدفها بينما هو فكان يوليها ظهره لا يرى وجهها الذي يتلون بمائة لون في اللحظة الواحدة من فرط سعادتها ، وظلت هكذا لدقائق حتى غلبها النوم وابحرت في عالم احلامها الخاص فيلتفت هو برأسه ناحيتها ثم بجسدها كاملًا ويبتسم لها بنفس مشاعر العشق المتبادلة ، ويلتقط كفها بحرص شديد ليطبع قبلة ناعمة على ظاهره ثم يرفع شفتيه لوجهها ويطبع قبلته الثانية على جبهتها ومن ثم وجنتها وأخيرًا على أعلى كتفها برقة أشد وحين وجدها بدأت تشعر بلمسات شفتيه المتفرقة على وجهها وكتفها وستستيقظ فابتعد عنها فورًا واغمض عينه سريعًا متصنعًا النوم !!!! …….
***
ترجلت رفيف من السيارة في صباح مشرق ودافيء ، ووقفت لدقائق وتحدق بالمطعم من بعيد وتفرك يديها ببعضها في توتر ، تحاول استدعاء بعضًا من ثقتها بنفسها وشجاعتها لتظهر أمامه في أول يوم عمل بينهم بكامل الثقة والشموخ ، ولكنها تعرف حق المعرفة أنها ستذعن لتوترها وإعجابها به بمجرد رؤيته ، وفورًا عصفت صورة أخيها في ذهنها فقالت بخوف في قرارة نفسها ” ماذا لو كان زين ينتظرني معه بالداخل .. لا لا استطيع يجب عليّ أن اضع الحدود لاضطرابي ومشاعري الحمقاء هذه ” فهندمت من ملابسها جيدًا وقادت خطواتها بكامل الثقة والثبات تجاه الداخل وبمجرد دخولها استقبلتها الفتاة التي تعمل في الشركة وقد كلفها أخيها بمهمة مساعدتها حتى لا تبقى بمفردها .
حدتثها رفيف في نظرات تتجول في ارجاء المطعم بأكمله :
_ أستاذ إسلام وصل يارحاب
اماءت لها بالإيجاب وقالت باسمة :
_ أها ومستنيكي جوا عشان نبدأ في الشغل فورًا
أخذت نفسًا عميقًا ثم قادت خطواته نحو جزء داخلي في المطعم فوجدته يجلس على طاولة متوسطة وأمامه أوراق بعضها كبير والآخر صغير ومنشغل بتفقدهم والعمل لتتحرك نحوه وتقف قائلة بخفوت :
_ أستاذ إسلام
رفع نظره لها وهب واقفًا فورًا وهو يجذب عكازه ليستند عليه في الوقوف ويمد يده مصافحًا إياها في عذوبة لتمد يدها وتتصافح معه بسطحية شديد ثم تسحب المقعد المقابل له للأمام وتجلس هاتفة باعتذار بسيط :
_ اتأخرت عليك أنا آسفة بس الطريق كان واقف
هز رأسه نافيًا يوضح له بساطة الأمر ويقول ببشاشة :
_ لا متأخرتيش أنا لسا واصل قبلك بدقايق أساسًا
افترت عن ابتسامة خفيفة على شفتيها وهي تقاوم ارتباكها منه ثم نظرت إلى الأوراق وعادت بنظرها له مجددًا تهز رأسها بعدم فهم ليقول في رسمية تليق بصوته الرجولي :
_ تمام بصي الورق ده فيه كل حاجة ومحتاج قعدة كدا طويلة عشان افهمك كل حاجة فيه ونشتغل صح ، واحنا وبنشتغل فنجان قهوة كدا هيظبط كل حاجة بتشربي قهوة ؟
تلعثمت لسبب مجهول هل لرسميته أم لوسامته أم لماذا ، لا تعرف ولكنها نفرت تلك الأفكار واستغفرت ربها في نفسها ثم قالت في هدوء تام :
_ أكيد بشرب قهوة
هب واقفًا وتحامل على عكازه موليًا إياها ظهره وقبل أن يتحرك خطوة للأمام التفت برأسه ناحيتها وقال في ابتسامة اظهرت عن غمازته :
_ فطرتي ولا اطلبلك فطار
بادلته الابتسامة التي كادت أن تكون ضحكة وقالت بامتنان :
_ فطرت الحمدلله ، شكرًا
عاد يوليها ظهره مجددًا وسار مبتعدًا عنها ليقوم بتحضير القهوة لكليها كما قال وتركها تتخبط في صراعتها وهي تعنف نفسها بشدة ولوهلة فكرت بأن تقول لأخيها بأنها لا تريد أن تتولي هذه المهمة ، فمن جهة توترها منه ومن جهة ضميرها الذي يلومها بشدة لأنها تعرف أن تلك المشاعر خاطئة ولا تجوز !! ……
***
داخل منزل حسن العمايري …….
كانت يسر تمسك باختبار الحمل بيدها وتحدق به بخوف ومشاعر متضاربة ، وتخشى أن تقوم بأجرائه فترى النتيجة إيجابية ، بالتأكيد ستفرح كثيرًا بمجرد تخيل أنها تحمل قطعة منه داخلها ، ولكنها تفكر كيف ستكون ردة فعله ياترى حين يعرف ؟! .
اتخذت قرارها النهائي وهو أن تقوم بأجرائه حتى تطمئن نفسها القلقة منذ تأخر موعد دورتها الشهرية عنها لأيام .. استقامت ثم دخلت الحمام وقضت دقائق طويلة ثم فتحت الباب وخرجت وهي تحدق بنتيجته والتي كانت تظهر شرطتين ! ، فشهقت بذهول ووضعت كفها على فمها لا تصدق ما تراه عيناها وتهتف بضحكة بلهاء ” أنا حامل بجد ” !! .
خرجت من غرفتها بعد دقائق وبعد أن هيأت نفسها لأخباره بكامل القوة والثبات دون ضعف واتجهت إلى غرفته ثم فتحت الباب لتراه يستعد للنزول ويصفف شعره بحرص شديد لتهتف في نبرة عادية بعض الشيء :
_ رايح فين ؟!
التفت لها برأسه وطالعها باستهزاء متمتمًا في حدة :
_ أظن حاجة متخصكيش
هدأت نفسها تمامًا بصعوبة ثم تحركت نحوه ووقفت بجواره هاتفة في جدية ونظرة مريبة :
_ عايزة أقولك حاجة
القي نظرة عليها بطرف عيناه متعجبًا من نبرتها ونظرتها وأحس بأنه أمر جديًا بالفعل فقال بحيرة :
_ في إيه قولي ؟!!!
اصدرت زفيرًا حارًا استكاع سماعه وبكامل شجاعتها وقالت بدون مقدمات :
_ أنا حامل
يتبع…
اصدرت زفيرًا حارًا استطاع سماعه وبكامل شجاعتها قالت بدون مقدمات :
_ أنا حامل
وكأن صاعقة من السماء اصابته في أرضه فوقف مصدومًا لا يتحرك ولا يتحدث وفقط يحاول تكذيب ما سمعته أذناه للتو ، هل قالت حقًا أنها حامل !!! ، لا هذا لا يمكن حدوثه أبدًا ولن يسمح له بأن يحدث .. التفت لها كاملًا بجسده وأصبح في مقابلة وجهها مباشرة وهو يقول ضاحكًا بسخرية وعدم تصديق :
_ نعم !!!!
عادت عليه جملته ضاغطة على الكلمات وهي تخرج من فمها :
_ زي ما سمعت ، أنا حامل ياحسن !
تحول لجمرة نيران ملتهبة بإمكانها أن تحرق كل شيء حولها وهي أول من سلتحقها نيرانه ، حيث فقد السيطرة على نفسه وهيمنت عليه انغعالاته وعصبيته التي لربما أول مرة تراها وجذبها من ذراعها صارخًا بها بصوت جهوري ومخيف :
_ حامل يعني إيه هااا ، يعني إيه حامل إنتي هتستعبطي !!
ارتعش جسدها على أثر صرخته وصوته الذي أول مرة تسمعه بهذه النبرة المرعبة وكادت أن تظهر أمامه خوفها ولكنها مازالت يسر الصامدة والقوية حيث دفعت يده عنها بكامل قوتها وصاحت به مثلما يصيح بها :
_ متعليش صوتك عليا كدا ، ماكله بسببك .. إنت السبب في اللي حصل واللي أدي للنتيجة دي
لم تهدأ ثورته وهيجانه حيث أكمل صياحه بعدم استيعاب :
_ محصلتش حاجة بينا غير مرة واحدة حصل حمل إزاي أنا عايز أفــــــهـــــــم !!!
_ وربنا أراد أنه يحصل حمل ، هتقول لا لإرادة ربنا !!
رفع سبابته في وجهها محذرًا إياها بنظرات تركت آثار سلبية في نفسها وارعبتها :
_ عارفة يايسر لو دي حركة زبالة من حركاتك عشان تحاولي تجبريني إني مطلقكيش اقسم بالله لاوريكي اللي عمرك ما شوفتيه في حياتك
فقدت زمام نفسها هي الأخري وصرخت به في نبرة جلجت الغرفة :
_ هتعملي إيه يعني هااا .. قول هتعمل إيه ؟!
كان يطلق زئيرًا مكتومًا من بين شفتيه ويجز على اسنانه بقوة كادت أن تتكسر من فرط الغيظ ثم ابتعد عنها وأخذ يجوب في الغرفة ذهابًا وإيابًا وهو يضع كفه على شعره يحاول التفكير في هذه المصيبة التي سقطت فوق رأسه ، حتى توقف فجأة وقال في قسوة بالغة ونظرات لا تحمل أي رحمة :
_ الطفل ده لازم ينزل
آخر شيء كانت تتوقعه أن يطلب هذا الطلب ، هل حقًا يطلب منها إجهاض طفلهم البريء من كل شيء حدث ! ، وينتظر منها أن توافق بمنتهي السهولة ! . يبغضها للدرجة التي جننته بمجرد تخيل بأنه سيكون لديه طفل منها وستكون هي أمه ؟!! ، بالتأكيد هو ليس واعٍ لما يطلبه منها ويحتاج إلى من يردعه عن سخافاته هذه ، حيث قالت باندهاش وضجر :
_ ينزل !! ، أنت مدرك إنت بتقول إيه ؟!
_ أيوة مدرك لأن ده هو الحل الانسب للمصيبة اللي حطيتني فيها
استفزها بشدة وصاحت به مندفعة في غضب عارم :
_ والمصيبة دي زي ما قولتلك إنت السبب فيها ، ذنبه إيه الطفل ده في كل حاجة بينا ملوش ذنب عشان نقتله .. وأنا مستحيل اقتل روح بريئة واغضب ربنا ، ده ابني ولا يمكن اقتله ياحسن ، لو إنت مش عايزه فأنا عايزاه
تصر على زيادة الأمر سوءًا وتجعل من غضبه يتفاقم ويزداد اشتعالًا ولابد من أنه سيفقد زمام نفسه بالكامل إن استمرت بهذه الطريقة ! .
صاح في انفعال مرعب ونبرة أشبه بالسابقة :
_ أنا على أخرى يايسر متخلنيش أعمل حاجة اندم عليها بعدين
وقفت أمامه مباشرة وقالت باسمة بتحدي وسخرية :
_ إيه هتسقطني !!
_ لو لزم الأمر هعمل كدا فعلًا
قالها بقسوة فاقت كل شيء ، فنجح في إخراج حقيقتها الشرسة والجبارة التي لا تقهر حيث هتفت في أعين نارية ونبرة لا تحمل تهاون :
_ ولو حاولت تقربلي بس أو تأذي ابني هاخد روحك ياحسن
القى عليها نظرة صامتة ومتقززة ثم استدار وهم بالرحيل ولكن وقف عند الباب والتفت برأسه لها هاتفًا وهو يرفع سبابته في وجهها بلهجة آمرة :
_ هتنزليه يايسر برضاكي أو غصب عنك ، وإياكي تقولي لحد إنك حامل فاهمة ولا لا وبذات ماما وجدتي
ثم تركها ورحل عن المنزل أكمله وبمجرد رحليه جلست على الأرض مستندة بظهرها على الفراش وضمت قدماها إلى صدرها منخرطة في نوبة بكاء عنيفة بصوتها المرتفع وقلبها ينزف من الألم والحرقة !! ……….
***
فتح كرم عيناه واعتدل في نومته وهو يفرك عيناه ليزيح عنهم أثر النعاس الذي لا زال يسيطر عليه بعد ليلة الأمس الطويلة ، وامسك بجبهته يفركها بقوة وخنق من ألم الصداع الذي ايقظه من نومه ، ثم القى نظرة على الفراش بجواره ليجده فارغ فاعتقد أنها بالخارج ، انزل قدميه من على الفراش واستقام واقفًا وهو يتمطع بذراعيه للخلف ويتثاوب ، وكانت وجهته الأولى نحو الحمام الداخلى في غرفتهم فأخذ حمام صباحي دافيء ومنعش ثم خرج وهو يرتدي بنطال منزلي أبيض ويترك نصفه العلوي عاري وبيده المنشفة يتحرك برأسه يمينًا ويسارًا بقوة لينثر قطرات الماء عن شعره ولكنه توقف حين صك سمعه صوت رنين هاتفه فأمسك به وقرأ اسم المتصل الذي كان ” مسعد ” وأجاب عليه في جدية :
_ أيوة يامسعد ؟
_ أيوة ياكرم بيه أنا حاولت اوصل لأي حد من عيلته أو صحابه معرفتش مفيش أي أثر ليه أو ليهم
القة بالمنشفة على الفراش وهو يتأفف بوجه بدأت تظهر عليه قسمات السخط :
_ والبنت اللي قولتلك عليها ؟!
قال وهو يهز رأسه نافيًا :
_ للأسف برضوا ملقتهاش لا هي ولا أمها
كور قبضة يده بغيظ وقال يحاول تمالك أعصابه :
_ طيب يامسعد خلاص أنا هشوف
ثم انهى الاتصال معه والقى بالهاتف على الفراش وهو يهتف متوعدًا وعيناه تلمع بوميض الانتقام الحقيقي :
_ هتروح مني فين مسيرك هتقع تحت إيدي .. لو نزلت سابع أرض هجيبك
ثم أخرج تيشرت له من الخزانة وارتداه وهو يتجه نحو الباب ليغادر الغرفة ويسير بخطواته نحو المطبخ باحثًا عنها فلم يجدها ثم يخرج ويبدأ بالبحث عنها في غرفة مكتبه الخاصة التي يوجد بها صورة أخيها الضخمة ولكن أيضًا لا أثر لها ، فعقد حاجبيه بريبة وبدأ يصيح مناديًا عليها :
_ شــــفــــق !!!
لم يجد إجابه منها فاندفع نحو بقية الغرف يفتش عنها في المنزل الواسع بأكمله وهو لا يتوقف عن منادتها ولكن المنزل كان فارغ تمامًا منها ، ليتوقف ويتساءل في حيرة وقلق ” إلى أين ذهبت دون أن تخبرني ؟!!! ” هو غاضب أساسًا والآن سيزداد سخطه الضعفين فكيف لها أن تخرج بمفردها ألم يخبرها ويلقي عليها تنبيهاته الجادة بعدم الخروج بدونه ، فهو لا يضمن ذلك الوغد ويخشى أن يستغل الفرصة حين تكون بمفردها فيحاول أذيتها ولكنها لا تفهم هذا وتصر على تعريض حياتها للخطر .
توجه وجلس على الأريكة الكبيرة وقدماه تهتز من فرط الأستياء ينتظر عودتها وأخذ قرار بأنه سيحاسبها عند عودتها على إهمالها ولن يشفق عليها كعادته ولن يكون لطيفًا وجميلًا كما اعتادت منه !! .
وبالفعل مر مايقارب الخمس دقائق بضبط وعيناه معلقة على ساعة الحائط لا تنزل عنها وعند الدقيقة الخامسة فتحت الباب ودخلت وهي تحمل بيدها أكياس طعام فحدجها بنظرة جديدة تمامًا منه اربكتها وجعلتها تغلق الباب بهدوء وهي تحاول إخفاء توترها من نظرته الغريبة حتى سمعت صوته وهو يسألها بخشونة :
_ روحتي فين ؟
رمقته بنظرة زائغة ومرتبكة بعد سمعت نبرته الجديدة تمامًا على مسامعها وتمتمت في تلعثم :
_ نـ..نزلت اشتري كام حاجة من السوبر ماركت اللي جمبنا
عاد يسألها ولكن بصرامة أشد :
_ وأنا منبه إيه عليكي ؟!
التزمت الصمت وهي تجفل نظرها أرضًا في خجل وضيق عندما تذكرت تنبيهاته لها لتسمعه يقول في نبرة لا تحمل أي رفق أو حنو :
_ ردي !!
غمغمت وهي لا ترفع نظرها له وبوجه واضح معالم الندم :
_ منبه إني مطلعش من البيت
_ والسبب ؟!
هنا رفعت نظرها له وحدجته بصمت للحظات فتجده يهز رأسه وبنظرة قوية يخبرها من خلالها أن تجيب على سؤاله فتقول بتوتر وأعين على وشك أن تجتمع بها الدموع :
_ عشان ميستغلش الفرصة ويحاول يأذيني
ليتزين وجهه بابتسامة مخيفة ويكمل بنفس حدته في الكلام :
_ طيب ما إنتي عارفة أهو كل حاجة ، يتطلعي وحدك ليه بقى ؟!
شعرت بغصة مريرة في حلقها وأنها على وشك البكاء فشدت على محابس دموعها وقالت بصوت ضعيف :
_ أنا آسفة !
ارتفعت نبرة صوته قليلًا وهو يقول بانفعال :
_ اعتذارك مش مقبول ياشفق .. لإن اللي حصل ده إهمال منك ، لما امسكه واخلص عليه سعتها مش همنعك وتقدري تطلعي زي ما إنتي عايزة لكن أنا بحاول احميكي واحافظ عليكي عشان دي مسئوليتي تجاهك وإنتي مهملة ، اللي حصل النهردا ده ميتكررش تاني مفهوووم
كان توبيخه لها قاسي بشدة وبالأخص لأنها لم تعتاد منه على التوبيخ والحدة في الكلام ، وفقط اعتادت علي لطافته ومعاملته الطيبة ورقته في الحديث ، فتركت كلماته ونظراته ونبرته أثرًا سلبيًا في نفسها الرقيقة ونجحت دموعها في اختراق الحصون حيث هطلت على وجنتيها وهي تهز رأسها له بالموافقة والخضوع ثم اندفعت نحو غرفتها تنعزل فيها قليلًا عن أي شيء !! .
***
نزلت ملاذ من الدرج وهي تلقي عليهم تحية الصباح ثم انضمت لهم على المائدة ، وكانت ترتدي بيجامة منزلية لطيفة وهادئة ، فكانت نظرات الأربع نساء معلقة عليها وكانت نظرات الجدة وميار مليئة بالحقد والغل على عكس هدى ورفيف التي كانت عادية تزينها ابتسامتهم الصافية ! .
ثم هتفت هدى متعجبة عندما انتظرت للحظات أن يأتي ابنها خلفها وينضم لهم أيضًا ولكن لم يأتي :
_ زين لسا نايم ولا إيه ياملاذ ؟!
هزت رأسها بالتفي واجابت عليها في أدب وابتسامة عذبة :
_ لا زين طلع من الساعة 7 عشان معاه شغل مهم واجتماع وقالي إنه هيخلص وياجي يعني ممكن كمان شوية وياجي
_ طلع من غير مايفطر ؟
زمت شفتيها للأمام تؤكد على سؤالها بالإيجاب لتسمع صوت الجدة وهي تهتف بحزم ونظرة متقدة :
_ مينفعش تخلي جوزك يطلع من غير فطار
هي تحاول تمالك نفسها أساسًا وهذه المرأة هي وحفيدتها الافعى يحاولون استفزازها ولكنها ستكون أكثر أدبًا ولطفًا فقط احترامًا لزوجها وقالت في وجه نجحت في رسم الابتسامة عليه بصعوبة :
_ والله حاولت معاه بس هو كان مستعجل وحضرتك عارفة إنه عنيد أكيد ، وقالي هيفطر في الشركة واتصلت بيه قبل ما انزل ليكم عشان اتأكد قالي فطرت
قالت ميار بنبرة ماكرة قاصدة اوقاعها في الكلام :
_ على حد علمي إن زين مبيطلعش من غير فطار أبدًا ومش بياكل من restaurants ( مطاعم بالألمانية )
” إنتِ اصمتي ولا تتحدثي أبدًا فكم أود أن اقبض على رقبتك واخنقك لاحبس انفاسك للأبد ” قالتها ملاذ في قرارة نفسها وهي تحدقها بأعين كلها شرارات الغضب ثم قالت باقتضاب :
_ اهاا عندك حق ، بس أصل في حاجة كدا مضايقاه وسدت نفسه عن الأكل ، تحبي تعرفي إيه هي ؟!
وضعت رفيف الجالسة بجوارها كفها على قدمها من اسفل المائدة لتهدئها وهي تنظر لها بابتسامة مزيفة ففهمت ما ترسله إليها من خلالها لتصمت وهي تصر على أسنانها بغيظ أما الجدة فقد ابتسمت بلؤم وتبادلت النظرات هي وحفيدتها ، وعندما لاحظت نظراتهم شعرت بأنها ستفقد زمام نفسها فهبت واقفة وهي تعتذر منهم وعادت لغرفتها لتتأفف هدى بخنق وتنظر للجدة في جدية وضيق ، فتبادلها هي نظرات غير مكترثة ، وكذلك رفيف التي لم تتحمل الأجواء الموترة للأعصاب واستقامت وهي تقول :
_ أنا رايحة الشغل ياماما عايزة حاجة
_ لا ياحبيبتي عايزة سلامتك خلي بالك من نفسك
اماءت لها بالموافقة ثم اتجهت نحو الباب وفتحته فتندهش بأخيها وهو يحدقها بحنو ثم دخل وبدأ في نزع حذائه عنه وهو يقول :
_ السلام عليكم
ردوا عليه جميعهم تحية السلام فيما عدا ميار ثم اقترب من أمه وقبل رأسها واتجه لجدته يمسك بكف يدها ويطبع عليه قبلة ، فترتب على كتفه في حب ليسمع صوت والدته تقول :
_ اقعد افطر ياحبيبي
_ فطرت الحمدلله ياماما .. امال فين ملاذ مش بتفطر معاكم ليه ؟
اجابته هدى في اختناق :
_ طلعت دلوقتي على الأوضة
حدق بها بأعين تحاول قراءة ما يحدث بسبب نبرتها ونظرتها ولكنه فشل فسأل في ريبة :
_ ليه !
القت أمه نظرة ممتعضة على الجدة بها شيء من عدم الحيلة لينقل نظره هو لجدته وسرعان ما توقع الذي حدث لتتبدل حالته من الهدوء والبشاشة إلى الضجر وكانت نظرته لجدته كفيلة لتوضح كل شيء يود أن أن يقولها لها ثم تركهم واتجه نحو غرفته ، وكانت ميار تتحرق غيظًا فهو لم يلقي عليها نظرة واحدة فقط وكأنها نكرة !! .
***
فتح الباب ثم دخل واغلقه خلفه بهدوء ليلقى نظرة عليها فيجدها تجلس على حافة الفراش وساقيها تهتز بعنف من فرط غيظها وتفرك اصابعها ببعضهم ، فزدادت ريبته وظن بأن الأمر جديًا بالفعل بما إنها غاضبة لهذه الدرجة ، اقترب منها ليجلس بجوارها هامسًا في خفوت :
_ حصل إيه تحت ؟!
نظرت له وقالت في اقتضاب وأعين تشتعل بنيران حمراء :
_ محصلش حاجة بس لو كنت قعدت ثانية واحدة كمان كان هيحصل وكنت هتاجي تلاقيني جايبة بنت عمك الحرباية دي من شعرها
لم يبدي أي ردة فعل وبدا هادئًا تمامًا وهو يعاود سؤالها :
_ حصل إيه للعصبية دي كلها ؟!
لم تجيبه على سؤاله ولكنها عادت تعيد ما قالته تلك الأفعى الشقراء ، تقلدها بحركات يد مضحكة :
_ اللي أعرفه إن زين مش بيطلع من غير ما يفطر ومش بياكل من restaurants .. بنت مستفزة صحيح !!
ثم عادت تثبت نظرها عليه وهي تهتف في أعين نارية وملتهبة بنيران الغيرة :
_ هي تعرف منين إنك مش بتطلع من غير فطار ومش بتاكل من مطاعم !!
انحرفت شفتيه لليسار قليلًا لتظهر عن ابتسامة خفيفة ، حين رأى نيران الغيرة بعيناها وهي تأكلها أكل وقال بصدق وهو يضحك :
_ هي قالتلك كدا !!! ، معرفش عرفت إزاي ممكن تكون جدتي قالت ليها !
_ بس وحياتك لاوريها البنت الرخمة دي
هتف ببساطة وابتسامته لم تفارق شفتيه :
_ أنا مش قولتلك نرجع بيتنا أفضل بس إنتي اللي صممتي إننا ناخد الأسبوع هنا
هدرت في إصرار شديد وعدم تنحي عن قرارها :
_ أيوة ومازالت عند قراري ويا أنا يا هي عشان تحرم بعد كدا ما تفكر مجرد التفكير فيك
عقد حاجبيه وتمتم في عدم تصديق بوجه سمح :
_ إنتي غيرانة للدرجة دي بجد ياملاذ !!
توترت وتلعثمت بعدما سمعت ما قاله ولم تعرف بماذا تجيبه ، فهيمن عليها الصمت القاتل للحظات وهي تحدق به فقط وتصرخ بعقلها قائلة ” هيا اسعفني بسرعة ماذا اجيب عليه ! ” وبعد ثلاث ثواني اشاحت بنظرها عنه وهي تهتف في استحياء وصوت مضطرب :
_ لا مش غيرة بس هو الكائن ده كل ما بيتكلم بيعصبني
أطلق ضحكة مرتفعة على كلماتها لتسترسل هي حديثها بغطرسة :
_ وبعدين أغير إيه ! ، أنا أغير من دي !! .. ميار دي آخر بنت ممكن أغير منها وهي معصعصة كدا وشبه خلة السنان ، ثم إني اعقل وانضج بكتير من كدا ، شغل الغيرة ده للبنات التافهة ، لإن الغيرة دي اعتراف مباشر من المرأة إن في واحدة تاني اجمل منها وأنا الحمدلله واثقة في نفسي
كلامها متناقض إلى الحد الذي جعله ينفجر ضاحكًا ، فهي تقول بشكل مباشر أنها لا تغار وهي تشتعل من نيران الغيرة وكلماتها التي كلها ذم في ابنة عمه تثبت هذا ، ليجيبها من بين ضحكاته :
_ امممم مهو واضح فعلًا إنك مش غيرانة منها
لم تثبت نظرها عليها واعطته نصف استدارة وهي تجلس على الفراش لتوضح له احتجاجها على سخريته منها ، فتشعر بجسده يلتصق بها ويحاوط كتفيها بيديه ثم يبعد خصلات شعرها عن عنقها وظهرها وينحني برأسه ناحية أذنها هامسًا في نبرة وقع أثرها على جسدها كرياح باردة في ليلة شتاء مثلجة :
_ في بنات كتير احلى منك أكيد ، بس في نظري أنا مفيش بنت في جمالك ولا احلى منك
ثم ابعد شفتيه عن أذنها ونزل بها إلى رقبتها اسفل أذنها بالضبط طابعًا قبلة عميقة وبعد لحظات طويلة رفع شفتيه وانتظر أن يرى ردة فعلها ولكنها كانت كالصنم لا تصدر أي صوت أو حركة فقط تفغر شفتيها وعيناها بصدمة ، ليبتعد عنها تمامًا وهو يبتسم ثم يتجه إلى الحمام وبمجرد رحليه التفتت هي ناحية الحمام ووضعت يدها على رقبتها مكان قبلته وهي لا زالت في حالة ذهول لا تستوعب ما حدث !! .
***
حل المساء واسدل الليل ستائره المظلمة ليرتفع ضوء القمر المكتمل في السماء والنجوم الساهرة تعطي منظرًا جميلًا ومريحًا للأعصاب .
فتحت هي عيناها واعتدلت في جلستها بعدما أدركت أنها غفيت على مقعدها الهزاز في الشرفة دون أن تشعر وفركت عيناها بخمول ثم هبت واقفة ودخلت للغرفة واغلقت باب الشرفة لتسدير وتعود لفراشها .. مددت نصف جسدها السفلي وجذبت الغطاء عليه ثم رفعت نظرها إلى ساعة الحائط فوجدتها تخطت الثانية عشر بعد منتصف الليل ، لتتنهد بأسى وتسأل نفسها بحزن هل هو غاضب مني لهذه الدرجة فهو لم يتأخر خلال الأيام السابقة لهذا الوقت أبدًا !! .
وظلت لدقائق مثبتة نظرها على الساعة وهي تحاول تهدئة نفسها بأنه سيأتي الآن وسرعان ما علت ابتسامتها لشفتيها العابسة حين سمعت صوت باب المنزل ينغلق ، ولكن أخفت ابتسامتها وبقيت كما هي على وضعها ترسم العبوس من جديد على محياها لتوهمه بأنها أيضًا غاضبة من طريقته الجافة معها في الصباح ، وانتظرته للحظات لكي يدخل وحين فتح الباب فتحة بسيطة والقى نظرها عليها هخانتها نظراتها ونظرت له ولكنها اشاحتها فورًا عنه ليفتح هو الباب كاملًا ويدخل ثم يغلقه خلفه ويقترب ناحيتها وهو يلف كلتا ذراعيه خلف ظهره يخفي شيء مجهول كانت ستحترق من فرط فضولها لمعرفته ! ، وحين رأته يجلس بجوارها على الفراش وهو يطالعها بتعويذة شفتيه الباسمة فرفعت رأسها بسيطًا للأعلى رافضة النظر له متصنعة الثبات أمام نظراته وابتسامته وتحدث نفسها بتحدي ” لا مش هضعف قدامه .. مش هضعف !! ” وسرعان ما تراجعت حين سمعته يهمس في نبرة نجحت في اوقاعها بشباكه مثل كل مرة :
_ أنا آسف !
خنثت وعدها مع نفسها دون تفكير حيث نظرت لها وهي تظهر جزء بسيط من ابتسامتها التي اتسعت بشدة واظهرت عن اسنان ناصعة البياض عندما وجدته يسترسل في اعتذاره الجميل مثله :
_ عارف إنك زعلانة مني ! ، أنا آسف مكنش قصدي اتعصب عليكي أو اتكلم معاكي بطريقة قاسية سامحيني ، أنا حبيت آجي اعتذرلك ومتأكد إن قلبك طيب ومش هتكسفيني وطبعًا مينفعش آجي اعتذرلك وأنا إيدي فاضية
ثم أخرج يديه الذي خلف ظهرها وهو يمسك بهما عبلة من أفضل أنواع الشوكولاته واغلاها ، لتحدق بالعلبة المتوسطة والممتلئة بأنواع مختلفة من الشوكولاته في ذهول وصاحت في عفوية وسعادة :
_ الله !!
ضحك بخفة وقال في نبرة دافئة :
_ من خلال معرفتي المحدودة مع رفيف اللي أعرفه إن البنات كلها بتحب الشوكولاته فقولت اصالحك بدي واتضح إنك من عشاقها غالبًا
جذبت العلبة من يده وفتحتها وهي تحدق بالأنواع المختلفة ثم نظرت له وقالت بفرحة شبيهة بفرحة طفلة :
_ كله ده ليا وحدي بجد .. أنا بعشق الشوكولاته بطريقة متتخيلهاش
وبدون تفكير غارت عليه وهي تعانقه وتلف ذراعيها حول رقبته هاتفة بامتنان ونبرة عاشقة :
_ ميرسي جدًا ، ربنا يخليك ليا ياكرم
دهش في باديء الأمر من حركتها المفاجأة وتعلثم كعادته ولكنه مد يده وملس على ظهرها في حنو ورقة وهو يبتسم ثم ابتعدت هي عنه وفتحت العلبة من جديد والتقطت أحد الأنواع المفضلة لديها وبدأت تأكلها برقة وبمجرد ما أدخلت قطعة صغيرة في فمها أصدرت أنينًا متلذذًا وهي تبتسم ومغمضة عيناها ، ليجدها تصدر حركات طفولية بجسدها وهي تضحك قائلة :
_ الله حلوة أوي ، نفسيتي كانت محتاجة ده بجد !
قهقه بقوة على حركاتها العفوية لتطالعه هي بابتسامة بها شيء من الحياء البسيط ثم مدت يدها بقطعة شوكولاته إلى فمه لينفر هو قائلًا بنفور :
_ تؤتؤ مش بحب الحجات دي مليش فيها
رمقته بنظرة حادة وقالت بحدة مزيفة ونبرة آمرة وهي تخفي ابتسامتها بصعوبة :
_ افتح بقك
فتحه مغلوبًا على أمره لتضعها في فمه فيغلق هو فمه ويأكلها وعلامات النفور والتقزز بادية على ملامحه ، فتضحك هي على منظره وتقول ساخرة :
_ طيب والله طعمها جميل جدًا ، ده أنا أخدت pour رهيبة بسببها
ليجيبها وهو لا يطيق ذلك الشيء الذي وضعته في فمه :
_ أمممم جميلة فعلًا !!
ثم التفت خلفه وجذب كوب الماء الممتلئ على المنضدة الصغيرة وشربه دفعة واحدة ليزيل ذلك الطعم الذي يشعره بالرغبة في التقيأ ، ويعود يكمل ببساطة :
_ أنا عدو الحلويات وأي حاجة مسكرة وعندي حساسية منهم
شهقت بفزع وقالت في خوف حقيقي :
_ يعني اللي اكلتها دي هتتعبك !
هز رأسه نافيًا وهو يبتسم بلطافة متمتمًا :
_ لا مش هتعملي حاجة متقلقيش
لتأخذ نفسًا عميقًا بارتياح وتجده يهتف بمرح يسرق القلب :
_ هااا نقول صافي يالبن خلاص ؟
أصدرت ضحكة انوثية رقيقة وهي تفتح شفتيها باتساع وتجيبه مبادلة إياه نبرته المرحة بنبرة قاصدة من خلالها التغزل به :
_ حليب ياقشطة
أكمل مداعبته لها بعدما فهم نبرتها الخبيثة ونظرتها وقال ضاحكًا :
_ أنا بتعاكس ولا بيتهألي !!
انطلقت منها ضحكة متأججة وقالت هي ترفع سبابتها متصنعة البراءة :
_ لا متفهمنيش صح !
نجحت في اطلاق ضحكته المرتفعة والجميلة وغمغم مشاكسًا :
_ هحاول افهمك غلط !
ثم هب واقفًا واتجه إلى الخزانة وأخرج ملابس المنزل خاصته واتجه إلى الحمام ليبدل ملابسه وهو يلقي عليها نظرة باسمة وبمجرد ما ان دخل واختفي عن انظارها أصدرت تنهيدة حارة وهي تبتسم بهيام ، فقلبها يتعمق كل يوم أكثر في عشق فريدها ووسيمها !!! …………
***
فتح حسن باب المنزل ودخل ثم اغلق الباب خلفه وبدأ في نزع حذائه عنه وإذا به يسمع صوتها وهي تتحدث في الهاتف فاسرع في نزع حذائه واندفع نحوها بعدما توقع مع من تتحدث وبالفعل بمجرد ما أن وقف أمامها مدت يدها له بالهاتف وهي تبتسم بلؤم :
_ خد كلم مامتك
اشتعلت نظراته وحدجها شزرًا ثم جذب الهاتف من يدها بعنف ووضعه على أذنه يجيب على أمه بمضض :
_ أيوة ياماما
اتاه صوت أمه الضاحك وكانت في قمة سعادتها :
_ الف مبروووك يابني أخيرًا ياحسن هشيلك ولاد ياحبيبي .. الفرحة مش سيعاني والله
القى نظرة مرعبة على يسر وهمس لها في وعيد حقيقي :
_ وحياة أمي لأربيكي
ثم عاد يجيب على أمه باقتضاب :
_ الله يبارك فيكي ياماما
_ خلي بالك من مراتك ومتخليهاش تتعب في البيت ولو زعلتها ياحسن حسابك معايا أنا ، الزعل وحش على الجنين وأنا عايزة حفيدي ياجي صحته زي الفل
_ حاضر
قالها بامتعاض حتى ينتهي من هذا الحديث المستفز ويتفرغ لتلك الأفعى ويلقنها الدرس الذي تستحقه ، ولكن بمجرد ما أن انتهت والدته أخذت منها الهاتف الجدة وهي تلقي التهئنات عليه وسعادتها لا تختلف عن هدى كثيرًا وهو يكاد يشعر بأنه سينفجر من الغيظ وحين انتهى من حديثه معهم القى بالهاتف على الأريكة وصرخ بها بوجه عبارة عن بركان خامد مازال لم ينفجر حتى الآن :
_ أنا قولتلك إيه الصبح !
تجاهلت كلامه وعصبيته وقالت ببرود :
_ وأنا قولتلك إني مش هنزله
ثم أكملت بخبث :
_ تخيل مرات عمي تعرف بإنك عايز تطلقني وإنك مش عايز الطفل وعايزني انزله ممكن يحصلها إيه وهي تعبانة وعندها القلب
قبض على ذراعها بعنف وصاح في صوت جهوري :
_ هتنزليه يايسر .. وزي ما بتمثلي وبتكدبي هتكدبي وتقولي إنه الحمل مكملش واجهضتي
ابتسمت بمرارة وقالت في خذي :
_ إنت إزاي كدا ! ، إزاي قاسي بالشكل ده ، مفيش ذرة رحمة في قلبك .. الطفل وفهمنا إنه مش فارق معاك طيب وأنا !! إنت بتعرض حياتي للخطر باللي بتطلبه مني ، عمليات الإجهاض دي بتبقى خطيرة هيكون إيه منظرك قدام نفسك وضميرك لو عملتها وحصلتلي حاجة أو مت
ثم دفعت يده عنها وقالت بنفس نبرتها السابقة :
_ ده ابنك !! ، أنا كان عندي أمل إنك على الأقل تقول ده ابني ومش هفرط فيه حتى لو إنت مش عايزني وجوازنا ممكن ميكملش بس مكنتش منتظرة منك كدا ومتوقعتش إنك تطلب مني انزله وتجازف بحياتي
قرب وجهه منها وقال في قسوة تليق به وبنظراته القاتلة غير مباليًا لأي مما قالته ، فالآن هو لا يرى شيء سوى ذلك الطفل الذي سيربطه بها للأبد ويريد التخلص منه بأي شكل ممكن :
_ وأنا مش عايزه عشان منك وإنتي امه يايسر
غامت عيناها بالعبارات بعدما احست بسكين رشقت في يسارها بسبب كلماته المسمومة ، في كل يوم تقول بأنها ستصل لمبتغاها حتمًا ولكن يأتي هو ويعيدها للصفر بقسوته ، وكانت قد سعدت اليوم بخبر حملها واعتقدت بأنه فرصة اهداها إياها الله لتتمكن من كسب قلبه ويكون لديها وقت أكثر وكانت قد عزمت على استغلال هذه الفرصة أفضل استغلال ولكن دون فائدة .
هاجت عواصفها واغتاظت بشدة منه حتى وجدت نفسها تهتف بعدم وعي :
_ مفكرتش في الكلام ده ليه يوم لما جيت سكران ومش في وعيك واستغليتني ، مفكرتش ليه في النتيجة دي وحسبتلها حساب ، جاي دلوقتي تقولي الكلام ده !! ، بس أنا غبية فعلًا أصل منتظرة إيه من واحد عديم مسئولية وقذر وحيوان وسافل وميعرفش شيء عن الرجولة بالاسم بس راجل !
غلي الدم في عروقه وكأنها وضعته على موقد ملتهب ، وأخيرًا طففت حممه البركانية معلنًا عن انفجاره الحقيقي والمرعب وفقدانه التام علي السيطرة في أفعاله ، فلقد حذرها الاف المرات من أن تستفزه وتتخطي الحدود الحمراء ولكنها لا تفهم هذا ، والآن هي تستحق ما سيفعله .
نزل بكفه الكبير على وجنتها يصفعها بعنف ثم جذبها من خصلات شعرها إليه هامسًا بجانب أذنها في صوت يقذف الرعب في الأبدان :
_ هكتفي بكدا المرة دي لكن المرة الجاية مش هكتفي بده ، لإني جبت أخري منك خلاص ومبقتش طايقك ولا مستحملك
ثم دفعها بعدم اكتراث لتسقط على الأريكة ويبتعد عنها وهو يرمقها باشمئزاز وغضب عارم …. !!
***
داخل شركة العمايري في صباح يحمل الكثير من المفاجآت العجيبة …. !
كان علاء في مكتبه يقوم بإنهاء أعماله الخاصة وبينما هو منشغل ويثبت كامل تركيزه على عمله انتشله رنين الهاتف فكان سيتجاهله لولا أنه لمح اسم المتصل والذي كان والده ، ليتأفف بنفاذ صبر ويمسك بالهاتف وهو يجيب عليه مقتضبًا بعدما توقع سبب اتصاله :
_ الو يابابا
_ أيوة ياعلاء عامل إيه ؟
تمتم علاء في هدوء مختنق :
_ كويس يابابا .. إيه إنت امتى جاي ؟!
اتاه صوت ابيه الذي كان طبيعيًا في بدايته ومع نصف الكلام تغيرت نبرته تمامًا :
_ يومين كمان إن شاء الله .. روحت سلمت على جدتك ولا لا ؟!
كما توقع تمامًا سبب الاتصال وهاهو يتحدث عن الجدة وابنة العم الساقطة ليجيبه بثبات انفعالي :
_ لا مروحتش
جاءه صوت أبيه الحازم وهو يلقي عليه اوامره :
_ روح سلم عليها وجهز نفسك عشان لما آجي إنت عارف هيحصل إيه
صاح بأبيه مندفعًا في عصبية :
_ وأنا قولتلك يابابا مش موافق .. عايز تدبسني في ال**** دي ليه ، أنا مالي
هتف طاهر في غضب عارم :
_ امال عايزنا نتفضح ، هتتجوزها ياعلاء
هيمن عليه الصمت لثواني قليلة حتى لمعت عيناه بوميض مخيف وهو يقول بوعيد ونبرة لا تحمل في طياتها المزح أبدًا :
_ طيب طالما إنت مصمم معنديش مشكلة بس محدش ليه دعوة بقى باللي هعمله فيها تمام
لم يجيب عليه أبيه وفضل عدم الحديث الآن وحين يعود سيتصرف كما ينبغي مع الجميع وأولهم أمه وابنة أخيه التي تدللت زيادة عن اللازم ولم يكن هناك حارس على أفعاله فأقحمت نفسها واقحمتهم جميعهم في نازلة كبيرة !! ………
***
كان يجلس إسلام على المقعد وعيناه معلقة عليها وهي تتحرك هنا وهناك وتلقى الأوامر والتعليمات على الجميع حتى لا يتكاسل أحد منهم عن العمل لدقيقة ، وكانت شفتيه تنفرج لتظهر عن ابتسامة إعجاب .. فقد تمكنت من ترك بصمتها منذ أول مقابلة لهم في النادي بعدما سكبت القهوة على قميصه .. انتبه لنفسه بعد لحظات طويلة ولما يفعله فهز رأسه نافرًا تلك الأفكار اللعينة التي يفكر بها وهو يستغفر ربه .. بعدما عاتبه ضميره بشدة لأنه ينظر لها بهذه النظرات بعدما أمنه أخيها عليها ، فاشاح بوجهه عنه وهو بزفر بخنق ولكن صك سمعه صوتها وهي تنادي عليه :
_ بشمهندس إسلام تعالى لو سمحت لحظة
نظر لها وتنهد بيأس ثم هب واقفًا وقاد خطواته خلفها معتكزًا على عكازه ، حتى دخلوا لغرفة كبيرة بعض الشيء وكانت موجود عليها الكثير من الأوراق لتبدأ هي في إخراج الأوراق أمامه وتتحدث معه برسمية تامة على عكس عادتها وهي تملي عليه ماسيفعلونه بالضبط ليبدأ هو يشاركها الكلام ويعرض عليها وجهة نظره وبعد دقائق توقفت عن الحديث واطرقت رأسها أسفل مغمضة عيناها بتعب ليقول بريبة :
_ إنتي كويسة ؟!
_ آه كويسة دوخت بس شوية !
أجابته بصوت واهن ومرهق ليطيل النظر إليها بتدقيق من قسمات وجهها التي أصفر وجهها وبمجرد ما أن ازاح نظره عنها وعاد ينظر للأوراق ويتحدث من جديد ليجدها تفقد توازنها وتغمض عيناها معلنة عن تغيبها المؤقت عن الواقع وقبل أن تسقط يسندها بذراعه وجسدها يرتخي تمامًا .. اصابته الدهشة في باديء الأمر وهو يحدق بها وهي بين ذراعيها وفورًا قام بإنقاذ الموقف وإنقاذ نفسه حيث تحامل على قدمه بصعوبة بعدما سقط العكاز من بيده وسحب مقعد كان بعيد عنه قليلًا ثم اجلسها عليه بحرص شديد واسرع ليجلب كوب ماء ثم عاد لها وبدأ ينثر قطرات الماء على وجهها وهو يحدثها باسمها حتى تفيق ولكن دون فائدة فلجأ للحل الثاني ومد يده لانفها وبدأ يفرك بسبابته وابهامه على عظمة الانف العلوية وباليد الأخرى ينثر الماء وبعد لحظات افاقت أخيرًا وهي لا تقوي على فتح عيناها جيدًا فقط سمعت صوته وهو يهتف بقلق :
_ رفيف ردي عليا إنتي كويسة ؟!
أماءت برأسها في إيجاب دون أن تنظر له ليعود ويهتف في نبرة متهمة :
_ طيب اخدك للمستشفى لو حاسة نفسك تعبانة
خرج صوتها ضعيف ومنخفض :
_ لا أنا كويسة الحمدلله
اعتدل في وقفته وصاح مناديًا على أحد العمال باسمه ليأتي فورًا ويقول له في هدوء بعد أن أخرج من جيبه نقود :
_ معلش روح ياحسين جيب للأنسة عصير وحاجة تاكلها عشان تعبانة
نظر لها الشاب الذي يكبرهم بسنوات قليلة وقال بعذوبة :
_ ألف سلامة عليكي يا أنسة رفيف
ردت عليه في خفوت :
_ الله يسلمك ياحسين
وفي هذه اللحظة انضم لهم زين الذي جاء للتو وحين رأى شقيقته جالسة على المقعد وهي مغمضة عيناها فاقترب منها وقال في فزع :
_ مالك يارفيف !!؟
اجابه إسلام بنبرة رجولية عادية :
_ تعبت شوية يازين
عاد بنظره لشقيقته ومد يده يملس على وجنتها ويقول بحنو :
_ رفيف ياحبيبتي مالك .. إيه اللي تعبك ؟!
_ مفيش حاجة يازين أنا مرهقة من إمبارح بليل بس
احس بحرارة جسدها المرتفعة فحرك كفه وملس على جبهتها وكافة وجهها ثم قال في حدة :
_ حرارتك عالية عشان كدا تعبتي ، ليه بتاجي المطعم لما شايفة نفسك تعبانة
لم تجيبه فهي تشعر بنفسها غير متوازنه ولا تقوي على التحدث ولكن شعرت به يمسكها من ذراعها ويساعدها على الوقوف هاتفًا بصرامة :
_ يلا تعالي هوديكي للدكتورة
لم تعترض لعلمها بأن الاعتراض لن يجدي بنفع معه ونهضت دون مقاومة بينما زين فنظر لإسلام وقال بصفاء :
_ أنا كنت جاي عشان اتكلم معاك هتصل بيك وهقولك عشان نتقابل
رتب إسلام على كتفه قائلًا بابتسامة واسعة :
_ تمام هستني اتصالك
ثم تابعهم وهو يأخذ شقيقته ويخرج بها ثم يساعدها على الصعود بالسيارة وينطلقوا ……
***
داخل منزل حسن العمايري …..
ساعات مرت وهو يحاول الاتصال بها ولكن لا إجابة .. منذ استيقاظه من النوم وهي لا أثر لها بالمنزل فانتابه الفضول حيال أين ذهبت دون علمه ، وكان ينوي أن ينهي الشجار القائم بينهم منذ صباح الأمس ويتقبل الأمر الواقع بعدما احس في قرارة نفسه بالقلق والخوف من أن يصبها شيء إن أجرت هذه العملية بالفعل فيعيش في عذاب ضميره الأبدي وكان سيخبرها بتراجعه عن رغبته في إجهاض الطفل ولكنه لم يجدها ، والتساؤلات تنهش عقله نهش !! .
بعد وقت طويل من محاولات الوصول لها أخيرًا جاءته رسالة منها مدونة بها ( أنا في المستشفى ياحسن وداخلة العمليات هجهض الطفل ) ….. !!!
وبعد وقت طويل من محاولات الوصول لها أخيرًا جاءته رسالة منها مدونة بها ( أنا في المستشفى ياحسن وداخلة العمليات هجهض الطفل ) ، حدق برسالتها في ذهول لدقيقة كاملة وسرعان ما اجرى بها اتصال وهو يثب واقفًا ويقول بنفس مضطربة :
_ ردي .. ردي
انزل الهاتف من على أذنه وهو يمسح على جبهته بعنف هاتفًا في اغتياظ وقلق :
_ غبي !! .. أنا إيه اللي عملته ده
اندفع نحو غرفته وفي ظرف دقيقتين ارتدي ملابسه وغادر المنزل مهرولًا ليحاول اللحاق بها قبل أن يفت الآوان ، وحرك محرك سيارته وانطلق به وهو يفكر بأي مستشفى ستكون !! ، فهي حتى أنها لم تقل له في أي مستشفى موجودة ، ولكنه سيجرب الذهاب لأحد المستشفيات مستمعًا لصوته الداخلي الذي يقول بأنها ربما تكون هناك ! ، وضع هاتفه أمامه ولا يتوقف عن محاولات الاتصال بها وعندما يأس فكر بأن يجرب آخر محاولة لعلها تنجح حيث ارسل لها تسجيل صوتي يقول فيه بصوت جاد به شيء من الخوف ” يسر متدخليش العملية أنا غيرت رأى خلاص عايزه الولد ، ردي عليا بقى ابوس ايدك وقوليلي إنتي فين أنا في الطريق ” .
وصلتها الرسالة فقامت بتشغيل التسجيل وسمعته واعادته أكثر من مرة وعيناها تذرف الدموع بحرقة وألم ، وعلى شفتيها ابتسامة مريرة وهي تتحدث في قرارة نفسها ” ليتك تراجعت عن كل شيء قبل فات الآوان ، اهنئك على انتصارك الساحق علي ”
***
قضي النهار كله يبحث في كل مستشفى من الممكن أن تذهب إليها ولكن لا وجود لها في أي مكان ، أحس بأنه سيفقد عقله وهو يفكر ويتساءل ماذا فعلت هل اجهضته أم لا ؟! ، وماذا حدث لها لما لا تجيب علي ؟ ، كلما تمر الدقائق يزداد خوفه ورعبه وتتناطح الأفكار السيئة في عقله حول إصابتها بمكروه وهي تجهض ! .
أوقف السيارة جانبًا وهو يتأفف بعدم حيلة وملامح وجهه تقوست بعبوس شديد هامسًا لنفسه في نبرة مختلفة :
_ روحتي فين بس يايسر
ارجع رأسه للوراء على المقعد وأغمض عيناه بإرهاق بعد ذلك اليوم الطويل والشاق من البحث عنها ، وإذا به يسمع صوت رسالة لهاتفه فانتفض جالسًا بعدما توقع أنها هي وبالفعل كانت هي وارسلت له رسالة صوتية ففتحها ليسمع صوتها الغريب والمبحوح وهو تقول بقوتها المعهودة ” أنا عندى واحدة صحبتي تعبانة ومش هقدر آجي ، متتعبش نفسك وتتصل بيا عشان مش هرد عليك وهقفل التلفون ، بكرا الصبح هرجع البيت .. وبخصوص الولد فأحب أقولك اتأخرت أنا نزلته خلاص ” ، اتسع بؤبؤي عيناه بذهول وهو يستمع لآخر جملة قالتها ” نزلته !! ” ما معنى اجهضدته !!! ، لماذا فعلت هذا ليتها استمعت له للمرة الأخيرة قبل أن تذهب وعرفت بأنه تراجع .
بدا عى وجهه علامات الحزن والألم وهو يقول بصوت به شيء من الشجن :
_ ليه كدا .. ليييه !
حاول الاتصال بها على أمل ان تجيب ولكنها اغلقته فور ارسال رسالتها ، ليتنهد بيأس ويستدر بسيارته ليعود للمنزل ، وسينتظر عودتها في الصباح ، فهو ليس أمامه حل سوى هذا الآن ! .
عاد للمنزل بعد دقائق طويلة وبدل ملابسه ثم تسطح على الفراش وهو يحملق في السقف بسكون وأسى .
ندم !! ، أجل ندم أشد الندم لأنه طلب منها إجهاضه ليته لم يفعل كل هذا معها بالأمس ، فبعد تفكير عميق أحس بأنه قد يكون شيئًا جميلًا أن يكون لديه طفل بغض النظر عن من هي أمه ولكنه سيظل طفله ، وحين تراجع وقرر إخبارها كان الآوان قد فات ، والقطر حمل معه طفله وذهب بعيدًا دون رجعة ! .
حاول النوم ولكن عيناه أبت أن تذيقه الراحة وكان يخطف دقائق صغيرة من النوم ويستيقظ مجددًا حتى اصبحت الساعة 9 صباحًا فهب واقفًا من فراشه واتجه للحمام ليأخذ حمامًا باردًا ودقائق قليلة سمع صوت باب المنزل يفتح فأغلق صنبور الماء فورًا وارتدي بنطاله على عجالة وخرج من الحمام متجهًا نحو الباب ليجدها تنزع حذائها عنها وغير مكترثة له بتاتًا فيهتف في انفعال حقيقي ممزوج بالاهتمام :
_ اليوم كله إمبارح برن عليكي ومش بتردي ! .. صحبتك مين دي اللي تاخدي الليلة عندها !! ، وبعدين إنتي إزاي تروحي تنزلي الطفل وحدك من غير ما تقوليلي إنك رايحة !
وكأنه نكرة لم تعيره اهتمام انتهت من نزع حذائها وقادت خطواتها نحو غرفتها بصعوبة من فرط تعبها ليندفع خلفها ويجذبها من ذراعها صائحًا بها في استياء :
_ أنا بكلمك ردي عليا ، نزلتيه ليه من غير ماتقوليلي !
وكأن عقرب لدغتها حين مسك بذراعها لتدفع يده عنها بعنف صارخة به في أعين بها نظرات عجيبه لم يراها من قبل :
_ متلمسنيش فاهم ولا لا
ثم اكملت سيرها نحو غرفتها وهي تهتف بازدراء وألم دفين :
_ عملت اللي طلبته مني مش إنت اللي قولتلى أنزله ، لو نسيت افكرك باللي عملته امبارح لما قولتلك مش هنزله ولما قولتلي لو منزلتهوش هسقطك أنا ، اديني ريحتك خالص منه وهريحك مني كمان
هتف في عصبية وعنف :
_ وأنا غيرت رأي وكنت عايزه
وصلت لغرفتها وفتحت الباب ثم دخلت والتفتت له هامسة في وجه محتقن بالدماء ونبرة لا تحمل أي لطف أو حب :
_ لا ما أنا بصراحة فكرت ولقيت إني مستحيل أقبل إن ابني يكون ابوه واحد زيك فاقتنعت برأيك وإن الإجهاض افضل حل فنزلته
كانت تتصنع الثبات والقوة أمامه وهي تتشوق للحظة التي ستنفرد بها مع نفسها لتدخل في نوبة بكائها العنيفة التي لم تتوقف من الأمس ، أما هو فقد نجحت في اسكاته تمامًا بما قالته واحس بالخزي من نفسه حقًا ولكن تحولت قسمات وجهه إلى استغراب وهو يراها تفتح الخزانة وتخرج حقيبة الملابس وتبدأ في وضع ملابسها بها فيهتف في ريبة حقيقية :
_ رايحة فين
أجابت بكامل الجفاء :
_ راجعة بيت أهلي وقبل ما امشي هتطلقني عشان يبقى كل حاجة انتهت ومفيش مجال للعودة تاني
طلاق !!! ، هل حقًا هي التي تطلب منه الطلاق ! ، وماذا عن جنون عشقها له هل اصبحت تبغضه الآن ! .. استغرق لحظات وهو يتطلع لها مدهوشًا حتى تحدث بحيرة :
_ اطلقك ! ، هو احنا مش متفقين إننا هنطلق بس لما يعدي فترة طويلة شوية على جوازنا
تركت الملابس من يدها بعنف واقتربت منه صائحة بسخط :
_ أنا متفقتش على حاجة زي كدا أبدًا معاك ، ودلوقتي بقولك طلقني ياحسن لأن أنا اللي مبقتش طيقاك خلاص مش إنت ، أنا عايزاك ترمي عليا يمين الطلاق دلوقتي
” أنا أحلم ، بالتأكيد هذا حلم فهذه ليست يسر أبدًا ” كان يهمس لنفسه هكذا وهو يتطلع لها مصدومًا من انفعالها وما تطلبه بجدية تامة لا تحمل مزح مطلقًا ، ولوهلة أحس بأنه لا يستطيع نطقها وأن يقول لها ” إنتِ طالق ” فهيمن السكوت بينهم لثوانٍ حتى قال بابتسامة تحمل عدم الاستيعاب لما يحدث :
_ طيب رجعي هدومك في الدولاب واهدى الأول وريحي لإنك باين عليكي تعبانة وبعدين نبقى نتكلم ، أنا برأي متطلبيش حاجة ممكن تندمي عليها بعدين
بادلته الابتسامة ولكنها كانت ابتسامة مستهزئة وكلها نقم حيث قالت بانفطار قلب :
_ الحاجة الوحيدة اللي ندمانة عليها وهفضل اندم عليها طول حياتي إني حبيتك واتجوزتك وسمحتلك تلمسني
تلقت الرد منه بالصمت دون أن يتفوه ببنت شفة فعادت مجددًا لحقيبتها ووضعت آخر القطع ثم اغلقتها وانزلتها على الأرض بحرص شديد وبطء بسبب الامها وتعبها ثم امسكت بذراعها وسحبتها خلفها ووقفت أمامه هاتفة بشموخ :
_ طلقني !
أخذ يتطلع إليها بصدمة وهو لا يصدقة نظراتها ونبرتها المختلفة التي لا تثبت له سوى شيء واحد وهو أنها اصبحت تبغضه بالفعل ! ، احس بكف يدها الذي يضرب على كتفه وهي تصرخ بأعين دامعة :
_ بقولك طلقني إنت مبتفهمش ، مبقتش عايزاك خلاص ولا طيقاك
اتاها صوته الرجولي الغليظ وهو يهز رأسه بالنفي مغمغمًا :
_ مش هطلقك يايسر
احست بأنها ستفقد زمام دموعها وستتحول أمامه إلى الحقيقة التي تحاول اخفائها عنه وهي أنها اضعف مما يظن ، ففضلت أن تذهب الآن بسرعة وقالت قبل أن تستدير وترحل :
_ هتطلقني ياحسن وإلا هرفع عليك قضية وسعتها هتطلقني بالقانون غصب عنك ، أنا دلوقتي همشي لإني مش قادرة اشوفك قدامي اكتر من كدا وهستني ورقة طلاقي تجيني فاهم
ثم استدارت وانصرفت وهي تقاوم الآمها التي تمنعها من المشي بطبيعية وبمجرد ما أن رآها سائق السيارة ترجل وحمل منها الحقيبة ووضعها في السيارة بالخلف واستقلت هي بالمقعد الخلفي وتحركت بها السيارة وهي تعلق نظرها على المنزل بألم يمزق قلبها ودموعها تنهمر على وجنتيها فهذه ستكون المرة الأخيرة ولن تدخله مجددًا !! ……..
***
كانت على الفراش تحدق به وهو يستعد للخروج ويسرح شعره بعناية شديدة ثم التقط عطره الرجولي ونثره على ملابسه لتفوح رائحته النفاذة في الغرفة بأكملها فتبتسم هي بغرام ، وعصف بذهنها شيئًا مهما فوثبت واقفة وهرولت لتقف بجواره هامسة برقة مبالغ فيها قليلًا :
_ كرم !
حدقها باستغراب وغمغم بنبرة خافتة :
_ نعم ياشفق !
تحركت ببطء لتقف أمامه وتهمس بنبرة لطيفة :
_ هطلب منك طلب بس متتعصبش please !
رفع حاجبيه والقى عليها نظرة فهمت من خلالها أن يطلب منها الاسترسال في الحديث ، فأخذت نفسًا عميقًا وغمغمت بتوتر :
_ صحبتي نهلة اللي شوفتني معاها في المستشفى يوم لما عملت الحادث ، خطوبتها بعد يومين وهتزعل أوي لو مرحتش
تحولت نظرته من الهدوء إلى الحزم واشاح بوجهه عنها متصنعًا الانشغال بتهذيب ملابسه كنوع من الرفض القاطع فعادت تكمل بسرعة محاولة إنقاذ الموقف :
_ لا أنا مش هروح وحدي .. أنا عايزاك تروح معايا
_ بس أنا مش فاضي اليومين دول ياشفق !!
لفت ذراعيها خلف ظهرها ورسمت لوحة الوجه الحزين على وجهها وشفتيها تقوست لأسفل ونظرت له بعينان كلها استعطاف كطفل صغيرة هامسة بتوسل :
_ ارجوووووك .. ارجوك !
أثرته نظرتها البريئة والرقيقة ليظل للحظات يحدق بها بسكون وهو يحاول أن يرفض للمرة الثانية ولكن قلبه لا يستطيع كسر نفسها المتحمسة لحفل خطبة صديقتها ، فتنهد بعدم حيلة وهتف محاولًا عدم إظهار تأثيرها عليه :
_ طيب خلاص بس هنروح متأخر شوية وهناخد نص ساعة بس عشان معايا شغل كتير
قفزت بطفولية وخطفت قبلة سريعة من وجنته هاتفة بفخر واعتزاز :
_ أنا ليا طرقي برضوا في الاقناع
_ لا ده عشان أنا قلبي طيب وعلى نياتي بس
قالها مبتسمًا ببشاشة لتضحك هي ببساطة ثم تنظر لملابسه وتقول بعدم إعجاب :
_ على فكرة الجاكت ده مش لايق
القى على نفسه نظرة تفحصية في المرآة وهتف مندهشًا :
_ بجد !
ابتعدت واتجهت نحو الخزانة لتفتحها وتبدأ في البحث عن سترة مناسبة يرتديها وتكون ملائمة على ملابسه ، حتى عثرت على سترة سوداء اللون وليست طويلة وعادت له وقالت في نعومة :
_ دي حلوة والأسود عليك بيبقى رهيب
تطلع إلى السترة بتفكير ثم لنفسه في المرآة ففكر بأن لا مانع من التجربة وهم بأن ينزع سترته الذي يرتديها ولكنها اوقفته ومدت يدها تنزعها عنه برفق وتنظر له بابتسامة عاطفية ، ولم يتمكن هو من مجابهة شعوره بالخطر حين اقتربت منه ولكنه تصرف بثبات وتركها تفعل به كما تحب ، حيث نزعت عنه السترة والبسته السوداء وهي تهندم له قميصه من الداخل ولياقته ولمساتها على قميصه وصدره زادت من الأمر سوءًا له ، ثم ابتعدت لتتركه ينظر لنفسه في المرآة فيبتسم بإعجاب ويقول :
_ لا تصدقي دي أحلى فعلًا
كانت تتعمد لمسه حتى تستمتع بمشاهدة توتره وكيف ستكون ردة فعله ولكنه تمالك نفسه اليوم وحتمًا بأحد الأيام لن يتمكن من السيطرة على اضطرابه منها ، بينما هو فلم يجد الرد منها وفقط رأى ابتسامتها على شفتيها وهي تحدق به فقال محاولًا إنهاء ذلك الوضع :
_ أنا همشي عشان متأخرش ، عايزة حاجة ؟
هزت رأسها بالنفي وهي تجيبه بهدوء :
_ عايزة سلامتك
***
منظر طبيعي مذهل ، حيث كانت السماء زرقاء ومزينة بقطع سحاب متفرقة تأخذ اشكالًا مختلفة وأشعة الشمس الدافئة تملأ كل مكان ، وتنعكس على صفحة وجهها القمحاوية فتعطيها لمسة انوثية مغرية مع لون عيناها الزرقاء التي تلمع مع الأشعة الذهبية فتمنحها مزيجًا مذهلًا .
كانت جالسة في الحديقة وتترك لجسدها حرية الاستمتاع بأشعة الشمس غير منتبهة له وهو يقف في شرفة غرفتهم بالأعلى ويتأمل جمالها ، وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة ، تسحره عيناها أكثر من أي شيء وتجذبه إليها كالمغناطيس .. هو لم يعد قادر على مقاومة سحرها ، لم يعد قادرًا عن حجب رغباته بها .. ومع ذلك مازال يقاوم وحتمًا لن يصمد كثيرًا أمامها !! .
رفعت نظرها بتلقائية فالتقت عيناها بعيناه لتبادله ابتسامته ولكن كانت ابتسامة مرتبكة من نظرته لها وهبت واقفة هي حين سمعته يهتف :
_ تعالي
تحركت ودخلت المنزل وصعدت الدرج متجاهلة نظرات الجدة العدوانية لها حتى وصلت لغرفتهم وفتحت الباب ثم دخلت وأغلقته خلفها ببطء هامسة :
_ نعم !
قال بنبرة طبيعية تمامًا ليس بها أي شيء من الحدة أو الغلظة :
_ قاعدة تحت ليه ؟!
رغم أن نبرته كانت عادية إلا أن توترها لم يذهب بعد حيث أجابته بخفوت :
_ إنت كنت نايم وأنا صحيت بدري النهردا ومليت من القعدة وحدي فنزلت أقعد في الشمس شوية !
سار باتجاهها حتى وقف أمامها مباشرة وهتف بابتسامة سلبت عقلها وبنبرة كانت حانية أكثر ما كانت آمرة :
_ طيب ياملاذ من هنا ورايح لما أكون نايم متتحركيش من جمبي يعني اصحى الاقيكي جمبي ! ، ولما تنزلي تحت تاني تلبسي نقابك عشان ممكن حد يدخل فجأة .. تمام ؟!
هزت رأسها بالموافقة وهي تحملق به بدهشة من مايقوله ، وقد تحول توترها إلي ريبة حقيقية وحيرة من أمره بينما هو فحين تلقى الرد منها بإماءة رأسها بالموافقة فالتفت بجسده كاملًا وهم بأنه يبتعد عنها ولكنه التفت لها برأسه وهتف بلطف :
_ أنا هاخد شاور سريع ، ممكن تجهزيلي هدومي لغاية ما اطلع عشان مستعجل
أماءت له للمرة الثانية كالمتغيبة وهمست بصوت يكاد لا يسمع :
_ حاضر
انتظرته حتى دخل الحمام وأغلق الباب لتهمس لنفسها بذهول :
_ هو ماله !!!
لما يتصرف معها اليوم بلطف زائد قليلًا وحنو .. ذكرها به بعدما عقدوا قرآنهم واصطحبها معه لمرتين ليقضوا بعض الوقت معًا وكان لطيفًا هكذا وحنون و رمانسي ، والآن لا تنكر سعادتها لأنها رأت ذلك الجانب منه مجددًا بعدما فقدت الأمل في أن تحظى به مرة أخرى حتى ولو سامحها .
تحركت نحو الخزانة وبدأت في أخراج ملابسه وتجهيزها له كما طلب منها وبعد دقائق قليلة رأته يخرج ونصفه العلوي عاريًا وفقط يرتدي بنطال منزلي أسود ، فاشاحت بنظرها وتصنعت الانشغال بأي شيء حتى لا تنظر له ولكن عيناها أبت الخضوع حيث كانت تنحرف وتختلس النظر إليه خلسة فلاحظت الندبة التي في ظهره ، ولم تكن ندبة عادية أو بسيطة بل كانت غريبة حيث أثارت فضولها فاعتدلت في وقفتها وظلت تحدق به وتحركت قدماها دون إشارة نحوه ووقفت خلفه ثم مدت أصابعها تضعهم على تلك الندبة وهي تهتف باستغراب :
_ إيه دي يازين ؟!!
لمستها تركت أثرًا سلبيًا في نفسه الرجولية التي يحاول حجمها عنها فالتفت له وقال بصوت رخيم :
_ عملت حادث قبل كدا
_ حادث !!!
قالتها بدهشة ليكمل هو بمرارة :
_ كنت أنا وبابا ومسافرين لشغل وأنا اللي كنت بسوق وكنت سايق بسرعة عشان نوصل اسرع والصراحة مش فاكر كويس إذا كان أنا اللي مخدتش بالي ولا العربية دي هي اللي ظهرت في وشي فجأة بس بعد الحادث ده بابا اتوفى وأنا كنت بين الحيا والموت لأن العربية مكنش فيها حاجة سليمة واللي خبطنا فيها كانت عربية نقل كبيرة ، بس أنا كان لسا ليا عمر ونجوت بصعوبة و أخدت سنة مبتحركش بعديها وبمشي على كرسي متحرك ومع العلاج الحمدلله رجعت امشي تاني وفضلت الندبة دي في ضهري عشان تفكرني دايمًا باللي حصل ، وكل ما بشوفها أحيانًا بياجي الشيطان في وداني ويقولي إنت السبب بس بستغفر ربنا وبقول ده قضاء وقدر
ثم سكت لثانية واستكمل مبتسمًا :
_ تعددت الأسباب والموت واحد !
كانت نظراتها متأثرة ومشفقة عليه وحين انتهى ابتسمت له بحب وحنو ثم مدت يدها تضعها على وجنته هامسة بنبرة ناعمة :
_ بظبط إنت ملكش ذنب ده نصيب وهو كان عمره انتهى على كدا ولو مكنش اتوفى بالسبب ده كان هيموت بأي سبب تاني وبرضوا كان هيموت في نفس اللحظة والدقيقة اللي كتبهاله ربنا .. ربنا يرحمه
هز رأسه بالإيجاب يوافقها على ما قالته وما يقوله لنفسه دومًا كلما يتذكر والده أو صديقه و يستغفر ربه مرارًا وتكرارًا ليخرج ذلك الشيطان اللعين من عقله ، وجدها تعانقه وتلف ذراعيها خلف عنقه ليمد هو كفه ويمرره على ظهرها برفق مبتسمًا وبعد لحظات ابعدت رأسها عن كتفه ونظرت له بابتسامة اذابت على آثارها كل ما كان يحاول بنائه طوال الفترة السابقة وكانت عيناها وابتسامتها سببًا في خروجه عن كهفه الذي اعتكف به قرابة الشهرين وهو يجاهد في كبت رغبته بها ، فوجد نفسه بدون وعي يقترب منها وكان على وشك أن يسرق معها لحظاتهم الغرامية الأولى ولكن عكر لحظتهم طرق الباب وسماعه لصوت والدته وهي تهتف :
_ زين .. زين ياحبيبي
ارجع رأسه للوراء محاولًا تمالك نفسه المغتاظة من قدوم والدته في اللحظة الخطأ وهتف :
_ ايوة ياماما
_ يلا ياحبيبي تعالى إنت ومراتك عشان الفطار جاهز تحت وجدتك مستنياكم
_ حاضر يا ماما نازلين وراكي
لاحظت ملاذ غيظه فكتمت ابتسامتها وابتعدت عنه فورًا بعد أن انتابها الخجل وهمست باستحياء :
_ أنا هسبقك على تحت وإنت البس وتعالى
لم يجيبها واكتفى بنظرته المتقدة ومسح على وجهه متأففًا بعدما انصرفت ، وبدأ في ارتداء ملابسه وهو يتحسر على حظه السيء !! …..
***
في تمام الساعة التاسعة مساءًا …..
فتح كرم الباب ودخل ثم اغلقه خلفه وكانت اضواء المنزل كلها مغلقة وكأنه فارغ فعقد حاجبيه بتعجب ومد يده ليفتح المصباح ويضيء المنزل ، وبدأ في نزع حذائه عنه ثم قاد خطواته نحو غرفتهم ولم يجدها فاتجه وبحث في بقية الغرف وحين فتح غرفة مكتبه الخاصة وكان ضوء المصباح فيها هاديء من اللون الذهبي وكانت هي ممدة على الأريكة ومتكورة من فعل البرودة والغطاء يصل لنصف جسدها فقط وبرغم من ذلك كانت في ثبات عميق ليسمع صوت الهاتف البسيط بجانب الأريكة على المنضدة مصدرًا نغمة موسيقية هادئة ومريحة للأعصاب ، ثم رفع نظره وتطلع إلى صورته مع أخيها وفهم سبب نومها هنا ، يتنهد بعدم حيلة ومد يده يلتقط الهاتف ليغلقه ثم اقترب منها وانحنى بجزعة للأمام ولتنطلق على شفتيه ضحكة خفيفة حين رأى كفوف يدها الصغيرة وهي ترتدي فيهم قفازات ثقيلة تحميها من البرد وتلف حول رقبتها شال طويل ، فمد يده وازاح خصلات شعرها التي تخفي وجهها ثم رفع الغطاء عنها وانحني إليها أكثر ليحملها على ذراعه ويتحرك بها ناحية غرفتهم .. دفع الباب بقدمه ثم دخل وسار إلى الفراش ووضعها بحرص شديد .. امسك بيدها الناعمة ينزع عنها القفازات بلطف وسحب الشال من حول رقبتها في رفق وأخيرًا اتجه إلى قدميها لينزع عنها الشراب الشتوي ، هم بأن يسحب اللحاف الدافيء عليها ولكن وجدها تنتفض جالسة بفزع وهي تضم قدميها إليها بنظرات مرتعدة ليهمس هو مبتسمًا بنبرة دافئة ليطمئنها :
_ اهدى اهدي ده أنا !!
ادركت صورته جيدًا فتنهدت بارتياح وهي تضع كفها على صدرها الذي يصعد ويهبط بعنف واصدرت زفيرًا حارًا حين شعرت بانفاسها التي تضيق فعندما شعرت بلمساته ظنته ذلك الوغد ولذلك وثبت من نومها فزعة ، هتفت في أعين مرتعدة :
_ اتخضيت وافتكرتك هو لإن من ساعة اللي حصل في بيتنا لما دخل عليا بقيت اخاف ما انام وحدي والنهردا نومت غصب عني من غير ما أحس وكنت مستنياك بس مقدرتش اقاوم ونومت
هتف في هدوء وصوت رجولي :
_ ميقدرش يدخل أصلًا وميقدرش يتجرأ ويقربلك تاني ولو فكر وهوب ناحية البيت بس الحرس اللي برا هيمسكوه ويجبوه ليا علطول فاطمني ؛ لإن مفيش غيري هيدخل عليكي البيت هنا أساسًا
هزت رأسها بتفهم وهي تقابل كلامته بابتسامة باهتة ليمد يده على اللحاف ويرفعه على جسدها هاتفًا بمشاكسة :
_ الجو مش برد للدرجة دي على فكرة !
ضحكت وبادلته مشاكسته قائلة :
_ لا برد جدًا ده أنا كنت بتنفض من البرد قبل ما تاجي واوضة المكتب بتاعتك كانت دافية شوية فقعدت فيها وغلبني النوم
هب واقفًا ونزع سترته عنه هاتفًا بضحك :
_ لا وعلى إيه أنا اجبلك دفاية وتعيشي جمبها اليوم كله لأن شكلك من النوع اللي بيبرد أوي
_ جدًا فوق ما تتخيل ، أنا في بيتنا أحيانًا كنت بمشي وسطهم بالبطانية وكان سيف الله يرحمه يفضل يتريق عليا هو وماما !!
ابتسم لها بأسى عند ذكرها لشقيقها وصديقه الحميم ولكن اختفت ابتسامته حين رأى ملامح وجهها التي عبست بانكسار وحزن ليقترب منها مجددًا ويجلس بجوارها هامسًا في نبرة تنسدل كالحرير ناعمة :
_ شفق أنا معاكي ومش عايزك تحسي إنك وحدك أبدًا ، اعتبريني سيف ومامتك وكل حاجة أنا معنديش مانع
استقرت منها نظرة منطفئة عليه وقالت بصوت متحشرج :
_ أنا مش عارفة اوصفلك اللي بحسه كل ما افتكر أنهم خلاص مبقوش جمبي ولا معايا ولا هشوفهم تاني بس إنت أكيد حاسس بيا صح ؟!!
وضع كل شيء جانبًا وسمع لصوته الداخلي الذي يطلب منه أن يخفف عنها ويحتضنها لعله يهدأ من نيران قلبها الذي هو أكثر من يشعر بالآم الفراق ، فمد يده لرأسها وجذبها إليه لتدفن هي وجهها بين ثنايا رقبته وتسمع همسه المتألم :
_ صدقيني مش هتلاقي حد حاسس بيكي أكتر مني
انفجرت في البكاء الشديد وتشبثت بذراعيها حول رقبته بقوة ليسمع نبرتها المتقطعة وهي تهتف من بين بكائها :
_ وحشوني أوي ياكرم ، نفسي اشوف ماما واحضنها وسيف وحشني جدًا .. وحشني صوته وهزاره معايا
لمعت عيناه بالدموع هو الآخر ليجيبها في صوت به بحة بسيطة :
_ وأنا كمان وحشني أوي
اكملت نوبة بكائها وتركها تخرج كل ما في نفسها المكتظة باللآم وهي بين ذراعيه هامسًا في أذنها يسترسلها في البكاء :
_ عيطي !
ازدادت حدة بكائها وظل يملس على ظهرهها حتى احس بها هدأت قليلًا .. وبعد دقائق أبعدها عنه وتمتم بحنان دفين :
_ هاا حاسة نفسك أفضل ؟
جففت دموعها بعدما شعرت بأنها ازاحت ثقلًا من على قلبها حين بكت بقوة فهزت رأسها بالإيجاب ثم تطلعت له ورأت عيناه اللامعة بالدموع لتبغض نفسها وتلعن احزانها التي تسبب له الحزن أيضًا ، ووجدت نفسها لا تتحكم في دموعها مجددًا وتقول باعتذار وخنق وهي تبكي من جديد :
_ أنا آسفة ، عارفة إني نكدية وبنكد عليك كل شوية !!
رغم الأجواء الكئيبة التي صنعتها هي ولكنها نجحت أيضًا في اضحاكه حيث أجابها بضحكة بسيطة :
_ لا إله إلا الله .. افهم بس بتعيطي تاني ليه دلوقتي !؟
قالت باحتجاج على نفسها وضيق :
_ عشان أنا نكدية !!!
لم يتمكن من منع ضحكته المتأججة واجابها في رقة من بين ضحكاتها :
_ وهو أنا اشتكتلك وقولتلك إنتي نكدية وأنا مبحبش النكد !! ، قومي ياشفق بس اغسلي وشك وصلي العشاء لو مصلتهوش وهترتاحي .. قومي
نهضت من جانبه واتجهت للحمام بينما هو فضرب كف على كف ضاحكًا ، ثم استقام وبدأ في تبديل ملابسه !! ……
***
دخلت ملاذ المطبخ لتشرب وإذا بها تجد ميار تقف وتقوم بتحضير كوب قهوة فظنت أنها تحضره لنفسها .. تجاهلتها وفتحت الثلاجة لتخرج زجاجة المياه وتسكب في الكوب لتشربه كله حتى سمعته تسأل بلؤم :
_ زين موجود في مكتبه ياملاذ
التفتت لها بجسدها كاملًا وحدجتها باستحقار قائلة بقرف :
_ آه موجود خير
اكلمت ميار بنفس نبرتها المستفزة قاصدة إثارة غيرتها :
_ أصل أنا شوفته جاي من بدري من الشغل ومطلعش من Büro ( المكتب ) وقاعد بيشتغل فقولت أعمله فنجان قهوة
اشتلعت نيران الغيرة وتأججت حتى كادت أن تصل إلى السقف ، فاقتربت منها وهي تحاول تمالك أعصابها المتغاظة وهتفت جازة على أسنانها بقوة :
_ زين مش بيشرب القهوة ولو شربها مبيشربهاش غير من إيدي ، فأنا من رأي ياتكبيها ياتشربيها لأنه مش هيشربه
_ بس أنا واثقة إنها هتعجبه !
قالتها بثقة تامة ودلال أنوثي مستفز ففقدت ملاذ السيطرة على نفسها الملتهبة وجذبتها من ذراعها بعنف هاتفة في تحذير مخيف :
_ بقولك إيه يابت إنتي تبعدي عن زين بالذوق احسلك بدل ما والله العظيم اخليكي تندمي على اليوم اللي شوفتيني فيه فاهمة ولا لا
تطلعت إليها ميار بنظرات شيطانية غير مكترثة بتحذيرها المباشر لها ثم دفعتها بعيدًا عنها وامسكت بكوب القهوة الساخن وسكبته على يدها لتصرخ بأعلى صوت اوتيت به ، فيجتمع كل مافي المنزل على أثر صراخها وأولهم الجدة التي ركضت إليها فزعة وهي تهتف بهلع :
_ مالك ياميار ياحبيبتي حصل إيه ؟
ابتسمت ميار لجدتها بمكر ففهمت فورًا حيلتها ونظرت الجدة إلى ملاذ المتسمرة بأرضها تحدق بهؤلاء الشياطين في ذهول حتى تجمعوا الجميع وآخرهم زين وبمجرد دخوله صاحت الجدة بملاذ في غضب موجهة الكلام لزين في الأساس :
_تعالي شوف مراتك اللي بتقولي محدش يضايقها ، هي دي اللي اخترتهالوا ياهدى
هتفت هدى بتعجب وهي تنقل نظرها بين زوجة ابنها وميار التي سرعان ما انهمرت دموعها على وجنتيها :
_ حصل إيه ياماما طيب فهمينا
هتفت ميار من بين بكائها بصوت مرتجف :
_ أنا كنت بعمل قهوة لزين وهي شافتني وفضلت تزعق معايا وتقولي إنتي تعمليله قهوة ليه وإنتي مالك وكبتها عليا
كانت ملاذ غير مستوعبة ما يحدث ونظرها معلق على ميار وهي تبكي .. ولا تجد ما تقوله لتدافع عن نفسها حتى ، لحظات وجاءت رفيف بمرهم للحروق واعطته لجدتها وبدأت الجدة تضعه على ذراعها ثم رفعت الجدة نظرها إلى ملاذ وقالت بلهجة آمرة ومتشفية :
_ اعتذري منها !
نقلت ملاذ نظرها بينهم جميعهم في دهشة حتى استقر نظرها على زوجها وطالعته بنظرة ضعيفة تتوسله أن لا يصدق هذه التفاهات التي يقولونها ، وبالفعل هو لم يكن يصدق أي شيء ، وحين وجد الجدة تنظر له وكأنها تطلب منه أن يجعلها تعتذر فهتف بخشونة ونظرة قاتلة :
_ مراتي مغلطتش عشان تعتذر وأنا واثق إنها متعملش حاجة زي كدا ، والصراحة أنا معنديش دماغ للمواضيع التافهة دي و كفاية أوي لغاية كدا ياجدتي
ثم نظر لزوجته وقال بنبرة غليظة :
_ تعالي ورايا يلا عشان هنرجع بيتنا
ثم استدار ورحل فخرجت ابتسامتها تشق طريقها إلى شفتيها وكادت أن تصل ألى أذنها ، ثم عادت بنظرها إلى الجدة وحفيدتها ورمقتهم بلؤم وتشفي وهي تبتسم وانحنت ناحية ميار هامسة بنبرة شماتة :
_ ألف سلامة ياحبيبتي تعيشي وتاخدي غيرها
ثم ولتهم ظهرها ولحقت بزوجها بينما هدى ورفيف فتبادلوا النظرات بينهم وهم يحاولون كبت ابتسامتهم ، وكانت الجدة وميار يشتعلون من الغيظ !! ……….
دخلت ملاذ خلفه واغلقت الباب ثم وقفت أمامه وهتفت بسعادة غامرة :
_ شكرًا
لم يبتسم ولم يبدي أي نظرات لطيفة حيث قال بحزم :
_ حصل إيه ؟
فهمت أنه يريد الحقيقة التي لم يراها كاملة فهتفت في بساطة :
_ ولا حاجة أنا كنت نازلة اشرب ولقيتها بتعمل قهوة وهي اللي فتحت الكلام أنا فكراها بتعملها لنفسها ، سألتني زين موجود في المكتب فقولت ليها أيوة لقيتها بتقولي أصل أنا عاملة القهوة ليه أنا الصراحة اتغاظت منكرش فشديت معاها وقولتلها تبعد عنك بالذوق احسلها ، هو ده بس كل اللي قولته والله وفجأة لقيتها بعدين بتمسك القهوة وبتكبها على نفسها وبدأت المسرحية اللي شوفتها تحت دي وجدتك لما جات ميار ضحكتلها ففهمت وبقت تسايرها في اللي بتعمله
أماء رأسه بتفهم وقد هدأت نفسه الثائرة قليلًا وهدر :
_ طيب يلا لمي هدومك عشان نمشي
احاطت وجهه بكفيها وقالت في عشق جارف متوسلة :
_ حاضر بس ممكن متضايقش نفسك خلاص حصل اللي حصل وأنا مش مضايقة وكويس أوي إننا هنمشي لإني بقيت مش واخدة راحتي هنا أبدًا
تأفف بنفاذ صبر وهو مازال يحمل بعض الغضب في نفسه من أفعال جدته ، ولكنه اماء لها بنظرات هادئة وابعد كفيها عن وجهه ليتجه نحو الحمام تاركًا إياها تبتسم بانتصار وفرحة غامرة !! ……….
***
بعد مرور يومين جاء الأب الغائب منذ قرابة شهر واستقبله الجميع بسعادة وترحيب حار فيما عدا ابنته التي كانت تحاول الانخراط معهم في سعادتهم ولكن بلا فائدة !! …..
تعتكف في غرفتها منذ يومين وحالتها النفسية تزداد سوءًا كلما يمر الوقت ، تتجاهل اتصالاته المستمرة ومحاولاته للتحدث معها وترفض بشدة مكالمته أو رؤيته إلا حين يأتي بأوراق طلاقهم ، وجميع من في المنزل حاولوا فهم أي شيء وما الذي حدث بينهم ليصلهم لهذه المرحلة ولكن أمها أبت الضغط عليها بعدما رأت وضعها النفسي السيء بسبب فقدانها لطفلها ! .
فتح طاهر الباب ودخل ثم دخلت خلفه زوجته ليقترب هو ويجلس بجوار ابنته هامسًا بحنو :
_ احكيلي يايسر حصل إيه بينك وبين حسن
هتفت الأم بيأس :
_ أنا ليا يومين ياطاهر أنا وأخوها بنحاول نفهم منها إيه اللي حصل وهي مبتتكلمش
نظر لزوجته وهمس :
_ طيب سبينا وحدنا وأنا هتكلم معاها
تنهدت بنفاذ صبر واستدارت وغادرت تاركة إياهم بمفردهم ليمد طاهر يده ويملس على شعرها برفق هاتفًا في خفوت :
_ قوليلي ياحبيبتي .. قوليلي عملك إيه بس وأنا هربهولك ، مد إيده عليكي ؟!
عصفت بذاكرتها لحظة صفعه لها على وجهها بعنف فقط لأنها رفضت إجهاض الطفل ، لتنهمر دموعها على وجنتيها وترتمي داخل أحضان أبيها باكية بقوة فيهتف هو بصرامة وقلق :
_ يسر قولي في إيه متخلنيش أروح اتصرف مع حسن بطريقتي
ابتعدت عن أبيها وقررت اختراع كذبة جديدة ولكنها ستكون الأخيرة منذ أن تزوجته ، فهي تريد الانفصال عنه دون أي ازهاق لنفسها أكثر من ذلك ، وتريد الانفصال عنه في سلام حتى تتمكن من النظر لحياتها براحة .
غمغمت بصوت مبحوح :
_ احنا مكناش متفاهمين يابابا وحصلت كذا مشكلة بينا بس محبتش أقولكم واقلقكم وكنا ناوين نطلق بس لما عرفت إني حامل فكرت إن اتراجع واحاول اصلح علاقتنا عشان ابننا بس لما البيبي نزل قولت خلاص ملوش لازمة نحاول في حاجة ميئوس منها ، يعني إنا غلطت من البداية لما اتسرعت ووافقت لأني اكتشفت بعدين إن أنا وحسن مننفعش مع بعض
حدجها باستغراب وأكمل بخشونة :
_ مشاكل إيه اللي توصل بيكم للطلاق وتخليكي مصممة بالطريقة دي على الطلاق
جففت دموعها وقالت متصنعة القوة :
_ مشاكل كتير يابابا صدقني أنا مش قادرة احكيها أنا كل اللي عايزاه إني ارتاح دلوقتي ، وعايزة اطلق منه
لم يقتنع وشعر بأن مهما كانت مشاكلهم فهي بالتأكيد لن تصل لحد الطلاق ، فقال وقد عادت نبرته للطف والحنو :
_ يابنتي إن أبغض الحلال عند الله الطلاق ، متتسرعيش وفكري واهدي الأول وبعدين خدي قرارك النهائي .. هو النهردا كلمني وقالي ياعمي أنا بحاول اكلمها واعتذرلها وهي رافضة تكلمني وقالي إنه جه البيت هنا قبل ما آجي ومخلتهوش يدخل يشوفك ، يعني أي كان اللي حصل بينكم شكله ندمان وعايز يصلح غلطه وحسن أنا مربيه وعارفه كويس
قالت بإصرار وغضب بسيط :
_ لا إنت متعرفهوش يابابا .. وأنا مش هتراجع خليه يطلقني بالذوق يا إما هرفع عليه قضية بجد ، خلاص مفيش مجال للعودة كل حاجة انتهت
هدأها وتمتم بعدم حيلة موافقًا على طلبها :
_ حاضر ياحبيبتي طالما إنتي عايزة كدا ومش مبسوطة معاه ، أنا أهم حاجة بنسبالي راحتك وسعادتك ، هكلمه بكرا واخليه ياجي يطلقك
اشاحت بنظرها عن والدها وهي تحاول منع دموعها من السقوط مرة أخرى ، فبعد كل ما فعلته لتحظى به ولكي تحظى ولو بجزء بسيط من قلبه وحبه فشلت ونجح هو في تحطيمها لأشلاء وأطفاء نفسها المضيئة بنور العشق والأمل !! …….
***
ترجلت شفق من السيارة أمام حفل الخطبة وانتظرته حتى ترجل هو أيضًا والتف ناحيتها ثم سار بجوارها ليجدها تعقد ذراعها بذراعها لينظر له متعجبًا فتقول هي متحججة بالحذاء :
_ خايفة أقع عشان الكعب
ابتسم مغلوبًا على أمره ثم أبعد نظره عنها وسارا معًا حتى دخلا فانحنى هو على أذنها وهتفت بصوت مرتفع قليلًا حتى تسمعه بسبب الموسيقة الصاخبة :
_ أنا هروح اقعد وإنتي روحي سلَّمي على صحبتك وتعالي جمبي متقعديش بعيد عني
فهمت سبب تضيقه عليها لهذه الدرجة ولم تختنق منه بل قابلت أهتمامه بها بحب وأماءت له بالموافقة .. ثم اندفعت بين الحشود لتهنأ صديقتها على خطبتها وتعانقها فقد اشتاقت لها كثيرًا بينما هو فذهب وجلس على أحد الطاولات الصغيرة وعيناه معلقة عليها لا يزيحهم عنها للحظة واحدة من فرط قلقه وبعد لحظات وجدها تقترب ناحيته وجلست بجواره هاتفة في أذنه باسمة :
_ بتسلم عليك
قال بعدم فهم :
_ مين ؟
عادت تهتف بعبث :
_ نهلة ياكرم صحبتي
_ آه الله يسلمها
صمتوا لبرهة وهم يتابعوا الجميع بسكون حتى وجدها تقترب بمقعدها منه بشدة وتقرب شفتيها من أذنه وتبدأ تتحدث معه في مواضيع مختلفة حول المدعوين في الخطبة أو الخطبة بشكل عام وأغلبها كانت كوميدية يستمع لها ويكتفي بالابتسامة التي تتحول في بعض الأحيان لضحكة بسيطة وتبادله هي إياها ، حتى وجدها تهتف بجدية :
_ أنا هروح الحمام
غمغم باعتراض بسيط وضجر :
_ وبعدين ياشفق اثبتي جمبي أنا قايلك من قبل ما ناجي مش هتتحركي من جمبي
تمتمت في نعومة :
_ متخفش مش هتأخر
ثم هبت واقفة وابتعدت عنه حتى توارت عن انظاره بين حشود المدعوين للحفل ليتأفف بنفاذ صبر وينتظرها إلى ما يقارب الخمس دقائق وهو ينظر لساعة يده كل دقيقة وبدأ خوفه يسري في أعضائه عندما تخطت السبع دقائق ولم يعد يتحمل حين وصلت لعشر دقائق ولم تعد ، فهب واقفًا واتجه نحو الحمام ووجد فتاة صغيرة لم تتخطى العشرة سنوات تخرج من الحمام فأوقفها وسألها عنها ووصف لها ملابسها وهيئتها وهل رأتها في الحمام قبل أن تخرج أم لا فكانت أجابتها بالنفى ، لتتسارع نبضات قلبه وبدأ عقله في إفراز هرمون الادرينالين فتحول لقطعة من النيران الملتهبة واندفع يبحث عنها في كل مكان من الممكن أن تكون به في إطار الحفل ولكن لا أثر لها وكأنها تبخرت في الهواء !! ………
تسارعت نبضات قلبه وبدأ عقله في افراز هرمون الادرينالين فتحول لقطعة من النيران الملتهبة واندفع يبحث عنها في كل مكان من الممكن أن تكون به في إطار الحفل ولكن لا أثر لها وكأنها تبخرت في الهواء !! ، ظل يبحث عنها قرابة الخمس دقائق واحس لوهلة بأنه سيفقد عقله وداهمه شعور بالعجز ، جالت صورة زوجته المتوفية في ذهنه فهز رأسه بالنفى وهو يقسم بأنه لن يسمح له بأذيتها أيضًا .
خرج من الحفل فورًا شبه راكضًا واستقل بسيارته ثم أخرج هاتفه بعد أن تذكر بأنه وضع جهاز تعقب في هاتفها منذ يومين .. فحرك محرك السيارة وأخذ يتبع الجهاز الذي يقوده لمكانها .
أوصلت به الإشارة إلى نفس النهاية المأسوية لزوجته فنزل من سيارته وهو يحدق بالمبنى الذي يتكون من ثلاث طوابق لتظهر في عيناه نظرة تسقط الرعب في قلوب اعتى الرجال ثم تحرك ناحية المبنى مسرعًا وبمجرد ما أنا دخل الطابق الأرض سمع صوت بكائها البسيط فصاح مناديًا عليها ليأتيه صوتها من أحد الغرف الداخليه وهي تجيبه ليسرع إليها راكضًا ويجدها مكبلة في مقعد خشبي ، فيهرول ويسألها بهلع وهو يفك عن يديها الحبال :
_ إنتي كويسة ياشفق ؟
قالت ببكاء ونبرة مرتعدة وهي تحاول معه فك الحبال عنها :
_ خدني من هنا ياكرم أنا خايفة أوي
احس بجسدها الذي يرتعش من الخوف فحاول الإسراع في تحريرها وهو أيضًا يبادلها مشاعر مختلطة ما بين الخوف والغضب ، لن ينتبه كلاهما للذي تسلل خلفهم في الظلام وهو يحمل بيده عصا غليظة وهبط بها على رأس كرم ليضع يده على رأسه متألمًا وتبدأ الرؤية تتشوش أمامه ، التفت برأسه للخلف ليرى وجهه فيحدقه بنارية وأبي الاستسلام فاستقام واقفًا مقاومًا الدوار الذي يفقده توازنه تدريجيًا ووجه له لكمة قوية بعض الشيء ولكنها لم تؤثر به كثيرًا حيث انتصب في وقفته بعدها ووجه له عدة لكمات أقوى اطاحت به أرضًا ولم يستطع المقاومة أكثر من ذلك وسط دوار رأسه ليغمض عيناه رغمًا عنه فتصرخ الأخرى باكية بعنف :
_ كـــــــــرم .. كـــرم ، كـرم
اقترب منها ذلك الوغد وقال مبتسمًا بشيطانية :
_ متخافيش يامزة شوية وهيفوق ، مش هيفوته العرض اطمني
” عرض ” عن أي عرض يتحدث ذلك الحقير ، شعرت بدقات قلبها تتسارع ونظرت لكرم وهو فاقدًا الوعى على الأرض فازدادت حدة بكائها ولا تتوقف عن منادته لعله يفق !! ….
***
فتحت رفيف الباب بعدما سمعت الطرق المتواصل وإذا بها تندهش بعمها وعلاء ، فتهتف في صدمة مبتسمة :
_ عمي !! ، أهلًا وسهلًا حمدلله على سلامتك
رد عليه بنبرة حازمة :
_ الله يسلمك يابنتي جدتك وميار فين
كانت قسمات وجههم مريبة وعلاء اشبه بجمرة نيران متوهجة فانتابها الفضول حول أمرهم ولكنها أجابت على عمها بنبرة مضطربة :
_ ثانية هروح اندهم التفتت وصعدت الدرج متجهة إلى جدتها وكان زين لم يذهب هو وزوجته بعد وعندما سمع صوت عمه فخرج له ورحب به معانقًا إياه وحين رأى علامات السخط على وجه كليهما سأل باستغراب :
_ في إيه ؟!!
_ استنى لما تنزل ميار الف**** دي
نقل نظره بين علاء وعمه في دهشة مما قاله وفضل الانتظار حتى يفهم كل شيء ، وبعد دقائق بسيطة نزلت الجدة وخلفها حفيدتها واسرعت ميار إلى عمها لترحب به ولكن بمجرد ما أنا اقتربت منه وجدت كفه يهوى على وجنتها بقوة ويجذبها من خصلات شعرها صائحًا بها :
_ ياف**** بقى وصل بيكي التسيب لكدا
لجمت الدهشة الجميع وقيدت السنتهم فيما عادا زين الي اسرع وقبض على ذراع عمه هاتفًا بنبرة رجولية قوية :
_ في إيه ياعمي ، فهمنا الأول بتمد إيدك عليها ليه
عاد يصفعها مجددًا بقوة على وجنتها لتسقط هي على الأرض وتصرخ ببكاء وأخيرًا يخرج صوت الجدة صارخة بأبنها وهي تهرول نحو حفيدتها الملقية على الأرض :
_ طـــاهـــــر ، إنت اتجنيت إيه اللي بتعمله ده في بنت أخوك
خرج صوته للجميع مرعبًا وجهوري وهو يصيح بأمه :
_ أخويا !!! ، بقى هي دي الأمانة اللي سبهالك أخويا .. كان لازم اخدها وأربيها أنا عشات تفهم الأصول والغلط والصح ، أنا اللي غلطان إني سبتك تربيها كان المفروض أفهم أنك بتعرفي تدلعي بس وزي ما عملتي مع حسن وزين ولولا إن محمد الله يرحمه لحق ولاده كان الله اعلم وضعهم كان هيبقى ازاي دلوقتي
كان علاء صامتًا يجلس على أحد المقاعد ويعقد ذراعيه أمام صدره ويحدق بميار في استحقار واشمئزاز ، وأخرج من جيبه مجموعة من الصور الوضيعة لها مع فتى ألمانى وهي بين أحضانه وملابسها أشبه بملابس داخلية وبعض الصور كانت بها شبه عارية تمامًا ، ثم القى بالصور على الأرض أمامهم جميعهم لتتناثر في أماكن مختلفة دون أن يتحدث لتشهق هدى بصدمة وكتمت رفيف شهقتها المرتفعة واضعة كفها على فمها ، أما زين فحين تطلع للصور ووضحت له اوضاعهم جيدًا ومنظرها الفاضح فاشاح بوجهه للجهة الأخرى مستغفرًا ربه بصوت وصل لأذانهم ومسح على وجهه حين أحس بغضبه بدأ يخرج من أعماقه .
التقطت الجدة إحدى الصور الملقاة وأخذت تتطلع إليها بعدم تصديق تريد تكذيب عيناها وتقول أن هذه ليست حفيدتها ولكن هيهات فلا تستطيع تجاهل مل تراه عيناها ، وبعد دقائق من التحديق في صورها نظرت لها وابتعدت عنها نافرة وهي تقول بعدم استيعاب :
_ معقول تعملي كدا ياميار !!
كانت ميار تخطف نظرات سريعة على الجميع وترى نظراتهم لها فانفجرت في البكاء وقالت محاولة الدفاع عن نفسها :
_ لا الصور ده كذب
اخذت حصتها من جدتها التي صفعتها هي الاخرى على وجهها بعنف صارخة بها بستياء مدمر وعدم رغبة في سماع صوتها :
_ اسكتي خالص ياسافلة مش عايزة اسمع صوتك ، عمك عنده حق أنا اللي دلعتك زيادة عن اللزوم ودي نتيجة تربيتي الغلط ليكي
صاح طاهر في قسوة وبنفس نبرة صوته المرعبة :
_ ده اسمه زنا فاهمة يعني إيه زنا ولا مش فاهمة ، عارفة عقابه إيه عند ربنا أكيد مش عارفة ، أنا نفسي اقتلك دلوقتي بس مش قادر
لم يجدوا رد منها سوى البكاء العنيف فأكمل طاهر آمرًا إياها غير قابل للنقاش في قراره :
_ بكرا هنجيب المأذون وهتتجوزي علاء ، عشان نخفى الفضيحة اللي عملتيها دي
نظرت لعلاء الذي يحدقها بأعين وثبت الرعب في اوصالها وقالت رافضة من بين بكائها :
_ لا أنا مش هتجوز حد
هنا فجرت بركان علاء الخامد حيث هب واقفًا واندفع نحوها كالثور الهائج يجذبها من خصلات شعرها صارخًا :
_ لتكوني فاكرة إن أنا اللي عايز اتجوز واحدة زيك شرفها في الارض ، ده جواز مؤقت
اقترب زين من علاء وامسك بذراعه يسحبه معه هاتفًا :
_ تعالى ياعلاء معايا
سحبه من ذراعه معه للخارج بعد أن احس أنه هو أيضًا لن يتحمل البقاء هنا كثيرًا وإلا سيظهر عن حقيقته المتوحشة أمام الجميع والتي ستكون اسوء من عمه بأضعاف !! ……
***
تتحاشي النظر إليه حتى لا ترى نظراته الجريئة والوضيعة لها وعيناها تذرف الدموع دون توقف .. القت نظرة عليه وهو مكبل في المقعد بحبل غليظ ولا يزال فاقد الوعي فعادت بنظرها لذلك الوغد وهي ترمقه شزرًا ورعشة جسدها القوية يستطيع الشعور بها وهو يقف بعيدًا عنها ، ولكن هناك صوت في داخلها يطمئنها طالما هو معها لن يصبها لها مكروه وحين يستعيد وعيه ستستمد القوة من وجوده .. نظرت له مرة أخرى وهدرت باسمه على أمل أن يفتح عيناه :
_ كــرم
سمعت ذلك الوغد يجيب عليها ساخرًا في تشفي :
_ متخافيش يامزة هيفوق .. ده أنا مستنيه يفوق بفارغ الصبر عشان يشوف العرض قدام عينه
صرخت به في صوت مبحوح جراء البكاء والصراخ :
_ إنت حيوان مستحيل تكون بنى آدم ، ولعلمك مش هتنفد بعملتك دي أو حتى بجريمتك اللي عملتها
استقرت في عيناه نظرة جامدة وشفتيه مالت لليسار قليلًا باستهزاء ورغم أن نظرته كانت هادئة بعض الشيء ألا أنها قذفت الرعب في نفسها فاغمضت هي عيناها بارتيعاد ، تدعو ربها بأن يحميها هي وزوجها من مكره وشره ! .
دقائق قليلة وهي تراقبه في غيبوبته المؤقته حتى رأته يفتح عيناه ببطء وصوت أنين بسيط متألم يطلقه حتى سمع نبرتها المتلهفة :
_ كرم إنت كويس ؟
فتح عيناه على أخرهم حين أدرك نبرة صوتها جيدًا وحدق بها يتفحصها بنظرته حتى يطمئن بأن ذلك الحقير لم يقترب منه .. احس بيديه الملتفين للخلف ومكبلين بالحبال فهز ذراعيه بعنف حتى اهتز المقعد معها وصرخ به في أعين بها أحمرار مخيف يلقنه بأبشع الألفاظ :
_ فكني يا***** وحياة أمي لاقتلك يا******
كان هادئًا تمامًا إلى حد الاستفزاز حيث أجابه بعدم مبالاة لتهديداته :
_ تؤتؤ طاب وليه الغلط بس يا ابن الأكابر
لمعت عيني كرم بوميض تمكن أن يبعث القليل من الخوف إلى نفسه ، وخرج صوته يقارب إلى فحيح الأفعى وبنظرة أشبه بنظرة سفاح :
_ فكني بس وشوف ابن الأكابر ده هيعمل فيك إيه
لم يبالي للمرة للثانية وتصنع عدم التأثر بنظرته ونبرته .. هب واقفًا واقترب من شفق يقف بجوارها ويهمس باسمًا بلؤم :
_ إيه رأيك تتفرج على العرض بنفسك المرة دي أصل المرة اللي فاتت فاتك
مالت شفق للجاني تتفادي اقترابه منها وهي تجفل نظرها أرضًا وتغمض عيناها تاركة العنان لدموعها .. خرج من كرم صوت جهوري نفضها هي في مقعدها :
_ أبــــــعـــــد عـنـهـا
أحب أن يستمتع بغضبه وجموحه أكثر ليقول وهو ينظر لشفق قائلًا بنظرة لم يفمها سوى بنى جنسه :
_ وأبعد ليه دي حتى أحلى من الأولى وعجباني أوي
عيناه كانت بها نظرات شهوانية وماكرة وصلت لكرم فورًا ، وقوله ” الأولى ” كان من الواضح أنه يقصد زوجته التي قتلها فهيج عواصفه ليصيح منذرًا دون أي تهاون :
_ هاخد روحك بإيدي يا*****
ابتسم بلؤم ثم مد يده إلى وجنتها يتعمد لمسها أمامه حتى يثيره أكثر ولكنها بمجرد ما أن شعرت بلمسة يده القذرة على وجنتها حركت رأسها وغرزت أسنانها بعنف في كفه ليسحب يده مسرعًا بتألم ويهدر ضاحكًا بتلذذ ليظهر عن أسنان صفراء مقززة تثير الاشمئزاز في نفس أي شخص :
_ اشطا أنا بحب القطط الشرسة ولسا فاكر اللي عملتيه في المقابر
كان كرم يحاول تحرير نفسه من هذه الحبال بأي شكل ممكن ويحرك ذراعيه بقوة على أمل أن يخرجهم من قيدهم ، أما الآخر فقد مد يده وجذب حجابها عن شعرها معلنًا عن بداية العرض لتطلق هي صرخة مرتفعة وهي تحاول إبعاد يده ، لم ترى كرم الذي خرج بركانه وأصبح وجهه أشبه بشبح مرعب يظهر في عتمة الليالي وأخذ يهتز بالمقعد في جنون حتى احس بأنه سينكسر به وهو يسبه بكل ما تؤتي على لسانه من الفاظ ويصرخ به حتى يبتعد عنها ولكنه توقف عن الحركة حين جرحه مسمار في المقعد من الخلف فهدأت نفسه قليلًا ولم يضيع وقت حيث بدأ يحك الحبال الملتفة حول يديه في المسمار بعنف .
كانت شفق ترتجف ولكنها تحتفظ بشجاعتها وتقاوم لمساته على وجهها وشعرها بشراسة متيقنة بأنه لن يتمكن من الحاق الضرر الجسدي لها وزوجها بجوارها .. بينما كرم فلم يتوقف عن الحك في المسمار حتى ذابت غلظة الحبال قليلًا ولن يتبقى سوى القليل حتى يتحرر ويطلق عنان انتقامه على ذلك الوغد .
رآه يمد يده لبلوزتها المزررة ويشق الجزء العلوي بها في نظرات جائعة لجسدها فجن جنونه أكثر وصرخ وجسده يهتز من فرط عصبيته :
_ يا***** أما قطعتلك إيدك الـ **** دي مبقاش أنا كرم العمايري
وأخيرًا تحرر وأصبح حرًا وسينتقم من ذلك الحقير شر انتقام باعد بين يديه بعنف لتسقط الحبال عنها وكان الآخر يقترب على وشك تقبيل جزء جسدها الذي كشفه فأغار عليه كالوحش وجذبه من ملابسه من الخلف وادراه إليه ليوجه له لكمة كانت أقوى من قوة جسده حيث ابرحته أرضًا وجثى فوقه يلكمه بكلتا يديه في وجهه حتى أصبح عبارة عن لوحة دماء وفقد وعيه ولكنه لم يتوقف فكان كالمجنون لا يرى شيء أمامه سوى زوجته التي قتلها ومحاولته للاعتداء على زوجته الثانية الآن ، لم يشعر بنفسه عندما جذب الحبل الملقى على الأرض ولفه حول رقبته حتى يقتله تمامًا ولكن وجد حسن الذي ظهر فجأة وجذبه من فوقه وهتف بهدوء في أذنه :
_ موته مش هيفدنا بحاجة .. لما تموته إنت كدا هتريحه
طالع كرم أخيه بذهول من قدومه وأنه كيف عرف بالذي حدث معهم ولكن لم يهتم كثيرًا حيث هز رأسه بإيجاب يوافقه على رأيه دون أن يفصح عما جال في ذهنه الآن .. تحاشى حسن النظر إلى زوجة أخيه بعد أن القى نظرة عليه عندما دخل ورآها في حالتها المزرية هذا فاشاح بنظره عنها فورًا .. انتصب كرم في وقفته ونزع سترته عنه ثم لفها حولها وهو يخفيها بجسده ثم جذب حجابها من على الأرض ووضعه على شعرها بعشوائية ولف ذراعيه خلف المقعد ليفك عنها الحبال ثم امسك بكفيها بنظر لرسغها الذي رسم عليه الحبل حدًا أحمرًا ومؤلم لمجرد النظر له ، رفع نظرته المعتذرة لها ويثبتها على عيناها الدامعة .. جذبها لصدره بعدما احس بارتعاشة جسدها وقبَّل شعرها من فوق الحجاب هامسًا في نبرة عادت لطبيعتها وليست النبرة المرعبة الذي كان يتحدث بها وهو مقيد بالحبال :
_ أنا جنبك ياشفق اهدى خلاص ، هاخدلك حقك إنتي وأروى منه
سمع همسها الضعيف الذي وصل لأذنيه فقط من فرط انخفاضه وهي تترجاه ببكاء :
_ متقتلهوش ابوس ياكرم ماتقتله أنا مش هقدر اخسرك
رتب حسن على كتفه أخيه هاتفًا بخشونة :
_ وديها البيت ياكرم وأنا هقعد مع ال**** ومسعد جاي دلوقتي
كان يتساءل في قرارة نفسه عن الذي يحدث وكيف عرف الجميع ولكنه رأى أن الوقت ليس مناسبًا وفعل كما قال أخيه فساعدها على الوقوف وسار معها وهو يضمها لصدره تاركًا أخيه معه وهو ليس لديه أدنى شك أن حسن لا يحتاح لتوصية في مثل هذه الأمور ، وهو أساسًا يتحرق شوقًا لكي يذيقه أصناف العذاب
.
كانت تتحرك ببطء وغير متوازية كشخص لا يقوى على الوقوف ، احس هو بذلك من خلال طريقة سيرها ليحدجها مبتسمًا يبث لنفسها الآمان مجددًا وانحنى بحزعة للأمام حاملًا إياها على ذراعيه فتعلقت برقبته ودفنت وجهها بين ثنايا صدره مغمضة عيناها بنفس مطمئنة لا تحمل أي خوف وهو يسير بها في اتجاه السيارة واجلسها في المقعد المجاور له برفق ثم اغلق الباب والتفت من الجهة الأخرى ليستقل في مقعده المخصص للقيادة وينطلق بها إلى منزل أبيه حيثما توجد أمه وشقيقته وجدته ! ….
فتحت شفق باب السيارة وكانت على وشك النزول ولكنه سبقها وامسك بيدها يساعدها على النزول في كامل اللطف وهو يحدجها بابتسامته المألوفة ، ولأول مرة تقلق حياله واثبت لها أن لديه جانب مظلم حقًا من مجرد نظرات وكلمات ، وكلما تتذكر معالم وجهه المرعبة تسري في نفسها مشاعر متضاربة من بين الاضطراب والدهشة من أنها كانت لا تتوقع أن يكون بكل هذا الوحشية فكان سيقتله بالفعل مختنقًا لولا أخيه الذي لحق به .. الألفاظ البذيئة التي نطق بها ! ، عليها أن تعترف أنها من فرط ما رأت من رقته وحنانه وخجله ظنته أنه لا يعرف حتى كيف يسب ! ، واليوم هي اكتشفت جانبًا مختلفًا تمامًا من شخصيته ، وسيسبب لها الدهشة لفترة طويلة وكلما تتذكره ستنذهل كأنها المرة الأولى ، إن كان كذلك فقط وهو مكبل فماذا سيفعل به حين يعود لأخيه !! .
امسكت بيده وسارت معه .. كان يضم كف يدها بين كفه الأيمن وذراعه اليسار يلفه حول كتفيها ، فتوقفت هي قبل أن يصلوا لباب المنزل وقالت بترقب :
_ إنت هترجع لحسن مش كدا
_ أكيد .. دي اللحظة اللي منتظرها من سنة عشان اطفي النار اللي جوايا
ضغطت على كفه بقوة وحدجته بأعين كلها شجن وخوف :
_ اوعدني زي ما وعدت سيف إنك هتحميني وتحافظ عليا .. اوعدني ياكرم إنك متقتلهوش ، متحرمنيش منك إنت كمان صدقني مش هقدر استحمل اعيش في حياة مفيهاش حد من اللي بحبهم
طالت نظراته إليها ، كانت كلماتها اعترافًا غير مباشر بعشقها له وتحمل جميع معانى الحب والملاذ والمأمن ، فكان صامتًا تمامًا يخشى أن يعدها بشيء ويخنث وعده إذا فقد جنونه ، ليجدها تهتف تحثه على التكلم بنظراتها المنكسرة والمُحتاجة لوجوده :
_ اوعدني !
تنهد بعدم حيلة وتمتم في خفوت مذعنًا لرغبتها :
_ أوعدك ياشفق
لاحت بشائر الابتسامة على صفحة وجهها مع دموعها التي انهمرت من بين جفنيها ليمد انامله ويجففهم بحنو ، ثم انتبه لسترته التي تضعها على كتفها فقط وملابسها الممزقة من الداخل تظهر عن جزء صدرها العلوى فأمسك بالسترة وأبعدها عنها ثم عاد يلبسها إياها وهي تغلغل ذراعيها في داخلها ويغلقها حول صدرها محاولًا عدم النظر قائلًا بإحراجه المعتاد الذي لم يتخلى عنه :
_ البسيها كويس عشان ممكن يكون زين موجود جوا
ثم عدل من حجابها العشوائي الذي يظهر عن خصلات شعرها ولفه بانتظام وهي تحدجه مبتسمة فتزيد من إحراجه الذي يحاول اخفائه ، وبعد لحظات أخذ بيدها وساروا باتجاه الباب وطرق عدة طرقات خفيفة لتفتح هدى وتصيبها الدهشة فور رؤيتها لأبنها الذي في حالة مزرية هو وزوجته وهتفت بهلع :
_ كرم ، حصل إيه يابني معاكم ؟
دخل وجاب بنظره في المنزل ليرى عمه وعلاء وأخيه وجدته أيضًا والجميع مجتمعين فيما عدا ميار ثم عاد بنظره إلى أمه وقال :
_ خدي شفق ياماما فوق وخليها ترتاح وتاكل حاجة لغاية ما آجى
سمع صوت عمه المهتم :
_ ليه منظرك كدا يابني حصل إيه معاكم ؟
_ مفيش حاجة ياعمي احنا كويسين لما ارجع هقولكم كل حاجة
ثم استدار ورحل مجددًا وسط نظرات زين المتساءلة في حيرة وشك بأنه يخفى شيئًا .. استقام واقفًا ولحق بأخيه مهرولًا ولكنه فوته حيث استقل كرم بسيارته وانطلق بها كالسهم ، فأصدر هو زفيرًا قوى بخنق !! ………..
***
يجلس حسن على مقعد خشبي ويحدق به بنظرة كلها شر بعد أن أفرغ هو الآخر شحنة غضبه فيه وبيده سكين يقلب بها يمينًا ويسارًا بعدما جلبها مسعد لكرم كما طلب منه في الهاتف ، وتارة ينظر للسكين ثم له وهو يفتر عن ابتسامة مريبة ، ثم هب واقفًا وقال بنبرة مرعبة وابتسامة أكثر رعبًا :
_ الحقيقة كان نفسي أعمل فيك اللي نفسي أعمله بالسكينة دي بس السكينة دي غالية أوي على كرم وهو هيكون حابب إنه يضع اولى أشكال انتقامه منك وثأره لمراته من خلالها ، وده ميمنعش إنك مش هتنال نصيبك منى وبطرق مختلفة بس مش دلوقتي
انضم كرم لهم وسار باتجاه ذلك الوغد وحدق بأخيه أولًا ثم التقط السكين من يده واقترب له هامسًا أمام وجهه في أعين تلمع بوميض الثأر وسرعان ما تخلى عن وجه اللطافة الذي كان يتحدث به مع زوجته قبل أن يأتى :
_ والله ووقعت تحت إيدي أخيرًا ، للأسف مش هقولك إنت محظوظ لإني اللي هعمله فيك هيخليك تتمنى الموت ألف مرة في الثانية ومش هخليك تنوله ، هخليك تجرب العذاب اللي عذبته ليها قبل ما تموت وهستمتع وأنا بسمع صوت صراخك زي ما كانت بتصرخ ومحدش سامعها
توجه حسن وجلس على مقعده وهو يهيأ نفسه لمشاهدة العرض المثير الذي سيقوم به أخيه في ذلك الحيوان ، وكان يقف بجواره مسعد يتطلع إليه أيضًا مبتسمًا بتشفى .
أكمل كرم وهو ينحنى قليلًا للأمام ليكون في مستواه جيدًا ويهدر بنظرة غامضة وأعين مظلمة كسواد الليل :
_ تعرف الطب الشرعي قال إيه .. قال إنها تعرضت للاعتداء الوحشي اللي ادى إلى نزيف معاها وبعد ما تعرضت للاعتداء تم طعنها 11 طعنة في أمكان متفرقة من جسدها وماتت في الحال ، وأنا شوفتها قبل ما تتدفن وشوفت الطعنات في جسمها وفاكر أمكانهم كويس أوى ، هااا تحب نبدأ بانهى فيهم ؟
تمكن الرعب من المكبل في مقعده جراء آخر جملة وسؤال وتعرقت جبهته من فرط الخوف ثم وجده يكمل بشراسة أكثر وهو يرفع أمامه السكين :
_ فاكر السكينة دي لقيناها في موقع الجريمة وإنت طلعت فصيح أوي مسحت بصماتك من عليها وسبتها مكنتش تعرف إن السكينة دي هي اللي هتكتب نهايتك
رفعها وقربها من ذراعه ثم حركها للأسفل على جلده لتدمي ذراعه الدماء ويطلق هو صراخًا متألمًا فيقول غير مباليًا بصراخه :
_ مش إيدك دي اللي لمستها برضوا ، ولمست مراتي النهردا قدام عيني
ثم اتجه إلى ذراعه الآخر وفعل المثل ولكن بعنف أشد وهو يكمل قاصدًا شفق بحديثه :
_ قولتلها متلمسهاش وهقطعلك إيدك مصدقتنيش للأسف .. ابتزتها بصورها وحاولت تعتدي عليها في المقابر ودخلت عليها البيت بليل وبتقولها كرم مش هيقدر ينقذك مني والنهردا خطفتها وفكرت تعتدي عليها قدامي وكنت متوقع إني هسكت وهقعد اتفرج عليك !!
كان الآخر صوت صراخه يملأ المكان من الألم بينما كرم فنزل بالسكينة إلى فخذه وغرزها في لحمه بكامل القسوة وهو يهتف يقصد بكلامه هذه المرة أروى :
_ طعنتها هنا فاكر ولا لا
صوت صرخته جلجلت المكان ورنت في أذانهم كالبرق وهو لا يزال يصرخ من الألم وأطلق صرخة اقوى من السابقة حين شعر به يخرجها ويغرزها في فخذه الآخر وهو يكمل :
_ وهنا كمان !
ثم أخرج السكين من فخذه بعدم رحمة ليصرخ الآخر أكثر ثم هتف :
_ دلوقتي بس أقدر أقول إني طفيت جزء بسيط من ناري ، وهكتفى بده حاليًا بس خليك مستعد لإنك هتموت قريب أوي
ثم اقترب وفك عن يديه القيود فيسقط هو على الأرض وهو يصرخ من الآم ذراعيه وفخذيه فحدجه بنظرة نارية وابتسامة متشفية ووجه له ركلات متعددة بقدمه واحدة منهم استهدفها أسفل الحزام ، ثم التفت وقاد خطواته للخارج ليلحق به حسن بعد لحظات من التحديق بذلك الملقى على الأرض وهو يصرخ من الألم ، وكانت مشاعر متشابهة لمشاعر أخيه تجاهه .. استقام ولحق بكرم وكذلك مسعد تاركينه بمفرده وحين خرجوا من البناية هتف كرم محدثًا مسعد :
_ راقبه كويس يامسعد وميغفلش عن عينك لحظة وعايزك تقولي كل مكان بيروحه ومتخلهوش يحس إنك بتراقبه هو دلوقتي أكيد هيتصل بحد عشان ياجي يلحقه راقبه واعرفلي هيروح فين
أماء له بالموافق ثم استدار واتجه نحو السيارة ليستقل بجوار أخيه وينطلقوا ، وبينما هما في الطريق هتف كرم بتساءل :
_ إنت عرفت اللي حصل إزاي ؟
_ كنت مخلي واحد يراقبك عشان متعملش تصرف متهور لو لقيته وتودي نفسك في داهية ، وشافك وإنت داخل المكان ده ولما مطلعتش منه لوقت طويل اتصل بيا وقالي على مكانك فجيت علطول
لم يعقب على فعل أخيه وصمت وهو يثبت نظره على الطريق ……..
***
انتهى من جلسة حديثه مع الجميع وهو يسرد لهم ما حدث بإختصار شديد ، ثم قاد خطواته نحو غرفته ليطمئن عليها .. فتح الباب ببطء وادخل رأسه فقط يلقى نظرة عليها قبل أن يدخل ليراها ممدة في فراشه وتولي ظهرها للباب .. دخل بجسده كاملًا ثم اغلق الباب وسار باتجاه الفراش ليجلس على حافته ويهمس في صوت منخفض :
_شفق !
كانت مستيقظة ولكن من شرودها وتفكيرها فيه وهي تتساءل ” ماذا فعل ياترى ؟ ” لم تشعر بوجوده إلا حين سمعت صوته فهبت جالسة والتفتت بجسدها كله ناحيته تهتف باهتمام :
_ كرم .. عملت إيه معاه !
تمتم في دفء :
_ متخفيش وفيت بوعدي ومقتلتهوش ، واخدتلك جزء من حقك إنتي واروى وقريب أوي إن شاء الله هكمل انتقامي منه
_ هتعمل إيه تاني ؟!
قالتها في قلق فأرسل لها نظرة من شأنها أن تخفف من حدة قلقها وتطمئنها وتمتم :
_ هتعرفي لما ياجي وقتها
تشدقت في خوف حقيقي ونفس مضطربة :
_ كفاية ياكرم اللي عملته فيه النهردا ، ابعد عنه بقى ده ممكن يأذيك
_ متقلقيش ، قومي يلا البسي طرحتك عشان نرجع البيت .. إنتي كويسة الأول واكلتي ولا لا ؟
أماءت بإيجاب وقالت بنبرة متهمة :
_ أيوة كويسة الحمدلله واكلت اطمن .. أنا اللي المفروض اسألك إنت كويس ولا لا ؟
ابتسم ابتسامة منطفئة لم تصل لعيناه وقال بمرارة يتحدث معها لأول مرة عن مايشعر به :
_ كويس أوي .. عارفة أنا كنت حاسس بإيه ياشفق .. كنت بحس إن في حاجة فوق قلبي وكل ما افتكر اللي حصلها وإني مش قادر اوصله أو اخدلها حقها كانت الحاجة اللي فوق قلبي دي بتخليني احس بنار قايدة وبتاكل فيا بالبطيء ، ومكنتش بقدر اتهنى في نومي ، بس النهردا وبعد اللي عملته فيه حسيت إن النار دي اطفت شوية
كانت تستمع له بسكون وملامحها أظهرت عن علامات الإشفاق والشجن بينما هو فأكمل بنبرة لا تختلف كثيرًا عن سابقتها :
_ كنت خايف عليكي أوي .. وخوفي زاد لدرجة الجنون لما عرفت إن الراجل اللي بيبتزك بصورك طلع هو اللي قتل أروى ، خوفت عليكي ليأذيكي زيها ويخليني اعيش عذاب الضمير تاني .. وكنت مستحيل اسمح إن اللي حصل مع أروى يتكرر تاني معاكي ، لما شوفته هو وبيلمسك اتجننت وحسيت بشعور وحش أوي مش هعرف اوصفهولك ولوهلة تخيلتها هي وإنه عمل معاها كدا بس الفرق إني أنا مكنتش جمبها ، بس أنا كنت جمبك وشايفه قدامي ومكنش قادر امسكه وده اللي جنني ، تعرفي لولا إن اللي عملته فيه مكنتيش هتقدري تشوفيه ومش هينفع مكنتش رجعتك البيت وكنت خليتك تشوفيه قدام عينك وهو بيتعذب وبيصرخ من الألم
لاحت على شفتيها الصغيرة بشائر ابتسامة رائعة وعيناها كانت تلمع بدموعها المتجمعة فيهم .
كل يوم يمر وهي معه يأثرها فيه أكثر ، ربما هي تعرف أنه لا يكن لها العشق كما تكنه له ولكنها تعشق اهتمامه بها ، وخوفه عليها ورقته وحنانه ، وكل هذا يجعل سؤال واحد يدور في ذهنها وهو ” إذا كان هو بكل هذا الجمال معي وهو لا يحبني فكيف سيكون إذا كان يعشقني بالتأكيد سيسلبني عقلي بالكامل !! ” .
مالت شفتيها تدريجيًا حتى افترت عن ابتسامة عريضة واقتربت منه تعانقه وذراعيها تحاوط رقبته وهمست في نبرة انوثية رقيقة :
_ مش عايزة أشوفه ، أهم حاجة إنك كويس وبخير .. ربنا يخليك ليا
رفع يده لشعرها الأسود الناعم مترددًا ثم أخذ يملس عليه برفق ودفء وشفتيه تميل قليلًا للجانب دون أن يظهر عن اسنانه ، ابتعدت عنه وقالت مازحة تحاول إضفاء شيء من البهجة :
_ لا بس الصراحة بعد اللي حصل ده صدقتك لما قولتلي متتغريش في المظهر
لم تفشل في رسم الضحكة على وجهه حيث أجابها بخفوت :
_ اطمني أنا مبكونش كدا إلا مع اللي بيأذيني وبيأذي عيلتي ، لكن مستحيل اخليكي تشوفي الجانب الوحش ده مني مهما حصل ومهما اتعصبت
استقرت في عيناها نظرة عاطفية وخرج صوتها ناعم كالحرير :
_ عارفة ومعنديش شك في ده !
_ طيب يلا بقى قومي عشان عشان نمشي لإني تعبان أوي ومحتاج ارتاح شوية
اماءت بالموافقة ووثبت واقفة ثم بدأت في ارتداء حجابها أمام المرآة …….
***
اليوم اتمت اليوم الثالث منذ رحيلها ، لا يحدثها ، لا يراها ، لا يعرف عنها شيء سوى أنها في حالة مزرية .. هو يعرف عشقها الجنوني له وقلبها المتيم بعشقه ، وكان آخر شيء يتوقعه أن تهجره هي ، فقد ظن أنها بلاءه لن ترحل عنه أبدًا ولن يتمكن من التخلص منها مهما حدث ! ، ولكن إصرارها على الطلاق وعدم رغبتها في رؤيته أو سماع صوته تدهشه كل يوم أكثر وأكثر ! .
هل هذا ندم أم شيء آخر ؟!
بالتأكيد هو ندم وقد اختلط بمشاعر متضاربة عندما رفضته وأبت أن تكون زوجته أكثر من ذلك ، نفسه تأكله وضميره يقتله لأنه رغب في قتل طفله البريء وقتل معه نفسها ، أهانها ولامها كأنها المخطئة وحدها ! ، والآن هو يعترف أنه خطأه بالفعل .. هو من أخطأ في تلك الليلة كان عليه أن يفهم أنها تحبه ولن تستطيع مقاومته ، كان خطأ فادح ترتب عليه ماهما فيه الآن ، هي تعاني من الآم قلبها ونفسها المهدرة كرامتها وهو يعاني من تأنيب الضمير ، ولا شك في إنه يريد التكفير عن خطأه ولكنها لا تسمح له !! .
كان في غرفته بمنزل والده بعدما عاد مع أخيه وانضم لغرفته يشاركها اضطرابته ، ففتحت هدى الباب ودخلت ثم اقتربت لتجلس بجواره على الفراش هاتفة باستغراب :
_ الوقت اتأخر ياحبيبي مش هترجع لمراتك مينفعش تسبيها وحدها لوقت متأخر كدا
_ يسر عند عمي ياماما
هزت رأسها بتفهم وقالت بابتسامة مشرقة وفرحة :
_ أيوة كدا أفضل كويس إنك خليتها تروح تقعد مع أمها عشان تاخد بالها منها ومن ابنها هي دلوقتي محتاجة تغذية وعناية خاصة
لا تعرف شيء ويخشى أن يخبرها فيصبها شيء من الصدمة وبالأخص حين تعرف بأنهم على عتبة الطلاق .. حسم أمره وهتف في أعين زائغة ونبرة بائسة :
_ يسر سقطت وراحت تقعد عند أمها وعايزة تتطلق وليا تلات أيام مكلمتهاش ولا شوفتها بسبب إنها مش بتسمحلي أساسًا
استحوذت عليها الصدمة بالكامل ، تحاول في البداية استيعاب فكرة أنها اجهضت الطفل ومن ثم استيعاب أمر الطلاق المفاجيء ولكن عقلها يرفض الاستيعاب أو حتى المحاولة ويأبي أن يصدق ما سمعته أذنها .. ظلت لدقيقة بالضبط ساكنة دون أن تصدر أي صوت وكأنها تنتظره أن يقول أنه يمزح معها ولكن لا حياة لمن تنادي فهتفت بذهول :
_ طلاق إيه والطفل نزل إزاي ، حسن بلاش تهزر معايا هزار بايخ يابني أنا مش حمل هزارك
_ مش بهزر ياماما هو ده اللي حصل فعلًا ، بحاول أشوفها وأخليها ترجع بس رافضة تشوفني نهائي
_ حصل إزاي ده هي لسا من تلات أيام كانت مكلماني وبتقولي إنها حامل وفرحانة ، إزاي سقطت ده حتى عمك وعلاء مجابوش سيرة نهائي
قالتها بشيء من الانفعال ليتنهد هو الصعداء ويستطرد مخترعًا كذبة حتى يخفي قذاراته عن أمه :
_ بعد ما كلمتك تعبت خالص وروحنا المستشفى والدكتور قال إنها أجهضت بسبب إنها مكنتش بتهتم بنفسها وعرفت متأخر إنها حامل ، واحنا كان في مشاكل كتير بينا ومكناش متفاهمين وشدينا مع بعض فهي لمت هدومها ومشيت وعايزة تتطلق
هتفت هدى بحدة ونظرات ثاقبة :
_ يسر بتحبك ياحسن وكلنا عارفين ده ومستحيل تطلب الطلاق إلا لو حصلت حاجة كبيرة ومش هيَّنة ، قولي حصل إيه ده إنتوا مكملتوش شهرين ؟!
ضيق عيناه في ندم والقى نظرة طويلة على أمه ، لا يتمكن من مواجهتها بالحقيقة التي هو المخطأ الوحيد فيها ، أبعد نظره عنها متمتمًا بصوت غريب :
_ أنا اللي غلطان ، هي عندها حق تطلب الطلاق ، أنا اللي اتسرعت من البداية في الجواز منها كان لازم افكر كويس أوي قبل ما اتصرف بتهور
جحظت عينان هدى بريبة من ما يتفوه به ” تسرع ، تهور !!! ” وماذا عن حديثه أمامها هي وعمه عندما عرض على عمه وطلب منه الزواج من ابنته !! .
هتفت بصرامة :
_ تسرع !! ، مش على أساس إنك كنت معجب بيها ورغم إني مكنتش مصدقة الكلام ده بس قولت طالما إنت بتحبها زي ما قولت يبقى مش هوقف قدامك ، بس شكله الموضوع مكنش إعجاب ولا حب صح ولا لا ؟!
قال باختناق ووجه بائس :
_ ماما أنا مش قادر اتكلم والله صدقيني .. لما اكون جاهز هاجي واحكيلك كل حاجة
هدى بنفاذ صبر وضجر من إخفائه عليها لحقيقة الأمر :
_ ماشي ياحسن !!!
استقامت واستدارت ناحية الباب ورحلت ، وبقى هو يحملق في السقف بشرود كما كان قبل مجيئها …… !
***
كان حسن في مكتبه بالشركة في الصباح التالي يباشر أعماله بتركيز شديد في محاولات بائسة منه لصرف تفكيره عنها .. يستطيع المقاومة لخمس دقائق ثم تعصف بذهنه صورتها من جديد فيزيحها ويحاول التركيز مجددًا على عمله ، حتى صك سمعه صوت رنين الهاتف فامسك به وتطلع إلى شاشته ليتأفف بخنق بعدما رأى اسم المتصل وأجاب :
_ أيوة ياعمي
_ تعالى ياحسن عندي على البيت عايز اتكلم معاك
تمتم بعدم حيلة متنهدًا بعمق :
_ حاضر ياعمي جاي
استقام من مقعده وهو يمسح على وجهه بعدما اغلق الهاتف ووضعه في جيبه ، سيهيأ نفسه من قبل أن يصل لأي شيء قد يقوله عمه أو يطلبه منه .. أخطأ ويجب عليه دفع الثمن حتى لو كان ثمن غالي ولا يريده ! .
وصل إلى منزل ” طاهر العمايري ” نزل من سيارته ، وحثته قدماه على السير في اتجاه الباب يمر على الحديقة الكبيرة نسبيًا أولًا حتى يصل للباب وبينما هو في طريقه يسير متثاقلًا كدليل على عدم رغبته في مقابلة عمه وهو يتوقع جيدًا ما سيطلبه منه ، وجد عيناه ترتفع لأعلى بتلقائية ، وبلحظة عابرة التقطتها نظرته وهي تقف في شرفة غرفتها بأعلى تتابعه .. توقف عن السير ورفع رأسه لأعلى ينظر لها بصمت يتفرس ملامحها التي ظهرت عليها الكآبة ، ليرى في عيناها نظرة ثاقبة تحمل الغضب والبغض .. لم يراها تنظر له هكذا ابدًا من قبل مما جعله يطيل النظر إليها وكأنه يبحث عن شيء معين بين ثنايا عيناها .. استدارت وابتعدت عن النافذة حتى تختفي عن ناظريه ليعود هو برأسه لوضعها الطبيعي مصدرًا زفيرًا حار ، وأكمل طريقة نحو الباب حتى فتحت له زوجة عمه تخبره بأن عمه بانتظاره في مكتبه الخاص فأماء بتفهم وتحرك نحو المكتب .. طرق طرقتين خفيفتين ليأتيه صوته الغليظ يسمح للطارق بالدخول فامسك بمقبض الباب واداره ثم فتحه ودخل وتركه خلفه مواربًا .. كان طاهر يجلس على أريكة سوداء يحدجه بنظرته الهادئة وفي نفس ذات اللحظة حازمة ، فاقترب وجلس بجواره وسأل كلاهما الآخر عن أحواله ثم بدأ طاهر بالتحدث فيما هو مهم :
_ يسر مصممة على الطلاق بطريقة غريبة ومش عايزة تقول اللي حصل بينكم وتقريبًا لو سألتك إنت كمان مش هتقول ، ومن ساعة ما جات وهي شبه منقطعة عن الأكل وحالتها سيئة جدًا ، وأنا مش هقدر اشوفها بالمنظر ده .. أنا سلمتك بنتي ياحسن وامنتك عليها وآخر حاجة كنت اتوقعها منك إنك متحفظش على الأمانة
اطرق رأسه بخزي لا يقوي على رفع نظره في وجهه من خجله وتمتم بصوت حزين :
_ أنا آسف ياعمي !! .. أنا غلطان ومعترف بغلطي والله وعايز اكفر عن الغلط ده واحاول اخليها ترجع بس هي مش بتديني فرصة حتى احاول اتكلم معاها
ثم ثبت نظره على وجهه وقال بصدق ونبرة مهمومة يجيبه على الطلب الذي يتوقع أنه سيطلبه منه من قبل أن يطلبه حتى :
_ أنا مش عايز اطلقها !!!
رتب طاهر على كتفه وقال برزانة وأعين دافئة :
_ أنا مش جايبك هنا عشان اطلب منك تطلقها أنا جايبك عشان تتكلم معاها وتحاول تحل المشكلة اللي بينكم يابني ، أنا أكيد مش هكون حابب أنها تطلق ، بس لو صالحتها وحليت المشكلة وقتها هيكون في كلام تاني بينا
ابتسم له وشكره بامتنان على تفهمه :
_ شكرًا ياعمي .. إن شاء الله كل حاجة هتتحل
_ إن شاء الله يابن الغالي ، يلا اطلعلها واتكلم معاها
استقام فورًا وهو يوميء له بالأيجاب ، وسرعان ما انصرف وصعد الدرج يقود خطواته في اتجاه غرفتها ، وقف أمام الباب واستنشق شهيقًا طويل وأخرجه زفيرًا متهملًا ثم طرق الباب وفتحه ببطء ودخل ليقف ويلقى نظرة إمعان عليها وهي تقف أمام المرآة وتمسك بفرشاة للشعر تغلغلها بين خصلات شعرها الحريري برفق من أعلى وتنزل بها لأسفل خصلاتها ، وحين رأت انعكاس صورته في المرآة فتوقفت عن التسريح ونظرت له مطولة من المرآة في قوة ثم عادت تكمل التسريح وهتفت بصلابة :
_ اتمنى تكون جاي ومعاك اوراق الطلاق وإلا ملهاش لزمة جيتك
تنهد بيأس والتفت نصف التفاتة للخلف ليغلق الباب ثم تحرك نحوها بخطوات ثابتة وتوقف خلفها مباشرة يتطلع للمرآة التي تعكس وجهها إليه ويهمس :
_ أنا آسف !!!
خرجت منها ضحكة ساخرة على اعتذاره السخيف ، الذي لن يفيدها بشيء .. استدارت بجسدها كاملًا إليه وحملقت به في جفاء متمتمة بنبرة نجحت في أن توهمه من خلالها أنها لم تعد تعشقه :
_ للأسف جات متأخرة .. ياريتك كنت قولتها قبل ما انزل الولد .. آسف !! ، كلمة سخيفة وملهاش أي ستين لزمة زي حجات كتيرة في حياتي أولهم إنت
لم يعقب على جفائها وتقبله بدون اعتراض ، وتحدث بنبرة غير مصدقة :
_ دلوقتي بقيت مليش لزمة !
_ جاي ليه ياحسن ؟!
كان سؤال مباشر وواضح لا يحتاج لشرح تفاصيل وجهها وهي تقوله ، أما هو فأجابها بدون أي مقدمات وبعبوس :
_ جاي عشان اعتذرلك واخليكي ترجعي معايا البيت
سكنت للحظات تحدقه والصمت سيد الموقف حتى ابتسمت بمرارة وتجمعت الدموع في عيناها وهي تجيبه بشيء ليس له علاقة بما قاله :
_ فاكر لما قولتلك إني بتمني اكرهك وإنه في يوم من الأيام هكرهك فعلًا وابارلك على الفوز .. أنا دلوقتي اقدر اقولك مبروووك إنت اللي كسبت في اللعبة ونجحت إنك تخليني اكرهك ولأول مرة في حياتي احس إني مش عايزاك ولا عايزة اعيش معاك زي ماكنت بتمنى
لسانها ينطق بالكره وعيناها تتحدث بالعشق !! ، وهو ليس أحمقًا ليجهل عن قراءة عيناها التي تنظر له بشوق وكأنها تخبره بأنه تود معانقته وأنها تعشقه ولا تريد الافتراق عنه ولكن ما فعله يمنعها عن العودة من جديد .
تحرك خطوة للأمام وهمس وهو لا يفصله عنها شيء يحاول التماس العذر منها بنظراته :
_ طيب ممكن تتراجعي عن الطلاق ده وصدقيني أنا ندمان جدًا على اللي عملته وإني خليتك تنزليه وعايز اصلح غلطي على الأقل في الأول وبعدين نتطلق
حجة مختلفة اخترعها ليوهمها بأنه ينوي الانفصال عنها وحتى تعود معه لمنزلهم ولكنها لم تصدق اعتذاره ولا حتى ندمه وأنه يود تصحيح خطأ !! ، وأساسًا أي خطأ سيتوجب عليه تصحيحه أولًا هل اهانته المستمرة لها أم جفائه ، أو ربما يريد تصحيح صفعته لها وإجبارها على اجهاض طفلهم .
هتفت بحزن دفين وتذمر :
_ كفاية ياحسن متمثلش عليا إنك مهتم بيا ومتمسك بيا أوي لإنك عمرك ماحبيتني ولا هتحبني ، إنت حاسس بالذنب تجاه ابنك اللي كنت السبب في قتله وبتحاول تراضي ضميرك بالطريقة دي ، بس أنا مش هتراجع وهتطلقني
_ مش هطلقك يايسر أنا مش عايز اطلقك !!
قالها بشيء من الانفعال لتصيح به وهي تلكمه على صدره بعنف :
_ قولتلك متمثلش عليا دور الندمان ، أنا مهمكش في حاجة أساسًا .. وإنت واحد لا يطاق ومبتعرفش تحب حد .. أنا متخلتش عنك أو عن حبي ليك للحظة وكان دايمًا عندي أمل ومصممة إني هحصل على قلبك بس اكتشفت إنك معندكش قلب عشان تحبني بيه أصلًا ، أنا بكرهك ياحسن .. بكرهك وبكره اليوم اللي حبيتك فيه
توقفت عن لكمه على صدره ومدت اناملها لوجنتيها تجفف دموعها التي انسابت بحرارة على وجنتيها وأكملت بصوت مبحوح دون أن تنظر لوجهه :
_ طلقني حالًا وامشي ، طلقني وخليني ارتاح من الغلط اللي غلطته لما اتجوزتك
كالصنم يحملق بها دون أن يتكلم يتابع انفعالاتها ودموعها ويستمع لبحة صوته ، وقد بغض نفسه كثيرًا لأنه اوصلها لهذه الحالة ، ارتفع بها للسماء حين تزوجها وتركها الآن من القمة لتسقط من ارتفاع أمات الكثير في قلبها .
وجدها تعاود الصراخ به وهي تلح عليه بأن ينطقها :
_ بقولك طلقني إنت مبتفهمش .. طلقني واطلع من حياتي مش عايزاك تكون فيها بعد كدا
ضغطت عليه بشدة بكلماتها وبدون وعي أو ادراك لما ستسبب له هذه الكلمة من الآم فيما بعد قال بصعوبة وكأن الكلمة لا تريد الخروج و هو شبه مغيب عن الواقع :
_ إنتي طالق !
نطقها !! ، لم يخذلها حين توقعت بأنه سيمثل أمامها التمسك والاهتمام وبمجرد ما أن ضغطت عليه نطقها بسهولة من بين شفتيه ! .. جلست على فراشها بعد رحيله تحدق في اللاشيء أمامها وهي تبدأ في استيعاب أنها لم تعد زوجته ، تمنع نفسها بصعوبة وتمسك على محابس عيونها حتى لا ينفجروا .. فتحت أمها الباب ودخلت لتقترب منها وتجلس بجوارها هاتفة :
_ ليه يايسر .. ليه يابنتي
نظرت لأمها وصاحت بصوت يغلبه البكاء :
_ عمره ماحبني .. والدليل إنه محاولش يصالحني حتى لقيني بطلب منه يطلقني وطلقني من غير تفكير ولا حتى يحاول معايا مرة واتنين وتلاتة يثبتلي إنه فعلًا زي مابيقول ندمان
احست أمها بأنها ترغب في البكاء وتكتمه في نفسها فيخنقها أكثر .. لفت ذراعها حول كتفيها وضمتها لصدرها متمتمة بألم على نفس ابنتها الموجوعة وهي توافقها الرأى :
_ عندك حق أنا برضوا كنت متوقعة إنه هيتمسك بيكي اكتر من كدا .. متزعليش نفسك ياحبيبتي هو ميستاهلكيش إنتي تستاهلي واحد احسن منه يحبك ويحافظ عليكي
انخرطت في نوبة بكاء عنيفة وهي متشبثة بملابس أمها وتهتف من بين بكائها بصدق حقيقي :
_ لسا بحبه ياماما مش عارفة اكرهوا للأسف
أخذت أمها تملس على شعرها بلطف في محاولة منها لتهدئتها وقد بدأت دموعها تسقط هي الأخرى على وجنتيها حزنًا على ابنتها ! ……
أما بالأسفل كان حسن مندفعًا نحو الخارج ليستقل بسيارته محاولًا الهرب من كل شيء حتى من حديثه مع عمه ولكنه سمعه يصيح مناديًا عليه ، فتوقف مكانه وأخذ نفسًا عميقًا ثم التفت بجسده له ليجده يقترب منه ويهتف في حدة وصرامة :
_ طلقتها !!
_ مقدرتش ياعمي اشوف نظرات الاستحقار والكره في عينها اكتر ، يسر فعلًا كرهتني ومبقتش عايزاني خلاص
طاهر بنبرة رجولية خشنة وهو يقف بهيئته الخمسينية التي كلها وقار :
_ أنا اديتك فرصة عشان تصلح غلطك معاها وتعتذر منها .. بس من الواضح إن إنت اللي مش باقي على مراتك .. أنت ابن أخويا وابني بس هي كمان بنتي ومش هقبل اشوفها حزينة ومهمومة بالشكل ده ، بما إنك رميت يمين الطلاق عليها خلاص ابدأ في اجراءات الطلاق النهائية من النهردا
اجفل نظره أرضًا وهتف بموافقة وخضوع لأوامر عمه :
_ حاضر
ظل طاهر بمكانه صامدًا يتابعه وهو يبعتد عنه ويستقل بسيارته ثم ينطلق بها كالبرق !! ……..
***
سمعت صوت الباب وهو يدور المفتاح في القفل فاعتدلت في جلستها فورًا وهي تستعد لأي مقابلة من أي شخص حتى لو كان ” علاء ” ولكن حين انفتح ظهرت من خلفه رفيف وهي تحمل على يديها الطعام واغلقت الباب خلفها بقدمها ، ثم قادت خطواتها نحوها ووضعت الصينية على الفراش أمامها .. جلست على الحافة في مقابلتها تمامًا وطالعتها بإشفاق ، عيناها متورمة من كثرة البكاء ووجهها منطفيء وبائس .
رفيف برفق :
_ كلي ياميار
هزت رأسها بالنفي وقالت في صوت يكاد لا يسمع :
_ مليش نفس يارفيف
زفرت رفيف بشيء من الخنق على فعلتها الشنيعة والقبيحة وقالت معاتبة إياها بقسوة امتزجت ببعض اللين :
_ عملتي في نفسك كدا ليه ؟! .. إنتي جميلة جدًا وألف من يتمناكي ، ليه رخصتي نفسك بالشكل ده
_ الموضوع مش زي ما انتوا فاهمين يارفيف .. صدقيني أنا مظلومة ومعرفش الصور دي وصلت ازاي اصلا
_ مش مشكلتنا دلوقتي الصور وصلت إزاي أنا بتكلم علي اللي في الصور ياميار .. احمدي ربك إن ربنا سترها ومحصلش حمل
قالتها رفيف باندفاع بسيط لتجدها تهتف مسرعة مصححة معتقداتها :
_ Nein ( لا ) .. محصلتش حاجة بينا غير اللي في الصور بس
ضيقت عيناها بذهول وقالت تستوضح كلامها أكثر بشيء من الحياء في أن تتكلم بشيء كهذا :
_ قصدك يعني أن محصلش و…. يعني هو ملمسكيش أكتر من اللي في الصور
اماءت له بالإيجاب وقد انسابت دموعها على وجنتها فقالت رفيف بحيرة :
_ ومقولتيش ياعمو وتيتا ليه الكلام ده
_ قولتلها ومصدقتنيش يارفيف وقالتلي كلام قاسي جدًا أول مرة اسمعه من نينا ، وقالتلي هتجوز علاء غصب عني .. أنا مش عايزة اتجوزه ساعديني يارفيف
ضمت كف يدها بين كفها وقالت بنظرات دافئة :
_ صدقيني علاء مش وحش .. بالعكس هو طيب وحنين أوي ، هو بس ماخد صفة العصبية زي بقية العيلة
_ أنا ميهمنيش إذا كان طيب أو لا أنا مش عايزاه ، ليه يجبروني !!
رفيف ببعض الحزم :
_ عشان انتي غلطتي ياميار وهو ده عقابك .. اقبلي بالعقاب واستحملي الفترة اللي هتتجوزيه فيها
ثم استقامت واقفة وقالت بعجالة من أمرها :
_ أنا همشي عشان ورايا شغل .. وافطري هااا
اكتفت بنظرتها المهمومة فقابلتها رفيف بتنهيدة مغلوبة وتحركت نحو الباب لتنصرف وتتركها حبيسة غرفتها من جديد …….
***
يتحدث في الهاتف بجدية شديدة وشيء من الحدة ولم يلاحظها عندما خرجت من الحمام بعد أن أخذت حمامًا صباحي .. اتجهت هي إلى المرآة وبدأت في تجفيف شعرها بالآلة الكهربائية .. لتراه يشير لها بيده دون أن يتطلع إليها أن تغلق الآلة التي تصدر صوت مرتفع وتشوش على سمعه ، ففعلت امتثالًا لأمره وأخذت تتابعه وهو يتحدث في الهاتف وكان يبدو أن محور حديثه عن شيء خاص بالعمل وحين انتهى من المكالمة الهاتفية عادت هي تعيد تشغيل الآلة وتكمل تجفيف شعرها ! .
مسح زين على وجهه مصدرًا زفيرًا مختنقًا من أمور العمل التي لا تنتهي ، حرك رأسه ناحيتها وأمعن النظر بها بإعجاب امتزج بدهشته .. كانت ترتدي بنطال رياضي مطاطي يصل ألى عضلة الساق وتيشيرت ضيق قليلًا .. لأول مرة يراها ترتدي هكذا أمامه ولكن يجب عليه الاعتراف أنها اعجبته بشدة ! ، استمرت هي في تجفيف شعرها غير منتبهة له وهو يحدق بها بتركيز شديد يتفحصها بتدقيق وكأنه يحفظ تفاصيلها .
حركت رأسها بتلقائية نحوه بشيء من العفوية وتجمدت حين رأت نظرته لها ، وازدردت ريقها باستحياء بسيط وقالت محاولة الثبات :
_ زين !!
أجابها بكامل الهدوء :
_ اممم ، نعم !
ضيقت عيناها باستغراب من رده .. ثم عادت ترسم علامات التساؤل على محياها وهي تسأله بابتسامة مرتبكة :
_ في إيه ؟!
فهم ماتقصده بسؤالها وفكر بأن يتصنع عدم الفهم حيث قطب حاجبه وتمتم يعيد نفس سؤالها ببلاهة :
_ في إيه !!!
ضحكت بخفة وقالت بنعومة باسمة :
_ أنا اللي بسألك على فكرة !!
مالت شفتيه للجانب قليلًا وهتف بمكر لمسته في نبرته بصعوبة بعد أن أشاح بوجهه عنها :
_ أهاا إنتي قصدك على الـ …. ، لا مفيش حاجة بتفرج مش اكتر
ابعدت نظرها عنه مانعة شفتيها من أن تفتر عن ابتسامة خجلة وفكرت بأن تغير مجرى حديثهم حتى تنهي هذه الوضع المحرج .
ملاذ بنبرة مهتمة :
_ ميار هتتجوز علاء النهردا !
اختفت ابتسامته وحل محلها الضجر و
فأجابها بشيء من العصبية :
_ متفكرنيش بيها ، أنا كل ما بفتكر اللي حصل بتعفرت .. العيب مش عليها ، العيب على جدتي اللي سابتلها السايب في السايب .. أنا هروح احضر كتب الكتاب بليل بالعافية عند عمي
تنهدت بأسى وتحركت نحوه حتى جلست بجواره تمامًا وتمتمت بإشفاق :
_ رغم إني مكنتش بطيقها ولا بحبها بس اشفقت عليها بجد ، هي ضيعت نفسها باللي عملته ده .. ربنا يهديها وتعرف غلطها وتتوب
_ ده مش غلط عادي ياملاذ ، ده ذنب عظيم وكبير ربنا يغفرلها وتتوب قبل فوات الآوان
ضمت كفه بين كفيها لتهدأ من روعه وقالت بحنو ونظرة دافئة :
_ عارفة وأنا عشان كدا بدعيلها ربنا يهديها وترجع لربها وتطلب منه المغفرة ، متعصبش نفسك وهي هتتجوز وأنا حاسة إن ابن عمك ده هيعاقبها على غلطها كويس أوي
نزع ابنة عمه من ذهنه حتى لا يعكر صفوه أكثر من ذلك ، هو أساسًا غاضب منذ ليلة أمس ! .. تأفف بنفاذ صبر وهدأت نفسه المستاءة حين نظر ليدها التي تختضن كفه واقترابها الحميمي منه فعصفت في رأسه فورًا آخر مرة اقتربت منه بهذا القدر ماذا حدث .. فقد السيطرة على نفسه وكان سيقبلها ، ولكنه رفض أفكاره التي تدور في عقله الآن فهو لا يريد الاستعجال في شيء كهذا وسيتمهل قليلًا ، وحين تحين اللحظة سيكشف هو عن ضروبه المختلفة من العشق الكامنة في اعماقه !! .
سحب يده من بين يديها بهدوء وقال بنبرة جادة :
_ أنا مسافر بكرا !
ملاذ بدهشة :
_ مسافر فين ؟!!
_ خطوبة واحد من الأصدقاء وهتكون في مرسى مطروح ، أنا مكنتش هروح لإني مبحبش جو الأفراح والاغاني والكلام ده بس هو أصر اروح ولو مروحتش هيزعل مني فأنا مضطر اروح ، هباركله وارجع في نفس اليوم
عقدت ذراعيها في خصرها وقالت بتذمر وغيظ :
_ وعايز تروح مرسى من غيري !!
ابتسم باستنكار غمغم يوضح لها ببساطة أشد :
_ هرجع في نفس اليوم ياملاذ أنا مش رايح اتفسح ، أنا أساسًا معايا شغل
تشدقت بنبرة حماسية وسرعان ما ارتفعت ابتسامتها لشفتيها :
_ لا ماهو أنا هروح معاك وناخد يومين هناك نتفسح ، إيه رأيك ؟!
_ إنتي سمعتي آخر حاجة قولتها !!
لم تهتم لما يقوله ، فلا يهمها لديه عمل أو ماشابه ، الأهم أن تذهب معه في نزهة جميلة لأول مرة ، حيث قالت وهي تنكزه في كتفه بمشاكسة قائلة :
_ متبقاش كئيب بقى يازين ، لو على الشغل فحسن وكرم موجودين مفهاش حاجة لما تريح دماغك شوية من ضغط الشغل ، بليز خدني معاك ومش هتندم صدقني ده أنا هفرفشك آخر فرفشة والله
لمعت في عقله فورًا الأفكار المنحرفة كأغلبية الرجال حيث أجابها مبتسمًا بلؤم :
_ هتفرفشيني إزاي يعني !!
لم تلاحظ نظرته اللئيمة من فرط حماسه حيث أكملت مشاكستها وهي تهتف :
_ ليا طرقي وأنا فرفوشة أوي عندما يتطلب الأمر فرفشة وضحك وهزار ببقى عسل أوي هعجبك يعني
استرسلت حديثها تترجاه بإلحاح شديد :
_ بليز وافق هو يومين بس .. بليز !
حدقها بصمت مبتسمًا كدليل على موافقته فأغارت عليه تقبله من وجنته قبلة طويلة وقوية بعض الشيء ، ليمسك هو بكلتا كتفيها ويبعدها عنه بكامل اللطف وهو يبتسم محاولًا إخفاء ما في نفسه التي تلح عليه بعنف لتنفيذ ما يجول بعقله منذ أيام ، ثم نهض وانصرف وتركها تهز كتفيها وجسدها برقص من فرط تشويقها وفرحتها !! .
***
كانت رفيف على إحدى طاولات المطعم في الهواء الطلق تأخذ استراحة صغيرة من العمل وبيدها كوب القهوة خاصتها وتتفحص هاتفها باستمتاع على أحد وسائل التواصل الاجتماعي ( الفيس بوك ) وبين كل دقيقة والأخرى يمر عليها شيء فتضحك بصوت منخفض حتى لا يصل صوتها لأحد العمال ، وبينما هي مندمجة مع هاتفها وجدت إسلام يجلس أمامها وهو أيضًا بيده القهوة خاصته ويقول بكامل اللطف :
_ حمدلله على سلامتك
رفعت نظرها له وتركت الهاتف من يدها لتجيبه بإحراج بسيط :
_ الله يسلمك
_ بقيتي كويسة دلوقتي ؟!
_ آه الحمدلله هو كان دور برد شديد شوية والحمدلله بقيت احسن بكتير دلوقتي
ردد خلفها ” الحمدلله ” في ابتسامة صافية ثم بدأ يرتشف من فنجان القهوة خاصته وهو يتابع حركات العمال وتارة يشير لأحدهم بحدة بأن يقوم بهذا العمل بطريقة معينة وبدقة حتى لا يفسده ، وهي تحاول أن لا تختلس النظر إليها ولكن عيناها ترفض الخضوع ، فهو لديه شعر أسود جميل وناعم بقصة رجالية رائعة وعينان بندقتين مع بشرة قمحية مغرية ولحية حفيفة ، وقسمات وجه تنضج بالقوة والرجولة ، وحاجبيه الكثيفان يعطياه لمسة رجولية كلها جمال ! .
اجفلت نظرها عنه بصعوبة وهي تلعن نفسها الحمقاء وتحاول الانشغال بهاتفها حتى تصرف نظرها عنه ، وبعد دقيقتين بالضبط سمعته يقول بخفوت :
_ ممكن اسألك سؤال ؟!
من فرط توترها لم ترفع نظرها عن الهاتف حتى وقالت بنبرة عادية فبدت له غير مكترثة :
_ اتفضل
سكت لبرهة يحدق بها وبطريقتها التي ردت بها ثم سألها بترقب :
_ هو إنتي كنتي عارفة إن أنا المهندس اللي هشتغل معاكي
” لماذا تصر على إيقاعي في شباكك ، توقف أرجوك فأنا عقدت وعد مع نفسي ومع أخي بأني سألتزم حدودي مع أي رجل ” قالت هكذا لنفسها لتسمع الرد من عقلها وهو يجيب عليها منزعجًا ” ومازالتي عند وعدك هل هو تخطى حدوده لأنه سألك سؤالًا بسيطًا ليس بس أي شيء خطأ ، هو فقط يتحدث معك في حدود العمل !! ” .
انتشلها من صراعها الداخلي صوته وهو يهتف باستغراب :
_ رفــيــف !!
انتفضت وابعدت عيناها عن الهاتف لتثبتها عليه وتقول باعتذار وحياء :
_ آسفة بس سرحت في حاجة في الفون وركزت فيها .. إنت كنت بتقول إيه معلش ؟
حدجها بريبة حقيقة ونظرة كانت قوية بعض الشيء ثم عاد يطرح سؤاله عليها بجدية :
_ كنت بقولك إنتي كنتي عارفة إن أنا المهندش اللي هشتغل معاكي ولا لا ؟
ردت بارتباك ملحوظ وهي تبتسم :
_ الحقيقة لا هو زين فاجئني مرة واحدة أساسًا بموضوع الإدارة تبع المطعم ده ولما عرفت إن إنت المهندس اندهشت جدًا
_ لـيـه ؟!
قالها بنوع من الفضول فتجيب هي بارتباك أشد حين سألها عن السبب ، وتذكرت بأن سبب دهشتها هي أنها ستعمل معه ! ، ولكنها بالطبع لم تخبره بهذا وستخترع سبب ! :
_ أصل الصراحة أنا مكنتش أعرف إن إنت مهندس نهائيًا ولا حتى ملاذ جابتلي سيرة عن كدا .. وإنت كنت تعرف ولا لا إن أنا هكون المديرة ؟
هز رأسه بالإيجاب وقال باسمًا :
_ أكيد .. زين من فترة كنا أنا وهو بنتكلم في موضوع المطعم والتعديلات اللي لازم تتعمل وقالي إنك هتمسكي الإدارة وهتكوني معايا في الشغل
_ آهاا على سيرة الإدارة فكرتني أقولك مبروك .. زين قالي امبارح إنه اداك الإدارة معايا يعني بقينا شركاء
قال ببساطة وهدوء :
_ أنا كنت متفق معاه من البداية إني هعمل التعديلات في المطعم بس لأنه فاتحني في الأول على موضوع يخليني أنا المدير ورفضت ولما رفضت مسكها ليكي ودلوقتي برضوا نفذ اللي في دماغه واجبرني للأسف
ضحكت بخفة وقالت بإيجاب ومرح :
_ أيوة زين عنيد ومحدش بيقدر يعانده .. هو واثق فيك وعارف إنك قدها وهتحافظ على المطعم ، ثم إني عارفة السبب الحقيقي اللي خلاه يعمل كدا !
_ إيه هو ؟!
_ أنا فاهمة تفكير زين أوي ، هو تلاقيه فكر إني لسا حتى متخرجتش ومعنديش خبرة كفاية وخاف أعمل حاجة غلط وعشان هو مش عايز يشغل دماغه بحاجتين زي ما قولت الشركة والمطعم فخلاك شريك معايا عشان عارف إنك هتفهم اكتر منى
غمغم بابتسامة عذبة ونبرة رخيمة :
_ ممكن يكون فكر كدا فعلًا ، بس أنا موجود أهو وهنظبط كل حاجة بإذن الله ، ومتقلقيش حتى لو معندكيش خبرة دلوقتي مع الوقت هتكتسبي الخبرة أكيد
هزت رأسها توميء على كلامه بالتأييد وهي تطالعه بابتسامة رقيقة ثم اخفضت نظرها لهاتفها مجددًا تعبث به بعشوائية ، وهو عاد يتابع حركات العمال ومن بين آن وآن يلقى نظرة سريعة عليها !! .
***
ترجلت من السيارة مدخل المقابر وانتظرته حتى نزل هو أيضًا والتف ناحيتها ليراها متصلبة تحدق أمامها بأعين تائهة وحزينة لتسمعه يهمس باحتجاج :
_ عرفتي ليه مكنتش عايز أجيبك
نظرت له وقالت بنفس نظرتها التائهة :
_ حلمت بيه امبارح ياكرم هو وماما
تنهد بعمق ثم شبك كفه بكفها وسار معها ناحية غرفة معينة والتي تضم قبر شقيقها وأمها .. صعدوا درجتين من السلالم ثم فتح هو الباب ودخل أولًا وتليه هي .. كانوا القربين بجانب بعضهم وبينهم مسافة تكفى لعبور شخص فوقفت ورفعت يدها تبدأ في قراءة سورة الفاتحة وكذلك هو الذي كان يقف خلفها وحين انتهت مدت يدها في حقيبتها الصغيرة تخرج مصحف صغير نسبيًا وتبدأ في قراءة سورة ( يس ) بصوت مسموع .. مرت دقائق قصيرة وبدأت بحة صوتها ترتفع كإشارة على انفجارها في البكاء ، فتمالكت نفسها بصعوبة حتى انتهت من القراءة ثم وضعت المصحف في حقيبتها من جديد ودفنت وجهها بين كفيها تاركة لدموعها العنان ، فانهارت باكية بنشيج مرتفع وصل لأذنيه ، ليتنهد هو بعدم حيلة ويقترب منها ثم يلف ذراعه حول كتفيها ويضمها لصدره متمتمًا بضيق :
_ خلاص ياشفق متخلنيش اندم إني جبتك
اجهشت في بكاء حار وهي تهتف بصوت متحشرج :
_ آخر مرة جيت هنا .. كان قبر سيف بس اللي موجود دلوقتي بقى هو وماما ، اتحرمت منهم هما الأتنين مرة واحدة وفي لحظة
لم يجيبها فقط كان يستمع لحديثها ويتركها تفرغ مافي نفسها كله له ولكن بكائها لم يهدأ ، فقال بخفوت وحنو :
_ طيب مش كفاية بقى ولا إيه .. يلا بينا
ابتعدت عنه وجففت دموعها وهي توميء له بالإيجاب فسبقها هو للخارج وانتظر حتى خرجت واغلق الباب ثم ساروا عائدين إلى السيارة .
حرك المحرك وقبل أن ينطلق نظر لها وقال بلطف وشيء من الحماسة :
_ إيه رأيك نروح نفطر برا النهردا ؟!
تفهم جيدًا أنه يفعل ذلك حتى يخرجها من حالة كآبتها وحزنها ، هو بالفعل فريد في كل شيء وليس له مثيل في الرقة والحنو ، باتت لا تحتمل لطافته التي تذيب قلبها أكثر وأكثر ! .
كان صمتها بالنسبة له دليل على موافقتها فانطلق بالسيارة قاصدًا أحد المطاعم الفاخرة .
***
توقفت السيارة وترجل هو أولًا ثم هي ، واستحوذ الإعجاب عليها للحظات وهي تحدق بذلك المطعم الفاخر والجميل ثم التقت عيناها بعيناه وحدجته بابتسامة واسعة تعبر عن سعادتها .. أشار لها بيده أن تلتف ناحيته ففعلت على الفور وسارت بجواره وبمجرد دخولهم رأت مالك المطعم يتجه نحوهم ويرحب بهم ترحيبًا حارًا وبالأخص بزوجها وآشار لأحد النادلين بأن يدلهم على طاولتهم .
سحبت المقعد للوراء وجلست أمامه هاتفة بفضول حقيقي :
_ هو إنت بتاجي هنا علطول ولا إيه
_ مش أنا بس دي عيلة العمايري كلها بتاجي هنا .. ده يعتبر مطعم العائلة المفضل
قالت وهي تتجول بنظرها في ارجاء المطعم وتقول بإعجاب شديد :
_ آهااا بس جميل جدًا
_ امممم فعلًا .. اطلبي حاجة يلا من المنيو
مدت قائمة الطعام أمامه على الطاولة واستندت بمرفقها على سطح الطاولة ووضعت كفها أسفل وجنتها هاتفة في نظرة كانت تطلق قلوب صغيرة من خلالها مع ابتسامتها العريضة التي اظهرت عن اسنانها ناصعة البياض :
_ اختارلي إنت على زوقك !
نظرتها الجمت لسانها وقيدته فلم تسفعه الكلمات في ذهنه للرد عليها ، فقط حدق بها مبتسمًا ببساطة شديدة ثم اخفض نظره وأخذ يتفحص قائمة الطعام لدقائق قليلة وهي تارة تنظر له وتارة تتابع الناس وحركاتهم .. رأته يشير للنادل بيده أن يأتي وأشار له على القائمة بأصبعه على عدة أشياء ثم أخذ النادل القائمة وهو يوميء له بالإيجاب وانصرف ، فالقى هو نظرة عليها وقال بترقب :
_ مش عايزة تعرفي طلبتلك إيه ؟!!
قالت نافية بنظرة لا تختلف عن سابقتها :
_ تؤتؤ أكيد هيبقى حلو !
هز رأسه بإماءة خفيفة محاولًا عدم ثتبيت نظره عليها وعلى نظرتها الرائعة له ، وساد الصمت بينهم لدقائق حتى اخترقته هي تسأله بجدية هذه المرة ونبرة لا تحمل المزح :
_ إنت ناوي تعمل فيه إيه تاني ياكرم ؟!
فهم المقصود من حديثها وتصنع عدم الفهم وتمتم :
_ مين ده ؟
_ إنت عارف أنا قصدي على مين !
قالتها بشيء من الانزعاج ليصدر زفيرًا متهملًا ويقول ببساطة :
_ أنا لسا مطفيتش ناري ومش هتتطفي إلا لما يموت
تأففت مستغفرة ربها بصوت مسموع وتشدقت باندفاع :
_ كفاية ياكرم .. كفاية انا خايفة يأذيك بجد
هتف بشراسة ونظرة مريبة قليلًا :
_ بعد اللي عملته فيه ممكن ميمشيش على رجله تاني أصلًا ، ومش هيتجرأ لا يقربلك ولا يلعب معايا تاني عشان سعتها هقطع راسه
كلامه ونظرته جعلتها تبتسم بذهول وتقول بعدم تصديق واستيعاب :
_ أنا مش مصدقة إن إنت كرم اللي اعرفه والله ، ده إنت طلعت جــبــــار أوي !!!
بادلها الابتسامة وفي لحظة اختفت نظرته وحلت محلها نظرة هادئة وهو يجيبها بتأكيد على كلامها :
_ للأسف دي حقيقة مؤلمة عني !
افترت عن ابتسامة عريضة وهمهمت بمشاكسة ورقة :
_ بس برضوا هتفضل بنسبالي الكوكو بتاعي !!
_ نعم !!!!!!
قالها باندهاش حقيقي من تلقيبها له بهذا الاسم الغريب ، لتعيد هي عليه الاسم بضحك :
_ الكوكو بتاعي !
اشار لنفسه بذهول متمتمًا بنبرة رجولية خشنة :
_ أنا كوكو !!!!
_ آه .. طاب والله لايق عليك جدًا تعرف كدا !
طالت نظرته المنذهلة إليها ، وإذا بها تجده يضحك باستنكار وسخرية ثم انحني قليلًا للأمام نحوها برأسه وهمس في اغتياظ يحاول اخفائه بابتسامته المزيفة :
_ لا مش لايق ومتقولهوش تاني عشان أنا ماسك نفسي بالعافية !
قربت هي الأخرى رأسها منه وهتفت بتحدي وهي تضحك :
_ هــقــولـه !!
صر على أسنانه كدليل على أن غيظه وصل لذروته فتراجعت هي لوضعها الطبيعي وكتمت ضحكتها التي كادت تنطلق من بين شفتيها بقوة على منظره ، ليرمقها وهو يلوى فمه بقرف !!! .
***
انتهت ميار من ارتداء ملابسها ثم رفعت نظرها إلى ساعة الحائط وكانت الساعة قد تخطت التاسعة مساءًا ، مدت يدها وجففت دموعها بظهر كفها في حرقة وهي تنظر لنفسها في المرآة ولملابسها الجديدة تمامًا عليها ، ترتدي رداء طويل وفضفاض بأكمام طويلة وتلف الحجاب فوق شعرها .. ارغموها على ارتداء الحجاب كما أجبرت على الزواج من رجل لا تريده ، ولكن ليس بوسعها شيء فجميع العائلة تجمعت ضدها واجتمعوا جميعهم على تزويجها من ” علاء” حتى جدتها !! .
سكنت تمامًا على مقعدها وهي تحدق أمامها بفراغ ، تفكر بمصيرها كيف سيكون مع ابن عمها الذي يبدو أنه رجل قاسٍ القلب وسيذيقها العذاب ألوان وأصناف .. وبينما تبحر في عالم احزانها سمعت صوت الباب يفتح فوثبت واقفة ظنًا منها أنه هو وجاء لأخذها حتى ينتهوا من مراسم الزواج ، ولكنه لم يكن هو بل كانت الجدة .. دخلت وحدقتها بأعين غاضبة ومنفرة وهي تقول له بحدة :
_ يلا عشان المآذون تحت والكل مستنى
اسرعت إليها وقبضت على كفها تقبله وهي تتوسلها ببكاء عنيف :
_ يانينا please متخلهمش يجوزوني منه أنا مش عايزاه .. ده هيعذبني !
سحبت الجدة كفها من بين بيديها بنفور وصاحت بها في جفاء :
_ غصب عنك هتتجوزيه .. بعد الفضيحة اللي عملتيها ، بقى هو ده جزاة تربيتي وثقتي فيكي ، تعملي كدا وتخلي راسي في الأرض ، من اللحظة دي انتي لا حفيدتي ولا اعرفك فاهمة ولا لا
عانقتها رغمٌا عنها وهي تتشبث بها ومنخرطة في نوبة بكاء قوية وقالت بصوت متقطع من شدة بكائها :
_ لا يانينا متقوليش كدا ارجوكي أنا مليش غيرك .. Please سامحيني
ابعدتها عنها في قسوة بعد أن احست بأن قلبها بدأ يلين لبكائها وحالتها المزرية .. فهي صغيرتها التي ربتها منذ قدومها على الحياة بعدما توفت والدتها فور ولادتها لها بسبب بعض المشاكل الصحية التي كانت تعاني منها .
صاحت بها بصرامة وعدم شفقة :
_ يلا اطلعي قدامي على تحت خلينا نخلص
وجدت بأن لا فائدة من محاول طلب العفو منها وأن توقف هذه الزيجة التي لا تريدها ، فتحاملت على قلبها الذي ينزف وسارت في المقدمة ناحية الدرج وهي تجفف دموعها وخلفها الجدة تسير على ثقل من ألم قلبها على حفيدتها التي وضعت خطوط قدرها بيدها .. نزلت آخر درجة من الدرج وهي تحدق بوجوه الجميع التي كانت لا تبتسم فقط واجمة باستنثاء علاء الذي كانت عيناه تخرج شرارات مرعبة لها فأجفلت نظرها عنه في خوف وتحركت ناحية الطاولة تتخذ لها مقعدًا بجانب عمها وعلاء لا يكف عن اطلاق النظرات المريبة لها ، وقع نظرها بالأخير على أبناء عمها “محمد ” الثلاثة الذين كانوا يجلسون في أماكن متفرقة وبحثت بعيناها عن زين حتى وقع نظرها عليه فرأته جالسًا على مقعد وثير عاقدًا ذراعيه أمام صدره ويتطلع إلى عمه والباقية بأعين ساخطة كل السخط وكأنه يخبر بهم الجميع في عدم رغبته بالوجود في عقد القرآن هذا !! .
انتبهت إلى المآذون وهو يبدأ في مراسم عقد القرآن وبعد دقائق طويلة نسبيًا سمعته وهو يهنئهم بانتهاء المراسم واعلانهم زوجة وزوجة على الطريقة الاسلامية والشرعية وعلى سنة الله ورسوله !! ……
***
_ كتبوا الكتاب وجايين دلوقتي !
قالتها أمها في اغتياظ لتجيبها يسر بنظرة مشتعلة :
_ أنا نفسي أفهم بابا بيعمل كدا ليه ، يعني هي الست ميار القذرة تغلط وعلاء يشيل الليلة
اقتربت أمها وجلست بجوارها هامسة بإشفاق وشجن :
_ أخوكي ليه يومين مش طايق أي حد يتكلم معاه بسبب إن ابوكي غاصبه يتجوزها وهو مش طايقها أساسًا
_ وهي ميار دي حد يطيقها أصلًا
قالتها يسر باستهزاء ، فهي تشتعل غيظًا على أخيها الذي أجبر على الزواج من تلك المنحطة وهو يبغضها ولا يريدها ، ولم تنسي محاولاتها للاقتراب من ” حسن ” أيضًا .. أكملت ساخرة :
_ الأول عملت علاقة مع واحد ومكفهاش ده لا وكانت بتلف على زين وعايزة تفرق بينه وبين مراته هي وتيتا وفي النهاية وقعت في علاء
هتفت الأم وهي تقنع نفسها بقصر هذا الزواج :
_ إيه اللي مصبرني إنه جواز مؤقت وبعدين هيطلقها
يسر بضحكة مستهزئة وباستياء :
_ دي حية وهتلف عليه وابنك اهبل وهينخ بسهولة ليها ، أسأليني أنا حفظاه
هزت رأسها بالنفي رافضة إدخال هذه الأفكار لعلقها وتهتف بنفي وضجر :
_ لا لا علاء مش عايزها .. ومستحيل اسمح إني ابني يكمل حياته مع واحدة زي دي
استندت يسر بكلتا كفيها على كتف أمها ووضعت ذقنها فوقهم مهمهمة بنبرة ماكرة :
_ سيبهالي أنا .. بنتك مش ساهلة برضوا
استقرت في عيني أمها ابتسامة تلمع بالخبث المماثل لها ، وقد اجتمعت الأم وابنتها على الكنة الخبيثة !! …..
***
عيناها ثابتة على التلفاز وعقلها بمكان آخر ، باتت الساعة الحادية عشر وهو لم يعد للمنزل حتى الآن ، وقد أخبرها بأنه لم يتأخر ، إلى أين ذهب ؟! .. ظلت الأفكار تتناطح في عقلها بعضها سيء وبعضها عاديًا ، ولم تنتهي تساؤلاتها وحلقة توقعاتها إلا حين بدأت تتثاوب بقوة وبدأ النعاس يصعد لعينها ، قاومته في البداية بشدة هاتفة لنفسها معنفة إياها :
_لا مش هنام أنا هستناه لغاية ما ياجي
ظلت تكرر هذه الجملة على مسامعها كثيرًا حتى لا تنعس ولكن جسدها المتراخي على الأريكة لما يساعدها على المقاومة فسرعان ما أغمضت عيناها مستسلمة لنعاسها .. ولم تفتح عيناها إلا بعد وقت طويل نسبيًا .. وثبت جالسة بفزع وهي تتلفت حولها برعب حين وجدت نفسها بغرفتهم وعلى الفراش والظلام يعم الغرفة كلها ، وسؤال واحد كان يتردد في ذهنها ” كيف أتيت لهنا ؟!! ” ، ظنت أنه جاء وحملها وادخلها الغرفة فصاحت منادية عليه في خوف وهي تمد يدها لتفتح الضوء :
_ كــــــــرم !!
انفتح الضوء وكانت الغرفة فارغة تمامًا منه فانزلت قدماها من على الفراش برعب ثم تحركت باتجاه الباب وفتحته ، وقبل أن تخطو خطوة واحدة خارج الغرفة .. القت نظرة متفحصة وهي تخرج رأسها فقط وعندما تأكدت من عدم وجود شيء خرجت بتردد وتحركت باحثة عنه في المنزل ولكن لا أثر له ، ولكنها تصلبت بأرضها كالصنم حين سمعت أصوات ضجة مختلفة من باب يؤدي إلى غرفة سفلية في المنزل ( البادروم ) ، وبعقلها الطفولي أول شيء اعتقدته أن هناك شبح بالمنزل ، فما تسمعه عن الأفلام الاجنبية التي تعرض دايمًا أن الطابق السفلي من المنزل يسكنه الأشباح ترك أثره فيها بهذه اللحظة ، فتراجعت للخلف بأعين مرتعدة ومرعوبة وصاحت باعلى صوت منادية عليه لعله يكون بأي ركن في المنزل وهي نسيت أن تبحث فيه :
_ كــــــــــــــــرم !!!!
استمع لصوتها الطفيف من الأسفل وهي تصيح منادية عليه ، ليثب واقفًا من على الأرض وقد ظن بأن مكروه أصابها .. هرول راكضًا وصعد درجات السلم الصغيرة وفتح الباب من الداخل وخرج ، وإذا بها تصدر صرخة مرتفعة من أثر هلعها حين رأته وانتفضت في أرضها نفضًا من الرعب !! .
فزع هو الآخر من هلعها العجيب واقترب منها هاتفًا بحيرة :
_ في إيه مالك ياشفق !!!
ضربته على صدره بخفة تعاتبه بنبرة مرتعدة ونظرة طفولية :
_ حرام عليك قلبي كان هيقف والله من الخضة والخوف
اخفت وجهها الصغير بكفها فركز في يدها ورآها ترتجف ليقطب حاجبيه بذهول وابعد كفها عن وجهها ممسكًا به بين كفه الكبير ويسألها باندهاش :
_ إنتي بتترعشي !! .. حصل إيه للخوف ده ؟
_ مش قادرة اوقف على رجلي بجد ياكرم !
اجلسها على أقرب مقعد منهم ثم اتجه للمطبخ وجلب كوب ماء وعاد لها يناولها إياه لتشربه عي دفعة واحدة ويدها الأخرى تضعها على قلبها الذي ينبض بقوة .. انزلت الكوب عن فمها وقالت بخنق :
_ ممكن لما تاجي تاني متأخر وتلاقيني نايمة تصحيني ومتقفلش عليا النور والباب
_ حاضر .. بس فهميني إيه اللي حصل ؟!
أخذت نفسًا عميقًا ولا زالت نبضات قلبها متسارعة وقالت وهي تسرد عليه لحظات خوفها الطفولية :
_ صحيت من النوم ولقيت الأوضة مفهاش منفس نور حتى والباب مقفول وأنا كنت نايمة قدام التلفزيون هنا فاتخضيت إني جيت هنا إزاي وقولت إن إنت جيت ولقيتني نايمة برا فودتني الأوضة ، فضلت انده عليك ومردتش عليا ولما طلعت دورت عليك ملقتكش برضوا بس سمعت اصوات جاية من البادروم وأنا أساسًا بخاف منها الأماكن دي ومن ساعة ما جيت البيت مقربتش منه ولا فكرت افتحه ولما سمعت اصوات منه افتكرت في عفاريت فاترعبت .. لأن دايمًا بسمع في الأفلام الرعب إن الباردوم ده بيبقى مسكون بالأشباح
انطلقت منه ضحكة مرتفعة على أفكارها الساذجة ، لتزم هي شفتيها للامام بتذمر طفولي وتقول غاضبة :
_ بتتريق عليا !!!
كتم ضحكته بصعوبة وقال وهو يحاول التحدث بجدية حتى لا يغضبها :
_ لا مش قصدي بس أشباح إيه دي اللي هتبقى في البيت ياشفق ، وبعدين واحدة زيك بتترعب بالشكل الفظيع ده بتتفرج على أفلام رعب أساسًا ليه ؟!!
اجفلت نظرها عنه وقالت باختناق واحتجاج :
_ بحب اتفرج عليه !
أصدر ضحكة رجولية متأججة مجددًا وسرعان ما كتمها عندما رأى نظرتها النارية والمغتاظة ، وإذا بها تمسك بكفه دون وعي من فرط غضبها وبعفوية شديدة غير مدركة لما تفعله وضعت كفه على قلبها أعلى صدرها تقول بسخط :
_ شايف قلبي بينبض إزاي عشان بتضحك وتتريق عليا !!
تجمد جسده وتلاشت ابتسامته تدريجيًا وازدرد ريقه باضطراب من لمسة يده لمنطقة خاصة كهذه من جسدها ، وسحب يده ببطء وإحراج ملحوظ جعلها تستعيد وعيها وتدرك فعلتها المتسرعة فلعنت نفسها واحمرت وجنتيها واصبحت كلون الدماء ، ولم تقوى على رفع عيناها في عيناه ، وبعد أن كانت نبضات قلبها قد بدأت تهدأ عادت تطرق بعنف أشد من السابق .. استقامت واقفة فجأة وقالت بصوت متلعثم :
_ أناااااا .. أنا رايحة الأوضة
وفي ظرف لحظة فرت من أمامه شبه راكضة إلى غرفتها وهي لا تكف عن توبيخ نفسها الحمقاء وتعنفها تعنيفًا شديدًا .. وبمجرد ما إن خلت بنفسها في الغرفة وأغلقت الباب هتفت بخجل شديد وغيظ :
_ غبية .. أنا مشفتش أغبي مني .. لا بجد مش معقول الغباء والتخلف ده كله ليا لوحدي !!
ارتجف جسدها فزعًا عندما سمعت طرق الباب وصوته وهو يهتف بنبرة بها شيء من الارتباك البسيط :
_ شفق أنا هطلع أجيب حاجة من برا وراجع
كلمة واحدة كان يجب عليها أن تجيبه بها ولكنها فرت من لسانها وتلعثمت كطفل يتعلم التكلم فخرجت الكلمة من بين شفتيها متلقلقة :
_ طـطـ ..طيب
رفع هو كفه لعنقه يفركه كدليل على توتره ثم اطلق زفيرًا حارًا واستدار وانصرف .. فهرولت هي ناحية الفراش والقت نفسها على وجهها وهو تردد :
_ أنا متخلفة ومش محترمة !
***
كان حسن يتحدث بالهاتف في حديقة المنزل وكان حديثه هادئًا تمامًا ليس به أي شيء من ضجر أو خنق وانهي المكالمة بجملته الأخيرة :
_ طيب يامسعد أنا هبقى اقول لكرم .. إنت خلي عينك عليه بس وإياك يفلت منك
_ حاصر ياحسن بيه متقلقش
أنزل الهاتف من على أذنه وهو يثبت نظره على أمه المندفعة نحوه كالسهم وعيناها لا تبشر بخير حتى معالم وجهها ، ولم يبذل جهد ليتساءل ويفكر فيما يغضبها لهذا الحد .. بالطبع علمت بأمر طلاقه وهو ويسر في صباح اليوم .. انتظر حتى وقفت أمامه وافرغت به شحنة غضبها وهي تقول :
_ طلقت يسر ياحسن !!!
أخذ شهيقًا طويلًا وأخرجه زفيرًا متمهلًا وهو يجيبها بعدم حيلة :
_ حاولت اعتذرلها ياماما واخليها ترجع معايا بس كانت مصممة على قرارها
صاحت هدى بعصبية من إهماله وعدم تحمله لمسئولية أي شيء :
_ وهي عشان طلبت منك الطلاق تطلقها فورًا .. طبيعي لما يكون في مشكلة بينكم متوافقش ترجع معاك من أول مرة وأول اعتذار ، أنا مبقتش فهماك !!
حتى هو بات لا يفهم نفسه أهو سعيد لأنه تخلص من بلائه ! ، أم حزين ويشعر بالذنب لما سببه لها من ألم وعلى موت طفله الذي كان هو السبب في قتله .. ولكن هناك مشاعر متضاربة ومختلفة بداخله لا تجعله بخير مطلقًا وتسبب له الإرهاق النفسي ! .
حسن بعصبية مماثلة لها دون أن ترتفع نبرة صوته عليها :
_ والمفروض أعمل إيه اغصبها تعيش معايا مثلًا .. يسر مبقتش طيقاني ياماما ولا بتحبني ومش عايزاني احنا وصلنا لآخر الطريق خلاص
لا تصدقه وقد سكنت شكوكها في الأعماق واصبحت متيقنة أن هناك أمر كانوا يخفونه عنهم جميعًا ومازالوا يخفوه ، فهذا ليس ابنها الذي يتمسك بأي شيء يحبه ولا يتركه حتى لو سيموت وهو متسمك به ، تخليه عنها بهذا السهولة يثبت لها حقيقة واحدة وأنه لم يكن يحبها أو معجب بها حتى كما اخبرهم قبل الزواج !!! …
هتفت هدى بنبرة حازمة وأعين ثاقبة :
_ إنت مش بتحب يسر زي ما قولتلنا قبل ما تتجوزوا صح ؟!
اصابت الهدف بسؤالها حيث تسمر بأرضه ولم يسعفه عقله في إيجاد الكلمات حتى يجيب عليها ، فحدجها بجمود ونظرات باردة للحظات طويلة ثم استدار وابتعد عنها متجهًا إلى سيارته ليرحل ، أما هي فحصلت على اجابتها من صمته المريب !! ……..
***
ترجلت من السيارة أمام ڤيلا عمها ” طاهر العمايري ” .. رفعت نظرها تتفحصها بإمعان بعد التعديلات التي اجروها علي المنزل منذ آخر مرة جاءت لهنا ، وبينما هي منشغلة بالإمعان شعرت بيده الضخمة تقبض على ذراعها بعنف هامسًا بالقرب من أذنها بصوت مخيف :
_ اتحركي ولا تحبي تقضي الليلة هنا في الجنينة وفي البرد لغاية ما تموتي
انكمشت في وقفتها وهي تطالعه بارتيعاد ، ولكنه ترك ذراعها باشمئزاز حين سمع صوت أبيه الغليظ :
_ علاء !!
أشار لها عمها بعيناه في حدة بأن تسبقهم فاتحركت فورًا تفر هاربة من بين براثن ذلك ” العلاء ” .. اقترب طاهر من ابنه وهتف بخشونة :
_ أنا قولتلك ربيها فعلًا بس متزودهاش أوي هاااا
رمق أبيه بنظرة قوية وتمتم بصلابة :
_ وأنا كمان قولتلك يابابا من قبل ما اتجوزها محدش ليه دعوة باللي هعمله فيها ، مش كفاية غصبتني عليها
ثم تحرك باتجاه باب المنزل ليتأفف طاهر بنفاذ صبر من عناده .. لا شك في إنه غاضب بشدة من ابنة أخيه ولا يطيق سماع صوتها ولكنه مازال يضع أخيه المتوفي في الحسبان ولا يتمكن من الحاق أي أذى لها ، فقط سيكتفي بأن يلقنها درسًا لا تنساه حتى تعترف بخطأها وتتضرع لربها طالبة منه العفو والمغفرة ! .
فتح علاء الباب ودخل أولًا وهي خلفه ومن ثم طاهر .. رفعت ميار نظرها لزوجة عمها فرأتها تنظر لها بحدة وكأنها تقول لها من خلال نظراتها أنها لن يكون مرحب بها في هذا المنزل أبدًا ، أما يسر فكانت نظرتها تضمر خلفها كل ماهو سيء .. لوت فمها بابتسامة خفية وشيطانية بعد أن ادركت أن الأم وابنتها تجمعا عليها ، ولكنها أيضًا تكون افعى سامة حين يتطلب الأمر !! ….
القى علاء نظرة طويلة على أمه وشقيقته ثم تنهد بعمق وتحرك باتجاه الدرج حتى يصعد لغرفته وتركها بمفردها بينهم ، تحركت خلفه حيث تلقت الإشارة من عمها بأن تصعد لغرفتها خلفه وبمجرد ما أن توارت عن ناظريهم سمع صوت زوجته تهتف بعصبية :
_ بقى مش حرام عليك ياطاهر تسود على ابنك عيشته وتجوزه من بنت أخوك اللي غلطت مع راجل
_ ده جواز مــــؤقـت .. هتمر فترة صغيرة وهيطلقها ماهي لو اتجوزت واتكشف إنها مش بنت ، عيلة العمايري كلها هتتفضح
لم يعجبها ما قاله ومازالت غاضبة على فعلته أما يسر فكانت تتابع حديثهم بصمت حتى رأت أبيها ينظر لها ويقول بلطف وضيق :
_ اتكلمت مع حسن وقالي هيبدأ في اجراءات الطلاق النهائية
ابتسمت ساخرة بشيء من المرارة ثم استقامت وقالت بثبات وهي تبتعد عنهم :
_ كويس قوله ياريت يستعجل يابابا
تبادل طاهر النظرات الحزينة والمشفقة هو وزوجته على حالة ابنتهما السيئة ، تتظاهر أمامهم بالقوة وهم يعلمون جيدًا أن قلبها ينزف الدماء على فراقها لزوجها وخسارتها لطفلها ! …
***
فتحت ميار جزء صغير من الباب بتردد وارتباك يكفي لإدخال رأسها فقط ونظرت في الغرفة تبحث عنه فلم تجد له وجود وسمعت صوت رذاذ المياه بالحمام الداخلي للغرفة .. ادخلت جسدها كاملًا ثم أغلقت الباب بحذر شديد والتفتت مجددًا تتفحص أجزاء الغرفة الواسعة ، الوانها رجالية حادة بعض الشيء والخزانة متوسطة الحجم ، فراش كبير نسبيًا يتسع لشخصين ، واريكة متوسطة أمام الفراش بجانب الشرفة .. حركت نظرها بحركة دائرية في انحاء الغرفة وانتبهت إلى الخزانة التي بابها عبارة عن مرآة ضخمة تنحدر من اعلاء لأسفله ، فقادها فضولها واقتربت تقف أمامها تتطلع لجسدها الذي يخفيه ذلك الرداء الفضفاض ، ولم يتوقف فضولها عند هذا الحد حيث مدت يدها تسحب باب الخزانة الجرار للخلف تنظر لملابسه المعلقة وكانت على وشك أن تلمسها ، ولكن كفه القوى قبض على رسغها فاطلقت هي شهقة مفزوعة ونظرت له بتوتر من قسمات وجهه التي تقذف الرعب في قلبها .
علاء بصوت رجولي صارم :
_ أي حاجة تخصني متلمسهاش فاهمة ولا لا !!
أماءت له عدة مرات متتالية في أعين خائفة فترك رسغها واغلق الخزانة في عنف واستدار موليًا إياها ظهره وقبل أن يخطو خطوة واحدة استوقفه صوتها وهي تقول :
_ على فكرة محصلتش حاجة بينا أنا لسا عذراء !!
استدار موليًا إياها ظهره وقبل أن يخطو خطوة واحدة استوقفه صوتها وهي تقول :
_ على فكرة محصلتش حاجة بينا أنا لسا عذراء !!
سمرته الدهشة للحظات طويلة ، كيف عذراء وماذا عن الصور الذي رآها الجميع !! .. التفت بجسده كاملًا لها من جديد وهتف بذهول ملحوظ :
_ نعم !!!
ميار بنبرة صادقة واستحياء بسيط :
_ أيوة محصلتش حاجة أكتر من اللي في الصور
هيمنت عليه الدهشة لخمس ثوان وهو يحدجها ساكنًا تمامًا وعيناه تطلق تساؤلات كثيرة وعقله يرفض تصديقها ويقنعه بأنها كاذبة وفقط تفعل ذلك حتى تخرج نفسها من الوحل الملطخ بشرفها ، وقد استمع لصوت عقله الذي يردد ” كاذبة لا تدعها تخدعك ” فرأت ضحكة مستهزئة تنطلق من بين شفتيه ونظرة وضيعة استقرت بعيناه ، ثم خرج صوته صلب بجراءة :
_ لا والله ! .. محصلش حاجة !! ، امال قضيتوا الليلة إيه بقى !!!
صدمها رده الجريء والصارم غير المتوقع فخجلت وسرعان ما اجفلت نظرها عنه بارتباك ، ليلقى هو عليها نظرة ساخرة ونافرة ثم يستدير ويتجه نحو فراشه ليتسطح عليه ويسحب الغطاء على جسده ، فظلت هي واقفة تتطلع إليه وبعيناها تجول بين ارجاء الغرفة تبحث عن مكان لتنام فيه وحين وقع نظرها على الشيء الوحيد الموجود وهو الأريكة فأبت بشدة أن تنام على هذه الأريكة غير المريحة والصغيرة ، رجعت بنظراتها التائهة له لترى شفتيه تبتسم ببرود وعدم مبالاة ويشير بعيناه على الأريكة هاتفًا بقسوة :
_ كان نفسي اتنازل واخليكي تنامي مكاني بس أنا مستنضفش إنك تنامي على سريري أصلًا
تشربت إهانته اللاذعة لها بنفس منكسرة ثم انحنت إلى حقيبتها المسنودة على الأرض وفتحتها لتخرج لها ملابس حتى تبدل هذه العبائة التي باتت تخنقها وذهبت للحمام وبعد دقائق خرجت وهي ترتدي بيجامة منزلية مريحة فوجدته اغمض عيناه ويبدو أنه انخرط في النوم .. توجهت نحو الأريكة ومددت جسدها عليها مغمضة عيناها محاولة النوم بعد كل ما مرت به منذ الأمس حتى الآن !! ………
***
في صباح اليوم التالي …..
ترجلت يسر من سيارتها التي اشتراها لها أبيها حديثًا ، وقادت خطواتها نحو ذلك المقهى الصغير وبعدما عبرت الباب وقفت تتنقل بنظرها بين الجالسين باحثة عن أحدهم ، فابتسمت فورًا بعذوبة حين رأتها تلوح لها بيدها فتحركت إليها وسحبت المقعد المقابل لها وجلست قائلة باعتذار لطيف :
_ اتأخرت عليكي مش كدا
_ لا أنا يدوب جاية من عشر دقايق .. احكيلي بقى حصل إيه
قالت جملتها الأخير بجدية تامة وفضول ، لتطلق يسر تنهيدة طويلة وتقول بمرارة :
_ طلقني
اطالت ريم النظر في عيناها بوجه عابس ومشفق ثم مدت يدها وامسكت بكفها متمتمة في نقم على ذلك ” الحسن ” :
_ ده الافضل ليكي يايسر ، إنتي مخدتيش منه حاجة غير وجع القلب ، هو مستاهلكيش ولا يستاهل حبك ليه وحتى حزنك عليه ميستهلهوش
غامت عينان يسر بالعبارات وقالت بصوت مبحوح :
_ اللي واجعني ياريم إنه كان كاره ابنه لمجرد إنه مني .. أنا كنت عارفة إنه بيكرهني بس متوقعتش للدرجة دي ، ده كان بيقولي هسقطك أنا لو منزلتهوش
استشاطت ريم غيظًا وبغضًا عليه حيث هتف بغضب عارم :
_ وهو كان ميستهلهوش أصلًا الطفل ده ، ده واحد حيوان معندهوش قلب أنا مش فاهمة إزاي حبيته لا وبعد ده كله لسا بتحبيه
فرت دمعة حارة من عيناها .. تكره قلبها الذي يرفض الاستماع لها ويصر على هذا العشق الذي أمات الكثير في داخلها .. هي ترغب في بغضه أكثر منهم ولكنها لا تستطيع ، تتمنى أن تتحرر من تعويذته وتحلق حرة في السماء ، وتتزوج من رجل آخر يستحقها ويستحق حبها له ويكون تمامًا كما تود ، ولكن ليس بسلطان على القلب !! .
يسر بأعين دامعة ونبرة يائسة :
_ حاولت كتير ياريم اطلعه من قلبي معرفتش وعارفة إنه ميستهلش ذرة من الحب ده
_ هتكرهيه يايسر أنا متأكدة وإياكي تسمحيله يتلاعب بمشاعرك تاني لو حاول يرجعلك ، اقنعي نفسك إنك بتكرهيه ومع الوقت هتكرهيه بالفعل صدقيني
مدت يسر اناملها وجففت دموعها متمتمة ساخرة ونظرة حازمة لا تحمل المزح :
_ ومين قالك إني هسمحله أصلًا .. من هنا ورايح هيشوف يسر مختلفة تمامًا ، هخليه في كل لحظة يحتكر نفسه وهعرفه حجمه بجد ، لإني كنت مدياه قيمة وحجم أكبر من حجمه وهو أساسًا نكرة
تأففت ريم بعبوس من هذا الحديث السلبي والمثير للأعصاب فأردفت باهتمام ونبرة حانية :
_ طمنيني عليكي إنتي كويسة يعني مش حاسة بأي تعب ؟!
رسمت ابتسامة منطفئة على شفتيها وهمست بهدوء :
_ لا متقلقيش الحمدلله كويسة واطمني خطتنا ماشية زي ماهي ومحدش هيعرف حاجة
هزت ريم رأسها بالإيجاب وهي تبادلها الابتسامة وتربت على كفها برفق وحنو كنوع من إبعاث الطمأنينة وبعض المشاعر الإيجابية لنفسها البائسة !! ………
***
بمكان آخر في مدينة ( مرسى مطروح ) تحديدًا في إحدى الفنادق الفاخرة ، قد وصل زين بصحبة زوجته بعد رحلة سفر طويلة قليلًا ……
ترجلت ملاذ من السيارة أولًا ورفعت رأسها لأعلى تقيس طول ذلك الفندق الضخم بينما هو فالتف لحقيبة السيارة الخلفية وأخرج منها حقيبة ملابسهم السوداء ورفع ذراعها لأعلى يجرها خلفه وهو يشير لها برأسه أن تتحرك فسارت معه فورًا وهي لا تتمكن من اخفاء ابتسامتها التي كانت عريضة وواسعة على شفتيها ولكن نقابها يخفيها عن أعين الناس .. سارت بجواره حتى وقفوا أمام الاستقبال وأخذ هو يتحدث معهم وهي تتفحص الفندق الساحر من داخله ، كانت فرحتها كفرحة طفل صغير اتى لقضاء عطلة نهاية السنة مع عائلته .
لم تعرف كم مر من الوقت وهي تتجول بنظرها بين ارجاء الفندق وتتابع حركات الناس ، الذي كان بعضهم نساء أجنبيات ويرتدين ملابس قصيرة وفاضحة فكانت ترمقهم بنظرات متقرفة بها القليل من كيد النساء على مياعتهم في سيرهم ، وبتلقائية نظرت لزين فوجدته يتحدث مع الرجل الذي يقف في الاستقبال بجانب الفتاة التي كانت لا ترفع نظرها عن زوجها فحدجتها بنارية فانتبهت الفتاة لها ولنظرتها الملتهبة وعلى الفور اشاحت بنظرها عن زين .. اقتربت ملاذ من زين ورتبت على كتفه برفق فاحني رأسه لمستواها لتهمس هي في أذنه باختناق :
_ يلا يازين أنا تعبت من الوقفة
_ حاضر ثانية
عاد بنظره للرجل مجددًا وأخذ منه الكارت الخاص بالدخول لغرفتهم وتحرك هو قبلها فالقت ملاذ نظرة مستشيطة أخيرة على تلك الفتاة ثم لحقت به .. وقفا أمام المصعد الكهربائي حتى فتح وانتظرها حتى دخلت هي أولًا ومن ثم هو ، انغلق الباب وبدأ المصعد في الصعود فرفعت النقاب عن وجهها وهي تقول بضيق :
_ إنت ملقيتش غير الفندق ده !
_ لا في كتير أكيد بس الخدمة في الفندق ده كويسة جدًا ومريحة ، إنتي معجبكيش ولا إيه ؟
هتفت بغيظ وغيرة ملحوظة :
_ لا عجبني بس مش عاجبني البنات اللي فيه
رمقها بنظرات مستعجبة ومستفهمة فأكملت هي باندفاع :
_ البنت الغلسة اللي في الاستقبال دي ، ولا البنات الاجانب اللي لبسهم حاجة مقرفة
انفتح باب المصعد فانزلت نقابها على وجهها فورًا وخرجوا ، وسمعته يهتف باسمًا باستنكار :
_ ملاذ دي مدينة ساحلية وسياحية فلازم هيكون في سياح في الفنادق ، أنا متعود وبروح دايمًا أماكن زي كدا بسبب الشغل أحيانًا
وصلوا أمام الغرفة فرفع الكارت وادخله في قفل الباب واخرجه ثم امسك بالمقبض واداره لينفتح ويدخل ثم هي التي اغلقت الباب خلفها وسمعته يهتف شبه ضاحكًا :
_ أول مرة دخلت فنادق في الغردقة تقريبًا كان مع بابا من سنين ومكنتش متوقع إني هلاقي المناظر دي فدخلت بنية صافية طبعًا وبمجرد ما بصيت وركزت في أشكال البنات واللبس ذهلت وصممت بعدها إني همشي ومش هقعد في الفندق ده فبابا بهدلني وقتها وقالي إنت هتمنع الناس تلبس اللي هي عايزاه وغصبني اقعد معاه كنا جايين لشغل وكان عندي وقتها 25 سنة ، بس ومن ساعتها حرمت بقيت لما ادخل أي فندق مبرفعش عيني ومبصش على حد نهائي عشان مشوفش المناظر اللي تقرف دي تاني
نزعت حاجبها ونقابها عنها تمامًا والقت بهم على الفراش المتوسط لتكشف له عن وجهها المبتسم بساحرية وتقترب منه ثم تلف ذراعيها حول رقبته متمتمة بدلال انوثي رقيق :
_ إنت عندك مشكلة واحدة تعرف إيه هي ؟
اخفض نظره ليديها الملفوفتين حول رقبته فمالت شفتيه لليسار بخفة وعاد بعيناه لها مجددا يجيبها بفضول :
_ إيه ؟!!
التصقت به أكثر وهي ثتبت ذراعيها حوله جيدًا وتكمل بدلال أشد من سابقة :
_ إنك قمور !! ، وفي الآخر تاجي واحدة زي البنت الملزقة اللي في الريسبشن تحت وتبصلك
غضن حاجبيه باستغراب حقيقي وهدر :
_ بنت !!! .. طيب هتصدقيني لو قولتلك إني مخدتش بالي إن في بنت واقفة أصلًا والله
تحولت نظرته من الرقة إلى الحدة ونبرتها أصبحت مستاءة وكلها غيرة وهي تتشدق :
_ كانت بتصبلك وشغالة تبتسم زي المعزة ! ، قومت أنا زغرتلها بعيني فاتعدلت علطول ، هما كدا الناس دي مينفعش معاهم غير العين الحمرا
رفع حاجبه وخرجت منه ضحكة بسيطة على تشبيها للفتاة بـ ” المعزة ” وقولها ” زغرتلها ” !! ، لا ينكر سعادته بغيرتها التي يراها للوهلة الأولى واقترابها وتدللها عليه الذي اطلق سهامه في قلبه بقوة ! .
زين بابتسامة عريضة وشبه مستنكرًا :
_ معزة وزغرتيلها !!!!!
هزت رأسها بالإيجاب وهي تبادله الابتسامة الناعمة وقد شعرت به يلف ذراعيه حول خصرها يضمها إليه أكثر وعلى عكس المعتاد لم تخجل منه بل شقت ابتسامتها الطريق أكثر وكادت أن تصل لأذنيها من فرط السعادة ، وأكمل هو متسائلًا بحيرة ومتلذذًا بحرارة الحديث :
_ زغرتيلها إزاي بقى ؟!!
_ كدا
وسعت بؤبؤي عيناها بصرامة وضمت شفتيها تمدهم للأمام قليلًا فخرجت لوحة وجهها طفولية وكوميدية وهذا ما كانت تسعى له حيث سمعت صوت ضحكته الرجولية التي انطلقت وجلجلت الغرفة فعاد وجهها لطبيعته ورُسمت الابتسامة على شفتيها بتلقائية وهي تراه يضحك وتأملته بأعين مغرمة حتى وجدته يفلت ذراعيه من حول خصرها ويقول والابتسامة لا تزال تزين شفتيه الجميلتين :
_ لا عجبتيني ! .. أنا هروح اخد حمام سريع عشان اريح جسمي من تعب السفر
ابتعد عنها واتجه إلى الحمام بينما هي فظلت متصلبة بأرضها مكانها تحدق على آثاره بعشق !! ……
***
كانت تجلس تشاهد التلفاز على إحدى قنوات التلفاز المعروفة وتعرض مسلسلًا مصريًا كلاسيكي ، تارة تصدر تفاعلًا بضحكة بسيطة وأخرى تصبح ملامحها جامدة ، وبلحظة عابرة تذكرته وأنه لم يخرج من الغرفة منذ أن استيقظ فاستقامت من مكانها وذهبت لغرفتهم فسمعت صوت منبعث من الحمام ، تحركت نحو الحمام الذي كان مفتوحًا ورأته يقف ويلف حول رقبته منشفة صغيرة وبيده آلة الحلاقة وقد وضع على لحيته ذلك الشيء الأبيض الذي لا تعرف ماذا يسمى ولكنه حسب اعتقادها أنه يخفف ألم ازالة شعر اللحية ، وبمجرد ما وقعت عيناها عليه فغرت فمها مندهشة وقالت :
_ إنت هتحلق دقنك !!!
نظر لها كرم بعينان متعجبة وأماء لها بالإيجاب ليسمعها تكمل بانزعاج وتوسل وقد دخلت ووقفت بجواره تمامًا :
_ لا متحلقهاش شكلك حلو بيها أوي والله
عاد يرفع الآلة لذقنه ويقول بهدوء :
_ أنا متعود كل فترة بحلق دقني
قبضت على يده قبل أن يضع الآلة على وجهه تنهاه بلطف وبأعين دافئة بعد أن قفزت في عقلها فكرة لطيفة :
_ لا لا متحلقهاش .. بص أنا هعملك حاجة حلوة وهتنعشك ، إيه رأيك ؟
_ حاجة إيه دي ؟!!!
اردفت بحماس ملحوظ في نبرتها ونظرتها :
_ اغسل وشك الأول بس !
اطال النظر في وجهها بريبة وسكوت ويفكر فيما تريد فعله ويطرح العديد من الأسئلة ولكنها نكزته في ذراعه برفق تحسه على فعل ما طلبت للتو ، ليأخذ نفسًا عميقًا ويحنى رأسه على صنبور الماء ويبدأ في غسل وجهه .. وبعد أن انتهى رآها تمسك بكفه وتسحبه خلفها هاتفة :
_ تعالى في الحمام اللي برا هنا مش هينفع
ضيق عيناه بحيرة ورغمًا عنه عصفت في ذهنه فكرة منحرفة ليقول لها مستفهمًا بنبرة تحمل الاستنكار :
_ هو إيه ده اللي مش هينفع هنا !!!
_ تعالى بس !
سار معها مغلوبًا على أمره حتى وصلوا للحمام الخارجي وفتحت الباب وقد كان حمامًا واسعًا به حوض استحمام واسع وحوائطه من اللون البني الفاتح وفي آخره مرآة كبيرة واسفل المرآة بالضبط حوض شامبو متوسط الحجم من اللون الأسود وأمامه مقعدًا وثير وطويلًا بعض الشيء .
لم تمهله اللحظة ليحاول توقع ما يدور في ذهنها وإذا به يجدها تجذبه مجددًا من يده وتجلسه على ذلك المقعد ، ثم ابتعدت عنه لتجلب شامبو خاص فسمعت صوته الغليظ وهو يتأفف بنفاذ صبر ونبرة حانقة :
_ شفق ممكن تفهميني بتعملي إيه عشان أنا بدأت اتعصب !
عادت له وقالت في رقة وبمشاكسة :
_ إنت بقيت بتتعصب على أي حاجة الفترة دي أساسًا.. إنت مش كنت بتقول لما صحيت من النوم إنك مصدع وراسك وجعاك ، انا بقى هعملك مساج بس بطريقة مختلفة
خرجت نبرته الخشنة والحازمة :
_ وإيه الطريقة المختلفة دي بقى !!
اغتاظت من طريقته الجافة بالرغم من أنها تعرف أن مزاجه معكر منذ الصباح الباكر ولكنها ابدت عن احتجاها على طريقته حيث زمت شفتيها باغتياظ وهتفت ممتعضة وغاضبة :
_ إنت بتكلمني كدا ليه يعني ده جزاتي إني عايزة اخففلك الصداع اللي عندك
ثم استدارت بكامل جسدها توليه ظهرها وقبل أن تهم بالرحيل قالت في خنق وعبوس :
_ خلاص طالما إنت مضايق مش هعمل حاجة .. وآسفة إني عصبتك ياكرم بيه
رفع حاجبه اليسار باحترافية واجابها مستنكرًا باندهاش :
_ بــيــه !!!!
وجدها ستهم بالانصراف حقًا ولم يكن غضبها تدللًا كما ظنه للتو ، بل كانت ملامح وجهها البريئة تثبت أنها استاءت بالفعل من حدته معها ، وبسرعة اعتدل في جلسته ومد ذراعه يجذبها من يدها برفق متمتمًا باعتذار جميل :
_ خدي خلاص أنا آسف متزعليش ، مكنش قصدي والله !
رمقته بطرف عينها بنظرة متضايقة وسرعان ما اشاحت بوجهها للجهة الأخرى محتجة عن الكلام معه ، فضيق عيناه باستغراب وقال بحنو :
_ تعالى يلا اعملي المساج اللي قولتي عليه ده
ابعدت كفه الذي يقبض على رسغها وعقدت ذراعيها أمام صدرها مردفة بتذمر طفولي بعض الشيء :
_ واعملك ليه ما إنت مش طايقني ولا طايق مني كلمة !!
بات يفهم مدى تأثير ابتسامته عليها فاتخذها كسلاح في هذه اللحظة وابتسم لها بساحرية هامسًا في دفء :
_ تعمليلي عشان أنا عايز وبطلب منك أهو .. ممكن ؟!
سحق سخطها ومحاه برقته وابتسامته كأنه لم يكن ، وكالعادة فشلت هي في إخفاء ابتسامتها التي صعدت لشفتيها تدريجيًا وقالت باستحياء بسيط وابتسامة جانبية :
_ ماشي !
استرخي في جلسته تمامًا ورجع برأسه للوراء يضعها بالجزء المخصص في الحوض لوضع الرأس وأغمض عيناه لتبتسم هي بعاطفية وتقترب منه ثم تبدأ أول شيء بالماء الدافيء الذي وضعته على شعره البني والناعم ومن ثم سكبت القليل من الشامبو على يدها وبدأت تغلغل أصابعها بين خصلات شعره وتارة تبسطها وتفتحها بين خصلاته وتارة تدلك رأسه بكامل الرفق واللين ، وتثبت نظرها عليه تنتظر منه أي ردة فعله ولكنه كان مستسلمًا لها تمامًا ويغمض عيناه وبتلقائية ابتسمت حين رأت شفتيه تميل للجانب قليلًا كدليل على استمتاعه بما تفعله فقالت في صوت انوثي خافت :
_ هااا إيه رأيك ؟!
اتسعت ابتسامته وغمم دون أن يفتح عيناه حتى لا يفسد لحظات تلذذه واسترخائه :
_ اممممم كملي .. شكلي هخليكي تعمليلي البتاع ده كل يوم !
قهقهت ببساطة وقالت مداعبة إياه :
_ بتاع !! .. ده مساج للشعر وليه فوايد كتير منها تخفيف الصداع والآم الرأس والتخلص من التوتر والعصبية ، وحط خطوط كتير تحت العصبية دي هااا !!
سمعت صوت ضحكته المنخفضة وفتح عيناه الرمادية يطالعها بلطف ويتمتم وهو يشاركها حس الداعبة :
_ في دي معندكيش حق .. بقى أنا عصبي !!
هزت رأسها بالنفي قائلة بوجه مشرق ويداها لا تزال تعمل في تدليك فروة شعره :
_ لا فشر ده إنت كيوت
عاد يغمض عيناه من جديد وهو يضحك لتكمل هي جلسة تدليكها ببطء شديد واحترافية لكل جزء في رأسه حتى عنقه .. بينما هو في كامل استرخائه .. كانت تقف بجانبه مباشرة ولا يفصلهما عن بعض شيء وتنحني بجزعة للأمام حتى تتمكن من رأسه وتستطيع القيام بالمساج بدقة ، واقترابها الحميمي منه اشعره بانفاسها الدافئة تلفح صفحة وجهه ورائحة العطر النسائي المثير الذي نثرته على ملابسها تغلغل إلى انفه فهيج بداخله مشاعر مختلطة وحاول بصعوبة عدم التركيز على رائحتها أو انفاسها وإذا به يجد شعرها الذي تحركت خصلاته للأسفل على وجهه بسبب انحنائها ودغدغدته ففتح عيناه ورفع يديه من الجهتين لشعرها باضطراب بسيط د وارجعه للخلف يثبته جيدًا على ظهرها حتى لا يتحرك مجددًا وهو يرمقها في ابتسامة شبه خفية فبادلته هي أياها بنفس مشاعر الاضطراب !!! .
استمرت جلسة المساج إلى ما يقارب العشرة دقائق ثم بدأت تغسل شعره بالماء وتعاود تدليكه لدقيقتين بالضبط وتعود تغسل بالماء مجددًا وأخيرًا جذبت المنشفة ورفع هو رأسه قليلًا عن الحوض فوضعت المنشفة على شعره تجففه بإحكام ورفق شديد .
شفق بنبرة رقيقة وأعين جذابة :
_ يارب يكون الصداع خف شوية
قال بضحكة خفيفة :
_ أنا نسيت أصلًا إني كنت مصدع .. بس ياترى بقى عندك كام موهبة تاني ياشفق هانم
تشدقت مشاكسة إياه بشيء من الفخر وهي تضحك :
_ كتيييير مبعدش ياجيمي !!!
انطلقت منه ضحكة مرتفعة نسبيًا لتتابعه هي بأعين تطلق شرارات العشق المتيم ! ………….
***
داخل منزل طاهر العمايري ……..
كان علاء يقف أمام المرآة يهندم ملابسه ويستعد للخروج غير منتبهًا لنظرات ميار له وهي تحدجه بشيء من الخنق والقرف وحين لاحظ عيناها التي تتابعه فالتفت برأسه لها في أعين ثاقبة كالصقر وسرعان ما اشاحت بوجهها للجانب الآخر في ارتباك امتزج بالخوف ، فعاد هو بنظرة للمرآة مجددًا وسمعت صوته الأجش وهو يقول بلهجة آمرة لا تقبل النقاش :
_ عشان يكون في علمك خروج من البيت مفيش ولو شميت خبر إن رجلك عتبت برا عتبة البيت محدش هيرحمك مني لا عمك ولا غيره
رمقته بطرف عيناها مستنكرة وهمست بصوت لا يسمع :
_ وجاي على نفسك كدا ليه ماتحبسني في الأوضة احسن
استمع إلى همهمات خافتة تخرج من بين شفتيها فقال بتدقيق وصرامة :
_ بتقولي حاجة ؟!
ثبتت نظرها عليها واردفت بنبرة محتجة :
_ بقول ليه ؟ .. إيه السبب إنك تحبسني في البيت ؟!!
لاحت ابتسامة متشفية على شفتيه وقال بقسوة ملحوظة في نبرته ونظرته :
_ مزاجي كدا ! ، عندك اعتراض ؟!!!
حدقت به باستفهام فهي حقًا لا تفهم سبب تعامله القاسي معها بهذا الشكل بالتأكيد هو لا يهتم لأمر الخطأ الفادح الذي ارتكبته وحتى إن كان يهتم فلا يحق له أن يعذبها على هذا الشكل .. كانت هذه الكلمات تدور جميعها في حلقة واحدة ولا تفهم لهم أي سبب وقررت ان تواجهه بما يدور بداخل عقلها حيث قالت بشجاعة بسيطة :
_ إنت بتعمل معايا كدا ليه ؟!
سؤالها كان في المكان والوقت المناسب تمامًا حيث ابتسم بنظرات شرانية واستدار ناحيتها بجسده كاملًا ثم تحرك إليها وجلس على حافة الفراش أمامها متمتمًا في نبرة مريبة دبت الرعب في أوصالها :
_ بعمل كدا ليه ؟! .. سؤال حلو وأنا كنت منتظره منك ! .. متفتكريش إني بعمل كدا عشان اللي عملتيه ولا بعاقبك عليه والكلام العبيط ده ، أنا أساسا ميهمنيش ولو قولتيلي دلوقتي إنك حامل من الـ**** اللي عملتي معاه العلاقة برضوا مش هيفرق معايا .. كل ما في الموضوع إني مش طايقك وقرفان منك واتجبرت اتجوزك عشان سمعة عيلة العمايري اللي احنا منتشرفش إن يكون عندنا بنت في العيلة فـ **** زيك
خنجر مسموم رشقه في يسارها بكلماته التي لا تحمل أي رحمة أو رفق ، فكتم صوتها ولم تجد ما تقوله فقط شعرت بالدموع تتجمع في مقلتيها وطال صمتها للحظات وهو يحدقها بنظراته المشمئزة منها حتى قالت بصوت يغلبه البكاء :
_ وأنا قولتلك إمبارح إن محصلش حاجة بينا !
خرج عن اطار الهدوء حيث صاح بها بصوت جهوري :
_ كذااابة ياميار ومش مصدقك ومش هصدقك
انسابت دموعها على وجنتيها غزيرة وهي تجيبه بنبرة ضعيفة :
_ أنا مش كذابة ياعلاء
لوى فمه باستهزاء وبداخله ليس هناك ادني شك بأنها تكذب ، فقط لتكسب تعاطف الجميع .. وقرر إنهاء هذا الحديث بجملة يعلم أنها ستسكتها تمامًا .. انحنى للأمام إليها وخرج صوته خافتًا وجريئًا وهو يقول متغطرسًا :
_ طيب تحبي اتأكد بنفسي !!
دق قلبها دقاته بقوة وارتبكت ودون أن تجيب عليه استقامت واقفة بأعين زائغة واسرعت نحو الحمام تختبيء منه فابتسم هو ساخرًا عندما تأكد بأنها تكذب !! ……….
***
غربت الشمس وارتفع ضوء القمر في السماء ليزينها بأجمل وابدع لوحة رسمها الخالق عز وجل …..
… بمدينة ( مرسى مطروح ) …..
داخل غرفة أبطالنا كان يجلس على الفراش الواسع وبيده المسبحة المكونة من 99 حبة ، وكلما يردد ( سبحان الله ، والحمدلله ، ولا إله إلا الله ، والله اكبر ) يعود بحبة من الحبات للوراء واستمر هكذا لدقائق طويلة حتى قطع تسبيحه وهو يهدر بنفاذ صبر على تلك القابعة في الحمام منذ مايقارب العشرين دقيقة :
_ يـــــلا ياملاذ !!
_ حاضر طالعة أهو
لحظات قليلة وخرجت له وهي ترتدي رداء فضفاض من اللون الأسود المنقط بالأبيض ونقابها الماليزي يأخذ نفس لون خمارها وهو الفوشيا الغامق مما زادها عفة وجمالًا ، فرأت ابتسامة دافئة تنطلق على شفتيه ولكنها اختفت تدريجيًا عندما دقق النظر في وجهها جيدًا ، ووجدته يستيقم واقفًا ويتقدم نحوها حتى رفع حاجبه وهو يثبت نظره على أحد أجزاء وجهها ألا وهو شفتيها ، وعلى الفور قفذت في عقلها ذكر يوم قرآنهم عندما أخذها لمكتبته الخاصة في العمل .. ولاضطرابها لم تركز جيدًا في نظرته حتى تفهم إن كانت نظرة حازمة ومستاءة أم تضمر الإعجاب خلفها حيث هتفت بتلعثم :
_ من غير ما تقول أي حاجة همسحه خلاص !!
همت بالاستدارة والفرار إلى الحمام فاستوقفتها يده التي قبضت على ذراعها ترغمها على الوقوف وهو يقول بنبرة تحمل في طياتها إشارات الغرام :
_ لا متمسحهوش شكله حلو عليكي !
تسارعت نبضات قلبها واحست به يتراقص حجلًا وفرحًا في مسكنه ودون أي درجة من التحكم صعدت الابتسامة لشفتيها بعفوية لتستدير له وتحاول إخفائها في محاولة بائسة هامسة بترقب لرده :
_ يعني مش مضايق زي المرة اللي فاتت
خرج صوته هادئًا وحانيًا به شيء من الخشونة :
_ يوم الفرح أنا اتعصبت عشان إنتي كنتي حاطة مكياج وأمة لا إله إلا الله بتتفرج عليكي لكن دلوقتي الوضع يختلف إنتي منقبة واللي حطاها ده حطاه ليا أنا بس ومحدش هيشوفك
ازدردت ريقها باستحياء ملحوظ وقد توردت وجنتيها ففكرت في الهرب من هذا الوضع وتحدثت ولكن لسانها المتلعثم لم يسعفها :
_ ط.. طيب مش هنمشي ولا إيه !
ضحك بخفة حين ادرك خجلها ، ورفع يده ينزل نقابها على وجهها مجيبًا إياها في لطف :
_ يلا
غادرت معه الغرفة ومنها الفندق بأكمله لتستقل بسيارته وينطلق هو بها يشق الطرقات قاصدًا قاعة الأفراح الذي سيقام فيها حفل الخطبة الخاص بأحد اصدقائه .
سارت معه وهي تشبك ذراعها بذراعه كنوع من إظهار الملكية أمام جميع أنظار الفتيات المعجبة ، حتى وجدته يقف أمام رجل كهل في العمر يبدو أنه والد العريس وعانقه عناق حار يهنئه على حفل خطبة ابنه بأدب ولطف ، رأت ذلك العجوز ينظر لها ويقول بتهذيب ونبرة كلها مودة مرحبًا بها في عذوبة :
_ أهلًا وسهلًا عقبالك يابنتي
نظرت لزين باستعجاب وضحكة عيناها كانت تكشف عن ضحكة شفتيها الخفية ، بينما هو فاتسعت ابتسامته وانحنى إلى ذلك الرجل الهرم الذي طالما اعتبره بمقام والده وهتف بنبرة مرتفعة قليلًا ليسمعه من وسط ضجة الموسيقى الصاخبة :
_ دي مراتي ياعمي سالم !
ابدى العجوز عن دهشته وهو يفغر شفتيها وتتسع عيناه ويهتف ضاحكًا بسعادة غامرة معانقًا إياه للمرة الثانية :
_ إنت اتجوزت !! .. الــــف مبروك يابني ، لا ده أنا ليا كلام مع رامي بقى وهربيه إزاي ميقوليش إنك اتجوزت
_ أنا كنت هتصل بيك بنفسي والله بس انشغلت ياعمي إنت عارف بقى مواضيع الجواز وكمان الموضوع تم في فترة قليلة فملحقتش
عاد يهنئه من جديد ببشاشة ونظرات محبة وهو يتمنى لهم سنوات سعيدة وبعد لحظات من الحديث المتبادل بينهم ، اتجهوا نحو طاولة صغيرة بعيدة عن حشد الناس وهي تتابع بنظراتها حركات الجميع واشكالهم وكأنها ستقابلهم مجددًا ! ، فنظرت له ووجدته لا ينظر لشيء فقط عيناه معلقة على سطح الطاولة أمامهم يحدق بها بشرود ، ليشعر بكف يدها على كفه وهي تهمس في أذنه برقة :
_ سرحان في إيه ؟!
_ مفيش ، افتكرت حاجة في الشغل بس .. مش يلا بقى ولا إيه وانا هقوم اسلم على رامي واباركله ونمشي
هتفت محتجة بدهشة من فتوره السريع :
_نمشي !! ، احنا مقعدناش دقيقتين على بعض يازين !
_ ما أنا قولتلك مش هنقعد .. أنا مبحبش الاغاني وجو الأفراح بتاع اليومين دول
_ طيب نقعد ربع ساعة بس على الأقل ونمشي
تنهد بعدم حيلة بعد أن استسلم لرغبتها في البقاء فعادت هي تتابع الناس كما كانت تفعل وبعد مرور ما يقارب الخمس دقائق وقع نظرها على أحدهم والذي كان لا يرفع نظره عنها .. أنه خطيبها السابق ” أحمد ” ماذا اتي به إلى هنا ؟! ، تعرف عليها بمجرد رؤية زوجها بجوارها فعرف أنها هي .. رأته يبتسم بشيطانية حين نظرت له وتأكد من شكوكه حولها فتوترت بشدة وشعرت باضطراب قلبها الذي بدأ يدق بخوف وقلق ، خوف من أن يراه ” زين ” فيغضب وينشب شجار عنيف بينهم ! .. وهي لا تود إفساد رحلتهم بسبب ذلك الحقير ! …….
نظرت لزين وعادت تمسك بيده مجددًا قائلة في أعين قلقة :
_ يلا نمشي يازين
غضن حاجبيه بريبة وأجابها ساخرًا :
_ إنتي مش لسا قايلة نقعد ربع ساعة
هتفت باصرار ونبرة ليست طبيعية :
_ لا لا كفاية أنا حاسة نفسي تعبت وعايزة امشي
لم يعلق .. فهو أيضًا لم تعجبه الأجواء وكان يجلس مضطرًا حتى يرضيها ، استقام وهو يقول :
_ أنا هسلم على رامي واجي استنيني هنا
تشبثت بذراعه كالطفل الذي يخشي الافتراق عن والده وقالت مضطربة :
_ لا أنا هروح معاك متسبنيش وحدى
احس بأن بها شيء ليس طبيعيًا وخطط لسؤالها عن سبب اضطرابها الواضح ولكن عند مغادرتهم الحفل ، وبالفعل سارت معه وهي تخطف نظرات سريعة لذلك القابع في أحد الأركان ولا زال يعلق نظرها عليها ، فدعت ربها مرارًا وتكرارًا لكي لا يراه زوجها وأن يغادروا ويعودوا إلى الفندق دون أي مشاكل !! ……
***
هبت ميار واقفة فزعة عند استماعها لطرق الباب وخرج صوتها متقلقًا :
_ ادخل !
انفتح الباب وظهرت من خلفه يسر التي كانت تحدق بها بجمود ثم دخلت واغلقته خلفها ، فتوترت ميار في البداية ولكنها جمعت شجاعتها لتواجه بها مكر تلك اليسر التي لا ترغب بالخير لها أبدًا من شدة بغضها عليها .
رآتها تقترب منها وتجلس على الفراش هاتفة بضحكة مستغطرسة :
_ ماتقعدي ياميار إنتي خايفة مني ولا إيه !!
_ عايزة إيه يايسر ؟!
قالتها بنبرة حانقة ليأتيها الرد باردًا منها كالثلج :
_ ولا حاجة أنا حبيت اتكلم معاكي شوية بس
ابتسمت ميار باستنكار واردفت بخنق :
_ وهو إيه ده بقى اللي هتتكلمي فيه معايا .. ده على أساس إنك بتحبيني حب فظيع
هزت رأسها بالإيجاب توافقها الرأي على جملتها الأخيرة وهي تبتسم ببساطة وتقول بجفاء :
_ فعلًا أنا مش بحبك لإن إنتي اللي بتخلي الناس تكرهك ياميار بسبب عمايلك ، بس إن جيتي للحق أنا اشفقت عليكي بجد وعلى اللي عملتيه في نفسك
ثم سكتت لبرهة واسترسلت حديثها بشيء من الإشفاق واللين الحقيقي :
_ ده جزاء شر أعمالك .. إنتي وتيتة حاولتوا تعملوا مشاكل بين زين ومراته عشان تخلوه يطلقها بس محلقتوش واتكشف موضوع علاقتك ده
_ وأنا مش محتاجة ابرر ليكي موقفي يايسر لإني ميهمنيش أصلًا تصدقي أو لا
استقامت يسر واقفة واطلقت تنهيدة حارة وهي تقول بنظرة تحذيرية ومخيفة :
_ ولا أنا يهمني كمان ! .. أنا كل اللي يهمني اخويا ، متحاوليش تتقربي منه وخلي فترة الجواز دي تعدي على خير لأن محدش منينا هيقبل إن علاء يكمل معاكي بعد اللي عملتيه وأنا اول واحدة مش هسمحلك تدمري حياة اخويا سامعة ولا لا كفاية إنه اتجوزك غصب وشايل الهم وهو مش عايزك
لم تنتظر منها الإجابة بل تحركت نحو الباب وانصرفت تاركة إياها تحدق على آثارها بتفكير عميق ووجه عابس وحزين فدومًا كانت تسعى لكسب محبة الآخرين لها ولكنها حتى المحبة لم تحظى بها !! ……..
***
لماذا لا تتركني وشأني ؟! .. لماذا تصر على أن تجعل من حياتي جحيم ؟! ، ألا بحق لقلبي الشفاء من السقم الذي اصبتني به ! ، فلقد ذقت أشد أنواع الخيانة والغدر في عهدك .. وعندما وجدت من يداوي جرحك ويعود لقلبي نبضه من جديد ، لا تتركني انعم بتفاصيل العشق معه الذي سلبتني إياها بكامل الوحشية والقسوة .
حتى مجرد تذكرك يجنني ويثير عواصفي بشدة ، فأنا على يقين أنك لا تدري إلى أي درجة أصبحت ابغضك ولا أريد حتى سماع صوتك ! .
كتمت صوت شهيق بكائها بيديها حتى لا يصل لمسامعه وداخلها يصيح بألم وبكاء ” لا أريد اصناع فجوة أخرى بيننا .. اخشى أن يظهر ذلك المؤذي في حياتنا من جديد فيفسد كل مابنيته في الفترة السابقة ، اخشي أن يعود معي كالسابق .. أريد أن اشعر بعشقه لي واخاف كل الخوف من خسارته ، اكره حياتي المدنسة بخطأ ارتكبته ولم ترحل آثاره حتى الآن ومازالت أحاول في تطهيره حتى أعيش معه بسلام وسعادة وحب ، بعدما ادركت حقيقة واحدة وهي إنني اعشقه بشدة ”
انتفضت واقفة حين سمعت صوته وهو يطرق على الباب فاسرعت وفتحت صنبور الماء ونثرت القليل من الماء على وجهها حتى تمحي آثار دموعها وهتفت بارتباك بسيط :
_ أيوة يازين طالعة أهو لحظة !
اغلقت الصنبور وجففت وجهها بالمنشفة ثم القت نظرة فاحصة على نفسها في المرآة ووقفت أمام الباب تمسك بالمقبض وتأخذ شهيقًا طويلًا وتزفره على مهل ثم ضغطت بيدها على المقبض لتفتح وتجذب الباب إليها فتراه يقف بانتظارها ويطالعها متعجبًا وقلقًا في نفس الوقت حيث استطرد :
_ إنتي كويسة ياملاذ ؟!
هزت رأسها بإماءة خفيفة وتمتمت في صوت مبحوح وجسدها يرتجف ليس بردًا ولكن من فرط توترها واضطراب نفسها الخائفة :
_ كويسة الحمدلله ، أنا بس شكلي داخلة على دور برد لإني مش بتقل في اللبس
لاحظ ارتجافتها فتقوس وجهه بحزم وقال بشيء من الغضب الممتزج باللين الذي يحمل نبرة الاهتمام :
_ أنا قولتلك مليون مرة البسي تقيل عشان متتعبيش لكن إنتي عنيدة
وفي لحظتها انحنى إليها وحملها على ذراعيه متجهًا بها نحو الفراش ووضعها عليه برفق شديد ثم سحب الغطاء عليها يدثرها به جيدًا ويهمس في نبرة مهتمة :
_ اجبلك حاجة دافية عشان تدفي جسمك ؟
هزت رأسها بالرفض وقبضت على كفه تهتف متوسلة إياه بنظراتها :
_ لا تعالى جمبي بس ارجوك
طالت نظرته المستغربة من أفعالها لبرهة من الزمن ولكنه في النهاية لبى لها طلبها ومدد جسده على الفراش بجوارها ويشاركها في نفس الغطاء فاعتدلت هي في نومتها ناحيته واقتربت حتى وجدها تمسك بذراعه وترفعه لتنضم لأحضانه واضعة رأسها على صدره الواسع ، ولم تكن فعلتها إلا أنها زادت شكوكه وقلقه ليسألها بصلابة وترقب لردها :
_ ملاذ إنتي متأكدة إن محصلتش حاجة في الفرح ؟!
نفت برأسها وهي تهزها بلطف ليتنهد هو بعدم حيلة ويلف ذراعه حول جسدها مبتسمًا بحب ويهم الصمت بينهم لدقائق حتى رفعت هي رأسها لمقابلة وجهه وهمست بنظرة تائهة وبائسة :
_ زين هو إنت خلاص بقيت تثق فيا تاني ؟
ادهشه سؤالها قليلًا فأمعن النظر في قسمات وجهها وعيناها الزرقاوتين بدفء ليأخذ نفسًا عميقًا ويجيبها بخفوت وحيرة :
_ مش عارف ياملاذ بس اللي اقدر اقولهولك إني ادركت إنك فعلًا ندمانة وعايزة تصلحي غلطك وإني يعتبر خلاص سامحتك ، بس برضوا أنا حاسس إننا محتاجين وقت اطول عشان نفهم بعض فيه اكتر .. وحاليًا أنا مش عايز اتسرع في أي حاجة وعايز ادي لحبنا فرصته كاملة عشان لما ناخد قرار نكون متأكدين منه
لمعت عيناها بوميض جديد حقًا ولم يراه من قبل .. كانت لمعتها تخبره بشكل مباشر بعشقها له ولكنه رأى في نظرتها أيضًا بعض الخوف من الخسارة أو البعد وكان سيقترب بشفتيه من جبهتها ليطبع قبلة دافئة عليها ولكنها سبقته حيث وضعت شفتيها على وجنته تقبله بعمق ورقة للحظات طويلة وهي تبتسم بغرام ثم عادت تدفن وجهها بين ثنايا صدره وتغمض عيناها لتترك روحها العاشقة تنعم لأول مرة بالنوم بين ذراعيه !! ……..
***
خرجت له وهي تحمل بيدها صحن كبير ممتلىء بالفشار وتلتقط الحبات وتأكلهم وهي في طريقها إليه بينما هو فكان يشاهد التلفاز على إحدى قنوات كرة القدم ، فانضمت بجواره على الأريكة وهي تهز بكتفها لينظر لما بيدها فالتفت برأسه لها وابتسم ثم مد يده لصحن الفشار والتقط حبتين والقى بهم في فمه ، ثبتت نظرها على قناة التلفاز المملة وقالت برقة جميلة :
_ كرم ما تغير القناة وتجيب فيلم رعب اجنبي
حدجها وقد ارتفع حاجبه وهدر بخشونة :
_ رعب تاني !!!
كتمت ضحكتها عندما فهمت مقصده من أن الأفلام المرعبة هي السبب في فزعها وخوفها ذلك اليوم عندما ظنت أن هناك شبح بالغرفة السفلية بالمنزل ، ولكنها دافعت عن نفسها ببراءة قائلة :
_ لا أنا بخاف لما أكون وحدي لكن طالما إنت هتتفرجه معايا عادي واساسًا بمجرد ما انام واصحى الصبح هنسى أنا اتفرجت إيه !
لوى فمه بنفاذ صبر من عنادها ثم امسك بجهاز التحكم ووجه نحو التلفاز هاتفًا بهدوء :
_ ماشي ياشفق لما نشوف
اتسعت ابتسامتها وجلست بإرياحية أكثر على الأريكة وبدأت تشاهد الفيلم معه وكعادة الأفلام الاجنبية كان الفيلم في بدايته هادئًا بعض الشيء لا يوجد أي شيء مرعب ولكن مع مرور نصفه بدأت المشاهد المرعبة تظهر وكان هو قد اندمج في المشاهدة فلم ينتبه لها مطلقًا وهي تخفي عيناها بكف يدها وتوسع بين أصابعها قليلًا جدًا حتى ترى شيء بسيط من شاشة التلفاز وحين يظهر وجه الشبح تضم أصابعها بقوة وتحجب الرؤية تمامًا واستمر وضعها على هذا النحو حتى انتهى الفيلم .. رأته يتثاوب ويقول بعينان يغلب عليها النعاس :
_ أنا هروح أنام .. هتنامي ؟
بالطبع لن تبقى بمفردها في المنزل بعد كم المشاهد المرعبة التي شاهدتها للتو !! .. هبت واقفة وقالت بإيجاب :
_ آه هشرب وآجي وراك
ذهب هو للغرفة وبعد أقل من دقيقتين انضمت بجواره في الفراش وتدثرت بالغطاء جيدًا ، فمد هو يده ليطفأ الضوء ليجدها تنهاه بنبرة مرتبكة وابتسامة مترددة :
_ لا متطفيش النور !!
مسح على وجهه وقال متنهدًا :
_ اممممم ابتدينا بقى .. تصدقي أنا اللي غلطان إني سمعت كلامك وخليتك تسمعي !
انطلقت منها ضحكة جلجلت الغرفة نجحت من خلالها أن ترسم الابتسامة على شفتيه رغم اغتياظه منها .. وسمعها تتشدق بلطافة طفل وليس امرأة راشدة :
_ لا أنا مش خايفة أنا بس بتخيل حجات في الضلمة
_ اممممم وبعدين !!
رمشت بعيناها عدت مرات متتالية وبنظرة لا ترفض تستعطفه من خلالها مع ابتسامتها شفتيها الآثرة قالت :
_ يعني متقفلش النور ياكوكو
لمعت عيناه بشرارات الغضب عند نطقها لذلك الاسم الذي يستفزه ومد يده يطفأ الضوء عنادًا بها ويهتف محاولًا كتم غيظه :
_ نامي ياشفق
ولاها ظهره واغمض عيناه فاقتربت هي والتصقت به من الخلف تستند بكفيها على كتفه مردفة بضحكة مرتفعة :
_ خلاص متتضايقش مش هقوله تاني افتح النور بقى بالله عليك والله خايفة
_ لا ، ونامي يلا !!
_ ياكرم بقولك خايفة حرام عليك ههون عليك تخليني أنام وأنا وخايفة
قال ببرود يتصنع عدم المبالاة بأمرها :
_ متخافيش أنا جمبك مش هتطلعلك عفاريت يعني
زمت شفتيها بحزن وابتعدت عنه وهي توليه أيضًا ظهرها قائلة بلؤم متصنعة الضيق لعلمها جيدًا بطرق التأثير عليه وجعله يذعن لرغبتها :
_ ماشي ياكرم شكرًا !
مرت لحظات قليلة حتى اضاءت الغرفة بالنور فابتسمت باتساع وسمعته يهمس مغلوبًا على أمره :
_ عارف إنك بتستغلي نقطة إني مش بحب ازعلك وللأسف بسمحلك تستغليني وبضعف قدامك
التفتت له بجسده كاملًا تقول بسعادة غامرة ومداعبة :
_ عشان إنت كيوت وكوكو !!
_ تاني !!!
كتمت فمها بيدها تقول بضحكة على وشك الانفجار :
_ أهو مش هتكلم خالص .. تصبح على خير
أجابها بنظرة حانية ورقيقة :
_ وإنتي من أهله
ثم عادت توليه ظهرهها وتغمض عيناها وهي لا تتحكم في ابتسامتها التي لا تريد الاختفاء !! ……..
***
مع إشراقة شمس يوم جديد وسط سماء ملبدة بالغيوم والنسائم الباردة تلفح وجهه ، كان يقف أمام الزجاج الشفاف في مكتبه الخاص بمقر شركة العمايري ، يحدق في اللاشيء أمامه بفراغ ! .
شعور السعادة والراحة ينتابه كلما يتذكر بأنه تخلص من البلاء الذي سقط فوق رأسه دون أي أنذار أو تخطيط .. بدأت بمشاجرات كلامية بينهم ومد وجذر طبيعي بين امرأة عاشقة قوية وبين رجل يبغضها بشدة .. تطورت الأحداث حتى ظهر في نصف الحكاية صور وتسجيلات قلبت الموازين ، جعلته ينصاع خلف أفكار عقله المتهورة وانتهي بهم المطاف زوجة وزوجة !! .. وليلة مشؤومة تسببت في طلاقهم بالأخير !!! .
ولكنه مع الأسف يعجز عن تجاهل الصوت الذي لا يصمت بداخله ويخبره باستمرار أن رغم السعادة فهناك قطعة ناقصة تجعل نشوة السعادة لديه لا تصل لذروتها ! ، ماهو ذلك الشيء ولما يمنعه من الراحة ؟! ، لا يعرف ! ……
وقع نظره بتلقائية على السيارة التي توقفت بالأسفل وترجل منها شاب يبدو أنه يسبقه في العمر بسنوات قليلة ، دقق النظر
به جيدًا محاولًا التعرف على وجهه المألوف ، ففشل عقله في استحضار اسمه أو هويته .. اتسعت عدسة عيناه باستغراب حين رآها تخرج من الجانب الآخر للسيارة وهي ترتدي بنطال أسود أعلاه بلوزة جميلة طويلة من اللون الأبيض تصل إلى أعلى ركبتيها وحجابها يأخذ لونًا بنيًا فاتحًا .. تابعها بترقب وهي تقترب وتقف تتحدث مع ذلك الرجل بانفتاح دون رسمية ، فرفع حاجبه مستنكرًا بنظرات ثاقبة ، وبينما هو منشغل بمتابعتهم دخلت مساعدته واقتربت من المكتب ووضعت عليه أوراق خاصة بالعمل وهمت بالرحيل لولا صوته الأجش وهو يقول :
_ ميرنا تعالى
تحىكت نحوه دون سؤال ووقفت بجانبه تلقي بنظرها إلى ماينظر له باهتمام حتى أكمل هو طرح اسئلة قائلًا بصوت رجولي :
_ هي يسر رجعت إمتى الشركة !
ميرنا بنبرة رسمية بعض الشيء :
_ إمبارح .. هو حضرتك متعرفش ؟!
رفع نظره أخيرًا عنهم ونظر للواقفة بجانبه يبتسم بريبة متمتمًا :
_ وهو أنا لو عارف هسألك ليه
تذكرت بأنه لم يأتي لمقر الشركة البارحة فهزت رأسها بتفهم وعادت تنظر مجددًا حين رأته يعود ينظره لهم ، وبعد دقيقة بضبط هتف يسألها للمرة الثالثة وهو لا يزيح بنظره :
_ تعرفي مين ده اللي واقفة معاه ؟!
حركت رأسها نحوه وقالت مندهشة :
_ حضرتك متعرفهوش بجد ؟!
صر على أسنانه مغتاظًا وهتف بنفاذ صبر :
_ مــــيـــرنا !!!!
_ أنا آسفة !
قالتها بخوف وارتباك بسيط ثم اكلمت تجيب على سؤاله ببساطة بالغة :
_ ده راسل ابن جمال بيه وصل إمبارح من أمريكا تقريبًا جاي ياخد أجازة وراجع تاني عشان الشغل في شركة طاهر بيه زي ما حضرتك عارف
_ اممممم راسل .. هو ده بقى راسل !! .. طيب ياميرنا خلاص تقدري تتفضلي
اماءت له بالموافقة واستدارت مغادرة امتثالًا لأوامره ، أما هو فوضع كلتا قبضتيه في جيبي بنطاله وعيناه معلقة عليهم وعلى حديثهم الذي زاد عن حده فاظلمت عيناه حين رآها تضحك بقوة ، في ضحكة حقيقية ليست متكلفة أو عادية .. سأل في قرارة نفسه ” على ماذا تضحك هذه !! ” ………
***
خرجت ملاذ من الحمام على أثر سماعها لصوت رنين هاتفها .. التقطت الهاتف وحدقت بشاشته فوجدته رقم مجهول ، فتحت الاتصال ووضعته على أذنها تجيب برسمية :
_ الو مين ؟
_ ازيك ياملاذ
لن يتركها وشأنها كما توقعت وبالظبط ، غليت دمائها في عروقها وصاحت به بعنف وما ساعدها على التحدث بحرية هو عدم وجود زين الذي خرج لعمل ما سريع وسيعود :
_ عايز إيه يازفت إنت !! .. ابعد عني يا أحمد ومتحاولش تتواصل معايا تاني وإلا صدقني هقول لزين وهو هيتصرف معاك بطريقته
تجاهل تهديدها وانفعالها وهتف بوقاحة :
_ لا بس مكنش حلو عليكي النقاب على فكرة .. كان عندي نظر برضوا لما رفضت اخليكي تلبسيه
_ إنت قذر وحيوان أساسًا جاتك القرف .. آخر تحذير ليك يا أحمد متتصلش بيا تاني
سمعته يهدر بنبرة مرتفعة واستياء :
_ إنتي هتمثلي عليا ، أنا عارف إنك لسا بتحبيني وأنا أهو لسا بقولك في فرصة نرجع لبعض .. اطلقي وارجعيلي ياملاذ بلاش تتعبي نفسك
كانت ستجيب عليه ولكن احست باليد التي قبضت على الهاتف من الخلف وجذبته من يدها بقوة ، فاستدارت مذعورة فورًا وتسمرت بأرضها حين رأته يقف أمامها وبيده الهاتف !! ……….
كانت ستجيب عليه ولكن احست باليد التي قبضت على الهاتف من الخلف وجذبته من يدها بقوة ، فاستدارت مذعورة فورًا وتسمرت بأرضها حين رأته يقف أمامها وبيده الهاتف !! .. وضعه على أذنه يستمع إليه ويهتف ” الو .. الو ملاذ !! ” ، تلونت عيناه بلون دموي مرعب وخرج صوته المريب والذي يقذف الخوف في الابدان :
_ اعتبره أول وآخر تحذير ليك وإلا اقسم برب العزة ما هخليك تشوف الشمس تاني
ولم يكن في حاجة ليوضح له مباشرة من ماذا يحذره ، يكفي أنه فهم جيدًا ماذا يقصد .. انهى الاتصال والقى عليها نظرة نارية ملتهبة بنيران السخط وبعض الخذلان ، اكتفى بهذه النظرة التي تحدثت بدلًا عنه واستدار متجهًا نحو الخزانة يخرج ملابس له بعد أن نزع عنه سترته .. غامت عيناها بالعبارات وشعرت بسكين حادة غُرست في قلبها ، خجلت أشد الخجل من نظرة الخذل التي رأتها في عيناه ، أبدًا لم تكن تريد أن تراها أو تجعله يشعر بالخذلان فيها للمرة الثانية ، هي فقط خشيت من النتائج إن اخبرته .. خشيت من اضطراب علاقتهم من جديد !! .
خطت بخطواتها المترددة والوجلة نحوه حتى وقفت خلفه مباشرة وقالت بصوت يغلبه البكاء :
_ زين .. أنا آسفة !!
جالت بذهنه فكرة أنها قد تكون كذبت عليه بالأمس ولم يكون مرضها حقيقيًا كما اقنعته ، فالتفت لها برأسه وهتف بأعين مشتعلة وصوت حاد :
_ اعتقد إن امبارح شوفتيه في الفرح عشان كدا طلبتي نمشي وكنتي متوترة ومش طبيعية
توقعت أنه سيكشف الأمر فهو ليس أحمق للدرجة التي تجعله يغفل عن شيء كهذا ، اطرقت رأسها أرضًا وقالت بندم وخذي من نفسها :
_ آسفة !! .. والله خوفت اقولك تتعصب وتحصل مشكلة لو شوفته
سرت رجفة قوية في جسدها أثر صيحته العنيفة بها قائلًا :
_ أنا مبحبش الكذب !!
انهمرت دموعها كالشلال على وجنتيها واجابته بصوت متقطع ومرتعش دون أن ترفع نظرها عن الأرض :
_ خو..فت يا..زين ! ، خوفت اقولك وافكرك بكل حاجة تاني لما تشوفه ، أنا بعمل المستحيل عشان اخليك تنسى اللي حصل وتسامحني ، ولما شوفته امبارح حسيت إنك لو شفته ممكن ترجع تعاملني بجفاء زي الأول
لم يتوقف صياحه بها حيث وصل لذروة غضبه وهو يصرخ بها :
_ ده مش مــــــــبرر !! ، لما شوفتيه كان المفروض تقوليلي مش تمثلي إنك تعبانة عشان نمشي ، ودلوقتي بتردي عليه وبتكلميه !!!
رفعت نظرها له وقالت مسرعة ببكاء حاد محاولة تصحيح ما قاله :
_ لا والله مكنتش اعرف إنه هو .. كان رقم غريب وأنا رديت واكتشفت إنه هو وكنت هقفل المكالمة بس …….
_ بس إيه هااا .. كنتي حابة تسمعي توسلاته عشان ترضي كرامتك وهو بيقولك ارجعيلي ، مش هو ده السبب اللي وافقتي تتجوزيني عشانه برضوا !!
هزت رأسها بالنفي تترجاه بنظراتها أن لا يقل هكذا وهي تبكي بحرقة ولكن ماقاله جعلها تتوقف عن البكاء وترتفع علامات الصدمة والأسى على وجهها ! :
_ عايزة تعرفي اجابة السؤال اللي سألتهولي امبارح .. لا ياملاذ أنا مبثقش فيكي ومظنش إني في يوم هرجع اثق فيكي تاني !
ظلت متصلبة بأرضها كالتمثال واليأس يحاوطها من كل الجهات حتى شعرت بأنه يكتم على أنفاسها تدريجيًا ، راودها الدوار من فرط الضغط العصبي والنفسي الذي عانت منه منذ ليلة أمس ، واحست ببرودة جسدها وبدأت اعصابها في التراخي ولم تسمع شيء بعدها سوى صوته غير الواضح يهتف بذعر ” ملاذ .. ملاذ !! ” .
***
كل من حسن وكرم يتبادلون الأحاديث داخل مكتبه ، ويتناقشون بأمور تخص العمل بجدية شديدة ، حتى قطع لحظات عملهم رنين الهاتف الخاص بكرم الذي نظر لشاشته وقرأ اسم المتصل ” مسعد ” فوجه حديثه لأخيه وهو يجذب الهاتف ليجيب عليه :
_ ثانية ياحسن مسعد بيتصل !
أجاب على الاتصال ليأتيه صوته القوي وهو يقول :
_ الو ياكرم بيه
_ أيوة يامسعد حصل إيه ؟
طالعه حسن بنظرات مستفهمة فانزل هو الهاتف من على أذنه وقام بتشغيل مكبر الصوت ليسمع كليهما صوت مسعد الجاد :
_ البيت اللي قاعد فيه اتحرق
غضن حاجبيه بدهشة وهتف بخشونة :
_ لحظة يامسعد بيت مين ده اللي اتحرق ؟!!!
_ اللي قتل مرات حضرتك ياكرم بيه
تبادل هو وحسن نظرة منصدمة ثم عاد يجيبه بصوت صلب :
_ اتحرق إزاي وهو عايش ولا لا
_ مش عايش محدش لحقه وجثته مش باين ليها ملامح أصلًا .. لكن مين اللي عملها معرفش ، تقريبًا واحد من اللي ليهم فلوس بضاعة عنده ولما مدفعلهوش قتله
هتف حسن يتساءل باهتمام وتعجب :
_ حصل امتى يامسعد الكلام ده ؟!
استغرب الآخر قليلًا عند سماعه لصوت حسن ولكنه اجابه بنفس نبرته السابقة :
_ امبارح الفجر
اكمل حسن بغلظة :
_ هو مكنش في حد معاه في البيت ؟
_ لا جثته بس اللي طلعت من البيت
مسح كرم على وجهه متأففًا بخنق ثم هتف بشيء من الانزعاج :
_ طيب يامسعد خلاص
انهي معه الاتصال ونظر لحسن الذي لاحت على شفتيه بشائر الابتسامة المندهشة والممتزجة بالتشفي ثم نظر له وقال باسمًا :
_ هو ده افضل عقاب كان يستحقه وربنا اداله جزائه اللي يستحقه في الدنيا
لا يزال تحت تأثير الدهشة ولا يصدق كيف حدث هذا فجاة ، ولكن لا يهم فقد داهمته مشاعر السعادة والتشفي مثل أخيه حيث أجابه باسمًا :
_ الصراحة مكنتش متوقع ابدًا إن يحصل كدا .. أنا كنت لسا النهردا هبلغ عن مكانه وكان هيتعدم بما إنه هربان من السجن أصلًا وعليه حكم أعدام فبمجرد ما يتمسك كان هيتنفذ عليه الحكم بس ربنا أخذه أخذة عزيز جبار منتقم
اتسعت ابتسامة حسن وأجابه بمداعبة لطيفة :
_ طيب بمناسبة الخبر الحلو ده بقى لازم نحتفل وباقي اليوم النهردا اجازة وهنمشي الموظفين
_ نمشي مين !! ، أنت عبيط يالا !!!! .. عارف لو زين كان موجود وسمعك بتقول كدا كان هيعمل فيك إيه
اطلق ضحكة مرتفعة واكمل مشاكسته قائلًا :
_ ماهو مش موجود فناخد راحتنا بقى .. بعدين خلاص القرار صدر أنا أساسًا عايز امشي ومش طايق اقعد ، وإنت ……..
توقف عن الكلام عندما فتحت يسر الباب ودخلت متجهة نحو كرم ووضعت أمامه بعض الملفات تأخذ رأية بشيء معين ، غير مبالية تمامًا لوجود حسن وكأنه ليس موجود ، فحدق بها بأعين ثاقبة كالصقر يتفحصها بتدقيق في ملابسها وحين تذكر ضحكها ودلالها مع ذلك الذي يدعى ” راسل ” ابن خالتها ، استشاط واحتقن وجهه بالدماء .. هب واقفًا وقال بمضض وهو يوجه حديثه لأخيه ولكن عيناه مثبتة عليها :
_ أنا همشي ولو حصلت حاجة ابقى اتصل بيا
رفع عيناه عن الأوراق وحدق بأخيه هاتفًا بنبرة عادية :
_ طيب ومتنساش تاخد معاك الملفات اللي محتاجة مراجعة وتظبطها زي ما اتفقنا
اماء له برأسه وعيناه لا تزال معلقة عليها وكلما يراها لا تنظر له وتتجاهله تمامًا يزداد غيظه .. حجب نفسه بصعوبة عنها واندفع إلى خارج المكتب قبل أن يفقد زمام نفسه ، أما هي فلوت فمها بخنق واقتضاب ثم اخذت الورق وانصرفت بعد أن انتهت من حديثها مع كرم الذي ضحك بخفة بمجرد رحيلها وقال :
_ ربنا يهديكم
***
فتحت عيناها تدريجيًا ببطء شديد وكانت الرؤية مشوشة في باديء الأمر حتى بدأت تتضح وأول شيء رأته كان هو حيث كان بجوارها على حافة الفراش وعيناه تحوم فيها إشارات الفزع .. سمعت همسه القلق إليها عندما رآها عادت لوعيها :
_ ملاذ أنتي كويسة .. اخدك للدكتور ؟!
هزت رأسهل بالنفي وعصف بذهنها ماحدث قبل أن تفقد وعيها فغامت عيناها بالعبارات مجددًا لتعتدل في نومتها حتى تصبح شبه جالسة .. اجفلت نظرها للأسفل ولم تقوي على وضع عيناها بعيناه وخرج صوتها به غصة مريرة ، منكسر ومهزوز :
_ أنا مكنش في نيتي اخبي عليك أنا لما شوفته قولت دي صدفة ومش هشوفه تاني فلموش لزمة اقولك واعمل مشكلة ملهاش لزمة ، لو كنت اعرف إن ده اللي هيحصل كنت قولتلك
فرت دموعها من عيناها لترفع اناملها وتجففهم مكملة حديثها بنبرة بائسة وتائهة :
_ أنا لغاية دلوقتي بشوف في عينك نظرة عدم الثقة يازين ، بحسك مش واثق فيا ولسا بتفكر إني ممكن اخدعك أو اخونك .. وإنت قولتها بنفسك إنك مش بتثق فيا
دموعها ، نبرتها ، بؤسها ، جميعهم اصابوا الهدف تمامًا وغرسوا في يساره سهم حاد .. فاضعفته دموعها وندم على ماقاله في لحظة غضب لا تحسب ، لانت نظرته لها واصبحت ممتلئة بالدفء والاعتذار .. فأصدر تنهيدة حارة ومسك بكفها يملس عليه بلطف هامسًا بأعين محبة :
_ غلط ! ، أنا مشكيتش فيكي أنا كل غضبي كان بسبب إنك خبيتي وكدبتي عليا ، كنت أحب إنك تقوليلي مش تخبي عليا .. ومتاخديش على كلامي أنا كنت متعصب ومكنتش عارف أنا بقول إيه ، وزي ما إنتي محتاجة تحسي بثقتي فيكي أنا كمان محتاج ده ، ومحتاج احس بإنك بتعتبريني كل حاجة بنسبالك مش مجرد زوج ، في حجات كتير ناقصة بينا ياملاذ أنا مش هعرف اشرحهالك صدقيني
توقفت عيناها عن ذرف الدموع وحدجته بحيرة امتزجت باليأس من كلماته ، أما هو فهب واقفًا وانحني إليها يطبع قبلة رقيقة على شعرها متمتمًا :
_ ارتاحي وكلي الأكل اللي جبتهولك ، وأنا هروح اصلي الضهر في المسجد وجاي
تابعته بوجه عابس وهو يستدير ويرحل ، وعقلها يطرح الاسئلة ” ما هو الناقص ؟! ، ماذا يقصد بالأشياء الناقصة بيننا ؟!! ، وياترى ماذا على أن أفعل حتى اساعد معه في إكمال الناقص ؟!! ” .. لا شك في أنها اخطأت حين ظنت بأن الوصول لذروة العشق سهلة ! ، فلن يصل للعشق الصادق إلا من مر بجميع تحدياته ووقف صادمًا بوجه اعتى الرياح و الصعاب ، وليس هناك أصعب من التوغل لقلب رجل ناضج ومثقف .. وحتى تتمكني من الإلمام بجميع جوانبه عليكي أولًا أن تلمسي أعمق نقطة في داخله !! ……….
***
مع غروب الشمس وحلول المساء …….
فتح كرم الباب ودخل ثم نزع حذائه عنه واغلق الباب خلفه وقاد خطواته نحو غرفته مباشرة لظنه بأنها ستكون نائمة في فراشهم ولكنه سمع صوتها وهي تهتف من المطبخ :
_ كرم إنت جيت ؟!
توقف والتفت برأسه للخلف وأجابها :
_ أيوة ياشفق جيت
ثم استدار بكامل جسده وذهب إليها ليجدها تقف أمام آلة تحضير القهوة وتحاول تشغيلها وهي تقول بعبث :
_ إزاي بتشتغل دي .. نفسي أعمل عليها قهوة مش عارفة !!
مالت شفتيه للجانب بضحكة بسيطة واقترب منها ليقف بجوارها ويغمغم بعد أن ابعدها برفق :
_ ابعدي وهوريكي إزاي تتعاملي معاها
تراجعت للخلف وركزت كامل انتباهها عليه وهو يريها طريقة تشغيلها والتعامل معها وبعد أن انتهى نظر لها بعيناه الرمادية متمتمًا :
_ عرفتي إزاي هتشغليها ؟!
اماءت بابتسامة رقيقة وهمت بأن تطبق عملي ما علمها حتى تحضر لها كوب قهوة لعله يزيل الآم رأسها ، ولكنها وجدته يقبض على رسغها هاتفًا بشيء من الحزم :
_ إيه إنتي هتعملي قهوة دلوقتي ؟!!
_ أهاا مصدعة أوي والله ولما بشربها بتظبط دماغي جدًا !
رأت الابتسامة تشق طريقها لشفتيها وهو يردف ساخرًا :
_ إيه شغل المدمنين ده !! ، أنا اللي من عشاقها مش بشرب منها في الوقت المتأخر ده ، ثم إن غلط تشربيها دلوقتي لو مصدعة نامي لكن لو شربتيها دلوقتي هتزود عليكي الصداع وهتعملك إرهاق ومش هتعرفي تنامي
رفعت يدها تشير إلى عقلة من سبابتها قائلة برجاء ونظرات مستعطفة :
_ هشرب حتة صغننة خالص ، قد كدا !!
هز رأسه رافضًا بحدة مزيفة ليحاول اخفاء ابتسامته على طفوليتها :
_ تؤتؤ .. قولت لا
تأففت بخنق وقالت بعبوس وضيق :
_ يوووووه إنت وحش على فكرة
لف ذراعه حول كتفيها وهو يديرها لكي تتجه معه نحو الغرفة متمتمًا بمشاكسة محببة لقلبها :
_ تقريبًا إنتي أول واحدة تقول إني وحش ، بس ما علينا تعالى عشان عندى ليكي خبر حلو
تجاهلت جملته الأخيرة أو بالأحرى لم تركز فيها جيدًا فأجابته بغنج انوثي ومغازلة صريحة به :
_ بهزر طبعًا هو مين ده اللي وحش ! ، كل الحلاوة دي ووحش !!
رفع حاجبه فاترًا عن ابتسامة واسعة تميل لليسار قليلًا وقال برقته المعهودة يتغزل بها بمداعبة لأول مرة .. فقد تمكنت في الأيام القليلة أن تمحو حواجز توتره وخجله منها واصبح يتصرف معها بطبيعية وبحرية أكثر :
_ دي عيونك اللي حلوة
لم يكن حيائها بقدر صدمتها من أنه يتغزل بها ، لتصمت وتحدجه بمزيج من الخجل والدهشة ، وعلى شفتيها ابتسامة مستحية ، ولكنها تصرفت بشيء من المرح وهي تهتف :
_ هو أنا المفروض دلوقتي اتكسف ولا اندهش ؟!
_ زي ماتحبي !!
قالها بنفس تعابير وجهه السابقة لتحاول هي الخروج من قوقعة خجلها وتوترها ، فتهتف بفضول :
_ طيب إيه هو الخبر اللي بتقول عليه ده ؟!
أخذ نفسًا عميقًا وأخذت ملامحه القليل من الجدية مع بعض الفرح وهو يقول :
_ من هنا ورايح مفيش قلق تاني وده مش بنسبالك بس ده بنسبالي أنا كمان ؛ لإني كنت ببقى قلقان وخايف عليكي كل ما اطلع من البيت واسيبك وحدك بسبب الحيوان اللي كان بيحاول يأذيكي .. ودلوقتي حصل حريق في البيت اللي كان موجود فيه وهو كان جوا ومات محروق لدرجة إن جثته مش باين ليها ملامح
هيمن عليها الذهول للحظات قبل أن تهدر بصدمة وعدم استيعاب :
_ لحظة ، فهمني طيب ده حصل إزاي وامتى ؟!
_ حصل امبارح الفجر ، أما إزاي فأنا ذات نفسي معرفش بس مش هو ده المهم .. المهم إننا خلصنا من شره وربنا انتقم لينا منه ، أنا حاسس براحة جميلة جدًا من وقت ما عرفت وبحمد ربنا إنه خلاني اشوفه قبل ما يموت عشان اخد حق اروى واطفي ناري ، دلوقتي بس أنا أقدر أقول إن الهم اللي كان على قلبي انزاح
اتسعت ابتسامتها وقالت بسعادة غامرة وأعين تفيض حبًا :
_ لا أنا بقى بحمد ربنا انه استجاب لدعواتي لإني كنتي خايفة عليك منه أوي ، بس خلاص مات وارتحنا منه
حدجها مبتسمًا للحظات طويلة يمعن النظر فيها حتى وجدها تهتف بحماس طفولي :
_ طيب وبمناسبة الخبر الحلو ده يلا نشرب قهوة
انطلقت منه ضحكة مرتفعة وقال بإصرار ورفض قاطع :
_ لا برضوا .. ويلا روحي نامي عشان الصداع اللي عندك ده يخف
_ اووووووف بجد ياكرم
رأته يقف جامدًا لا يظهر عن أي ابتسامة أو تعبيرات لطيفة ، فقط معالم وجهه صارمة بعض الشيء فتحركت باتجاه الغرفة وهي تلتفت برأسها له وترمقه بأعين مغتاظة وتقوم ببعض الحركات الكوميدية بشفتيها كدليل على غيظها وخنقها منه ومن رفضه ، وأخيرًا سارت مباشرة دون أن تتلفت له ودخلت الغرفة ليضحك هو مغلوبًا على أمره من مشاكستها وعنادها ثم لحق بها !! ……..
***
طرقت ميار عدة طرقات خفيفة على الباب حتى اتاها صوته الرجولي وهو يسمح لها بالدخول ففتحت الباب ودخلت على استحياء ، ورأته يشير لها بعيناه ناحية الباب ففهمت فورًا واغلقته خلفها ثم تحركت نحوه وجلست على المقعد المقابل له هامسة بنظرة مضطربة :
_ حضرتك قولت إنك عايزني ؟!
أخذ طاهر نفسًا عميقًا قبل أن يهتف بحدة :
_ أيوة حبيت اقولك بنفسي عشان تعملي حسابك ومتحطيش أمل إنك ممكن ترجعي المانيا تاني
رمقته بذهول صامتة لخمس ثوانٍ حتى تحدثت بعد استيعاب لما تفوه به للتو :
_ بس ياعمو أنا لسا فاضلي سنة في الكلية ومش هقدر اسيبها
اظلمت عيناه ونبرته أصبحت أكثر خشونة وغلظة ، ليجيبها بأعين ارهبتها قليلًا :
_ كليتك هتكمليها هنا .. لكن سفر تاني مفـــيــــش ياميار ، انسي إنك تشوفي المانيا دي تاني حتى لو اطلقتي من علاء
كانت إشارات الصدمة تعلو معالم وجهها ونظراتها لا تصدق ما يأمرها به ، بل وحتى عقلها يرفض الخضوع .. فهدرت في رفض بسيط :
_ wie bitte !!! , ich kann nicht
( ماذا !!! ، أنا لا استطيع )
ارتفعت نبرة صوته قليلًا وهتف بقسوة :
_ أنا مش بخيرك ! .. ده اجباري ومش قراري لوحدي دي جدتك بنفسها هي اللي قالتلي كدا
استقامت واقفة وهتفت مندفعة بأعين دامعة :
_ لا بس ده ظلم أنا مش عايزة اعيش في مصر وعايزة اكمل دراستي في المانيا
طاهر بصياح هادر وانفعال مخيف :
_ ظلم !!! ، كان المفروض تفكري في ده قبل ما تعملي عملتك المهببة دي وتخلي راسنا في الأرض
انتفضت واقفة بهلع من أثر صيحته وانهمرت دموعها غزيرة لتسحب نفسها بسرعة وتندفع لخارج مكتبه عائدة لغرفتها متجاهلة نظرات زوجة عمها المستاءة منها .
فتحت غرفتها واغلقت الباب خلفها ثم القت بنفسها على الفراش منخرطة في نوبة بكاء عنيفة واستمرت على وضعها هذا إلى مايقارب الربع ساعة ، حتى رأت علاء يفتح الباب ويدخل بعد أن عاد من الخارج .. نزع سترته عنه غير مباليًا لها ولكن حين وقع نظره عليها ورأى وجهها الغارق بدموعها هتف بغلظة وسؤال من دافع الفضول فقط :
_ مالك ؟!
لم تجيبه فقط القت عليه نظرة كلها غل وغضب لتجده يعيد سؤاله ولكن بنبرة مرعبة :
_ لما اكلمك تردي عليا !
وثبت من الفراش واقفة واندفعت نحوه تصيح به بسخط قوي غير مكترثة لأي شيء ودون أن تضع في الحسبان نتائج فعلتها تلك :
_ أنا مش عايزك ومش عايزة اعيش هنا ، أساسًا أنا مش طيقاكم كلكم ، ومحدش فيكم عايز يصدقني والكل شايفني كذابة !! ..هو إنت فاكر إنك هتخوفني بطريقتك دي ، أنا أصلًا مش شيفاك راجل ياعلاء عشان اخاف منك
هي حقًا فقدت عقلها بالكامل لتهتف بهذه الكلمات أمامه دون ادراك لعواقب الأمر .. كان يحجب نفسها عنها بصعوبة منذ أن تزوجها بسبب أبيه الذي يحذره مرارًا وتكرارًا من أن يقوم بفعل متهور معها ، ولكن بعد ما قالته الآن هيجت الوحش الخامد في أعماقه ، وأثارته لدرجة لا يمكنها تخيلها حيث شعرت بكفها القوي يهوي على وجنتها بعنف حتى اسقطها على الفراش وانحني نحوها يجذبها من خصلات شعرها ليجعلها تقف على قدماها مجددًا صارخًا بها بصوته الجهوري الذي نفضها نفضًا بأرضها :
_ مش راجل هااا ، عشان اتجوزتك وداريت على فضيحتك يا***** مش شيفاني راجل ، ده أنا مشوفتش واحدة في بجاحتك ياقذرة
ارتفع صوت نشجيها القوي وهي تحاول التملص من بين قبضتيه بينما هو فأكمل ولكن هذه المرة بهمس أثار قشعريرة في جسدها :
_ إنتي فعلًا متربتيش وعايزة تربية وأنا عارف هربيكي من أول وجديد إزاي ياميار ، مبقاش علاء العمايري أما خليتك تشوفي التربية على حق
ثم دفعها على الفراش مجددًا تاركًا إياها وهو يهتف مشمئزًا :
_ جاتك القرف في شكلك !!
***
تحديدًا بغرفة يسر …….
تقف في الشرفة وتترك لنسائم الشتاء الباردة الحرية في لفح وجهها فيتطاير معها خصلات شعرها السوداء .. دومًا رأته كتلك النسائم الباردة لا يملك دفء أو رفق ، فقط القسوة والصقيع .. كانت دموع عشقها تنهمر على وجنتيها لتدفئها فيأتي هو بصقيعه ليثير الرجفة في جسدها ويجمدها بجفائه ! ، لم تكن تطلب منه أكثر من بعض اللطف والحنو ، كان سيكيفها القليل من مشاعر الحب والرغبة ، ولكنه رأى أن حتى المشاعر كثيرة عليها .. واشبعها قسوة وإهانة ومشاعر كلها نقم ، ولكنها هي المخطئة .. هي من سمحت له بتدميرها وتجميد قلبها ، هي الساذجة الوحيدة في هذه الحكاية !! ، اندفعت خلف هوسها به حتى نسيت كبريائها وكرامتها فبعثرها لأشلاء ودهسها ! .. وفي الواقع هو لم يهنها بل هي من اهانت نفسها حين ركضت خلف رجل لا يريدها ، وحين دعس بقدمه على عزة روحها في صباح الليلة الأولى بينهم ولقنها بكلماته القاسية وحملها هي ذنب ما حدث بينهم ، ورغم هذا لم تفق وعادت له مجددًا حتى تكون الصدمة أقوى ويزيد من اذلالها عندما عرف بحملها وأجباره لها على إجهاضه ، حينها استفاقت من تعويذة العشق التي كانت تعميها لتفهم وتدرك أن ذلك الرجل لا يستحق ذرة واحدة من عشقها ولا يستحق سوى البغض !! .
اخفت وجهها بين ثنايا كفيها منخرطة في بكاء حار بقلب منفطر ومنكسر ، تبكي حرقة على مافعله بها فقط لأنها احبته ورغم كل هذا مازالت تشتاق له ، تبًا لهذا العشق اللعين !!! .
رفعت وجهها وجعلت نجفف دموعها بسرعة عندما دخلت أمها الغرفة وسمعتها تهتف :
_ يسر ياحبيبتي إنتي لسا صاحية !
التفتت برأسها لأمها وابتسمت بتكلف تتصنع الطبيعية :
_ هنام دلوقتي ياماما
_ طيب ادخلي ياحبيبتي من البرد إيه اللي موقفك كدا !!؟
كانت تقاوم بالظهور ثابتة حتى لا تنفجر باكية أمامها وقالت بخفوت :
_ حاضر هدخل ، روحي إنتي نامي
_ تصبحي على خير
_ وإنتي من أهله
استدار ورحلت أمها فاستنشقت هي القليل من نسائم الشتاء حتى تعيد تجميد قلبها وتتوقف عيناها عن ذرف الدموع ، ولأول مرة ينفعها الصقيع ويزيدها قوة وصلابة ، أخرجت زفيرًا يحمل بخار الشتاء ثم دخلت واغلقت باب الشرفة واتجهت نحو فراشها لتمدد جسدها عليه وتتدثر جيدًا بالغطاء مغمضة عيناها في محاولة بائسة منها للهرب من واقعها الأليم !! .
***
يتجنب الحديث معها منذ صباح اليوم ولا ينظر لها ؛ حتى لا يوهمها بأنه صفي تمامًا لها .. ولكن تجاهله لها بات يثير جنونها ولا تطيقه ، لا تتحمل رؤيته غاضب منها ولن تهدأ إلا حين تحصل على مسامحته وتنزع الاستياء من أعماقه ، وستعتذر له بكل الطرق الممكنة ! .
رأته يقف أمام الخزانة يخرج ملابس له حتى يأخذ حمام دافيء فنهضت من الفراش واعترت طريقه قبل أن يتحرك تنظر له بعبوس وتهمس بأسى :
_ لسا واخد على خاطرك مني صح !
اطال النظر في معالم وجهها دون أن يجيب وهو يجاهد في منع نفسه التي تلح عليه بأن يعانقها ويعنفها بلطف حتى لا تنظر له بهذه النظرات التي تأثره مجددًا ، وكأنها قرأت أفكاره فوجدها ترتمي بين ذراعيه وتعانقه دافنة وجهها بين ثنايا رقبته هامسة بصوت مبحوح ويغلبه البكاء :
_ ارجوك يازين متعاقبنيش ببعدك عني وجفائك ، أنا تعبت والله ومبقتش قادرة استحمل
اذابت الجليد بنبرتها وعناقها له فخر مستسلمًا أمامها وابعدها عنها يتمتم بصوت دافيء عندما رأى عيناها الممتلئة بالدموع :
_ متعيطيش !
أجابته بعينان تلمع بوميض الأمل ونبرة فرحة :
_ يعني مش زعلان مني خلاص ؟!
مالت شفتيه للجانب بابتسامة عاشقة وكانت في عيناه نظرة مريبة وجديدة تمامًا ، فطالعته هي بحيرة تنتظر منه الأجابة بنعم ، ولكنه اراد أن تكون اجابته مختلفة ، حيث رأته ينحني برأسه ناحيتها فتجمد جسدها واضطربت حين توقعت فعلته القادمة .. ولم يخطأ توقعها حيث نجح في أن يسرق أخيرًا اولى لحظاتهم الغرامية معًا للحظات كانت بمثابة ساعات بالنسبة لكليهما ، فيسلبها عقلها بكامل ارادتها .. ابتعد بعد لحظات عابرة واقترب من اذنها يهمس بنبرة اطلقت سهامها إلى قلبها وبابتسامة واسعة :
_ أظن كدا الإجابة وصلت !
ثم تحرك متجهًا نحو الحمام تاركًا إياها في تخبطات مشاعرها ، تحاول لملمة شتات نفسها الذي بعثرها للتو ، ثلاث ثواني بالضبط وارتفعت الابتسامة الخجلة لشفتيها تدريجيًا لتضع كفها على فمها أو على شفتيها تحديدًا موضع قبلته وهي تضحك باستحياء وسعادة غامرة ، هرولت نحو الفراش وتدثرت بالغطاء مولية وجهة الحمام ظهرها لكي تتهرب منه حين يخرج كوسيلة لإخفاء خجلها ، ظلت تحملق في اللاشيء أمامها وهي تبتسم إلى حين سماعها لباب الحمام يفتح بعد دقائق ليست بطويلة ، فأغلقت عيناها فورًا متصنعة النوم وقد احست بقلبها الذي يطرق بعنف كالمطرقة ، وزاد توترها حين شعرت به ينضم بجوارها في الفراش هاتفًا :
_ ملاذ !!!
فتحت عيناها على أخرهم ودارت بهم في جميع حدود الغرفة التي أمامها لا تعرف بماذا تجيبه ، بل خجلها هيمن عليها لدرجة أنها إن اجابته ستتلعثم ولم تخرج كلمة واحدة صحيحة على الأقل ، أما هو فضحك بصوت مكتوم حين فهم خجلها وقال باسمًا بشيء من المكر ليوقعها في شباكه :
_ ملاذ إنتي نمتي ؟!
” نمت !! ، أجل هذه أفضل حجة لأتهرب منه ” قالتها لنفسها بارتباك وتصنعت النعاس وهي تردف بتلعثم :
_ أاا..ايوة
كتم ضحكته واجابها بمزيد من اللؤم :
_ امال بتردي عليا إزاي !
وجدت نفسها تلتفت له برأسها وتهتف مغتاظة من مكره واصراره على زيادة خجلها :
_ برد عليك من الحلم يازين !!
انطلقت منه ضحكة مرتفعة نسبيًا ثم اعتدل في نومته واقترب منها طابعًا قبلة رقيقة على جبهتها هامسًا :
_ طيب تصبحي على خير
ذلك الخبيث لم يكفيه مابعثره منها بقبلته منذ قليل والآن يحاول أن يبعثر ما تبقى ، اجابت عليه بإيجاز وتوتر امتزج بحياء ملحوظ منها :
_ وإنت من اهله
وسرعان ما عادت توليه ظهرها من جديد مغمضة عيناها في محاولة منها للسيطرة على دقات قلبها المتسارعة !! .
***
داخل منزل محمد العمايري في صباح اليوم التالي ………
كان كل من هدى ورفيف والجدة يجلسون على مائدة الطعام ويتناولون فطورهم ، معادا الجدة التي كانت تحدق بالطعام في صمت دون أن تدخل لقمة واحدة منه في فمها ، فانتبهت لها هدى وتأففت بنفاذ صبر هاتفة بلين :
_ ياماما كلي ابوس إيدك ، إنتي بتاخدي علاج ولو مكلتيش كويس هتتعبي ، ده من وقت اللي حصل مع ميار وإنتي مش بتاكلي كويس !
نظرت لها وقالت باقتضاب :
_ المفروض إني أكون فرحانة ياهدى ؟!
اقتربت بمقعدها منها وامسكت بكفها تملس عليه بلطف هامسة بحنو ، فهي تعتبرها أمًا لها وبينهما علاقة قوية :
_ أنا مبقولكيش تفرحي ! ، أساسًا محدش فينا فرحان .. بس مينفعش تفضلي زعلانة كدا ومش عايزة تاكلي
غامت عينان الجدة بالدموع وهي تقول بوجه حزين :
_ مش قادرة اصدق إنها عملت كدا ياهدى ، أنا دلعتها فعلًا بس كنت واثقة فيها وفي الآخر هي تحط راسي في الأرض
تدخلت رفيف في الحديث وقالت بشيء من الحزم :
_ تيتة إنتي فعلًا غلطانة إنك مكنتيش بتاخدي بالك منها ولا بتراقبي أفعالها ، بس ده ميمنعش إن الغلط الاكبر عليها وميار مش صغيرة وعارفة الغلط من الصح ، وأظن إنها دلوقتي بتدفع تمن غلطها بجوازها من علاء
اماءت الجدة بتأيد على ماقالته حفيدتها ثم مدت يدها وجففت دمعتها لتنظر لهدى وتقول بصرامة :
_ والاستاذ حسن مش ناوي يقول اللي حصل بينهم خلاه يطلق مراته
عبست ملامح هدى وقالت بضيق وصوت يائس :
_ لا هو ولا يسر عايزين يتكلموا ، وانا هتجن وافهم ازاي طلقها بالسهولة دي .. مش معقول تكون خناقة عادية اللي حصلت بينهم
هتفت الجدة بحدة ونظرات ثاقبة :
_ أنا هتكلم معاه لما ياجي وهعرف اتصرف معاه الغبي ده !
تنهدت هدى بعدم حيلة بينما رفيف فابتسمت على نعتها له بالغبي ، فإن نظرت من المنظور الواقعي هو بالفعل كما وصفته الجدة ، اهدر فرصة لن تأتيه ثانية .. ولن يجد فتاة تعشقه بقدر يسر مهما فعل !! .
***
كان كرم لا يزال نائم في الفراش بثبات تام ، وهي بجواره كلاهما وجه لوجه تحدق به بتمعن ، تتأمل ملامحه الهادئة والجميلة حتى وهو نائم ، شعره الذي يعطي لمسة بنية خفيفة ، انفاسه المنتظمة والدافئة ، لا يمكن أن يكون بكل هذه الوسامة حتى في نومه .. باتت تعشقه أكثر من أي شيء ، بل وكيف لامرأة تحظي بقرب هذا الوسيم واللطيف ولا تقع بين شباك عشقه .
وجدت به الأخ والصديق والزوج عندما كان لا يوجد لديها أحد سواه ، لطفه وحنانه وحسن معاملته وكلامه الساحر اجبروها على الانخراط بتعويذة العشق ، رأت فيه طوق النجاة وحظت بالآمان بقربه وحصلت على ملجأ لها من كل شيء .. يكفيها وجوده معها الذي يمنحها القوة والسكينة والأطمئنان .
هناك مشاعر متضاربة وكثيرة تشعر بها تجاهه ولكنها لا تعرف حتى كيف تصفها لنفسها سوى أنها تعشقه بكل حرف تحمله الكلمة من معنى .
ومع الأسف يبدو أنها ستعاني من ألم العشق ، فهي تعرف جيدًا أن برغم كل ما يفعله معها لا يحبها مثلما تحبه فقط يراها كصديقة وشخص يمتلك مكانة كبيرة جدًا في قلبه ، ولكنها لا تريد تلك المكانة بل تريد قلبه كله .. تريد عشقه مثلما يعشق زوجته حتى الآن ، فالعشق لا يعرف العدل وإن أحببت يجب عليك أن تتبع قاعدة الانانية أول شيء ، وهي لا تريد أن يكون بقلبه سواها ، ولكنه لا يحبها !! .
هل هي قبيحة ولذلك لا يلتفت لها ؟ ، ماذا وجد بزوجته حتى عشقها لهذا القدر ؟ .. هل هناك شيء لا يعجبه فيها ؟ ، أم أنها فشلت خلال هذه الفترة أن تنل القليل من حبه ؟ ، توقفت عن طرح الاسئلة لنفسها حين رأته يفتح عيناه فكانت هي جامدة تمامًا تحملق به بأعين دامعة ولكنه بسبب استيقاظه للتو لم ينتبه جيدًا لها وفقط عقد حاجبيه باستغراب حين رآها تحدق به ورسم ابتسامة عذبة على شفتيه يجيبها وهو يهب جالسًا ويفرك عيناه :
_ صباح الخير !
تمتمت بخفوت وابتسامة مهمومة :
_ صباح النور
التفت لها برأسه وغمغم متسائلًا بحيرة :
_ إنتي صاحية من بدري ؟!!
اعتدلت في نومتها وجلست مثله ، تهز رأسه نافية وتهمس :
_ لا !!
أماء برأسه بحركة خفيفة ثم نهض من الفراش واتجه إلى الحمام الملحق بغرفتهم لتحدق على آثاره بيأس وضيق ، وبقيت مكانها لدقائق طويلة حتى خرج بعد أن أخذ حمامه الصباحي وكان يمسك بالمنشفة يجفف شعره الذي تتساقط منه قطرات الماء ، وأخيرًا انتبه لوضعها المريب وشرودها وعبوس وجهها فاقترب وجلس بجوارها بعد أن لف المنشفة حول رقبته وغمغم باهتمام :
_ مالك ياشفق ؟!
_مليش !
قالتها بعدم مبالاة لوضعها وقلة حيلة ، فدقق هو النظر جيدًا بعيناها المجفلة لأسفل ليراها ممتلئة بالدموع ، فظهرت علامات الدهشة والقلق على وجهه وسألها بهدوء :
_ بتعيطي ليه ؟!
رفعت اناملها لعيناها ومسحت دموعها ثم هزت بكتفيها لأعلى وتمتمت بصوت بائس دون أن تنظر له :
_ مش بعيط !!
_ طيب العياط ده ، ليه علاقة بسيف ومامتك ؟!
نفت برأسها وهي مازالت مطرقة لأسفل بوجه تعلوه معالم الأسى ، فزدادت حيرته وقلقه ليمد اناملها ويرفع ذقنها برفق هامسًا :
_ بصيلي ياشفق ، في إيه ؟!!!
علقت عيناها عليه وتمتمت بنظرات مشوشة وصوت مهزوز يغلب عليه البكاء :
_ هو أنا وحشة ياكرم ؟!
غضن حاجبيه بريبة من سؤالها العجيب ولكن سرعان ما ابتسم وتمتم بحنو وهو يملس على شعرها :
_ وحشة !!! ، أنا مش فاهم إيه مناسبة السؤال ده ، بس لا أكيد مش وحشة ياشفق ، بالعكس انتي جميلة جدًا كفاية ملامحك البريئة وتصرفاتك العفوية اللي بحبها أوي
عادت تشيح بوجهها عنه وتقول محتجة بقلة ثقة :
_ متجاملنيش !
زادت ابتسامته اتساعًا وهمهم برقة :
_ أنا مش بجاملك ومبعرفش اجامل أساسًا .. طيب تعالي !
وقف وجذبها من يدها بلطف حتى اوقفها أمام المرآة ووقف خلفها مباشرة ثم وجدته يضع كلتا يديه على كتفيها هامسًا بنظرات عيناه الرمادية الساحرة :
_بصي لنفسك ، إنتي شايفة نفسك وحشة كدا !!!
دققت النظر بنفسها في المرآة لثواني قليلة ثم نظرت لصورته هو في انعكاس المرآة لتجده يكمل همسه الذي كان قريب بما فيه الكفاية من أذنها :
_ وبعدين أنا في رأى إن الجمال عمره ما كان بالشكل
ابتسمت ساخرة وهي تقول :
_ آهاا الجمال جمال الروح وكلام الأفلام والمسلسلات ده !
استرسل حديثه بكامل الدفء والرزانة :
_ بس ده مش كلام أفلام ده حقيقة ! ، في ناس حلوة كتير شكلًا بس لا اخلاق ولا طبع ولا تعامل والناس كلها بتبقى بتكرهم وفي ناس بتبقى مش حلوة ابدًا بس اخلاقها وطبعها مع الناس بتجبر الكل إنه يحبها ، إنتي مستحيل تحبي حد عشان شكله وإلا ده يبقى مسمهوش حب يبقى اسمه اعجاب وهياخدله كام يوم أو كام شهر ويروح ، هديكي مثال مثلًا .. في كتير بيتجوزوا بنات مش حلوين أو العكس وبيبقوا مبسوطين وفرحانين ببعض ، هتقوليلي إزاي حبها أو ازاي حبته دول مس لايقين على بعض خالص هقولك هي محبتش شكله هي حبت ذاته ، في النهاية اللي عايز اوصولهولك إن مفيش حد هيحبك عشان شكلك انتي بروحك وافعالك بتخلي الشخص اللي قدامك يحبك ، فهمتي ؟!
ادمعت عيناها بعاطفة جياشة ، وهي تبتسم على حظها الجميل وتقول لنفسها ” وماذا إن كان وسيم الشكل مثلك وجميل الطبع أيضًا ، بتأكيد سافقد عقلي تمامًا ! ” التفتت له بكامل جسدها وهي تحدجه بدموع عيناها وتبتسم بعشق جارف وارتمت بين ذراعيه مغمغمة بدلال انوثى جميل :
_ طيب اسمحلي اقولك إن إنت اللي حلو بجد في كل حاجة مش شكلًا بس
كان يشك في حقيقة مشاعرها تجاهه منذ فترة والآن شكه ازداد أكثر في أعماقه ، ولكنه لم يعقب كثيرًا وفضل أن يتصرف بطبيعية تمامًا وكأنه لم يفهم شيء من نظراتها العاشقة له دومًا .. لاحت ابتسامة بسيطة على شفتيه ورفع يده يضعها على ظهرها متمتمًا بنعومة :
_ اممممم عارف قولتهالي كتير قبل كدا ، بس إنتي مش ملاحظة إنك بتتغزلي فيا كتير الأيام دي
ابتعدت عن وقالت بمشاكسة وغنج عفوي :
_ أنا !!! ، لا ابدًا ، إنت أكيد بيتهأيلك !!
_ اااه ما أنا قولت كدا برضوا !
قالها بابتسامة امتزجت ببعض المكر ، لتتخلي هي عن مزاحها وتقول بلطافة وامتنان به القليل من الخبث شاكرة إياه على كلماته الرائعة التي قالها للتو :
_ شكرا ياكوكو !
مد يده يقرص وجنتها بلطف ويقول بنفاذ صبر مغتاظًا :
_ العفو ، بس نبطل كوكو دي هااا !!
افترت عن ابتسامة عريضة وأسنان بيضاء ناصعة أما هو فألقى عليها نظرة دافئة أخيرة قبل أن يستدير وينصرف ، تاركًا إياها تبتسم بهيام وتصدر تنهيدات مغرمة بجماله !!! .
***
داخل مقر شركة العمايري تحديدًا بمكتب حسن ……
مر اسبوع منذ أن تركت المنزل ورحلت ، اسبوع فقط قلب جميع الموازين ضده ! ، ولا ينكر أنه لسبب مجهول لا يتمكن من التوقف عن التفكير فيها بالأخص بعد ظهور ابن الخالة الذي يراه بكثرة معها ، وفي كل مرة يراها معه يداهمه شعور عدواني تجاهه بأن يذهب ويبرحه ضربًا ومن ثم يجذبها ويرحل بها فيعنفها بشدة ، ولكنه يتجاهل ذلك الشعور الذي يخنقه ولا يعرف سببه ، وينجح بكل مرة أن يتمالك أعصابه بصعوبة .
الآن هناك صوت بداخله يلح عليه بأن يذهب ويتحدث معها لعله يتمكن من الحصول على مسامحتها ، فهناك حقيقة واحدة يقرها وهي أن ضميره يقتله كل يوم ، ولا يستطيع اسكاته ، يشعر بالذنب تجاهها وتجاه طفله ولا يود أن تكون النهاية مؤلمة لكيلهما هكذا ! .
هب واقفًا بعد أن حسم قراره وغادر مكتبه متجهًا إلى مكتبها ولكنه قابلها في الطريق وهي على وشك أن تستقل بالمصعد الكهربائي وهمت بأن تضع قدمها بداخله ولكن تراجعت حين سمعت صوته يهتف مناديًا عليها :
_ يــســر !
اغلقت عيناها وهي تأخذ شهيقًا قوي وتخرجه زفيرًا متهملًا ، تؤهل نفسها لمواجهته بقوة كما اعتادت ، وبالفعل التفتت له بكامل جسدها وطالعته بثبات تام ليقترب ويقف أمامها متمتمًا بهدوء :
_ ممكن نتكلم شوية ؟
قالت بعدم اكتراث وجفاء وهي تهم بالاستدارة والرحيل :
_ مفيش حاجة بينا عشان نتكلم فيها !
قبض على رسغها ليوقفها من الرحيل هامسًا بنبرة تحمل بعض الرجاء :
_ خمس دقايق بس !
نظرت ليده التي تقبض على رسغها بنظرات نارية فتركها فورًا حتى لا يغضبها أكثر بينما هي فقالت بشراسة :
_ معاك خمس دقايق بظبط تقول فيهم اللي عايزه لاني مش فاضية ، وايدك دي متلمسنيش تاني ياحسن فاهم ولا لا !!
تنهد بضيق وقال موافقًا :
_ حاضر ، ممكن بقى تاجي المكتب عشان مش هينفع نتكلم هنا !
تأففت بخنق ثم سارت قبله باتجاه المكتب ودخلت ، ليدخل هو خلفها ويغلق الباب ثم يقول بصوت رجولي مشيرًا بعيناه على الأريكة :
_ اقعدي
اغتاظت بشدة من محاولاته لكسب الوقت وقالت شبه منفعلة :
_ إنا مش هقعد .. قول اللي عايز تقوله ياحسن يلا
رمقها بأسى فقد يبدو أنه لم يتمكن من الحصول على مايريد أبدًا ، اقترب منها ووقف أمامها مغمغمًا باعتذار صادق :
_ أنا عارف إني كنت بعاملك وحش وظلمتك أوي وهِنتك وعذبتك ، وعارف إننا كنا متفقين على الطلاق وانك عندك حق تاخدي مني الموقف ده بعد اللي حصل مني ، بس أنا مش حابب ننهيها بالطريقة دي صدقيني وحابب اثبتلك ندمي
ضحكت باستهزاء قائلة :
_ هي انتهت خلاص مش لسا هننهيها .. إنت طلقتني لو ناسي يعني !! ، وأنا مش فارق معايا ندمك أو غيره أصلًا ، خلاصة الكلام إنت ذات نفسك كلك متفرقش معايا
اطال النظر في عيناها يحاول البحث عن القليل من العشق المدفون تجاهه ولكنه لم يجد سوى الغضب والنقم والثبات ، فابتسم ببعض المرارة ساخرًا :
_ يااااه بالسرعة دي قدرتي تكرهيني ، بعد كل اللي عملتيه عشان توصلي ليا وبعد كلامك إني مش هلاقي حد يحبني قدك !
كانت تعافر نفسها الضعيفة على الظهور أمامه بمظهر القوية ، ولملمت ما تبقى من شتات قلبها لتجيبه بكل القسوة والحزم والقوة :
_ مبقتش عايزة احبك خلاص !! ، كان غلط كبير جدًا ، وإنت أكبر غلط هفضل ندمانة عليه طول حياتي ، أنا ندمانة على كل ذرة من مشاعري اللي اهدرتها على واحد ميستهلش زيك ، عايز الصراحة أنا الوحيدة اللي طلعت غبية وساذجة من اللعبة دي مش إنت وللأسف ادركت ده متأخر ، بس متقلقش كلها كام يوم وهمحيك من كل ذكريات حياتي زي النكرة ؛ عشان مش يسر اللي هيكسرها واحد حقير زيك
ثم تراجعت للوراء واخرجت هاتفها الذي يعلن عن وصول اتصال من أحدهم ، ثم يسمعها تجيب عليه وهي تغادر المكتب :
_ الو يا راسل أنا نازلة أهو !
كور قبضة يده بقوة ، وهو يجز على أسنانه هامسًا بأعين حمراء كالدم :
_ امممممم راسل !!!!!
***
فتح علاء باب المنزل ودخل ليجد أمه تسرع إليه قائلة بانفعال :
_ برن عليك إنت وابوك محدش بيرد عليا ليه ؟!!
اجابها مستغربًا من انفعالها :
_ كنت في اجتماع ياماما وبابا كان معايا أنا جاي آخد حاجة وماشي تاني ، في إيه متعصبة كدا ليه ؟!
_ ميار مش قاعدة في البيت ، قلبت عليها البيت كله ملهاش أثر !
يتبع
وفي ظرف لحظة واحدة تحول علاء من الهدوء إلى الجنون ، حيث اظلمت عيناه واصبح لونهم مريب ، لتسمعه امه يهتف بعدم استيعاب امتزج بشيء من السخرية :
_ مش موجودة !!! ، امال راحت فين ؟!
_ معرفش انا دخلت عليها الاوضة ملقتهاش وفضلت ادور عليها في البيت وبرضوا مش قاعدة
استنشق الهواء محاولًا السيطرة على جموحه ثم دخل واخرج هاتفه يجري اتصال بها ولكن دون إجابة ، وهنا فقد ذمام انفعاله حيث صاح بعصبية :
_ أنا نبهت عليها إن خروج مفيش بس شكلها مصممة تطلع اسوء ما فيا ، ماشي ياميار أما وريتك عقاب كسر كلامي مبقاش أنا علاء
اقتربت منه أمه ترتب على كتفه بلطف لتهدأ قليلًا من سخطه وتهمس بنبرة قلقة :
_ اهدى ياحبيبي وخلينا نشوف راحت فين لما ترجع ، متستهلش تعصب نفسك عشانها
مسح على وجهه وهو يترنح من شدة الانفعال ويتوعد لها بعقاب لم تشهده طوال حياتها !! …..
***
كان زين يجلس في شرفة الغرفة وبيده كوب الشاي الصباحي الخاص به ، يتطلع إلى منظر البحر أمامه والنسمات الباردة تلفحه مع اشعة الشمس الدافئة تمنحه المزيد من الدفء والاستمتاع ، ولكنه شعر بها تستند بيدها على كتفه وتنحني إلى أذنه هامسة بعبث :
_ زين هو أنا جيت معاك هنا ليه ؟!
التفت برأسه لها وطالعها بشيء من الدهشة قائلًا بعدم فهم :
_ مش فاهم قصدك إيه ؟
قبضت على يده وانهضته ثم جذبته للداخل واغلقت باب الشرفة قائلة بعبوس وخنق :
_ أنا جهزتلك هدومك وأنا هدخل الحمام البس عشان نخرج وتفسحني ، أنا زهقت وعايزة اخرج
_ دي اوامر يعني ؟!!
اماءت له برأسها في احتجاج فهتف هو باسمًا بلؤم :
_ طيب ولو قولت لا !
تنفست الصعداء بنفاذ صبر ، ولكنها تصرفت بذكاء انوثي حيث لمعت عيناها بوميض ماكر واقتربت منه تلف ذراعيها حول رقبته ، وجاهدت بصعوبة حتى تقوم بحركتها القادمة دون أن يهمين عليها خجلها حيث اقتربت بوجهها منه وطبعت قبلة رقيقة وسريعة على وجنته هامسة بدلال :
_ هقولك عشان خاطر ملاذك !!
تجمدت ملامح وجهه وجعل يحدجها بسكون تام تبدو عليه معالم الدهشة من ردها غير المتوقع ، دلالها وقبلتها ونبرتها بعثروه لأشلاء ولوهلة احس بنفسه سيكرر ما فعله بالأمس بل وأكثر ، ازدرد ريقه وحاول الفرار بسرعة من افكاره ومن اقترابها الحميمي فابعدها عنه برفق مغمغمًا بحزم مزيف يضمر خلفه تبعثره :
_ طيب روحي البسي يلا
تراجعت للخلف ثم استدارت واتجهت نحو الحمام وهي تضحك بصوت مكتوم ، وبعد دقائق ليست بطويلة خرجت وهي ترتدي ملابسها الفضفاضة كعادتها وكان هو قد انتهي ويجلس بانتظارها ولكنه كان شارد الذهن يحملق في السقف بتفكير ، فتسللت له وجلست بجواره ثم نكزته بكتفها في كتفه هامسة بابتسامة عريضة :
_ شششش ، سرحان في إيه ؟!!
انتبه لها وقال بالنفي في نبرة عادية :
_ لا ولا حاجة .. خلصتي ؟
_ اممممم
_ طيب حابة تروحي فين ؟
رفعت كتفيها لأعلى بجهل وقالت في رقة :
_ أنا معرفش حاجة هنا فوديني إنت أي مكان على ذوقك .. إنت عارف أنا نفسي في إيه ، بس الحقيقة اخاف ما اقولك
طالعها بأعين متسائلة وبحيرة لتستكمل هي في تردد ونظرات بها بعض الخوف من ردة فعله :
_ نفسي انزل البحر واعوم !
رفع حاجبه مستنكرًا طلبها ليجيبها بابتسامة صارمة قليلًا :
_ هنا لا أكيد لإننا مش هنكون وحدنا
هزت رأسها بالتفهم والموافقة في وجه يائس وعابس ، ليضحك ويلف ذراعه حول خصرها متمتمًا في حب :
_ طيب ولو قولتلك هوديكي مكان احلى من البحر !
اشرق وجهها بسعادة غامرة وقالت بحماس :
_ فين ؟
زم شفتيه بابتسامة جذابة وهو يكمل همسه اللطيف :
_ هو مش هنا خالص بس أنا جالي اتصال الصبح إن في شغل ضروري ولازم اسافر ، فهنسافر بكرا بإذن الله وهناك هتشوفي المكان ده
ضيقت عيناها باستغراب وهي تجيبه بريبة :
_ يعني مش هنرجع البيت ؟
_ لا اخلص الشغل اللي ورايا ان شاء الله وبعدين هننزل على القاهرة علطول
التزمت الصمت وهي تتساءل في نفسها عن ذلك المكان الذي سيأخذها إليه ، وبينما هي منشغلة بالتفكير رأته يقف ويقول :
_ يلا بقى ولا غيرتي رأيك ومش عايزة تطلعي ؟!
_ لا طبعًا عايزة !!
قالتها بضحك وهي تثب واقفة ثم انزلت النقاب على وجهها وانصرفوا …. !
***
ساعتان ومن ثم ثلاثة وأخيرًا أربعة ، ومازالت لم تعد للمنزل ، الجميع عاد للمنزل معادا هي ، وكل من علاء وطاهر يحاولون الاتصال بها ولكنها لا تجيب .. كل منهم يجلس في ركن مختلف ، كان علاء يجلس على أحد المقاعد التي بجوار النافذة المطلة على الخارج ، بدا للجميع هادئًا ومعالم وجهه ساكنة وجامدة وكأن غضبه منذ قليل تلاشي في ثانية ، ولكن الحقيقة أنه كان يكتمه بداخله ويجمعه حتى يطلقه كله بها حين تعود .
المزيد من الدقائق مرت حتى رآها تترجل من سيارة أجرة أمام المنزل وتقود خطواتها نحو الباب ، فابتسم بنظرات نارية ومرعبة ثم هب واقفًا واتجه نحو الباب ليفتحه قبل أن تطرق ، فتقابل هي ابتسامته التي قذفت الرعب في قلبها ، ولم يمهلها لحظة حتى تتحدث حيث قبض على ذراعها بكامل العنف وجذبها معه هامسًا في نبرة غليظة :
_ تعالي
طاهر بصوت رجولي حازم يردعه عن الذي ينوي فعله :
_ عــــلاء أا……..
قاطع أبيه بلهجة صارمة :
_ لو سمحت يابابا دي مراتي وأنا هتصرف معاها بطريقتي
ثم زاد من ضغطه على ذراعها وهو يجرها معه للأعلى بينما هي تتأوه في صمت وتحاول الافلات من قبضته في محاولات فاشلة .
هتفت الأم بتشفي محدثة طاهر :
_ سيبه خليها يربيها .. هي عايزة تتربي فعلًا
رمقت يسر والديها بعدم رضا وأصدرت تأففًا قوي ثم استقامت واتجهت لغرفتها بعد أن ابدت للجميع من خلال قسمات وجهها ضيقها من الذي يحدث .
فتح علاء الباب وزج بها للداخل ثم اغلقه خلفه لتتراجع هي للخلف بارتيعاد وتردف باضطراب :
_ علاء أنا كنت تعبانة والله ورحت المستشفى ، حاولت اتصل بيك بس تلفوني فصل شحن ومكنتش قادرة استناك لغاية ما تاجي من تعبي فروحت وحدي لو مش مصدقني أهو العلاج
مدت يدها في حقيبتها وأخرجت كيسًا به اصناف مختلفة من الأدوية وترفعه أمامه حتى يراه جيدًا ويهدأ ، ولكن لم ينجح الأمر معه حيث صرخ بها بنبرة نفضتها نفض :
_ وأنا قولت مفيش خروج من البيت
قالت بصوت مرتجف وأعين دامعة :
_ أيوة بس أنا بقولك كنت تعبانة !!
أكمل صياحه بها بدون رحمة أو رفق بوضعها :
_ كنتي زفت تعبانة يبقى تقولي لماما قبل ما تطلعي وتردي على الـ**** التلفون ، مش تطلعي من غير ماحد يعرف روحتي فين
انهمرت دموعها واجابته ببعض الدهشة :
_ والله قولتلها إني رايحة المستشفى ، وطلبت منها كمان تحاول تكلمك وتقولك
عاد يقبض على ذراعها وهو يهتف ساخرًا بغضب عارم :
_ ياسلام والمفروض اصدقك أنا كدا ، الله اعلم روحتي فين كمان بعد المستشفى ده لو روحتيها فعلًا
لا يصدقها رغم أنها ارته الأدوية جميعها !! ، كان على وشك أن يبدأ في عقابه الحقيقي لها ، ولكن يسر اقتحمت عليهم الغرفة ودخلت لتقترب من أخيها وتنزع يده على ذراعها هاتفة بحزم :
_ كفاية ياعلاء
_ اطلعي برا يايسر !!
قالها بتحذير حقيقي حتى لا ينفجر بها هي الأخرى ولكنها صرخت به بنبرة مرتفعة ومتضجرة :
_ هطلع وهاخدها معايا ، مش معنى إنها مراتك يبقى يحقلك تمد إيدك عليها ! ، هي تستاهل العقاب على كل اخطائها بس مش بالإهانة .. في مليون طريقة للعقاب غير الذل وكسرة النفس ، يإما بقى تطلقها وتريح نفسك وتريحنا من القرف ده
ثم نظرت لميار واشارت لها بعيناها أن تذهب معها ، لتلقي ميار نظرة علي وجهه المحتقن بالدماء وهو يقف متصلبًا وكأن كلمات شقيقته تمكنت من اخماد الوحش الذي بداخله ، ثم تحركت مع يسر الذي اخذتها لغرفتها واغلقت الباب !!! ……
***
جلست ميار على الفراش وهي تجفف دموعها بظهر كفها وتهمس في امتنان وصوت متحشرج :
_ شكرًا يايسر
لوت فمها بامتعاض وهدرت في خنق :
_ العفو .. بس متفتكريش إني عملت كدا عشان خاطر عيونك ، لإني لسا مش بطيقك أصلًا ، أنا بس عارفة وجربت الإهانة وأكيد مش هحب اشوف حد بيتعرض ليها حتى لو مش بحبه
ثبتت نظرها على عيناها التي يحوم بها الاكتئاب والألم ، لتزم شفتيها بأسى وتقول بوجه يحمل بعض الإشفاق :
_ حسن هو السبب مش كدا ؟!
تنهدت يسر بشجن وغمغمت تسألها لتغير مجرى الحديث :
_ إنتي روحتي فين !
ميار بنبرة ضعيفة :
_ كنت تعبانة ورحت المستشفى اكشف عند دكتورة قالتلي عليها رفيف ، وقبل ما اطلع قولت لمرات عمي إني تعبانة وبرن على علاء تلفونه مغلق فقالتلي روحي وأنا هبقى اقوله
اقتربت يسر منها ورتبت على كتفها هامسة بلطف :
_ طيب ياميار لو حابة باتي معايا في الأوضة النهردا لغاية ما علاء يهدى
ثم ابتعدت واتجهت إلى الحمام وهي تزفر بضيق من الذي فعلته أمها .. وظلت ميار تحدق على آثارها ببعض الذهول من تغيرها المفاجئ معها !! ….
***
اظلمت السماء وارتفع ضوء القمر البدر مع نجوم ساهرة تزين لوحة الخالق عز وجل .. كانت الساعة قد دقت الحادية عشر قبل منتصف الليل …….
فتح كرم الباب ونزع حذائه عنه ثم قاد خطواته نحو غرفتهم بعد أن وجد المنزل هادئًا كالعادة ، ولكنه لم يجدها بالغرفة فعقد حاجبيه بريبة واستدار ليبحث عنها في بقية أرجاء المنزل ، حتى وصل إلى غرفة مكتبه وفتح الباب ببطء ليجدها جالسة على الأريكة أمام الصورة الكبيرة له هو وأخيها ولكن هذه المرة مختلفة حيث كان بيدها كوب كاكو يبدو أنه باردًا وترجع برأسها للخلف تسندها على ظهر الأريكة ونائمة ، تنهد مغلوب على أمره وهو يبتسم ثم تحرك إليها بحذر شديد حتى لا يوقظها وجلس القرفصاء أمامها يمعن النظر بملامحها الملائكية والبريئة ، لا تبدو ابدأ كامرأة ناضجة تخطت سن الواحد والعشرون ، بل كمراهقة في سن السادسة عشر أو الخامسة عشر .. حتى الآن يحاول تفسير لكل ماحدث معهم ولم يجد له تفسير سوى أنه قدر ، ظهرت أمامه منذ تلك الليلة الذي كان سيدهسها فيها بالسيارة في الليل ومن بعدها تطورت الأحداث وربطتهم معًا دون أن يشعروا ، موت صديقه ومن ثم ذلك الوغد الذي كان يحاول أذيتها ووفاة والدتها وأخيرًا ضغط أمه عليه ووضعه بين جانبي النار وإما أن يسير في المنتصف للأمام أو يسلك أحد الجانبين ويختار تمسكه بحب زوجته وعناده ويخسر معه والدته ، فلم يكن أمامه حلًا سوى الموافقة بعد أن اقتنع بأنه حل أسلم ليرضي أمه ولتكون تلك المسكينة تحت رعايته دومًا ، فلا مانع من التضحية لأجل سعادة وراحة احبائنا .
مد يده بحرص وسحب من يدها الكوب ببطء شديد ثم وقف منحينًا وهم بأن يحملها ولكنها انتفضت جالسة بمجرد لمسته وشهقت فزعة ، ليتراجع هو للخلف حتى لا يفزعها أكثر ويبتسم متمتمًا :
_ اهدي ، ده أنا !
استغرق الوضع لحظات قصيرة حتى تنفست الصعداء واعتدلت في جلستها تسأل بصوت خافت :
_ هو أنا نايمة كتير هنا ؟!
زم شفتيه للأمام بجهل ليقترب مجددًا ويجلس بجوارها متمتمًا :
_ معرفش أنا جيت زي العادة لقيتك نايمة
رفعت يدها تفرك عيناها وتقول متثاوبة :
_ أنا ذات نفسي معرفش إيه اللي بيحصلي كل ما ادخل واقعد هنا بنام !!
ضحك ببساطة بينما هي فعادت تنظر لوجه أخيها وهي تبتسم بمرارة مغمغمة :
_ غالبًا بحس بالراحة والآمان وبحس أنه حواليا ومعايا عشان كدا بستكين وبنام
فكر في إضفاء نوع من الدعابة قليلًا حتى لا يأخذ الحديث مجرى كئيب ، فوجدته يجيبها بمداعبة وهو يضحك :
_ بصيلي كدا وريني دموعك !!
ضحكت بخفة وهزت رأسها نافية وهي تردف :
_ لا مش هعيط متخفش ، اخدت جرعتي قبل ما تاجي
أخذ نفسًا عميقًا واعتدل في جلسته ليصبح مواجهًا لها مباشرة ويغمغم في نبرة رخيمة وحكيمة :
_ شفق صدقيني الحزن والعياط مش هيفيد بحاجة ومش هيرجعهم ليكي ، أنا لغاية فترة قليلة وكنت دافن نفسي في الحزن وادركت دلوقتي ومتأخر للأسف ، الحزن مش هيفيدك بحاجة بالعكس ده هيتعبك نفسيًا وجسديًا ، ادعيلهم وكوني واثقة إنهم في مكان افضل منينا
طالعته بأعين تائهة وحبيسة اللآم متمتمة بشجن :
_ أنا مليش في الدنيا غيرهم ياكرم
مسك بكفها الصغير واحتضنه بين كفيه مردفًا في حنو ونظرات دافئة :
_ عارف إن وجود العيلة لا يعوض بس أنا معاكي أهو وجمبك ، اعتبريني اخوكي وابوكي وصديقك وكل حاجة ، أنا مش عايزك تحسي إنك وحدك ياشفق
غامت عيناها بالعبارات وهي تبتسم له بعشق وتهمس في خوف :
_ معدش باقيلي حد غيرك أساسًا وبقيت اخاف لتسيبني إنت كمان زيهم
شدد من ضغطه على كفها برفق وهدر بنظرة ثابتة ورقيقة مع همس كان له أثر بالغ على قلبها المتيم به :
_ اوعدك مش هسيبك ابدًا
لم تتمكن من السيطرة على نفسها حيث اجشهت في بكاء قوي مع ملامح طفولية ، ليضحك هو بعدم حيلة ويضمها لصدره هامسًا بنبرة ضاحكة وهو يمرر كفه على خصلات شعرها :
_ يعني مفيش فايدة برضوا في العياط ده !!!
تشبثت به بشدة وهي لا تتوقف عن البكاء لتسمعه يقول بحيرة باسمًا :
_ إنتي دموعك جاهزة علطول ، ده مفيش لحظة وبتفتحي الحنفية دي
اكملت بكائها وتجيبه من بين بكائها بعفوية :
_ عشان إنت حنين أوي عليا
_ حاضر من هنا ورايح هعاملك وحش يمكن الآية تتقلب وتبطلي عياط
توقفت عن البكاء ورفعت عيناها له وهي لا تزال بين ذراعيه لتهمس بعبوس واحتجاج :
_ لا هعيط أكتر !!
اطلق ضحكة رجولية متأججة ابتسمت هي على أثرها وعادت تخفض نظرها مجددًا وهي تتنهد بسعادة ….. !!
***
وصل حسن إلى المنزل بعدما اتصلت به والدته واخبرته أن جدته تريد رؤيته والتحدث معه ، فجاء على مضض وهو يتوقع سبب رغبتها في التحدث معه ، وكان طول الطريق يعد نفسه للحوار الذي سيكون بينهم حتى لا يخطأ بشيء ويكشف كل شيء كان بينهم .
فتحت هدى له الباب واستقبلته بعناقها الامومي الحنون وهي تردف :
_ أهلًا ياحبيبي عامل إيه ؟
مسك بكفها وقبله في لطف مغمغمًا في تساءل يتصنع عدم الفهم :
_ الحمدلله ياست الكل .. خير تيتا عايزاني في إيه ؟!
لوت هدى فمها باحتجاج وقالت بضجر ونظرة تحولت إلى الحدة :
_ إنت تتوقع في إيه مثلًا ؟!!
قال بنفاذ صبر وهو يبتعد من أمامها :
_ يسر طبعًا !
التفتت بجسدها للخلف تتابعه وهو يصعد الدرج متجهًا ناحية غرفة جدته ، وتزفر مغلوبة على أمرها منه وتهمس بحزن :
_ ربنا يهديك يابني
فتح الباب ببطء بعد أن طرق عدة طرقات خفيفة وسمحت له بالدخول .. اغلقه خلفه واقترب منها ينحني باتجاه كفها يقبله هامسًا في حنو :
_ عاملة إيه تيتا ؟
اجابته باقتضاب وحدة وهي تشير بكفها على الفراش بجوارها :
_ الحمدلله .. اقعد ياحسن
أخذ شهيقًا قوي وزفره حارًا ثم امتثل لطلبها وجلس بجوارها وقبل أن تبدأ في الحديث باغتها هو بقوله الصارم :
_ تيتا لو طلبتي تشوفيني عشان تعرفي اللي حصل بينا فأنا آسف مش هقدر اقولك .. دي كانت مشكلة بيني وبين مراتي ومش حابب اقول لحد
اظلمت عيني الجدة واستشاطت غيظًا منه حيث صاحت منفعلة :
_ لما هي مشكلة بينك وبين مراتي ومش عايزين حد يعرف ، يبقى تحلوها بين بعضكم كمان مش توصل للطلاق
_ الطلاق كان افضل حل لينا !
يقنع نفسه بأنه افضل حل وبالأخص بعدما بدأ يشعر بآثاره السلبية عليه ، وأنه في بداية طريق الشوق والندم على خسارتها .. اكملت الجدة صياحها به في ألم ودموع ممتلئة بمقلتيها :
_ هتفضل لغاية إمتى كدا عديم مسئولية ، إنت وميار اثبتولي إن دلعي ليكم مجبش غير التعب لينا كلنا .. ابوك كان عنده حق لما اخدكم وعاش وحده معاكم لأن أنا السبب في فسادكم وكنت فاكرة إني كدا بربي فيكم الحب والحنية لما ادلعكم واتاريني كنت بضيعكم وبفسدكم
كان يطرق رأسه لا ينظر لها فقط يستمع لتوبيخها وتعنيفها الشديد له ، كلماتها تزيد من الآم قلبه الذي يعاني ألم الندم ولم تكتفي بهذه القدر حيث أكملت بقسوة أشد :
_ كلنا عارفين حبها ليك بس إنت اللي ناكر الجميل ومتستهلش الحب ده ، أي كانت المشكلة اللي بينكم مفيش حاجة تستاهل إنك تخسرها عشانها ، وزي ما أنا متأكدة إن يسر لسا بتحبك .. متأكدة كمان إن إنت اللي غلطان في المشكلة اللي وصلتكم لكدا والدليل إنك خايف تقول وهي رغم ده كله لسا بتداري عليك وعلى غلطك وبتقول إنها الغلطانة مش إنت
نظر لها وابتسم ساخرًا بعد أن نجحت في تصويب سهمها في اليسار ، فخرج صوته بيأس ومرارة مع قسمات وجه عابسة :
_ مبقتش تحبني ، وحتى لو لسا بتحبني فهي مبقتش عايزاني خلاص وحاولت اخليها تسامحني بس مفيش أمل
_ غبي ، ومش بتفهم ومش هتفهم طول ما إنت بالغباء والسطحية دي .. هي حاجة واحدة هقولهالك لو ندمان بجد وعايز تصلح المشكلة اللي حصلت بينك وبينها من غير ماتخلي حد يتدخل يبقى ردها لعصمتك ، غير كدا يبقى تنهي الموضوع خالص وتبعد عنها نهائي
رفض الحل الأول ، مازال يعاند ويعافر مشاعره وينكرها بل لا يعترف بها أساسًا ، ويأبي الإذعان لها رغم اعترافه بالخطأ الذي اقترفه في حقها ولكنه يغلق جميع الأبواب أمام قلبه !! .
استقام واجاب على جدته في جفاء ونبرة صلبة :
_ هنهي الموضوع ياجدتي ، هنهيه للأبد
ثم استدار وفتح الباب مغادرًا تاركًا إياها تتأفف باغتياظ وخنق من حماقته وعناده !!! .
***
وضع الكارت في الباب وانفتح فسبقته هي أولًا ورفعت عن وجهها النقاب وهي تقول بسعادة غامرة :
_ لا أنا عايزة اتفسح زي كدا كل يوم
لحق بها واغلق الباب ، ليهتف مستنكرًا بابتسامة :
_ إيه الطمع ده !!
بدأت في نزع حذائها ومن ثم حجابها ، والقت بنفسها على الفراش هاتفة في إرهاق :
_ لا بس الصراحة رجلي مش قادرة اقف عليها والله
ثم وقفت مجددًا واقتربت منه تساعده في خلع سترته وقميصه متمتمة بفضول حقيقي :
_ لكن إنت هتوديني فين لما نسافر بكرا ؟!
زين بصوت خافت وهو يرمقها بطرف عينه غامزًا لها :
_ مفاجأة
قالت محتجة بضجر :
_ أنا مبحبش المفاجآت .. قولي بقى !
جذب ملابسه واتجه نحو الحمام ليأخذ حمامًا سريعًا يزيح به إرهاق الصباج الطويل عن جسده ، متجاهلًا ضيقها بتعمد لتصدر هي تأفف بصوت مرتفع في خنق وجلست تنتظره حتى خرج فدخلت هي لتأخذ نصيبها من الماء الدافية التي تنعش جسدها ، وبعد دقائق طويلة نسبيًا خرجت ووقفت أمام المرآة تجفف شعرها جيدًا وتسرحه ، بينما هو فكان متسطح على الفراش ويعقد كفيه اسفل رأسه ، يتابعها مبتسمًا وهي ترتدي ملابس انوثية رائعة ، لا يدري إلى متى سيظل صامدًا هكذا أمامها ولكن بالتأكيد ليس كثيرًا ! .
انتهت هي من تجفيف شعرها واقتربت لتتسطح بجواره هاتفة بعبث :
_ برضوا مش هتقولي يعني هتوديني فين ؟
كتم ضحكه بسيطة كانت ستنطلق من بين شفتيه ، واكتفى بابتسامته الماكرة وهو يعتدل في نومته ويرفع جسده قليلًا عن الفراش ليخطف قبلة سريعة من جانب ثغرها ويعود لوضعه الطبيعي موليًا إياها ظهره وهو يتمتم :
_ تصبحي على خير ياملاذ
نجح في اسكاتها كما خطط حيث علقت عيناها على السقف في استحياء ودهشة وهمست بصوت منخفض لم يسمعه :
_ وإنت من أهله !
***
مع اشراقة شمس يوم جديد .. استيقظت ميار بعد أن قضت الليلة في غرفة يسر وعندما وجدت أن يسر ذهبت للعمل مبكرة توقعت أنه سيكون ذهب أيضًا ، فخرجت وقادت خطواتها نحو غرفتها وحين فتحت الباب ودخلت دهشت ووجدته لايزال يستعد للذهاب فاخفضت نظرها تتفادى النظر إليه وتحركت باتجاه الحمام ولكنها تذكرت شيء فعادت للخزانة لكي تأخذ منها الملابس ، وبينما هي منشغلة بإخراج ملابسها اقترب ووقف خلفها هاتفًا بصوته الغليظ :
_ من هنا ورايح الكلمة اللي اقولها تتسمع ياميار ، عشان اللي حصل امبارح ميتكررش تاني !
استدارت له بجسدها كاملًا وطالعته بثبات مزيف ، كانت تود أن تدافع عن نفسها ولكن لا فائدة من التبرير ففضلت الخضوع لأوامره بدون نقاش ، هتفت في خفوت :
_ حاضر ياعلاء ، في أي اوامر تاني !
_ آه في ! .. في إني حابب أقولك انك مش لوحدك المغصوبة على الجوازة دي أنا زيك ومستني الفترة المناسبة تعدي بفارغ الصبر عشان اطلقك ، فخلينا حلوين مع بعض ومن غير مشاكل لغاية مانتطلق ومتعانديش معايا لإني مش هضمن ردة فعلي المرة الجاية
تلالأت الدموع في عيناها بحرقة وصاحت به مندفعة في ألم :
_ متقولش إنك مغصوب !! ، إنت لو عايز تطلقني هتطلقني دلوقتي ومحدش هيتكلم معاك .. إنت زي عمي وزين وحسن وكرم ، اللي عملته مخليكم محوشين جواكم غيظكم وغضبكم مني ، وإنت لقيت الجواز حجة عشان تكسرني وتعاقبني ، والحقيقة إنكم عندكم حق أنا فعلًا غلطانة واستاهل العقاب واكبر عقاب هو نينا اللي مش عايزة تشوفني ولا تسمع صوتي وبتقول إني مش حفيدتها ومتعرفنيش ، أنا فعلًا عايزة الفترة دي تخلص وقريب أوي هتخلص للأبد وكلنا هنرتاح
غضن حاجبيه باستغراب متمتمًا :
_ قصدك إيه ؟!
_ مش قصدي حاجة .. امشي عشان متتأخرش
قالت جملتها وهي تبتعد عنه متجهة نحو الحمام لتتركه يحاول فهم مغزى كلامها الغامض وجالت بعقله فكرة جنونية ولكنه نفضها عن ذهنه ساخرًا من أنها تجرؤ أصلًا على فعل شيء كهذا !! ………
***
بمنزل كرم العمايري ……
دقائق طويلة مرت وهي تحاول إيجاد طريقة لاقناعه بها إن رفض طلبها ، ولم تجد سوى طريقة واحدة ، فسرعان ما وثبت واقفة من الفراش ووقفت أمام باب الحمام مباشرة منتظرة خروجه وهي ترسم على وجهها ابتسامة عريضة تظهر اسنانها البيضاء ، ولم يدم انتظارها سوى للحظات قليلة حتى فتح الباب هو وكان يلف حوا رقبته منشفته الصغيرة ، وحين اصطدم بها بمجرد ماخرج ارتد للخلف بزعر هاتفًا :
_ بسم الله !
زمت شفتيها للأمام وهي تجيبه بعبس طفولي وطريقة كوميدية :
_ أخص عليك ياببلاوي شوفت عفريت !!!
وكالعادة فشل في كبح ضحكته حيث اصدر ضحكة بسيطة وازاحها من طريقه ليعبر مغمغمًا بابتسامة بعد أن فهم أنها تريد شيء :
_ عايزة إيه ياشفق ؟!
سارت خلفه وهتفت برقة وهي تشير إلى عقلة سبابتها :
_ عايزة طلب صغنن خالص خالص قد كدا !
زادت ابتسامته اتساعًا ليردف متنهدًا وهو يجفف شعره :
_ خــيـر !!
اقتربت ووقفت أمامه ثم مدت يديها وتولت مهمة تجفيف شعره مغمغمة في براءة متصنعة بعض الشيء :
_ خير متقلقش .. وأنا عارفة إنك قمر وطيب ومش بتقدر ترفضلي طلب ولا تزعلني
ابعد يدها ببطء عن شعره متشدقًا في بساطة :
_ قولي علطول من غير مقدمات
لم تبالي بإبعاده ليدها حيث اعادتها مجددًا تعبث بأكتاف تيشرته وكذلك المنشفة مغمغمة في رقة مقصودة :
_ عايزة اخرج اشوف نهلة عشان وحشتني جدا ولينا فترة طويلة أوي مقعدناش مع بعض
هيمن الصمت عليه وهو يحدجها بصمت وكأنه على وشك الرفض فهتفت مسرعة بوجه عابس :
_ وافق بقى ، إنت اللي كنت بتبقى خايف عليا منه مات خلاص ومفيش حاجة بتهدد سلامتي تاني
اخذ نفسًا عميقًا وقال بحنو واهتمام :
_ عارف إنك ممكن تكوني بتضايقي من تحكمي فيكي في نقطة الخروج دي ، بس عايزك كمان تفهمي خوفي عليكي .. أنا من ساعة اللي حصل مع أروى ومعاكي لما حاول الحيوان ده يعتدي عليكي اكتر من مرة بقيت عايز اخبيكي في مكان محدش يعرفك فيه غيري عشان احميكي من أي راجل مش منه بس ، وحتى رفيف كذلك بخاف عليها بجنون وأنا اكتر واحد كنت رافض فكرة إنها تشتغل ولما وافقنا خليتها تروح وتاجي بسواق خصوصي يأما بوصلها واجيبها أنا وخروجها بيبقى بحساب
انحرفت شفتيها في ابتسامة مغرمة به لأبعد الحدود ، وعانقته بقوة هاتفة بعشق :
_ متخفش عليا ، مش هيجرالي حاجة طول ما إنت جمبي ، ربنا يخليك ليا
ثم ابتعدت عنه وقالت في ابتسامة عذبة :
_ خلاص موافق مش كدا ؟!
أصدر تأففًا حارًا بنفاذ صبر من الحاحها لتميل هي برأسها للجانب وتبتسم بساحرية وترمش بعيناها عدة مرات تستعطفه من خلالهم ببرائتها لكي يوافق هامسة :
_ ارجــــــوك !
أبتسم بعدم حيلة بعد أن أدرك استحالة الفرار من اصرارها وضعفه أمام نظراتها ليقول باقتضاب :
_ طيب خلاص ياشفق روحي ، بس هتروحوا فين وامتى ؟
تهللت اساريرها وقالت بحماس وفرحة :
_ دلوقتي هلبس وهنروح في أي كافتيريا نقعد شوية
_ طيب يلا اجهزي لغاية ما البس عشان اوصلك ولما تخلصوا رني عليا عشان اجي اخدك
أماءت برأسها عدة مرات وهي تفشل في اخفاء سعادتها ليكمل هو مبتسمًا بمداعبة :
_ مع إني بقيت بتشائم من صحبتك دي من ساعة ماقولتيلي نروح خطوبتها وشوفتي حصل إيه يومها
قهقهت بخفة وقالت في نعومة :
_ لا متقولش كدا دي نهلة عسل ، وبالعكس دي وشها حلو عليا دايمًا لما باخدها معايا في أي مكان
_ ربنا يستر !
قالها مستنكرًا وهو يضحك ثم استدار وذهب ناحية الخزانة ليخرج ملابسه ويبدأ في الاستعداد وهي كذلك اخذت ملابسها وذهبت لترتدي في الحمام ………
***
فتحت المساعدة الخاصة به الباب وقالت في رسمية تامة :
_ الملفات اللي محتاجة مراجعة يسر هانم تحب اوديها ليها ياحسن بيه
قال بإيجاز وهو منشغل بالعمل الذي أمامه :
_ آه وديهم ليها وقوليلها تخلصهم بسرعة
استدارت الفتاة وكانت على وشك الرحيل لولا صوته وهو يوقفها هاتفًا :
_ استني ياميرنا !
احس بأنه يريد رؤيته ومحادثتها ، ولا يريد الاعتراف في قرارة نفسه أن بات يشتاق لها ، ففكر في أن يأخذ هو لها الملفات متحججًا لها بهم وفي نفس ذات اللحظة تكون حجة لنفسه العنيدة التي تأبي الخضوع .
استقام وتحرك ناحيتها وأخذ من يدها الملفات متشدقًا بحزم :
_ أنا هوديهم ليها ، روحي إنتي على شغلك خلاص
أماءت له بالموافقة وانصرفت فورًا ، ليغادر هو الآخر متجهًا إلى مكتبها ، وحين فتح الباب ودخل كان فارغًا ولكنه رأى اشيائها على سطح المكتب ففهم أنها ذهبت لمكان ما سريعًا وستعود .. اغلق الباب وجلس على الأريكة بإرياحية منتظرًا إياها ، وطال انتظاره لدقائق طويلة حتى وجدها تفتح الباب وتدخل وهي تتحدث في الهاتف وتضحك ، تسمرت بأرضها حين وقع نظرها عليه ولجمتها الدهشة لثواني فقط ، ثم تصنعت عدم المبالاة بأمره وأكملت حديثها الهاتفي مع ابن خالتها ” راسل ” ، متعمدة الضحك والتحدث بحرية بعدما فهمت في الأيام القليلة الماضية ضيقه وغضبه كلما يراها معه .
رآها وهي تجلس على مقعد مكتبها وتتحدث مع من في الهاتف بعفوية بالغة والذي من الواضح أنه رجل ، وفي ظرف لحظة تحول لجمرة نيران ملتهبة حين سمعها تنطق اسمه ، غليت دمائه في عروقه وحدجها بابتسامة مزيفة تضمر خلفها بركان تطفو حممه على وجهه ، فاشاح بوجهه عنها للجانب وهمس لنفسه وهو يحك ذقنه بنبرة متأججة بنيران الغيرة :
_ لا أنا مش هتعصب .. أنا هادي خالص أهو !
كانت تختلس النظرات له في تشفي وغل وتزيد من ضحكها وحديثها ، ليعود هو بنظره لها ويرمقها بأعين ملتهبة ومغتاظة ، يجاهد بكل ما لديه من ثبات انفعالي حتى يبقى هادئًا ولا يفقد صوابه .. ولكنه فقد كل ما لديه ثبات حين سمعها تقول بصدق ” لا والله ربنا يعلم ياراسل أنا بعزك إزاي .. ربنا يخليك ليا ”
مسح حسن على وجهه هامسًا وهو يصر على اسنانه :
_ لا مش هقدر ، لغاية كدا وكفاية
استقام واقفًا واندفع نحوها يجذب من يدها الهاتف وينهي الاتصال هاتفًا بصرامة ونبرة قوية :
_ عرفنا إننا يعتبر اطلقنا ، بس احترمي وجودي مش كدا هاااا
ضحكت ساخرة وهبت واقفة تقول بسخط :
_ ياريت حد غيرك يتكلم عن الاحترام ، ثم إن أنت مالك وإيه اللي جايبك أصلًا مكتبي
_ يسر بلاش الطريقة المستفزة دي عشان أنا على أخرى أساسًا
صرخت بصوتها المرتفع وهي في ذروة انفعالها :
_ اتكلم بالطريقة اللي عايزها ، إنت ملكش دعوة بيا فاهم ولا لا ، ملكش دعوة بيا ياحسن .. تحب اقول كمان ولا كفاية ، اطلع من حياتي نهائي ومش عايزة اشوف وشك حتى ، أنا بقيت لما بشوفك معدتي بتقلب وبحس نفسي عايزة اخنقك بأيديا .. كفاية بقى أنا قرفت منك وبقرف من نفسي وجسمي كل ما افتكر إنك لمستني
توقفت عن الكلمات تأخذ نفسًا عميقًا ثم عادت تكمل بنظرات قوية تخفي خلفها مشاعر العشق الكامنة في أعماقها وهي تشير بسبابتها على الباب :
_ اطلع برا ياحسن
كور قبضة يده بعنف وهو يجز على أسنانه يحاول منع نفسه عنها حتى لا ينفجر بها كالطوفان العاتي ، اقترب منها هامسًا أمام وجهها مباشرة بصوت يشبه فحيح الأفعى :
_ النهردا عيونك فضحتك وكشفت كدبك ، واللي شايفه دلوقتي حاجة واحدة وهي إنك لسا بتعشقيني يايسر
ثم انتصب في وقفته والقى بالملفات على سطح المكتب في عنف واستدار مغادرًا تاركًا إياها متصلبة بأرضها تحدق على آثاره بغيظ وحرقة ، فامسكت بكوب الماء والقت به على الباب ليتناثر إلى أجزاء متفرقة على الأرض .. جلست على مقعدها من جديد هامسة لنفسها متوعدة وبنظرة متقدة :
_ مسيري هكرهك متقلقش !!
***
كان اسلام يجلس بحديقة المطعم الخارجية على أحد المقاعد يحتسي كوب الشاي الصباحي الخاص به ، وعقله شارد بها .. بات يشعر بالخطر كلما تمر الأيام وهم يعملون معًا ، ففي كل يوم يمر يزداد تعلقًا بها ، ومشاعر الإعجاب بدأت تأخذ طريقًا مغايرًا ، أن سمح لنفسه بأن تسلكه سيسبب له الألم والحزن للمرة الثانية ، وليس هناك حلًا سوى أن يضع الحدود لقلبه أو يعتذر ويترك هذا العمل الذي يجمعه بها .
انضم له صديقه وجلس قباله هاتفًا :
_ إيه الأخبار ؟
_ تمام وإنت ؟
هتف صديقه بنبرة مستغربة بعض الشيء :
_ إيه إنت مفيش شغل ولا إيه معاك قولتلي تعالى على المطعم
اجابه إسلام بهدوء تام ونظرة مهمومة :
_ امممم يعتبر مفيش شغل النهردا وحتى العمال هياجوا متأخر شوية
_ مالك إنت مضايق من حاجة ؟!
نظر له باستنكار متمتمًا :
_ إنت تتوقع إيه مثلًا !
أصدر صديقه تنهيدة حارة وقال بنفاذ صبر وضيق :
_ يابني ولما إنت معجب بيها كدا وعايزها ماتكلم اخوها وتشوف مش يمكن توافق
ضحك إسلام بسخرية ورفع عكازه لأعلى قليلًا حتى يكون في مستوى نظر صديقه وقال مستهزئًا :
_ توافق !!! ، هتوافق بده ؟!
_ ايوة توافق يا إسلام مش معنى إن خطيبتك كانت واحدة **** ولما عملت الحادث وعرفت إنك هتمشي على عكاز سابتك يبقى الكل زيها ، جرب إنت مش هتخسر حاجة
اشتلعت عيناه بالغضب وقال شبه منفعلًا بنبرة موجوعة :
_ لا دي الحقيقة يامعاذ ، مفيش واحدة هتقبل تتجوز عاجز .. ومتحاولش تقنعني إن العجز اللي في رجلي مش مشكلة وإني اقدر اعيش حياتي بطبيعية ، لأن مهما حصل هتفضل في حجات كتير أنا عاجز عنها وعن إني اقوم بيها
_ أنا قولتلك اللي فيها ، لو عايزها بجد جرب وكلم زين ده .. وافقت تمام ، موافقتش يبقى هي اللي خسرتك مش إنت
طالعه بصمت غير مقتنعًا بما يقوله وعاد يرتشف الشاي وهو يتنهد بنفس مختنقة ! ……
***
داخل أحد المقاهي المتوسطة ……..
هتفت نهلة بفضول ونظرة حماسية :
_ هااا قوليلي بقى عاملة إيه ؟ ، وأخبار الجواز إيه ؟
ابتسمت شفق بمرارة واجابتها بأسى :
_ نهلة إنتي عارفة إن ده جواز مش حقيقي
هتفت نهلة باستنكار وسخط :
_ ومش حقيقي ليه بقى إن شاء الله ، كانت جوازة بالغصب مثلًا !!!
_ أهاا هو اضطر إنه يتجوزني بسبب الظروف اللي حكمت عليه بكدا ، لولا الظروف دي عمره ماكان هيفكر إنه يتجوزني
غضنت الأخرى حاجبيها بحيرة وتمتمت بشيء من الدهشة :
_ يابنتي إنتي مش لسا امبارح كنت مكلماني وبتقوليلي إنه كويس معاكي وإنك مبسوطة ومرتاحة ، حصل إيه بس ؟!!!
سرحت بعقلها قليلًا حين حضرت صورته في عقلها وتذكرت معاملته وطريقته الحانية معها فابتسمت بحب امتزج بالحزن وقالت محاولة إضفاء جو المرح قليلًا :
_كويس بس !! ، ده أنا بحس إني أميرة من معاملته ليا ، بجد يانهلة أنا مشوفتش راجل زيه في حياتي ، أنا بقاوم جماله بالعافية صدقيني ، وبقول لما هو بيعاملني كدا و هو مش بيحبني امال لو كان بيحبني كان هيبقى إزاي !!
قالت جملتها الأخيرة وقد طغى على نبرة صوتها اليأس والحزن ، لمست صديقتها الحزن في نبرتها فمدت يدها واحتضنت كفها هامسة برزانة :
_ شفق افهمي أنا قولتلك إنه لو مش بيحبك فعلًا ومش عايزك واضطر زي ما بتقولي على الجواز منك فمستحيل يعاملك بالطريقة اللي حكتيلي عنها إمبارح ، أنا واثقة إنك بدأتي تأثري فيه وتخليه يحبك بجد مش مجرد إنك غالية عليه ولا بيعزك والكلام الفارغ ده
هزت رأسها نافية ، ترفض تصديق ذلك الكلام وإوهام نفسها بأشياء مبنية على توقعات وسراب .. هدرت بثقة متلقلقة :
_ لا بيتهيألك مفيش حاجة من كدا
_ لا في .. والأيام هتثبتلك ده وتقولي إني عندي حق !
طالعتها مطولة بتفكير في كلماتها ، من جهة قلبها الذي يريد تصديق ذلك الكلام ويخبرها بأن صديقتها لديها الحق فهو لم يكن معها هكذا قبل الزواج أو حتى في بداية زواجهم ففي الفترة الأخيرة أصبح مختلفًا بعض الشيء وبالأخص من بعد اختطافها .. وعلى الجهة الأخرى عقلها الذي يضحك ساخرًا ويقول بحكمة ” توقفي عن سذاجتك إنتي تعرفين جيدًا الأجابة على كل هذه الأسئلة ، يعاملك جيد لأنه يشفق عليكي وعلى حالك ، وتغيره معكي بالتأكيد هو بسبب أنه بدأ بعتاد عليكي أكثر ولم يعد يخجل منك كالسابق ، يكفيكي حماقة !! ” ربما هي حقًا حمقاء ولكنها ستتصرف بذكاء وتحاول الحصول على حبه وإن لم تتمكن ستسحب نفسها بهدوء من دائرة العشق السوداء هذه ! .
استمر حديثهم لساعة أو أكثر تقريبًا حتى نهضت نهلة بعد أن انتهت جلستهم وقالت باهتمام :
_ اقعد معاكي لغاية ما ياجي يابنتي متقعديش وحدك
_ لا لا امشي إنتي متخفيش هو أساسًا قالي انه قريب يعني دقيقتين ويوصل
اقتربت وعانقتها مودعة إياها بعذوبة مردفة :
_ طيب مع السلامة ياروحي
_ سلام
وتابعتها وهي تغادر المقهي تمامًا لتشيح هي بنظرها وتثبت نظرها علي خارج المقهى تتابع حركات الناس وبانتظار قدومه ، وإذا بها تشعر بأحدهم يجلس مكان مقعد صديقتها الفارغ لتنظر فورًا وتهتف بذهول :
_ عمر !!!
هتف باعتذار ونظرة مهمومة :
_ شفق أنا آسف سامحيني ، أنا ندمان والله إني شكيت فيكي
رمقته بخزي وهتفت بنبرة تعاني الخذلان والوجع :
_ بعد إيه ياعمر !!! ، ده إنت الوحيد اللي مكنتش متوقعة منك إنك تصدق فيا كدا ، لا وكنت ناوية آجي واقولك عشان تساعدني ، صدقت بسهولة وجاي بتعاتبني كمان والشخص اللي مكنش يعرفني ولا يعرف حاجة عني وقف جمبي ووثق فيا ، بس تعرف اللي حصل ده اثبتلي قد إيه أنا كنت مخدوعة فيك إنت والحيوانة مروة
عاد يكرر اعتذار بصدق أشد وأعين حزينة :
_ أنا آسف ياشفق ، والله أنا معرفش إزاي عملت كدا ، لما شوفت الصور اتجننت .. أنا مستعد ارجع كل حاجة زي ما كانت وهكلم عمك وهطلب إيدك منه زي ما كنا متفقين قبل ما سيف يموت
استقامت واقفة وقالت مبتسمة بسخرية :
_ امممم بس للأسف أنا اتجوزت ، ونفس الشخص اللي كنت بتقولي إنه مش كويس ومش مرتحله
ثم استدارت واندفعت لخارج المقهى مسرعة أما هو فاستغرقت دهشته لثلاث ثواني بالضبط حتى وثب واقفًا ولحق بها راكضًا واستطاع أن يمسك بها بعدما غادرت المقهى تمامًا حيث قبض على ذراعها يرغمها على الوقوف هاتفًا بضجر حقيقي :
_ استني هنا .. يعني إيه اتجوزتي !!!!
قالت بغضب وهي تحاول نزع يدها من قبضته :
_ سيب إيدي ياعمر ، وامشي احسلك من هنا لإن كرم جاي ولو شافك مش هيحصل طيب أبدًا
وماهي إلا لحظة وبالفعل توقفت سيارته بالخلف وترجل كرم منها ليقف للحظات معدودة يحملق بعمر وهو يمسك بذراعها بعنف ويرغمها على الوقوف معه ، فتطاير الشر من عيناه وبدأ يظهر عن حقيقته المتوحشة التي شهدتها منذ أيام عندما اختطفت …………
وماهي إلا لحظة وبالفعل توقفت سيارته بالخلف وترجل كرم منها ليقف للحظات معدودة يحملق بعمر وهو يمسك بذراعها بعنف ويرغمها على الوقوف معه ، فتطاير الشر من عيناه وبدأ يظهر عن حقيقته المتوحشة التي شهدتها منذ أيام عندما اختطفت .. رأته يندفع نحوه كالوحش الثائر ودفعه بعيدًا عنها هاتفًا بنظرة مرعبة :
_ شكلك محرمتش من المرة اللي فاتت !
واغار عليه يعطيه لكمة كادت أن تطيح به أرضًا ، ليستشيط عمر غضبًا وغيظًا ويندفع إليه يعيد له اللكمة بقوة ، كانت شفق تقف تحدق بهم وهي منذهلة ومرتعدة ، لا تدري كيف تتصرف أو ماذا تفعل لتنهي مايحدث ، ولكن حين رأت كرم اصبح كبركان انفجر واطاح بعمر إلى الأرض وهم بأن يكمل ويبرحه ضربًا أكثر ، فهرولت ووقفت أمامها تمسك بذراعيه هاتفة برجاء :
_ كرم خلاص ابوس إيدك .. يلا بينا احنا في الشارع مينفعش اللي بتعمله ده
رفع سبابته يصيح منذرًا إياه بأعين شرانية :
_ لو شفتك بس بتقرب منها تاني .. هشرب من دمك ووهندمك على اليوم اللي شفتني فيه
كانت شفق تحاول أن تجعله يتحرك ويرحلوا بتوسلاتها ، وأخيرًا وجدته يقبض على يدها ويسحبها معه ناحية السيارة ثم فتح الباب وقال بلهجة صارمة :
_ اركبي
حدجته بنظرة مرتبكة واستقلت بالسيارة دون أدني اعتراض ، ليلتف هو من الجهة الأخرى ويستقل بمقعده المخصص للقيادة وينطلق عائدًا إلى المنزل ، اخذت تختطف إليه النظرات بارتعاد من ملامحه المريبة وغضبه العارم ، وعندما وجدته يحول رأسه ناحيتها اشاحت بوجهها فورًا للجهة الأخرى في خوف ، واصابتها نفضة بسيطة حين سمعت نبرته المستاءة وهو يهتف بحدة :
_ والقذر ده عرف إزاي إنك هناك ؟!
خرج صوتها متلقلقًا ومضطربًا :
_ مـ..معرفش أنا لقيته مرة وحدة طلع قدامي بعد ما نهلة مشيت وأنا كنت قاعدة مستنياك جوا في مكاني لغاية ما توصل ، ولما لقيته قعد قدامي وفضل يتكلم وبيحاول يعتذر مني طلعت وسبته وهو طلع ورايا
اتاها صوته المرتفع وهو يصيح بها لأول مرة منفعلًا :
_ وإنتي تتكلمي معاه ليه أساسًا ، وازاي تسمحيله يمسكك بالشكل ده !
رمقته مندهشة من طريقته القاسية وصياحه ، وسرعان ما امتلأت عيناها بالدموع وابعدت نظرها عنه هامسة بصوت مبحوح :
_ أنا آسفة ياكرم !
_ لا مفيش حاجة اسمها آسفة .. كان المفروض تسيبه وتطلعي ترني عليا ، مش تقعدي تتكلمي معاه !!
عادت له بعيناها الدامعة مجددًا وقالت في اندفاع وضيق من عصبيته :
_ متــكــلــمـتـش معاه .. هو يدوب اللي قاله إنه اعتذر مني وكان بيحاول يخليني اسامحه وارجعله فقولتله إني اتجوزت وسبته ومشيت
_ امممم ترجعيله !!
قالها وهو يبتسم ساخرًا ويغلي من الغيظ ، اطالت هي النظر إليه ببعض الصدمة .. تنتظر منه أن يعتذر عن حدته معها ويعود لطبيعته الحانية واللطيفة ، ولكنها لم ترى سوى رجل غاضب وقاسي ، حتى أنه لم ينظر لها ليرى حالتها ودموعها .. فضحكت بصمت واستنكار ثم اشاحت بوجهها تمامًا عنه تجفف دموعها وهي تتوعد له حين يعودوا للمنزل .
وماهي إلى دقائق قليلة حتى توقفت السيارة أمام المنزل ففتحت هي الباب واندفعت نحو الباب مسرعة ، وبحثت بحقيبتها عن المفاتيح ولكن من الواضح أنها نسيتها ، فاضطرت لانتظاره حتى أتى وأخرج المفاتيح وشرع في فتح الباب وهو يحدق بوجهها المستاء والحزين ليتنهد مغلوب على أمره حين أدرك الآن فداحة الخطأ الذي ارتكبه للتو معها وهو في لحظات الغضب ، وبمجرد ما فتح الباب اسرعت باتجاه الغرفة غير مبالية له وهو يهتف :
_ استني .. شــــفــــق !!!
اغلق باب المنزل ولحق بها مهرولًا وقبل أن يدخل اغلقت الباب في وجهه بالمفتاح فطرق عليه متمتمًا :
_ شفق افتحي الباب !
اتاه صوتها المرتفع والباكي :
_ لا ، مش هفتح ياكرم
مسح على وجهه متأففًا من حماقته وفعلته الغبية معها ، ثم عاد يهتف بنبرة حانية أخيرًا عادت لطبيعتها وهو يعتذر بأسف حقيقي :
_ أنا آسف .. أنا عارف نفسي غبي والله بس للأسف لما بتعصب مش ببقى عارف أنا بقول إيه ولا بعمل إيه ، افتحي بقى ياشفق يلا
صاحت بإصرار أشد :
_ قولتلك مش هفتح ، إنت بتزعقلي كأني أنا اللي قولتله ياجي ويشوفني ويتكلم معايا ، أنا إيه ذنبي .. ده واحد ولقيته مرة واحدة قعد قدامي ، المفروض يعني اقوم اجري مثلًا !
سمعت صوته الدافيء و المتوسل :
_ طيب افتحي وأنا هصالحك
_ مش عايزاك تصالحني ياكرم ، أنا عايزة افضل وحدي لو سمحت .. ممكن تسبني وتمشي بقى !
زفر بعدم حيلة ويأس ثم استدار وذهب للخارج يجلس على الأريكة الكبيرة المتوسطة في الصالة أمام التلفاز ، ودفن وجهه بين راحت كفه ، أما هي فألقت بجسدها على الفراش وانخرطت في نوبة بكاء قوية ……
***
بمدينة الرياضة عاصمة المملكة العربية السعودية ….
وقفت السيارة في منطقة راقية وهادئة ثم ترجلت منها هي أولًا ومن الباب الآخر ترجل هو ودفع الأجرة للسائق ، ثم أخرج حقائبهم وجرها خلفه حتى الباب ، وكانت هي تتجول بنظرها في كل مكان وتحدق بالباب الخشبي الجميل ، حتى وجدته يخرج المفاتيح ويضعها في القفل لينفتح ويدخل هو أولًا ومن ثم تبعته هي وبمجرد ما وقع نظرها على المنزل الريفي والعصري من اللون البني ، وأمامه حوض سباحة كبير وحوله حشائش خضراء قصيرة مع طاولة دائرية وحولها اريكة متسوطة الحجم .. كان منزل صغير جدًا يكفي لشخصين أو عروسين اتو لقضاء عطلة رومانسية .
ظلت تحدق به بانبهار حقيقي وسعادة بالغة حتى نظرت له وقالت بفرحة :
_ هو ده المكان يازين ؟!
اماء لها برأسه في ابتسامة عريضة ثم تحرك أمامها هاتفًا بغمزة ماكرة :
_ تعالي اتفرجي عليه من جوا كمان هيعجبك أكتر
لم تركز كثيرًا على نظرته ورفعت النقاب عن وجهها وأخذت تتلفت حولها بإعجاب شديد وهي تسير خلفه حتى رأته يفتح الباب الزجاجي الجرار ويدخل لداخل المنزل واسند الحقائب بجانب الباب ، واستدار لها نصف استدارة ومد يده فشبكت كفها بكفه وسارت معه تتجول في ارجاء المنزل الخشبي ، لم يكن هناك سوى حمام ومطبخ خارجي صغير جدًا وغرفة نوم رائعة ، وعندما وصلا لغرفة النوم وتفحصتها بإعجاب هاتفة برقة :
_ الله جميلة جدًا .. والبيت كله جمييييل أوي يجد يازين ، وجو الكيوخ والبيوت الريفية دي بحبه جدًا على فكرة .. بس ده مفيش غير اوضة وحمام ، والمطبخ موجود برا في الصالة كمان !
حاوطها من كتفيها بذراعه متمتمًا بحب :
_ وإنتي عاوزة إيه أكتر من كدا ! ، كفاية علينا الأوضة هو في حد غيرنا أساسًا
اماءت له بتفهم وابتسامة خجلة ثم تحركت ناحية النافذة الخشبية أيضًا المطلة على المسبح الخارجي فشعرت به يقف خلفها مباشرة ملتصق بها وهو يهمس بنبرة لمست اللؤم فيها :
_ وأهو حمام سباحة جوا البيت عشان تعومي براحتك ولو عايزة تنزلي بمايوه كمان عادي
التفتت له برأسها وغمغمت بتعجب واستحياء :
_ مايوه !!!!
_ آه مايوه ، طالما مفيش غيري يبقى البسي اللي تحبيه
هزت رأسها بالإيجاب وابتعدت عنه ببطء وهي تهمس بارتباك وخجل ملحوظ :
_ اممم طيب أنا هروح اغير هدومي في الحمام واخد دش
وفي ظرف لحظة فرت هاربة من أمامه فعاد ينظر للخارج من النافذة وهو يبتسم بعاطفة ، يؤمن بأن هذا المنزل سيشهد بداية الحكاية التي لم تبدأ بعد ! …….
***
بمساء اليوم …….
لا تزال في غرفتها منذ الصباح لم تخرج ولم تعرف هل ذهب للعمل مجددًا أم لا ، ولا تشعر بشيء سوى اليأس ، تفسر تصرفه بالصباح بالسئم منها !! .. أجل لوهلة داهمها شعور بأنه سئم منها ومن تحمله لأمرها دائمًا وحمايتها ، قد يكون انفعل عليها لأنه مل وليس الخوف هو السبب الرئيسي !! .
كانت كلها أفكار تدور في ذهنها واقنعتها مع الأسف أن إنهاء هذه المهزلة ستكون خيرًا لها ، وادركت للتو بأنها اخطأت حين وافقت على الزواج وهي تعرف سبب زواجه منها وأنه لا يحبها ، وكالحمقاء اقنعت نفسها بأنها ستتكمن من اعتلاء عرش قلبه ، وفي النهاية فهمت بأنها لن تستطيع مهما فعلت ، ستظل دائمًا في عينه ، شفق الأمانة التي تركها صديقي لي ، وسيظل حبه لها الأشبه بحب الأشقاء الممزوج بالشفقة على حالتها ووحدتها !! .
كل هذا جعلها تصمم على قرار واحد وهو الطلاق والخروج من دوامة العشق المميتة ! .
وأخيرًا عاد ، رأته يدخل ويغلق الباب خلفه ثم نزع سترته عنه واقترب منها بخطواط مترددة ، لا يعرف ماذا يقول وكيف يعتذر لها وهو مخطأ من أول حرف لآخر حرف ، وجدته يجلس بجوارها فحركت رأسها للناحية الأخرى تتفادي النظر إليه عمدًا لتسمعه يتنهد بعمق ويهمس :
_ بصيلي ياشفق !
تجاهلته وظلت على وضعها رافضة النظر له فوجدته يمسك بكفها ويرفعه لشفتيه مقبلًا ظاهره وهو يعتذر بندم :
_ أنا آسف
نظرت له بطرف عيناها وكانت على وشك أن تضعف أمام نظراته وحنانه وترتمي بين ذراعيه ولكن تحكمت بمشاعرها وسحبت يدها هاتفة بجفاء لا يليق بها إطلاقًا :
_ كرم أنا شايفة إنه كفاية لغاية كدا .. إنت السبب اللي اتجوزتني عشانه خلاص مبقاش موجود وأنا بقيت في آمان ولو على عمر اطمن هو مستحيل يأذيني أنا واثقة من ده ، بس إنت مش مضطر تضحي اكتر من كدا ، ومش مضطر تكمل معايا وإنت مش بتحبني وتمثل عليا إنك بتحبني ، أنا عارفة إنك مش هتقدر تنسي مراتك فبرأى كفاية والأفضل نتطلق ، إنت شيلت همي كتير أوي وحملتك هم مشاكلي وحمايتي من وقت وفاة سيف الله يرحمه و……
قاطعها وهو يهتف بابتسامة ساخرة وغير مصدقة :
_ شفق في إيه !! .. ماهو مش معقول عشان اتصرفت معاكي بانفعال خارج عن إرادتي لأول مرة تطلبي الطلاق !!
قالت بهدوء تام وثبات مزيف :
_ لا مش هو ده السبب أكيد .. بس أنا عارفة زي ما قولتلك إنك لا هتقدر تنسي مراتك ولا تحبني ، كل مافي الموضوع إنك حاسس بالشفقة تجاهي ومش هاين عليك تسبني وحدي
مسح على وجهه متأففًا ثم نظر له ورسم ابتسامته بصعوبة وهو يجيبها بصدق ولطف :
_ ومين قالك إني مبحبكيش !! ، أنا أكيد مش محتاج اشرحلك غلاوتك عندي إزاي وإنتي عارفة ده كويس أوي
قالت بصوت مبحوح يغلبه البكاء به شيء من العصبية :
_ لا مش عارفة ومش عايزة أعرف ! .. أنا تعبت ومبقتش قادرة استحمل ، طلقني ياكرم ابوس إيدك وريحني
مد يده ومسح على شعرها بحنو مغمغمًا برفض هاديء ونظرات دافئة بها بعض الألم :
_ بس أنا مش عايز اطلقك .. تعرفي إني بدأت اتعود عليكي ومش حابب ننهي اللي بينا حتى لو كان مجرد زواج ليه اسبابه زي ما بتقولي ، أنا مش هقدر اغصبك على حاجة إنتي مش عايزها أكيد .. بس هطلب منك فرصة تانية ؛ لإني حابب ادي لعلاقتنا فرصة تاني وصدقيني لو منجحتش الفرصة دي وإنتي فضلتي حابة ننفصل مش هقولك لا سعتها
انسابت دموعها على وجنتيها بحرارة ، تطالعه بنظرات العشق كعادتها ولكنها كانت هذه المرة مختلفة ، بها شيء من السعادة لأنه رفض التخلي عنها وابدى عن رغبته في نجاح علاقتهم ليكونوا زوجان حقًا .. طال صمتها فسمعته يكمل مبتسمًا بترقب :
_ هااا قولتي إيه ؟!
هزت رأسها بالموافقة هامسة :
_ ماشي موافقة
ثم هبت واقفة واشارت إلى الحمام بيدها دون أن تتكلم في وجنتين تعطي لون الطماطم ، لتراه يوميء برأسه لها مبتسمًا بساحرية فتندفع ناحية الحمام مسرعة ، أما هو فعبس وجهه من جديد وهو يعيد في عقله رغبتها في الطلاق ! ، لم يقل لها حين قالت له بأنها تخشي خسراته كما خسرت عائلتها أنه هو الذي يخشي من هذا وليس هي ، فكلما يعتاد على أحد يخسره ولا يخسر سوى الاشخاص الذين يحبهم ! ، لم ينسى زوجته حين كانت في بداية خطبتهم تقول له أنه لا يحبها من فرط تحفظه وخجله وتوتره الذي يمنعه عن أي شيء ويضع الفواصل بينهم والتي كادت أن تنهي علاقتهم كما يحدث الآن معه .
مازال لا يعرف حقيقة مشاعره تجاه تلك الشفق ولكنه يعرف شيئًا واحدًا فقط وهو أنه لا يريد تركها وسينبغي عليه في الفترة القادمة أن يتخلي عن كل ما قد يعوق بينهم ، فهو ليس مستعدًا بعد لكي يشهد خسارة جديدة !! .
***
وصل علاء إلى المنزل بعد يوم طويل وشاق من العمل ثم قاد خطواته نحو غرفته وفتح الباب ليتسمر بأرضه وكأن صاعقة برق اصابته ، حين رآها فاقدة الوعي على الأرض وبيدها زجاجة اقراص دواء ، فهرول ناحيتها وجثى أمامها يمسك برأسها ويهزها هاتفًا بهلع :
_ ميار .. ميار
امسك بزجاجة الأقراص فوجدها فارغة تمامًا ، هل ابتلعت كل هذه الاقراص المجنونة !! ، التفت برأسه ناحية الباب وصاح بأعلى صوت :
_ بـــــابــــا
جاء طاهر مسرعًا على أثر صياحه وحين رآه يمسك بها وهي بين ذراعيه في الأرض وينظر لها بزعر ، فهتف أبيه بغضب وهو يجثى بجواره :
_ عملتلها إيه ياعلاء !! .. ميار ردي عليا يابنتي
قال بصوت مضطرب ووجه مرتعد :
_ معملتلهاش حاجة والله ، أنا لسا جاي من برا دخلت لقيتها كدا ، شربت البرشام كله المجنونة
فغر طاهر عيناه بذهول ووثب فورًا واقفًا بعدما رأى الزجاجة وقال بخوف شديد :
_ طيب قوم لبسها أي حاجة بسرعة وأنا هستناك في العربية برا خلينا نروح بيها على المستشفى نلحقها
ثم انصرف مغادرًا شبه راكضًا ليصطدم بزوجته التي كانت في طريقها إليهم بعدما سمعت صياح ابنها .. ولم تتمكن من ايقاف زوجها وسؤاله فأكملت طريقها نحو غرفة ابنها .
حملها علاء ووضعها على الفراش ثم اتجه إلى خزانتها وأخرج شيئًا أشبه بفستان ثم عاد لها والبسها إياه بإيدي مرتجفة من الفزع ومن ثم التقط الحجاب ولفه على شعرها بعشوائية لتدخل أمه وتهتف شاهقة بصدمة :
_ في إيه ياعلاء ؟!
رأته يحملها على ذراعيه ويهتف على عجالة وهو يغادر بها مسرعًا :
_ حاولت تنتحر وشربت علبة البرشام كلها
***
داخل منزل حسن العمايري ….
نسائم الهواء تحمل معها بعض البرودة وهو يمسك بكوب قهوة دافيء يرتشف منه بتأني شديد ، وعيناه معلقة على السماء يتأملها بشرود .. بات يشعر وكأن المنزل ينقصه وجودها ، أصبح هاديء وفارغ منذ ذهابها ، وفي كل يوم يشعر بنمو نقطة الشوق الصغيرة الذي في قلبه ، وبالرغم من كل هذا يرفض الاستسلام للحقيقة التي تخطت حاجز الندم وأصبحت اشتياق وفراغ يلاحقه في أيامه المملة بدونها !! .
ابتسم بتلقائية حين راوده احساس بشوقه لشجاراتهم التي لم تنتهي منذ أول يوم زواج لهم .. استوحش شراستها معه وقوتها وهي تصرخ به دون ادنى خوف .
هب واقفًا وتحرك باتجاه غرفتها المغلقة منذ ذهابها ، فتح الباب بهدوء ودخل ثم اضاء المصباح والقى نظرة دائرية على الغرفة يتفحصها بإمعان كأنه يراها للوهلة الأولى ، أصدر تنهيدة حارة بأسى ثم اقترب من الفراش وجلس عليه مهمومًا ، ليقع نظره على الصورة الموضوعة في برواز للصور على المنضدة ، فالتقطها وأخذ يحدق بها بحزن ، كانت صورة لها تجمعها معه من زواج ” زين ” ، يتذكر جيدًا ذلك اليوم حين اصرت عليه أن يأخذوا صورة لهم ورغم رفضة وخنقه في البداية منها إلا أنه ذعن لرغبتها في النهاية مجبرًا لكي يتخلص من الحاحها المستفز بالنسبة له حينها !! ، والآن هي لم تترك شيء سوى هذه الصورة ، أخذت كل شيء يخصها عندما غادرت وتركتها لأنه يشاركها إياها ، هل حقًا توقفت عن حبه أم تمثل أمامه الكره .. تارة يشعر بأنها تكذب وتارة العكس ، ولكن الشيء الوحيد المتيقن منه هو أنه بات لا يطيق ألم تعذيب ضميره وندمه واشتياقه لها الذي يزيد يومًا بيوم ! .
فأخرج هاتفه دون تردد هذه المرة واجرى اتصال بها ، ظل ينتظر ردها حتى اتاه الرد منها مرتعد وشبه باكي :
_ الو ، مين ؟
لم يعقب على عدم معرفتها لرقمه وهتف بقلق :
_ أنا حسن يايسر .. صوتك ماله ؟!
انهمرت دموعها وقالت بصوت مبحوح :
_ أنا في المستشفى ياحسن ، ميار حاولت تنتحر وبابا تعب كمان دلوقتي
استقام واقفًا بفزع وهتف :
_ إنتوا في مستشفى إيه ؟!
***
كان زين يجلس بالخارج على الأريكة ويباشر بعض أعماله على حاسوبه النقال الموضوع فوق الطاولة الصغيرة ، فرآها تخرج من المنزل وتتحرك ناحيته وهي تحمل على يدها صحن به طعام لا يعرف نوعه ، ولكن لم يكن هذا المهم بل ملابسها هي الأهم وكأنها نفذت ما قاله بالحرف حول ارتدائها ما تحب طالما لا يوجد غيره ، كانت ترتدي منامة قطنية لطيفة تصل إلى ركبتيها وبحمالات عريضة قليلًا مع فتحة صدر واسعة بعض الشيء ولكن لا تظهر نهديها ، ظل نظره معلق عليها بانبهار وعيناه تتفحصها بتدقيق لآخر قدمها ، وأخيرًا وصلت له وجلست بجواره ثم غرست الشوكة في قطعة الكعك المتوسطة الموجودة في الصحن الذي بيدها ومدتها لفمه هاتفة برقة :
_ دوقها أنا عملاها
قرب شفتيه من الشوكة واكلها وهو لا يرفع نظره عنها ليسمعها تهمس بحماس :
_ حلوة ؟
اماء برأسه وغمغم مبتسمًا بعاطفة :
_ أكيد حلوة تسلم إيدك
ثم أكمل بنظرة ثاقبة وابتسامته لا تزال تزين ثغره :
_ اقفي كدا !
طالعته باستغراب لبرهة ثم هبت واقفة كما طلب ، فرأت عيناه تنظر لها بنظرات لأول مرة تراها ثم وجدته يرفع سبابته ويلفه بحرطة دائرية قائلًا :
_ لفي
مصمصت شفتيها بارتباك وخجل مردفة بحيرة :
_ ليه !!
_ اسمعي الكلام بس يلا
اخذت نفسًا عميقًا وسيطرت على توترها بصعوبة لتدور حول نفسها بحركة دائرية سريعة بعض الشيء ، وحين توقفت واستقرت عيناها عليه رأته يبتسم بغرام ويغمغم بخفوت رائع :
_ بسم الله ماشاء الله .. تعرفي إنك جميلة أوي وكل يوم بتبهريني بجمالك أكتر
اطرقت رأسها أرضًا وهي تبتسم بخجل وتفرك في يديها من الارتباك لتتسع ابتسامته على شفتيه ويشير لها بيده أن تنضم له هاتفًا بضحكة بسيطة :
_ تعالى تعالى
فعلت دون تردد وجلست بجواره ليلف هو ذراعه حولها ويضمها لصدره ويده تملس على شعرها وذراعها بحنو ، مما كان يزيد من توترها ولكنها قررت أن تذيب الحدود وتكون هذه البداية ، وبعد تفكير عميق واستحياء دام لدقائق همست وهي بين ذراعيه :
_ زينو
نظر لها بدهشة بسيطة من الاسم الذي نطقته للتو ، وضحك ببساطة متمتمًا :
_ زينو !! .. أول مرة تقوليلي الاسم ده ، بس ما علينا ، نعم ياملاذ ؟
استجمعت كل الثقة والشجاعة الكامنة في نفسها لتنظر له بثبات وتهتف بخفوت يحمل بداخله كل اشكال العشق والرقة :
_ بحبك أوي
لجمه الذهول للحظات طويلة بعض الشيء وهو يحدج بها بعدم استيعاب لما سمعته اذنيه للتو ، ثم بدأت تعود الابتسامة لشفتيه تدريجيًا وهو يجيبها بأعين تلمع بوميض السعادة :
_ قوليها كمان مرة !
انطلقت على شفتيها ابتسامة خجلة وهمست بدلال غير مقصود :
_ بـــــحــــبــك
رأت عيناه تضحك قبل شفتيه وفي ظرف لحظة وجدته يغار عليه ويمطرها بوابل من قبلاته على وجنتها وجبهتها هامسًا :
_ وأنا والله بعشقك ياقلب وروح زينو !
ابتعد عنها واطال النظر في ملامحها بأعين عاشقة ودافئة ثم اقترب ناحية ثغرها فتوترت هي بشدة واضطربت من فرط خجلها ، لتبتعد وتمسك بصحن الكيك وهي تثب واقفة قائلة بتلعثم :
_ اااا.. أنا هـ.. هروح احط الكيكة في التلاجة عشان نسيتها برا
وفي ظرف لحظة فرت من أمامه كالسهم وما إن خلت بنفسها داخل المنزل بعيدًا عن أنظاره اخذت تضحك بعدم تصديق أنها قالتها وأنه أخيرًا اعترف لها أنه يحبها ، كانت تشعر بنفسها تحلق في السماء من شدة سعادتها .. أما هو فكان حاله لا يختلف عنها كثيرًا ، أخيرًا ذاب الثلج بينهم وافصحت عن عشقها له .. كان يود كثيرًا أن يكمل الليلة معها كما ينبغي لتكون أول لياليهم معًا ولكن خجلها وتوترها سيضطره للتريث قليلًا في ذلك الأمر ! .
***
وصل حسن للطابق الموجود فيه غرفة عمه فرآها تقف بجانب باب الغرفة دافنة وجهها بين ثنايا كفها ، اقترب منها وابعد يدها عن وجهها هاتفًا بخوف :
_ يسر طمنيني عمي كويس
اماءت له بوجه عابس وأعين دامعة :
_ كويس الحمدلله ماما قاعدة معاه جوا ، وميار عملوا ليها غسيل معدة ولسا مفاقتش
_ هي عملت إيه في نفسها المجنونة دي !
_ علاء وبابا لقوها شربت علبة البرشام كلها والدكتور قال لو كنتوا اتأخرتوا شوية كمان مكنوش هيقدروا يلحقوها ، وعلاء طلع دلوقتي تقريبًا راح يجيب حاجة وجاي تاني
اجفلت عيناها عنه وبدأت تذرف الدموع في صمت وخرج صوتها يغلب عليه البكاء :
_ خوفت أوي على بابا لما تعب
لم يمهل نفسه اللحظات لكي يفكر كما اعتاد بل ضمها لصدره وملس على ظهرها بحنو صعودًا ونزولًا هامسًا بخفوت :
_ الحمدلله إنه بقى كويس ، متزعليش نفسك كفاية
أغمضت عيناه تستنشق رائحته وهي بين ذراعيه ، عطره الرجولي المميز يستحيل أن تنساه ، وحرارة صدره اشتاقت لها بشدة ، بل بالأحرى هي اشتاقت لكل شيء فيه بدرجة لا يتخيلها وتعاني الألم وهي تتصنع أمامه القوة والقسوة ، والآن هي لا تريد الابتعاد عنه ولكن عقلها رفض استسلام قلبها الذي لا يجلب لها سوى المتاعب وذكرها بكل شيء فعله معها بداية من ليلتهم الأولى معًا حتى إجباره لها على اجهاض طفلهم ، فابتعدت عنه فورًا وقالت بجفاء وحزم :
_ أنا هدخل لبابا جوا ، ومتقربش مني تاني ، متنساش إنك طلقتني !
فتحت الباب ودخلت لتتركه يقف يحدق على أثرها بشرود وأعين بائسة ، ولكن سرعان ما ارتفعت الابتسامة لشفتيه تدريجيًا حين تذكر كلمتها ” طلقتني ! ” .
داخل خلفها بعد أن طرق الباب عدة طرقات خفيفة وسمع صوت عمه وهو يسمح للطارق بالدخول ، اقترب من عمه وهتف باهتمام :
_ عامل إيه ياعمي
طاهر بنبرة عادية تمامًا :
_ الحمدلله يابني بقيت كويس .. أنت عرفت منين ؟
خطف نظرة سريعة على يسر ثم هتف بثبات مخترعًا كذبة صغيرة حتى لا يضع نفسه في موقف قد لا يحبه عمه :
_ كلمت علاء وقالي على اللي حصل
هز طاهر رأسه بالتفهم ثم نظر لابنته وهتف بقلق حقيقي :
_ ميار عاملة إيه يايسر ؟
_ لسا مفاقتش يابابا ، أنا كنت عندها دلوقتي
كان حسن يعلق نظره عليها بسكون وأمها كانت منشغلة بالتحدث مع طاهر الذي يصر على الذهاب لابنة اخيه والاطمئنان عليها بنفسه ! ……
***
عاد علاء للمستشفى واتجه نحو غرفة ميار فورًا عندما اخبره الطبيب بأنها استعادت وعيها ، فتح الباب ودخل ثم اغلقه خلفه وتحرك نحوها ليجذب المقعد ويجلس أمام الفراش هاتفًا بصوت هاديء :
_ ميار
فتحت عيناها ورمقته بأعين منطفئة وكئيبة ليكمل هو بنبرة مهتمة حقًا :
_ بقيتي كويسة دلوقتي ؟
اماءت له بالإيجاب ، والتزم هو الصمت للحظات طويلة حتى بدأت ملامحه تأخذ الحدة والعصبية وهو يقول :
_ إيه اللي عملتيه ده !! ، إنتي مجنونة ! .. ده بدل ما تكفري عن ذنبك وتطلبي من ربك العفو وتتوبي لا بتحاولي تنتحري عشان تحملي نفسك ذنب أكبر
همهمت بمرارة وبؤس :
_ محدش طايقني ولا عايزني .. كل عيلتي بتكرهني حتى نينا بقت مش عايزاني وهي اللي كانت بتصبرني على فراق بابا وماما
اشفق عليها لأول مرة فأخذ نفسًا عميقًا وهو يحدقها بأعين متأثرة ، ثم تمتم بخفوت لين :
_ إنتي اللي رخصتي نفسك بعملتك ياميار ، واجبرتي الكل إنه ياخد منك جنب حتى جدتك ، بس متخافيش هي لسا بتحبك أكيد ، كل ما في الموضوع إنها هتاخد فترة لغاية ماتسامحك ، وبكرا هبقى اخدك تتكلمي معاها شوية
ابتسمت بسعادة واعتدلت في نومتها هاتفة :
_ بجد ياعلاء !
تراجعت في لحظتها وقالت بيأس :
_ لا بس هي مش هتوافق تشوفني أصلًا ولا تتكلم معايا
_ جربي .. نفع كان بها منفعش خلاص
امسكت بكفه تضغط عليه بلطف وتطالعه بعيون دامعة وممتنة بشدة وهمست بخفوت رقيق :
_ vielen Dank
شكرًا جدًا
سحب كفه بهدوء تام وهو يرسم ابتسامة صارمة بعض الشيء ثم هب واقفًا وقال بغلظة :
_ أنا هروح اطمنهم إنك فوقتي
هزت رأسها بالموافقة وهي في اقصى درجات سعادتها ولا تتمكن من انتظار الغد حتى تذهب لزيارة جدتها ورؤيتها !! …….
***
مع صباح اليوم التالي ……
كان كرم يرتدي ملابسه ويستعد للذهاب وهي بالمطبخ تقوم بتحضير وجبة الإفطار ، فخرج من الغرفة فور انتهائه واتجه إليها في المطبخ يقول على عجالة باختصار :
_ شفق أنا همشي معلش عشان مستعجل جدًا متعمليش حسابي معاكي
لم تجيبه واكملت ما تفعله محاولة كتم غيظها من أنه سيتركها تفطر بمفردها ، فعقد هو حاجبيه باستغراب عندما لما يأتيه رد منها حتى ولو بإماءة رأس خفيفة ، اقترب منها ووقف بجوارها متمتمًا :
_ شفق أنا بكلمك إنتي سمـ….
توقف عن الكلام حين رأى دموعها تملأ وجهها فمد يده وامسك بذقنها يدير وجهها ناحيته هامسًا بريبة :
_ بتعيطي !! .. إنتي لسا زعلانة مني ؟!
اجفلت عيناها أرضًا وانهمرت دموعها بقوة أشد فجذبها فورًا لأحضانه هامسًا بلطف ورجاء جميل :
_ متعيطيش ياشفق ابوس إيدك .. إنتي عارفة إني مبقدرش ازعلك ، حقك عليا وعد مش هيتكرر تاني
انخرطت في نوبة بكاء قوية وهي تهتف من بين بكائها :
_ مش زعلانة
لم يتمكن من حجب ضحكته حيث اجابها ضاحكًا بمشاكسة :
_ إنتي كدا مش زعلانة ! .. أمال لو كنتي زعلانة كان هيحصل إيه !!!
استمرت في بكائها فأبعد رأسها فقط عن صدره وبيد مسك ذقنها يرفع وجهها لأعلى لكي يراها بوضوح ، وباليد الأخرى مد اناملها وجفف دموعها ، واطال النظر في وجهها مبتسمًا بساحرية ولم يجد صعوبة في فعل خطوته القادمة ، فهو لم يعد يخجل ويتوتر منها كالسابق .
انحنى برأسه ناحيتها وطبع قبلة بجانب ثغرها هامسًا بصوت ينسدل كالحرير ناعمًا :
_ أنا آسف
ثم ارتفع بشفتيه لجبهتها يكمل همسه وهي ذائبة تمامًا بين ذراعيه وهمساته وقبلاته :
_ وكمان مرة تاني ، أنا آسف
تحولت إلى قطعة طماطم وتوردت وجنتيها بشدة ، وسرت قشعريرة في جسدها الذي شعرت بحرارته ودقات قلبها تطرق بعنف ، وكعادتها تحاول اخفاء خجلها بأي شيء حيث دفنت وجهها في كتفه هامسة بتمرد ونبرة عابثة :
_ إنت وحش على فكرة
ابتسم لها وتمتم بمكر :
_ آه ما أنا عارف
استكمل برقة تليق بصوته الرجولي :
_ لسا زعلانة ؟
هزت رأسها بالنفي عدة مرات متتالية تدل على فرط توترها وخوفها من أن تجيبه بنعم فيعود ويقبلها ، ليبعدها هو عنه بلطف ويقول بحنو :
_ طيب أنا اتأخرت همشي واستنيني على الغدا عشان هنتغدى مع بعض
_ طيب
اقترب منها وطبع قبلة أخرى وسريعة على شعرها ثم استدار وابتعد عنها ليأتيه صوتها وهي تصيح برقة :
_ متتأخرش ياكرم
فتح الباب وقال قبل أن يغادر :
_ حاضر
***
داخل شركة العمايري ……
كانت يسر تقف أمام النافذة تتابع حركة المارة والسيارات بشرود في أشياء كثيرة في مقدمتهم وضعها الحالي الذي لا يبشر بخير أبدًا .. استمعت لرنين هاتفها المرتفع فعادت لمكتبها والتقطته لتجيب بنبرة عادية :
_ أيوة ياريم
_ عاملة إيه يايسر .. واخبار عمي طاهر إيه وبنت عمك ؟
_ الحمدلله كويسين ياريم متقلقيش ، بابا بقى زي الفل الحمدلله وحتى ميار بخير .. شكرًا على وقفتك معانا في المستشفى إمبارح
اجابتها معاتبة إياها بضيق :
_ اخص عليكي يايسر ، هو من إمتى في بينا شكر ده احنا اخوات ، وعمي طاهر زي بابا بظبط والله بنسبالي وإنتي عارفة ده
هزت رأسها بإيجاب وابتسامة عذبة هامسة :
_ عارفة عارفة
_ إنتي قاعدة في الشركة ؟
سمعت ريم تمتمها بـ ” امممم ” لتستكمل بترقب للإجابة :
_ لسا بيحاول يتقرب منك ؟
ظهر السخط على ملامحها وقالت بقسوة ونبرة لا تحمل المزح :
_ يحاول براحته ، أنا مبقيش يهمني أساسًا ولو السما اطبقت على الأرض مستحيل ارجعله .. كفاية أوي اللي عشته معاه أنا محتاجة ابص لحياتي ولنفسي بقى
_ بظبط هو ده الصح ، لانه مكنش يستاهل ضفرك ومازال ميستهلكيش .. بس مش كان غلط اللي عملتيه إمبارح ؟
زفرت بخنق وقالت مستاءة :
_ بالله عليكي ماتفكريني ياريم أنا كل ما افتكر اتعصب ، أنا اساسًا غبية ، ارد عليه ليه واقوله
عادت تكمل بعد ثواني قليلة بشيء من الحزن والحيرة :
_ أنا مش هينفع اقعد هنا اكتر من كدا ياريم ، لو فضلت قاعدة هيتكشف الموضوع وأنا بدأت اتعب وبدأو يلاحظوا في البيت
_ طيب هتعملي إيه ؟!
_ مش عارفة ، بس راسل راجع امريكا بعد يومين بفكر اروح معاه واشتغل هناك في شركة بابا وهحاول اقنعهم وهقعد في شقة لوحدي
قالت ريم بحزم ورزانة :
_ مينفعش تقعدي وحدك يايسر .. اقعدي مع خالتك وراسل ونبهي عليها متقولش حاجة لحد وراسل اكيد مش هيتكلم
يسر باندفاع :
_ إنتي بتقولي إيه ياريم .. خالتو مستحيل توافق على اللي بعمله وهتقولهم كلهم واولهم هو ، سيبك دلوقتي انا لما اسافر هتصرف واشوف حل .. سلام بقى عشان في ورايا شغل وشوية بليل هبقى اكلمك تاني إن شاء الله
_ تمام سلام وبلاش تتصرفي تاني بتهور زي امبارح هاا
ابتسمت وقالت بخفوت :
_ حاضر اطمني
ثم انهت معها الاتصال وجلست على مقعد مكتبها لتبدأ في أعمالها ولكن جذب انتباهها الملف الخاص به وأنه من اللازم أن يضع امضته عليه حتى يكتمل ، فتأففت بنفاذ صبر وضجر ثم جذبته وغادرت مكتبها باتجاه مكتبه هو وكانت ستعطي الملف لمساعدته حتى تعطيه هي له ولكنها لم تجدها ، لتضرب بقدمها الأرض مغتاظة على ذلك الحظ اللي يجبرها على الوقوع في طريقه دومًا ولا تستطيع تجنبه ، اتجهت نحو الباب واستنشقت هواء قوي تستعد لمقابلته بطريقة قاسية وصارمة وليس كالأمس ، فتحت الباب بهدوء وادخلت رأسها أولًا لتنطلق ابتسامة واسعة وفرحة على شفتيه حين لم تجده أيضًا فدخلت فورًا واتجهت لمكتبه لتضع الملف على سطحه وتستدير لتسرع وتغادر قبل أن يأتي ولكنها لم تتمكن من الهروب حيث بمجرد ما أن استدارت بجسدها ناحية الباب رأته أمامها مباشرة وهو يسألها :
_ بتعملي إيه ؟!!
قوست معالم وجهها للصرامة وقالت بإيجاز وهي تهم بالرحيل :
_ الملف على المكتب محتاج امضتك ، امضي عليه وابعته مع ميرنا .. مع ميرنا هااا
ثم ابتعدت من أمام وقبل أن تغادر وجدته يقبض على ذراعها ويغلق الباب هاتفًا وهو يتفحص ملابسها ، فهي ترتدي نفس الرداء الذي لديه فتحة صدر واسعة ونبه عليها سابقًا بأن لا ترتديه مجددًا وأيضًا ضيق قليلًا .
حاولت هي التملص من قبضته وهي تصيح باستياء :
_ سيب إيدي في إيه !!
قال بصوت رجولي خشن ونظرات مريبة ومخيفة بعض الشيء :
_ أنا مش قولتلك قبل كدا متلبسيش البتاع ده تاني
يسرا بانفعال وصوت مرتفع :
_ وإنت مالك البس اللي أنا عايزاه ، حاجة متخصكش
تمكن منه غضبه أكثر حيث أصبحت نبرته أكثر حدة وغلظة وهو يجيبها :
_ يخصني ونص كمان .. آخر مرة اشوفك لابساه تاني يايسر وإلا مش هيحصل كويس
ضحكت ساخرة وقالت بعند ونظرة شرسة :
_ قولتلك ملكش دعوة ! ، وبالعند فيك هلبسه كل يوم واعلى مافي خيلك اركبه .. سيب إيدي ياحسن
قالت آخر جملها بصياح عارم ليشد على ذراعها أكثر ويصيح هو الآخر بها بصوت جهوري بعد أن هيجت عواصفه المدفونة بداخله وكان يفعل كل مابوسعه لكي يحجبها عنها ولكنها تصر على إخراجها :
_ يسر أنا ماسك نفسي بالعافية والله العظيم متعصبنيش أكتر من كدا ، راسل كان بيعمل إيه عندك في المكتب من شوية
لم تخشي صياحه وانفعاله حيث رسمت ابتسامة صفراء وقالت ببرود مستفز :
_ للمرة التالتة ملكش دعوة ومتدخلش في حياتي اللي متخصكش
تحول إلى جمرة من النيران المتوهجة واظلمت عيناه بشكل مرعب واتخذ وجهه قسمات قذفت الخوف في قلبها حقًا هذه المرة حيث صرخ بصوت انتفضت هي على أثره :
_ طيب اسمعي بقى لو شفتك معاه تاني إنتي المسئولة على اللي هعمله فيه وفيكي .. تمام ! ، وأنا حذرتك أهو يايسر اقسم بر العزة لو لمحتك بس معاه وبتضحكي بصوتك العالي زي كل مرة لاخلهولك يروح المستشفى على نقالة ومش هيهمني لا انتي ولا علاء ولا عمي ، وبعد ما يروح المستشفى هيكون ليا تصرف تاني معاكي .. مدام انتي بدأتيها بجنان يبقى جنان بجنان بقى
كانت تحاول إبعاد يده عن ذراعها ولكن يداها تراخت تدريجيًا والرؤية أمامها أصبحت مشوشة و المكان يدور بها بحركة دائرية ، وأخيرًا ارخت ذراعها تمامًا واغمضت عيناها متغيبة عن الواقع ……..
جذبها إليه فورًا بيده قبل أن تسقط وباليد الأخرى يضرب على وجنتها برفق هاتفًا بهلع :
_ يسر .. يسر ردي عليا
حملها على ذراعيه ووضعها على الأريكة المتوسطة وهز رأسها بلطف على أمل أن تستيقظ ولكن بدون فائدة ، فانتصب في وقفته وجذب زجاجة العطر خاصته من على المكتب وقام بنثر شيء بسيط على على يده وقربها من انفها ففتحت عيناها تدريجيًا إلى أن نظرت له بوضوح فوثبت واقفة حين احست برغبتها في التقيأ من رائحة العطر النفاذة ، ولحسن الحظ أن بمكتبه يوجد حمام صغير ، فركضت نحوه ودخلت وأغلقت الباب خلفها ، لتسمع صوته وهو يطرق على الباب من الخارج :
_ يسر إنتي كويسة ؟!
لم تجيبه وفقط كان يسمع صوت تقيأها إلى أن توقفت أخيرًا وغسلت وجهها جيدًا وفتحت الباب لتراه بملامح وجهه المزعورة وهو يسألها باهتمام بالغ :
_ اخدك للدكتور لو تعبانة ؟
هزت رأسها مسرعة بالنفي وقالت بارتباك وهي تهم بالانصراف :
_ لا أنا كويسة
داهمها الدوار مجددًا وكادت أن تسقط لولا يديه التي حاوطتها من الخلف وجذبها من يدها ليجلسها مجددًا على الأريكة ويصيح مناديًا على المساعدة الخاصة به فتأتي بظرف لحظات قليلة وتسمعه يقول لها بجدية تامة :
_ هاتي عصير لمدام يسر وأي حاجة بسيطة كدا تاكلها
_ حاضر يافندم
ثم استدارت ورحلت لتنظر له يسر وتقول بحدة وهي تهم بالوقوف :
_ مش عايزة حاجة منك وابعد سيب إيدي
ارغمها على الجلوس هاتفًا بصوت رجولي صارم بعض الشيء :
_ اقعدي إنتي مش شايفة شكلك إزاي .. ومش قادرة تقفي على رجلك ! ، أنا هتصل بالدكتور ياجي هنا لو مش هتقدري تروحيله
استقامت واقفة وقالت باصرار وغضب :
_ ملكش دعوة إنت !! ، أنا مش عايزة دكتور ولا نيلة .. الحمدلله أنا كويسة متمثلش إنك مهتم أوي
هب هو الآخر واقفًا وقال بغلظة ونظرات صادقة :
_ أنا مش بمثل إني مهتم أنا شايفك فعلًا تعبانة وبقولك تعالي اوديكي للدكتور
_ آه وهو أنا لو تعبانة فعلًا تفتكر إني هروح معاك إنت !! ، إنت شكلك لسا مش مستوعب حجم الكره اللي اتربى جوايا تجاهك ، ولو بتعمل كل ده عشان ضميرك فاطمن هياخدله فترة ويموت وتنسى كل حاجة زي ما أنا نسيت
طرقت المساعدة الباب ثم دخلت ومدت يدها لحسن تعطيه ما طلبه منها وغادرت ، ليتنهد بقوة ويمد يده بالعصير والطعام هاتفًا بعدم حيلة :
_ طيب خدي على الأقل اشربي العصير وكلي عشان متتعبيش تاني
رمقته باشمئزاز وهتفت باستهزاء :
_ خليهوملك !!
وفتحت الباب وانصرفت دون أن تنتظر منه أي ردة فعل ، لينظر هو لما في يده ويتأفف بخنق ونفاذ صبر ……
***
خرج زين من الغرفة بعد أن ارتدي ملابسه واستعد الخروج ، رآها تجلس على أحد المقاعد صامتة وتحدق في الحديقة الخارجية من الزجاج ، فاقترب من خلفها وانحنى إليها يطبع قبلة ناعمة على شعرها هامسًا :
_ صباح الخير
التفتت له برأسها فورًا وقالت باسمة بحب :
_ صباح النور
وبمجرد ما أن انتبهت لملابسه استقامت وقالت بتعجب :
_ رايح فين ؟!
ابعد المقعد الذي يفصل بينهم ومد ذراعه يلفه حول خصرها مغمغمًا بوجه سمح :
_ رايح شغل هتأخر شوية وهاجي على المغرب إن شاء الله
زمت شفتيها بتذمر هادرة :
_ على المغرب ! ، وهتسيبني وحدي ده كله يازين !
طبع قبلة عميقة وطويلة على وجنتها متمتمًا بدفء :
_ معلش ياحبيبتي هو النهردا بس وبعدين هكمل الشغل من البيت هنا
اماءت له بتفهم ثم علقت نظرها عليه وهو يبتعد عنها ويغادر المنزل بأكمله لتبتسم حين طرأت في عقلها فكرة قد تكون منحرفة قليلًا بالنسبة لها وليس له ! ، وظلت للحظات تفكر فيها ثم اتجهت إلى غرفتهم وفتحت باب خزانتها لتنظر إلى الملابس النسائية المثيرة المعلقة فهزت رأسها بالنفي وقالت بخجل ” لا ، لا استطيع فعلها ” ، اطالت النظر فيهم لدقائق حتى حسمت أمرها وقررت أن تفعلها بالأخير وتتخلى عن اضطرابها ، فأخرجت قميص من اللون الأسود مكشوف الظهر كله وبحمالات رفيعة جدًا ، شفاف بعض الشيء عند مناطق معينة ويصل إلى أعلى الركبة .. نظرت لنفسها في المرآة وشهقت بفزع قائلة باستنكار :
_ إيه ده لا لا هغيره
عادت تتفحص الملابس من جديد ولكن البعض كان مشابه لهذا والبعض الآخر منحرف أكثر منه ، فتأففت وهي تلوم نفسها الغبية حين رفضت شراء هذه الملابس فقامت أمها وابنة خالتها بشرائهم لها وكانت هذه هي النتيجة !! .. عادت تتأمل نفسها في المرآة وهي لا تتخيل أنها سترتدي شيئًا كهذا أمامه ، ففكرت وجذبت الروب الخاص بالقميص ومن نفس اللون وارتدته فوقه واغلقته بالحزام فاخفى كل شيء لتتنهد هي بارتياح وتقول لنفسها باسمة ” هكذا أفضل ” ، نزعته عنها مجددًا وارتدت ملابسها المنزلية ثم خرجت واتجهت للمطبخ لتبدأ في تحضير الطعام لتجهز لهم وجبة عشاء هادئة ورومانسية ! .
***
توقفت السيارة أمام المنزل فترجلت هي منها أولًا ومن ثم هو ، كانت تقف تحملق في المنزل بأعين دامعة وخائفة من الفشل في أن تشرح لها كل شيء .. سمعت صوته الأجش وهو يقول ويتحرك أمامها ناحية الباب :
_ يلا ياميار
سارت خلفه على خطا متعثرة حتى طرق هو الباب وفتحت له زوجة عمه فطالعته مبتسمة ورحبت به بحرارة هاتفة :
_ أهلًا أزيك ياعلاء ادخل يابني .. ادخـ……
توقفت عن الكلام عندما رأتها خلفه فعبس وجهها وظهر عليه علامات الضيق وعدم الرضا لتسمع علاء وهو يهمس بصوت منخفض :
_ عايزة تشوف تيتا يامرات عمي يمكن تعرف تخليها تسامحها
تمتمت هدى بصوت لا يصل لمسامعها :
_ ده لو رضيت تشوفها أساسًا .. جدتك منشفة راسها ولسا امبارح كانت بتقولي إن عمك خالد مجبش ولاد بنسبالها
زم شفتيه بيأس ثم نظر لها وقال بغلظة :
_ اطلعي ليها ياميار
هزت رأسها بالموافقة ومرت من أمام زوجة عمها ووقفت تهمس باستحياء وهي تطرق رأسها بالأرض :
_ عن اذنك يامرات عمي
_ اتفضلي ياميار ده زي بيتك برضوا
قالتها هدى ببعض الاقتضاب وبمجرد ما أن توارت عن ناظريه ادخلت علاء وجلست تتحدث معه عن أحوال أمه وأبيه وبالأخص يسر .
بالطابق العلوي وقفت ميار أمام غرفتها مترددة في طرق الباب ولكن بعد لحظات طويلة من التفكير طرقت الباب وسمعت صوتها يسمح للطارق بالدخول ، ففعلت وفتحته لتدخل وتغلقه خلفها فتجد الرد عنيفًا منها :
_ بتعملي إيه هنا ؟
انسابت دموعها على وجنتيها وقالت برجاء :
_ يانينا ارجوكي خليني افهمك كل حاجة .. أنا مليش غيرك ومحدش بيحبني غيرك ، ابوس ايدك متقسيش قلبك عليا
صاحت بها الجدة بجفاء وغضب :
_ إنتي موتي بنسبالي بعد عملتك المهببة دي انسيني واعتبري جدتك ماتت ، ويلا امشي ومتخلنيش اشوف وشك تاني
جثت اسفل قدماها هاتفة بتوسل ونظرات منكسرة وباكية :
_ لا إنتوا فاهمين غلط أنا مظلومة .. أنا معملتش حاجة غلط صدقيني يانينا
احست بأنها ستلين أمام نظراتها وتوسلاتها فاشاحت بنظرها عنها وصاحت بأعلى صوت لديها :
_ هـــــــــدي .. هــــــــــــدي !!
وثبت هدى واقفة على أثر صياحها وكذلك علاء بعدما ظنوا بأن مكروه قد اصاب ميار وبالأخص بعدما روى لها عن محاولة انتحارها بالأمس ، اندفعوا إلى الطابق الاعلى حيث غرفة الجدة ، اقترب علاء منها ومسك ذراعها يساعدها على الوقوف بينما هدى فاقتربت من الجدة التي نظرت لعلاء وقالت بقسوة :
_ خدها ياعلاء ومتجبهاش تاني هنا
رمقتها ميار بدهشة وأعين عاجزة ولم تعارض علاء مطلقًا ، حيث وقفت وسارت معه بالخارج وهي في حالة من الصدمة كان يمسك بذراعها ويسير معها بهدوء للخارج لتنظر له بمجرد ما أن غادروا غرفتها وتقول بيأس ونظرات مهمومة تعبر عن صدق كلماتها :
_ قولها إني معملتش حاجة
ثم نظرت أمامها وقالت بفراغ كشخص ليس بعالمنا الواقعي :
_ محدش عايز يصدقني ولا يسمع مني حتى ، كلكم شايفيني مذنبة من غير ماتسمحولي اتكلم ولا اقول الحقيقة
اشفق عليها بشدة واحس بأنها صادقة وقد تكون الحكاية ناقصة للجميع وهم لا يعرفون سوى نصفها أو جزء منها .
وصلوا للسيارة وفتح لها الباب لتدخل ويغلقه ثم التف واستقل بمقعده المخصص للقيادة ليسمعها تهمس بألم وعدم وعي وعينان معلقان على الخارج من زجاج السيارة دون أن تنظر له :
_ أنا كنت عايزة أموت ، ليه نقذتني امبارح وودتني المستشفى .. فكرك إني كدا خلاص يعني ! ، لا ده أنا هفضل احاول انتحر لغاية ما هتلاقوني في مرة ميتة فعلًا ومش هتقدروا تلحقوني زي إمبارح
أصدر زفيرًا عاليًا مغلوبًا على أمره ثم حرك محرك السيارة وانطلق بها وهو يلقي نظرة عليها من آن لآن ، لا يدري أيسمع لقلبه الذي يخبره بأنها تقول الحقيقة وقد يكون ظالمها كالجميع ، أم يسمع لعلقه الذي رأى الصور وهي بين احضان رجل وبملابس اشبه بالداخليه !! …….
***
في مساء ذلك اليوم ……
لملمت شفق صحون العشاء بعد أن انهو وجبة عشائهم هم الأثنين وذهبت للحمام لتغسل يداها ووجهها وفمها جيدًا بفرشاة الاسنان ، ثم خرجت وظنت بأنها ستجده أمام التلفاز ولكنه ذهب للغرفة واغلق الستائر والمصباح ، رأته متسطح على الفراش فقالت باستغراب :
_ إنت هتنام ؟!
أجابها بصوت مرهق وناعس :
_ أها تعبان جدًا من الشغل وعليا النوم جدًا
ثم اغمض عيناه واستعد النوم فهرولت وجلست بجواره تهزه في كتفه برفق وتهتف بعبث :
_ لا قوم اقعد معايا همل وحدي
_ نامي جمبي ياشفق وبكرا هنقعد مع بعض كتير لإني مش رايح الشركة
قالت وهي تزم شفتيها بحزن طفولي واحتجاج :
_ كرم قوم بقى بلاش بياخة أنا مش عليا النوم دلوقتي
مسك بذراعها يميلها للخلف لكي تتمد بجواره متمتمًا بصوت يغلبه الخمول :
_ نامي وسبيني انام ياشفق والله ما قادر افتح عيني من التعب
لوت فمها بضيق وطالعته بزعل ، فكادت أن تنهض وتتركه لولا أنه جذبها لترتد على الفراش وتتمدد بجانبه ولكن المشكلة لا تكمن هنا بل حين وجدته يلف ذراعه حول خصرها ويحتضنها من الخلف دافنًا وجهه بين ثنايا رقبتها ويقول بنبرة خافتة وناعسة :
_ نامي ومسمعش صوتك
دار بؤبؤ عيناها في كل ارجاء الغرفة واجتاحتها رعشة أشد من التي اصابتها حين قبَّلها في صباح اليوم ، فخرج صوتها متعلثمًا ومضطربًا :
_ كرم ااا…….
ابعد يده عن خصرها ورفعها لشفتيها يغلق عليهم هاتفًا بحزم مزيف :
_ شششش اقفلي ده ونامي بسكات
ثم ترك حرية فمها وسحب الغطاء عليهم ليستسلم لسلطان نومه ويغطس معه في ثبات عميق بظرف لحظات قليلة ، ظلت عيناه مفتوحة على أخرها لا تستطيع النوم من فرط توترها حتى عادت تهتف بخفوت من جديد بعد دقائق :
_ كرم !
لا يوجد أجابة .. عادت تهتف باسمه مجددًا ولكن الاجابة نفسها ، الصمت !! ، فالتفتت برأسها للخلف وكان قد نام بعمق فافترت عن ابتسامة عريضة ومغرمة لتلتفت بكامل جسدها ناحيته وتقترب منه أكثر لتدفن وجهها بأعلى صدره بالقرب من رقبته وتلف ذراعها حول خصره أيضًا مثله ، وبعد دقيقة بالضبط وجدته يدخل ذراعه اسفل رأسها والآخر بمكانه على خصرها يضمها به أكثر إليه وهو لا يزال تحت تأثير النوم ، لتصبح تمامًا بما تحمله الجملة من معنى بين احضانه وذراعيه وهو يضمها بذراعيه الأثنين محاصرًا إياها بهم ، أغمضت عيناها بعد دقائق طويل من الصمت وهي ساكنة داخل احضانه ومحتجزة بذراعيه حتى أنه لا يترك له مساحة لكي تتحرك أو تعتدل في نومتها ، فابتسمت وسمحت لنفسها السعيدة والمطمئنة بالنوم بين ثانيا الغرام !! …..
***
خرج علاء من الحمام بعد أن أخذ حمام دافيء وسريع ، ونظر لها فوجدها على حالها منذ أن رجعوا للمنزل في الصباح بعد زيارتها للجدة ، تجلس على الفراش وتضم ساقيها لصدرها وعيناها تذرف الدموع في صمت ، فتنهد بخنق وقال بجدية :
_ كفاية ياميار .. تيتا رد فعلها طبيعي لإنها لسا مش قادرة تنسي اللي عملتيه زينا كلنا ، ومع الوقت هتسامحك
حدجته بوهن وتمتمت في ضعف وأعين منطفئة :
_ أنا معملتش حاجة ياعلاء تعاقبوني عليها بالكره والنفور ده .. على الأقل إنت صدقني واسمع مني بعدين احكم !
تنهد بحرارة ثم اقترب وجلس على آخر الفراش هاتفًا باستسلام :
_ قولي ياميار .. أنا سامعك أهو
بدأت تسرد له بأدق التفاصيل بضبط كما حدثت كالآتي :
_ أنا فعلًا غلطانة في حجات كتير وكنت متحررة في تعاملي مع أي راجل بس موصلش بيا التحرر للدرجة دي أكيد ..اليوم اللي حصل فيه الكلام ده كان قبل ما ننزل مصر بفترة قريبة جدًا ، وكان في حفلة عيد ميلاد وحدة صحبتنا وعازمة الكل فأنا روحت وهناك طبعًا كان في اللي بيشرب بس أنا كنت رافضة وبعد الحاح منهم شربت للأسف واللي كان في الصور معايا .. كان بيحاول يتقرب مني من فترة وأنا كنت بصده فلقيها فرصة وأنا اكمني مكنتش في وعي فضلت اتكلم واضحك معاه وفي وسط ما كنا بنتكلم لقيت نفسي مرة واحدة جوا اوضة معرفش إزاي ، في البداية أنا مكنتش حاسة بنفسي بس لما لقيت الموضوع هيتطور فوقت مرة واحدة معرفش ازاي وزقيته وحاولت اهرب فمسكني ومكنش عايز يخليني امشي وبما إن كان في حفلة برا فمحدش كان هيسمعني لو صرخت ، حاولت افلت منه بصعوبة لغاية ما سحبت هدومي ولبستهم بسرعة وبعدين طلعت جري على برا وركبت تاكسي ومشيت واللي اتضح طبعًا بعد الصور اللي اتبعتلكم إنت وعمو إن الحيوان كان ناوي يصورني فديو بس بعد ما هربت معرفش ياخد غير كام صورة من اللي حصل
اطال النظر فيها بشك ، فجانب منه يصدقها والآخر لا يصدق كلمة واحدة من الذي قالته ، وكأنها قرأت مايدور في عقله فقالت بنظرات متوسلة ويأس :
_ صدقني أنا مش بكدب عليك ياعلاء والله العظيم هو ده اللي حصل بظبط لا أقل ولا زيادة
تشدق بحدة ونظرات مستاءة :
_ حتى لو كان ده فعلًا اللي حصل فهو ميمنعش إنك غلطانة والغلط الأكبر على تيتا اللي سابتلك السايب في السايب لغاية ما وصلت بيكي إنك تحضري حفلات بالمنظر ده وتسكري كمان ومتحسيش بنفسك ، ده غير لبسك اللي كلنا كنا غلطانين لاننا سكتنا عليه وسبنا تيتا تفسدك بالشكل ده .. والله اعلم حصل إيه غير ده بما إنك طبعًا كان عندك اصدقاء ودول ميعرفوش العيب والغلط وإنتي كنتي سايبة نفسك لأي كلب عشان يقرب منك ويحضنك أو حتى يبوسك
اجفلت نظرها وقالت بصوت مبحوح :
_ في حجات مليش ذنب فيها أنا طلعت على الدنيا من غير أم وبابي مات وأنا عندي خمس سنين ونينا هي اللي ربتني كانت بتعاملني بكل حنية ومكنتش بترفض ليا طلب ، اقولها عايزة البس ده يانينا .. البسي ياحبيبتي ، عايزة اخرج في المكان ده .. روحي ياحبيبتي ، مكنتش بتقولي على الغلط والعيب ومفتكرش إنها اتكلمت معايا في الكلام ده إلا مرات معدودة وقليلة جدًا ، وأنا لسا صغيرة وعندي 18 وللأسف ادركت دلوقتي إني لسا صغيرة وطفلة متعرفش الغلط من العيب وكنت فاكرة نفسي كبيرة وناضجة بس طلعت العكس .. نينا كل اللي كان عليها إنها هتجوزني من زين وزرعت في دماغي إن زين هو الراجل الوحيد اللي يناسبني مع إني مكنتش بحبه ومن كتر الحاحها فوق راسي اقتنعت برأيها وبقيت اقنع نفسي إني معجبة بيه وعايزاه وهي كانت بتعمل المستحيل عشان الجواز ده يتم .. أما من ناحية الاصدقاء فاطمن أنا كنت دايمًا وحيدة ومنطوية ومليش غير عدد اصدقاء قليلين جدًا وكلهم بنات بس
امعن النظر فيها للحظات من الصمت القاتل حتى قال بخزي وعدم ثقة :
_ عايز اصدقك بس مش عارف
زمت شفتيها ورسمت ابتسامة بائسة وحزينة وهي تجيبه بيأس :
_ كنت متوقعة ده ! .. المهم إني قولتلك وإنت احكم براحتك عليا بعد كدا
تمددت على الفراش وولته ظهرها بعد أن رفعت الغطاء لأعلى صدرها تحاول النوم للهروب من واقعها الأليم ، أما هو فخرج للشرفة ووقف يفكر في كلامها بشرود ! ……
***
الساعة تجاوزت العاشرة مساءًا بتوقيت السعودية ! .
اخبرها بأنه سيعود على أذان المغرب أو بعده مباشرة ، وهو لم يعد حتى الآن ولا يجيب حتى على اتصالاتها ، وبعد أن جهزت الطعام واعدت الجو الرومانسي وجهزته لملمت كل شيء من جديد ، وأيضًا تجهزت ولبست قميص النوم النسائي ووتركت العنان لشعرها ووضعت القليل من مساحيق الجمال ، وكل هذا فقط من أجله وهو لم يأتي ولم يكلف نفسه ليتصل ويخبرها بأنه سيتأخر ولا يجيب على مكالمتها !! .
كانت تقف أمام النافذة من غرفتهم تنتظره إلى أن رأت سيارته تدخل حديقة المنزل الصغيرة وتقف في مكانها ويترجل هو منها ثم يقود خطواته نحو الداخل مسرعًا بعد أن بدأت السماء بهطول الأمطار ، لحظات قليلة ورأته يفتح الباب ويدخل ثم ينزع سترته عنه ويقول معتذرًا :
_ آسف ياملاذ اتأخرت عليكي عارف والله ، بس الشغل طول وحبيت اخلصه كله ومخليش حاجة عشان مطلعش تاني واسيبك وحدك
استدارت بجسدها كاملًا ناحيته وهتفت بعصبية :
_ إنت عارف أنا برن عليك من إمتى !! ، وكنت مجهزة عشا لينا وحضرتك سايبني للساعة عشرة وحدي لغاية ما الأكل برد وشلته تاني في التلاجة ، لا ومجهزالك نفسي ولابسة وحاطة مكياج وإنت سيادتك مش فارقة معاك حاجة ومهنش عليك حتى تطمني وترد عليا تقولي أنا هتأخر شوية
لم يصدمه كلامها حول أنها كانت تجهز لهم عشاء خاص وارتدائها لملابس تناسب ليلتهم وتزينها من أجله ، بقدر ما صدمه انفعالها وعصبيتها وهي ترفع صوتها عليه لأول مرة ، فادرك مدى أهمية الأمر بالنسبة لها وأنها كانت متحمسة جدًا وعدم مجيئه فجر البركان الخامد في أعماقها ، ليزفر بعمق ويقترب منها ممسكًا بكفيها ويهمس في أسف حقيقي :
_ أنا آسف ياحبيبتي .. متوقعتش إنك هتضايقي كدا والله ، ولو كنت اعرف إنك مجهزة كل ده عشاني كنت جيت فورًا وسبت الشغل في ستين داهية يتحرق بجاز
سحبت يدها بنفور وولته ظهرها هاتفة في احتجاج :
_ بعد إيه أسفك يا زين خلاص عكرتلي مزاجي وأنا كنت مبسوطة ومستنياك
احتضنها من الخلف وهمس في مكر رجولي :
_ وأنا هعرف ابسطك تاني ياحلو إنت .. يلا بس تعالي هنحط الأكل تاني مع بعض وناكل وبعدين نبقى نشوف موضوع مزاجك المعكر ده
ارتبكت قليلًا ومحا غضبها بالكامل من مجرد كلام بسيط ولكنها ابعدته عنها وقالت بتصنع الحزم والشدة :
_ طيب ابعد عني وغير هدومك وتعالى ورايا يلا
واندفعت لخارج الغرفة فورًا وهي تبتسم بحياء أما هو فضحك بخفة وبدأ في تبديل ملابسه وأخذ حمامًا سريعًا جدًا لم يتعدي الخمس دقائق ثم خرج وارتدي بيجامة منزلية ونثر عطره الرجولي على ملابسه ، ثم خرج واتجه لها في المطبخ ليقف معها ويساعدها في تسخين الطعام من جديد واعداده وهو يحاول ملاطفتها بالكلام المعسول حتى تبتسم له وتذيب تمامًا متخلية عن غضبها منه ولكن لم ينجح كثيرًا وفقط استطاع خطف ابتسامات بسيطة منها مغلوبة على أمرها من مشاكسته لها التي تجبرها على الضحك .
جلسوا على طاولة الطعام الصغيرة وبدأوا في الأكل ليقول هو باسمًا بنظرات لئيمة :
_ امال فين جو العشا الرومانسي والحجات دي
نظرت له مغتاظة وقالت دون ملاطفة أبدًا في الكلام :
_ ماهو لو حضرتك كنت جيت في معادك زي ما قولتلي ورديت عليا كنت هتلاقي الجو ده
قال بحنو وابتسامة واسعة :
_ مش مهم .. يكفي إننا مع بعض وتسلم إيدك على الأكل الجميل ده
زمت شفتيها وقالت محاولة إخفاء ثأترها بكلامه :
_ بالهنا والشفا
دقائق قليلة وانتهوا كلاهما من الطعام فنهض وساعدها في نقل الصحون للمطبخ ثم اتجه ليغسل يديه ووجهه ، وقف أمام المرآة يهندم ملابسه ويسرح شعره بانتظام ، وعلى الجانب الآخر كانت هي بالغرفة وضعها لا يختلف عنه كثيرًا سوى في توترها وخجلها ، تنهدم من مظهرها وتعيد رسم أحمر الشفاه على شفتيها من جديد ، وإذا بها تجده يدخل بعد أن طرق طرقة خفيفة واقترب منها يتفحص مظهرها وهي تخفي منامة النوم اسفل ذلك الروب السخيف فانحنى نحوها وطبع قبلة على جبهتها هامسًا بعشق :
_ انا اتوضيت وروحي انتي كان اتوضي خلينا نصلي ركعتين الأول عشان ربنا يباركلنا في ليلتنا وحياتنا الجاية إن شاء الله ونبدأها بصفحة جديدة تمامًا
اماءت له بالموافقة في ابتسامة خجلة وغادرت الغرفة لتتوضأ وتعود له لترتدي اسدال الصلاة ويبدأو في الصلاة ، وماهي إلا دقائق قليلة وانتهوا فسمعته يهمهم بكلمات لا تسمع ومنخفضة وكأنه يدعو بشيء ، وكان هو يهمهم بدعاء ليلة الزفاف ” اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه ” ثم التفت لها وابتسم بحب ليقف ويجذب المصلاة من اسفله ليطويها ويضعها على الأريكة الصغيرة فتنزع هي عنها الاسدال وتهم بالخروج ولكنه جذبها هاتفًا بضحك :
_ خدي هنا رايحة فين ؟
قالت بتلعثم :
_ رايحة اشرب
نظر بعيناه على زجاجة الماء الموضوعة فوق المنضدة وهتف باسمًا :
_ اهي الميا هنا اشربي !
ازدردت ريقها بتوتر حين لم تجد مفر من الهرب واقتربت تجذب زجاجة الماء وتسكب في الكوب لتشربه كله دفعة واحدة ، فتشعر به من خلفها بمد ذراعيه ويفك الروب هامسًا بجانب أذنها :
_ وده إيه لزمته في الموضوع بقى !
انكشفت أمامه بذلك القميص المنحرف فحدجها هو بإمعان شديد حتى اقترب وطبع قبلة طويلة على كتفها متمتمًا :
_ ربنا يخليكي ليا ياملاذي
اصدرت شهقة بسيطة حين وجدته يحملها ويتجه بها ناحية الفراش ، ليضعها عليه برفق وحنو ويمد يده يطفأ الضوء لتبدأ ليلتهم الرومانسية وتبدأ معها الحكاية !! ……
ومع صباح اليوم التالي فتحت عيناها على صوت رنة الهاتف فالتقطته ونظرت في الشاشة بنصف عين لتجد المتصل أمها فتصدر تثاوبًا وهمت بأن تجيب عليها ولكن شعرت به يحتضنها ويجذب الهاتف من يدها هامسًا بخمول بسيط :
_ مترديش علي حد !
حاولت جذب الهاتف من يده وهي تقول ضاحكة :
_ هات التلفون يازين ماما هتقلق عليا لو مرديتش
_ بكرا كلميها ، احنا مش فاضين النهردا
دغدغها بلحيته في كتفها فهتفت بدلال غير مقصود وضحكة انوثية تلقائية :
_ مينفعش دي من إمبارح بليل بترن عليا ، هات بقى مش هطول معاها
فتح عيناه جيدًا وقال بلؤم وهو يعتدل في نومته وبعينان تلمع بوميض جريء بعد ان سمع ضحكتها :
_ مش بقولك مش فاضيين !
جذبت الهاتف خلسة منه ووثبت واقفة قبل أن ينل منها ، تجيب على أمها وهي تحدجه باسمة بعد أن رأت نظرات الاغتياظ في عيناه .
_ أيوة ياماما عاملة إيه ؟
اجابتها الأم بحنو :
_ الحمدلله بخير ياحبيبتي .. مكنتيش بتردي ليه من إمبارح بليل قلقتيني عليكي
نظرت له وقالت مخترعة كذبة صغيرة عليها :
_ التلفون كان صامت ودلوقتي اخدت بالي منه .. إنتو عاملين إيه وبابا وإسلام كويسين ؟
_ كويسين ياحبيبتي بيسلموا عليكي .. زين عامل إيه وأخبار الرياض إيه ؟
رأته ينهض من الفراش ويقترب منها ليخطف قبلة سريعة من أعلى كتفها هامسًا بجانب أذنها بلين امتزج ببعض الحزم :
_ متكذبيش تاني
ودت لو ردت عليه ولكن لا تستطيع بسبب تحدثها مع أمها وانتظرت حتى غادر الغرفة واتجه للحمام فأجابت على أمها بسعادة :
_ جميلة جدًا ياماما أنا لسا مطلعتش فيها بس وقاعدين في بيت جميل خالص هبقى اصوره ولما ارجع مصر هورهولك
تمتمت الأم بحب ودفء امومي :
_ ربنا يسعدكم ياحبيبتي .. ابقى سلميلي علي زين
_ حاضر يوصل إن شاء الله
استمر حديثها مع أمها لدقائق طويلة قليلًا حتى انتهت ورأته يدخل مجددًا فتقول برقة :
_ ماما بتسلم عليك
_ الله يسلمها
قالها بابتسامة عذبة لتهب واقفة وتهم بالمغادرة فيعترض طريقها ويغمز لها بنظرة ماكرة لتصدر تأفف مغلوبًا وهي تضحك ثم تطبع قبلة سريعة على وجنته وتبتعد عن أمامه ليجذبها من ذراعها هاتفًا بمكر ضاحكًا :
_ خدي هنا هو سلق بيض !! ، متنفعش معايا البوسة البريئة دي
تودرت وجنتها وحاولت الفرار من بين قبضته هاتفة بخجل ممزوج بشيء من المداعبة :
_ ابعد كدا عشان إنت طلعت قليل الأدب أوي
انحنى لمستواها وهمس أمام وجهها مباشرة بخبث رجولي :
_ ده معاك بس ياجميل إنت
ارتبكت اكثر ولحسن حظها أنها تمكنت من حل يدها عن قبضته فابعدته عنها بسرعة وهرولت باتجاه الخارج إلى الحمام ……..
***
بمنزل كرم العمايري ……
تسللت آشعة الشمس من النافذة إلى عيناه ليفتح عيناه ببطء وانزعاج ويرفع يده لعيناه يفركهم بخنق ليمحو عنه خمول النوم ، فانتبه لتلك الكامنة في احضانه على نفس الوضيعة منذ الأمس وذراعها ملتف حول خصره وانفاسها الدافئة والمنتظمة تلفح رقبته ، فلاحت ابتسامة رائعة على شفتيه ثم مد يده وملس على شعرها بلطف هامسًا في نبرة اشبه بسيمفونية غرام جميلة :
_ شفق .. شفق
حركت رأسها وجسدها حركة بسيطة وتشبثت به أكثر مهمهمة بنعاس وعدم رغبة في الابتعاد عنه :
_ امممممم
أكمل بنبرة أشد دفئًا وحنو بعد أن نظر على ساعة الحائط :
_ قومي كفاية الساعة 11 .. احنا نمنا كتير أوي
أصدرت تأففًا باختناق ثم ابعدت وجهها قليلًا عن صدره ورقبته وتطلعت إليه بابتسامة بريئة وساحرة ، صوبت الهدف تمامًا في قلبه بنظرتها وهذه الابتسامة الرقيقة ، فطبع قبلة على جبهتها متمتمًا بهمس لطيف :
_ صباح الخير
تمطعت بذراعها وقالت بابتسامة زادت اتساعها :
_ صباح النور
ادركت جيدًا ما يحدث حولها وحين وجدت نفسها مازالت بين ذراعيه وثبت جالسة باضطراب ونظرات مستحية لتقول هي بتوتر ملحوظ :
_ إنت اتأخرت على الشركة كدا
_ هو أنا مش قولتلك إمبارح بليل إني مش رايح النهردا
فركت جبهتها وهي تقول بتذكر وإيجاب :
_آه فعلًا .. نسيت ، طيب أنا هقوم اغسل وشي واخد دش سريع وبعدين احضر الفطار
استقامت واتجهت للحمام لينهض هو الآخر ويذهب للحمام الخارجي فيغسل وجهه واسنانه بالفرشاة ومن ثم يعود للغرفة من جديد ويفتح الخزانة ليخرج منها علبة حمراء طويلة ويفتحها فيمسك بالعقد المرصع بفصوص الماس عسلية ويخرجه ثم يغلق العلبة ويضعها مجددًا في الخزانة .. اخفي يده خلف ظهره حين وجدها خرجت من الحمام وهي تجفف شعرها ، فسمعته يقول باسمًا :
_ تعالي
رمقته بريبة حقيقية ثم اقتربت منه كما طلب ليجذبها من يدها ويجعلها تقف أمام المرآة ويقف هو خلفها هامسًا برقة :
_ غمضي عينك
اطالت النظر باستغراب للحظات قصيرة ولكن بالأخير فعلت لتشعر به يمد يده ويبعد شعرها عن ظهرها ويلف حول رقبتها عقد ، كأنه قرأ أفكارها وفهم حركتها القادمة فقال بنهي وخفوت :
_ متفتحيش
ظلت مغمضة عيناها وبيدها تتلمس العقد وهي مبتسمة بحب لتجده ينزل يدها لأسفل ويقف يتأمل بجمالها الذي أضاف للعقد جمالًا فوق جماله وكأنه سينطق على جسدها ، حين رآه واعجبه لم يكن يتوقع أنه سيكون بكل هذه الروعة عليها ، سمع همسها المترقب وهي تسأله :
_ كرم افتح عيني ؟!
حاوط كتفيها بيديه وهمهم بخفوت ساحر يخطف القلوب :
_ فتحي
فتحت عيناها ببطء حتى نظرت لرقبتها في المرآة ففغرت فمها بانبهار قائلة :
_ wow
رأت ابتسامته في المرآة وهو يتمتم :
_ شوفته بالصدفة إمبارح فعجبني واشتريته ليكي ، بس الصراحة مكنتش متخيل إنه هيكون بالجمال ده عليكي ، أو بالأحرى هو مكنش بالروعة دي لما شفته في العرض إمبارح يعني جمالك هو اللي زاده جمال
مالت برأسها للجانب في ابتسامة خجلة وتجيبه برقة غير مقصودة :
_ ميرسي
ضحك بخفة وأثاره جمالها كفطرة أي رجل طبيعي فانحنى ناحية رقبتها وطبع قبلة عميقة دامت للحظات .. سحب معها انفاسها وجمد جسدها كالصنم ، فلم تتمكن من استعادة انفاسها إلا عندما رفع شفتيه عن رقبتها وهمس بنظرات ذات معنى :
_ تعيشي واجبلك يا أميرتي
كانت متسمرة تحدق بانعكاس صورته في المرآة وعيناها وفمها تفغرهم بذهول .. ولا تصدق أن هذا ” كرم ” زوجها الذي تعرفه فلقد اعتادت عليه بتوتره وحيائه ، وتغيره المفاجيء هذا يصيبها بالجنون .. أما هو فاستدار وانصرف بعد أن القى عليها ابتسامة أخيرة مع غمزة عين بها غزل صريح بها ، فرمشت بعيناها عدة مرات وهزت رأسها بالنفي قائلة بدهشة :
_ لا لا ده مش كرم أنا أكيد بحلم
أغمضت عيناها بقوة ورفعت كفها لأعلى تعد على أصابعها متأملة أن تستيقظ من حلمها :
_ 1..2..3
فتحت عيناها دفعة واحدة فوجدت نفسها كما هي بمكانها لتشهق بصدمة وتضع يدها على فمها هاتفة بعدم استيعاب :
_ إيه ده أنا مش بحلم !! .. يالهوي ده طلع بجد !
***
توقفت السيارة أمام المطعم ونزل هو منها ليقود خطواته نحو الداخل فيقع نظره أول شيء على رفيف المنشغلة بالعمل ، تحرك نحوها ووقف خلفها هاتفًا بمزاح :
_ محتاجة مساعدة ياكوتش
التفتت بجسدها فورًا في فزع وبمجرد ما رأته ابتسمت بإشراقة وقالت بعذوبة :
_ علاء ! ، عامل إيه
_ الحمدلله .. المفروض إن حد من اخواتك ياجي مكاني بس واحد مسافر والتاني مأجز في البيت ومفضلش غيري أنا وحسن
اجابته باسمة بمداعبة بسيطة :
_ وطبعًا حسن مينفعش يسيب الشركة فوقعت فوق راسك إنت
أصدر ضحكة بسيطة يجيبها بجدية بسيطة :
_ لا متقلقيش متعود .. بس يلا خلينا نخلص كل حاجة بسرعة عشان منتأخرش
_ طيب استناني برا وأنا هجيب الحاجة واجي وراك
أماء لها واتجه للخارج ينتظرها على أحدي الطاولات الكبيرة كما طلبت ، وبعد ثلاث دقائق عادت وهي تحمل بيدها أوراق كبيرة وأشياء كثيرة فوقف وحملهم عنها ثم بدأو في العمل وهي تملي عليه التصمايم التي رأتها مناسبة لكي تفعلها في المطعم وهو يعطيها المناسب ويختار من كل شيء الملائم .. فدامت جلستهم لساعة تقريبًا ، وكان إسلام منشغل بشيء آخر ولكن نظره معلق عليهم بالأخص بعدما عرف منذ أيام قليلة بالصدفة أن علاء كان لديه مشاعر تجاهها وينوي الزواج منها في وقت من الأوقات ، ولكن الأمر بالنسبة لعلاء الآن لم يعد كالسابق بتاتًا وعقله مشوش ومشغول بأشياء كثيرة أولهم زوجته .. وتلك المشاعر قد لا يكون لها وجود أساسًا الآن ! ، وبالرغم من ذلك فتفكير إسلام في ذلك الموضوع يخنقه ويجعله يفكر كثيرًا في كلام صديقه بأن يتخذ خطوة واضحة وصريحة دون خوف ويجرب حظه ! …….
***
بمنزل طاهر العمايري ، تحديدًا بغرفة يسر ……
كانت تستعد للذهاب للعمل وتقف أمام المرآة تهندم ملابسها وتضع اللمسات الأخيرة في مظهرها ، فنزلت بكفها ووضعته على احشائها وهي تبتسم بمرارة وتذكرت حديثها مع صديقتها في اليوم الذي اخبرت به الجميع واخبرته بأنها اجهضت الطفل بعد أن حاول الوصول لها عبر الهاتف وارسل لها الرسائل بأنه تراجع ويريده وينهاها عن إجهاضه …….
” التفت برأسها لها عندما احست بيدها على كتفها وأبتسمت لها بعيناها الدامعة لتقول الأخرى في حنو :
_ مش قولتلك هيتراجع ومش هيقدر يخليكي تعمليها
دفنت يسر وجهها بين كفيها وانفجرت باكية بعنف وهي تهتف من بين بكائها بصوت متقطع :
_ أنا .. مش عا..رفة عملت ليه إيه عشان يكر..هني كل الكره ده ياريم ، إمبارح لو شفتيه وشوفتي كلامه حاجة منتهى القسوة وكأني اجرمت ، أنا بحبه أوي والله وهو مش عايز يفهم حبي ليه
جلست امامها على المقعد وقالت في حزم وجدية :
_ وعشان اللي عمله إمبارح ده لازم تنهي المهزلة دي .. وهتعملي زي ما اتفقنا
تطلعت يسر إليها بابتسامة امتنان .. فهي صديقة قديمة لها وقد أتت لها في صباح اليوم لعلمها بأنها طبيبة وطلبت منها بأن تساعدها في إيجاد أحد لتجهض طفلها ، ولكنها عارضتها وطلبت منها أن تقص عليها السبب الذي جعلها تصل لهذا القرار الخطير ، ولم تجد يسر حلًا سوى إخبارها بكل شيء وحتى بعد أن اخبرتها رفضت أن تساعدها وحاولت تهدئتها حتى ترجعها لصوابها قبل أن ترتكب ذلك الذنب الكبير .
عانقتها يسر بحب ومشاعر نقية هاتفة :
_ شكرًا ياريم بجد ، مش عارفة اشكرك إزاي
_ ولا تشكريني ولا حاجة يابنتي إنتي هبلة .. ده إنتي أختي ، أنا بس عايزاكي تعقلي وكفاية أوي البهدلة اللي بهدلها ليكي
أجابته بوجه منكسر وعاجز :
_ هو فعلًا كفاية ولازم انهي المهزلة دي ، لأن أنا تعبت بجد
رتبت ريم على كتفها بإشفاق ثم قالت بوجه بشوش :
_ طيب أنا هقوم أعمل لينا فطار إنتي أكيد مفطرتيش ، والبيت بيتك إنتي مش غريبة يعني
هزت رأسها بالإيجاب وهي تبادلها الابتسامة وبمجرد ما أن انصرفت عادت ملامحها تأخذ العبوس من جديد حين تذكرته ، وتذكرت كيف قضت ليلتها البارحة في غرفتها بعد ما حدث بينهم ولم تذق للنوم طعم فقط متكورة في فراشها كطفل حديث الولادة وتبكي بصمت !! ”
عادت لواقعها وابتسامتها لا تزال على شفتيها ولكنها اختفت تدريجيًا وهي تهتف محدثة طفلها بقوة :
_ هو ميستهلكش ياحبيبي وميستهلش يعرف إنك موجود أساسًا .. إنت ابني أنا بس ومش هسمحله حتى يقرب منك ولا يشم ريحتك لما تاجي على الدنيا ، هكون ليك الأب والأم ومش هخليك محتاج لوجوده في حياتنا نهائي .. ابوك ظلمك وظلمني كتير أوي وميستحقناش أااا ……
سمعت طرق الباب من أمها فسمحت لها بالدخول واعتدلت في وقفتها فورًا حتى لا تشعرها بأي شيء ، وحين دخلت قالت لها بدفء :
_ لو خلصتي ياحبيبتي تعالي يلا عشان تفطري
_ حاضر .. ماما تعالي عايزة اتكلم معاكي في حاجة
عقدت الأم حاجبيها واقتربت منها بحيرة فأمسكت يسر بيدها واجلستها على الفراش هاتفة بصوت رخيم :
_ أنا عايزة اسافر أمريكا اقف بدل بابا في الشركة هناك
_ إيــــه !! ، امريكا واللي خلاها تطب في دماغك كدا مرة واحدة
قالت يسر بأسى وألم نفسي :
_ أنا تعبت ياماما ومش حابة اقعد هنا .. مش عايزة اشوفه كل يوم في وشي في الشركة ، عايزة امحيه تمامًا من حياتي وانساه .. محتاجة اريح نفسي شوية ارجوكي مترفضيش وحاولي معايا نقنع بابا لإني اتكلمت معاه إمبارح ورفض
طالعتها أمها بصمت وبدت لها وكأنها ستوافق ولكنها لم تجيب بشيء وفقط اصدرت تنهيدة حارة ثم استقامت ورحلت وتركتها تتأفف بيأس ……
***
وصلت للشركة بعد مايقارب ساعة كاملة وجلست بمكتبها تباشر أعمالها ، وبعد وقت قصير احست بحاجتها لكوب شاي لكي تتمكن من الاستمرار في العمل فغادرت مكتبها واتجهت ناحية المصعد الكهربائي وقبل أن يغلق الباب وينزل بها المصعد للدور الأرضي وجدته يدخل وينضم لها ، فرمقته بخنق واشاحت بوجهها تمامًا عنه لتسمعه يهمس بخفوت :
_ عاملة إيه ؟
نظرت له وقالت بحدة وغيظ :
_ كويسة طول ما أنت بعيد عني
طالعها بأعين مهمومة وحزينة وكأنه يستعطفها من خلالهم أن تغفر له ، وفجأة توقف المصعد فتلفتت هي حولها بذعر وهتفت :
_ حصل إيه .. الاسانسير عطل ولا إيه !!
أخذ يضغط على الازرار على أمل أن يتحرك ولكن بلا جدوي فأخرج هاتفه وأجرى اتصال بأحد الموظفين ليستدعي المصلح ، ثم نظر لها وقال بهدوء :
_ متخافيش هيصلحوا العطل دلوقتي ويشتغل
_ أنا مش خايفة .. أنا بس مش عايزة اقعد معاك في مكان واحد فخليهم يستعجلوا
مسح على وجهه متأففًا وقال بأسف حقيقي وهو يقترب منها وبنظرات راجية :
_ أنا آسف يا يسر سامحيني واديني فرصة اقرب منك تاني ومش هتندمي صدقيني وهكون شخص مختلف تمامًا
ضحكت ببساطة وهدرت باستهزاء صريح منه :
_ للأسف عرض الفرص خلص والله .. أنا كنت بديك فرص كتييير وإنت مفكرتش تستغل واحدة منهم
قال بثقة تامة ونظرات ثاقبة :
_ بس أنا متأكد إنك لسا بتحبيني
قالت ساخرة للمرة الثانية وهي تتصنع الأسف :
_ مع الأسف برضوا مبقيش ليك مكان في قلبي ، أصل أنا نضفته من فترة قريبة كدا من كل الناس الحقيرة اللي متستهلش تكون فيه ، فاكر لما قولتلك إنك مش هتلاقي حد يحبك قدي .. ياخسارة بس حتى أنا مبقتش احبك دلوقتي عشان إنت أساسًا متتحبش والأغبياء بس اللي يبصوا لواحد زيك وللأسف أنا اكتشفت ده متأخر
خنجر مسموم نغزته في يساره بكلامها ، ولا يصدق أنه اوصلها لهذه الدرجة من الكره والبغض بعد أن كانت على استعداد أن تفعل كل ما يطلب منها لأجله حتى لو على حساب حياتها ، الآن هو لا يرى ذلك العشق ويتذكر خاطرتها التي كتبتها في مدونتها ” ربما كنت مخطئة بشأن مفهوم العشق على أنه يقود للجنون ، والآن يجب على الاعتراف بأنه قادني لمستنقع مظلم حبس انفاسي وحجب رؤيتي فغرقت في ظلماتي وحيدة دون أن أحصل على أي شيء ، وفقط حصلت على الخذلان للمرة الألف وأنا أفشل في تحقيق ما اسعى إليه من العشق ، ربما كان يجب على أن أكون أكثر واقعية وأن لا اتعلق بأوهام تمكنت من أن تتطيح بي إلى اقصى البلاد ، ورغم كل هذا مازالت ابحث عن العشق في هذه القلوب الغريبة ولست متأكدة إلى متى سيتسمر بحثي ، ولكن حتمًا ستكون نهاية هذا البحث أما أن أجد ما أبحث عنه أو اتوقف أنا عن البحث ويدب اليأس في قلبي فأعلن عهد جديد لا يوجد به مكان للعشق في قلبي !! ” ، والآن هو يرى النهاية فقد دب اليأس في قلبها واعلنت عهدها الذي لا مكان للعشق فيه .. ولكنها لو اكملت بحثها للمرة الأخيرة ستجد ما كانت تبحث عنه في تلك القلوب الغريبة !! …
رفع نظره لها وقال بنظرة منطفئة وعابسة :
_ عندك حق أنا واحد حقير ومتحبش ، بس مش يمكن لو ادتيني فرصة تاني تغيري رأيك
سكتت للحظات تحدق به حتى قالت بثبات و بنبرة ذات معنى مع كلمات تعنيها جيدًا وهي تقولها :
_ احنا مننفعش لبعض ياحسن
نفس الجملة التي قالها لها ، وقالتها الآن لتذكره بكلامه وقسوته وجفائه معها ولتؤكد له أنها لم تنسي أي كلمة خرجت من فمه لها ، ابتعد عنها وهو يغمض عيناه بقوة حتى لا يجعلها ترى لمعة الدموع فيها ، فاستدارت هي الأخري واعطته نصف ظهرها حتى لا تراه .. ليظل واقفًا يحدق بها بسكون وشوق ، إلى أن تم إصلاح العطل في المصعد وعاد يعمل ففتح الباب أمام الدور الأرضي ، خرجت وتركته ليضغط على زر الطابق الأول حتى يذهب لقاعة الاجتماعات ، وبمجرد ما اغلق الباب عليه مجددًا مسح على وجهه وهو يزفر بعدم حيلة ويمسح عيناه الممتلئة بالدموع !! ……
***
بمساء ذلك اليوم ……
خرج كرم منذ المساء لحضور حفل زفاف أحد اصدقائه ورفضت هي الذهاب معه لشعورها ببعض التعب ، نهضت من على الفراش بصعوبة وهي تنتفض والدوار يداهمها ولا تتمكن من الوقوف على قدميها ، فسارت بخطوات متعثرة حتى جذبت هاتفها الموضوع على الأريكة وضغطت على رقمه تجري اتصال به حتى اتاها رده العادي ومن حوله ضجة الأصوات والموسيقى :
_ أيوة ياشفق ؟
سمع صوتها مشوشًا وغير واضح بسبب الضجة والأصوات الصاخبة التي حوله ولكن كان واضح عليها التعب الشديد وهي تهتف :
_ تعالى ياكرم أنا تعبانة أوي
كان سيجيب عليها ولكنه سمع صوت ارتطام الهاتف بالأرض فهب واقفٌا وقال بهلع :
_ شفق ، شـــفــــق !!
لم يجد الإجابه منه فاندفع للخارج شبه راكضًا واستقل بسيارته وانطلق بها ، ثم اجري اتصال بالطبيب ليلحقه على المنزل ……
رافق الطبيب حتى الباب وشكره بامتنان ، واستمع إلى نتبيهاته الصارمة تجاه بعض الأشياء حتى لا تتعب مجددًا ، كان يعطيه نصائح خاصة يتبعها أذا شعرت بإي تعب ، فأجابه كرم بالموافقة ، وبعد رحيلة وقف خلف الباب وهو يزفر القليل من الفزع الذي ترك في نفسه أثره حتى بعد أن طمأنه الطبيب عليها ، فلقد عاد للمنزل بعد أن اجرت اتصال به ووجدها فاقدة الوعي على الأرض وحرارتها مرتفعة لدرجة أنه لم يستطع لمسها فزعر وازداد خوفه وتوتره وحاول أن يوقظها ولكن دون فائدة فحملها ووضعها على الفراش والبسها شيئًا مناسبًا ووضع حجابها على شعرها قبل أن يأتي الطبيب ، فحصها واخبره بأنها تعرضت لحمى شديدة جدًا .. ووضع لها محلول طبي وطلب منه أن يجهز لها طعام حتى تأكل وتأخد الدواء عندما تستيقظ ، وهدأ من روعه بأنها ستكون بخير بعد أخذ جرعة المحلول والدواء .
عاد للغرفة واغلق الباب خلفه ، ليقترب ويجلس على الفراش بجوارها يتأمل ملامح وجهها المتعبة وشفتيها وخديها التي تركت الحرارة المرتفعة آثارها عليهم فأعطتهم لون أحمر فاتح ، مد يده يتحسس جبهتها ووجنتها فأصدر تنهيدة حارة بارتياح حين وجد حرارتها هدأت قليلًا ، نزع عنها الحجاب بحرص شديد وأخذ يملس على شعرها بحنو وهو يطالعها مبتسمًا ، ثم انحنى إليها وطبع قبلة حانية على جبهتها وهم بأن ينهض ليجهز لها طعامها حتى تأخذ دوائها ولكنه وجدها تنقلب على جنبها ناحيته وهي مازالت نائمة زتهلوس نتيجة لحرارتها المرتفعة فسمعها تهمهم بصوت يكاد لا يسمع :
_ ليه سبتوني وحدي ، حتى كرم مبيحبنيش
استمع لآخر كلماتها وعبست ملامح وجهه بالأخص بعدما سمعها تكمل :
_ بحبه أوي
تنهد الصعداء فهو يعرف جيدًا أنها تعشقه وكان يتصنع عدم الفهم ، ولكنه مسك بكفها يرفعه لشفتيه ويقبله هامسًا بنبرة منخفضة وهو يحتضنه بين كفيه :
_ صدقيني حتى أنا مبقتش عارف إنتي بتعملي فيا إيه .. ردي وقوليلي عملتي إيه فيا ياشفق ؟!! ، إزاي قدرتي تعلقيني بيكي بالشكل ده وفي الفترة القصيرة دي .. إزاي ؟!
نائمة لا تشعر به ولا تسمع كلامه فقط تنام وتهلوس بين الحين والآخر ، ليمسح على شعره نزولًا لوجهه وهو يصدر تأففًا محتارًا ثم ينهض من جانبها ويتجه للمطبخ ويبدأ في تحضير الطعام وبعد مرور نصف ساعة وأكثر يعود لها وهو يحمل بيده صينية فوقها طعام مناسب لشخص مريض ووضع الصينية على المنضدة بجوار الفراش وجلس بجانبها من جديد يهمس وهو يملس على ذراعها بلطف :
_ شفق .. قومي ياشفق يلا عشان تاكلي وتاخدي العلاج
لا تجيبه وفقط مغمضة عيناها بتعب فيعود ويرفع يده إلى وجنتها يمرر ابهامه عليه برقة ويهتف بصوت اوضح من السابق :
_ شـــفـق قومي !
فتحت عيناها أخيرًا ولكن بصعوبة وعدم قدرة على فتحها كاملة ، ليخرج همسها ضغيفًا وغير مسموع جيدًا :
_ مش قادرة افتح عيني ياكرم
تمتم بحنو ونبرة دافئة :
_ مينفعش لازم تاكلي الأول .. يلا قومي وأنا هساعدك
اعتدلت في نومتها بصعوبة فحاوطها هو بذراعيه وساعدها على الجلوس ووضع خلف ظهرها وسادة كبيرة حتى تستند عليها ثم جلب صينية الطعام أمامها على الفراش ، مدت يدها لتمسك بالمعلقة ولكن أعصابها مرتخية تمامًا ولا تتمكن حتى من مسكها جيدًا ، فسحبها من يدها وقال بابتسامة ساحرة :
_ أنا هأكلك هاتي
ملأ المعلقة من الصحن ثم مدها لفمها وبمجرد ما أن أكلت أول معلقة قالت برفض :
_ لا مش قادرة آكل بجد
عاد يملأ المعلقة من جديد ويمدها لفمها هاتفًا برفق :
_ معلش كلي حاجة بسيطة بس
ابدت عن نفورها واشاحت بوجهها بعيدًا هاتفة :
_ مليش نفس ياكرم والله
تحولت نبرته ونظرته إلى الحدة البسيطة وهو يقول :
_ وبعدين ياشفق ، متخلنيش اضايق منك كلي يلا .. تعالي على نفسك شوية
زفرت بعدم حيلة وعادت بوجهها ناحيته مجددًا وأكلت مجبرة وعلى وجهها معالم النفور ، ساد الصمت بينهم وهو يطعمها حتى انتهي وامسك بكوب الماء وأقراص الدواء واعطاهم لها لتضع القرص في فمها أولًا ومن ثم تشرب الماء فوقه وتعطيه الكوب من جديد ، فوقف وذهب بالطعام للمطبخ وغير ملابسه في الغرفة الأخرى ثم رجع لغرفتهم واقترب يتمدد بجوارها على الفراش ويمد انامله يبعد خصلات شعرها عن وجهها هامسًا بأعين تنضج بمشاعر مختلفة :
_ حضتيني عليكي .. أنا مكنتش هطلع من البيت لما لقيتك تعبانة وإنتي فضلتي تقوليلي أنا كويسة وروح متقلقش عليا ، بس العيب مش عليكي .. العيب عليا إني سمعت كلامك وسبتك
ابتسمت له بحب وهمست بنبرة رقيقة :
_ متوقعتش إني هتعب أوي كدا ، بس الحمدلله بقيت احسن شوية وكمان لما انام واصحى الصبح هبقى افضل بكتير
اطال النظر في ملامحها البريئة والجميلة فازدادت ابتسامته اتساعًا وفرد ذراعه له هامسًا بأعين تتحدث بالمشاعر ونبرة جذابة :
_ تعالي هنا
فهمت أنه يحسها على الانضمام لحضنه الدافيء فأخفت ابتسامة خجلة كانت على وشك أن تخرج لشفتيها ورأته يشير لها بعيناه بمعنى ” يلا ” فاقتربت باضطراب واستندت برأسها على صدره ليلف هو ذراعه حول خصرها ويقرب شفتيه مقبلًا شعرها هامسًا بنبرة جديدة تمامًا :
_ متقوليش إني مبحبكيش تاني هااا
رفعت عيناها إليه قائلًا بتعجب :
_ إمتى قولت كدا ؟!
_ كنتي بتهلوسي وإنتي نايمة
اعتدلت في نومتها ورفعت رأسها عن صدره فورًا لتقول بزعر وارتباك :
_ قولت إيه تاني غير ده ؟!
ابتسم بهدوء وهو يتذكر اعترافها له ثم نظر لها وغمغم بخفوت محاولًا الظهور بطبيعية :
_ مقولتيش حاجة
_ كرم قول بجد ، قولت إيه ؟
ضحك بقوة هذه المرة وقال بنبرة بدت لها صادقة :
_ هلوستي شوية بسيف ومامتك ، بس مش اكتر
تنهدت الصعداء بارتياح وعادت برأسها على صدره من جديد متمتمة بخفوت جميل :
_ الحمدلله
لم تستغرق دقائق طويلة حتى ذهبت في ثبات عميق وظل هو يحملق في السقف بشرود ويده تعبث في خصلات شعرها برقة ورفق شديد ثم غلبه النوم هو الآخر ! ……
***
تحركت ملاذ باتجاهه عندما رأته جالس في حديقة المنزل وعيناه معلقة على السماء وكأن عقله مشغول بشيء مهم للغاية ، فاقتربت منه حتى جلست بجواره وخطفت قبلة سريعة من وجنته هامسة بعبوس انوثي ومدلل :
_ سايبني وحدي ليه ، وقاعد بتفكر في إيه هنا ؟
لم ينزل نظره عن السماء وظل معلقها في الأعلى لتسمعه يسألها بنبرة مشتتة :
_ ملاذ هو إنتي ممكن تكرهيني وتسبيني لو سمعتي عني في يوم كلام أو حجات مكنتيش تتوقعيها
لم تفهم سبب هذا السؤال ، بل كان السؤال غامض بالنسبة لها ولا تفهم منه شيء .. ماذا يقصد بأشياء لم تتوقعها منه ؟!! ، وهل هو سؤال فارغ أم خلفه خفايا وأسرار لم يفصح لها عنها ؟ .
سألته بريبة حقيقية واستغراب :
_ حجات زي إيه يعني مثلًا ؟
مازال لا يملك الجرائة ليخبرها بماضيه الذي لا يتقبله هو حتى الآن ، يخشى أن تتغير نظرتها فيه أو تبغضه وتفقد ثقتها فيه ، يخشي من شيء لا يعرف تحديدًا ماهو ، ولكن هناك صوت بقلبه يلح عليه بأن الأفضل أن تظل الحقيقة غامضة لفترة أخرى .
هتف بنفي وابتسامة متصنعة :
_ لا خلاص متشغليش بالك ، سؤال ملوش لزمة
تنهدت بعمق ومسكت بكفه تضمه بين يديها الناعمة وتهمس برزانة ونظرات عاشقة :
_ زين أنا حاسة إنك مخبي عني حاجة من وقت ما روحنا بيت العيلة وقولتلي إن في حاجة حصلتلك وبعدين باباك اخدكم لبيت منفصل ، وزي ما حاسة بده حاسة كمان إنك خايف ماتقولي بس صدقني أي كان الشيء ده عمره ما هيقدر يقلل من حبي ليك .. إنت سندي وحبيبي وجوزي ومفيش حاجة هتقدر تفرقنا عن بعض وزي ما تخطينا صعاب كتير من بداية جوازنا وعلاقتنا هنتخطى كل حاجة جاية كمان ، ووقت ما تحس نفسك حابب تتكلم أنا موجودة .. متخفش أنا معاك ومش هسيبك
” لا يمكنها أن تكون بكل هذا التفهم والحكمة وهي تعرف أني اخفي شيء عنها ، كيف تفعلها ؟!! ” كان يسأل نفسه بذهول من ردها عليه ورزانتها وتلقائيًا وجد ابتسامته تخرج لشفتيه بدون أذن ، وتستقر في عيناه نظرة عاشقة ، فهي كالملاذ حقًا الذي ارسله الله له لكي يحتمي به ويجد فيه الراحة والسكينة والحب والتفاهم كما كان يبحث عنه .. اقترب منه وقبَّل جبهتها هامسًا بنبرة حانية :
_ بحبك ياملاذي
قررت أضفاء القليل من المرح على جلستهم فأجابته بمداعبة :
_ عارفة قولتلي كدا أول إمبارح
فهم مداعبتها فضحك بخفة وغمغم غامزًا بحب :
_ وفيها إيه ! ، نقول تاني وتالت ورابع وعاشر كمان .. ولا إنتي عندك اعتراض ؟!
هزت رأسها بالنفي والتصقت به تلف ذراعها حول رقبته وتقول بغنج ومياعة انوثية مغرية :
_ إنت تقول اللي عايزه ياقلب ملاذك
مالت شفتيه لليسار في لؤم واعجاب بتدللها عليه ، لتلمع عيناه بوميض فهمته جيدًا وهب واقفًا وحملها على ذراعيه متجهًا بها نحو الداخل وهو يقول بابتسامة عريضة :
_ طالما كدا يبقى هقولك حاجة سر جوا
تعلقت برقبته ضاحكة وقالت بتذمر وهي تزم شفتيها للأمام :
_ زينو إنت مش هتخرجني ولا إيه اتفسح ؟!
اجابها بتصنع الجدية كامتًا ابتسامته :
_ كل دي فسح ومش عجباكي
_ والله !! ، هي فين الفسح دي بقى ؟!
_ تصدقي إنك ناكرة للجميل وعقابًا ليكي هناخد يومين اعتكاف في الأوضة
اطلقت ضحكة انوثية متأججة فدخل الغرفة واغلق الباب بقدمه هاتفًا بضحكة بسيطة وخبيثة :
_ وبعد الضحكة دي هخليهم تلاتة !
***
كان طاهر بمكتبه في المنزل يباشر بعض أعماله على حاسوبه النقال الخاص به ، فدخلت عليه زوجته وهي تحمل بيدها كوب الشاي الذي طلبه منها وتضعه أمامه على سطح المكتب ، هامسة بتردد :
_ طاهر عايزة اتكلم معاك شوية
أجابها وهو مازال يعلق نظره على شاشة الحاسوب أمامه :
_ قولي خير ؟!
أخذت نفسًا طويلًا واخرجته زفيرًا متهملًا متمتمة بثبات بسيط :
_ يسر اتكلمت معايا في موضوع السفر و…..
قاطعها بحدة ونبرة حازمة لا تقبل النقاش :
_ وأنا رديت عليها ورفضت متحاوليش تقنعيني اوافق
قالت بهدوء وصوت رخيم به بحة حزينة :
_ ولا أنا موافقة والله ، بس لما بصيت من جهة تانية لقيت إن هي فعلًا محتاجة تبعد شوية .. البنت تفسيتها متدمرة ياطاهر من ساعة طلاقها ، أنا بقيت احس إنها مش بنتي .. لا بتضحك ولا بتهزر زي الأول وعلطول حابسة نفسها في اوضتها
صاح بانفعال وغضب :
_ آه ولما تسافر وتبقى بعيدة عن عنينا هنبقى مطمنين عليها كدا مثلًا ، قوليلي كدا هتقعد فين ولا هتتعامل إزاي هناك
_ لا ما أنا هشترط عليها لو هتسافر يبقى هتقعد مع خالتها هناك ، وراسل موجود هناك كمان وهيكون معاها علطول يعني متقلقش عليها .. خليها تروح تاخدلها شهر ولا حاجة وتاجي ياطاهر
سكت وهو يفكر بكلامها وبنقطة اقامتها عند خالتها وإنها ستكون مع ابن خالتها أيضًا في العمل وهو يثق براسل جيدًا ويعرف أنه سيكون معها دومًا ، ولكن مازال خائفًا من أن يتركها تذهب بمفردها وتكون بعيدة عن نظره ، رأى نظرات زوجته المترقبة لموافقته أو رفضه ليجيبها باستسلام :
_ طيب
أماءت له بالإيجاب واستدارت وبمجرد ما أن غادرت المكتب واغلقت الباب اغارت عليها يسر التي كانت تتصنت لحديثهم وعانقتها بقوة هامسة بصوت منخفض في امتنان :
_ حبيبة قلبي ياماما بحبك والله
اشارت الأم بسبابتها على فمها هاتفة بخفوت :
_هششش اكتمي ليسمعنا ، أنا خليته يوافق بس تعرفي يايسر لو عملتي حركة كدا ولا كدا هناك خالتك هتقولي وزي ما خليت ابوكي يوديكي هخليه يرجعك في لحظتها
تأففت وقالت بخنق :
_ ياماما أنا مش هرتاح عند خالتوا وراسل موجود
أجابتها أمها بغضب :
_ خلاص يبقى مفيش سفر
قالت مسرعة بتراجع وهي تزفر مغلوبة على أمرها :
_ خلاص خلاص ماشي ، أنا هبقى اتصرف واخلي خالتوا تقعدني في الدور اللي فوق وحدي
رمقتها أمها بطرف عينها في استنكار ثم تركتها ورحلت ، لتنطلق من يسر ابتسامة منطفئة وهي تأمل في قرارة نفسها أن تكون هذه الرحلة ذات آثار إيجابية عليها وتتمكن من نسيان الألم الذي تركه في قلبها ولا تستطيع التخلص منه مهما فعلت !! …..
***
دخل ثم أغلق الباب خلفه ووقف يحدق بالمنزل ، بات لا يطيق البقاء فيه بدونها و لا يستطيع مفارقته أيضًا ويحس بها في كل جزء منه !! …..
اتجه نحو غرفتها ونزع عنه سترته ثم القاها على الفراش واقترب منه ليرمي بجسده على فراشها يحاول اشتمام رائحتها فيه وهو يهمس بمرارة وسخرية من ذاته الغبية :
_ يارتني صدقتهم لما قالولي هتندم لو خسرتها ، واديني خسرتك وندمان ندم عمري ماندمته في حياتي ومش عارف إزاي ارجعك ليا ، وإذا كنت أنا مش قادر اسامح نفسي هخليكي تسامحيني إزاي وضميري بيموتني وبيفكرني في كل لحظة إني السبب في موت ابني وإني لو مكنتش عملت معاكي كدا مكنتيش هتنزليه ومكنش ده كله هيحصل بينا وكمان مكنش ده هيبقى حالي في بعدك عني
كان باب الخزانة مواربًا وانتبه هو لقطعة من ملابسها الموجودة بداخله ، يبدو أنها نسيت أن تأخذها معها يوم ذهابها ، فهب واقفًا والتقطه يحدق به جيدًا فتذكر أنه نفس الرداء الذي كانت ترتديه عندما جاء للمنزل ثملًا وقضى معها أول ليلة بينهم .. فضحك بأسى وقد فهم الآن لما هذا الرداء لم تأخذه معها ، فقد أبت أخذ أي شيء يذكرها بما حدث بينهم ، تريد أن تنسى كل شيء وكأنه لم يكن ، وهو أول هذه الأشياء !! .
عاد وجلس على الفراش ثم قرب الرداء من وجهه يشم رائحتها ويغمغم بصوت يغلبه البكاء وندم :
_ أنا آسف سامحيني
اجهش في بكاء حار وهو يهتف بصدق وقلب يمزقه الاشتياق :
_ وحشتيني أوي
دامت حالته هكذا للحظات طويلة حتى تمدد بجسده على الفراش ونام حتى الصباح دون أن يشعر بأي شيء ، وإذا به يثب فزعًا عندما سمع صوتها وهي تهتف ” حــســـن ! ” .. تلفت حوله كالمجنون بحثًا عنها ولكنها ليست موجودة ، تأفف ومسح على وجهه بعد أن أدرك أنه خيل له وعقله بدأ يطلق الهلاوس ، لينهض ويتجه للحمام وهو لا يدري أن علقه لم يكن يتخيل وأنها موجودة بالفعل !! .
خرجت هي من خلف الباب وهي تصدر زفيرًا بارتياح وتلعن نفسها الغبية التي نطقت باسمه ، ولكن ماذا تفعل فقد أتت للمنزل مجبرة حتى تأخذ جواز السفر بعدما اكتشفت أنها نسيته ولم تكن تتوقع أنه يأتي للمنزل أساسًا منذ ذهابها فجاءت مطمئنة بأنها لن تجده ولكن صدمت به بل وكانت الصدمة الأكبر حين رأته في فراشها وبيده ردائها ، فوجدت نفسها تهتف باسمه من صدمتها بدون وعي !! .
سمعت صوت رذاذ المياه في الحمام فحمدت ربها أنه يستحم وسيكون لديها الوقت لتبحث عن ما جاءت لأجله وتذهب قبل أن يراها .. اندفعت واخذت تبحث في الادراج والخزانة فلم تجده ، خرجت واخذت تبحث ببقية المنزل في عجلة وخوف كلص دخل يسرق منزل ويخشى أن يمسك به صاحب المنزل ، هتفت بغضب :
_ اووووف فينه ، هيطلع من الحمام يلا بقى
عادت لغرفتها مجددًا لعلها تكون نسيت مكان لم تبحث به جيدًا ، وظلت تبحث بكل قطعة في الغرفة حتى اسفل الخزانة والفراش وبالفعل وجدته اسفل الخزانة ، يبدو أنه سقط منها وهي تأخذ ملابسها في يوم رحيلها ولم تنتبه له ، هبت واقفة وهي تبتسم ثم التفتت خلفها لتدهش به يخرج من الحمام وهو يلف المنشفة حول نصفه السفلي فتشهق بزعر وتستدير مجددًا وهي تغمض عيناها بقوة تلعن حظها السيء ، أما هو فتصلب بأرضه منذهلًا وهمس بعدم استيعاب لما يراه أمامه ولوهلة خيل له أن لا زال عقله يهلوس بها :
_ يسر !!!!
ضغطت على شفتها السفلي بغيظ من نفسها وتحركت باتجاه الباب مسرعة لكي تهرب وتغادر المنزل بأكمله ولا تضطر أنه تكون في موقف معه ، ولكنه ركض خلفها وجذبها من ذراعها قبل أن تفر هاتفًا :
_ خدي هنا إنتي جيتي إمتي ؟!
سحبت ذراعها من قبضته بعنف هادرة بقرف :
_ دلوقتي ، نسيت حاجة وجيت أخدها
_ يعني أنا مكنتش بتخيل لما سمعت صوتك من شوية
لوت فمها باستهزاء وقالت ساخرة بنفس نظرات القرف السابقة :
_ لا كنت بتتخيل عشان أنا لسا يدوب داخلة ، وابعد من وشي خليني امشي
اعتري طريقها مجددًا يسألها بفضول مبتسمًا :
_ جيتي تاخدي إيه ؟
صاحت باندفاع واغتياظ :
_ ملكش دعوة وابعد ياحسن احسلك
اقترب منها بنظرات ماكرة فاضطربت هي وتراجعت للخلف حتى التصقت بالحائط واصبحت نظراتها متوترة لتسمعه يهمس بنبرة جديدة عليه وهو يستند بكفه على الحائط بجوار رأسها :
_ تعرفي إن وحشني أوي خناقنا
تفادت النظر إليه واشاحت بوجهها للجهة الأخرى تهتف بتحذير حقيقي وهي تحاول كتم غيظها :
_ طيب ابعد ياحسن وإلا …
قاطعها غامزًا بلؤم وبابتسامة واسعة :
_ وإلا إيه !! ، هتعملي إيه لو مبعدتش ؟!
نظرت له وقالت بنظرة شرسة وقوية :
_ هعمل كدا
ورفعت كفها في الهواء وهوت به على وجنته بكامل الغل والغيظ وكأنها تنتقم لجزء من كرامتها بهذه الصفعة ، ثم دفعته بعيدًا عنها واندفعت لخارج المنزل بأكمله ، وتركته يصر على أسنانه بغيظ بسيط .. ولكنه ابتسم في اللحظة التالية وقال بنفس متقبلة الصفعة الذي كان يستحقها منها على كل أفعاله الدنيئة معها قبل طلاقهم :
_ حقك !
***
ساكنة في فراشها تجلس وتضم ساقيها لصدرها وعيناها معلقة عليه تتأمله في نومه ، كان نائم على أريكة متوسطة أمام الفراش وهي لا تزيح نظرهت عنه .. تفكر في تصرفه معها في المستشفى وعند عودتهم للمنزل وعندم قصت له الحقيقة كاملة ، رغم أنه لم يصدقها كليًا إلا أنها أحست في نظرته أنه حقًا يريد تصديقها وليس مجرد كلام .. يريد أن يصدق بأنها كانت ضحية لإهمال الجدة .. وضحية لصغر سنها وعدم نضجها الذي دفعها لفعل أشياء منافية للعرف والعادات والاحترام والدين قبل كل شيء .
لا تعرف ماذا يحدث لها ولكن نظرتها له تبدلت منذ آخر مواقفه معها التي اظهرت لها رجولته وحكمته وطيبة قلبه رغم القسوة التي يتصنعها أمامها .. ظلت على حالها ولم تنتبه له حين فتح عينه واعتدل في نومته وهو يتثاوب ويمسح على وجهه ، ثم انتقل بنظره ناحية فراشها ليعقد حاجبيه بعدما رأى وضعية جلستها وشرودها به .. هتف بغلظة صوت :
_ ميار !!
افاقت من شرودها واعتدلت فورًا لتجيبه بابتسامة خفيفة تكاد لا ترى :
_ نعم !
_ ليه قاعدة كدا ؟!
هزت رأسها بطبيعية وقالت بابتسامة اوضح قليلًا :
_ عادي كنت بفكر في حاجة وسرحت شوية
_ صباح الخير
تفوهت بها في رقة ليست متصنعة ليتنهد هو ويقف ثم يتجه نحو الحمام ويجيبها ببرود :
_ صباح النور
أصدرت زفيرًا حارًا ووقفت لتتحرك نحو الخزانة وتخرج شريط اقراص مسكن لآلام الرأس وعادت إلى فراشها والتقطت كوب الماء الموضوع فوق المنضدة المجاورة للفراش وكانت على وشك أن تضع القرص في فمها ولكن وجدت يده تقبض على يدها ويسحب منها الشريط والقرص هاتفًا بغضب عارم بعدما اعتقد بأنها تحاول الانتحار مجددًا :
_ بتعملي إيه ؟!!!
ابتسمت بمرارة مغمغمة ببساطة :
_ ده برشام للصداع .. متخفش ، لما افكر انتحر مرة تاني أكيد مش هيكون في وجودك يعني
_ جبتي البرشام ده منين ؟ .. أنا شلت كل حاجة من الأوضة !
اجابت بمنتهي البساطة وهدوء الأعصاب :
_ كان في دولابي باخد منه لما بحس بصداع ، ثم إن أنا لو عايزة انتحر في مليون طريقة غير إني اشرب برشام ، برأي متتعبش راسك بيا
علاء بنظرة حادة ومستاءة :
_ ميار اعقلي وبلاش جنان أنا مش ناقص
تأففت بعدم اقتناع وبسطت كفها له هاتفة بخفوت :
_ طيب ممكن تديني الشريط عشان آخد قرص
التفت وولاها ظهره بعد أن وضع الشريط في جيبه وقال برفض قاطع وهو يتجه للخارج :
_ لما تفطري الأول .. مينفعش على معدة فاضية
تأففت بصوت مسموع وهي تهتف :
_ اوووووف
سمعت صوته وهو يهتف بعد أن غادر من الباب :
_ من غير أفأفة .. يلا تعالي ورايا عشان الفطار
زفرت بخنق واقتربت من الباب تغلقه ثم بدأت في تبديل ملابسها ورفعت شعرها بمشبك وتركت نصفه ينسدل على ظهرها من الخلف .. ثم خرجت خلفه كما آمرها للتو بأن تلحق به …..
***
فتحت الباب ودخلت ثم اغلقته خلفها .. كانت ترتدي منامة تصل إلى الركبة وبحمالات رفيعة فرفع هو نظره لها وابتسم بلطف وبيده مسبحة يمر على حباتها بانامله ويذكر الله بهمس منخفض .. وجدها تقترب منه وتنضم إلي احضانه فيلف هو ذراعه حولها وتسمع همهمته وهو مستمر بالتسبيح ، سكنت للحظات بين ذراعيه وهي تستند برأسها على صدره حتى خرج همسها :
_ زينو !
سمعته وهو يجيبها بـ ” امممممم ” لتتنهد بعمق وتقول برقة :
_ أنا عايزة احفظ قرآن
حدجها ببعض الاستغراب وقال باسمًا :
_ ده بجد يعني ولا هي لحظة حماس كدا جاتلك فجأة
_ لا لا بجد والله ، ومستنية نرجع القاهرة عشان اروح مقرئة واتعلم احكام التجويد الأول وبعدين ابدأ في الحفظ .. إنت أكيد معندكش اعتراض طبعًا
افتر على ابتسامة واسعة اظهرت عن اسنانه البيضاء ثم انحنى برأسه إلى وجهها وطبع قبلة رقيقة على جانب ثغرها متمتمًا بغرام :
_ وهي حاجة زي كدا ينفع فيها الاعتراض برضوا !! ، نرجع بإذن الله وهنبقى نشوف مكان كويس وتروحي تحفظي فيه
سألت بفضول ونبرة ناعمة :
_ هو احنا امتى هنرجع ؟
غمز لها بلؤم وهتف في خفوت اربكها :
_ لو عليا مش عايز ارجع خالص .. إيه رأيك ناخد شهر ؟
_ شهر !! ، طيب والشغل وبعدين إنت من هتمل لما تقعد شهر في البيت مبتخرجش
اعتدل واصبح يهل عليها بهيئته ليقول بمكر أشد ونظرات راغبة :
_ مفيش حاجة أهم منك ! .. ولو على الملل فاحنا هنسلي بعض متقلقيش
توترت من اقترابه وخجلت و لكن حين سمعت صوت رنين الهاتف ظنته المنقذ لها فكادت أن تمد يدها وتلتقطه وإذا بها تجد يده تقبض على يدها وهو يقول بحزم مزيف :
_ وهو ده وقت التلفونات يعني
اشارت بأصبعها ناحية الهاتف وهدرت بأعين زائغة ومستحية :
_ طيب هشوف مين حتى
اجابها بضحكة تبشر باقتراب الهجوم ونظرة كلها خبث :
_ سبيه يرن براحته
وبالفعل أغار عليها ينل منها ما يستطيع لتطلق هي ضحكة متأججة هاتفة من بين ضحكاتها القوية ” زين بس بقى !! ” وتعود ضحكاتها لتتعالي اكثر فيطلق هو ضحكة رجولية مرتفعة على ضحكها !!! …….
***
الساعة تخطت العاشرة مساءًا وكانت عيناها معلقة على الشارع من النافذة تنتظر مجيئة ، منذ أيام وهي تستعد لهذا اليوم وهاهو أتى ، كانت ترتدي رداء طويل من اللون الأسود وبأكمام طويلة ، ضيق بعض الشيء على جسدها المتناسق ولديه فتحة ظهر واسعة من الخلف ولكن شعرها الحريري الذي تركت العنان له يخفي ظهرها ، وقد وضعت بعض مساحيق الجمال البسيطة التي زادتها جمالًا .. لم يعد هناك أي آثار للحمي عليها فقد تحسنت كثيرًا بعد أن أخذت الدواء والآن هي في أفضل حال وتنتظره لكي يحتفلوا بيوم ميلاده !! .
ظلت على وضعها تارة تنظر من النافذة وتارة ترفع نظرها للساعة تتفقدها ، إلى أن رأت سيارته تتوقف أمام المنزل فاتسعت ابتسامتها وهرولت ناحية الأضواء واغلقتها جميعًا ثم اتجهت نحو كعكة عيد الميلاد التي اعدتها له خصيصًا واشعلت الشمع وهرولت نحو الغرفة تختبيء فيها ، وماهي إلا لحظات معدودة حتى فتح الباب وغضن حاجبيه عندما وجد المنزل في ظلام دامس فهتف بقلق :
_ شـــفـــق !!
اضطرب بشدة فهو يعرف خوفها الشديد من الظلام ، ويستحيل أن تغلق الأضواء بهذا الشكل وتنام ، فنزع حذائه عنه بجوار الباب وهرول باتجاه غرفتهم مسرعًا ولكن توقف حين رأى الطاولة المتوسطة في منتصف الصالة وفوقها كعكة متوسطة الحجم والشموع عليها ، اقترب منها بخطواط بسيطة وابتسم بساحرية حين تذكر بأن اليوم هو يوم ميلاده ، وقف يحدق بالشموع والكعكة بابتسامة واسعة حتى سمع صوتها من خلفه وهي تهتف بنبرة مرحة ورقيقة في نفس ذات اللحظة :
_ Happy birthday to you .. Happy birthday to you
التفت بجسده ناحيتها وطالعها بنظرات تحمل معاني مختلفة في جوفها لتستمر هي في الغناء حتى انتهت وقالت بحماس :
_ يلا اطفي الشمع
عاد بجسده ناحية الطاولة وانحنى ينفخ في الشمع لينطفأ فتمد هي يدها وتفتح الضوء ثم تقترب وتلف ذراعها حول رقبته هامسة بغنج ومداعبة محببة لقلبه منها :
_ كل سنة وإنت طيب ياكوكو
_ وإنتي طيبة يا أميرتي .. بس مش هنبطل كوكو دي !!
هزت رأسها بالنفس وهي تضحك بخفة وتقول بمشاكسة :
_ أبدًا ! .. أنا بحب ادلعك بيه ، وعشان أنا مش أي حد لازم يكون دلعي ليك مختلف ومميز
_ يعني مفيش فايدة !!
_ تؤتؤتؤ ، خالص
اطلق ضحكة بسيطة ، ثم انتبه لمظهرها الجديد والرداء الأسود الجميل الذي ترتديه مع قصة شعرها ومكياجها ، رمقها بنظرة متفحصة بعد أن رجع بخطوة للخلف لكي يتمكن من رؤيتها أوضح وقال باسمًا بإعجاب حقيقي :
_ إيه الجمال ده !
اجفلت نظرها عنه أرضًا في استحياء من تغزله الصريح بها ، لتجده يمسك بكفها ويرفع يدها لأعلى لكي تلف حول نفسها ففعلت .. لتزداد نظرات الإعجاب في عيناه وهو يجيبها :
_ مغلطتش لما قولت إن أي حاجة بتلبسيها بتحليها أكتر
صعدت الحمرة لوجنتيها في ظرف لحظة ففكرت في التخلص من جو التوتر والحياء المهيمن عليها وانحنت على الأريكة تلتقط الكوفية التي صنعتها بيدها له وكانت تعمل عليها منذ أيام ، هتفت في خفوت جميل وخجل لا يزال بستحوذ عليها :
_ معرفتش اجبلك إيه هدية الصراحة ، ففكرت وعملتلك دي هي حاجة بسيطة بس حسيت إنها هتعجبك اكتر من أي حاجة تاني
التقطها من يدها ، وكانت من اللون الرصاصي ومجهزة بإحكام شديد ودقة ، أعجبته كثيرًا وخصوصًا أنها من نفس لونه المفضل .. رفع نظره لها وقال بحنو وهو يقترب يطبع قبلة حانية على شعرها :
_ فعلًا عجبتني جدًا .. شكرًا على الهدية الحلوة دي ياشفق
رمقته بأعين تتحدث بالعشق ثم جذبتها من يده ولفتها حول رقبته ثم قالت بوجه مبتسم :
_ جميلة أوي عليك
تمتم برقته المعهودة ونظراته التي تسحبها لعالم آخر :
_ لازم تبقى حلوة طالما إنتي اللي عملاها بإيدك
ماذا به اليوم لما يتغزل بها بشكل زائد عن العادة ونظراته مختلفة حتى نبرته ، بل بالأحرى هي تشعر بتغيره الجذري منذ الأمس ولكنها فسرته على أنه خوف وقلق عليها ، ولكن الآن ماذا يحدث ؟! .. لم تهتم كثيرًا أيضًا هذه المرة وطردت أي أفكار قد تكون ساذجة بالنسبة لها ، لتجده ينحني ناحية الكعكة ويقرأ بصوت مسموع ما كتبته عليه ” شكرًا لإنك معايا ” ، فتتسع ابتسامته اضعافها وينتصب في وقفته ثم يمد يديه ويلفهم حول خصرها جاذبًا إياها إليه ويهمس في أعين تحمل مشاعر جديدة ونبرة دافئة :
_ في الحقيقة أنا اللي المفروض اشكرك .. أشكرك لوجدك في حياتي .. واشكرك لإنك متخلتيش عني وسمحتي لعلاقتنا بفرصة تاني ، وكمان لإنك بتعالجي جروح جوايا مكنتش متوقع إن في حد هيقدر يعالجها ، وأخيرًا لإنك دواء لهمي لما أكون مضايق
تلألأت الدموع في عيناها من سعادتها بما تسمعه منه لأول مرة ، واندمجت فرحتها بدهشتها بما يقوله لها ولم تكن تتوقعه منه أبدًا ، ولكن الدهشة الحقيقية حين وجدته يقترب بوجهه منها فتجمد جسدها ككتلة ثلج ومجرد التفكير فيما سيفعله كان كفيل بأن يشعرها بأنها على وشك فقدان وعيها ، فأغمضت عيناها بقوة تقنع نفسها بأنه لن يفعلها فقط سيقبلها من وجنتها أو جبهتها ، ولكنه فعلها !! .. شعرت بارتخاء أعصابها ولو كان الوضع استمر لثانية أخرى لكانت حتمًا فقدت وعيها ، ابتعد بعد لحظات طويلة نسبيًا وهو يطالعها بترقب ينتظر أن تفتح عيناها ولكن انتظاره طاله فهمس في لطف :
_ شفق !!!!
استفاقت من غيبوبتها وانتفضت على صوته ، فارتدت للخلف وقد رأى وجهها أحمر كلون الدم وصدرها يعلو ويهبط كأنها كانت في سباق للعدو للتو ! .. رمقته بخجل وارتباك بالغ لتقول بصوت متلعثم :
_ إنت … إنت قليل الأدب على فكرة
قالتها وفرت هاربة للغرفة في لحظة من فرط توترها ، وتركته مندهش قليلًا من جملتها حتى ضحك بصوت منخفض على عفويتها وبرائتها الذي يعشقهم أكثر شيء !! …….
***
بمنزل محمد العمايري …….
انضمت هدى لجلسة الجدة المنفردة في غرفتها وبمجرد ما أن جلست بجوارها نظرت لها الجدة وقالت بقلق :
_ طاهر ليه يومين مجاش .. حاسة قلبي مش مطمن عليه ياهدى
صمتت لبرهة وهي تطالعها بتردد ولكنها حسمت أمرها وقالت في خفوت :
_ طاهر تعبان ياماما كان اليومين اللي فاتوا ومجاش عشان محبش يقلقك عليه
انتفضت في جلستها وقالت بزعر :
_ تعبان !! .. ماله ياهدى انطقي ؟!
تنفست الصعداء وقالت بعدم حيلة :
_ لما جاتلك ميار من يومين كانت قبلها علطول في المستشفى .. حاولت تنتحر ولحقوها على آخر لحظة وطاهر تعب معاها هناك من الخضة .. أنا عرفت من علاء وقالي مقولكيش عشان متاخضيش
_ تنتحر !! .. إزاي متقوليش الكلام ده !
_ ياماما خوفنا عليكي لتتعبي ولا حاجة
وثبت واقفة وقد ادمعت عيناها وهي تقول بحزم :
_ أنا هروح اشوف ابني وميار
استقامت هدى وقبضت على ذراعها تهدئها قائلة برزانة :
_ اطمني والله هما كويسين دلوقتي ومفيش أي حاجة
هدرت في حدة ونظرة ثاقبة :
_ قولت هروح ياهدى
_ طيب حتى اصبري للصبح وهنروح والله بكرا .. اهدى ابوس إيدك ، وصدقيني أنا بنفسي هاخدك ونروح بكرا الصبح
اطالت الجدة النظر في فيها لتنفجر باكية وهي تهمهم بكلمات لم تفهمها جيدًا ولكنها عانقتها وهي تربت على ظهرها بحنو تهتف بكلمات تحاول من خلالها أن تهدأ نفسها الوجلة …..
أما بالأسفل فكان كل من حسن ورفيف يجلسون في الحديقة الخارجية للمنزل ، كان هو يعلق عيناه على السماء في سكون تام وهي تارة تنظر له وتارة تعبث بهاتفها .. حتى سئمت الصمت وقالت بضيق :
_ هتفضل تعاند لغاية إمتى ياحسن .. مش معقول لسا مأدركتش إنك بتحب يسر ومتقولش لا ؛ لإن إنت مش شايف حالك بقى إزاي
ابتسم لشقيقته وقال باستنكار ونبرة مهمومة :
_ ماله حالي !!
تأففت بصوت مسموع واعتدلت في جلستها أكثر لتقول في غضب وعفوية :
_ حسن يسر سافرت وإنت لسا بتعاند هتفضل كدا لغاية امتى ؟!!!
وقعت كلمة ” سافرت ” وقع الصاعقة عليه ، واستيقظت جميع حواسه حيث انتصب جالسًا وهو يجيبها بعدم استيعاب وذهول :
_ سافرت فين ؟!!!
_ إنت متعرفش ولا إيه ؟!
قالتها باندهاش بسيط ليجيبها بعد أن بدأ الضجر يتملك منه ويهتف بنبرة خشنة :
_ معرفش إيه يارفيف ؟!!
تنفست الصعداء وقالت بأسى :
_ يسر سافرت النهردا المغرب مع راسل هتقعد في امريكا هناك لفترة معرفش قد إيه ، وهتمسك الإدارة في الشركة اللي هناك بدل عمي
تحول لجمرة نيران متوهجة واظلمت عيناه بشكل مخيف بالأخص بعدما قالت ذهبت مع ذلك السمج ابن خالتها ، وجدته يهتف بغضب عارم :
_ نعم !! .. وأنا آخر من يعلم يعني ، إزاي تسافر من غير ماتقولي .. لا ومع راسل كمان ، ماشي يايسر
ابتسمت رفيف بمكر واقتربت منه تقول في خبث ضاحكة :
_ ومالك متعصب كدا ليه !! ، مش مشكلة يعني سافر وراها بكرا
حسن بنظرات مشتعلة :
_ ماهو ده اللي هيحصل فعلًا ، قال مع راسل قال ده أنا هطين عيشتها هي والملزق ده
اشاحت بوجهها للجانب الآخر وهي تضحك بصمت دون أن يصل صوت ضحكها إليه ، أما هو فكان يستشيط من الغيظ وكلما يفكر بأنها مع ذلك الـ ” راسل ” الآن تتأجج نيران الغيرة في صدره أكثر ويود لو يذهب الآن قبل الغد ويفتك به ، فقط لأنه يقترب من شيء لا يخصه !! …….
***
مع صباح اليوم التالي وفي تمام الساعة التاسعة صباحًا كان حسن بالفعل في مطار القاهرة بانتظار النداء لاقتلاع الطائرة الخاصة به ، لم يخبر أحد بسفره وفقط شقيقته تعرف بهذا .. وقد تعهد بأنه لن يعود إلا وهي معه ، عقد العهود مع نفسه على أنه سيصلح كل شيء بينهم ، فمنذ الأمس وهو يفكر بماذا سيفعل حتى تغفر له وتسامحه ، وكان الحل الأمثل هو كما قالت شقيقته أن يتوقف عن العناد ويتصرف بحقيقة مشاعره دون أي إخفاء !! ….
وأخيرًا بعد ما يقارب النصف ساعة استقل بمقعده في الطائرة وعقد حزام الآمان حول خصره ، وماهي إلا دقائق واقتلعت الطائرة من مطار القاهرة متجهة إلى الولايات المتحدة الأمريكية .
دامت الرحلة لساعات حتى وصل واستقل بسيارة آجرة وطلب من السائق أن يتجه به لمكان معين متحدثًا الإنجليزية بطلاقة .
توقفت السيارة أمام ڤيلا فخمة ذات طراز عصري ومذهل ، فترجل هو ودفع للسائق حقه ثم امسك بحقيبة ملابسه واتجه إلى الداخل ، كان المنزل نظيف تمامًا من الداخل والأثاث غاية الجمال ، فابتسم بإعجاب و صعد الدرج متجهًا إلى غرفة النوم والقى بالحقيبة على الفراش ، ثم دخل الحمام ليأخذ حمامًا دافيء وسريع وخرج بعد دقائق ليبدأ في ارتداء ملابسه التي كانت عبارة عن بنطال من اللون الأسود وقميص أبيض فوقهم سترة جلدية من نفس لون البنطال ، صفصف شعره أخيرًا ونثر عطره الرجولي على ملابسه ورقبته ثم غادر ليجد السيارة الذي طلبها بانتظاره ويقف أمامها حارس المنزل ، فنظر له حسن وتمتم بابتسامة عذبة :
_ Thank you
شكرًا لك
أماء له الرجل إماءة خفيفة وهو يبادله نفس الابتسامة ، ليستقل حسن بالسيارة وينطلق بها نحو منزل خالتها وعيناه معلقة على الشاشة الصغيرة في السيارة التي تدله على الطريق بضبط .
ترجل من السيارة بعد دقائق طويلة من السير في طرق أمريكا ، وقف يحدق بالمنزل الكبير المكون من طابقين ثم تحرك باتجاه الباب الرئيسي والحديدي وفتحه ليدخل ويهم بصعود الدرج للطابق الثاني بعدما أخبرته رفيف بأنها حين تحدثت معها قالت لها أنها ستقطن في الطابق الثاني من منزل خالتها ، ولكن قبل أن تخطو قدمه خطوة واحدة على الدرج سمع صوت قهقهتها وهي تنزل الدرج وتتحدث مع راسل بتلقائية شديدة ، فوقف ينتظرها وهو يصر على أسنانه ويستعد لكي ينقض على ذلك السمج الذي لا يطيقه ، وبمجرد ما أن وصلا لمقدمة الدرج الذي هو يقف في آخره بالأسفل ، تصلبت بأرضها وفغرت عيناها بذهول تحملق به في عدم استيعاب ليخرج همسها مدهوشًا :
_ حسن !!!
ظلت هي على حالها تحملق به بصدمة حتى وجدته يقبض على ذراعها ويجذبها معه للخارج ، فاستوقفه راسل الذي مسك بيد حسن وابعده عنها هاتفًا بصوت رجولي مخيف :
_ متقربش منها !
نقل نظره بينهم في دهشة وهو يضحك باستهزاء ليقترب من راسل ويقف أمامه هاتفًا بنظرات نارية :
_ اعتقد إن أنا اللي المفروض أقول كدا مش إنت ، خليك بعيد ياراسل عن مراتي احسلك
_ كانت مراتك !
نظر ليسر التي تتابع مايحدث وهي في حالة من الذهول لاتفهم شيء فقط تفغر فمها وتشاهدهم ، لف ذراعه حول كتفيها وضمها إليه متمتمًا بابتسامة مريبة :
_ هو أنا مقولتش ليكم ولا إيه .. رديتها لعصمتي ، ومش عايز اشوفك حواليها تاني ياراسل
تلقت الصدمة الثانية ولم يكن وضع راسل أفضل منها حيث قرأ حسن معالم الدهشة على وجهه فابتسم ساخرًا وقبض على رسغها يسحبها معه باتجاه السيارة وهي لا تزال غير مدركة مايدور حولها وغائصة في قوقعة صدمتها ، ولم تفق إلا وهي في سيارته بعد أن انطلق بها عائدًا إلى المنزل الذي خرج منه قبل أن يأتي لها .
نظرت له وقالت بهدوء تام وعدم استيعاب :
_ ممكن تفهمني إيه اللي بيحصل .. وجيت إمتى وليه ؟!!
ابتسم باتساع وغمغم في مشاكسة ليستفزها :
_ اللي بيحصل إني رديتك يعني إنتي مراتي دلوقتي ، ولسا يدوب واصل امريكا .. وجيت عشان نقضي شهر عسل حلو
لم تتمكن من منع ابتسامتها المستنكرة وتجيبه بغيظ مكتوم ونبرة مرتفعة :
_ يعني إيه رديتني هااا ، يعني إيه !! .. إنت اخدت رأى الأول قبل ما تعمل كدا
هتف ببرود تام :
_ واخد رأيك ليه !! .. هو إنتي اخدتي رأي لما صورتيني وسجلتي ليا وهددتيني بإنك هتفضحيني بالتسجيلات والصور ؟ .. لا صح ، وأنا كمان مخدتش رأيك ، ورديتك عشان أنا عايزك وعايز اصلح اللي اتكسر بينا
صرخت به بانفعال هادر وعصبية :
_ وإنت قولت أهو اتكسر ! ، واللي اتكسر مبيتصلحش ، وأنا مش عايزاك ياحسن ومش طيقاك .. رجعني عند خالتو دلوقتي حالًا
حدجها بأعين مشتعلة بالغيرة وقال وهو يحاول تمالك أعصابه :
_ أه ارجعك عشان تقعدي مع ابن خالتك الملزق ده
قالت بقرف وسخرية بصياح :
_ صدقني مفيش حد ملزق غيرك في حياتي .. وقف العربية ونزلني اخلص
قهقه بصوت مرتفع رغم الغضب الذي كان يهيمن عليه للتو وأجابها في رفض وهدوء أعصاب مستفز :
_ لما نوصل البيت هنزلك يامزتي
صرخت به بهسترية وهي تهتز من فرص العصبية :
_ بيت إيه إنت عايز تجلطني .. أنا مش هروح معاك مكان ، نزلني يامستفز
لم يهتم بصراخها وكان هادئًا أكثر من اللازم وفقط نظر لها يغمز بعيناه ويهدر بوقاحة :
_ اسكتي بدل ما اسكتك بطريقة مش هتعجبك ومش هيهمني حاجة ، واحنا مش في مصر يعني نعمل اللي احنا عاوزينه وفي أي مكان .. اعتقد فهمتيني !
رمشت بعيناها عدة مرات في عدم تصديق وانهارت عليه تلكمه في ذراعه بعنف صائحة :
_ سافل ومنحط
تجاهلها تمامًا واكتفى بنظرته الجانبية وهو يبتسم باستمتاع لعصبيتها وغيظها منه .. أما هي فأخذت تفرك جبهتها بقوة وتزفر بقوة لتهدأ من نفسها الثائرة بالشهيق والزفير ، وتلقي عليه نظرة من حين لآخر ، تود لو أن تقبض على حنجرة هذا المستفز وتقتلعها بيدها !! ………
***
بمكان ما داخل دولة كندا إحدى دول قارة امريكا الشمالية ……
كان يجهز حقيبة السفر خاصته ويرتدي ملابسه التي عبارة عن بنطال أبيض وفوقه قميص من اللون الرمادي ، ابتسامته تشق طريقها إلى شفتيه باتساع .. لا يصدق أنه أخيرًا حالت الظروف التي كانت تعوق بين فتاته وسيعود لها ليتزوجها !! .
دخلت عليه شقيقته واقتربت منه تنظر له وهو يتجهز ، لتسمعه يهتف في حماس :
_ فرحان أوي ياريماس أخيرًا مفيش حاجة هتمنعني من إني اجتمع بيها
رمقته بنظرة غريبة وهي تزفر بقوة وتخشي أنه تقول له الخبر الذي عرفته بالأمس فيتحول لوحش كاسر هو وأبيها .. سمعته يكمل باستهزاء وتشفي مع أعين شرانية :
_ مبقيش ليها حد غيري خلاص ومش هتقدر ترفض .. اللي كانت بتتحامي فيه مات
ضحكت ساخرة وقالت بنظرات مترددة :
_ جاسر بلاش ترجع please وطلعها من دماغك بقى
_ نعم !! .. بلاش ارجع ! ، ده أنا مستني اللحظة دي من سنين
تأففت بعدم حيلة وهتفت بخنق دون مرعاة لردة فعله :
_ شفق اتجوزت ياجاسر
وقعت الكلمة عليه وقع الصاعقة ، وتسمر بأرضه كالصنم يحدجها بذهول .. عقله لا يستعوب الجملة ، يرفض حتى أن يفكر مجرد التفكير بأن ما قالته حقيقة !! .
التفت لها بجسده كاملًا وهدر ضاحكًا بسخرية :
_ بتهزري مش كدا ؟!
_ لا مش بهزر أنا لسا عارفة الموضوع ده امبارح .. اتجوزت من حوالي شهر ، واتجوزت كرم العمايري
تلقي الصدمة الثانية بقولها ” كرم العمايري ” ليضحك باستهزاء ويجيبها بأعين لا تبشر بالخير :
_ كرم !! .. ابن محمد العمايري وصديق سيف !
اطالت النظر إليه بصمت وأعينها تجيب عليه بالإيجاب ، فيسكت هو لثلاث ثواني بضبط حتى صاح بسخط هادر :
_ شفق ليا ومش هسمح لحد ياخدها مني
_ جاسر افهم بقولك اتجوزت خلاص .. هتعمل إيه يعني !!؟
_ هرجع مصر وهعمل اللي المفروض يتعمل
ثم سحب حقيبته واتجه إلى الخارج وهو يكمل بصوت أجش :
_ أنا همشي عشان متأخرش على الطيارة وخلي بابا يركب وياجي ورايا
***
اتجهت هدى باتجاه الباب لتفتح فوجدت طاهر أمامها ليبتسم ويقول بنبرة مهذبة :
_ إزيك ياهدي
افسحت له الطريق وهي تجيبه ببشاشة :
_ الحمدلله بخير .. كويس إنك جيت ماما من وقت ماعرفت اللي حصل لميار وليك وهي مصممة تروح البيت عشان تطمن بنفسها
_ طيب أنا هطلع اشوفها في حد ولا لا
هزت رأسها بالنفي هاتفة :
_ لا مفيش اتفضل
صعد الدرج واتجه إلى غرفة والدته ثم طرق الباب فسمع صوتها تهتف ” ادخل ” .. فتح الباب ودخل فيرى الابتسامة تشق طريقها لشفتيها وهي تقول بسعادة وراحة :
_ طاهر تعالي ياحبيبي طمني عليك
اقترب وجلس بجوارها على الفراش ثم التقط كفها وقبَّل ظاهره بدفء مغمغمًا باعتذار :
_ الحمدلله بخير يا أمي .. محبتش اقولك واقلقك علينا متزعليش مني
اتخذت معالم وجهها الحزم وهي تهدر بضيق وقلق :
_ حاجة زي كدا مينفعش تخبوها عني ياطاهر .. قولي هي عاملة إيه دلوقتي ؟
تنهد الصعداء وقال بعدم حيلة :
_ كويسة اطمني عليها وعلاء ماخد باله منها الأيام دي احسن تعمل حاجة تاني في نفسها
ظهر في عيناها الحزن والهم على حفيدتها التي كانت هي السبب الأكبر فيما حدث لها ، لتجد يد ابنها تربت على كفها بلطف هاتفًا :
_ ميار مغلطتش وحدها احنا غلطنا معاها يا أمي إننا سبناها لغاية ما وصلت للوضع ده .. واعتقد إنها دلوقتي بدأت تعرف غلطها وتندم وترجع لربنا
_ أنا مبقتش عارفة الوم نفسي ولا الومها ، ومش قادرة اسامح نفسي إني دلعتها وسبتلها السايب في السايب كدا
_ مش هيفرق بحاجة الندم دلوقتي .. خلاص اللي حصل حصل ومش هنقدر نغيره
هزت رأسها بالإيجاب توافق ابنها على رأيه وهي تتنهد باختناق وأسي ……
***
نزلت يسر من السيارة ووقفت تحدق بذلك المنزل الكبير نسبيًا ، لا تنكر أنه منزل رائع وجذب إعجابها بشدة لمجرد النظر إليه من الخارج فقط !! .. وجدته يلف ذراعه حول خصرها ويقول بابتسامة عريضة وصافية :
_ هيعجبك اكتر من جوا كمان تعالي هفرجك عليه
مسكت بذراعه ولوته خلف ظهره بحركة ماهرة وهي تقول بتحذير وشراسة :
_ إيدك دي متلمسنيش تاني فاهم ولا لا
لم يبدي أي ردة فعل مغايرة وفقط يرسم الابتسامة على شفتيه ويجيبها بهدوء غريب :
_ إنتي تأمري يامدام يسر .. ممكن تسيبي إيدي بقى
تركت يده وتراجعت للخلف وتشدقت بأعين مشتعلة :
_ ومتقولش مدام دي !
_ وهو أنا قولت حاجة غلط ! .. بس ماشي ما علينا مش هقولها ، في أي اوامر تاني ؟!
عادت تخطف المسافة التي صنعتها للتو وتقول بنبرة صارمة ونظرة جافة وقوية :
_ رجعني لخالتو وطلقني .. مش عايزاك ياحسن
لا يزال محتفظ بهدوئه الغريب حيث تجاهل ما قالته واجابها بعذوبة ونظرات لينة :
_ طيب تعالي هفرجك على البيت الأول
كفطل صغير يحاول الهائها بأي شيء لكي ينسيها أمر الطلاق ويذعنها له ، ولكنها ليست بطفلة ! .
يسر بغضب ونبرة مرتفعة :
_ بقولك رجعني أنا مش هقعد معاك في بيت واحد .. إنت مبتفهمش !!
بدأ يفقد أعصابه فمسح على وجهه وهو يتأفف بصوت مسموع ويهمهم بصوت مسموع لها :
_ أنا قولت برضوا إنك مش هتاجي غير بالعافية
ثم انحنى بجزعة للأمام وحملها على كتفه فأصبح نصفها خلف ظهره وهو يمسك بقدميها من الأمام ويسير بها للداخل .. اطلقت صرخة عالية وأخذت تضرب على ظهره بكلتا يديها وهي تصيح به باغتياظ :
_ نزلني ياحيوان
_ عيب ياروحي في ست محترمة تقول لجوزها ياحيوان
اكملت صياحها وهي لا تتوقف عن ضربه :
_ أيوة حيوان وقذر وغبي وعديم الاحساس وبارد .. نــــــزلــــــنــــي !!!
لم يعيرها اهتمام مطلقًا واستمر في طريقه لباب المنزل حتى فتحه ودخل وهي لا تزال على كتفه حتى وجدها تهتف بصوت به غرابة :
_ نزلني ياحسن دوخت بجد والله
اوقفها على الأرض وولاها ظهره يغلق الباب بالمفتاح ويضعه في جيبه متمتمًا بنبرة بدت لها طبيعية :
_ عشان عقلك ميوزكيش تعملي حاجة كدا ولا كدا !!
زفرت مغلوبة على أمرها وقالت بنفاذ صبر وصوت متحشرج وجاد :
_ إنت عايز إيه مني لسا ياحسن ؟ .. سيبني في حالي ابوس ايدك وابعد عني ، رديتني ليه .. هااا رد عليا ؟!!
سألته وكانت في نفسها تنتظر إجابة بعينها تريد أن تسمعها منه ! ، فبرغم كل ما فعله لا تنكر أنه لا يزال يشغل مكان كبير من قلبها ! .
رأته يقترب منها ويقول بندم حقيقي وأعين تلمع بوميض مختلف تراه للوهلة الأولى :
_ عايزك ترجعيلي وتسامحيني .. أنا مش عايز اخسرك يايسر ، والله العظيم أنا ندمان على كل حاجة وعندي استعداد اعمل أي حاجة تطلبيها مني بس تسامحيني
ليتك شعرت بالندم قبل أن تجعل علاقتنا تصل لمفترق طرق مسدود ، ليتك قلت لي أنك لا تريد خسارتي ، ولكن بماذا سيفيد الكلام بعد فوات الآوان !! .
منعت عيناها من ذرف الدموع وقالت بقسوة :
_ طالما مستعد تعمل أي حاجة يبقى طلقني وابعد عني
مسك بذراعيها يهزهم في قوة ويهتف بنبرة رجولية قوية وأعين تجمعت بها العَبارات :
_ إنتي ليه عايزة تضحكي عليا وعلى نفسك ، أنا عارف ومتأكد إنك لسا بتحبيني ، سبيني اثبتلك إني تغيرت ومبقتش حسن اللي كنتي تعرفيه ، خليني اثبتلك ندمي وإني بجد عايزك .. صدقيني هتشوفي شخص مختلف معاكي .. اديني فرصة يايسر !
تقهقرت للخلف وهي تقول بأعين دامعة وصوت يغلبه البكاء :
_ إنت شخص إناني وغدار وأنا مستحيل امنحلك ثقتي تاني .. مش عايزة اكون مراتك ، كفاية ياحسن ارجوك !!
ترفض حتى اعطائه فرصة ، من قبل أن ترى صدق كلامه أو كذبه .. ولا تزال مصرة على الانفصال ، ولكنه سيثبت له انانيته هذه المرة حقًا ! .. قال بنبرة خشنة وصوت مبحوح :
_ أنا فعلًا اناني ومش هسمحلك تبعدي عني تاني .. متتعبيش نفسك في موضوع الطلاق ده ، أنا رديتك ومش هطلقك وهتفضلي مراتي سواء شأتي أو ابيتي
ثم ابتعد وصعد الدرج متجهًا لغرفة النوم في الطابق العلوي ، وتركها بمكانها تحدق في اللاشيء أمامها بصمت ودموعها تنهمر على وجنتيها ، تريد أن تعطيه الفرصة ولكنها لا تثق به ولا تستطيع نسيان كل ما فعله معها ، فتقف هذه الذكريات عائق بينهم ولن يتمكن شيء من هدمها بسهولة !!! …….
***
ارتفع ضوء القمر وظهرت النجوم الساهرة في السماء ، لتعطي لوحة غاية الروعة ابدعها الخالق عز وجل .. ومع تمام الساعة الثامنة مساءًا ! ، داخل منزل كرم العمايري ….
كان يجلس بمكتبه ينهي بعض الأعمال المتراكمة ولكن عقله عالق بتلك الكامنة في غرفتها .. منذ الأمس وهي تتصرف بغرابة وكأنها تختصر الحديث معه وتتجنبه ، ولا يفهم سبب هذا التغير .. وفقط يتساءل هل قام بفعل خاطيء معها دون أن ينتبه فتضايقت منه ! ، فقط لا يعرف ولن يحاول أن يشغل عقله كثيرًا ، فقد بدأ يستاء من غرابتها ولابد من أن يفهم كل شيء منها دون أن يستمر في طرح الأسئلة على عقلها والتي تصل به لإجابة واحدة وهي ” لا أعرف ” ! .
ترك الذي بيده واستقام مغادرًا يقود خطواته باتجاه غرفتهم ، وصل وفتح الباب ثم دخل واغلقه خلفه وتجول بنظره في أرجاء الغرفة باحثًا عنها ليراها تقف بالشرفة وعيناها على السماء ، فتحرك بخطواط هادئة من خلفها ، وضع اليد اليمنى على ذراعيها الأيمن واليد اليسرى كانت على الكتف الأخر وهو يقف خلفها مباشرة شبه ملتصق بظهرها ، وانحنى ناحية أذنها يهمس برقة معهودة منه :
_ ادخلي جوا هتبردي
ارتبكت منه والتفتت برأسها نصف التفاتة تتمتم بصوت انوثي عذب :
_ لا الجو مش برد أوي
رفع كفه الأيمن وبأنامله يعبث بخصلات شعرها في لطف ويستمر في همسه الذي يبعثر نفسها :
_ طيب إنتي مضايقة مني في حاجة !
تعجبت من سؤاله فاستدارت بجسدها إليه وقالت باقتضاب حاجبيها :
_ لا ، ليه ؟!
ضيق عيناه بحيرة وقال باسمًا بجدية بسيطة :
_ لا يبقى الموضوع في حاجة مش هيّنة بقى طالما مش مضايقة مني .. تعالي نتكلم جوا
دخلت معه وأغلق هو الشرفة لتتجه ناحية الفراش وتجلس عليه ، تنتظر أن يشاركها جلستها ويحكي لها ما الأمر الذي بدأ يثير فضولها هي الأخرى ، رأته يقترب ليجلس بجانبها ويقول بنظرات واضح عليها الضيق والتذمر مع نبرة صوت مختلفة قليلًا عما كانت عليه قبل قليل :
_ لما إنتي مش زعلانة مني .. ممكن أفهم إيه سبب تصرفاتك الغريبة من الصبح ؟ ، بتختصري في الكلام وفيكي حاجة مش مظبوطة كدا !
هيمن السكون عليها للحظات تفكر في كلامه ، هي بالتأكيد لا تقصد هذا ولكن منذ ليلة أمس في يوم ميلاده وبعد ماحدث بآخر جلستهم خجلت كثيرًا منه ولازالت خجلة حتى الآن ، لذلك قد تكون تصرفاتها غريبة بعض الشيء وهو فسرها بطريقة عكسية ! .
ابتسمت بساحرية وقالت بخفوت جميل :
_ بيتهيألك ياكرم .. مفيش حاجة نهائي
_ لا والله وهو أنا عبيط يعني مش هفهم ، ما إنتي كنتي إمبارح زي الفل وعملالي مفاجأة عشان عيد ميلادي لغاية ما …..
توقف عن الكلام عند تذكره آخر ماحدث بينهم ، فطالعها بنظرات ثابتة يفكر ويربط كل شيء ببعضه ، كيف لم يدرك الأمر من قبل .. الآن فقط أدركه فافتر عن ابتسامة واسعة اظهرت عن اسنانه البيضاء وهو يهمس بمداعبة :
_ إمبارح ! .. اممم ما أنا بقول برضوا في حاجة مش طبيعية
كسا وجهها بلون الحمرة واطرقت رأسها لأسفل وهي تشاركه ابتسامة ولكن احلى ، فزاغ هو بنظره عنها وضحك بصمت ثم عاد لها بوجهه وقال مشاكسًا في لطافة تذيب العقل :
_ طيب كنتي اديني إشارة فهميني حتى ، مش سيباني كدا عمال اسأل نفسي مالها وحصل إيه !!
لم يجد إجابة منها ، فقط تنظر للأسفل مبتسمة باستحياء .. فاستقام وهو يتنهد بعدم حيلة ضاحكًا واتجه للحمام ، فتمددت علي ظهرها في الفراش فورًا وسحبت الغطاء لأعلى صدرها ، محملقة في السقف تضحك بصوت خفيض على الموقف .. دقائق قصيرة وخرج من الحمام ثم تحرك باتجاه الفراش من الجانب الآخر يتسطح عليه ويرمقها بنظرة بها شيء من اللؤم هامسًا بعد أن بسط ذراعه بجانبه يحسها على الانضمام لصدره :
_ تعالي ولا لسا مكسوفة !
القت عليه نظرة سريعة بطرف عيناها وأماءت برأسه في إيجاب ووجنتيها تحجرا بلون الدماء الأحمر ، ليبتسم على خجلها الشديد والذي يؤكد له حقيقة واحدة أنها تحمل بداخلها براءة طفل .. عم الصمت بينهم وهو يحدق أمامه بسكون فمالت بجسدها على الجانب الآخر توليه ظهرها حتى لا يرى اضطرابتها منه ومعالم وجهها التي تتلون بألف لون في الدقيقة الواحدة .
أصدر تنهيدة حارة مبتسمًا ، وبدأ يشعر بأنه لا يتمكن من حجب رغبته بها ، فاعتدل في نومته ناحيتها واختلس المسافة الصغيرة بينهم ليلف ذراعه حول خصرها ويضمها معانقًا إياها من الخلف ، هامسًا في أذنها بنبرة مرحة وعاطفية :
_ إنتي مكسوفة بس أنا لا !
حبست أنفاسها لثواني واخرجتهم في زفيرًا متمهلًا لتحاول السيطرة على بعثرة قلبها وجسدها بسبب اقترابه منها بهذه الحميمية ، وسمعته يتمتم بحنو :
_ تصبحي على خير يا أميرتي
ردت بتلعثم وتوتر :
_ وإاا .. وإنت من أهله
لم يستمر اضطرابها كثيرًا حيث ارتخت أعصابها تدريجيًا لدفء جسده واغمضت عيناها بتلذذ وسعادة ، تترك نفسها حتى تنغمس في النوم براحة بين ثنايا ذراعيه ……..
***
ساعات مرت وهو أمام الحاسوب النقال الخاص به يعمل بتركيز واهتمام ، حتى عندما حضرت الطعام لم يأتي وقال بأنه لا يشعر بالجوع فتناولت طعام العشاء بمفردها ! .
كانت ترتدي منامة قصيرة من اللون الفوشيا وتترك العنان لشعرها الذي يميل للبنى ، اقتربت وجلست بجواره متمتمة وهي تستند برأسها على كتفه :
_ زينو
_ نعم
أجابها وهو لا يرفع نظره عن الحاسوب فأكملت هي بملل ونظرات انوثية مع نبرة غنج ودلال :
_ مش كفاية شغل بقى ولا إيه ، أنا زهقت تعالى اقعد معايا ياحبيبي
لم يعيرها اهتمام حيث أجابها باختصار وعدم مبالاة دون أن ينظر لها حتى بسبب تركيزه على العمل :
_ لما اخلص هاجيلك ياملاذ
زمت شفتيها للأمام بتذمر وهي تجيبه محتجة بخنق :
_ إنت حتى على العشا سبتني اتعشي وحدي ، كفاية بقى أنا مليت من القعدة وحدي
نظر لها أخيرًا بأعين قاسية وقال بعصبية غير مقصودة منه وصوت مرتفع نسبيًا :
_ مش فاضي ياملاذ .. إنتي شيفاني فاضي !! ، لما اخلص قولتلك هاجي اقعد معاكي
ابتعدت عنه فورًا وطالعته بنظرة مستعجبة من أنفعاله عليها دون أي سبب ، احتقن وجهها بغضب وضيق ثم هبت واقفة واتجهت للغرفة تشد على محابس دموعها المتجمعة في مقلتيها ! .. أما هو فقد أدرك الخطأ بعد وقوعه حيث تأفف ماسحًا على وجهه بندم ، لم يكن يقصد الانفعال ، ولكن ضغط العمل ضغط عليه أيضًا فجعله يخرج عن نفسه الهادئة ويفقد أعصابه .
اغلق الحاسوب وقرر أن يكتفي بهذا القدر من العمل اليوم ، ووقف وتحرك ناحية الغرفة لكي يعتذر منها ويحاول أن يبرر لها موقفه ، فتح الباب ودخل ثم اقترب من الفراش ومدد نصف جسده وماله بنصفه العلوي عليها من الخلف ناحية كتفها طابعًا قبلة رقيقة مغمغمًا باعتذار صادق :
_ متزعليش مني .. مقصدش والله انفعل عليكي وإنتي ملكيش ذنب ، بس الشغل اليومين دول في ضغط شوية
هزت كتفها بحركة نافرة لكي تبعد يده عن ذراعها وهي لا تنظر له ، ففهم أن أمر الاعتذار لن يمر بسهولة .. طبع قبلة أخرى ولكن على شعرها متمتمًا بخبث :
_ إنتي مش كنتي عايزة نقعد مع بعض ، اديني جيت أهو
اتاه صوتها الحازم دون أي لطف :
_ لا أنا عليا النوم وعايزة انام .. تصبح على خير يازين
التصق بها أكثر وقال بمكر أشد باسمًا :
_ ويهون عليكي تسيبي زينك يقضي الليلة وحده زي قرد قطع
_ اهاا يهون .. روح كمل شغلك أو نام ، وابعد عني
قالتها بامتعاض وجفاء فابتسم وقال ببساطة متصنعًا البراءة :
_ طيب ممكن احضنك عشان اعرف انام بنفس مرتاحة بس
التفتت بجسدها له وجذبت الوسادة تضعها بين يديه هاتفة ببرود :
_ احضن المخدة اهي
وعادت توليه ظهرها مجددًا ، فينظر هو للمخدة بعلامات استفهام ويقول ساخرًا بقسمات محتقنة :
_ إيه شغل العزاب ده !! ، وأنا احضن المخدة ليه ومراتي جمبي !
كتمت ضحكتها بصعوبة وإجابته بصوت حاولت خروجه طبيعيًا :
_ عقاب ليك
فهم أنه لا مفر من العقاب اليوم كما اوضحت له بصراحة للتو ، فزفر بنفاذ صبر والقى بالوسادة اسفل رأسه في عنف واغتياظ هاتفًا :
_ طيب ياملاذ
انطلقت على شفتيها ابتسامة عريضة لم يراها لأنها توليه ظهرها ، مرت لحظات طويلة حتى أغمضت عيناها مستسلمة للنوم ولكنه لم يدخل النوم لعيناه فنزل من الفراش وهو يتنهد باختناق ، وغادر الغرفة كلها ليمسك بكتاب القرآن الكريم ويجلس على الأريكة بالخارج ثم يبدأ في القراءة بصوت عذب وهاديء ……..
***
سارت ميار وهي تحمل بيديها كوبين من القهوة الساخنة ، كان هو يجلس بحديقة المنزل على مقعد هزاز وثير وكبير يتسع لشخصين ، ويرجع برأسه للخلف مغمضًا عيناه في سكون .
لا تنكر أنها تنجذب له تدريجيًا دون أن تشعر ، وفقط تريد دوما أن تكون بقربه .. تخيفها بشدة هذه المشاعر وتحاول السيطرة عليها ولكنها تفشل في كل مرة هزيمة ساحقة ، وهو ينجح في أن يزيد من اشتعالها الداخلي !! .
اقتربت منه ووقفت أمامه ثم تنحنحنت برقة وهي تمد يدها له بكوب القهوة فانتصب شبه فزعًا في جلسته ، وطالت نظرته لها لثواني قليلة حتى التقط من يدها الكوب وقال بنبرة عادية :
_ شكرًا
رسمت ابتسامة خفيفة وهي تقف بتردد وتحتضن الكوب بيديها ، كانت وقفتها بها شيء من الاضطراب لا تعرف ماذا تقول لتوضح له رغبتها في الجلوس معه .. ولم يكن هو بالأحمق حتى لا يفهم هذا من نظراتها ، فأصدر زفيرًا طويل وافسح لها مكانًا بالمقعد دون أن يتفوه ببنت شفه ، لترمقه هي بنظرة مرتبكة وتجلس بجواره تحملق في السماء بسكوت لدقائق ، وكان الصمت هو سيد الموقف بينهم .. ولكنها تختلس إليه النظرات خلسة دون أن يلاحظ ، وما ادركته من قسمات وجهه أنه متضايق من شيء ، فترددت في البداية وخشيت من أن تسأله فيكون الرد منه قاسي ! ، ولكن حسمت قرارها بعد تفكير عميق وقالت بصوت خفيض ومضطرب :
_ ينفع اسألك مالك ولا مينفعش ؟!
استقرت عيناه عليها للحظات بأعين ثاقبة مستعجبًا سؤالها حتى زاغ بنظره وأجاب بغلظة :
_ لا مينفعش
أماءت بإحراج وعادت تثبت نظرها على السماء ومن ثم عادت تتحدث بعد لحظات ولكن هذه المرة كانت بعفوية دون تفكير وعيناها لا تزال معلقة بالسماء :
_ تعرف إن تقريبا بتولد كل يوم 276 مليون نجم
_ شكًرا على المعلومة .. بس أنا معنديش مزاج دلوقتي للحكاوي اللي ملهاش لزمة دي
رمقته بأسى وهبت واقفة تقول باعتذار :
_ أنا آسفة ياعلاء
أدرك في نفس اللحظة ما قاله فاسرع ومسك برسغها هاتفًا بهدوء :
_ اقعدي .. أنا مقصدش
_ عادي .. أنا هطلع الأوضة فوق وهنام
_ اقعدي قولت ياميار !!
قالها بلهجة شبه آمره فتنهدت بعدم حيلة وجلست من جديد لتجده يسألها بطبيعية بعد وقت قصير :
_ حصل إمتى موضوع الصور ده ؟
حملقت به في ريبة من سؤاله ، ثم أجابت بخفوت وهي لا تنظر له :
_ قبل ما ننزل مصر بأسبوع
_ كان بيحاول يتقرب منك إزاي قبل اللي حصل ؟
ازدادت نظراتها حيرة من إهتمامه بالأمر واسألته ، ولكن لم تعقب وفضلت بأن تجيب عليه دون مناقشة حيث غمغمت بنبرة أكثر خفوتًا :
_ عن طريق إنه يفتح معايا كلام بأي شكل مثلًا ، أو إنه يقرب مني على سبيل إني صديقته المفروض ، أنا في البداية مكنتش فاهمة ده بس بعدين بدأت أفهم تصرفاته وبقيت اتجنبه وابعد عنه
_ وإنتي كنتي تعرفيه منين ؟!!
غضنت حاجبيها بفضول حقيقي هذه المرة حيث سألته بفضول :
_ هو في إيه !! .. إنت إيه اللي فكرك بالموضوع ده دلوقتي ؟!
هتف بصوت رجولي أجش :
_ هتعرفي قريب في إيه .. جاوبي من غير اسئلة دلوقتي
زمت شفتيها بعدم فهم وأجابت عليه كما أمرها :
_ كنا مجموعة اصدقاء من الكلية مع بعض وهو اتعرفنا عليه من فترة قريبة ومكنش في حد بيستلطفه فينا أساسًا
هز رأسه بتفهم ثم هب واقفًا وهم بالانصراف لتعتري طريقه وتقول بفضول حقيقي وحيرة :
_ مش هتقولي في إيه ؟!
_ قولتلك هتعرفي قريب .. أنا طالع الأوضة خلصي قهوتك وتعالي ورايا
ثم تركها واتجه للداخل ، لتظل هي بمكانها تحاول توقع أي شيء ، أو اختراق عقله حتى ومعرفة ماهو الذي ستعرفه قريبًا ، ولكن دون جدوي .. تأففت بقوة في غيظ وجعلت ترتشف من القهوة وهي لا تتوقف عن التفكير مع ذلك !! …….
***
على الجانب الآخر ……
انتفض واقفًا من فرط الغضب وهو يصيح بانفعال هادر ونبرة مرعبة :
_ اتجوزت ومحدش له علم فينا
أجابت زوجته ساخرة بلؤم :
_ ماهي بنت اخوك ماشية على حل شعرها من زمان مش جديد عليها يعني
كانت ريماس تتابع صياح أبيها وازدراء أمها بسكون لا تجيب على أي منهم ، لا ترى في فعل ابن عمها شيء مخالف بالأخص بعد الذي فعله ” جاسر ” معها ، وهناك علاقة شبه منقطعة بينهم منذ ذلك الوقت ، فلماذا تأخذ رأى عمها أو تخبره حتى !! .
تحدثت ريماس بامتعاض :
_ جاسر سافر وشكله ناوي يعمل مصيبة
صاح الأب بسخط امتزج ببعض الاستنكار :
_ وإنتي فكرك إني هسيب بنت أخويا لابن العمايري ده .. أنا لولا سيف وإنه كان واقفلي في الوش وقاطع علاقته بينا بسبب عملة أخوكي المهببة كان زماني جوزتها لجاسر من زمان ، بس خلاص دلوقتي بقى لازم اتدخل
تبادلت زوجته نظرات الريبة مع ابنتها ، ورجعت بعيناها تثبتها على زوجها وتقول بتساءل :
_ هتعمل إيه ؟
_ جهزوا نفسكم عشان هنرجع مصر بكرا ورا جاسر
قالها بصرامة ولهجة لا تقبل النقاش أو الرفض ، ثم غادر الغرفة وتركهم ينظرون لبعضهم بدهشة ، وماهي إلا لحظة حتى أصدرت الأم ضحكة بسيطة وسعيدة قائلة بنظرات ليس بها أي شيء من الود بل كلها نقم وبغض:
_ وأخيرًا هنطلع من ورا عمك وولاده بفايدة !
***
يحتجزها بالمعنى الحرفي !! ، كسجين يقضي عقوبته على ذنب اقترفه .. وهو لا يفهم أنه هكذا يزيد من الفجوة بينهم ولن تعود له أبدًا وستصر أكثر على الانفصال .
ظلت تجوب بالغرفة إيابًا وذهابًا وهي تترنح من فرط العصبية والغيظ ، لا يمكنها البقاء معه بنفس المنزل .. باتت لا تريده معها ، لا تثق به ، ولا تريد حبه ، وفقط تريد شيء واحد وهو نزعه من فؤادها وهذا لن يتم وهي مقيمة معه بمنزل واحد وبعد أن عادت زوجته .. حكت ذقنها وهي تفكر بصوت عالي هامسة ” أكلم بابا وعلاء طيب ! .. لا لا لو بابا عرف هتحصل مشكلة وهيرجعني مصر وأنا مستحيل ارجع ، أعمل إيه ياربي .. أعمل إيه ؟!! ، فكري يايسر .. فكري ” لمعت بذهنها فكرة شيطانية فابتسمت بوعيد له .
رأت الباب يفتح ويطل هو بهيئته من خلفه حاملًا لها الطعام فرمقته شزرًا وهو يقترب باتجاه الفراش ويضع الطعام فوقه متمتمًا بلطف ونبرة مهتمة :
_ كلي يايسر مينفعش تقعدي من غير أكل
قالت بثبات ولهجة بها شيء من الآمر مع نظرات منذرة :
_ مش عايزة حاجة من وشك .. افتحلي الباب وخليني امشي
تنهد بنفاذ صبر قائلًا بإصرار :
_ قولتلك مش هتروحي مكان ، اديني فرصة أخيرة وبعدها احكمي عايزة تكملي ولا تنفصلي
صرخت بهسترية واستياء عارم :
_ إنت مجنون !! ، حابسني وتقولي اديني فرصة .. لا والمفروض اقولك موافقة وهقعد معاك مثلًا
استقرت نظرات حزينة منه عليها فهي لا تفهم شدة شوقه لها وأنه لا يطيق ابتعادها عنه ليوم آخر .. أما هي فهدأت ثورتها في لحظة وقررت أن تبدأ في خطتها .. تحركت ناحيته وهي تقول بقوة ونظرة شرسة :
_ أنا عندي استعداد دلوقتي ابعت لبابا صورك واقوله إنك خنتني وده سبب طلاقنا وابعتله التسجيلات وكمان أقوله على اللي عملته معايا وإنك خلتني اجهض الطفل ومديت إيدك عليا وقولتلي إنك هتسقطني بنفسك لو منزلتهوش ، وشوف بعدها اللي هيحصل بقى ! .. بابا وعلاء مش هيخلوك تحاول بس تقرب مني مش إني أفضل مراتك ، وحتى اخواتك وأمك هيقفوا ضدك ، وهتبقى فعلًا خسرت كل حاجة ، فالبذوق كدا طلعني وخليني ارجع لخالتو وملكش دعوة بيا تاني لغاية ما نتطلق بشكل نهائي
تفعلها .. لا يشك في ذلك ، هو لا يخشى من شيء سوى من ردة فعل عمه .. فإن عرف بكل هذا لن يسمح له بأن يقترب منها مطلقًا كما قالت ، والآن هو لن يستطيع بأن يجازف بالمتبقى من علاقتهم للأبد في حيث أنه يحاول كسبها من جديد ، وإلا سيكون لا مجال للعودة بالفعل هذه المرة إن كشف كل ماحدث بينهم للجميع .
حسن بنظرة تحمل بعض الرجاء والعجز في آن واحد أمام اخطائه التي لا تغفر :
_ يسر أنا مش عايز اخسرك بجد .. بلاش تضغطي عليا من النقطة دي
_ أنا قولت اللي عندي ياتسبني ، يإما صدقني هقوله ومش هيفرق معايا أي حاجة المرة دي وسعتها هتكون إنت الخسران
لحظات طويلة استغرقها وهو يحملق بها ، يخشى خسراتها ، ويريدها معه .. ولكنه فكر من الجانب الآخر بإن أسلوب القهر والإجبار معها لن يجدي سوى النتائج السلبية ، ولن يتمكن من استعادة قلبها بهذه الطريقة أبدًا .. ولكن ماذا عن ” راسل ” هل سيتركها تعود لخالتها وتكون معه دومًا !! ، لا ، هو لا يحتمل بقاء ذلك السمج حولها ، إذا كيف يتصرف حتى يرضي كلاهما ؟! .
تحدث أخيرًا بنبرة رجولية صلبة :
_ تمام موافق .. أنا مش هجبرك على حاجة مش عايزها ، بس خلينا نتفق بينا على اتفاق
ارتخت عضلات وجهها ورفعت حاجبها مستنكرة وهي تجيبه ببعض الفضول :
_ اتفاق !! .. طيب قول خلينا نشوف
هدر بحزم وصوت أجش :
_ خالتك طول ما راسل موجود في البيت مستحيل اوافق تقعدي معاها حتى لو هتقولي كل حاجة لعمي ، فأنا عندي حل أفضل .. أنا ممكن اشوف بيت فيه شقتين وإنتي تقعدي في شقة وأنا في شقة وبكدا مش هتكوني معايا في بيت واحد زي ما إنتي عايزة ، ووعد مني مش هضايقك خالص ومش هقرب منك .. تمام
هتفت بعناد وغضب :
_ لا مش تمام .. ماهو برضوا هفضل في وشك في النازلة والطالعة وأنا مش طايقة اشوفك ، ثم إنك إيه اللي يقعدك معايا هنا ، ارجع مصر !!
_ في شغل هنا هخلصه ولغاية ما اخلصه متتوقعيش إني هسيبك تقعدي في بيت وحدك وفي بلد غريبة .. أو إني اخليكي تقعدي مع الكائن الملزق ده ، وبخصوص إنك هتفضحي كل حاجة أنا لو عايز اتصرف واطلع نفسي من الموضوع نهائي هعملها .. بس أنا مش حابب اجبرك على حاجة زي ما قولت وماشي وراكي زي ما إنتي عايزة لغاية النهاية عشان اثتبلك إني باقي عليكي ومش مستعد اخسرك
لوت فمها بعد اقتناع وقالت باقتضاب :
_ ده العرض فين بقى الاتفاق ؟!
أخذ نفسًا عميقًا وغمغم بثبات تام ونظرة جادة :
_ الاتفاق إن محدش هيكون ليه دعوة بالتاني ، لا أنا هدخل في خصوصيتك ولا العكس ، وكل واحد في حاله .. حلو كدا ولا لسا في حاجة تاني حابة تضفيها ؟!
_ ولما محدش له دعوة بالتاني .. عايزة تقعد في نفس البيت ليه معايا ؟!!
_ عشان تبقي قدام عيني وأكون مطمن .. هااا قولتي إيه ؟
زمت شفتيها بامتعاض وقد بدا عليها أنها اقتنعت ، وحدقت به مطولًا ثم قالت بحدة ونظرات مشتعلة :
_ موافقة بس بشرط .. هتبدأ في اجراءات الطلاق من بكرا بحيث إنك لغاية ماتكون خلصت الشغل بتاعك ده ، تكون الاجراءات خلصت واطلقنا
حسن بضجر ونبرة مرعبة :
_ طلاق لا يايسر .. قولتلك انسي الطلاق ده ، على الأقل دلوقتي حتى
_ يبقى الغي الاتفاق ومش موافقة
تأفف بصوت عالي ونفاذ صبر وهو يمسح على وجهه ، وقرر بأن يسايرها في رغبتها ويقنعها بأنه خضع وقبل شرطها :
_ خلاص يايسر ماشي موافق هبدأ في الزفت .. في حاجة تاني ؟
استدارت تعطيه ظهرها وهتفت على مضض :
_ البيت ده تشوفه من الصبح عشان نروح من بكرا بليل
جز على أسنانه وقال مغتاظًا :
_ حاضر في أي اوامر تاني ؟
_ اهااا اطلع ومتدخلش تاني الأوضة ، عشان لما بشوفك بتعصب
استنشق شهقيًا طويلًا وأخرجه زفيرًا قوي حتى يهدأ من غيظه ، والتفت متجهًا ناحية الباب وانصرف كما طلبت أو أمرت بالأصح !! …..
***
في الصباح التالي …….
كانت تقف أمام المرآة تسرح شعرها غير منتبة له مطلقًا ، بينما هو فكان متمدد على الفراش ويحدق بها شارد الزهن ، أشياء كثيرة تجوب بعقله أولهم حادث أخيها وكانت نفسه تحدثه بأنه قد يكون هو الشخص الذي كان يبحث عنه ، خرج صوته بعد دقائق من الصمت القاتل بينهم :
_ ملاذ هو حصل إيه بظبط لإسلام ؟
التفتت له برأسها وتمتمت بتعجب من سؤاله :
_ قصدك على رجله ؟!
هز رأسه بالإيجاب فقالت بهدوء وهي تعود برأسها للمرآة مجددًا وتكمل تسريح :
_ ما أنت عارف إنه عمل حادث
_ متعرفيش إمتى وفين ؟
انتابها الحيرة حول أمره ، ومع ذلك أجابت بنفس النبرة السابقة :
_ من عشر سنين في منطقة اسمها ( ….. ) تقريبًا ، واللي خبطه منعرفش مين لإن المكان كان طريق فاضي ومفهوش أي كاميرات أو محلات ، يعني هو خبطه وهرب
نفس المنطقة وهو أيضًا لم يبالي وتركه وفر .. الاحتمال الأكبر أن يكون هو ذلك الشخص ، وقد يكون الله سبحانه وتعالى يختبره بأصعب الامتحانات ، من جهة زوجته وحبيبته ومن جهة أخرى أخيها .. انتصب في جلسته وانزل قدماه من على الفراش وهو يحملق في اللاشيء أمامه مهمومًا لدرجة أنه لم يسمعها وهي تسأله بريبة :
_ إنت بتسأل ليه ؟
انتظرت ملاذ لحظات طويلة أن تحصل على رد منه ولكن لا حياة لمن تنادي ، وكأنه تحنط مكانه لا يصدر صوت ولا حركة ! .. قلقت حياله وفهمت بأن هناك شيء ليس بهين يحدث معه ، فنهضت من مقعدها أمام المرآة وتحركت بتجلس بجانبه وتقول باهتمام :
_ زين في إيه مالك ؟!!!
انتبه أخيرًا لصوتها فنظر لها وهز رأسه بالنفي هاتفًا بتشتت ونظرات زائغة بعد أن أدرك سؤالها بصعوبة بسبب شروده ونفسه المضطربة :
_ مفيش حاجة .. أنا هطلع اقعد برا
استقام واتجه ألى خارج الغرفة ، وظلت هي تعلق نظرها على أثره والأسئلة تتناطح في رأسها حول تصرفه الغريب .. تحاول وجود تفسير لنظراته الفارغة ولون وجهه المسلوب منه الدماء ، ولكنها لم تصل لإجابة مقنعة !! ……
***
تنتقل لهنا وهناك بالمطعم وتتابع بعض الأعمال بدقة شديد وتركيز .. لم يتبقى سوى أيام قليلة على الافتتاح والجميع في جلبة ، كانت تمسك بمجلة صغيرة بها أشكال مختلفة من الطاولات بمختلف الألوان .. وغيرها من أشكال والوان لطلاء حوائط .. الخ ، وجدت صعوبة في الاختيار بمفردها ففكرت بأن تذهب لـ ” إسلام ” ليساعدها في الاختيار ويبدي عليها برأيه ، نهضت وقادت خطواتها نحو الغرفة الداخلية في المطعم حيث يجلس .. وقفت أمام الباب وضمت كفها تمدها لتطرق ولكن سماعها لصوته وهو يتحدث في الهاتف ويذكر أسمها ، جعلها تتسمر مكانها وتسمع مايقوله باهتمام …..
_ رفيف مش هتقبل .. أنا خايف يامعاذ ومش مستعد حاليًا إني اواجه رفضها اللي هو أكيد هيحصل
” عن أي رفض يتحدث ؟! ” دار السؤال في ذهنها كالآتي ، وعادت تصغي أذانها مجددًا لتسمع جملته التالية بعد لحظات من السكوت وتلحقها الصدمة فتجمدها كما هي في وقفتها .
_ طيب .. طيب لما يرجع زين هكلمه واطلب إيدها
وكأن صاعقة من السماء اصابتها بأرضها حيث فغرت شفتيها وعيناها بذهول .. وعقلها يجد صعوبة في استيعاب ما دخل لأذنيها للتو ، واقنعت ذهنها بسخافة حتى تهدأ من روعها بأنه لم يكن يقصدها بالتأكيد ، ثم عاد تقول ” ولكنه نطق اسمي وقال سينتظر عودة زين !! ” .. هزت رأسها بالنفي رافضة تصديق ما سمعته وتراجعت للخلف حتى ترحل دون أن يشعر بها ولكنها اصطدمت بمزهرية صغيرة وأصدرت ضحيجًا مرتفعًا ، انتفضت كالتي لدغتها عقرب واستدارت بكامل جسدها تحدق بالمزهرية في صدمة وجزت على أسنانها بغيظ متمتمة :
_ مش وقتك دلوقتي
همت بأن تتركها وتفر قبل أن يخرج ولكنها سمعت صوته يقول بهدوء :
_ رفيف !
اغمضت عيناها بقوة مقوسة وجهها بارتباك وغيظ من نفسها ، لتأخذ نفسًا عميقًا وتلتفت بجسدها إليه مبتسمة ببلاهة وتوتر ملحوظ ، طال نظرهم لبعضهم هو ينتظر منها أن تبدأ وهي لا تعرف ماذا تبرر حتى تفر من اسألته .. فقالت بعد لحظات من الصمت القاتل بنبرة متلعثمة :
_ أنا كـ.. كنت جاية أااا… كنت جاية .. كنت جاية ليه ؟!!
لم يتمكن من حجب ضحكته حيث أجابها ضاحكًا ببعض الجدية :
_ مالك يارفيف ؟!
تمالكت نفسها قليلًا وهتفت بإيجاز وارتباك مازال واضح :
_ آه كنت جاية اوريك حجات وآخد رأيك بس سمعتك بتتكلم في التلفون وكنت ماشية .. مش مشكلة لما تخلص مكالمتك نبقى نتكلم
وفي اللحظة التالية بضبط استدارت وفرت من أمامه كالسهم فظل هو بمكانه يفكر بما قالته بالآخير وسؤال واحد يطرحه في ذهنه ” هل سمعت شيء ياتُرى ؟! ” .
***
طرق على الباب كان قوي بعض الشيء .. غضنت حاجبيها باستغراب ثم جذبت حجابها وذهبت لتفتح ، فوجدته الحارس ويحمل بيده علبة متوسطة الحجم من اللون الوردي ، نقلت نظرها بينه وبين العلبة بريبة حتى رأته يمد يده بالعلبة هاتفًا برسمية :
_ في واحد جاب العلبة دي ياهانم وقال إن كرم بيه اللي بعتها
ضيقت عيناها بحيرة وتعجب عند سماعها لاسم زوجها ، ولكنها قالت بجدية وهي تأخذها منه :
_ طيب ياسعيد روح إنت خلاص
أماء لها بإيجاب واستدار ليتجه إلى باب المنزل الرئيسي يكمل مهتمه وهي الحراسة .. أما هي فأغلقت الباب وعيناها معلقة على العلبة التي بيدها وتفكر بفضول مالذي بداخلها ولما يرسلها كرم !! ، كانت على وشك ان تفتح الشريط الستان الملفوف حولها حتى تفتحها ولكن سمعت رنة هاتفها الصاخبة بالغرفة فاسرعت إليه لتمسك به وتتطلع إلى اسم المتصل وتبتسم بتلقائية ثم تجيب عليه في رقة :
_ نعم !
اتاها صوته الحاني وهو يقول بترقب :
_ وصلت العلبة ؟
نظرت إليها في يدها وهي تجيبه بتساءل وعينان ضاحكة :
_ اممم وصلت فيها إيه دي بقى ؟!
تمتم بنبرة عاطفية قد تكون جديدة بعض الشيء وامتزجت ببعض المكر :
_ افتحيها وهتعرفي
همت بان تجيب عليه ولكن سمعته يهتف بنبرة متعجلة وخافتة :
_ شفق أنا هقفل دلوقتي ، عشان في واحد تبع الشغل كنت مستنيه ووصل .. لما اخلص هكلمك
_ تمام
انهت معه الاتصال وجلست على الفراش ثم بدأت في فك الشريط ورفعت الجزء العلوي من العلبة فرأت رداء مطوي بانتظام داخلها كان من اللون الرصاصي ، ابتسمت باتساع واخرجته تفرده أمامها بتشويق لرؤيته كاملًا .. كان قصير يصل للركبة ونصفه العلوي مطرز بورود من نفس لونه وبأكمام طويلة وشفافة ولديه فتحة ظهر واسعة قد تظهر نصف ظهرها ، فغرت عيناها بإنبهار من جماله ووقفت تضعه على جسدها تنظر لنفسها في المرآة بوجه ضاحك ، فصك سمعها صوت رسالة وصلت للتو على هاتفها منه لتفتحها وتقرأ ما دونه بها ” البسيه بليل يا أميرتي ” ، كادت ابتسامتها الخجلة تشق طريقها حتى اذنيها ، وبداخلها تتساءل عن السبب الذي دفعه لشرائه ؟ ، ولماذا ترتديه بالأمس خصوصًا ؟ ………
***
لا يمكن أن يكون هو !! .. هل كان يبحث عنه طوال هذه السنوات وهو قريب منه ! ، والمشكلة الكبرى تكمن بزوجته كيف سيخبرها وسيبرر لها الأمر .. كيف سيخبرها بأنه السبب في عذاب أخيها لعشر سنوات كاملين ، هل ستتفهمه أم ستعصف وتغضب وتتركه ؟ .. وماذا إن عرفت بأنه كان مدمن وفي تلك الليلة كان ليس بوعيه وعائدًا من سهرة مع اصدقائه ، حتمًا لن يمر الأمر مرار الكرام وستقع الفجائع بسببه ، وهو ليس لديه الجرأة ليخبرها بكل شيء !! .
كان يقف بالمطبخ وبيده كوب الماء يرتشف منه وعيناه حمراء كالدم لا يرى أمامه من فرط غضبه ونقمه على نفسه المذنبة ، ولوهلة تمنى في قرارة نفسه وقال ” ليتني لم اقابلك ولم اتزوجك ، ليتنا تطلقنا ! ” .. تفاقم سخطه حتى وصل لذروته فالقى بالكوب الزجاج على الأرض في عنف ليتناثر إلى جزئيات صغيرة في كل مكان .
أتت مهرولة على أثر صوت كسر الكوب وقبل أن تخطو خطوة واحدة إلى داخل المطبخ اتاها صوته الخشن وهو يهتف شبه آمرًا :
_ خليكي عندك متدخليش !
ثم انحنى على الأرض وأخذ يلم قطع الزجاج الكبيرة بيده فقالت هي باهتمام :
_ زين بتعمل إيه هتتعور !!
نظرت على الأرض وسارت إليه في الداخل بحرص حتى لا تدخل زجاجة في قدمها وقبل أن تصل إليه وجدته يرفع يده عن الأرض بألم ويمسك بكفه الذي جرح وبدأ يذرف الدماء ، فشهقت بهلع وانحنت إليه تهدر معاتبة في استياء من عناده :
_ شوفت أهو اتعورت ، قوم تعالى معايا هحطلك مطهر ولازق طبي
هب واقفًا وفتح صنبور الماء يضع يده اسفله ليزيح الدماء هاتفًا بصلابة :
_ مش مستاهلة هيقف وحده
عقدت حاجبيها بريبة من أمره وقالت بحزم وهي تسحب كفه من أسفل الماء هاتفة :
_ كدا هيزيد مش هيقف .. تعالى يلا
وجذبته من يده ناحية الغرفة شبه عنوة واجلسته على الفراش .. ثم جذبت المطهر وقطنة وجلست بجواره تمسك بيده وتضع عليها القطنة التي سكبت القليل من المطهر فوقها ، فاغمض هو عيناه متألمًا ، ثم رفعت يدها ووضعت اللازق الطبي على الجرح وقالت بتدقيق وخفوت بعد أن ثبتت نظرها عليه :
_ مالك يازين إنت مضايق من حاجة ؟!
مسح على وجهه وقال مهمومًا بزفير قوي :
_ قولي في إيه مش مضايقك
اقتربت منه أكثر ومدت اناملها لذقنه تدير وجهه تجاهها هامسة بنبرة حانية وأعين دافئة :
_ احكيلي ياحبيبي وارمي همومك عليا
لمعت عيناه بالدموع وغمغم بيأس وخوف :
_ ياريت اقدر احكيلك .. بس صدقيني مش هقدر !
_ ليه ؟!!
سألت باستغراب فادرك هو ما قاله ولملم شتات نفسه ليظهر الثبات أمامها ويحتضن وجهها بين راحتي كفيه ثم يقترب بشفتيه من جبهتها ويطبع عليها قبلة رقيقة ، ويترك وجهها ليلف ذراع حول خصرها والأخر أعلى ظهرها يضمها إليه ويدفن وجهه بين ثنايا رقبتها يلثمها بقبلات متعددة وحانية هامسًا بصوت عاشق :
_ بحبك أوي ياملاذي
ضيقت عيناها بحيرة من تصرفاته الغريبة ونبرته المختلفة ولكنها ابتسمت بحب وهمست تبادله نفس المشاعر :
_ وأنا كمان بحبك ياروح ملاذك
***
انتهت من ارتداء ملابسها والقت نظرة أخيرة على مظهرها في المرآة قبل أن تستدير وتغادر الغرفة .. هبطت الدرج بثقة وثبات حتى وصلت إلى آخر درجاته فرأته يجلس على مقعد وبيده كوب الشاي خاصته يرتشف منه بهدوء ، تصنعت عدم رؤيته وأكملت طريقها باتجاه الباب ولكنها سمعت صوته الرجولي يهتف :
_ يسر رايحة فين ؟!
وقفت وتأففت بخنق لتجيبه دون أن تلتفت له :
_ حاجة متخصكش
واستمرت بسيرها حتى وصلت إلى الباب ومدت يدها للمقبض ، فجذبها هو قبل أن تفتحه هاتفًا بصرامة :
_ يعني إيه ميخصنيش !!
سحبت يدها بعنف هاتفة بقوة :
_ لو فاكر الاتفاق اللي اتفقناه امبارح كان محدش ليه دعوة بالتاني صح ولا لا .. يعني إنت ملكش حق تسألني
ليس لديه حق !!! .. كان على لحظة وسيفقد أعصابه ويذكرها بأنه زوجها ، ولكنه هو الذي اختار هذا الاتفاق وسيضطر بأن يلتزم بشروطه إلى النهاية .
تمتم بهدوء مزيف :
_ صح يا يسر .. بس مفهاش حاجة لو قولتيلي رايحة فين وخصوصًا إننا مش في مصر
لوت فمها وقالت باقتضاب :
_ رايحة لخالتو اتصلت بيا وكانت عايز تجيني وتاخدني هي وراسل ، بس قولتلها أنا هجيلك وهتكلم معاها وافهمها
تجاهل سماعه لاسم ذلك السمج .. وقال بنبرة حازمة :
_ طيب تعالى هوصلك يلا
صاحت به مندفعة بغضب :
_ وتوصلني ليه !! .. حسن ابعد عني أنا مش طيقاك أساسًا
ابتعد من أمامها وعاد إلى مكتبه ليجذب مفاتيحه وهاتفه ويلحق بها .. كانت على وشك أن تقف سيارة أجرة ولكنه جذبها من ذراعها هاتفًا وهو يشير بعيناه على السيارة :
_ يلا
دفعته صارخة بانفعال :
_ متلمسنيش فاهم ولا لا
رفع كفيه عنها متمتمًا باستسلام واعتذار :
_ أنا آسف .. يلا اركبي
رمقته باشمئزاز ثم تحركت باتجاه الشارع واوقفت سيارة لتستقل بها غير مبالية له .. كور قبضة يده يجاهد في السيطرة على طوفانه العاتي وهو يرى تلك السيارة تتحرك بها .. التفت باتجاه سيارته وركلها بقدمه في عنف يفرغ بها شحنة غيظه المكتظة بداخله ويتمتم متوعدًا وهو يفتح الباب ليستقل بمقعده المخصص للقيادة :
_ ماشي يايسر .. أنا وإنتي والزمن طويل لما نشوف أخرة عنادك ده
ثم حرك محرك السيارة وانطلق وهو يكمل وعيده لنفسه مهمهمًا :
_ قال اطلقك !! .. تبقى بتحلمي ، ودلوقتي جه دوري عشان اوريكي الجنان على أصله !!
***
انضم إليها وجلس على المقعد المقابل إليها في الطاولة .. فتحاشت هي النظر إليه بارتباك ملحوظ في قسمات وجهها ، مما جعل الشك يتعشش أكثر داخله بأنها قد سمعت حواره مع صديقه ، وبالرغم من ذلك لم يستمع لأفكاره واقنع نفسه بأن الأمر لا يخص ذلك الشيء .. سألها بابتسامة هادئة :
_ هااا وريني عشان اختار معاكي
أماءت له برأسها وفتحت المجلة ثم وضعتها في منتصف الطاولة بينهم وبدأت تملي عليه رأيها في بعض الأشياء ليشاركها هو برأيه الذي كان متفق معها في بعض الأشياء والآخر مختلف ، وما لاحظه أن ارتباكها لم يهدأ بل كما هي على وضعها فانتابه الفضول بشدة حول السبب ليسألها بوضوح دون مراوغة :
_ رفيف هو إنتي سمعتي كنت بقول إيه في التلفون لما جيتي ؟
تسارعت نبضات قلبها وشحب لون وجهها ، انعقد لسانها ولم تجد الكلمات المناسبة لتجيبه بها ، طال صمتها لثواني طويلة وهي مازالت في اضطرابها لا تتمكن من الفرار ، فاصابتها حالة من الغضب .. ليست عليه بل من نفسها حيث وجدت نفسها تهتف شبه منفعلة وبتلعثم :
_ اسـ.. اسمع إيه يعـ.. يعني ، ثم إن قصدك إيه يابشمهندس إني سمعت حاجة .. هكون بتصنت عليك مثلًا ولا إيه !!
قالت آخر جملها وهبت واقفة ليسرع هو ويستقيم من مقعده متمتمًا بصدق واعتذار :
_ لا والله مش قصدي كدا أبدًا ، أنا آسف حقك عليا لو ضايقتك ، ممكن تقعدي عشان نكمل الشغل
حدجته بأعين زائغة وبداخلها تحمد ربها بأنها تمكنت من الهرب منه ! .. ثم جلست مجددًا وهو يقسم بداخله أن هناك شيئًا ليس بطبيعًا بها ، وحتمًا سمعت شيء ويجعلها متوترة هكذا .. لم يشغل تفكيره كثيرًا الآن بهذا الأمر حتى لا يزعجها أكثر وأكملا عملهم برسمية شديدة كالعادة وبعد انتهائهم هي رحلت أولًا وتركته يفكر ويفكر .. ليس بما حدث اليوم فقط ، بل بكيف سيفاتح ” زين ” بأمر الزواج وماذا سيفعل .. وهل ستوافق وتقبل به أم سترفض كأى امراة بمحلها !! …..
***
التقطت من كف خالتها كوب العصير وارتشفت منه بهدوء ليأتيها صوت خالتها الغاضب :
_ هو لعب عيال يعني إيه يطلقك ويردك
يسر بخفوت :
_ خالتو أنا مبقتش قادرة اعيش مع حسن أو بالأحرى معنديش استعداد إن آجي على نفسي عشان خاطره تاني أو اغامر باللي باقيلي من كرامتي ، وهو ميستهلش أساسًا
قالت الخالة في ضجر :
_ ولما هو ميستاهلش بتقوليلي إنك هتقعدي معاه دلوقتي ليه !!
هيمن عليها الصمت للحظات وهي تبحث عن اجابة تقنع بها نفسها قبل محاولتها لاقناع خالتها ، بلا جدوي ! .. اجلفت نظرها أرضًا وهي تقول بأسى :
_ مش عارفة
_ لو بس تريحيني يابنتي وتفهميني إيه اللي حصل بينكم
تنهدت طويلًا وقالت بنبرة بائسة :
_ مش هتفرق سواء حكيت أو لا ياخالتو .. أنا بس هشوف اخرتها معاه ، وافقت اقعد معاه الفترة دي بس لغاية مانتطلق
ملست على كفها بحنو هامسة في نظرات حانية :
_ ربنا يصلح حالكم يابنتي .. أكيد ميرضناش أنا وابوكي وأمك نشوفك مطلقة .. وطالما إنتي عايزة تقعدي معاه وتديله فرصة تاني براحتك
تشدقت يسر بحدة وغيظ :
_ لا أنا مقولتش هديله فرصة .. ومستحيل اديله فرصة قرار الطلاق قرار نهائي بنسبالي .. ليه اديله فرص تاني عديم الاحساس والغبي ده ، أساسًا هو ميستهلش الحب اللي حبتهوله واللي عملته عشانه
ضحكت خالتها بخفة على نقمها منه وطريقتها العدوانية وهي تتحدث عنه ، ثم هبت واقفة وقالت وهي تتجه ناحية المطبخ :
_ طيب تعالي هوريكي كام حاجة عملتها
استقامت ولحقت بخالتها ، وتتمتم لنفسها مستنكرة باستياء ” اديله فرصة ! .. هو أنا عبيطة عشان اسمحله تاني يستغل حبي ليه !! ” سمعت صوت خالتها وهي تصيح منادية عليها أن تأتي فاسرعت في سيرها تجاه المطبخ …..
***
في المساء………
كان يجلس أمام المسبح وينزل قدميه في الماء .. ينحني بظهره للخلف مستندًا على كفوفه الموضوعة على العشب القصير وعيناه معلقة على السماء يتابعها بشرود ، فخرجت هي من المنزل وكانت ترتدي منامة فطنية قصيرة وضيقة تصل إلى فخذيها ، اقتربت منه حتى جلست بجواره وانزلت هي الأخرى قدميها في الماء متمتمة في رقة :
_ سرحان في إيه ؟
لم ينزل نظره عن السماء حيث أجابها بهدوء تام ونبرة جادة :
_ فيكي
ضيقت عيناها ومن ثم رسمت ابتسامة عريضة على شفتيها لتجيبه بفضول :
_ بتفكر في إيه فيا بقى ؟!
لم تجد منه رد وكان ساكنًا كما هو لا يتحرك ، فلوت فمها بيأس وفهمت أنه لا يزال مهمومًا ، بالرغم من أنها لا تعرف سبب ضيقه إلا أنها لم تضغط عليه وفضلت تركه على راحته حتى يشعر بنفسه مستعد لكي يسرد لها مايغضبه ، ولحين هذا الوقت بالتأكيد لن تتركه مهمومًا هكذا .. ابتسمت بخبث ثم لفت ذراعها حول ظهره من الخلف متصنعة معانقته وبحركة غدر منها لم يكن متوقعها .. القت به في الماء فالتقط انفاسه بعد أن أخرج رأسه من أسفل الماء ومسح على وجهه يزيح الماء عنه ويرجع خصلات شعره للخلف ، استقرت منه نظرة نارية عليها بالأخص بعدما رآها تضحك وتقول بشماتة :
_ أيوة الميا حلوة وهتخليك تفك بدل ما أنت قالب وشك من الصبح في وشي وكأني أنا اللي مزعلاك
ثم انحنت للأسفل تضع يدها في الماء وترشها عليه وهي تضحك قائلة بمشاكسة :
_ اضحك اضحك !!
كانت نظراته لها مغتاظة فمد يده من اسفل الماء وجذبها من قدمها لتسقط معه فيسمع انينها وهي تهتف :
_ اووووف الميا ساقعة أوي
نكزته في كتفه بقوة مغتاظة وهي تهدر :
_ طلعني طلعني بردانة
تمتم بلؤم مبتسمًا :
_ اضحكي يلا مش الميا حلوة
احتكت اسنانها ببعضهم وعادت تلكمه في كتفه من جديد وهي تصيح :
_ أنا غلطانة إني عايزة افرفشك
أخيرًا ضحك بصوت مرتفع ولف ذراعه حول خصرها يجذبها إليه ويبعد خصلات شعرها المبتلة عن وجهها وعيناها متمتمًا في عشق وهو يلتصق بجبهته على جبهتها :
_ بحبك
تلاشي غضبها في لحظة ولاحت بشائر الابتسامة الواسعة على شفتيه وهمست بعاطفة جيَّاشة :
_ وأنا كمان
اغار عليها يدفن وجهه بين ثنايا رقبتها يلثمه بقبلات متفرقة فاطلقت هي ضحكات متتالية ومرتفعة محاولة إبعاده وهي تهتف من بين ضحكاتها :
_ بس يازين دقنك بتزغزغ والله
سمعت همسه الماكر مع ابتسامته الواسعة وغمزة عيناه :
_ دقني !!!
امسكها من خصرها ورفعها لأعلى لتجلس على حافة المسبح وخرج هو خلفها ثم انحنى إليها وحملها متجهًا به للداخل فقالت هي بترقب لسماع الإجابة وبأعين زائغة :
_ في إيه ؟!
_ في كل خير ياحبيبتي .. مش إنتي اللي كنتي عايزة تفرفشيني
مالت برأسها للخلف وهي تضحك بعدم حيلة حين فهمت بأن هي من ايقظته من خموده وستتحمل النتائج .. سار بها حتى وصلا للغرفة ودخلا لتبدأ ليلتهم الرومانسية ! ……
***
ترجلت من السيارة أمام منزل مكون من طابقين أشبه بمنزل خالتها بالضبط ، راته يتحرك باتجاه الباب الحديدي فسارت خلفه بخطوات ثابتة ووقفت تنتظره يخرج المفاتيح ليدخلها في القفل ويفتح الباب ، سبقها هو أولًا بالدخول ثم لحقت به واغلق الباب الحديدي من جديد ، فرأت بمجرد دخولها باب شقة عريض من اللون البنى وعلى الجانب سلم يرتفع للطابق الثاني والشقة الثانية .. لفت رأسها ناحيته وقالت بقوة :
_ إنت هتقعد هنا صح ؟
هز رأسه بالإيجاب وواضح عليه علامات الخنق من ذلك الوضع ولكنه مضطر حتى يستطيع إصلاح علاقتهم تدريجيًا وليثبت لها ندمه الحقيقي ، صعد الدرج متجهًا للطابق الثاني وهو يقول بصلابة :
_ تعالي عشان اوريكي الشقة اللي فوق
صعدت الدرج خلفه حتى وصلا أمام باب الشقة الثانية فأخرج المفتاح ووضعه في القفل لينفتح الباب وتدخل هي أولًا هذه المرة ثم هو .. ترك الباب مفتوحًا ولحق بها وهي تتجول في انحاء الشقة المكونة من غرفتين وحمام متوسط مع مطبخ كبير نسبيًا ، وقفت في منتصف المنزل وقالت بحزم :
_ تمام يبقى من بكرا إن شاء الله هتبدأ في الاجراءات ومتنساش اتفاقنا
حدجها بصمت للحظات طويلة يدقق النظر في عيناها بحثًا عن أي نور يبعث الأمل في نفسه بأنها لا تزال تحمل له الحب في أعماقها ، لكنه لم يرى سوى جمود مشاعر ونظرات جافة فغمغم بأسى :
_ أنا مش وحش يايسر .. أنا يمكن أكون اناني وعندي عيوب كتير وإنتي مشوفتيش غير عيوبي مشوفتيش غير حسن القاسي والمغرور والأناني ، وأنا عايزك تديني فرصة عشان اخليكي تشوفي حسن مختلف تمامًا عن اللي تعرفيه واحد إنتي متعرفهوش ومحدش أصلًا يعرفه
رمقته بعينان عاجزة ومنكسرة لتجيبه هذه المرة برزانة وهدوء :
_ كل اللي حصل بينا غلطة بداية من جوازنا وحتى الآن ، احنا مننفعش لبعض أنا كنت باجي على نفسي عشان خاطرك وبقول هيتعدل وصبرت على معاملتك بس ملقتش منك فايدة فمتقولش دلوقتي إنك عايز ترجعني وإنك هتكون شخص مختلف .. اللي شوفته منك كفاية أوي وكافي إنه يخليني مثقش فيك أبدًا ، بالمختصر المفيد أنا بقيت بكرهك ياحسن
استفزته جملتها الأخيرة وهيجت عواصفه حيث حاوطها من ذراعيها وهو يهزها ويثبت عيناه على عيناها هاتفًا باصرار :
_ متقوليش إنك بتكرهيني مستحيل اصدق .. قوليها وإنتي بتبصي في عيني .. قولي بكرهك !
اطالت النظر في عيناه بسكون ، أثرتها نظراته وعيناه واحست بأنها ستعانقه بدلًا من أن تقل له اكرهك ، ولو انتظرت للحظة أخرى لخرت بين ذراعيه مستسلمة لشوقها له .. فانقذت نفسها ودفعته بعيدًا عنها بعنف صارخة في انفعال هادر وتحذير لا يحمل التهاون :
_ قولتلك مليون مرة متلمسنيش .. إياك تقرب مني وإيدك دي لو لمستني تاني ياحسن هقطعالك .. اطلع برا وامشي يلا
لم تقلها .. فشلت والسبب لا يحتاج لشرح ، فهي لم تتمكن من نزعه من قلبها ، مازالت مشاعرها حية وقلبها ينبض كلما تراه .. فقط كل ما في الأمر أنها رائعة في القسوة وتصنُّع الكره والبغض ، تنجح في إظهار مشاعر النقم بمهارة وتتمكن من التحكم في زمام عواطفها بإتقان !! .
وجدها تدفعه بعصبية صائحة :
_ بقولك امشي
لملم شتات قلبه الممزق واستدار مغادرًا الشقة بأكملها فاسرعت هي خلفه واغلقت الباب بالمفتاح ثم جثت على الأرض وانفجرت باكية بعنف ثم وضعت كفها على بطنها وتمتمت بصوت مبحوح محدثة طفلها :
_ ميستهلش اديه فرص .. ميستهلش يعرف بوجودك حتى .. كسرني وودمرني وكان عايز يقتل ابنه ، ومنتظر مني دلوقتي اصدق ندمه وإنه اتغير !!
وصل هو أمام باب شقته وفتح الباب ثم دخل واغلقه خلفه متجهًا إلى الغرفة بوجه بائس وحزين ، لكن صك سمعه صوت رنين الهاتف فامسك به واجاب بعد أن رأى بأنه رقم مصري :
_ الو
اتاه صوت طاهر الحازم وهو يهتف باستياء :
_ بتعمل إيه في امريكا ياحسن ؟
_ أنا آسف ياعمي عارف إني كان لازم اقولك بس ….
قاطعه طاهر وهو يصرخ بصوت جهوري :
_ بس إيه !! .. هو لعب عيال عشان تطلق وقت ما تحب وترد وقت ماتحب
تنهد الصعداء بعبوس وتمتم بنبرة صادقة وبها بحة :
_ غلطت لما طلقتها وندمت ندم عمري .. مقدرتش استحمل بعدها عني ياعمي والله وحشتني أوي ومكنتش هقدر اكمل الاجراءات ، ولما عرفت إنها سافرت مع راسل اتجننت وسافرت وراها علطول ورديتها …
صمت لثلاث ثواني ثم استرسل حديثه باعتراف لاول مرة يعترف به :
_ أنا بحب مراتي ياعمي ومش عايزها تبعد عني
يستطيع القول بأن عاصفة عمه الهائجة قد هدأت قليلًا وأكمل بغضب لكن اقل :
_ ومفكرتش في ده ليه قبل ما توصل الحال بينكم للوضع ده .. أنا كنت شايف حالة بنتي إزاي كانت متدمرة ومستحيل اسمحلك توصلها للحال ده تاني
قال مسرعًا في صدق وهو يقطع الوعود :
_ لا صدقني مستحيل ازعلها واكسرها تاني .. أنا أساسًا جيت عشان اخليها تسامحني ومش هنرجع مصر إلا وكل حاجة بينا رجعت زي الأول .. أنا عايزك بس تسمحلي وتصدقني أنا المرة دي بجد عرفت قيمتها كويس ولا يمكن اخسرها تاني ، وعد مني ياعمي مش هزعلها ابدًا
لم يجد اجابة من عمه للحظات حتى هتف بقبول بعد أن احس بأنه صادق حقًا :
_ ماشي ياحسن .. بس لو حصل واتكرر وبنتي جاتلي زي المرة اللي فاتت مش هيهمني وأنا بنفسي اللي هاخدك على المأذون وهننهي كل حاجة في وقتها
_ اطمن مش هيتكرر تاني
_ لو يسر جمبك اديني اكلمها
_ لا مش جمبي الصبح هتصل بيك واخليك تكلمها .. أنا أساسًا كنت بتكلم معاها وبحاول معاها بس هي رافضة تديني فرصة حتى فسبتها ومشيت لما اتعصبت
هتف طاهر بحكمة وهدوء :
_ لو إنت بتحبها بجد يبقى اثبتلها ده بالأفعال مش الكلام
ثم انهي الاتصال فانزل حسن الهاتف من على اذنه وتطلع إلي شاشته بتفكير فيما قاله عمه بالآخير !! …..
***
وصل إلى المنزل .. ترجل من سيارته وقاد خطواته باتجاه الباب ، فتحه بهدوء ودخل لينزع عنه حذائه بجانب الباب ويضعه في الرفوف الصغيرة المصنوعة من الخشب ( جزامة ) .. كالعادة سكون تام في المنزل فهتف وهو يسير ناحية الغرفة :
_ شفق !!
لم يجد إجابة منها ، واصل سيره حتى وصل للغرفة وفتح الباب ببطء وادخل جزء من رأسه ينظر لها ، فرآها تجلس على الأريكة الصغيرة وترفع قدميها بجانبها ومستندة برأسها على ذراع الأريكة ونائمة .. دخل بجسده كله واغلق الباب بحرص شديد واقترب منها وهو يطالعها مبتسمًا بإعجاب فقد ارتدت الرداء الذي قام بشرائه لها وتجهزت لعودته ولكنها لم تتمكن من مقاومة النوم حين تأخر فغلبها ونامت ، جلس القرفصاء أمامها وقد ارتفع الرداء قليلًا حتى اظهر عن نصف قدمها ، شعرها المائل للكستنائي والناعم يغطي نصف وجهها ، تمتلك ملامح طفولية بريئة ووجه صغير ورائع ، لديها شفاه صغيرة وردية مثيرة ، مع عينان واسعة بعض الشيء وبشرة نقية وناعمة .. هي حقًا كالملاك .
قرر أن يهدم ذلك الحاجز الذي يصنعه هو بينهم .. تمكنت من السيطرة عليه في فترة قصيرة وأصبح شبه متأكدًا من مشاعره تجاهها وما يؤكد له هذا رغبته الدائمة بها ، انجذابه لرقتها وجمالها وفي كل مرة ينجح بصعوبة في السيطرة على رغباته ، وفشل في ليلة عيد ميلاده وكالمغيب الذي لا يشعر بشيء فعلها .. وليكون أكثر وضوحًا تلك القبلة ايقظت فطرته الرجولية واصبح لا يكتفى بمجرد قبلة !! ، ولذلك ارسل لها ذلك الرداء حتى يشهد على بداية حياتهم واعترافه ! .
مد انامله يبعد خصلات شعرها بلطف ففتحت هي عيناها واعتدلت حتى جلست وقالت وهي تفرك عيناها بخجل :
_ أنا آسفة .. استنيتك كتير ومقدرتش اقاوم والله
انتصب ووقف ثم جلس بجوارها وتمتم بحنو ونظرات ساحرة :
_ بتتأسفي علي إيه !! ، أنا اللي المفروض اتأسف لإني اتأخرت عليكي وأنا اللي قايلك البسي الفستان واستنيني
_ أنا مش عارفة نمت إزاي .. مكنش عليا النوم خالص
رأته يمعن النظر بها بابتسامة ونظرات تراها لأول مرة ، ورغم أن نظراته وابتسامته التي تسحرها جميلة إلا أنها اربكتها واخجلتها فقررت التخلص من هذا الوضع حيث وثبت واقفة وارجعت خصلات شعرها خلف أذنها وتدور حول نفسها في حركة دائرية وهي تممايل يمينًا ويسارًا هاتفة بسعادة وفرحة طفولية :
_ عجبني أوي الفستان وشكله حلو جدًا عليا مش كدا ؟!
تأملها وهي تتمايل كالفراشة وقد زادت الابتسامة العاشقة اتساعًا على شفتيه ، كأن الرداء صنع خصيصًا لها ، جمالها ليس طبيعيًا بل ساحر ومثير وجذاب .. ولم تكتفي بجمال الفستان عليها بل تركت العنان لشعرها الرائع ليتطاير معها وهي تتمايل فيجننه أكثر .. تجمدت بأرضها حين رأت نظراته وقد تفاقم خجلها الضعفين فارجعت ذراعيها للخلف تفرك باناملها في استحياء وتوتر ملحوظ مع أعين مضطربة ، ضحك بخفة بعدما رأى توترها ووقف يقترب منها ويلف ذراعه حول خصرها هامسًا في هيام ونظرة تأثر أقوى النساء :
_ شكله مش حلو بس .. لا ده يسرق العقل هو واللي لابساه
طرق قلبها كالمطرقة وانعقد لسانها ، فابتلعت ريقها بصعوبة واحست بارتخاء اعصابها ولو استسلمت لسقطت بين ذراعيه فاقدة الوعي ، ولكنها تمالكت نفسها وحاولت عدم إظهار تأثرها وخجلها حيث سألت بنبرة عادية مزيفة :
_ إنت اشمعنى اخترت اللون ده ؟!
_ شوفتك قبل كدا لابساه وعجبني أوي عليكي
سكتت تفكر وتستعيد الوان واشكال ملابسها ثم تجيبه باستغراب :
_ بس أنا معيش اللون ده في هدومي خالص !!
استقرت في عيناه نظرة لئيمة وهمس بنبرة تحمل معاني ليست بريئة :
_ معاكي
ضيقت عيناها بفضول حقيقي وقالت بحيرة ورغبة في معرفة الذي يقصده :
_ إيه هو ؟!!
انحنى لمستواها قليلًا وهمس في أذنها بشيء جعلها تفغر فمها وعيناها بذهول ويتحول وجهها كله لبندورة حمراء وليس وجنتيها فقط .. رجع برأسه للخلف واجابها ضاحكًا يتصنع البراءة بعدما رأى تأثير ما قاله عليها :
_ متفهمنيش غلط أنا شفته بالصدفة مكنتش اقصد يعني
لا زالت على حالتها تطالعه بدهشة وحياء حتى سمعها تقول أخيرًا مصدومة :
_ كرم إنت طلعت منحط !!!!
زم شفتيه بضحك يتصنع الحزن والأسف وهو يغمغم بإيجاب :
_ مع الأسف
رغم خجلها احست بأن ابتسامتها ستنطلق على طريقته وهو يجيبها بأسف مزيف ويمثل البراءة أمامها ، فاستدارت فورًا وفرت هاربة للحمام تختبأ به من وضعها المحرج ، وكلما تتذكر همسه في أذنها تندهش أكثر ويتضاعف استحياءها ………
***
فتحت هدى الباب ودخلت وسارت ناحية فراش ابنتها التي كانت جالسة وتتصفح هاتفها الذكي اللمس .. جلست بجانبها وقالت في صوت منخفض :
_ بت يارفيف
اجابتها دون أن تنظر لها :
_ نعم ياماما
_ إنتي كنتي قاعدة مع حسن قبل ما يسافر ماقالكيش هو رايح امريكا ليه ؟!
تركت هاتفها وابتسمت باستمتاع عندما اتخذ الحديث هذا المجرى ، نظرت لأمها وقالت بخبث :
_ إنتي تتوقعي سافر ليه !!
_ لـــيــه ؟!!
سألت هدى بكامل العفوية وعدم الفهم لتهتف رفيف بجدية :
_ يادودو ركزي .. يسر سافرت يبقى هو هيكون سافر ليه ؟
تهللت اساريرها واشرق وجهها بسعادة غامرة مردفة :
_ قصدك إنه راح وراها يعني !!
_ آه واسمعي الكبيرة كمان .. أنا كنت بتكلم معاه وبقوله يسر سافرت مع راسل وهو اول ما سمع اسم راسل وشه جاب الوان الطيف واتحول ولقيته بيقولي إنه هيسافر وراها والغيرة كانت بتاكل فيه أكل كدا .. يعني كمان مش بعيد يكون ردها
انفرجت شفتيها وكادت أن تشق الابتسامة طريقها لاذنيها .. ثم رفعت كفيها للسماء هاتفة وهي تدعي بفرحة :
_ يارب يكون ردها .. ربنا يهديك يابني ويصلح حالك إنت ومراتك ، ده أنا النهردا هنام وأنا مرتاحة ومبسوطة بسبب الخبر ده
رتبت رفيف على صدرها وهي تقول بفخر :
_ البركة فيا طبعًا
هتفت هدى بانشكاح وحنو :
_ أيوة وعشان كدا ليكي عندي صينية كيكة من اللي بتحبيها بكرا إنما إيه هتاكلي صوابعك وراها
مطت شفتيها باحتجاج وهي تقول متذمرة :
_ إيه ياماما هي أي هدية عندك أكل .. أنا عايزة حاجة حلوة فلوس مثلًا أو هدية تشتريهالي
رتبت هدى على كتف ابنتها وهي تقول بابتسامة مزيفة :
_ لا ياحبيبتي الفلوس مضرة بالصحة ، الاكل مفيد وأهو تتخني شوية بدل ما إنتي شبه عود القصب كدا
_ ماما مش عايزة منك حاجة خلاص شكرًا جدًا !!
قالتها بخنق بعدما شبهتها بعود القصب لتنفجر هدى ضاحكة وتهب واقفة متمتمة وهي تتجه لخارج الغرفة :
_ هعملها ليكي برضوا !!
***
داخل منزل طاهر العمايري …..
الجميع مجتمع حول مائدة الطعام ويتناولون عشائهم في هدوء قاتل لا يصدر صوت أي منهم .. حتى خرج صوت علاء أخيرًا وهو يسأل بخشونة :
_ كلمت حسن يابابا ؟
_ أيوة كلمته وقالي أنه مش عايز يخسر يسر وردها عشان يحاول يصلح علاقتهم
عاد يسأل بملامح جامدة :
_ ويسر أيه رد فعلها
_ هكلمها بكرا الصبح واشوف
_ مع إني مش عاجبني الوضع ده من ساعة ماسابت بيتها وجات هنا وبحاول اتجنب حسن على قد ما أقدر عشان متحصلش مشكلة بينا .. بس أهو خلينا نشوف آخر العناد والغباء اللي هما فيه هيوصل لفين
تحدثت الأم أخيرًا بنبرة حادة :
_ أنا مس هسمح لحسن يكسر بنتي ويزعلها تاني عشان يكون في علمكم .. وأنا بنفسي هكلم بنتي الصبح ولو حسيت إنها مضايقها أو نبرة صوتها مش طبيعية مش هسكت
هتف طاهر بنبرة رجولية قوية :
_ بنتك وحسن لسا شباب صغيرين وطبيعي تحصل مشاكل بينهم كدا .. أنا اللي خلاني وافقت ومشيت ورا كلام بنتي لما شوفتها إزاي مش عايزة تكمل ومتدمرة ، لكن لو عليا أكيد مش هكون حابب أن الأمور بينهم توصل للوضع ده .. وطالما هو متمسك بيها بالشكل ده خلاص نسيبهم يحلوا اللي بينهم مع بعض ، وادعيلهم ربنا يهديهم
أجابت شبه مستنكرة باحتجاج :
_ آه خليك إنت في صف ابن اخوك كدا دايمًا كأنه ملاك مبيغلطش !
تأفف بصوت مسموع ونفاذ صبر ، ولم يعيرها إهتمام كثيرًا حيث تجاهل ما قالته وغير مجرى الحديث ، عندما نظر لميار وقال بصوت أجشَّ :
_ أنا قدمتلك في الجامعة اللي في القاهرة هنا عشان تكملي السنة اللي فاضلة ليكي .. وأظن كدا موضوع المانيا ده ميتفتحش تاني أبدًا ياميار
مجبرة ومضطرة على الخنوع لأوامر عمها ، فليس أمامها سبيل غير الإذعان سواء له أو لزوجها .. اطرقت رأسها أرضًا وأماءت بخفة في موافقة ، بينما علاء فنقل نظره بين أبيه وبينها في أعين ملتهبة بشرارات الغضب وهدر بهدوء ماقبل العاصفة :
_ إنت قدمتلها من غير ماتقولي يابابا !!
تشدق طاهر بثبات ونبرة صلبة :
_ أيوة قدمتلها عشان تكمل وتاخد شهادتها ، أكيد مش هنعاقبها على الغلط اللي عملته بدراستها يعني
رمقها علاء بنظرة دبت الرعب في أوصالها ثم هتف بلهجة صارمة وساخطة :
_ بس أنا مش موافق ومش هتكمل
تبادلوا جميعهم نظرات الاستغراب باستثناء ميار التي اعتاظت بشدة وهمت بأن تجيب عليه ولكن رأت عمها يرفع كفه يطلب منها عدم الحديث فسكتت ، ليتحدث طاهر بنظرة حازمة :
_ وأنا اللي قولت هتكمل ولا إنت هتكسر كلمتي بقى يا أستاذ
هدأت نبرة علاء قليلًا احترامًا لوالده وقال بنبرة مهذبة واصرار على قراره :
_ لا مش بكسر كلمتك يابابا ولا حاجة .. بس أنا مش عايزها ترجع الجامعة تاني
استشاطت بشدة من تحكمه في مستقبلها دون أن يأخذ رأيها حتى .. فهدرت ساخطة شبه منفعلة :
_ أنا دراستي أهم حاجة عندي ومستحيل مكملش
هنا انفجر البركان حيث صرخ بصوته الجهوري وهو يضرب بكفه على سطح المائدة وعيناه حمراء كالدم :
_ وأنا قولت مش هتكملي .. أنا إيه ضمني تعملي إيه في الكلية ولا تتعرفي على مين ، طول ما إنتي على ذمتي مش هتطلعي من البيت ، كفاية الفضيحة اللي داريتها عليكي ، لما اطلقك يبقى وقتها اعملي اللي تعمليه مـ…..
صاح طاهر منفعلًا وبنبرة عالية :
_ عـــــــــلاء
سكت تمامًا بعد صيحة أبيه وهو يزفر النيران من بين شفتيه ، أما هي فطالعته بأعين دامعة تحمل الخزي .. بالرغم من كل ماسردته له حول حياتها كيف ، وماحدث معها بالضبط واوضحت له أنها لم تفعل شيء بإرادتها بل ومن المستحيل أن تفعل شيء كهذا من الأساس ، لم يصدقها ومازال يتهمها بالفسق وأنها قد تفعل أي شيء مخل .. كل ما قالته له لم يثمر ذرة واحدة من الثقة بينهم !! .
رجعت بالمقعد للخلف وهبت واقفة لتهرول راكضة إلى غرفتها بالأعلى ، بينما طاهر فوقف هو الآخر والقى نظرة غاصبة على ابنه يهتف بلهجة آمرة لا تقبل النقاش :
_ طيب احترم وجودي يابشمهندس حتى ولا كبرت علينا خلاص عشان تتكلم بالطريقة دي قدامي ، ولعلمك أنا مكنتش باخد رأيك أصلًا في موضوع الجامعة وكلامي كان واضح لما قولت قدمتلها وهتكمل ، يعني سواء وافقت أو رفضت
فاللي قولته هيتنفذ ياعلاء
ثم استدرات واتجه لمكتبه لتهم الأم بمحادثة أبنها وتهدئتها قليلًا ولكنه هو ايضًا استقام وانصرف مغادرًا المنزل كله ، لتلتفت هي حولها الثلاثة كل منهم ذهب في جهة وبقيت هي بمفردها على المائدة ، ولكن هل هناك شهية للطعام بعد كل ماحدث .. بدأت في توضيب المائدة ووجهها تمكن منه العبوس ! ……
***
خرجت من الغرفة واتجهت إليه حيث كان جالسًا على الأريكة بالصالون ، بمجرد ما أن رآها قال باسمًا :
_ تعالى
فرد ذراعه يحثها على الانضمام إليه لتطيل النظر بسكون دون أن تتحرك والخجل يستحوذها كليًا ، فيتنهد شبه ضاحكًا ويعتدل قليلًا في جلسته ويجذبها من ذراعها لترتمي بين ذراعيه ويقول مشاكسًا :
_ مالك مكسوفة مني أوي كدا ليه ؟!!
انزوت نظرها عنه باستحياء وتمتمت بنبرة تحمل الاستنكار :
_ المفروض متكسفش مثلًا بعد اللي قولته من شوية !!
قرب وجهه منها وحرك انفه على وجنتها يداعبها ويهمس بنفس نبرة المكر التي سمعتها منه منذ دقائق :
_ أنا برأى وفري الكسوف ده للمراحل الجاية
يصدمها كلما يتحدث فهذا لا يمكن أن يكون ” كرم ” الذي تعرفه حق المعرفة ، أين حيائه وأخلاقه .. صدمها من قبل عندما رأت جانبه المخيف والآن يصدمها الضعفين وهي ترى بشائر انحرافه معها !! .
ابتعدت بعض الشيء عنه وقالت منذهلة بنظرات بريئة :
_ أنا اللي المفروض اسألك مالك ياكرم ! .. لتكون شارب حاجة ؟!!
قهقه بخفة وعاد يجذبها إليه مجددًا ويكمل ولكن هذه المرة بنبرة جادة بعض الشيء :
_ تعالي هحكيلك مالي
سكنت وانتظرته حتى يبدأ في الكلام فسمعته يهتف في البداية بجمل غامضة لم تفهم منها شيء ! …..
_ الأرض الزراعية لم صاحبها بيهملها بتجف وبتبقى صحراء ، زيها زي لما تكوني مهتمة بوردة ويجي حد ينتف منها جزء بتدبل وبتموت ، عشان أكون اوضح بظبط زي شخص مريض بائس وجروحه ملهاش علاج والدكاترة كلهم تنبأوا بموته القريب ، وفجأة القدر يبعتله العلاج .. عارفة إيه هو ؟
رأى في عيناها التساؤلات وعدم الفهم فاسترسل في حديثه بعاطفة ونظرات متأثرة وحزينة :
_ إنتي العلاج ياشفق .. واروى هي الأرض الزراعية اللي بغبائي اهملتها وهي الوردة اللي محافظتش عليها وأنا الشخص المريض البائس ، وإنتي كنتي علاج لجروحي .. قدرتي تضمدي جروحي في فترة صغيرة جدًا ، أنا يمكن مكنتش ببين لحد أوي بس صدقيني أنا مكنتش كدا أبدًا قبل ما اتجوزك .. كنت بظهر القوة قدام الكل وإني ثابت وخلاص نسيت بس في الحقيقة موت اروى كان بيقتلني بالبطيء ، شوقي ليها والنار اللي جوايا كل ما افتكر شكلها واللي حصلها كانوا مخليين حياتي عذاب ، لغاية ما ظهرتي إنتي معرفش عملتي فيا إيه وإزاي في فترة قليلة كدا قدرتي تغيري كله ده فيا وتسترجعي ذاتي اللي كنت متوقع إن خلاص مستحيل أكون كرم اللي كان قبل مايموت أبوه وأروى .. كنتي كل مرة بتلمسيني فيها بتصحى حاجة مختلفة جوايا وأنا كنت بتجاهل وبعمل نفسي عبيط لما بتأثر بيكي وبقول عادي ، أنا فعلًا بطبيعتي شخص خجول وبحرج جدًا .. مفكرتيش أنا ليه كنت بتوتر كل ما تقربي مني مع إني مكنتش كدا مع اروى والدليل إنك لو شفتي صورى معاها بعد ماكتبنا الكتاب هتلاقيني بتصرف بطبيعية جدًا من غير أي خجل .. والسبب إني معاكي كنت مدرك تأثيرك عليا وإنك بتلمسي حجات جوايا خاصة جدًا فكنت بتوتر منك جدًا ، بس بعدين سبت نفسي وحاولت اتصرف معاكي على طبيعيتي بدون حواجز أو توتر واكتشفت قد إيه إنتي غالية عليا وإني بحبك جدًا
رغم كل ما سرده لها وكيف كانت سعيدة وهي يتحدث هكذا عنها وكانت تطالعه بأعين تطلق شرارات العشق والحب ، ولكن عند آخر جملة قالها كطفلة صغيرة وساذجة عبست وقالت ساخرة :
_ آه ما أنا عارفة بتحبني زي اختك !!
اطلق ضحكة مرتفعة وأجابها مندهشًا يسخر منها حقًا :
_ بلاش هبل متضحكيش الناس عليكي .. هو في حد بيحب مراته زي اخته ياعبيطة ، وبعدين أمال أنا كنت بحكي في إيه ده كله وبقول تأثر ولمس وحجات كدا وإنتي تقوليلي اختك !!!!
لمعت عيناها بوميض مختلف وأشرق وجهها بسعادة غامرة ، لتقول بعدم استيعاب واستحياء بسيط امتزج بفرحتها العفوية :
_ يعني قصدك بتحبني زي ما أنا بحبك !!
هز بحاجبيه وقال باسمًا باتساع وبمشاكسة :
_ وأكتر كمان
ضمت شفتيها تخفي ابتسامتها الخجلة ثم تكمل بدلال غير مقصود :
_ لا أنا أكتر !
اقترب منها بحميمية شديدة وقال غامزًا بلؤم :
_ طيب ماتيجي نحكم ونشوف مين الأكتر
ارتبكت وارتفع اللون الأحمر لوجنتيها ليقطع لحظاتهم الأولى رنين هاتفه الموضوع على سطح الطاولة الصغيرة بجانبهم ، فثبتت هي نظرها على شاشته تقرأ الاسم وقالت مسرعة في خفوت لتتهرب من محاصرته لها :
_ سعيد بيتصل ياكرم ( الحارس )
التفت برأسه ناحية الهاتف وعقد حاجبه من اتصاله ثم التقطه يجيب عليه بخشونة :
_ أيوة ياسعيد في إيه ؟
_ كرم بيه في اتنين مصممين يدخلوا الڤيلا وواحد منهم بيقول أنه عم شفق هانم والتاني ابنه
رأت ملامح وجهه التي تغيرت واصبحت حادة بعد أن كان هادىًا ومرحًا معها ، وفي ظرف لحظة رأته يقف ويقول لها بنبرة مريبة :
_ خليكي هنا ياشفق ومتطلعيش ورايا مفهووم
أماءت له بالموافقة ثم قالت بقلق بالغ :
_ حاضر بس في إيه ؟
لم يجبها واندفع إلى الخارج واغلق باب المنزل خلفه فهبت هي واقفة وهرولت باتجاه النافذة تنظر له من خلال فرأته يتجه ناحية الباب الرئيسي وإذا بها تجد عمها وابنه يظهران من خلف الباب فاظهرت شهقة منصدمة امتزجت بالهلع وهمست في نبرة مرتعدة :
_ عمي بيعمل إيه هنا !!
استدارت وهرولت إلى الغرفة لكي ترتدي شيئًا يستر جسدها جيدًا وتخرج لهم لتحاول انقاذ مايمكن انقاذه في هذا الوضع المريب ، فبالتأكيد “كرم” لن يصمد أمام جموحه كثيرًا ….
وقف كرم أمامهم يطالعهم بأعين تقذف شرارات اشتعال القنبلة وخرج صوته رجولي ومريب :
_ مش كنت اديتني خبر حتى الأول ياكمال بيه عشان استقبلكم استقبال يليق بيكم
كان كمال جامدًا تمامًا أمام نظرته ونبرته حتى أجابه بكامل الثقة والثبات :
_ جاي أخد بنت اخويا اللي اتجوزتها من غير مانعرف .. والأفضل ليك إنك متعترضش
اطلق ابتسامة متغطرسة على شفتيه وهو يجيبه بنظرة أكثر رعبًا من السابقة :
_ بنت أخوك اللي هي مراتي !! .. اممم وياترى هتاخدها إزاي بقى
هنا تحدث جاسر بغضب عارم وقوة :
_ هناخدها سواء بلزوق أو بالعافية ياكرم
طالت نظرة كرم إلى ذلك ” الجاسر ” وهو يبتسم بأعين لا تبشر بالخير وقال بعد لحظات من الصمت القاتل :
_ إنت بقى جاسر .. سيف حكالي عنك كتير
ثم اقترب منه وهمس بالقرب من أذنه بصوت اشبه بفحيح الأفعى وبه لمسة الشر :
_ بس أنا مش سيف اللي هيكتفي بأنه يعمل مشكلة ويقاطعم .. وبما إنك جيتلي برجيلك فاللي عملته مش هعديه بالساهل ، ودلوقتي اطلع إنت من الموضوع ده احسلك وإلا مش هخليك تشوف نور الشمس تاني
صاح كمال منفعلًا في كرم :
_ وأنا قولت هناخدها يابن العمايري وورينا هتمعننا إزاي
_ إنت عارف كويس أوي أنا همنعكم إزاي .. وإنت جربتني قبل كدا وشوفت أنا أقدر اعمل إيه ، خليك إنت وابنك بعاد عن مراتي وإلا أنا مش مسئول عن اللي هعمله
أجابه ساخرًا بسخط :
_ هتعمل إيه اكتر من اللي عملوه اخواتك !
ابتسم بشراسة وغمغم بوعيد حقيقي :
_ زين وحسن معملوش حاجة قصاد اللي هعمله ، عيلة العمايري كلها عندها رحمة بس أنا لا
هرولت شفق إليهم ووقفت خلف زوجها توجه حديثها لعمها باستياء :
_ إنت إيه اللي جايبك ياعمي ؟!
_ جاي أخدك شكلك نسيتي إنك ليكي عم ورايحة تتجوزي من ورانا زي البنات الــ …..
خرج صوت كرم الذي نفضهم وأولهم شفق عندما وجدته يصرخ يقاطع عمها ومن الواضح أنه بالفعل بدأ يخرج عن قوقعة صموده :
_ لغاية هنا وكفاية خد ابنك القذر ده واطلعوا من بيتي بالذوق !
انحنى جاسر ناحية شفق يجذبها من ذراعها من خلفه هاتفًا :
_ مش قبل ماناخدها معانا
طفحت حممه البركانية إلى حد الجنون عندما رآه يلمسها وتحول إلى وحش كاسر ، اغار عليه يلكمه بعنف صارخًا :
_ شكلكم مش بتفهموا بالأدب
كبلته شفق تحاول ردعه وإبعاده هاتفة تتوسله قبل أن يفقد أعصابه أكثر من ذلك ويسوء الوضع بشدة :
_ كرم خلاص ابوس إيدك سيبه .. عشان خاطري !
اسند كمال ابنه ونظر لكرم نظرة نارية كلها حقد وغضب هاتفًا بنبرة تحمل الوعيد الشيطاني :
_ هنمشي بس افتكر إن إنت اللي بدأت الحرب بينا
لم يعيرهم اهتمام وحدجهم شزرًا ومازالت شفق ممسكة به تمنعه عن التحرك ، فهو لديه غضب مخيف واعمى ولم تنسى ما فعله عندما اختطفت .. ظلت ممسكة به حتى رحلوا تمامًا ليبعدها هو عنه ويقول بعصبية :
_ أنا مش قولتلك متطلعيش ورايا
تمتمت بعدم خوف أو توتر :
_ وكنت عايزني اسيبك وحدك عشان تفقد اعصابك وتعمل مصيبة
هدأت ثورته قليلًا وأجابها بامتعاض :
_ طيب ادخلي جوا يلا
_ وإنت ؟!
اردف بنبرة عادية ولكن مازالت تحمل القليل من السخط :
_ هبقى آجي وراكي
لم ترغب في مجادلته كثيرًا فتنهدت بضيق وفعلت كما طلب ، اتجهت عائدة لداخل المنزل وهي تحمد ربها بأن لم تحدث مشكلة وتدعو ربها أن يحفظهم من شر عمها !! ……
***
انتظرته بالغرفة لدقائق طويلة ومرت نصف ساعة كاملة وهو لم يعد .. لا تراه في الحديقة الخارجية ولا تفهم إلى أين ذهب في ذلك الوقت ! ، فوقفت أمام النافذة تنظر تترقب عودته .. وأخيرًا بعد وقت طويل من الانتظار فُتح الباب ودخل هو فاستدارت بكامل جسدها ناحيته تهتف متذمرة :
_ كنت فين ياكرم ؟!
_ كنت قاعد في الجنينة من ورا بريح راسي شوية
رأت العبوس والخنق يعتل معالمه فتنهدت بإشفاق واقتربت منه تحتضن كفه بين كفيها هامسة بحب :
_ متعصبش نفسك ممكن !
ظهرت بشائر الابتسامة الحانية على شفتيه ثم هتف بضجر وقد تلاشت الابتسامة :
_ متعصبش إزاي يعني ياشفق إنتي مشوفتيش اللي حصل .. وليهم عين ياجوا لغاية بيتي وبذات ابن عمك الحيوان ده
أجابته برقة ولطافة تذيب القلب :
_ ميهمنيش اللي حصل الأهم إنك بخير ومحصلتش مشكلة وإن شاء الله متحصلش .. يكفيني وجودك ، وأنا هكون مطمنة ومرتاحة طول ما إنت جنبي
صعدت الابتسامة تزين ثغره وحدجها بأعين دافئة ومغرمة ثم احتضن وجهها وانحنى إليها يطبع قبلة عميقة على وجنتها هامسًا :
_ أنا دايمًا جمبك يا أميرتي
عيناها تتحدث بدلًا عن لسانها وتخبر بالكثير من سعادة وعشق وسكينة وهو يستطيع فهمها جيدًا ، وقع نظره على ملابسها التي بدلتها ولم تعد ترتدي الرداء الذي قام بشرائه لها.. لتتسع ابتسامته ويغمغم بخبث :
_مش مزاجنا بس اللي اتعكر لا كمان الليلة باظت .. يلا مش مشكلة تتعوض
ارتبكت عند ذكره ليلتهم وتذكرت ماحدث قبل أن يرن هاتفه فازداد توترها وتوردت وجنتيها لتتمتم بصوت مضطرب :
_ أنا هروح أنام تصبح على خير
وبلحظة واحدة ولته ظهرها وذهبت للفراش وتدثرت جيدًا أسفل الغطاء وصدرها يعلو ويهبط بقوة ، لحظات وشعرت به يرفع الغطاء وينضم إليها ثم يقترب منها ويلف ذراعه حول خصرها يضمها إليه من الخلف ويهمس بجانب أذنها في مداعبة ماكرة :
_ حظك كان حلو المرة دي بس المرة الجاية مفيش مفر مني ، لإني مش هسمحلك أصلًا
انفاسه الدافئة التي لفحت رقبتها جمدتها وسرت على أثرها قشعريرة في جسدها فالتزمت الصمت وسمعته يكمل بنفس النبرة :
_ أنا مدرك توترك وكسوفك وعامل حساب ده فهستني لغاية ماتحسي نفسك جاهزة بس موعدكيش إني هقدر اصبر كتير
حبس انفاسها بآخر جملة قالها ثم استرسل ينهي الكلام هامسًا بعد أن لثم رقبتها بقبلتين :
_ تصبحي على خير ياحياتي
ردت متلعثمة ومرتبكة بصوت يكاد لا يسمع :
_ وإنت من أهله
اغمضت عيناها تحاول الهرب من خجلها ومن وضعهم عن طريق النوم .. أما هو فظل مستيقظًا يتطلع إلى السقف وسرعان ماعبس وجهه من جديد ورسم الحدة والوعيد على محياه ، فإن حاول ذلك الرجل سواء هو أو ابنه مجرد الاقتراب منها فقط ، يقسم بأنه سيجعلهم يذوقوا العذاب أشكالًا والوانًا ……
***
اشرقت شمس يوم جديد …
داخل مقر شركة طاهر العمايري بأمريكا .
كانت يسر تتحدث مع أبيها في الهاتف كالآتي …….
_ أنا كويسة يابابا متقلقش
هتف طاهر مقتضبًا بحزم :
_ كلمت حسن إمبارح وقالي إنه عايز يصلح كل حاجة بينكم .. لو إنتي مش عايز ترجعي وتقعدي معاه يابنتي قوليلي وأنا مستحيل اخليكي تكملي وإنتي مش عايزاه
تنهدت بأسى لتجيبه بخفوت :
_ اطمن يابابا أساسًا هو ميقدرش يجبرني على حاجة .. وأنا لسا عند قرار الطلاق ووافقت اقعد معاه اليومين دول بشرط إنه يبدأ في اجراءات الطلاق واتفقنا .. متخفش عليا أنا بخير
سأل طاهر بترقب :
_ وهو وافق على الطلاق !!!
سمع همهمتها بأجل ليعقد حاجبيه باستغراب ثم رجح بأنه قد يكون اقنعها بموافقته فقط حتى يهيأ لها أنه ذعن لرغبتها في الطلاق . تمتم طاهر بنبرة حكيمة :
_ ماشي يابنتي طالما إنتي عايزة كدا .. خلي بالك من نفسك ولو حصل أي حاجة اتصلي بيا
_ حاصر يابابا مع السلامة
انهت معه الاتصال ووضعت الهاتف على سطح المكتب وهي تزفر بعدم حيلة ، باتت لا تعرف مالذي يجب عليها فعله .. هل تسمع لقلبها الذي لا زال يعشقه ويلح عليها في طلب واحد وهو اعطائه فرصة لعله يكون صادقًا حقًا ، أما تستمع لواقعها الذي يخبرها بأن لا طريق للنجاة وقد وصلوا إلى نهاية الطريق وكلاهما سيسلك طريقًا مختلفًا قريبًا .. وضعت كفها على بطنها تملس عليها برفق تسترجع بذاكرتها يوم معرفته بحملها ومالذي فعله لكي يتخلص منها هي وطفلها ، فقويت مشاعر البغض عليه وزاد إصرارها على الطلاق هامسة لنفسها وهي تنظر لبطنها :
_ إزاي منتظر مني السماح بعد كل اللي عمله .. هل هو متوقع إني هرجع اطمن على نفسي مع واحد مكنتش فارقة معاه أساسًا وكان عايزة يدخلني عملية إجهاض من غير مايفكر فيا أو اللي ممكن يحصلي .. كان عايز يقتل ابنه عشان هو مني بس ، مفكرش في يوم يعاملني كويس ومعاملة طيبة وأنا كنت بستحمل عشان حبي ليه .. ودلوقتي جاي بيطلب السماح !!
لمعت عيناه بوميض مرعب وهي تقول بوعيد :
_ متخفش ياحبيبي مش هسمحله يأذيك أو ياخدك مني أبدًا .. هخليه يشرب من نفس الكاس المر اللي كان بيشربني منه
في هذه اللحظة فتح هو الباب ودخل ثم اغلقه خلفه واقترب يجلس على المقعد المقابل للمكتب يجاهد في تمالك غضبه متمتمًا بهدوء مزيف :
_ طلعتي من غير ماتقوليلي ليه ؟
هدىت ببرود أعصاب واستهزاء :
_ بصفتك مين عشان أقولك !
بدأ غضبه يتفاقم ولحسن الحظ أنه مازال يتحكم به حيث قال وهو يصر على أسنانه :
_ جوزك ومن حقي امنعك من الخروج كمان لو عايز
_ بنسبالك بس ، لكن أنا عمري ماهشوفك زوج ليا لأن حسن بنسبالي مات من زمان وملوش وجود
ابتلع قسوتها في الحديث معه وهتف شبه منفعلًا :
_ مش عايز اشوفك مع راسل نهائي يايسر مفهوم ولا لا
قهقهت ساخرة تجيبه :
_ ماشاء الله من أول يوم مش بتلتزم باتفاقنا .. طيب أنا هفكرك تاني ، ملكش دعوة بيا أقعد مع مين ولا اطلع مع مين .. إنت مش هتمشي كلمتك عليا ياحسن باشا
انتفضت جالسة عندما رأته يضرب بكف يده في عنف على سطح المكتب صارخًا :
_ هتمشي يامدام .. أنا مستحمل كل طلباتك ومش برفضلك طلب واللي عايزاه هنفذه ، بس لغاية هنا وكفاية عشان متشوفيش حسن القديم .. تلتزمي حدودك مع أي راجل مش راسل بس ، وأنا حذرتك أهو اللهم إني بلغت اللهم فاشهد .. لو شفتك معاه تاني يايسر مش هكون مسئول عن اللي هعمله
لم يهمها أي شيء قاله سوى جملة ” حسن القديم ” لقد كانت للتو تفكر في اعطائه فرصة وتخوض صراع مع قلبها وعقلها ، وهو يقول بأنه قد يجعلها ترى الشخص الذي بغضته مجددًا ، هل هذا هو ندمه واعتذاره ورغبته في إصلاح ما افسده بعلاقتهم .
استقامت تصيح باندفاع واستياء :
_ لا اثبتلي ندمك فعلًا وإنك فعلًا عايزني اسامحك ، إنت أساسًا متغيرتش عشان توريني حسن القديم .. إنت لسا زي ما إنت ومش هتتغير ، فمتحاولش تضحك عليا بكلمتين لإني كل ما بقول ده بدأ يتغير فعلًا بتثبتلي العكس ، بكرهك ياحسن صدقني بكرهك وبكره انانيتك .. انت من بداية جوازنا مكنتش عايزاني واتجوزتني كتسلية مش اكتر لكن متقولش اني هددتك والكلام الفارغ ده لأنك لو كنت عايز تتصرف معايا كنت اتصرفت ، فمتقوليش دلوقتي إنك عايزاني بجد
ادرك فداحة الخطأ الذي ارتكبه فهو لم يكن يقصد قول هذا ، فقد قاده غضبه وغيرته لطرق مظلمة فحجب رؤيته عن الخطأ والصح ووجد نفسه يتفوه بكلمات لا يدري خطورتها !! .
استقام هو الآخر وتمتم بنظرات هدأت حدتها وحملت الأسف :
_ يسر أااا…….
صرخت بصوتها المرتفع وهي تشير بسبابتها على الباب :
_ اطلع برا مش عايزة اشوفك .. مش طايقة اسمع صوتك حتى ، بــــرا ياحــســن
لم يتحرك وظل بأرضه يطالعها بأعين تعتذر عن ماصدر منه فوجدها تبتعد وتندفع نحوه تدفعه بعنف وتضربه على صدره وكتفه وهي تصرخ بهستريا وأعين تلمع بالدموع :
_ اطـــلـــــع بـــــرا
رفع كفيه لأعلى وهو يتراجع للخلف متمتمًا باستسلام وبعض الدهشة من انفعالها البالغ :
_ تمام تمام هطلع خلاص اهدى
ظل يتراجع حتى وصل للباب وفتحه ليليقى عليها نظرة حزينة وأخيرة قبل أن يستدر وينصرف تاركًا إياها بين دموعها التي انسابت على وجنتيها !! …..
***
كانت تجوب بالغرفة إيابًا وذهابًا تنتظر خروجه من الحمام وهي تستشيط غيظًا .. لا تفهم سبب تصرفه بالأمس ولما يتدخل ويمنعها من استكمال دراستها ، ألم تسرد له كل شيء كما حدث واوضحت له أنها بريئة ولم تفعل شيء عن إرادة ولن تفعل حتى لو عاد بها الزمن ؟ .. ولكنه لا يصدقها رغم كل ماقالته ، ويراها فتاة فاسقة بإمكانها أن تفعل أي شيء يخل باسمه واسم العائلة !! .
وأخيرًا خرج من الحمام وهو يلف حول رقبته المنشفة المتوسطة فاندفعت نحوه غاضبة هاتفة :
_ أنا عايزة افهم إنت بتعمل كدا ليه ؟!
رفع حاجبه وسألها بعدم فهم حقيقي :
_ بعمل إيه ؟!!
_ ليه رافض اروح الكلية ياعلاء واكمل دراستي
ابتعد من أمامها وسار باتجاه المرآة يقف أمامها ويجفف شعره متمتمًا بجفاء وعدم اكتراث مزيف :
_ بتسألي اسئلة إنتي عارفة اجابتها كويس أوي ، وأظن الإجابة بسيطة جدًا وهي إني مش واثق فيكي وللأسف إنتي مراتي دلوقتي وأي حاجة هتعمليها هتمسني أنا
صاحت منفعلة باستياء :
_ أنا حكتلك كل حاجة وفهمتك وإنت مش واثق فيا لسا .. أنا يمكن غلطت في حجات كتير بس مستحيل اخونك ، ثم إن دلوقتي أنا أهم حاجة بنسبالي دراستي ومش هروح الكلية عشان اكوّن صدقات أو علاقات ، أنا رايحة ادرس
ابتسم مستنكرًا يتمتم بعدم ثقة :
_ وأنا إيه اللي يضمني إنك متعمليش حاجة !
أصدرت زفيرًا مرتفعًا وقالت بنفاذ صبر محاولة اقناعه :
_ إنت وديني الكلية وخدني منها عشان تتأكد بنفسك إني مش بعمل حاجة ولا بقعد مع حد .. حلو كدا ؟!
طال نظراته الجامدة وهو يفكر بالإذعان لها حتى وجدها تهتف راجية :
_ ارجوك ياعلاء وافق .. أنا بجد محتاجة جدًا أكمل دراستي ، مش عايزة اخسر دي كمان
استسلم أخيرًا وقال بصرامة وهو يلقي الأوامر والتعليمات :
_ طيب بس هيكون في قواعد وتعليمات لو كسرتي حاجة واحدة منهم مش هيعدي الموضوع من غير عقاب
هزت رأسها بالموافقة عدة مرات متتالية وهي تضحك بوجه عادت اشراقته :
_ تمام اؤمر باللي إنت عايزه معنديش مشكلة
بدأ يملي عليها التعليمات في حدة ونبرة حازمة لا تحمل التهاون :
_ هتجيبي هدوم جديدة وواسعة غير اللي معاكي لإن اللي معاكي مش عجباني ، جدول محاضراتك هبقى عارفه كله هتدخلي امتي المحاضرة وتطلعي امتي ، ممنوع الخروج من البيت من غير أذني .. مش هتتصاحبي على حد هناك تمامًا
قالت مندهشة بعفوية :
_ حتى البنات !!
رأت عيناه اظلمت وقال بصوت مرعب :
_ ليه وهو سيادتك كنتي ناوية تتصاحبي على رجالة كمان !
هتفت مسرعة تتلافى خطأها باعتذار :
_ لا لا مش قصدي .. أنا آسفة كمل متخفش هكون في حالي ومش هتكلم مع حد نهائي
هدأت نبرته ونظرته وتحدث هذه المرة بخفوت ولين قليلًا :
_ وأخيرًا بما إنك مش عايزة تخسري دراستك ومهتمة أوي بيها كدا ، يبقى مش عايز اشوف أي تقصير في المذاكرة لأن التقصير هيكون بعقاب أكيد
وجهها يبتسم ببشاشة بالغة وسعادة وهي توميء له بالموافقة على كل تعليماته الصارمة ، ليحدجها بنظرة فاحصة ودقيقة على فرحتها المفرطة ثم يستدير ويسير لخارج الغرفة ولكنها استوقفته هاتفة :
_ علاء
توقف والتفت لها برأسه فهمست هي مترددة بخوف بسيط :
_ ينفع صديقة واحدة ؟!
تقوسا حاجبيه وظهر الغيظ عليه لتتراجع هي فورًا تجيب بدلًا عنه بالإجابة التي قالها بشكل غير مباشر عن طريق معالمه :
_ لا مش كدا ! .. تمام خلاص أنا أساسًا مش عايزة اصاحب حد كنت بقول كدا بس
كانت تهتف بكلماتها هذه في امتعاض وضيق واضح كمن يقنع نفسه بأنه لا يريد الشيء حتى لا يحزن أكثر ، تنهد مغلوب على أمره وإذا بها تراه يرفع سبابته يقول من خلال حركته هذه ” واحدة فقط ” !
كانت على وشك الوثب قفزًا من فرط سعادتها فتمالكت نفسها وسيطرت عليها حتى رحل وانطلقت هي تصدر اصوات فرحة من بين شفتيها وحركات طفولية !!!
***
_ مــــلاذ
سمعت صوته من الخارج فاعتدلت في جلستها وغادرت غرفتها لتتجه له فتجده جالسًا على الأريكة هادىًا تمامًا .. اقتربت تجلس بجواره مهمهمة :
_ نعم يازين ؟!
انتصب في جلسته وطالعها مبتسمًا يهتف :
_ أنا حجزت الطيارة على بليل هنرجع القاهرة
ضيقت عيناها بدهشة وهدرت مستغربة :
_ بليل !! .. ليه ؟
لا يستطيع اخبارها بما ينوي فعله بمجرد رجوعه وهو تصحيح الخطأ الذي ارتكبه منذ عشر سنوات ، وأيضًا لا يستطيع الكذب ولا يحبه !! .
تمتم بتنهيد حار دون أن يكذب:
_ في كام حاجة عايز اعملها وكمان كفاية عشان ارجع اشوف الشغل والشركة
هزت رأسها بالموافقة بعبوس بسيط مغمغمة :
_ طيب مع إني كان نفسي نقعد شوية أكتر المكان هنا عجبني أوي
مد كفه وملس بانامله على وجنتها في لطف هامسًا بحنو :
_ معلش ياحبيبتي اعمل إيه بس .. أنا لو عليا مش عايز ارجع خالص بس مضطر ، إن شاء الله ربنا يسهل وقريب أوي نعوضها
ابتسمت بحب وتمتمت :
_ إن شاء الله
انحنى ناحيتها يطبع قبلة ناعمة على وجنتها ثم جذبها لصدره فاستقرت هي بين ذراعيه لدقيقتين حتى قالت باسمة باهتمام :
_ إنت متعشيتش اعملك أكل تاكل ياحبيبي
نفي بهدوء وتشدق يبادلها ابتسامتها :
_ لا مش جعان .. وأنا عايز اقعد معاكي شوية وندردش مع بعض
_ ندردش في إيه ؟!
_ إيه حاجة ياملاذي !
_ مفيش حاجة نــ….
توقفت عن الكلام فجأة عند تذكرها لبعض الأحداث فقالت مرحة بإشراقة وجه :
_ لا استني صح افتكرت حاجة حصلت معايا امبارح مسخرة
بدأت تسرد له موقفها المضحك الذي حدث معها وتضحك وهو يبادلها الضحك ولكن بقوة أقل ، فاستمرت جلستهم المرحة والدافئة لدقائق طويلة ما بين الحديث المعسول والمزاح والجدية ………
***
يسير باتجاه المطبخ وهو يفرك عيناه ليزيح عنهم آثار الخمول .. بعد أن سمع صوت طفيف من دندنتها مع نفسها في المطبخ ، وصل ووقف على الباب يتفحصها بتدقيق من اعلاها لأسفلها وهو يبتسم ، فكانت ترتدي منامة قطنية قصيرة بعض الشيء وترفع شعرها بعشوائية تثبته بمشبك للشعر وتتمايل يمينًا ويسارًا رقصًا على الحان الاغنية التي تتندنها .. استند بكتفيه على جانب الباب وعقد ذراعيه أمام صدره يتابعها بإعجاب وهي توليه ظهرها غير منتبهة لوجوده ، التفتت بجسدها للخلف على اطمئنان وهي لا تتوقف عن التمايل وإذا بها تطلق شهقة مفزوعة منتفضة في أرضها ، لتضع يدها على قلبها هامسة بزعر :
_ بسم الله
لم يتحرك من مكانه وبقى كما هو على وضعه يرمقها مبتسمًا بساحرية ، فضيقت عيناها وقالت بريبة :
_ كرم !! .. واقف كدا ليه ؟!
أخذ شهيقًا طويلًا وتحرك ناحيتها يقف مباشرًا أمامها وهو يقول غامزًا :
_ أصلي لقيت فراشة حلوة في المطبخ عمالة ترقص فقولت أما اتفرج عليها
اخفت خجلها بصعوبة وقالت مبتسمة بدفء :
_ صباح الخير
_ صباح الفل والياسمين
عادت توليه ظهرها لتكمل ما كانت تفعله وهي تتمتم برقة :
_ الحمدلله واضح إن مزاجك رايق شوية عن امبارح أو مش شوية ده كتير أوي
خطا خطوة إليها ليقف بجانبها متشدقًا بنبرة بدت لها غريبة :
_ وميبقاش رايق ليه ما أنا عارف كويس أوي هعمل إيه مع عمك ده
تركت مابيدها ونظرت له مختنقة وهتفت بنفاذ صبر :
_ كرم ابوس ايدك ماتعمل حاجة .. أنا أساسًا طبيعي قلقانة عليك ومش حمل عمي يأذيك لقدر الله
احتضن وجهها بين كفيه يقربه من شفتيه ليلثم وجنتها بقبلة قوية بعض الشيء كأنه يأكل خدها متمتمًا بنبرة متلذذة من قبلته :
_ متخافيش يا أميرتي مش هتحصل حاجة بإذن الله
صعدت الحمرة لوجنتيها من قبلته التي تكاد تكون عنيفة واشاحت بوجهها تثبته على الطعام الذي تحضره ثم قالت بترقب :
_ إنت رايح الشغل صح ؟!
_ أكيد
عادت بنظرها له تقول بأعين راجية :
_ خليك معايا النهردا متروحش
غضن حاحبيه وقال باستغراب :
_ ليه ؟!!
تمتمت برقة وعبث :
_ زهقانة ومش عايزة اقعد وحدي
طالت نظرته للحظات طويلة حتى رأته يميل بوجهه للجانب يصدر لها وجنته ، ففهمت أن القبلة مقابل بقائه لتتنهد بيأس وتقول منذرة إياه بارتباك :
_ ماشي بس إياك تعمل حركة كدا ولا كدا
رمقها بطرف عينه هامسًا بخبث دفين :
_ وهو أنا بتاع الكلام ده برضوا !!
أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تقترب منه مترددة وخجلة كانت على وشك أن تطبعها ولكنها تراجعت وثم عادت مجددًا وتراجعت مرة أخرى فقال هو بتذمر ونفاذ صبر :
_ إنتي هتتعبيني ليه !! ، والله اروح البس وامشي واسيبك وحدك
_ خلاص خلاص
قالتها مسرعة بتوتر ثم رفعت اطراف اصابعها لتصل لمستواه وخطفت قبلة سريعة وابتعدت فورًا عندما وجدته يتلفت بوجهه لشفتيها ، ضربته على كتفه مغتاظة هاتفة :
_ كنت عارفة إنك لئيم ونيتك مش سليمة
أجابها ضاحكًا باستمتاع وهو يشير لوجنته الأخرى هاتفًا :
_ طيب واحدة هنا كمان عشان أنا محستش بيها دي
ضحكت ساخرة وهي تقول بتشفي :
_ هاهاها ليه وهو أنا هبلة عشان اصدقك تاني
جلجلت ضحكته الأرجاء وقال غامزًا بنظرات خبيثة :
_ طيب هسيبك دلوقتي بمزاجي بس ولما آجي هنشوف الموضوع ده
استشاطت بالنيران الملتهبة تصيح به مستاءة :
_ يعني إنت اخدت البوسة وبرضوا هتمشي !!
همهم بخفوت جميل وحنو ليهدأ من انفعالها قليلًا :
_ لا والله بس معايا اجتماع مهم جدًا جدًا ومينفعش الغيه أو آجله فهخلصه وارجعلك علطول صدقيني .. أنا كان معايا شغل تاني بس مش مشكلة هأجله عشانك
هدأت ثورتها وأجابت بضجر :
_ وهياخد قد إيه الاجتماع ده ؟!
_ يعني ساعة أو ساعتين بالكتير
أماءت له بالموافقة وقد ارتاحت كثيرًا ثم هتفت بنبرة عادية :
_ طيب روح البس ولغاية متلبس هكون أنا حضرت الفطار
خطف قبلة من على كتفها وابتعد عائدًا للغرفة لكي يأخذ حمامه الصباحي ويستعد للخروج ………..
***
ظل يجوب بالغرفة إيابًا وذهابًا وهو يترنح من فرط العصبية وأبيه يجلس على الأريكة المتوسطة يعلق نظره عليه وعقله يفكر بحل لهذه المعضلة ، وإذا به يهدر بابنه منفعلًا :
_ ماتهدى ياجاسر زاولتني
صاح الآخر ساخطًا :
_ اهدى إيه يابابا ، وآخرة الموضوع ده هنسيبله شفق مثلًا
كمال بنبرة شيطانية ونظرات تحمل الحقد :
_ أكيد لا ، بنت اخويا هاخدها واطمن هطلقها منه وهتتجوزها
_ وهتعمل ده إزاي بقى ؟!
قال بأعين شرانية لا تبشر بالخير أبدًا :
_ هنجرب معاه بالذوق الأول .. نفع يبقى زي الفل منفعش يبقى هو اللي جنى علي نفسه
تمتم جاسر بغل غير مباليًا بمخططات أبيه الشريرة :
_ أنا المهم عندي شفق إنها ترجعلي في الآخر
رمقه أبيه بابتسامة خبيثة يرتب أفكار عقله جيدًا حتى يحسن تنفيذ خططه في أخذ ابنة أخيه !! ………
***
ارتفع ضوء القمر في السماء وظهرت النجوم الساهرة لتعطي لوحة مسائية جميلة ابدعها الخالق عز وجل .
كانت يسر أمام التلفاز تشاهد إحدى المسلسلات الأجنبية وبيدها صحن الفشار الكبير نسبيًا تلتقط كل لحظة حبة وتلقيها في فمها وعيناها معلقة على شاشة التلفاز ، ولكن صك سمعها رنين الباب فدارت رأسها ناحية الباب وتأففت بخنق عندما توقعت من الطارق فليس هناك أحد غيرهم بالمنزل ، وضعت الصحن بجانبها على الأريكة واستقامت تتجه إلى الباب وامسكت بالمقبض تديره للأسفل وتجذب الباب إليها وكما توقعت كان هو ، انتظرت منه التحدث وهي تطالعه بمضض ولكنه امعن النظر بها وبهيئتها اللطيفة حيث كانت ترفع شعرها وتتركه ينسدل ذيل حصان من الخلف ومن الأمام تترك بعض الخصلات متحررة على وجهها ، نزل بنظره إلى ملابسها ليحدق بالبيجامة المنزلية التي ترتديها وعلى منطقة البطن تمامًا رسمة طفل صغير !! ، انتبهت لنظراته فارتبكت ولعنت نفسها ألف مرة أنها فتحت له بملابس المنزل لتعقد ذراعيها أما صدرها تحاول إخفاء الرسمة بقدر الإمكان هاتفة باقتضاب :
_ خير ؟!
تجاهل الرسمة وارتباكها وعاد بنظره لها يقول بلطف :
_ ممكن نتكلم شوية ؟
” سيعتذر عن خطأ لا يحسب أمام اخطاء لا تغتفر له ! ” قالتها لنفسها مستنكرة ، وهذه المرة لم ترفضه بل داهمها الفضول بشدة لرؤيته وهو يعتذر منها على خطأ آخر اقترفه .. استدارت وعادت للداخل كدليل على موافقتها في التحدث فدخل هو واغلق الباب يلحق بها ، حتى وقفا بالصالة وقال هو باعتذار صادق وأسف :
_ أنا آسف مكنش قصدي اقول كدا الصبح والله بس اتعصبت وفقدت اعصابي
ابتسمت باستهزاء تجيبه بجفاء وبعض التشفي من أنها تعيد كرامتها المهدورة بالتدرج وهي تراه يركض خلفها ويخشى عليها من أي شيء قد يضايقها :
_ وتعتذر ليه !! إنت مقولتش حاجة أساسًا وزي ما قولتلك الصبح أنا لسا شيفاك الشخص الاناني والمغرور والقاسي وعديم القلب ، ومعتقدش إن نظرتي ممكن تتغير في يوم من الأيام حتى بعد طلاقنا
رأت في عيناه وميض بائس وحزين ولمعة الدموع السابحة بهم ، تمتم متوسلًا إياها وهو يقترب منها أكثر :
_ يسر كفاية .. ابوس إيدك كفاية أنا مش قادر استحمل بعدك عني اكتر من كدا ، متقسيش قلبك واسمحي لينا بفرصة تانية ، اوعدك إنك مش هتندمي لانك ادتيني فرصة .. تراجعي عن الطلاق ده وعاقبيني براحتك بس خليكي معايا .. اسمحيلي اكون حسن اللي كنتي بتتمنيه مش الشخص اللي كنتي بتتكلمي عليه دلوقتي
غامت عيناها بالعبارات هي الأخرى وانهمرت دموعها على وجنتيها تجيبه بحرقة وألم :
_ إنت اللي كفاية .. أنا تعبت وإنت معندكش أي فكرة إزاي أنا بحاول استعيد ذاتي اللي دمرتها ، وارجع كرامتي اللي بغبائي أنا اهدرتها .. مبقيش عندي طاقة للمعافرة وحتى الفرص كلها ضيعتها في محاولاتي معاك إنك تحس بيا وبحبي ليك وتتغير ، بس إنت ندمت وادركت غلطك بعد فوات الآوان .. بعد ما أنا خلاص معدش يفرق معايا وجودك من عدمك
فرت من عيناه دمعة حارة وهم بأن يعانقها فتراجعت هي للخلف ورفعت كفها مردفة بتحذير وصوت مبحوح :
_ خليك بعيد متقربش مني
لم يهتم لتحذيرها وجذبها يعانقها ويدفن وجهه بين ثنايا رقبتها هامسًا بصوت باكي ورجاء :
_ بس أنا فارق معايا وجودك ومش هستحمل اعيش من غيرك .. متسبنيش يايسر
احست بتراخي أعصابها وبدأت الرؤية تتشوش لديها وكذلك حاسة السمع فاغمضت عيناها تدريجيًا أما هو فأكمل بمشاعر جياشة :
_ أنا بحبك والله
ولسوء حظه أنها لم تدرك ماقاله واستسلمت لتراخي اعصابها ففقدت وعيها ، ابعدها عنه وكانت ملقية بين ذراعيه فزعر وأخذ يهز بوجهها هاتفًا بفزع :
_ يسر ردي عليا إنتي سمعاني
حملها واتجه بها للغرفة ليضعها على الفراش ثم عاد للمطبخ يجلب كوب ماء ورجع لها ثم بدأ ينثر الماء برفق على وجهها حتى فتحت عيناها بالتدرج وحين ادركت الوضع ولقربه الشديد منها ، دخلت في انفها رائحة عطره الرجولي واحست برغبتها في التقيأ فوثبت واقفة وركضت باتجاه الحمام واغلقت الباب فهرول خلفها ووقف يطرق الباب هاتفًا مهتمًا وقلقًا :
_ يسر إنتي كويسة ؟!
سمع صوتها الضعيف وهي لا تتوقف عن التقيأ :
_ حسن امشي ريحتك مش مستحملاها
غضن حاجبيه بدهشة ونظر لملابسه ثم رفع قميصه لأنفه يشتم رائحته بعد أن شك بأنه قد يكون به رائحة قذرة قليلًا ولكنه ملابسه كلها رائحة عطر ونثر على ملابسه كلها العطر ، فمن أين أتت الرائحة التي لا تتحملها هذه ؟!!! .
أجابها بشك وحيرة :
_ إنتي مش مستحمل ريحة البرفان ؟!
اخيرًا هدأت معدتها وتوقفت عن التقيأ فغسلت وجهها بالماء جيدًا وجففته ثم فتحت الباب وخرجت محاولة السيطرة على نفسها حتى لا تتقيأ مجددًا وتجعله يشك بأمرها .. نظرت له وقالت بتقزز من رائحة عطره :
_ أنا كويسة .. امشي بقى
طالت نظرته المريبة والدقيقة لها وهو لا يتحرك فدفعته بيديها هادرة بضجر :
_ يــــلا
تنهد بعمق وهتف بأعين ثاقبة كالصقر بعد أن احس بأن وضعها ليس طبيعيًا :
_ طيب همشي ، ولو احتجتي حاجة اتصلي بيا وأنا هطلعلك
لم تجيب واكتفت بنظرتها الجامدة تنتظره حتى ينصرف وبمجرد رحيلة اندفعت نحو الشرفة تفتحها وكذلك المروحة حتي يطردوا رائحة عطره التي تخنقها وترغبها في التقيأ مرة أخرى ، وأخيرًا غادرت الغرفة تمامًا وذهبت للغرفة الأخرى إلى حين أن تختفي الرائحة وتعود لغرفتها مجددًا !! …………
***
كان علاء يجلس على الأريكة بغرفته وأمامه حاسوبه النقال ينهي بعض الأعمال ، ففتحت هي الباب ودخلت حاملة على يدها صينية صغيرة فوقها طعام ، اقتربت منه ووضعتها بجانبه على الأريكة هامسة برقة :
_ إنت متعشيتش ، كُل
نظرت للطعام ثم لها وأخيرًا رجع بنظره للحاسوب متمتمًا بعدم مبالاة :
_ مش عايز شليه
تأففت بيأس وهدرت بنبرة خافتة :
_ شكرًا لإنك وافقت أو بالأحرى شكرًا لتفهمك اهمية دراستي بالنسبالي لما اتكلمت معاك
_ اتمنى تعرفي قيمتها المرة دي وتركزي على الدراسة بس لأن ااا…..
قالت مقاطعة إياه بجدية :
_ متقلقش أنا عن وعدي وزي مش وعدتك مش هختلط بحد وهيبقى كل وقتي لدراستي عشان اتخرج بتقدير كويس
تمتم بنبرة عادية ليس بها أي ضجر أو خنق :
_ لما نشوف
صمتت لدقائق قليلة حتى سألت بتردد وبؤس :
_ علاء هو أنت بتروح عند نينا ؟
فهم سبب سؤالها فأجابها بخفوت دون أن يرفع نظره :
_ مش كتير
تشدقت بصوت يغلبه البكاء :
_ وحشتني أوي وهي حتى مش بتديني فرصة احكيلها الحقيقة
رفع نظره رمقها بسكون لبرهة من الوقت ثم همهم بصوت أجش :
_ أنا هتكلم معاها في مرة وافهمها كل حاجة
دهشت وتهللت أسايريها لتجيبه بذهول وسعادة :
_ بجد ؟!!!!
هتف بحزم وجفاء بعد أن رأى نظرتها الفرحة وخشى أن تفهم هذا كنوع من استسلامه لها :
_ ده مش عشانك ده عشانها هي لأنها حالتها وحشة من وقت ماعرفت اللي حصل معاكي وشافت صورك ومن وقت جوازنا كمان ، فيمكن لما تعرف إن الموضوع كان شبه محاولة اعتداء ترتاح وتسامحك
_ بجد ياعلاء أنا مش عارفة اقولك إيه .. شكرًا جدًا !
رأته يعود بنظره للحاسوب مجددًا دون أن يجيب عليها فاستعجبت من حالاته المتغيرة والعجيبة ، بلحظة يكون لطيفًا وطيبًا وبلحظة أخرى يكون فظًا وجافًا ، باتت لا تفهم أهو يبغضها أم مشاعره تجاهها عادية لا هي بالبغض ولا بالاستلطاف !! ، ولكن مايهم الآن أنه سيساعدها في تحسين علاقتها مع جدتها مرة أخرى وهذا الشيء يكفيها لكي تكون سعيدة لاسبوع كامل وليس يوم أو يومين فقط ! ………
***
وضعت أمامه القهوة التي طلبها منها وجذب مقعد لتشاركه في جلسته وتهتف في فرحة غامرة :
_ أخيرًا سمعت كلامي وقررت تاخد الخطوة دي ياحبيبي
تمتم إسلام بعبوس :
_ أنا متردد أساسًا ياماما وخايف متوافقش .. بس قولت هجرب ولما ياجي زين هقوله
ملست على كتفه بحنو امومي وغمغمت بنظرة تبعث الأمل في نفسه :
_ هتوافق متقلقش أنا واثقة
_ بس متجبيش سيرة لحد حتى ملاذ لغاية ما اكلم زين
_ حاضر متخفش مش هقول لحد ، والله إنت مش متخيل فرحتي إزاي من وقت ماقولتلي على الخبر ده
ابتسم بدفء والتقط كفها يقبل ظاهره بلطف مردفًا بعبث :
_ ادعيلي إنتي بس ربنا يسهل الأمور وكل حاجة هتبقى زي الفل صدقيني
مدت كفها الآخر وملست على وجنته تهتف بمشاعر صادقة ، تدعو له من صميم فؤادها :
_ ربنا يسعدك وينولك مرادك ياحبيبي
أخذ نفسًا طويلًا وحملق قي اللاشيء امامه بشرود .. ربما تكون هذه المرة الأولى التي تجرأ فيها ليطلب فتاة للزواج وسيجرب هل سينصفه حظه أم يخذله ، هل عجز قدمه سيقف حاجز بينه وبين الفتاة التي يريدها أم لا ؟! ………..
***
وضع زين المفتاح في قفل الباب ودخل هو اولًا ثم هي ، حمل الحقائب ووضعها بجانب الباب ثم اغلقه أما هي فدارت بنظرها في ارجاء المنزل بابتسامة عريضة .. التفتت له برأسها وقالت :
_ البيت وحشني أوي والله
هدر باسمًا بعذوبة :
_ ما أنا مكنتش مرتاح أوي هناك عشان كدا قولت نرجع
اقتربت منه ولفت ذراعها حول رقبتها هاتفة باحتجاج :
_ بس إنت مفسحتنيش كتير لا في مرسى ولا الرياض .. وكنت حابسني في البيت علطول
قهقه بخفة ثم لف ذراعه حول خصرها يجذبها إليه أكثر ويهمس غامزًا بلؤم :
_ ما احنا مكناش فاضيين ياحبيبتي وكان ورانا اجتماعات عمل مهمة
مالت شفتيها لليسار مبتسمة باستحياء من تلمحياته الجريئة .. ولكنها هتفت بتذمر وهي تلقي عليه اوامر :
_ مليش دعوة هتفضي نفسك مخصوص وتفسحني هنا
_ بس كدا .. إنت تأمر ياجميل ، هظبط نفسي ونخرج نتفسح
ابتعدت عنه وقالت برقة :
_ أنا هدخل اغير هدومي واخد دش عشان بعدين احضر العشا وإنت كمان روح غير هدومك يلا
هز رأسه لها بالموافقة وعندما تورات عن انظاره عبس وجهه من جديد عند تذكره لإسلام فأخرج هاتفه واجرى اتصال بكرم الذي اجابه بعد وقت من الرنين :
_ ايوة يازين إنت رجعت القاهرة ولا إيه ؟!
تشدق بصلابة :
_ ايوة رجعت .. تعالى ياكرم على الشركة عايز اتكلم معاك في موضوع
رفع كرم حاجبه وهتف بتساءل :
_ موضوع يخص الشغل يعني ؟!
_ لا ملوش دعوة بالشغل .. تعالى بس يلا أنا هطلع دلوقتي وهستناك هناك
اجاب عليه بريبة من نبرة صوته الغريبة ورغبته في الالتلقاء والتحدث معه بهذه الساعة :
_ طيب هلبس واجيلك
***
غادر كرم المنزل منذ مايقارب العشر دقائق وبقيت هي بمفردها تشاهد التلفاز ومندمجة مع الفيلم ، ولكن تجمدت ملامح وجهها عندما سمعت صوت رنين الباب .. تساءلت بتعجب ” هل كرم اتي بهذه السرعة ؟! ” هبت واقفة واتجهت ناحية الباب بحيرة ، فحتى لو اتي لما يرن جرس الباب وهو لديه المفتاح ، هل نساه وذهب بدونه ؟!! .
وقفت خلف الباب وقالت بخوف بسيط :
_ مين ؟
_ أنا ياشفق افتحي
تراجعت للخلف حين ميزت الصوت وعرفت فورًا بأنها ابنة عمها .. فهمست لنفسها باستغراب ودهشة من قدومها لها وبهذه الساعة :
_ ريماس !!! .. ودي إيه اللي جابها دلوقتي ؟!
اصابته الصدمة فبقى ساكنًا يحدق بأخيه غير مستوعبًا ما سمعه منه للتو ، هل هو يمزح أم يقول الحقيقة ؟ ، لا يعرف !! .
هتف كرم منذهلًا :
_ زين إنت متأكد إنه إسلام ؟!!!
اجابه زين بشجن وأسى :
_ كل الأدلة اللي قدامي بتقول إنه هو ياكرم ، عمل حادث في نفس اليوم ونفس المكان ورجله مش بيمشي عليها بسبب الحادث ، أنا هتجن من وقت ماعرفت ومش عارف أعمل إيه ولا اتصرف إزاي .. وبقيت مش قادر ابص في عيون ملاذ
أصدر كرم زفيرًا حارًا ومسح على وجهه بحيرة وضيق ثم عاد بنظره لأخيه وسأل بترقب :
_ إنت لسا مقولتش ليها إنك كنت ….
قاطعه وهو يهز رأسه بالنفي ويدفن وجهه بين راحتي يديه متمتمًا بصوت مهموم :
_ كل ما اقول هقولها اتراجع وملاقيش الجراءة .. مش قادر اقولها إني كنت مدمن ودخلت مصحة اتعالج ، وبفكر في نظرتها ليا هتكون ازاي لما تعرف وردة فعلها
كرم برزانة امتزجت بالحزم :
_ دي حاجة وعدي عليها سنين واكيد هي مش هتاخد منك موقف على موضوع كان وخلص من سنين .. لكن مينفعش تخبي عليها يازين لازم تقولها ، شوف الوقت المناسب واتكلم معاها فيه بهدوء وفهمها كل حاجة وأنا متأكد إنها هتتفهم ومش هتزعل أوي لأنك خبيت عنها طول المدة اللي فاتت بالأخص لما تفهمها اسبابك اللي خلتك متقولهاش
رفع وجهها ونظر لكرم مبتسمًا بمرارة وتشدق :
_ طيب ده موضوع وخلص زي ما بتقول من زمان .. لكن إسلام هقولها إزاي أنا السبب في اللي اخوكي فيه وعذابه طول السنين دي
تنهد الصعداء بحيرة ويأس ثم قال بخفوت وحكمة :
_ أنا برأي إسلام متقولهاش دلوقتي واصبر شوية لغاية مانشوف حل مناسب
_ أنا فكرت في حاجة .. هجرب واشوفها بس يارب تنفع أهو على الأقل ارتاح شوية من عذاب ضميري
***
فتحت شفق لها الباب ووقفت تحدقها بأعين ثابتة ومتفحصة لتهمس ريماس بارتباك :
_ أنا جيت اتكلم معاكي شوية .. ممكن
تنفست شفق الصعداء ثم افسحت لها الطريق لتعبر واخرجت رأسها من الباب تلقي نظرة فاحصة على الخارج لتتأكد من أنها لم تجلب أي من أبيها أو أخيها معها ، ثم دخلت واغلقته واشارت لها بيدها أن تشير مباشرة إلى الداخل حيث الصالة .. فسارت ريماس بخطواط متوترة حيثما اشارت لها وجلست على الأريكة لترمق شفق بعذوبة وتسأل :
_ كرم موجود ؟
هزت رأسها بالنفي ثم جلست بجوارها وتطالعها بنظرات مقتضبة تنتظر منها أن تبدأ فيما تريد قوله لها والذي أتي بها إليها في هذه الساعة ، لتلتزم ريماس الصمت لبرهة من الوقت تنظم بداية حديثها معها ثم تحدثت أخيرًا بنبرة لا تحمل أي غل أو خبث :
_ شفق إنتي يمكن عارفة إني مش بكرهك أبدًا ومكنتش موافقة على أي حاجة بيعملها بابا أو جاسر ومازالت مش موافقة ، ومش جاية هنا عشان اقولك إنك غلطانة وكان لازم تقولي لبابا قبل ماتتجوزي
رسمت شفق الابتسامة الساخرة واجابتها بها :
_ امال جاية ليه ؟!
استكملت حديثها بنفس نبرتها السابقة :
_ إنتي عندك حق بابا وجاسر بعد االي عملوه معاكم إنتي وسيف ومرات عمي الله يرحمهم يديكي الحق تمسحيهم من حياتك كلها ، بس أنا جاية اطلب منك طلب صغير واتمني تفهميني
حدقتها بفضول عندما ذكرت طلب واهتمت أكثر لحديثها لتعرف .. ماهو الطلب ؟ ، لتجدها تقول ببعض الرجاء :
_ بابا وجاسر مش هيسكتوا وكذلك كرم وإنتي أكيد مش هتكوني حابة جوزك يدخل في مشاكل وأنا كذلك .. فأنا كل اللي عايزاه منك إنك تحاولي تقنعي كرم إنه يلاقي حل وسط بدل المحاربة والعداء وأنا هعمل كدا برضوا مع بابا وهحاول اهديه واخليه يتراجع عن غضبه
هدرت شفق بانفعال وسخط :
_ أنا اساسًا بعتبركم مش موجودين ياريماس من وقت اللي عمله اخوكي لما سيف رفض يجوزني ليه .. حاول يأذيه هو شخصيًا ويأذيه في شغله عشان يخسره كنوع من الانتقام ، اخوكي مريض وعايز يتعالج
_ هو بيعمل ده كله لأنه بيعشقك بجنون والله صدقيني
صاحت شفق بغضب عارم ونبرة مرتفعة :
_ مفيش مبرر للي عمله واللي بيعمله هو وعمي .. متحاوليش تدافعي عنه ياريماس
_ أنا مش بدافع عنه بالعكس أنها عارفة ومعاكي جدًا إنه غلطان وحيوان كمان ، بس صدقيني حتى انا تعبت من المشاكل دي مش إنتي بس وعايزة نلاقي حل وسط نصلح بيه الكل ويرضينا كلنا
تأففت شفق باختناق وهي تلوي فمها ممتعضة تفكر فيما قالته منذ قليل ثم اجابتها بنبرة شرسة وقوية تحمل التهديد :
_ تمام هحاول مع كرم واعمل زي ما قولتي وده مش عشانكم لا ده عشان أنا خايفة على جوزي ومش مستعدة اخسره لإني مليش غيره ، بس اقسم بالله ياريماس لو ابوكي واخوكي حاولوا يأذوا كرم لاوديهم ورا الشمس ومش هسكت زي ماسكت يوم سيف بعد اللي عملوه معاه لأن وقتها أنا اللي هديت سيف برضوا عشان المشاكل متزيدش بس المرادي أنا اللي مش هرحمهم
اماءت لها بتفهم ونظرات هادئة بها القليل من اليأس ثم وقفت وسارت باتجاه باب المنزل وعندما امسكت بالمقبض وادارته للأسفل ثم جذبت الباب إليها ، فقابلت كرم بوجهها والمفتاح بيده كان على وشك أن يضعه في القفل ليفتح ويدخل ولكنه تصلب بأرضه وهو يطالعها بريبة .. التفتت ريماس برأسها ناحية شفق ثم القت نظرة اخيرة على كرم وانصرفت فورًا ، لينظر هو لزوجته باستفهام ويدخل هاتفًا باستغراب :
_ مين دي ؟!
اغلقت الباب خلفه وقالت بنبرة عادية :
_ ريماس بنت عمي
أجاب بغلظة صوت بعد أن اشتدت قسمات وجهه :
_ ودي جاية ليكي ليه ؟!
شفق بخفوت :
_ جات تتكلم معايا وأنا رديت عليها باللازم .. متشغلش بالك مفيش حاجة ، إنت ليه طلعت فجأة كدا وكنت مستعجل ؟!
نزع سترته عنه وتمتم وهو يتجه إلى الداخل :
_ زين كان عايزني في موضوع ضروري ورحتله
ثم التفت برأسه لها وقال بحدة يلقى نتبيهات صارمة عليها :
_ لما أكون مش موجود متفتحيش لحد نهائي مفهوم
همست بإذعان لأوامره دون أي ضيق من طريقته :
_ حاضر مش هفتح
لحقت به إلى الغرفة مهرولة واغلقت الباب بلطف ثم اقتربت منه ووقفت أمامه تبعد يده عن القميص الذي يفك ازراره لينزعه وتولت هي المهمة هامسة بنعومة :
_ مالك ؟
_ مليش مرهق شوية وعايز انام بس
قالت بذكاء انوثي وهي تشغل نفسها بفك الأزرار في رقة :
_ يعني زين مقالكش حاجة ضايقتك
ابتسم بحب على محاولاتها اللطيفة لأخذ الكلام منه دون أن يشعر وهي تتصنع البراءة ، انحنى بجزعة إليها مغمغمًا بعد أن طبع قبلة حميمية على وجنتها :
_ اطمني كله زي الفل .. أنا زي ماقولتلك تعبان بس وعايز ارتاح
انتهت من فك الأزرار وتركته مفتوحًا دون أن تنزعه عنه ، لترفع اطرافها حتى تصل لمستواه وتخطف قبلة من جبينه أيضًا مهمهة بدلال أنوثي مثير :
_ طيب ياحبيبي تصبح على خير أنا هروح اعمل حاجة بسرعة وهاجي كمان انام
غمز لها بمداعبة ماكرة باسمًا :
_ متتأخريش على حبيبك بس هااا
انطلقت على شفتيها ابتسامة مستحية ورمقته بطرف عينها في اضطراب بسيط ، لتغادر الغرفة فورًا وتتركه يبتسم ويقول بعدم حيلة من خجلها :
_ وأخرة الكسوف ده يعني .. ما أنا زهقت طيب وخلاص طاقة الصبر خلصت عندي
أما هي في الخارج فرسمت الابتسامة اللئيمة على ثغرها هامسة لنفسها باستمتاع وتلذذ ” إنه دورك لتتعلم القليل من الصبر الذي عملتني إياه وأنا أحاول الولوج لقلبك !! ” .
***
في صباح اليوم التالي داخل مبني شركة طاهر العمايري بأمريكا ……..
كان حسن بطريقه لمكتب يسر لكي يعرض عليها شيء خاص بالعمل وهم بأن بقبض على مقبض الباب ليفتحه ولكنه سمعها تتحدث في الهاتف بالانجليزي عن موعد مع طبيبة وتقول بأنها ستأتي الآن للكشف .. غضن حاجبيه بحيرة وتساءل ” طبيبة ماذا ، وما سبب ذهابها لطبيبة ؟!! ” سمعها تلملم اشيائها وتخطو باتجاه الباب لتغادر فاسرع واختبأ بالجانب حتى لا تراه وتابعها وهي تسير ناحية الباب الرئيسي ، هو منذ الأمس يشعر بأن بها شيء غريب والآن شكه يتفاقم ، هرول ودخل مكتبها ووضع على سطح المكتب الأوراق ثم لحق بها دون أن تلاحظه واستقل بسيارته يقود خلف خطا السيارة التي استقلت بها .
توقف أمام عيادة الطبيبة وترجلت هي من السيارة وسارت لداخل العيادة ، فرفع عيناه يقرأ لافتة تعريف الطبيبة .. ليضيق عيناه بتفكير عندما رأى أنها طبيبة امراض نساء ، فجالت بذهنه لحظات فقدانها للوعى المستمر ، وبالأمس عندما لم تحتمل رائحة عطره بالرغم من أنه يعرف جيدًا أنها تحب روائح العطور .. استغرق من الوقت دقائق وهو يفكر في الشيء الوحيد الذي يدور بذهنه الآن ولكنه نفض رأسه للجانبين هاتفًا بسخرية :
_ لا طبعًا مستحيل هي قالتلي إنها اجهضته
استمر باقناع نفسه كالاتي ” أنا فقط اتوهم واوهم نفسي بأشياء ساذجة !! ” ، بقى ينتظرها إلى مايقارب الساعة حتى خرجت واستقلت بنفس السيارة فقاد سيارته خلفها يتابعها ، لينتهي به المطاف أمام منزل خالتها رآها تطرق الباب وتفتح لها الخالة تستقبلها بترحيب شديد ثم دخلوا واغلقوا الباب ، فتنهد هو بخنق وانطلق بالسيارة عائدًا إلى مقر الشركة ……
***
تسللت ملاذ من خلفه برقة حتى عانقته من الخلف بينما هو فكان يعقد ربطة عنقه .. نظر لانعكاسها في المرآة وهي خلفه وهمس بتعجب :
_ في إيه ؟!
_ رايح الشركة ؟
_ آه بس هعدي الأول على المطعم
رمشت بعيناها عدة مرات في لطافة وقالت بنعومة :
_ طيب أنا ليا طلبين !
لم يرد وصمته كان كدليل على أنه ينتظر منها التحدث فغمغمت بخفوت :
_ إنت مش قولتلي لما نرجع هشوف رفيف عشان نروح واحفظ قراءن
سكت لبرهة تقارب الدقيقة حتى التفت لها بكامل جسده وتمتم بعذوبة وحب :
_ وإيه رأيك نحط تغير صغنن في الخطة واحفظك أنا واديكي أحكام التجويد
صاحت بفرحة غامرة ووجه اشرق نوره :
_ بتتكلم جد
هز رأسه بالإيجاب لتستكمل هي بعبث :
_ بس إنت معاك شغلك كل يوم ومش هتبقى فاضيلي
_ وإيه يعني شغلي كل يوم لما ارجع من الشغل ناخد ساعة أو ساعتين نخصصهم لوقت الحفظ والقراءن ونحفظ فيها وأهو فرصة أنا كمان اراجع على القراءن لإني نسيت حجات كتيرة للأسف
ارتفعت لمستواه وقبلته من جانب ثغره بعاطفة وغنج هامسة :
_ ربنا يخليك ليا يازينو
استرسلت حديثها بنفس اللطف :
_ الطلب التاني بقى .. إنت أكيد فاكر طنط احلام صديقة ماما اللي كانت في فرحنا .. هي جات من السفر وراحت لماما ونفسها تشوفني جدًا قبل ما تمشي ، أنا طبيعي كنت هروح لماما بس كنت هروحلها بكرا أو بعده لكن للأسف كدا أنا مضطرة اروح النهردا .. فلو معندكش مانع وموافق تستناني البس في عشر دقايق بس وتاخدني معاك في طريقك
لم يعارض كما توقعت حيث همهم بنبرة عادية تمامًا :
_ طيب بس بسرعة عشان أنا مستعجل
هتفت بمرح طفولي جميل :
_ عد على صوابعك لغاية عشرة هتلاقيني خلصت
وفورًا اندفعت إلى الحمام لترتدي ملابسها في عجالة ودون تأخير ، واكمل هو استعداده للخروج .. يرتدي سترته والحذاء وويضع عطره ……..
***
يقف كرم بالشرفة ويتحدث في الهاتف بجدية تامة ، وكان جاهز تمامًا للمغادرة والذهاب للعمل .. وبينما هو منشغل بحديثه في الهاتف لمحها وهي تخرج من الحمام وترتدي بنطال قصير واعلاه تنورة منزلية ضيقة وبحمالات عريضة قليلًا ، وتقف تجفف شعرها بالمنشفة وتلقى برأسها يمينًا ويسارًا فيتطاير شعرها معه ويتناثر منه الماء .. تصلب بأرضه وهو يتابعها بهيام غير منتبهًا لصوت الرجل الذي يحدثه بالهاتف ، فعاد لوعيه وانهى الحديث سريعًا في الهاتف ثم دخل لها واغلق باب الشرفة ، اقترب بخطوات هادئة ولف ذراعه حول خصرها يجذبها إليه ليهمس غامزًا بلؤم بعد أن خطف قبلته من وجنتها :
_ طيب إيه هنفضل كدا كتير !
في باديء الأمر لم تفهم قصده ولكن حين ادركت نظرته وابتسامته فهمته جيدًا وتصعنت عدم الفهم لتقول ببراءة مزيفة :
_ مش فاهمة ؟!
هتف يوضح لها قصده بوضوح وجراءة أكثر :
_ يعني أنا قولتلك موعدكيش إني هصبر كتير ، والصراحة أنا شايف إنه كفاية كدا .. فخلينا نركن الكسوف ده على جنب وموضوعه سهل وهيتحل في يوم وليلة
ابدت عن ضيقها المزيف وصاحت بغضب فشلت في تمثيله ، فقد كان هدفها هو التهرب منه .. ولكن حيلتها الفاشلة لم تجدي بنفع معه ! :
_ إيه يوم وليلة دي .. هو أنا واحدة جايبها من الشارع ياكرم ، ابعد كدا لو سمحت
ازاحته من أمامه برفق وهمت بالابتعاد فجذبها من ذراعها هادرًا بضحك :
_ خدي هنا إنتي هتتلككي ، عايزة تلاقي أي حاجة عشان تهربي مني
زمت شفتيها بخنق وتضمر في ثناياها التلذذ وهي تراه يتحرق شوقًا إليها .. رأته يقترب منه مجددًا ويتمتم بلطافتة وابتسامته الساحرة كالمعتاد :
_ جهزيلنا عشا رومانسي وحلو النهردا وأنا هظبط شغلي عشان مروحش الشركة بكرا ونقضي السهرة الليلة دي صباحي
لم تتمكن من اضمار الابتسامة التي انطلقت على شفتيها ، وكانت فعلتها القادمة بمثابة صدمة له حيث وجدها تتعلق برقبته وتهمس بدلال وغنج انوثي مثير أمام وجهه مباشرة :
_ تحب اعملك إيه في العشا بقى ياكوكو
رفع حاجبه باستنكار من فعلتها ، على أساس أنها خجلة منه !! .. ولكنه لم يعقب طالما أخيرًا رحمته من عذاب الانتظار وستجعل ليلتهم كما يريد تمامًا ، تمتم بغرام بعد أن التقط كفها وطبع قبلة على ظاهره :
_ أي حاجة بتعملها الأيد الحلوة دي بتطلع جميلة
تخلت عن توترها البسيط واستحيائها منه لتقترب وتخطف قبلة من جبينه هامسة بنظرات عاشقة ونبرة ليست مريحة :
_ متقلقش ياحبيبي هتاجي بليل هتنبهر
زاد تعجبه من أمرها الغريب وتصرفاتها المختلفة ولكنه تجاهل وهتف بتمنى وعدم اطمئنان :
_ يارب !! .. أنا همشي عشان متأخرش
_ مع السلامة
قالتها بابتسامة صافية وعاطفية ، وانتظرت حتى رحيله لتضحك بعاطفة كلما تتخيل ردة رفله حين يعود مساءًا ويرى العشاء والتجهيزات التي اعدتها لليلتهم ! ……….
***
بمدينة نيويورك بأمريكا …..
بقى حسن جالسًا أمام النافذة في منزله بعد أن عاد من العمل ورغم أنه مرت ساعات طويلة نسبيًا لم تعُد حتى الآن !! .. لا يزال عقله عالقًا بذهابها لطبيبة النساء وما شهده من تصرفات غريبة صدرت منها في الفترة الماضية ، ولكنه يأبي الاستماع لأي من أفكار ذهنه الساذجة في رأيه ! .
وصلت إلى المنزل أخيرًا فوثب هو واقفًا واتجه إلى باب الشقة ليفتحه ويهتف مناديًا عليها قبل أن تصعد لشقتها :
_ استني يايسر
وقفت والتفتت بجسدها إليه تهتف ببساطة :
_ خير
تحرك نحوها حتى اصبح بمقابلتها مباشرة وسأل بنظرات حادة ودقيقة :
_ إنتي كنتي فين ؟
اربكها سؤاله وتسارعت دقات قلبها وأول شيء خطر في ذهنها ” هل كشف ما أخفيه عنه وعن الجميع ؟ ” ثم عادت تجيب على نفسها أيضًا ” بالتأكيد لا وإلا لماذا سيسأل إذا كان يعرف بالفعل ! ” .
يسر بترقب واضطراب ملحوظ :
_ بتسأل ليه ؟
تمتم بأعين ثاقبة ونبرة رجولية خشنة :
_ شوفتك إنتي وطالعة من الشركة ولما اتأخرتي ومرجعتيش قلقت عليكي
اطلقت زفيرًا طويلًا بارتياح بعدما سمعت رده واقنعها هو بهذا الكلام أنه لا يعرف بشيء ولا يشك بأمرها حتى ! ، لم تجيب عليه بمضض كالعادة بل غمغمت بنبرة عادية :
_ روحت عند خالتو اقعد معاها شوية لما خلصت الشغل اللي ورايا
كما توقع تمامًا ستكذب وتخفي الأمر ولذلك هو تعمد سؤالها وكأنه لا يعرف شيء ولكنها بكذبها لم تنقذ نفسها بل زادت من شكه وتأكيده بأنها تخفي عنه شيء خطير ، هتف حسن بتأكيد كأنه يعطيها الفرصة لكي تقول الحقيقة وتمحي شكوكه بها :
_ خالتك بس يعني ؟!!!
عاد اضطرابها من جديد لتجيبه بتوتر وصوت ليس طبيعيًا وقويًا كعادتها :
_ أيوة خالتو بس ياحسن
همت بالاستدارة والانصراف فأوقفها بقبضته على ذراعها وهو يردف بلطف ونظرات تبدلت من الحدة للحنو :
_ أنا مجهزلك مفاجأة حلوة بليل ممكن مترفضيش وتطلعي معايا
رمقته بنظرات فاحصة لمعالم وجهه المتشوقة لسماع موافقتها ، وكانت ستخضع له ولكنها أبت وسحبت ذراعها هادرة بحزم :
_ لا مش موافقة وخليك بعيد عني زي ما اتفقنا
اوشكت على الرحيل مرة أخرى فاعترى طريقها وهتف برجاء وصوت دافيء :
_ احنا محتاجين نتكلم كويس مع بعض ودي هتبقى فرصة كويسة صدقيني
يسر بقسوة وهي تحاول إبعاده لكي ترحل :
_ كل حاجة بينا اتكلمنا فيها ومفيش حاجة لسا هنتكلم فيها
_ في وبالعكس أهم حاجة كمان .. لو سمحتي وافقي يايسر ، وأنا واثق جدًا إن المفاجأة هتعجبك
انتابها الفضول حول المفاجأة التي يتحدث عنها ولكن لم يكن هذا هو الجزء الأهم ، بل شعورها بالسعادة الداخلية أنه جهز لها مفاجأة خاصة ولأول مرة ، مما سبب لها مشاعر متضاربة ما بين الفضول والفرحة وبعض العاطفة .. تمكنت بصعوبة من إخفاء سعادتها واجابته باقتضاب وتصنع عدم الاكتراث لما جهزه من أجلها :
_ طيب بس أعمل حسابك إنها أول وآخر مرة هتكون
كانت نظرته المشرقة تكفي للرد على السخافة التي تفوهت بها بأنها الأخيرة ، بينما هي فاندفعت لشقتها بالأعلى ومالت شفتيها قليلًا للجانب بعد أن فشلت في حجم ابتسامتها أكثر من ذلك !! ……..
***
كل من إسلام وزين بالمطعم يجلسون على طاولة متوسطة وأمامهم القهوة الخاصة بكل منهم .. الصمت يعم بينهم حتى اخترقه إسلام بقوله :
_ خلاص الأسبوع الجاي هنعمل الافتتاح احنا كنا مستنينك ترجع عشان لازم تكون موجود
ارتشف زين من كوبه وغمغم بإعجاب وهو يجول بنظره بين زوايا المطعم :
_ ما شاء الله الشغل جميل .. اثبتلي إنك كفاءة زي ما كنت متوقع
ابتسم وقال بعذوبة :
_ والله الحق يتقال هي الأنسة رفيف كانت شايلة اغلبية الشغل وأنا كنت براجع وبشرف وبساعدها في حجات بسيطة بس
أماء بالإيجاب في تفهم ليهيمن السكوت بينهم مرة أخرى وهذه المرة كان زين يعلق نظره عليه يفكر في كيفية البدء فيما يريد التحدث معه بشأنه ، ولكنه حسم قراره وهتف باهتمام وخفوت يسأله لكي يسمع التفاصيل منه التي ستؤكد له شكوكه :
_ إنت حصل معاك الحادث إزاي يا إسلام ؟
استغرب سؤاله في البداية ثم تمتم ببساطة يشرح له التفاصيل :
_ كان في شارع … وفي الوقت ده أنا كنت جاي من فرح واحد صاحبي ومكنش فيه مواصلات بسبب الوقت المتأخر فاخدتها مشي في الشارع ومرة واحدة لقيت عربية سريعة جاية عليه ومحلقتش اتدارك الموقف حتى عشان ابعد وخبطتني ، اللي فاكره إن اللي كان في العربية نزل بص عليا وحتى محاولش يسعفني لا ركب عربيته تاني وهرب
هل كان دنيء لهذه الدرجة التي تجعله يترك جريح على الأرض هو من قام بأذيته ويهرب .. ” لقد استحقيت كل ماحدث لي عندما ذقت أصناف العذاب في المصحة وكنت على عتبة الموت بعد حادث السيارة الذي كنت السبب فيه أيضًا ” تحدث لنفسه كالآتي واحس بأنه يبغضها ، يستحقرها .. كيف يخبره ويقول أن ذلك الرجل الدنيء الذي تركك جريح على الأرض بعد أن صدمك هو أنا ! .
عبس وجهه وظهر عليه الخزي من نفسه والأسى ثم تنهد الصعداء وتمتم بنبرة جادة :
_ أنا دورت ليك وعرفت دكتور كويس جدًا بس مش في مصر وقالي إن نسبة نجاح العملية كبيرة جدًا وهترجع تمشي أكيد زي الأول إن شاء الله .. أنت فكر وخد قرارك وخلينا نسافر ونشوف عشان نبدأ نمشي في اجراءات العملية
اندهش قليلًا ثم قال برزانة :
_ ماشي يازين بس أنا عارف كويس أوي إن العملية دي هتكلف مبلغ ضخم مش مجرد كام ألف
_ أنا اللي جايبلك الدكتور وبقولك هتسافر وملكش دعوة بالباقي بقى
إسلام برفض قاطع وصلابة :
_ لا طبعًا مستحيل أقبل إنك تدفعلي مبلغ كبير بالمنظر ده
زين بحكمة وابتسامة صافية :
_ يابني احنا مش اخوات ، اعتبره دين حتى وابقى سده براحتك بعدين .. متعاندش بس واسمع الكلام خلينا نسافر لأن الدكتور قالي إن كل ما الوقت يعدي والسنين تمر الحالة هتزيد أكتر معاك أوي
هز رأسه بالنفي وهتف باصرار وخشونة :
_ متحاولش معايا في أمر مفروغ منه .. ده مفهوش اختيار بين آه ولا ، أنا حاليًا معيش نص المبلغ حتى عشان نقول إنك تساعدني في الباقي واسدهولك بعدين ، عارف إنك عايز تساعدني يازين وربنا يعلم إني بعتبرك أخ ليا فعلًا بس برضوا مقدرش اكلفك بمبلغ زي ده ، سيبه لما ياجي وقته وأنا هقولك عشان تسافر معايا للدكتور ده
زفر زين بعدم حيلة وخنق ثم رتب على كتفه هاتفًا بنفس نقية :
_ برضوا فكر في كلامي ومتتسرعش الدكتور ده فرصة والله يعلم ممكن يحصل إيه لو صبرت زي مابتقول .. فكر كويس وأنا كام يوم وهكلمك تاني
طالت نظرات إسلام إليه في سكون يحرك افكاره في ذهنه ويحسب حديثه جيدًا .. هو بالتأكيد أكثر من يرغب في أن يعود كطبيعته مجددًا ولكنه أيضًا لا يملك المبلغ ! ……..
***
توقفت السيارة أمام مقر شركة العمايري وفتحت هي الباب ثم نزلت فسمعت صوت السائق الخاص وهو يهتف برسمية :
_ استنى حضرتك ياميار هانم ؟
_ لا امشي أنا هرجع مع علاء
ثم قادت خطواتها للداخل وهي تسير بثقة تعرف وجهتها جيدًا وأين يوجد مكتبه ، وبعد لحظات من السير داخل الشركة وقفت أخيرًا أمام باب مكتبه ثم أخذت نفسًا عميقًا وامسكت بالمقبض وفتحت فرأته يثبت نظره على أوراق أمامه وتارة ينظر للحاسوب وتارة للورق ، دخلت واغلقت الباب خلفها ثم تنحنحت واقفة ، فرفع هو نظره إليها وعندما وقع نظره عليها لجمته الدهشة من رؤيته المفاجأة لها بمقر الشركة وهي لم تخبره بأنها ستأتي !! .
علاء بغلظة ونظرات صارمة :
_ إنني مش قولتيلي هتروحي مع رفيف عشان تشتري الهدوم !!
تنفست الصعداء وتحركت نحوه لتجلس على المقعد المقابل له وتهمس بخفوت وهدوء تام :
_ لا ما أنا الصراحة لما فكرت قولت إن الأفضل تروح إنت معايا
هي ليست بحمقاء أو ساذجة .. فكل خطوة تفعلها تكون بحساب ، وليس هناك شك بأنها رغبت بمجيئه هو معها حتى تثبت له حسن نيتها وتنشب بعض الثقة بينهما ، ولكي تجعله يطمئن لها وأنها لن تفعل شيئًا يضر باسم العائلة ابدًا .
أشار بسبابته إلى نفسه مغمغمًا باستنكار واستعجاب :
_ اروح أنا معاكي !!!!
أماءت برأسها عدة مرات وقالت بلسان حلو ورقة :
_ آه إنت .. بما إنك حاطط شروط إن الهدوم كلها تكون واسعة ومناسبة وحجات كدا كتير ، فأنا خايفة اشتري حاجة وفي الآخر متعجبكش ، فعشان متعترضش خالص بعدين ، طتاجي وتنقي معايا الهدوم
ضحك بخفة ساخرًا من ثقتها وطموحاتها العالية ليجيبها بعدم استيعاب :
_ انقي كمان !! .. إنتي هبلة ياميار ؟! ، متوقعة إني هسيب شغلي وهروح معاكي اشتري هدوم ونفضل نلف والكلام الفارغ ده ، ثم إن ده مش في مصلحتك أنا لو روحت معاكي واتخنقت وده اكيد اللي حيحصل لإن خلقي ديق ممكن اقولك مش هتروحي الكلية أصلًا واغير رأى
منعت ضحكتها من الخروج وقالت بثقة تامة وابتسامة صفراء :
_ هتروح ياعلاء ومتقلقش مش هنلف كتير ، وإذا كان على الشغل فأنا عندي استعداد أقعد معاك هنا لغاية ماتخلص وبعدين نطلع
_ قولت مش هروح أنا معنديش خلق اخرج واشتري هدوم وكمان مع بنت .. ياتتصلي برفيف ياتروحي البيت
رفضت بنظراتها الثابتة وهي لا تجيب عليه ليهتف وهو يجذب هاتفه :
_ تمام يبقى هتصل بناجي ياجي ياخدك يوديكي البيت
همست ببرود أعصاب وابتسامة متكلفة :
_ هو وصلني ومشيته قولتله إني هرجع معاك
حدجها مغتاظًا وصاح منفعلًا :
_ استغفر الله العظيم .. يعني إنتي مصممة تعصبيني ، مش كفاية طالعة من البيت وجاية هنا من غير ماتقوليلي
نهضت من على المقعد واتجهت إلى الأريكة الصغيرة وجلست بإريايحية عليها متمتمة بنبرة عادية تمامًا وابتسامة مستفزة وكأنه لم يكن يصيح بها للتو :
_ خلص شغلك يلا وأنا مستنياك
استفزته بشدة وود لو يقبض عليها ويخنقها من الغيظ ولكنه تمالك أعصابه ومسح على وجهه متأففٌا ومستغفرًا ربه وعاد يكمل عمله حتى يهدأ من مزاجه الذي عكرته ببرودها ! .. أما هي فاشاحت بوجهها للجهة الأخرى بعيدًا عنه واطلقت ضحكة صامتة مستمتعة باستفزازه وأنه ذعن لها بالأخير !!! ……….
***
مع غروب الشمس كانت يسر قد انتهت من ارتداء ملابسها وغادرت المنزل ثم نزلت الدرج بهدوء وحذر كما اعتادت منذ حملها خشية أن تنزلق قدمها دون وعي وتسقط .
وجدته ينتظرها بالسيارة فتحركت باتجاهه وكانت ستستقل بالمقعد الخلفي ولكنها رأته يشير لها بعيناه في لطف أن تاتي بجواره ، وبالرغم من ذلك لم تستمع له وفعلت ما ترغب به ليزفر هو بخنق وعدم حيلة من عنادها .
انطلق بالسيارة يشق بها الطرق وهو يلقى عليها نظرة كل لحظة في المرآة العلوية التي تعكس وجهها في الخلف ، تارة يراها تتابع الطريق بصمت وتارة تنظر له فتتلاقي اعينهم لثواني ملحوظة قبل أن تشيح بنظرها فورًا عنه ، وأخيرًا اخترقت فقاعة الصمت هاتفة :
_ إنت رايح بيا فين ؟!
_ هتعرفي دلوقتي متستعجليش
قالت بقسوة دون مرعاة لكل محاولاته لكي يسعدها ويثبت لها ندمه ، حتى لو لم تكن محاولات كما تريد ولكن يكفي أنه يحاول من أجلها :
_ أنا مش مستعجلة أنا لو عليا أساسًا مش عايزة أكون معاك في مكان واحد نهائي ، بس لما فكرت في كلامك لقيت إننا فعلًا محتاجين نتكلم عشان تبقى آخر مرة
ابدى عن حزنه الشديد وتمتم بأسى :
_ عارف يايسر ، بس ممكن منتكلمش في أي حاجة لغاية مانوصل وهناك قولي اللي تحبيه
التزمت الصمت ورأت أن أفضل حل الآن بالفعل حتى لا يتجادلوا بالسيارة ! .. وبعد دقائق طويلة نسبيًا توقفت السيارة ونزل هو أولًا ثم فتح لها الباب لكي تنزل فغعلت وتجولت بنظرها في الأرجاء يمينًا ويسارًا وهي ترى الناس يدخلون جميعًا إلى باب كبير وواسع ، فرفعت نظرها تحدق بالمبنى الضخم وإذا بها يلجمها الذهول وتهتف بصدمة :
_ ده الاوبرا !!
انحنى على أذنها وهمس بحب :
_ عارف إنك بتحبيه جدًا وكان نفسك أوي تروحيه
أماءت برأسها بإيجاب وهي تقول بابتسامة عريضة وعيناها مازالت معلقة عليه :
_ فعلًا
_ طيب يلا عشان العرض ميفوتناش
همت بأن تسير ولكن رأته يضم ذراعه بالجانب يحسها على وضع ذراعها بذراعه حتى يسيروا معًا .. ضحكت هي مستهزئة من طلبه السخيف وكأنها ستوافق أن تشابك ذراعها بذراعه !! ، وجدته يجول بنظره بين العامة يشير لها بأن تنظر ، فرأت أن جميع الرجال الذين جاءت معهم امرأة يسير معها كذلك كنوع من الرقى والرمانسية .. عادت بنظرها له ورمقته باقتضاب وفعلت كالجميع وهي تلقى عليه نظرات مشتعلة ، وبمجرد ما أن وضعت ذراعها ضمه جيدًا بين ذراعه وسارا نحو الداخل ، حتى وصلا إلى مقاعدهم الذي قام بحجزها في المقصورة فجلست هي أولًا ومن ثم هو بجوارها ، وبعد وقت ليست بطويل بدأ العرض وكان هو يتابع ملامح وجهها السعيدة والمبتسمة وهي تشاهد باستمتاع ، فاقترب على أذنها وهمس بعاطفة وصوت ينسدل كالحرير ناعمًا :
_ مبسوطة ؟
بعفوية شديدة وكأنها نست كل شيء من سعادتها ، نظرت له وهتفت بتلقائية ونظرات لا تحمل البغض والغضب بل كانت صافية بها مشاعر الحب الذي كان يبحث عنها منذ أن تركته وكانت تحاول اقناعه أنها لم تعد تحبه :
_ جدًا فوق ماتتخيل ، شكرًا ياحسن
طالت نظراته الهائمة بها وهو يتأملها بدهشة وعشق ، وقد صعدت ابتسامته العريضة لشفتيه يشاركها السعادة لأنه احس ببريق أمل يلمع بعد نظرتها الصافية والمحبة له التي كان فَقَدَ الأمل في أن يراها بعيناها مرة أخرى .
انتبهت لنظراته لها فارتبكت وادركت خطأها وبظرف ثانية ابعدت نظرها عنه وهمست لنفسها باغتياظ ” حمقاء يايسر .. ماذا فعلتِ الآن !! ، هل بعرض اوبرا سيتمكن من العثور على مسامحتك ولطفك بكل هذه السهولة ! ، بالتأكيد لن اجعله يحصل عليها إلا بعد عذاب ! ” .
***
في تمام الساعة الثامنة مساءًا …….
فتح كرم الباب ثم دخل واغلقه خلفه ، ترقب بسمعه الحركة في المنزل والسكون فكان هادئًا تمامًا ، ظن أنها تنتظره بالغرفة ولهذا المنزل يعم به السكون ! .. نزع حذائه عنه وتحرك إلى الداخل وأول شيء وقع نظره عليها مائدة العطام المتوسطة والموضوع فوقها صحون الطعام بانتظام وقامت بتزينها بشكل رومانسي كما طلب منها ، ابتسم بحب وحماسه وصل لمستوى مرتفع واصبح لا يطيق الانتظار لرؤيتها هي أيضًا ، فاندفع نحو غرفتهم وفتح الباب وهو يقول بإشراق وجهه متحمس :
_ شفق يا…….
تسمر مكانه وقد تلاشت ابتسامته تدريجيًا حين رآها بالفراش ونائمة ، استطاعت فورًا أن تطيح بحماسه لليلتهم الأولى في الأرض .. فاقترب منها وجلس على حافة الفراش بجوارها متمتمًا بخفوت وهو يهزها بلطف :
_ شفق إنتي نمتي !!!
فتحت جزء صغير من عيناها وهي تقول :
_ كرم !
اعتدلت في نومتها وغمغمت وهي تفرك عيناها :
_ لا منمتش أنا كنت مغمضة عيني بس
_ طيب قومي يلا عشان نتعشي مع بعض وأنا هروح اخد دش واجيلك
أماءت له برأسها بالموافقة لينحني هو بشفتيه إلى وجنتها ويخطف قبلة قبل أن ينهض ويذهب للحمام .. لتبتسم هي بعبث وتهب واقفة تنظر لنفسها في المرآة تهندم من مظهرها وتجدد مكياجها .. كانت ترتدي منامة تصل إلى الركبة بحمالات رفيعة وبفتحة ظهر واسعة وكبيرة وضيق بعض الشيء على جسدها يظهر منحنياتها بشكل مثير مما اعطاها لمسة أنوثية مغرية ، التقطت ” الروب ” وارتدته فوقه ثم غادرت الغرفة وذهبت لطاولة الطعام تضع اللمسات الأخيرة عليها ، وبعد دقائق ليست بطويلة اتى وكان يرتدي بيجامة منزلية من اللون الأسود فجلس على مقدمة الطاولة وهي بجواره ، القي عليها نظرة مغرمة ووضع أول لقمة في فمه وهي كذلك فعلت ، لتسمعه يهمس بعد لحظات قصيرة :
_ تسلم إيدك ياحبيبتي
لاحت الابتسامة الخجلة والعذبة على شفتيها وهي تجيبه :
_ بالهنا والشفا
اكملوا عشائهم لدقائق قليلة ومن ثم نهضت هي وبدأت في نقل الصحون للمطبخ وهو كذلك يساعدها .. وبعد انتهائها هيأ لها أنها سمعت صوت رنين هاتفها ، فذهبت للغرفة لتنظر له فلم تجد أي اتصال من أحد .. تسلل هو خلفها واغلق باب الغرفة ، وإذا بها تشعر به يحتضنها من الخلف .. انحبست انفاسها وتسارعت دقات قلبها واصابتها قشعريرة حين شعرت بشفتيه تطبع على كتفها ويهمس بهيام :
_ بحبك يا أميرتي !
التوتر والخجل استحوذوا عليها فلم تتمكن حتى من الفرح كما يجب بهذه الكلمة الذي نطقها لأول مرة ، احست بيديه تلتف حول خصرها ويمدهم لربطة الروب ليفكها وينزعه ، فاخذت نفسًا والتفتت له بجسدها تقول برقة وحماس :
_ كرم في فيلم جميل جدًا شوفت أعلانه وهيبدأ دلوقتي ، ماتيجي نسمعه نفسي أوى اتفرج عليه
رفع حاجبه يجيبها بستنكار لطلبها الذي في الوقت الخطأ تمامًا :
_ فيلم ودلوقتي !!!
هزت بالإيجاب وتمتمت برجاء :
_ أيوة ارجوك يلا
ابتسم بحب وهدر بحنو :
_ الفيلم بياخد تلات سعات او ساعتين ونص على التلفزيون ياحبيبتي .. مش وقته خالص دلوقتي الصراحة ، بكرا أنا موجود معاكي اليوم كله هنشغله على اللاب ونسمع براحتنا
عقدت ذراعيها أمام صدرها واجفلت نظرها أرضًا تزم شفتيها للأمام بعبس طفولي ، ليتأفف هو مغلوب على أمره وقال :
_ طيب خلاص يلا هنسمعه
عاد وجهها يشرق بالابتسامة من جديد واسرعت للخارج تقوم بتشغيل التلفاز وتجلس على الأريكة تشاهد الفيلم الذي يبدو أنه بدأ منذ دقائق قليلة وشاركها هو الجلوس بجانبها يعلق نظره على شاشة التلفاز مجبرًا وباقتضاب ..فقط لرغبتها ، أما هي فلا تفهم سبب خجلها منه .. لم تكن تخجل هكذا منه في بداية زواجهم ، ربما لأنها شهدت على جانب جديد منه فلذلك تخجل وتتوتر ، والآن تحاول التركيز على الفيلم لكي يمحو توترها .
مرت ساعة ونص وهم مازالوا يشاهدون ذلك الفيلم ، اندمجت هي بشدة في المشاهدة وكانت تشاهد باستمتاع .. غير منتبهة لذلك الذي سينفجر من الغيظ والانتظار ، تارة يمسح على وجهه متأففًا ولا يثبت في جلسته يتحرك يمينًا ويسارًا ، فلقد سئم من الجلوس هكذا واستنفذ كل طاقة الصبر لديه .. التصق بها وهمس بلطف :
_ مش كفاية بقى ولا إيه ياحبيبتي ، الفيلم لسا مطول وأنا زهقت !
نظرت له وقال متوسلة :
_ لا بليز خلينا نكمله عجبني أوي وممتع والله
زفر بخنق واعتدل في جلسته يعود لوضعه الطبيعي ولكن هذه المرة عيناه كانت معلقة على ساعة الحائط تارة ينظر للتلفاز وتارة للساعة وكلما تمر الدقائق يستاء أكثر من الانتظار الممل والذي افقده أعصابه .. هتف شبه منفعلًا بضجر :
_ وبعدين ياشفق مش معقول كدا ، هنفضل بالمنظر ده كتير يعني .. عدت ساعتين دلوقتي
ادركت أنها ضايقته ، ولكن ليس بيدها كانت متوترة بشدة ومشاهدة الفيلم نفعتها وهدأت من توترها قليلًا ، انزوت نظرها عنه بعبوس ليصدر هو تنهيدة حارة وهدأ ضجره عندما فهم توترها وخجلها .. اقترب منها وطبع قبلة على جبهتها هامسًا بمداعبة لطيفة مقصودة لكي يطمئنها ويهدأ من روعها :
_ كل الكسوف ده من الكوكو بتاعك !!!
ضحكت بخفة عند نطقه للاسم الذي تطلقه عليه وبالرغم من أنه لا يحبه ولكنها فهمت أنه يقوله متعمدًا لكي تضحك .. عادت الابتسامة لوجهه وهو يقول مشاكسًا :
_ ضحكت يعني قلبها مال خلاص
وجدته يهب واقفًا وينحني ليحملها على ذراعيه ويسير بها باتجاه الغرفة متمتمًا يسترسل مزاحه ومشاكسته :
_ تقريبًا الناس كلهم عندهم مشكلة مع اسمي كنت في الحضانة وكانت في مُدرسة بتقولي ياتوتي معرفش إيه جاب كرم لتوتي !! .. كرهتني في اسمي يلا بقى ربنا يسامحها
اطلقت شفق ضحكة أنوثية متأججة جلجلت في أرجاء المنزل ، لتتسع ابتسامته العريضة لأنه نجح في إزالة توترها وخجلها .. ثم دخل الغرفة واغلق الباب لتبدأ ليلتهم الأولى والرومانسية معًا …….
***
التقطت ملاذ هاتفها بعد أن سمعت صوت رنينه واجابت بهدوء :
_ أيوة يازين
اتاها صوته العادي وهو يتمتم :
_ أنا جاي في الطريق ياملاذ اجهزي يلا
_ تمام ياحبيبي أنا جاهزة ، وكمان بابا وماما عايزين يسلموا عليك
_ أنا خلاص قربت مسافة الطريق بإذن الله
انهت الاتصال معه ونظرت لأمها تقول لها مبتسمة :
_ جاي في الطريق ياماما
_ طيب ياحبيبتي ياجي بالسلامة أنا هروح اقول لابوكي عشان كان مستنيه وعايز يشوفه
أماءت لها بالموافقة وهتفت أحلام مبتسمة بصفاء :
_ يارب بقى الحق اشوفه أنا كمان واسلم عليه
ملاذ بعذوبة ورقة تسألها عن ابنها :
_ لا إن شاء الله هتلحقي هو أيمن قالك جاي في الطريق كمان ؟
هزت لها بالإيجاب فابتسمت ملاذ ووقفت حتى تغادر إلى حديقة المنزل الصغيرة تنتظر زوجها ، ولكن بمجرد ما أن وقفت داهمها دوار مفاجيء فوضعت كفها على جبهتها واطرقت رأسها أرضًا ، وثبت أحلام واقفة وامسكت بها تقول بفزع :
_ مالك يابنتي
ملاذ بصوت هاديء بعد أن احست بأنها عادت لطبيعتها :
_ مفيش حاجة ياطنط دوخت بس شوية متقلقيش .. أنا هطلع استني زين برا
ابتعدت عنها وسارت إلى الحديقة ببطء وعادت تشعر بالدوار مرة أخرى ولكنها تحاملت على نفسها وأكملت سيرها ، ولسوء الحظ أن أيمن وصل أولًا ونزل من سيارته فرآها تقف وهي تمسك برأسها ولا تقوي على الاتزان في وقفتها وكأنها على وشك السقوط ، فهرول ركضًا إليها ولحق بها قبل أن يهوي جسدها على الأرض .
في تلك اللحظة تحديدة وصل زين وترجل من السيارة ……..
وقف مندهشًا يحدق بذلك الغريب الذي يحتضن زوجته بين ذراعيه ويحاول افاقتها وهي لم تكن ترتدي نقابها ، فغليت دماء الغضب في عروقه وكاد أن يتحول لوحش كاسر ولكن وضعها وهي فاقدة للوعى كان أهم الآن ليقلق حياله ، فهرول راكضًا إليها وجذبها من بين ذراعيه يهز وجهها بلطف هاتفًا :
_ مــلاذ
حملها واتجه بها إلى داخل المنزل لكي يخفيها عن أعين ذلك الغريب الذي لا يعرفه .. شهقت الأم بزعر عندما رأت ابنتها وهي متغيبة عن الواقع وبين ذراعين زوجها ، ودلته فورًا على غرفتها ليضعها بها فاسرع ودخل وهي كانت خلفه مباشرة .
وضعها على الفراش بحذر وعاد يهز رأسها من جديد يهتف بصوت قوي بعض الشيء :
_ ملاذ .. ملاذ ردي عليا إنتي سمعاني
التفّت أمها من الجهة الأخرى وأخذت تحاول افاقتها أيضًا بينما هو فامسك بكوب الماء الذي وجده بجانب الفراش ونثر على وجهها برفق ثم مد ابهامه وسبابته إلى عصبة أنفها العلوية وجعل يفركها بلطف لكي تفيق وبالفعل بعد لحظات قصيرة فتحت عيناها تدريجيًا .. سمعت صوت والدتها أولًا وهي تقول بفزع :
_ إنتي كويسة ياحبيبتي ؟
اعتدلت قليلًا في نومتها وهمست بصوت ضعيف :
_ كويسة ياماما الحمدلله
تمتم أبيها بقلق واهتمام :
_ قومي يابنتي نوديكي لدكتور يلا
_ لا يابابا مش مستاهلة أنا كويسة والله متقلقوش
كان زين في وسط كل هذا هادئًا بشكل مريب وكأنه ينتظر اللحظة لكي يفرغ كل جموحه .. سمعته يهمس بترقب ونظرات اربكتها :
_ هو إيه اللي حصل معاكي ؟
تجاهلت نظرته المريبة وقالت ببساطة :
_ أنا كنت طالعة استناك برا ودوخت مرة واحدة معرفش ليه !
هبت الأم واقفة وقالت :
_ أنا هروح اعملك عصير تشربيه عشان تقدري حتى تقفي على رجلك
ولم تنتظر ردها بالرفض أو الموافقة حيث اندفعت إلى الخارج وكذلك أبيها ، فوجدها تهم بالقيام وهي تهتف :
_ هقوم اقعد مع طنط أحلام برا واسلم على أيمن
كان يحارب بكل ما لديه من هدوء لكي يبقى ساكنًا ولا ينفجر بها ، ونتيجة لكبحه لغضبه ظهرت في عيناه نظرات مرعبة وخرج صوته صلبًا وغريبًا :
_ متتحركيش من مكانك فاهمة ولا لا .. أنا رايح اقعد شوية مع عمي فراج وبعدين هنمشي ويارب ياملاذ رجلك تعتب برا عتبة الأوضة
انكمشت في نفسها بارتيعاد من ملامحه وطريقته المخيفة ، وتتساءل بداخلها مالذي اغضبه فقد كان طبيعيًا في الهاتف عندما حدثته .. وقف وقال قبل أن ينصرف :
_ ولما نوصل بيتنا هنتكلم عن خروجك برا من غير نقاب
لم يخرج صوتها وبقت ساكنة حتى انصرافه ، فستعادت اللحظات الأخيرة قبل فقدانها الوعي وتذكرت بأنها رأت أيمن يترجل من سيارته ولا تتذكر شيء بعد ذلك ! .
ضربت على رأسها لاعنة سذاجتها وتوقعت تمامًا الذي حدث ولماذا هو يستشيط سخطًا بهذا الشكل ، ولكنها لم تكن تقصد شيء عندما خرجت بدون نقابها ، كانت تنتظره هو واعتقدت بأنه سيصل أولًا !! …
***
انتهى عرض الاوبرا وكانوا في طريقهم للمنزل باعتقادها ولكنها وجدت السيارة تقف أمام مكان مرتفع وشبه مظلم وفي الأسفل الماء ، فنظرت له باستغراب وقالت :
_ إنت جايبنا هنا ليه ؟!
حسن بخفوت :
_ لو ناسية احنا متفقين إننا هنتكلم
_ وهنتكلم هنا يعني ؟!!!
هز رأسه بالإيجاب ثم فتح الباب ونزل ففعلت هي كذلك ، رأته يتحرك باتجاه الهضبة المرتفعة ويجلس على الأرض فتحركت نحوه ووقفت خلفه هاتفة بمضض :
_ إنت ملقيتش مكان غير ده نتكلم فيه يعني !!
_ أنا حابب يكون مكان هادي وبعيد عن الناس .. اقعدى يلا
قال جملته الأخيرة وهو يشير بيده على الأرض بجواره ، فتأففت بنفاذ صبر وجلست بجواره تعلق نظرها على الماء أمامها والنسيم البارد يلفح صفحة وجهها ، ظلوا صامتين لدقائق هي تنتظر منه أن يتحدث وهو لا يعرف بماذا يبدأ ، فتخترق هي فقاعة الصمت القاتلة وتهمس بثبات دون النظر إليه :
_ غيرت رأيك ليه بخصوص الطفل بعد ماكنت مش عايزه ! .. وعايزة الحقيقة ياحسن طالما إنت عايز نتكلم بيقى هنتكلم بصراحة وعلى المكشوف
غمغم دون تردد وبصدق :
_ الحقيقة إني خوفت عليكي .. قلبي مطاوعنيش اخليكي تدخلي عملية خطيرة زي دي ، وللحظة حسيت إني حبيت الطفل ده وإني مستنيه ، في الآخر ده ابني .. تصرفي واللي عملته معاكي ملوش مبرر غير إنه غباء مني ، بس للأسف ندمت بعد فوات الآوان
ابتسمت بمرارة وهدرت تجيبه بقوة :
_ مكنش غباء .. كان كره إنت مكنتش متخيل أن هياجي طفل ويربطك بيا وإنت أساسًا بتحاول تتخلص مني وعايز تطلقني ، مكنتش عايز يكون في أي رابط بينا يخلينا مع بعض حتى لو انفصلنا ، هي دي الحقيقة ياحسن مش كدا ولا لا ومتكذبش وتقول غلط !
لا يستطيع انكار ما قالته بالفعل هذا هو أول شيء فكر به عندما اخبرته بخبر حملها .. ولكنه حينها لم يكن يدرك قيمتها كان أحمق ومتهور ، لم يعترف لنفسه ويفهم أنه يحبها بشدة والآن هو نادم أشد الندم !! .
حسن بخزي من نفسه يؤكد كلامها :
_ صح !
اتسعت ابتسامتها الحزينة أكثر وقالت ساخرة :
_يبقى متقولش إنه غباء .. قول إني كنت بكرهك ومش عايزك
مسح على وجهه متأففًا بيأس وبدأ الحديث بهدوء تام يسرد لها كل شيء من بدايته :
_ أنا عمري ماكرهتك يمكن كنت مش طايقك ومش عايزك فعلًا بس محسيتش تجاهك بكره أبدًا ، أنا كنت شايف إننا مش مناسبين لبعض وإني مش هقدر اكمل حياتي معاكي ، استخففت بحبك ليا ومشاعرك تجاهي ومأدركتش قيمة الحب ده إلا بعد ماخسرته .. ندمان جدًا ونفسي الزمن يرجع بيا عشان امنعك ماتنزلي الطفل ، أحيانًا بحس إنه الطفل ده ربنا بعته فرصة ليا ولينا عشان يقربنا من بعض وأنا بدل ما استغلها ضيعتها بغبائي ، وبفكر دلوقاي وبقول ياترى الفرصة دي هتجيني تاني ولا لا
استمعت إلى حديثه عن طفلهم وتخيلت ردة فعله إذا عرف بأنها اخفت عنه الحقيقة ومازالت محتفظة بطفلهم ، كيف ستكون ياترى ؟! .. استرسل حديثه ينظر لها بأسف وأسى :
_لما طلبتي الطلاق رغم كل حاجة مكنتش قادر اطلقك ، ولما روحت البيت عند عمي عشان اتكلم معاكي ، وسمعت كلامك وطريقتك كرهت نفسي ونطقتها من غير وعي .. حسيت إني مش هقدر اغصبك على حاجة إنتي مش عايزاها اكتر من كدا وكفاية اللي عملته معاكي ، بس بعد كدا عشت في عذاب بعيد عنك ، كنت بروح البيت وبحسه ناقص وجودك يايسر وبشوفه زي البيوت المهجورة ، ورغم كل ده كنت لسا بعاند لغاية ماجه راسل .. كل اللي اقدر أقوله إني خوفت ياخدك مني ومكنتش هستحمل اشوفك مع راجل غيري ، ورديتك لعصمتي لما جيتلك المستشفى في اليوم اللي ميار حاولت تنتحر فيه .. في اللحظة اللي حضنتك فيها بعدها علطول رديتك
دهشها بكلماته الأخيرة وهتفت بذهول :
_ وليه مقولتش طول الفترة دي إنك رديتني ؟!!!
_ كنت متوقع ردة فعلك إنها هتكون صعبة ومش هتقبلي ، ففكرت إني احاول اصلح ولو جزء بسيط من علاقتنا الأول وبعدين اقولك بس بعدها إنتي سافرتي وأنا سافرت وراكي كمان فكان لازم تعرفي واقولك
غامت عيناها بالدموع الحارقة وهي تستمع لحديثه ، كم كانت تود سماع كلمة واحدة يشعرها من خلالها أنه يريدها ويحاول من أجلهم ولكنه سمم سمعها دومًا بكلمات قاسية ،
والآن بعد أن دمر الخيط الرفيع الذي كان يربطهم وكانت هي المتمسكة به وتحافظ عليه ، يترجاها والندم يقتله ويروى لها عن رغبته بها وأنه لا يريد ابتعادها عنه ولن يسمح بأن يأخذها رجل غيره !! .
استقامت واقفة وقالت بصوت مبحوح وموجوع :
_ ياريتك قولت كلامك ده قبل ماتتدمر كل حاجة بينا ، أنا كنت بتمنى اسمع الكلام ده منك بس يفيد بإيه دلوقتي معدش له لزمة
التفتت وسارت عائدة إلى السيارة ليثب هو واقفًا ويلحق بها ركضًا فيجذبها من ذراعها بلطف ويرغمها على الوقوف هامسًا بتوسل وهو يقسم ويقطع الوعود الصادقة لها :
_ اوعدك إني هصلح كل اللي دمرته ، بقسم بالله أن مفيش حاجة من اللي حصلت هتتكرر تاني وهتشوفي شخص مختلف .. أنا من إيدك دي لإيدك دي وكل اللي هتطلبيه أنا مستعد انفذه بدون تفكير ، ومش هطلب منك تسامحيني بس كل اللي عايزه إنك تتراجعي عن الطلاق وتديني فرصة أخيرة واوعدك مش هتندمي
حدجته بصمت لبرهة ، تفكر بإمعان فقلبها مازال يلح عليها بأن توافق وتعطيه الفرصة الأخيرة ، يترجاها بأن لا تتجاهل شوقها له ورغبتها به ، وهناك جانب آخر منها يخشي أن يكسرها للمرة الثانية فبقت بين شقى الاختيار .. تخشي أن تختاره فتندم وأيضًا تخشي أن ترفض فتخسر فرصتها الأخيرة في أن تعيش معه الحياة التي دومًا تمنتها !! .
سحبت ذراعها من قبضته ببطء وهمت بالاستدارة لولا صوته وهو يسألها بترقب :
_ هااا موافقة ولا لا ؟
_ هفكر
قالتها بحزم واكملت سيرها نحو السيارة لتستقل بالمقعد الخلفي فيلحق هو بها ويبتسم باتساع بعدما قوى الأمل بداخله أنها وأخيرًا بدأت تلين قليلًا !! ………..
***
ترجلا من السيارة وحملت هي بعض الأكياس والبعض الآخر حمله هو ، وساروا باتجاه المنزل فقالت هي ضاحكة بمشاكسة تقلده :
_ قولتلك مش هروح ياميار !! .. وفي الآخر روحت برضوا غصب عنك
طالعها مستنكرًا بخنق ليجيبها مغتاظًا :
_ أنا وافقت بس عشان أنا اللي قايل مفيش خروج لوحدك ورفيف مش هتروح معاكي وكمان يسر مش موجودة
قهقهت بخفة وأجابت ساخرة بعدم تصديق :
_ أيوة أيوة فعلًا مصدقاك.. خلاص بقى ياعلاء إنت مش طايقني عشان اجبرتك تروح معايا ، عرفنا إني بهدلتك في اللف بس أهو مرة من نفسي ياجدع
مالت شفتيه للجانب قليلًا وتصنع عدم الاكتراث لها ثم انزل الأكياس على الأرض وأخرج المفاتيح ليهم بوضعها في القفل ولكن أمه سبقته وفتحت الباب بعنف .. تحدقهم بأعين مشتعلة من الغيظ وبالأخص لميار التي رأت في عيني زوجة عمها نظرات نارية كلها نقم ففهمت سببها دون داعي لشرح .
رمقتها ميار بنظرة قوية ثم انحنت على الأرض وحملت جميع الأكياس لتقول بثبات موجهة حديثها لعلاء :
_ أنا طالعة فوق
عبرت من جانبها وقبل أن تخطو خطوة أخرى قبضت الأم على ذراعها تقول بصوت يحمل الشر :
_ استني أنا عايزاكي إنتي
نقلت ميار نظرها بين علاء الذي يتابعهم باستغراب وبين الممسكة بذراعها وتحدجها بأعينها الحاقدة .. ثم سحبت ذراعها بهدوء وهي تقول ببرود بعدما فهمت الذي ستقوله جيدًا :
_ معلش أنا تعبانة يامرات عمي هريح شوية وابقى انزلك
عادت تجذبها من ذراعها مجددًا وتقول بسخط صائحة :
_ وأنا قولت دلوقتي ياميار .. لأني لازم افكرك بحجمك شكلك كدا نسيتي نفسك
تدخل علاء وأبعد أمه عنها هاتفًا بغلظة صوته الرجولي :
_ في إيه ياماما ؟!!
_ هتكلم معاها شوية ياعلاء وهي عارفة كويس أنا هتكلم في إيه
رمق ميار الواقفة بثقة تامة وعدم مبالاة ولا تنظر لهم حتى ليهدر بلهجة آمر وخشنة :
_ اطلعي فوق
لم تتفوه ببنت شفة وامتثلت للأوامر بدون أي اعتراض حيث استدارت وصعدت الدرج متجهة لغرفتهم بالأعلى ولكنها عند آخر درجات الدرج في الأعلى تخفت ووقفت تستمع لما ستقوله أمه .
صاحت الأم بعصبية :
_ لتكون غيرت رأيك خلاص ومش هتطلقها !!
عضن حاجبيه متعجبًا وغمغم بطبيعية :
_ وإيه مناسبة الكلام ده دلوقتي
_ عشان شايفة حضرتك اخدت عليها ونسيت اللي عملته ورايح تشتري معاها هدومها وجايين بتضحكوا وتهزروا
علاء بتوضيح وهو لا يزال هادئًا :
_ ماما أنا طلعت معاها لإني مبثقش أخليها تخرج وحدها فاضطريت اطلع معاها
صرخت أمه بانفعال هادر :
_ دي حرباية وبتتلون بمية لون وهتلف عليك زي الحية وتخدعك وتخليك تحبها وأنا عارفة ده كويس ، وعشان كدا أنا بقولك من دلوقتي ياعلاء مش هسمح أبدًا إنك تكمل مع واحدة زيها بقية حياتك .. أنا مربتش ابني وتعبت فيه عشان تاجي في الآخر وتاخده بنت الله اعلم عملت إيه بظبط ومع مين
امسك بكفها وطبع قبلة على ظاهره هامسًا بدفء :
_ اهدي ياست الكل .. تغيري مع ميار ليه اسبابه بس مش اللي في دماغك وإني حبيتها والكلام الفارغ ده ، ومتقلقيش أنا أكيد مش هكمل معاها وقريب أوي هبدأ في اجراءات الطلاق
لجمت الدهشة ميار بعد أنا استمعت لآخر جمله .. فقد ظنت أنه بدأ ينجذب لها كما انجذبت هي أيضًا له ونمت مشاعر الحب بداخلها تجاهه ، ولكنه يتحدث الآن عن طلاق قريب وما إلى شابه وحتى أنه لم يحاول الدفاع عنها أمام أمه عندما أشارت بكلماتها على أنها فتاة ساقطة وقامت بعلاقات مختلفة مع الرجال !! .
فرت دمعتين حارقتين من عيناها فجففتهم وقالت بأعين شيطانية ومتوعدة :
_ أنا استحملت اهانات الكل ليا واتهامهم ليا بذنب معملتهوش ، بس خلاص كفاية طالما هي بقت بالشكل ده .. يبقى مش هسمح لحد يدوس عليا أكتر من كدا ، ومن هنا ورايح هتشوفوا ميار الحرباية بجد بقي
***
داخل منزل زين العمايري …..
دخلت هي الغرفة أولًا وهمت بغلق الباب لكي تبدل ملابسها ولكنه اعاق غلقه ودخل يهتف بصرامة مريبة :
_ أظن أنا قولت لما نرجع البيت هنتكلم
ملاذ بحيرة من عصبيته الغريبة :
_ زين أنا أكيد مكنتش قاصدة اطلع من غير نقابي يعني .. ليه العصبية دي كلها !!
صاح بصوت جهوري نفضها بأرضها :
_ سببها إني جيت لقيت مراتي في حضن راجل معرفهوش وبيتأمل فيها وهي مغمى عليها ، وسيادتها طالعة تستنيني برا من غير نقاب
تمتمت محاولة تهدئته برفق :
_ أيمن مش كدا إنت أكيد تهيأ ليك ، أنا وهو متربين مع بعض وهو مش بيشوفني غير اخت ليه
اخطأت في التوضيح والشرح وبدل من أن تهدأ من ثورته ، هيجتها أكثر فوجدته يصرخ بوجه تراه للوهلة به :
_ مفيش حاجة اسمها اخوات ياهانم .. ده راجل اجنبي عنك وسواء كنتي متجوزة أو لا يبقى تحطي حدودك معاه ، إنتي عارفة إني معنديش تهاون في المواضيع دي وقولتلك قبل كدا أنا راجل دمي حامي ، يوم الخطوبة كان موجود وفضلتي تضحكي وتهزري معاه وعديتها عشان مكنتش اقدر اقولك تعملي إيه ومتعمليش إيه مع إني اتعصبت جدًا وقتها ، والنهردا رغم إنك عارفة إنه جاي في الطريق زي ماعرفت عندكم طلعتي من غير نقاب برضوا .. ونبهت عليكي متخرجيش من الأوضة برضوا خرجتي عشان تسلمي عليه هو ومامته قبل مايمشوا وكأن كلامي ملوش أي ستين لزمة
انفعلت هي الأخرى وهتفت بنبرة شبه مرتفعة :
_ كنت فاكرة إنك هتوصل قبله وطلعت عشان كدا ولولا إني اغمي عليا كنت هدخل علطول طبعًا .. ونيتي مش إني اكسر كلمتك بس أنا خلصت لبس وجهزت وطلعت على اساس إننا هنمشي ومينفعش مسلمش عليهم وكل اللي قولته إني قولتله مع السلامة من غير سلام ولا أي حاجة .. أنا مش فاهمة دي غيرة ولا إيه بظبط ، بعدين بدل ما تسألني وتطمن عليا بعد اللي حصلي بتزعقلي وحتى مهنش عليك تقولي لو تعبانة اوديكي للدكتور
اقترب منها بأعين ثاقبة كالصقر وحمراء كالدم من فرط سخطه ، ليخرج صوته مخيفًا ومنذرًا :
_ صوتك ميعلاش على جوزك يامدام يامحترمة وخصوصًا لما تكوني غلطانة
ثبتت نظرها في عيناه بقوة وقالت بعناد :
_ أنا مش غلطانة يازين !
كور قبضة يده وضغط عليه بعنف يجاهد في تمالك انفعالاته ليهتف ببعض الدهشة من عنادها وعدم اعترافها بخطأها :
_ مش غلطانة !!! .. يعني عايزة تقولي إن أنا اللي غلطان !
_ أنا مقولتش كدا بس شايفة إنك مزودها أوي الصراحة
ابتسم ساخرًا وقد احس بأنه سيفقد زمام نفسه فصاح محذرًا إياها بلهجة لا تحمل المزح ولا التهاون ونبرة رجولية مرعبة :
_ تمام .. من هنا ورايح الكلمة اللي هقولها تتسمع بالحرف ياملاذ وأنا بحذرك أهو لأول مرة متختبريش صبري كتير وإلا صدقيني عندي استعداد اخليكي تشوفي زين اللي كنتي متوقعة تشوفيه يوم الفرح
ثم تركها وانصرف ، فبقيت هي في صدمتها من الذي تفوه به .. ” هل كان يتحدث بجدية أم هذا من تأثير الغضب الذي جعله يتكلم بدون وعي !! .. وماذا يقصد بآخر جمله ؟! ” ، في لحظة ذهول احست بأنها ترى خطيبها السابق وليس زوجها وحبيبها !!! .
***
مع اشراقة شمس يوم جديد داخل منزل كرم العمايري ……
ضوء بسيط من أشعة الشمس متسلل من خلال الشرفة وهو يعلق نظره عليه .. يده تعبث بشعرها في رقة وعقله مشغول بالتفكير ! .
سبحان القدر الذي أخذ منه قطعة من قلبه فجأة ووضع مكانها قطعة أخرى ليعوض الفراغ الذي خلفته تلك القطعة .. لا يزال حتى الآن كلما يتذكر أروى لا يصدق أنها لم تعد موجودة بعالمنا ! .
اعتقد بأن قلبه لن تتربع على عرشه امرأة سواها ولن يأتي بعدها ، ولكن القطعة التي ارسلها الله له فريدة في كل شيء ، دخلت في الفراغ واملته ، عوضته عن الحزن والعذاب الذي ذاقه منذ رحيل زوجته ، كانت تمامًا كربيع يمحو صقيع الشتاء عن قلبه ويعيد البهجة والسعادة عليه ، نجحت في أن تحتل مقصورة قلبه ليعترف وبكل صراحة أنه عشقها .
ليلة أمس أصبحت زوجته فعليًا وليس بمجرد القول ، يستطيع أن يصفها بأنها أجمل ليلة في حياته على الاطلاق .. كيف كانت ناعمة ورقيقة وهي بين ذراعيه ، لا شيء على الاطلاق يضاهي ابتسامة بريئة منها مع همسة رومانسية في أذنه تقر فيها بحقيقة عشقها النقي له ! .
انحنى إليها وطبع قبلة دافئة على ذقنها ثم وجنتها ومن ثم عصبة أنفها وأخيرًا جبهتها ، يقصد بأن يجعل قبلته قوية قليلٌا لكي يوقظها وبالفعل فتحت عيناها ببطء فرأت ابتسامته الساحرية التي تعشقها ونظرات غرامية ، لتصعد الحمرة لوجنتيها وتعتدل بعض الشيء في نومتها هامسة باستحياء :
_ صباح الخير
عاد يخطف قبلته الثانية من وجنتها متمتمًا بهيام وغزل :
_ صباح العسل ياجميل
اعتدلت جالسة في الفراش وارجعت خصلات شعرها خلف أذنها مغمغمة بخجل :
_ هي الساعة الكام ؟!
مد ذراعه وجذبها إليه يهمس بمكر :
_ وإنتي عايزة تعرفي الساعة ليه !!
حاولت الهرب من محاصرته لها بذراعيه وتمتمت باضطراب :
_ أنا هقوم احضر الفطار
_ ومين قالك إني جعان !
مازالت خجلة منه وستحتاج بعض الوقت لتعتاد على الوضع المختلف ، لكنه لا يفهم ذلك وهي تريد الفرار منه بأي شكل فلمعت في ذهنها فكرة واطلقت صرخة بسيطة تقول بتألم وهي تبعد يده الملتفة حول خصرها :
_ براحة ياكرم !
ابعد ذراعيه عنها وهو يرفع حاجبه مستنكرًا توجعها المزيف ، استغلت هي الفرصة ووثبت من الفراش وقبل أن تفر راكضة منه قبض على رسغها وجذبها فارتدت علي الفراش للخلف ووجدته يهتف بحدة مزيفة يضمر خلفها مزاحه وابتسامته :
_ ماتهدي يابت واثبتي .. تعبتيني معاكي
انطلقت منها ضحكة انوثية متأججة على طريقته الغريبة ومدت كفها تضعه على وجنته قائلة بضحك ومشاكسة رقيقة :
_ لا مليش حق معقول اعصب الكوكو بتاعي
بضحكة وقطعة لطافة على كلمتين منها تحول فورًا واتمحت معالم الحدة لتخرج ابتسامته وهو يجيبها بخبث :
_ اهاا فعلًا أنا متعصب جدًا ولو مسمعتيش الكلام هتعصب اكتر
استمرت في ضحكها وقالت بعفوية :
_ وهو أنا اعترضت على حاجة أساسًا
هب واقفًا واتجه إلى باب الغرفة ثم اغلقه بالمفتاح ووضعه في جيب بنطاله وعاد يجذب هواتفهم ويغلقها تمامًا ففغرت فمها وقالت بدهشة امتزجت ببعض الحياء وهي تضحك :
_ لا كرم بلاش الحركات دي .. إنت حتى الفون بتاعك قفلته !!
انحني إليها وهو واقف ليهمس أمام عيناها مباشرة بنظرات تلمع بوميض العشق :
_ ومفيش فون هيتفتح لمدة يومين ، أنا مش عايز أي مصدر ازعاج وحابب استجم مع اميرتي ونقضي وقت لطيف لوحدينا بعيد عن الناس .. ممكن؟
اماءت له عدة مرات في أعين لامعة بدموع السعادة وابتسامة عاشقة فيثب هو فوق الفراش ويتمدد على ظهره ليحدق في السقف بسكون حتى تمددت بجواره ومدت يدها تعبث بخصلات شعره وتمرر اناملها بين خصلاته .
تحدث هو بهدوء ونبرة خائفة :
_ إنتي كنتي بتقوليلي إنك خايفة اسيبك زي سيف ومامتك بس في الواقع إن أنا اللي خايف اخسرك .. متبعديش عني ياشفق
وضعت خجلها جانبًا وتصرفت كما تقودها مشاعرها المتيمة به حيث انحنت إلى جبهته وقبلته هامسة بنعومة وحنو :
_ أنا دايمًا جمبك ياحبيبي ومستحيل ابعد عنك
التقط كفها وقبَّل باطنه بكامل اللطف والحب ثم رمقها بنظرات تتحدث عن الذي يخفيه في ثنايا قلبه ، ابتسم ببساطة وسرعان ما اعتدل واصبح نصف ممدد علي الفراش يهل عليها بجسده وهي النائمة على ظهرها ، قرب وجهه وداعبها في انفها بانفه يهمس بحب ومداعبة :
_ عايز بنتين وولدين ويكونوا شبهك
هتفت ضاحكة برقة واستغراب :
_ كلهم !!!
هز رأسه بالإيجاب فاجابت هي بنفي ومرح :
_ لا أنا عايزاهم يكونوا في حنيتك وجمالك وطيبتك عشان أنا مش مكفياني نسخة واحدة من الكوكو الصراحة
قهقه بصوت مرتفع وهتف باسمًا بلؤم :
_ طيب يلا بينا عشان ندخل على المستوي التاني ونجيب النسخ المصغرة دي
لحظات رومانسية وغرامية يسرقونها من الوقت ولن تكون الأخيرة مطلقًا ! …….
***
تحركت ريماس باتجاه أخيها حتى توقفت أمامه وقالت بشجاعة :
_ أنا سمعتك إنت وبابا بتتكلموا على حاجة هتعملوها في كرم
جاسر بخشونة :
_ حاجة متخصكيش ياريماس ومتدخليش في اللي ملكيش فيه
صاحت به غاضبة :
_ لا تخصني .. أنا مش فاهمة إيه اللي بتعملوه ده إنت وبابا ما تسيبوها في حالها كفاية
ابتسم جاسر ساخرًا واجابها بعدم مبالاة ونظرات كلها شر :
_ إيه الحب اللي ظهر عليكي فجأة كدا !! .. ثم إننا مش هنأذيها بالعكس أنا عايز شفق ومش قادر استنى اللحظة اللي تكون فيها معايا يعني اطمني عليها .. احنا بس هنقرص ودن ابن العمايري اللي فارد ريشه علينا وبيتحدانا
لن يفهموا ولن يقتنعوا حتى أنهم لن يتراجعوا عن افعالهم الشنيعة ، وقررت أن تأخذ الأمر لصالحها حيث اظهرت رضاها عن الذي سيفعلوه وقالت بفضول حقيقي :
_ تمام ياجاسر براحتكم .. ممكن بقى اعرف هتعملوا إيه معاه
سار مبتعدًا عنها وهو يقول غير مكترثًا وبغلظة صوته الرجولي :
_ لا مش ممكن وخليكي برا المواضيع دي ياريماس احسلك
تأففت بخنق وضربت الأرض بكعب حذائها في غيظ وهناك صوت يلح عليها في نفسها يقول بلا توقف ” لا تسكتي عن هذه المهزلة !! ” ……
***
ساعات من التفكير .. اعطيه فرصة أخيرة .. أم لا ؟ .. وماذا سيحدث إذا اعطيته ؟ فأنا لم أعد تلك الساذجة التي تنجر خلف قلبها كالحمقاء .. يريد فرصة ولديه الاستعداد لفعل أي شيء حتى ارضى عنه .. لماذا لا استغل الموقف واتلذذ به على راحتي ؟ .. وإذا كان هو يريدني فليثبت لي هذا ! .
حديث طويل تخوضه مع نفسها منذ الأمس على هذا النحو تفكر وتفكر ماذا ستفعل معه ، وبما إنها قررت مسامحته أخيرًا يجب أن لا تجعله يحصل عليها بسهولة ، سيجعلها تصدق أنه حقًا يستحق ذلك الطفل الذي تحمله في احشائها ! .
كانت بالمطبخ تقوم بتحضير الأفطار لها فصك سمعها صوت رنين الباب ، تنهدت بقوة وغسلت يديها ثم اتجهت نحوه وهي تعرف جيدًا أنه هو ، امسكت بالمقبض وفتحت لتجده يحمل بيده اكياس بها طعام وخضار وهتف هو بنبرة عادية :
_ اشتريت ليكي شوية طلبات عشان متحتاجيش حاجة وتنزلي تجبيها
لوت فمها بامتعاض مصطنع ثم افسحت له الطريق حتى يدخل ويضعهم في المطبخ وبمجرد ما أن دخل وهي استدارت لتغلق الباب ابتسمت ولكن اخفت ابتسامتها فورًة ولحقت به إلى المطبخ ثم همست بنبرة عادية دون أي تعبيرات وجه :
_ شكرًا
مالت شفتيه لليسار بحب وقال :
_ أنا هروح اغسل إيدي في الحمام
اماءت بالإيجاب وذهب هو إلى الحمام ، غرفة نومها أمام الحمام وهي قامت بشراء بعض الملابس لطفلها وتركتهم على الفراش بالتأكيد سيراهم .. فغرت عيناها وفمها بصدمة وهرولت راكضة خلفه هاتفة :
_ حسن
توقف على أثر صوتها واقتربت تقف أمامه مباشرة لتخفي الغرفة عن انظاره مغمغمة بتلعثم :
_ إنت ليه جبت الطلبات دي ؟
تعجب سؤالها الذي هو اخبرها عن اجابته عند الباب فقال بحيرة :
_ ما أنا قولتلك يايسر عشان متبقيش محتاجة حاجة ويبقى عندك في البيت فمتنزليش تشتري بنفسك
_ آهااا طيب
ظلت متصلبة أمامه تتابعه حتى رأته دخل الحمام وتأكدت بأنه لم يرى شيئًا ، فاسرعت للغرفة ولملمت الملابس والقت بهم بعشوائية في الخزانة ثم خرجت واغلقت الباب خلفها وهي تتنفس الصعداء بارتياح .
خرج من الحمام بعد أن جفف يديه في المنشفة وذهب لها مجددًا بالمطبخ ليقف بجوارها ويقول مبتسمًا بترقب :
_ فكرتي في كلامنا امبارح ولا لا ؟
يسر بصوت قوي دون أن تنظر له وهي منشغلة بتقطيع الطماطم :
_ موافقة
تهللت اساريره واختفي انفطاء عينه ليحل محله البهجة والفرحة .. هدر بمشاكسة :
_ كنت متأكد إنك لسا بتحبيني ومش هتقدري تعاندي كتير
رفعت السكين في وجهه وهي ملطخة بالطماطم وهتفت بضجر وحدة :
_ أنا مقولتش إني مسمحاك أنا قولت موافقة اتراجع عن الطلاق ومؤقتًا يعني حط مية خط تحت مؤقتًا دي عشان الحماسة متخدكش معايا وتنسي نفسك
كتم ضحكته وأجابها بخضوع تام لها ونبرة مرحة ومغرمة :
_ وماله أهو احسن من بلاش يامزتي ، نزلي بس السكينة دي عشان الشيطان شاطر
حركت حواجبها بصرامة ووسعت مقلتيها وهي تقول بلهجة آمرة :
_ اطلع برا ياحسن
تجاهل جملتها الآمرة وقال يكمل مرحه :
_ طيب ومش ناوية تحني وتخليني اقعد معاكي في الشقة هنا !!
عادت ترفع السكين مجددًا وهذه المرة قربتها من وجهها كثيرًا حيث قالت بتحذير وغيظ :
_ قولت اطلع برا وامشي يلا
_ ماشي طالع خلاص
قالها متأففًة باختناق واستدار ليبتعد ويغادر المنزل بأكمله فتضحك هي وتقول بمكر ووعيد له :
_ بعينك ! .. ده إنت اللي شوفته كوم واللي هعمله فيك دلوقتي كوم تاني
***
داخل منزل طاهر العمايري ……..
كانت ميار تقف بالمطبخ وتقوم بتحضير كوب قهوة صباحي لها وبينما هي منشغلة في تحضيره وجدت زوجة عمها تقبض على ذراعها وتجذبها إليها هاتفة بنبرة صوت منخفضة حتى لا تصل لأذن ابنها وزوجها بالخارج مع نظرات منذرة كلها نقم :
_ بقولك إيه ياميار عدي إيامك معانا على خير ومتحاوليش تتقربي من ابني لإني مش هسمحلك تخدعيه بكذبك
_ بس أنا مكذبتش في حاجة إنتوا ظلمتوني كلكم ومش عايزين تصدقوا الحقيقة
ضغطت على لحمها بعنف وهي تصر على اسنانها مغتاظة وتهتف بإهانة واضحة لها :
_ انهو حقيقة .. إن الصور كذب ولا إنك لسا بنت ومحدش لمسك ، أنا مستحيل اخليكي تدمري حياة ابني سامعة ولا لا
استشاطت ميار سخطًا ولم تكن تود أن تنشب سجار بينهم الآن أو تفعل حركة ماكرة ولكن بما قالته أثارت بركانها الخامد ، وهتفت بصوت مرتفع عمدًا لكي يسمعوا ويأتوا :
_ ومين قالك إني عايزاه ابنك ده أصلًا ، اشبعي بيه بعيد عني
صاحت الأخرى بعصبية بعدما سمعت نبرتها العالية :
_ لا وكمان ليكي عين وبتعلي صوتك عليا .. إنتي فعلًا متربتيش وعايزة تتربي من أول وجديد
ابتسمت ميار في داخلها من انفعالها وقد احست بأن خطتها تسير كما يجب حيث استكملت في مهمة استفزازها أكثر و قالت بلؤم دفين :
_ لا أنا متربية كويس أوي والدليل إني ساكتة على اللي بتعمليه معايا ومقولتش حاجة لا لعمي ولا لعلاء
اشتعلت كجمرة نيران متوهجة وفقدت السيطرة على نفسها فرفعت يدها في الهواء بينما ميار فتفادت بوجهها للجانب الآخر مغمضة عيناها وبداخلها تدعي أن لا تفشل خطتها وبالفعل سمعت صوت علاء وهو يقول بحدة :
_ ماما بتعملي إيه ؟!!
فتحت عيناها وهي تخفي ابتسامة شيطانية ودت لو اطلقتها على ثغرها ، رمقت زوجة عمها بخبث ونظرة نارية دون أن يلاحظ علاء ، لتشتعل الأخرى أكثر في غضبها وتصيح بابنها الذي يمسك بكفها الذي كادت أن تهوي به على وجنتها :
_ دي عايزة تربية ، لو شفتها بتكلمني وبتبص إزاي ياعلاء !
ترك كف أمه وزغر ميار بنظرة مخيفة ليراها مجفلة نظرها أرضًا بانسكار ، بدا له حقيقي ولكنه في الواقع مزيف .. هدأت ثورته بعدما رأى وضعها وقال بنبرة حازمة :
_ اطلعي فوق ياميار
لم تتفوه ببنت شفه واتبعت الأوامر بدون نقاش حيث سارت للخارج وهي تبتسم بمكر وسمعته يلوم امه ببعض الانزعاج :
_ مهما كان اللي عملته مينفعش اللي عملتيه ياماما برضوا .. بالله عليكي أنا مش ناقص ، لو عايزة تريحني بجد بلاش تعاندي إنتي وهي مع بعض ابوس ايدك وبلاش مشاكل
لم تتحدث أمه وبقت تطالعه بذهول أنه بدل من أن يلوم زوجته ويغضب عليها ، يلقي اللوم عليها هي ويراها مخطئة في فعلتها .
ابتعد علاء عنها وغادر المطبخ بأكمله تاركًا إياها تترنح من فرط غيظها ونقمها على تلك الحربائة !! ……..
***
تابعته وهو يستعد للخروج ويقف أمام المرآة يهندم ملابسه ويسرح شعره بالفرشاة الرجالية ، لا يهتم لها وكأنها غير موجودة .. يعاقبها كالعادة بعقاب قاسي على خطأها ، واقسي عقاب بالنسبة لها هو تجاهلها ، ولكنها لم تخطأ ولم تكن تقصد الخروج عمدًا بدون نقابها أو خروجها لتسلم عليه لم يكن عمدًا فقد ظنت أنهم ذهبوا ولا يوجد بالمنزل سواه ! .
هو ينظر لخطأها ولا يلتفت لطريقته الذي حدثها بها بالأمس وتهديده بأنه سيريها شخص سيء لم تراه من قبل !! .. لسانها يأكلها أكل لكي تتحدث فالصمت وهي مغتاظة ليس من صفاتها ، وأن سكتت ستنفجر من غيظها .
قالت بمرارة وخنق :
_ طبعًا أنا بس اللي بغلط لكن حضرتك مش بتغلط أبدًا
التفت لها برأسه ورمقها بصمت وقوة ثم اعاد رأسه لوضعها الطبيعي وتجاهلها ، استفزها أكثر واسترسلت حديثها باستياء ملحوظ هذه المرة :
_ سيادتك تزعق وتبهدلني وأنا هسكت وكل ليه بسبب غيرتك اللي ملهاش مبرر إنك تكلمني بالطريقة دي .. ثم إن إيه قصدك بـ هتخليني اشوف زين اللي كنت متوقعة اشوفه يوم الفرح ؟!!!
مسح على وجهه متأففًا وسمعت تمتمه بكلامات غير مفهومة ، توقعت أنه يستغفر ربه كالعادة .. استدار بكامل جسده لها وقال بجموح يكتمه عنها :
_ طريقتي !! ، وهي طريقتك اللي كلمتيني بيها كانت صح ؟!!
استشاطت ووثبت واقفة من فراشها تقف بمواجهته وتقول بتحدي وضجر :
_ أنا انفعلت بسبب عصبيتك عليا ، ما أنت مشوفتش نفسك كنت بتزعق إزاي فيا
_ ماهو لو مكنتيش نرفزتيني مكنش ده هيحصل
ضحكت ساخرة وقالت بسخط وملامح متقرفة :
_ لا والله !! .. إنت اللي كنت بتدور على حاجة عشان تتعصب عليها فمتقولش إن أنا اللي عصبتك
كاد أن ينفعل مجددًا فابتعد عنها لينصرف ولكنها اعترت طريقه عاقدة ذراعيها في خصرها وتهدر بعناد طفولي :
_ متطلعش من البيت
رفع حاجبه اليسار بصرامة وقال مستنكرًا ما قالته :
_ نعم !!!
عادت تؤكد عليه ما تفوهت به بشموخ :
_ زي ما سمعت أنا عايزة اخرج النهردا
انطلقت على ثغره ضحكة مغلوبة واجابها بغطرسة :
_ وبعد اللي بتعمليه واللي حصل امبارح أنا المفروض اوافق مثلًا
قوست وجهها بملامح طفل سمج وقالت ببرود :
_ ده حاجة وده حاجة متربطش الأمور ببعضها
كتم ضحكة متأججة كانت ستصدر على طريقتها وقال ببرود مماثل لها قبل أن يتركها وينصرف :
_ لا مش موافق
صرت على أسنانها باغتياظ وصاحت عليه ليسمعها من الخارج :
_ ماشي يازين براحتك على الآخر
ارتدي حذائه وضحك بخفة ثم فتح الباب وغادر المنزل بأكمله تاركًا إياها تتوعد له ……
***
_ أيوة تمام حط دي هنا .. بس كدا كويس أوي
قالتها رفيف التي كانت تتحدث مع أحد العمال ويضعوا اللمسات الأخيرة قبل الافتتاح الذي سيكون بعد أيام قليلة .
وصل إسلام وحدجها من بعيد مبتسمًا ثم اقترب نحوها وقال بعذوبة :
_ ماشاء الله عليكي يابشمهندسة
التفتت بجسدها اتجاهه وهتفت باشراقة وجه جميلة :
_ ياااه لا بجد مش مصدقة اننا خلاص خلصنا وهنفتتحه بعد كام يوم
إسلام بابتسامة رائعة ونبرة ذات معنى :
_ خلاص بقى بقيتي فاهمة كل حاجة ماشاء الله ومش محتجاني
هدرت بنفي ونبرة مؤدبة :
_ لا إزاي ده لولاك والله مكنتش هعرف اعمل حاجة .. ساعدتني جدًا والشراكة طلعت مفيدة يعني
قهقه ببساطة ثم قال بأعين تنضج بالإعجاب :
_ طيب أنا جايب فطار معايا وبمناسبة انتهاء التجهيزات عازمك على الفطار معايا
رفيف بحياء جميل ورفض محترم :
_ شكرًا بس حقيقي أنا مش جعانة دلوقتي
_ مفيش اعتراض يارفيف يلا
قالها بلهجة شبه آمرة لا تقبل الجدال ، لتصدر هي زفيرًا حارًا بعدم حيلة وتنضم له شبه مجبرة بسبب اصراره .. فمنذ أن سمعت حديثه في الهاتف وهي تحاول تجنبه وتتوتر منه بشدة ولكنه يتعمد التحدث معها وكأنه يعرف بأنها سمعت وتخجل منه !! ، ويعقد قراره النهائي بأنه لن ينتظر أكثر من ذلك وسيتحدث مع زين في طلب يدها للزواج ! ……….
***
الساعة تخطت التاسعة مساءًا وكانت الجدة تجلس بالحديقة تتنسم بالهواء الطلق .. وبينما هي شاردة الذهن بحفيدتها التي اشتاقت لها أكثر من أي شيء آخر ، تود الذهاب إليها والاطمئنان عليها ولكن داخلها يمنعها وسخطها عليها يقف حاجزًا بين شوقها .
رأت علاء يقترب منها بعد أن توقفت سيارته بالمكان المخصص داخل الحديقة ، فابتسمت بصفاء وعند وقوفه أمامها انحني إليها وعانقته عناق حار بحنو متشدقة :
_ عامل إيه ياولا كدا ولا تسأل عليا طول الفترة دي
التقط علاء كفها وقبل ظاهره هامسًا بنبرة مهذبة :
_ غصب عني والله ياجدتي كلنا مشغولين الفترة دي في الشغل ومش بلحق خالص
اشارت له بيدها على نصف الأريكة الفارغة هاتفة بدفء :
_ طيب اقعد هنده على رفيف اخليها تعملك حاجة تشربها
_ اشرب إيه بس هو أنا غريب ياجدتي .. بعدين أنا جاي اتكلم معاكي في موضوع تاني ومهم
انتفض قلبها فزعًا وظنت بأن مكروه أصاب حفيدتها فأجابته بزعر وقلق :
_ ميار عملت حاجة في نفسها تاني ؟
_ لا لا هي كويسة متقلقيش
هدأت نفسها وارتاحت قليلًا ثم انتبهت له جيدًا بآذان صاغية حتى تستمع إلى ما يريد إخبارها به بتركيز ……….
***
التقطت شفق هاتفها الذي يعطي رنينًا صاخبًا .. نظرت لشاشته وقرأت اسم المتصل فعقدت حاجبيها بحيرة امتزجت بالخنق والقت بالهاتف على الأريكة بجوارها متجاهلة الاتصال ولكنه لم يتوقف عن الرنين ، بالآخير اجابت عليها بمضض هاتفة :
_ ايوة ياريماس خير
ريماس بنبرة مزعورة :
_ شفق هو كرم موجود في البيت ولا طلع ؟
_ مش موجود .. إنتي عايزة إيه ؟
اشتد شعور القلق بداخل الأخرى فأبيها وأخيها وضعوا المكيدة وجهزوها له .. هتفت في اهتمام وهلع :
_ طيب اتصلي بيه وخليه ميركبش عربيته لاني سمعت بابا وجاسر بيقولوا إنهم عملوا حاجة في عربيته .. بس معرفتش إي هي الحاجة دي
شهقت شفق مفزوعة ووثبت واقفة تجيب عليها بصوت مرعوب :
_ عملوا إيه ؟! ..صدقيني ياريماس لو كرم حصله مش هرحم اخوكي وابوكي
انزلت الهاتف من على أذنها وضغطت على الشاشة لتنهي الاتصال وبيد مرتشعة قامت بالاتصال به .. رنين .. رنين .. بلا رد !! ، مرة وأثنين وثلاثة وهي تحاول الوصول له ولا يجيب .. فخرج همسها المتوسل وقد ادمعت عيناها :
_ رد ابوس إيدك ياكرم .. رد ، يارب احميه ويكون بخير
على الجانب الآخر توقف هو بسيارته أمام ” كمين للشرطة ” وانحنى الضابط عليه من نافذة السيارة يهتف بجدية :
_ البطاقة
مد يده له بالطاقة الشخصية كما طلب وجاب بنظره بين الكل فقد كانت المكان مزدحم والشرطة أكثر من العادة ، نظر للضابط وقال بتساءل :
_ هو في حاجة حصلت هنا ولا إيه ؟!
_ أهاا في عملية سرقة كبيرة وأي عربية بتعدي بتتفتش
أماء له بالإيجاب في تفهم وانتظر بمكانه حتى ينتهوا من تفتشيهم ومهمتم ، ولكنه سمع صوت العسكري الذي قام بتفشيش حقيبة السيارة الخلفية يصيح مناديًا على أحد الضباط ، نزل كرم من سيارته وإذا بالصدمة تلجمه بأرضه وهو يرى العسكري يحمل بيده اكياس ممنوعات كانت مخفية في السيارة !!! ……….
يجلس على مقعد وثير داخل مكتب كبير نسبيًا بالقسم .. يتجول بنظره بين ارجاء المكتب الذي اعاد عليه الذكريات الأليمة عندما كان يأتي لزيارة ” سيف ” ، ظل لدقائق وهو ينتظر أن يدخل له أحد وإذا بالباب يفتح ويهل من خلفه ضابط يبدو أنه يناظر كرم بالعمر .
ابتسم كرم بدهشة فور رؤيته له ووقف يعانقه يرحب به بعناق حار أما الآخر فقال مازحًا :
_ مش عيب برضوا لما تاجي القسم في حشيش يا صاحبي !
هتف شبه ضاحكًا :
_ مش وقت هزار والله ياحسام .. أنا هتجن واعرف الحجات دي دخلت عربيتي إزاي وامتي !!
تحرك حسام باتجاه مقعده وجلس عليه يقول بحناس :
_ طيب اقعد هخلي الصون ياسين يجبلنا قهوة ونتكلم على رواق
جلس كرم وهو يمسح على وجهه متأففًا ليتمتم حسام بترقب :
_ إنت شاكك في حد أنه ممكن يكون حطلك الحشيش ده ؟
كرم بغلظة صوت ونظرات نارية :
_ أنا متأكد مش شاكك .. كمال الحسيني
_ عم سيف الحسيني !!
اماء له بالإيجاب فعقد حاجبيه وسأل بعدم فهم :
_ وهو يعمل معاك زي كدا ليه يعني ؟!
_ ما إنت عارف ياحسام مشاكل سيف معاه قبل ما يموت وأنه بيكرهني وبيكره عيلة العمايري كلها ، وكمان حصلت كام مشكلة تاني من قريب خلته يعمل الحركة القذرة دي
_ طيب بس إنت معندكش دليل على الكلام ده !
كرم بخشونة :
_ من غير دليل أنا هتصرف معاه بطريقتي وهعرفه حجمه
حسام بتحذير وجدية :
_ اعقل وبلاش جنان بدل ما تدخل نفسك في مشاكل .. إنت احمد ربك إن النهردا ربنا سترها معاك وجيت علي القسم اللي موجود أنا فيه لولا كدا كان هيبقى فيها سين وجيم وحبس وإنت أصلًا ممسوك متلبس بيه
أجابه بنبرة عادت لطبيعتها قليلًا :
_ اطمن مش هيحصل حاجة
دخل ” الصون ” وهو يحمل على يديه صينية فوقها القهوة الذي طلبها ” حسام ” ، التقط كل منهم فنجانه ودار حديث مرح بعض الشيء بينهم لدقائق طويلة ! ……
***
وضع حسن المفتاح في القفل وادراه للشمال فانفتح الباب ودخل ثم اغلقه خلفه بكامل الحذر والبطء حتى لا تشعر به .. قاد خطواته نحو غرفتها وهو يتسلل على اطراف اصابعه ، احس باشتياقه لها ففكر بأن يلقي نظرة عليها ويملأ عيناه منها ، بالتأكيد دون أن تشعر به وإلا ستأكله حيًا إذا رأته بمنزلها ويحوم حولها .
فتح باب غرفتها بحرص وادخل جزء صغير من رأسه يتأكد من انغماسها في النوم ، ثم دخل وتركه مفتوحًا .. اقترب منها وامعن النظر بها كانت ترتدي منامة طويلة بعض الشيء ولكنها انزاحت واظهرت عن نصف ساقيها ، وتترك العنان لشعرها الناعم .. كانت جميلة لدرجة الجنون فقط رؤيته لها تشتته وتيقظ بداخله مشاعر مختلطة .
انحنى ليجثى على قدميه أمامها ويمد يده يسحب الغطاء على نصف جسدها ثم يرتفع بجسده قليلًا ليطبع قبلة حانية أعلى كتفها ويهمس بعشق زارف وشوق شديد في صوت لا يسمع :
_ إنتي مش قدامي دلوقتي ! .. بس رغم كدا وحشاني أوي .. وحشني خناقنا و ضحكتك وعصبيتك وتصرفاتك اللي كانت بتعصبني ، حتى غيرتك عليا وحشتني أوي ، مش كفاية بقى ولا إيه يايسر مش ناوية ترجعي يسر اللي اعرفها .. أنا اتغيرت عشانك ومش عايز منك حاجة غير إنك تسمحيلي اكون الشخص الجديد ده معاكي
مد انامله وابعد خصلات شعرها عن عيناها ، ليدقق النظر فيها بإعجاب وكأنها القت عليه تعويذة فلم يتمكن من مقاومتها ، اقترب بوجهه منها وطبع قبلة عميقة بجانب ثغرها ، دامت قبلته للحظات وفي تلك اللحظات فتحت هي عيناها بعدما احست به وفغرت عيناها بصدمة فرفعت كفها بدون تردد وصفعته بقوة ، ثم ارتدت للخلف وهي تختبأ اسفل الغطاء من عيناه .
بقى وجهه على الجانب الآخر لم يحركه ، هذه الصفعة الثالثة على التوالي !! .. استشاط غيظًا ونظر لها مشتعلًا يهتف :
_ اخدتي عليه إنتي القلم اللي كل ماتتعصبي تدهوني ده !!
صاحت بغصب عارم :
_ عشان إنت تستاهله ، بعدين إيه اللي مدخلك عليا دلوقتي ؟!!
كانت تسحب الغطاء لرقبتها تخفي جسدها كله كأن الذي أمامها ليس زوجها بل رجل يريد أن ينل منها بالإجبار !!! .. استقام وقال ساخرًا بانفعال من صفعتها له :
_ ومالك مغطية نفسك كدا ليه ، هتحرش بيكي مثلًا ؟
قالت بقرف وسخط :
_ وليه لا مش بعيد تعملها ما أنا اتوقع منك أي حاجة ، و أنت كنت بتحاول تعمل كدا أساسًا وأنا نايمة
ضحك مستهزئًا منها وغمغم بعدم تصديق :
_ أنا بوستك يايسر ومن خدك كمان .. هي البوسة بقت تحرش !!
انفعلت بشدة وقالت باشمئزاز وقرف :
_ أه ما أنت ماخد على الحجات دي سيادتك ياقليل الأدب .. اطلع برا يلا فورًا
صر على أسنانه يكتم غيظه منها ويحاول تمالك اعصابه ، وقرر إتباع الطريقة الأكثر فاعلية .. حيث همس ببرود :
_ مش هطلع
رفعت سبابتها تحذره بنظرات مرتبكة ويد شبه مرتعشة من التوتر :
_ حسن اطلع برا عايزة اغير هدومي
جذب المقعد الأبيض والعريض الموضوع أمام المرآة وجلس عليه هاتفًا بلؤم وهو يبتسم :
_ قومي وتعالي طلعيني لو عرفتي !
فعلت حركات متعددة بوجهها تدل على فرط غيظها ورفعت يدها تضم اصابعها على بعض وتقول بوعيد حقيقي وهي تجز على اسنانها :
_ تعرف نفسي امسك راسك وافشفشها .. صبرك عليا بس
كتم ضحكته بصعوبة واستدار بالمقعد ليوليها ظهره هامسًا بخبث أشد من السابق يتصنع البراءة :
_ خلاص صعبتي عليا .. قومي يلا غيري أنا مش شايفك أهو
_ إنت ايه اللي مدخلك البيت أصلًا وأنا نايمة ومن غير أذني .. بقى هو ده اتفاقنا !!
_ لا اتفاقنا القديم اتلغي احنا عملنا اتفاق جديد ومكنش فيه المادة دي .. بعدين وحشتيني وقولت آجي اطمن على مراتي وابص عليها شوية مفهاش حاجة يعني اعتقد
يقولها بصراحة دون أي تردد ويعترف لها باشتياقه .. كانت سنتطلق على شفتيها ابتسامته خجلة ومحبة ولكنها اخفتها وقالت بحزم مزيف :
_ طيب اطلع وأنا هغير واجيلك صدقني
حسن باصرار تام وهو يضحك :
_ مش هطلع يايسر وبعدين إنتي من إمتي بتتكسفي مني .. ده أنا كنت بصحى الاقيكي في حضني و……
قاطعته صائحة بضجر تلقى عليها تعليمات صارمة :
_ طيب خلاص بس عارف لو بصيت ياحسن هفقعلك عيونك دول
قال بازدراء منها :
_ تفقعيهم !! .. أما أنتي بيئة صحيح ، اخلصي ياختي غيري يلا
ابعدت الغطاء عنها بحذر وهي لا ترفع نظرها عنه تتابعه هل ينظر أم لا .. نزلت من الفراش وسحبت الروب الملقى على الأريكة حتى ترتديه إلى أن تخرجه من الغرفة ، لكن قبل أن تضعه على جسدها وجدته يقول بمكر :
_ هااا ابص خلصتي ولا لسا ؟!
_ اياك تبص ياحسن
قالتها منذرة إياه بصوت مضطرب ووضعت ذراعها في ذراع الروب وإذا بها تراه يلتفت برأسه ناحيتها ويقول بعفوية مزيفة :
_ يسر ااا…..
اخفي عيناه بكفه فورًا وهو يهتف معتذرًا بخبث :
_ اوووف نسيت معلش ياحبيبتي كنت عايز اقولك حاجة
توقفت والقت بالروب على الأرض ، بعد أن احمرت عيناها بلون الدماء واستاءت بشدة من لؤمه ، فلم تعد تبالي بما ترتديه مايهمها هو أن تفرغ به شحنة غضبها .. انزل كفه من على عيناه وابتسم وهو يراها تقف بالمنامة وتعقد ذراعيها أمام صدرها ووجهها تقوس ليعطي معالم اقتراب الانفجار النووي .
سمع صوتها الحاد وهي تهدر :
_ انزل شقتك ياحسن
استقام من مقعده بهدوء وقال باسمًا بغمزة :
_ ماهو هنا شقتي وتحت شقتي يامزتي
عادت والتقطت روبها من جديد لترتديه وتقول بسخط حقيقي هذه المرة :
_ حسن متخلنيش اندم إني اديتك فرصة تاني
اختفت ابتسامته وتنفس الصعداء بعدم حيلة ليهتف بإيجاب وبعض الجدية :
_ طيب خلاص همشي .. لو عوزتي حاجة اتصلي بيا
لوت فمها وتمتمت بحزم :
_ مش عايزة حاجة واللي حصل دلوقتي ياريت ميتكررش تاني
لم يجب عليها واستدار ثم انصرف تمامًا ، فأخذت هي نفسًا عميقًا مع بعض الضجر إلا أن سرعان ما ارتفعت الابتسامة لشفتيها عندما تذكرت ماقاله ” وحشتيني وجيت اطمن عليكي ” …….
***
تجوب بالغرفة إيابًا وذهابًا وبيدها الهاتف تضرب به على كفها والرعب تملكها كليًا ، حتى باتت تشعر بأن عقلها سينفجر من كثرة التفكير والخوف ، لماذا لا يجيب على هاتفه ؟ .. ماذا حدث معه ؟ ، هل هو بخير أم اصابه مكروه ؟ .. الكثير من الاسئلة التي تطرحها في عقلها وجميعها لا تجد لها إجابة ، وكل ما بوسعها فعله هو الدعاء والبكاء ، دموعها تستمر في الانهمار بدون توقف ، إلى أن سمعت صوت باب المنزل ينفتح فركضت للخارج مهرولة ووجدته دخل واغلق الباب وكان على وشك أن يبدأ في نزع حذائه ولكنه توقف حين رأى وجهها الغارق بالدموع ، لم تمهله اللحظة لكي يتوقع الذي حدث حيث اندفعت إليه وارتمت بين ذراعيه تهتف بصوت مرتجف من أثر البكاء الحاد :
_ كنت هتجن من الخوف عليك ياكرم حرام عليك
لم يفهم شيء ولكن ملس على ظهرها وشعرها بلطف وهمهم بحنو ونبرة مستفهمة :
_ طيب ممكن تهدي وتفهميني في إيه ؟ .. ليه العياط الرهيب ده ياحبيبتي !!
ابت الابتعاد عن احضانه واكملت بنفس نبرة صوتها السابقة :
_ فضلت ارن عليك وقت طويل وإنت مبتردش
رفع رأسها عن صدره وثبت عيناه على عيناها متمتمًا باستغراب وابتسامة عريضة :
_ كل ده عشان مرديتش عليكي .. التلفون كان في العربية ومسمعتهوش
هزت رأسها بالنفي وغمغمت بنبرة هدأ روعها قليلًا :
_ ريماس اتصلت بيا وقالتالي إن عمي وجاسر عملوا حاجة في عربيتك وانا خوفت أوي ليكون حصلك حاجة وحاولت اتصل بيك معرفتش اوصلك
تلاشت ابتسامته ليحل محلها الشر والغضب وهو يهمس متوعدًا :
_ يعني طلعوا هما زي ما كنت متأكد
_ حصل إيه قولي ؟!
نزع حذائه عنه ومن ثم أخذها معه للغرفة ، فجلست على الفراش وهي تنتظر منه أن يبدأ ويسرد لها الذي حدث .
تشدق بصوت صلب وهو يفك ازرار قميصه عنه ويقف أمام الخزانة :
_ حطولي مخدرات في جيب العربية بس ربنا سترها الحمدلله ومحصلش حاجة
اخفت شهقتها بكف يدها واستحوذت عليها الصدمة للحظات حتى قالت منذهلة :
_ وصل بيهم الوضع للدرجة دي
انتهي من نزع قميصه عنه ثم اقترب منها وشاركها في الجلوس مغمغمًا بثقة :
_ أنا هعرفهم حجمهم كويس أوي اطمني
شفق بعصبية :
_ ولا أنا هسكتلهم على فكرة !
ظهرت الحدة على معالمه وأجابها بغلظة صوته الرجولي وبلهجة صارمة وآمرة :
_ إنتي مش هتدخلي في أي حاجة ياشفق مفهوووم ولا لا
رمقته بطرف عيناها في اضطراب بسيط ، ونظرت لعيناه المريبة وهو ينتظر منها الإجابة فذعنت له وقالت بطوع :
_ حاضر
انحنى يطبع قبلة على كتفها هامسًا بهيام :
_ أنا خوفت اكتر منك .. فكرت لو مسكوني وعمك الحقير ده استغل الفرصة هو وابنه وحاولوا ياخدوكي أو يأذوكي ، مكنتش هقدر ابعد عنك للحظة واحدة
وضعت كفها على وجنته تنهاه بهمس ونظرة عاشقة :
_ متقولش كدا بعد الشر عليك .. ربنا يخليك ليا ويحفظك
لمعت عيناه بوميض لئيم فقال مبتسمًا بحب :
_ أمين .. بس الكلمتين دول مينفعش يتقالوا كدا ، حسسيني بعواطفك !
ضيقت عيناها بحيرة وسألته بعدم فهم :
_ اعمل إيه يعني ؟!
غمز بعيناه في مكر ونظرة جريئة لأول مرة تراها ، فخرج صوته خافت يحمل القليل من الوقاحة :
_ كلك نظر ياحبيبتي
حدجته بدهشة من تغيره الجذري وهيمن عليها الحياء عندما فهمت مقصده ، فقررت اللعب كما يحلو لها .. حيث احتضنت وجهه بين كفيها وطبعت قبلة على وجنته بكامل الرقة هامسة بدلال مقصود :
_ بعد الشر عليك ياكوكو
ثم اتجهت إلى الجهة الأخرى وفعلت المثل مستمرة في همسها ولكن بغنج أنوثي أشد :
_ قولي أنا أعمل إيه لو إنت مش موجود .. ده إنت جوزي وحبيبي وأخويا وصاحبي وسندي وراجلي
كان ذائب بين يديها وأمام قبلاتها وهمساته التي الهبت مشاعر العشق بأعماقه ، فكان يطالعها مبتسمًا بإعجاب ونظرات راغبة إلى أن تمتم بمداعبة :
_ إيه المشاعر الجياشة دي !
اطلقت ضحكة عالية وأجابته من بين ضحكها :
_ مش إنت اللي بتقول حسسيني بعواطفك
مال عليها وتمتم بخبث ضاحكًا :
_ طيب تحبي احسسك أنا بعواطفي
وثبت واقفة وهمت بالفرار هاتفة بتوتر :
_ لا عواطفك إنت مش سليمة
جذبها من ذراعها لترتد للخلف وتسقط فوق الفراش ليقول هو باستمتاع :
_ لا ده بالعكس عواطفي جميلة أوي وهتعجبك
اطلقت ضحكات مرتفعة بعدما اغار عليها أمام محاولاتها للتملص منه وهو يشاركها الضحك ……..
***
اخرجتها من الفرن أخيرًا بعد انتظار دام لأكثر من نصف ساعة .. أخذت تسكب عليها الشربات بكثرة حتى تتشربها جيدًا ومن ثم بدأت بتقسيمها لأجزاء صغيرة نسبيًا ، انحنت إليها تشتم رائحتها اللذيذة والشهية لتقول باسمة بفخر واعتزاز :
_ اممم تسلم إيدك يابت ياملاذ والله ، أنا مكاني مش هنا أساسًا .. لازم افتح قناة طبخ اعرض فيها مواهبي ، أما نشوف الاستاذ زين هيقدر يقاوم ولا لا
فعلتها عمدًا من أجله ، لعلمها بأنه يعشق ” البسبوسة ” وبالتأكيد لن يتمكن من مقاومتها ، ولترى ماذا سيفعل عندما يراها ! .
دخل المطبخ على أثر الرائحة وقال بفضول :
_ إنتي عاملة بسبوسة ياملاذ ؟
اخفت ابتسامتها الخبيثة وقالت بمضض :
_ ايوة
تحرك نحوها حتى وقف وتطلع إلى الصينية فسال لعابه وانفتحت شهيته فمد يده بالشوكة وهم بأن يلتقط قطعة فمنعته هاتفة ساخرة :
_ مش إنت مبتكلمنيش هتاكل ليه منها بقى !
رمقها بطرف عينه مستنكرًا ماتقوله وعاد ليمد يده ويلتقط القطعة ويضعها في فمه هاتفًا بعدم اكتراث :
_ وإيه دخل مشاكلنا بالأكل ياحبيبتي .. الأكل حاجة وإننا متخانقين حاجة تاني !
تذوقها بلتذذ وهتف مبتسمًا بشهية وهو يمضغ الطعام في فمه :
_ امممم حلوة أوي تسلم إيدك
رغم ضيقها منه إلا أنها ابتسمت بعذوبة وحب لتهتف برقة :
_ بالهنا والشفا .. استني هطلعلك منها في طبق
اخرجت له قطعة منها في صحن فتناول منها الصحن وهم بالانصراف لتعترض طريقه وتقول بدلال :
_ خلاص صافي يالبن مش كدا !
كتم ضحكته وقال وهو يأكل يتصنع عدم الاهتمام بها :
_ هاكل الأول وبعدين نتكلم براحتنا ياملاذي
ثم ابتعد من امامها وغادر وتركها تشتعل من الغيظ والعصبية لتهمس وهي تصر على أسنانها :
_ تصدق أنا غلطانة إني عملتها أصلًا !
***
مع صباح اليوم التالي ……
كانت ميار بغرفتها تتصفح هاتفها الذكي وهي جالسة على الفراش ، وإذا بطرقة يد لطيفة تطرق على الباب فقالت وهي لا تبعد نظرها عن شاشة الهاتف :
_ ادخل
فتحت الجدة الباب ودخلت ثم اغلقته خلفها فرفعت ميار نظرها أخيرًا بعدما اهتمام كثيرًا لترى من هو الطارق ، فاصابتها الدهشة تمامًا وهي تحملق بجدتها الواقفة أمامها وبظرف لحظة وثبت من فراشها هامسة بصدمة :
_ نينا !!!!
قالت الجدة بصرامة ولهجة آمر :
_ البسي يلا عشان هاخدك الدكتورة
ضيقت عيناها بعدم فهم لتسأل بحيرة ولا تزال الدهشة مهيمنة عليها :
_ دكتورة إيه .. أنا مش تعبانة يانينا الحمدلله
هتفت الجدة بحدة :
_ ما أنا عارفة إنك مش عيانة .. علاء حكالي كل حاجة وأنا حابة أتأكد عشان سعتها ابقى عارفة أنا بعمل إيه كويس
تقهقرت للخلف وهي تقول بذهول وعدم تصديق :
_ إنتي عايزة توديني لدكتورة وتكشفي عليا .. يعني هو حكالك وبرضوا مش مصدقة !!
صاحت بغضب بسيط :
_ ايوة مش مصدقة ومن غير كلام كتير يلا البسي وهستناكي تحت في العربية مع جوزك
استدارت الجدة وهمت بالانصراف ولكن صوت ميار المدهوش وهي تسأل بترقب :
_ ثانية هو علاء عارف بالموضوع ده وموافق عليه .. يعني موافق يوديني لدكتورة !!
قالت الجدة بحزم :
_ ومايوفقش ليه !! .. ثم أن ده قراري أنا ومحدش يقدر ينقاشني فيه
قالت آخر كلماتها ورحلت ، فظلت هي متسمرة بأرضها لا تستوعب الأحداث التي تنزل تباعًا فوق رأسها ، لا تلوم جدتها بقدر زوجها .. هل لا يثق بها بمقدار ذرة واحدة لكي يوافق على ذهابها لشيء كهذا ، هي لا تلومه ولكنها تحزن على الثقة التي لا يمحنها لها بالرغم من أنها افشت له كل شيء واقسمت بأن ما تقوله حقيقة ولا تكذب ، لكن هيهات فلا حياة لمن تنادي فقد برمج عقله على تصديق شيء ولا يقبل أي افكار أخرى !! ……..
***
نزل إسلام من سيارته أمام مبنى شركة العمايري وقاد خطواته للداخل ، تفكير لوقت طويل استغرقه وهو ما بين قبول عرضه أو رفضه وأخيرًا استقر على القبول وأن يسمح له أن يساعده في جزء من الملبغ كدين ويسده له ، قد اتصل به زين بالأمس وتحدثا معًا فأخبره بقراره النهائي .. ولكن مجيئه له اليوم في الشركة لأمر آخر وهو ” رفيف ” فقد عزم علي أن يتخذ خطوة جريئة في هذا الأمر ويخرج عن اطار الصمت والمتابعة .
وصل أمام باب مكتبه فطرق الأول طرقتين ثم فتح الباب فوجده يجلس وأمامه حاسوبه النقال يعمل عليه بتركيز ، رفع زين نظره وانطلقت ابتسامته العذبة وهو يرحب به :
_ اهلا بالبشمهندس
وقف ليعانقه عناق حار ثم جلسا على الأريكة وبدأ الحديث بينهم بروتينية العمل حتى تحدث زين قائلًا في جدية :
_ بإذن الله على أول الأسبوع الجاي الدكتور هيكون موجود وهنسافر
إسلام بامتنان :
_ والله ما عارف يازين اقولك إيه على اللي بتعمله معايا ده
_ متقولش حاجة احنا اخوات يا إسلام عيب
تنهد تنهيدة عميقة قبل أن يتحدث في صوت رجولي جاد :
_ طيب أنا كنت جاي الصراحة عشان اتكلم معاك في موضوع ميخصش لا الشغل ولا العملية
عقد حاجبيه باستغراب وطالعه بأعين متسائلة بفضول عن هذا الموضوع فاسترسل إسلام حديثه بنفس النبرة السابقة :
_ أنا طالب إيد الأنسة رفيف
اصابت الدهشة زين فحملق به مدهوشًا لبرهة من الوقت ليكمل إسلام بهدوء :
_ أنا كنت متردد افاتحك في الموضوع ده غير لما أكون متأكد من قراري ، وأنا دلوقتي متأكد إني مش هلاقي زوجة افضل من الأنسة رفيف ، على خلق ودين ماشاء الله
لاحت ابتسامة صافية على ثغر زين .. لا يزال يثق به ويعرف أنه خير من سيحافظ على شقيقته ، لكن نفس الشيء يشغله وهو عندما يعرف بالحقيقة المؤلمة .. فإسلام لا يعرف بشيء حتى الآن وهو ليس لديه الجرأة ليخبره .
دام تفكيره الطويل لدقيقة حتى عاد يرسم الابتسامة من جديد ويقول بفرحة بسيطة :
_ وأنا عارف إني مش هلاقي ليها افضل منك .. هفاتحها في الموضوع إن شاء الله وهشوف رأيها وارد عليك
تهللت اسارير إسلام وقال بخشونة :
_ إن شاء الله
***
اقتحمت يسر عليه المكتب ودخلت دون أي أذن .. كان هو يمسك بيده شيئًا لم تتمكن من رؤيته جيدًا حيث أنه اخفاه في الدرج بسرعة بمجرد دخولها ، رفعت حاجبها بشك وخبث ثم اقتربت منه حتى وقفت أمام المكتب مباشرة واستندت بكفيها على سطحه ثم انحت بجزعة وهي تشير إلى الدرج بعيناها بمعنى ” مالذي اخفيته مني هذا ” .. ضحك بخفة واقترب بجسده علي المكتب اكثر لينحني تجاهها هامسًا :
_ حاجة مش عايزك تعرفيها
_ لا والله
قالتها مستنكرة رده بالرفض ، ورغم فضولها الذي يكاد يقتلها ، تصنعت عدم الاكتراث للأمر وهتفت بشموخ :
_ أنا أساسًا مش فارق معايا أوي .. جيت اقولك إنك هتاجي معايا لاني هروح اشتري شوية حجات ليا وهتكون كتير مش هقدر اشيل وحدي
تريده أن يأتي معها !! . أليس الأمر غريبًا قليلًا أن ترغب في اصطحابه معها ! ، استحوذ عليه الذهول لثواني قليلة ولكنه تحول لسعادة وأجابها بلؤم :
_ حجات إيه ؟!
فهمت تلمحيه الوقح من خلال نظرته ونبرته فقالت باسمة بعدم حيلة وهي تضرب كف على كف :
_ لا إله إلا الله .. هروح اشتري مسلتزمات محتجاها ياحسن وهتاجي معايا ، عندك اعتراض ؟!
لا يحب أمور الشراء هذه وخاصة مع النساء ، لكن ابدى عن عدم اعتراضه بود حتى لا يخسر كل مافعله لكي تصل علاقتهم لهذا الوضع ! .
_ لا معنديش استنيني في العربية وهاجي وراكي
يسر بصرامة مزيفة :
_ طيب
ولته ظهرها وسارت للخارج وهي تبتسم بمكر ، فبتاكيد لن تطلب اصطحابه معها إلا أذا كانت لديها غاية خبيثة !!! …….
***
حذرها بأنها لن تتدخل في أي شيء يخص هذا الأمر ، لكن نقمها وغضبها يستخوذان عليها ولن تهدأ إلا عندما تفعل مايدور بعقلها .. فهي تعرف جيدًا كيف تردع عمها وابنه عن افعالهم الشنيعة ، أول شيء هو أن “كرم” لن يعرف بأي شيء ، ستقوم بالأمر بمفردها .
انتهت من ارتداء ملابسها وامسكت بالهاتف تجري اتصال به .. ليجيب على الهاتف بعد رنات قليلة :
_ أيوة ياشفق
شفق ببعض التردد المنزوج بالاضطراب :
_ كرم أنا هطلع اشتري كام حاجة تبع البيت وكدا
هتف بصوت رجولي قوي :
_ طيب قوليلي اللي عايزاه وأنا هجبهولك معايا
رفضت فورًا وهي تجيبه بتلعثم :
_ لا لا ياحبيبي أنا عايزة حجات معينة وهشتريها بنفسي افضل .. أنا مش هتأخر بإذن الله متقلقش
_ طيب ، ولو في أي حاجة رني عليا
_ حاضر إن شاء الله
انهت معه الاتصال وأصدرت تنهيدة حارة بارتياح أنه لم يسبب مشكلة ولم يشك بأمرها ، أما هو فقد اجرى اتصال بمسعد الذي اجابه برسمية :
_ ايوة ياكرم بيه
كرم بصلابة وحدة :
_ المدام طالعة تشتري شوية حجات اكيد من السوق يعني خليك وراها يامسعد عشان لو في أي حاجة حصلت كدا ولا كدا لأني مش ضامن عمها وابنه ده
مسعد بجدية وإيجاب :
_ تمام متقلقش ياكرم بيه
انزل الهاتف من على أذنه وهو يزفر بخنق .. لا يريد تقيدها وإجبارها على عدم الخروج وبنفس ذات اللحظة يقلق عليها بشدة ، ومن جهة أخرى باتت تتضايق بسبب أن ” مسعد ” يقوم بأخذها من المنزل ليذهب بها بالسيارة للمكان الذي تريده ومن ثم يعود بها للمنزل مرة أخرى ، فقط حتى يكون ” كرم ” مطمئنًا عليها إذا لم يستطع الذهاب هو معها فيوكل ” مسعد ” بحمايتها ، لذلك هو طلب منه الآن مراقبتها من بعيد وأن يخبره بأي جديد يحدث ! ……
***
يجلس حسن على مقعد وثير داخل محل للملابس بعد أن قاموا بشراء العديد من الأشياء انتهى به المطاف على شراء الملابس .. سئم واختنق من الانتظار فهو يجلس على هذا المقعد منذ مايقارب النصف ساعة وأكثر وهي لا تفعل شيء سوى اختيار الملابس وتدخل لتقيسها ومن ثم تخرج وتبدى عن عدم اعجابها بها !! .
ينظر لها وهي تخرج من غرفة القياس ويقول بنبرة مختنقة :
_ مش كفاية ولا إية يايسر شوفي لو هتاخدي حاجة وخلينا نمشي
وقفت أمامه وقالت بيأس متصنع وضيق :
_ لا مفيش حاجة عجبتني
_ كل اللي قستيه ده ومفيش حاجة عجبتك !!!!
قالها شبه مستاءًا فأجابت هي بكامل البرود وعدم الاكتراث :
_ آه تعالى هنروح محل تاني يمكن نلاقي حاجة حلوة
استقام وهتف بحدة :
_ لا محل تاني إيه .. خلاص هي شطبت على كدا بكرا إن شاء الله
عقدت ذراعيها في خصرها وقالت بغضب مزيف :
_ يعني إيه بكرا .. أنا عايزة اشتري كل اللي محتجاه النهردا
انحنى إليها يهتف منفعلًا وهو يحاول إخفاض صوته :
_ محتاجة إيه !! .. ليه ماشية عريانة ولا معكيش هدوم في دولابك عشان لازم النهردا .. بعدين إنتي مش شايفة الكياس دي كلها ، دي إنتي خلتينا نلف كالفورنيا كلها ، امشي يايسر قدامي يلا متخلنيش اعلى صوتي
كادت أن تنطلق من بين شفتيها ضحكة مرتفعة على كلماته ولكنها كتمتها وقالت بثقة وثبات امتزج ببعض القوة :
_ همشي مش عشان أنا خايفة منك .. لا عشان حتى أنا تعبت الصراحة
انصرفا وساروا باتجاه السيارة وهو يحمل بيده الأكياس ، وفي طريقهم للسيارة مروا على عدة محلات وواحد منهم كان للحلى والعقود والذهب بمختلف انواعه ، وقفت أمامه عندما لفت نظرها عقد معين ، هذا المرة لم يكن عمدًا ولكن حقًا ما جذبها له شيء ليس بعادي .
علقت نظرها عليه وغامت عيناها بالعبرات وهي تهمس :
_ كان معايا واحد زيه بظبط ذكرى من جدو الله يرحمه ..بس مش لاقياه للأسف وضاع مني وأول ما شفته دلوقتي افتكرت جدو
وقف خلفها وقال بصوت ينسدل كالحرير ناعمًا وحنون :
_ تحبي ندخل نشتريه ياحياتي
جففت دموعها بسرعة وقالت بنفى وهي تبتعد :
_ لا لا يلا بينا نرجع البيت لإني بدأت اتعب فعلًا
_ طيب يلا
ساروا ناحية السيارة ودخلت هي بالمقعد الأمامي بجواره ليضع هو الأكياس بالمقعد الخلفي ثم يقول بخشونة :
_ خمسة وراجعلك
قالت بحيرة ونبرة شبه مرتفعة عندما وجدته استدار وابتعد عن السيارة :
_ رايح فين ياحسن ؟!
لم يجب عليها وربما لم يسمعها حتى فتنهدت الصعداء بعدم حيلة وبقت بالسيارة تنتظره لدقائق قصيرة حتى عاد واستقل بمقعده المخصص للسيارة وانطلق بها لتسأل هي بفضول :
_ روحت فين ؟
لم يجيبها وتصنع الانشغال بالقيادة فتأففت هي بضيق واشاحت بوجهها عنه ، التقط بهاتفه الذي يرن وأجاب :
_ أيوة ياكرم إيه الأخبار ؟
_ تمام .. وإنت عامل إيه ويسر كمان ؟
_ كويسين الحمدلله
تمتم كرم بصوت رجولي صلب :
_ عايزك تعملي حاجة بما إنك موجود في امريكا
_ إيه هي ؟
بدأ يسرد له كل شيء يريده بالتفصيل ليهتف حسن بعدم فهم ونظرة ملتهبة :
_ كمال الحسيني ! .. هو حصل إيه طيب ماتفهمني ؟!!
كرم بإيجاز :
_ هفهمك ياحسن بس دلوقتي أنا مش فاضي .. شوية كدا هتصل بيك تاني وهقولك كل حاجة ، إنت بس اعمل اللي قولتلك عليه
_ لما تتصل بيا تاني وتفهمني كل حاجة نبقى نشوف اللي عايز تعمله ده
لم يرد كرم المجادلة معه كثيرًا وانهى معه الاتصال لينهي أعماله ، بينما الآخر فأخذ يفكر فيما طلبه منه وهو يتساءل عن الذي فعله ذلك الرجل لأخيه ! ، ويسر كانت تنظر له باستغراب تود سؤاله ولكنها فضلت عدم التدخل ! ……..
***
خرجت ميار مع الجدة من غرفة الطبيبة وكان علاء ينتظرهم بالخارج .. القت ميار نظرة خزي عليه ومن ثم نظرت لجدتها وقالت بصوت مبحوح وعاجز :
_ يارب تكونوا مرتاحين كدا !!
وجهت كلامها هذه المرة لجدتها بالأخص وهي تقول بانكسار وأعين دامعة :
_ اخترتي الطريق الأسهل وصدقتي الصور زيهم مع إني كنت بقول مستحيل نينا تصدق عني ده وهي بتثق فيا ، تخليتي عني وسبتيني وإنتي عارفة إني مليش غيرك ، اجبرتيني على الجواز ومسألتيش عني حتى بعدها ولما حاولت انتحر مفكرتيش تاجي تطمني عليا ، جيت لغاية عندك وفضلت اتوسلك تصدقيني وركعت عند رجلك وإنتي طردتيني برا البيت كله ، حتى لما عرفتي الحقيقة برضوا مصدقتيش وجيتي توديني لدكتورة عشان تتأكدي بنفسك .. أنا مجيتش معاكي عشان عايزاكي تسامحيني لا أنا خلاص مبقيش فارق معايا ، جيت بس عشان اثبتلكم إنكم ظلمتوني وإني على حق
همت الجدة بأن تقترب منها وتمسك بكفها هامسة بصوت حاني ونظرات متأثرة :
_ ميار ياحبيبتي
تراجعت للخلف فورًا قبل أن تلمسها والقت نظرة غاضبة وناقمة عليهم قبل أن تندفع للخارج مهرولة ، فجلست الجدة على المقعد وتركت العنان لدموعها الحارقة على ما سمعته منها ، اسرع علاء خلفها راكضًا ليمسك بها بعد أن غادرت العيادة وبحركة عنيفة منها دفعت يده عنه صائحة :
_ متلمسنيش
علاء بهدوء :
_ طيب رايحة فين تعالى هوصلك البيت يلا
هتفت بنظرة ثاقبة وبشجاعة جديدة عليها وغضب :
_ أنا مش هروح معاك مكان ، وياريت تبدأ في اجراءات الطلاق اللي كنت بتقول عليها لمامتك لأن الصراحة أنا اللي مبقتش طايقة استحمل اعيش معاك ولا طايقة عيلة العمايري كلها
ثم ولته ظهرها وهمت بالانصراف فتوقفت مجددًا والتفتت برأسها نحوه تقول بلهجة جديدة :
_ ولعلمك هرجع المانيا ومحدش هيقدر يمنعني لا إنت ولا نينا ولا عمي ولا أي مخلوق
لم يفضل أن يضغط عليها الآن وأن يتركها على راحتها لبعض الوقت لعلها تهدأ ، فتسمعه يقول بخنق بعدما رآها تستدير وتسير مبتعدة عنه :
_ طيب رايحة فين دلوقتي ؟
_ ملكش دعوة
قالتها بعصبية دون أن تلتفت له واكملت سيرها ، فمسح هو على وجهه متأففًا ببعض الضيق والأسى ، ثم التفت وعاد لجدته بالداخل !! …….
***
خرج زين من الحمام بعد أن أخذ حمامًا دافيء ليزيح عن جسده ارهاق العمل ، رآها تجلس على الفراش وتطالعه بأعين ساخطة ومغتاظة ، لم يحتاج لسؤالها بل فهم تلقائيًا السبب ، ابتسم بساحرية وتحرك ناحيتها ليجلس بجوارها ويقول بمداعبة بعد أن لف ذراعه حول كتفيها :
_ خلاص ياجميل متزعلش نفسك أوي كدا
ابعدت يده عنها هاتفة بخنق :
_ اه مزعلش نفسي وحضرتك مصدر ليا الوش الخشب ومش عايز تكلمني
_ وانتي شايفاني مش بكلمك دلوقتي ! .. ما احنا اهو زي السمنة على العسل الحمدلله
اشاحت بوجهها للجانب تعبر عن احتجاجها عن الكلام معه فهتف ضاحكًا وهو ينكشها في وسطها :
_ ماتضحكي يابت خلاص بقى .. جاتك القرف وإنتي حلوة كدا
لم تتمكن من كتم ضحكتها حيث انطلقت منها بعفوية وهي تتمايل جالسة تحاول إبعاد يده عن وسطها :
_ بس يازين الله
توقف وهو يبتسم بحب ليهم بالنهوض من جوارها لولا أنها امسكت بكفه تهتف بجدية :
_ زين أنا عايزة اروح لدكتورة احنا لينا فترة ومحصلش حمل خايفة يكون عندي مشكلة أو أي حاجة
طفل !! ..هو لا يفكر بالأطفال الآن بتاتًا ، بل يخشى من أن يكون أبًا فيفشل في مهمته كأب ، يخاف أن لا يتمكن من تهيئة وتربية اطفاله جيدًا فيكون مصيرهم كمصيره وينحرفوا إلى طرق ليست سليمة !!! .
مسك بكفها يملس عليه بحب :
_ ياحبيبتي دكتورة ليه احنا لسا يدوب متجوزين .. واحنا مش مستعجلين على الطفل سبيها على الله وهو هياجي في وقته
_ ماشي يازين بس أنا نفسي في طفل جدًا
_ إن شاء الله ربنا هيكرمنا قريب إنتي بس سبيها على الله
اماءت له بتفهم وسكتت تمامًا فاستقام هو وتنهد بعمق ثم رحل عن الغرفة بأكملها وتركها بمفردها !! ……..
***
أجاب كرم على الهاتف بجدية تامة وقلق :
_ أيوة يامسعد حصل حاجة ولا إيه ؟!
مسعد برسمية شديدة وبعض التوتر :
_ كرم بيه المدام مرحتش السوق أنا شايفها دلوقتي وهي داخلة بيت كمال الحسيني
فتحت لها زوجة عمها الباب فانصدمت في بادىء الأمر من رؤيتها لها ، ولكن سرعان ما رسمت ابتسامة شيطانية على شفتيها وقالت بلؤم :
_ اهلًا وسهلًا نورتينا
شفق بنظرات مشتعلة وبغضب ملحوظ :
_ عمي وجاسر موجودين ؟
ضحكت ساخرة وأجابتها بنظرات مستحقرة :
_ موجودين ياحبيبتي .. ياجــاســـــر تعالى شوف بنت عمك جات
كان بالمكتب يتحدث مع أبيه حول العمل وإذا بصياح أمه عليه وهي تخبرهم بقدوم ” شفق ” جعله يثب واقفًا بعد أن تبادل نظرات الدهشة مع أبيه ! .
هرول مسرعًا للخارج ولحق به كمال ، رأتهم شفق فدخلت خطوة للداخل وهي تقف بشموخ وقوة على عكس شخصيتها الضعيفة والهادئة وتحدثت موجهة حديثها لعمها متجاهلة وجود ذلك ” الجاسر ” ، كانت لهجتها تحمل التهديد والتحذير :
_ أنا جيت بس عشان اقولك ياعمي خليك بعيد عني وعن كرم ، أنا عارفة كويس إنك ورا المخدرات اللي كانت في عربيته
كمال ضاحكًا بازدراء منها :
_ إنتي جاية بتهددي عمك في بيته ، بقى هي دي التربية اللي ربهالك اخويا وسيف
صاحت بصوت انوثي قوي ومريب بعض الشيء :
_ متجيبش سيرة بابا وسيف نهائي فاهم ولا لا .. وبعدين أنا مليش عم اهلي ماتوا واللي فاضلي جوزي ويمكن انا سكت بعد اللي عملتوه مع سيف ومعانا بس مش هسكت دلوقتي وصدقني لو حاولت بس تقرب من كرم هنهيك إنت وابنك نهائي وإنت فاهم أنا اقصد إيه ياكمال الحسيني ، أنا حذرتك أهو
استدارت وهمت بالرحيل لولا يد جاسر التي قبضت على ذراعها تجذبها إليه وهو يقول بغضب :
_ خدي هنا إنتي رايحة فين .. مش هتطلعي من البيت ده
دفعته بعيدًا عنها بكامل قوتها ورفعت سبابتها في وجهه تهتف بنظرة نارية واستياء عاتي :
_ إنت متلمسنيش أبدًا واحمد ربك إني مقولتش لكرم على اللي عملته معايا وإلا مكنتش هشوفك واقف قدامي على رجلك كدا
قهقه بقوة وعاد يجذبها من ذراعها ولكن هذه المرة بإحكام شديد وقال باستهزاء وعدم مبالاة :
_ وأنا بقولك أهو مش هتمشي ياشفق وخلينا نشوف Hero بتاعك هيعمل إيه
ابعده كمال عنها وهو يقول بمكر رجولي وأعين شرانية لا تبعث على الخير أبدًا :
_ جاسر مينفعش كدا .. سيبها تمشي هي مسيرها هتعرف أنها ملهاش غيرنا
تركها على مضض فألقت هي عليهم نظرة مشمئزة وساخطة ثم انصرفت فورًا وبينما كانت تعبر الحديقة لتخرج إلى الشارع رأت كرم المتجه نحوها كالسهم تصلبت بأرضها برعب وجففت دموعها بسرعة .. وصل إليها وقال بلهجة آمرة وهو يتشعل غضبًا :
_ اسبقيني على العربية
كان سيهم بالذهاب لهم ولكنها جذبته من ذراعه وقالت بصوت متلعثم وخوف :
_ كرم أنا اللي جيتلهم هما معملوش حاجة ليا .. جيت اتكلم مع عمي
توقف واستدار برأسه لها لترى عيناه الحمراء والنظرات التي تعرفها حق المعرفة مع معالم وجهه المرعبة .
كرم بنبرة ارهبتها بشدة ونظرة مخيفة :
_ الكلمة بتتقال مرة واحدة عندي وإنتي سمعتي قولت إيه
تركت ذراعه ببطء وهي ترمقه برهبة وارتباك ، وقد ادركت أن عقابها سيكون عسير .. عصت أوامره حول عدم التدخل وكذبت عليه لتقنعه بأنها ستخرج لتشتري بعض الأشياء ، بالتأكيد سيكون لها من هذا الغضب الذي يستحوذه نصيب ! .
استقلت بالسيارة كما آمرها واخذت تفرك في اصابعها بتوتر وخوف تنتظر عودته ، بعد حوالي ثلاث دقائق رأته يتجه نحو السيارة ليستقل بمقعده بجوارها وينطلق بالسيارة فنظرت هي له وقالت بتردد في محاولة بائسة منها للدفاع عن نفسها :
_ كرم اااا …..
رمقها بنظرة كانت كافية لجعل الكلمات تفر هاربة من الرعب ، ازدردت ريقها بصعوبة وثبتت نظرها على الطريق وهي تشعر بدقات قلبها المتسارعة من فرط التوتر ، لو لم تشهد على غضبه العاتي مرات عديدة لما خشيت انفعاله عليها لهذه الدرجة !! ….
***
هاتفه بيده يقلبه يمينًا ويسارًا وعقله مشغول بها ، يجلس على مقعد هزاز وبأنامله يفرك لحيته الخفيفة .. يقلق عليها فهي لا تعرف المدينة جيدًا وقد تفقد طريقها ولا تعرف طريق العودة ، لكنها كانت حقًا بحاجة للبقاء بمفردها قليلًا ، يقسم أنه لم يكن يقصد أن يكسر نفسها فقد اصرت الجدة على هذه الفكرة وبالأخص بعدما رأت أنه يحمل بعض الشك بداخله أنها تكذب ففعلت لكي تقضى علي جميع شكوكه ، وهو وجدها فرصة جيدة لكي يأخذ القرار الصائب بشأن زواجهم .
بدأت الاسئلة تنهش عقله نهش .. أين ذهبت ؟ .. وماذا تفعل ؟ .. هل هي بخير ؟ .. كلها اسئلة تدور في حلقة واحدة ، وهناط طريقة واحدة للتخلص منها فامسك بهاتفه واخرج رقمها من قائمة الاسماء ليضع الهاتف على أذنه ينتظر ردها ، اجابت بعد وقت من الانتظار باقتضاب :
_ نعم
علاء بصوت غليظ :
_ إنتي فين ؟
_ وعايز تعرف ليه .. مهتم أوي مثلًا ، متخفش أنا وحدي
كانت نبرتها ممتعضة وحزينة فيجيبها هو متنهدًا بعمق :
_ قولي مكانك ياميار هيجيلك عايز اتكلم معاكي شوية
غمغمت بخفوت بائس :
_ لما ارجع ياعلاء قول اللي تحبه أنا دلوقتي محتاجة اقعد وحدي شوية أو بعيد عنك بمعنى أصح
هدر برزانة وهدوء دون أن يضغط عليها :
_ ماشي براحتك ياميار مش هاجي بس قوليلي برضوا إنتي فين عشان ابقى عارف
زفرت بخنق فليس هناك مفر من إخباره لكي تتخلص من اصراره ، تمتمت بنبرة عادية :
_ قاعدة في كافيه ( …. ) وممكن اروح اقعد مع رفيف في المطعم شوية
صمت لثواني قصيرة مترددًا في قول جملته القادمة ، يقولها أو لا !! .. حتى وجد لسانه ينطق بها من دون أن يشعر :
_ طيب ابقى خلي بالك من نفسك
انزلت الهاتف من على أذنها وضغطت على إنهاء الاتصال ، لترتسم على ثغرها ابتسامة مستنكرة جملته السخيفة بالنسبة لها .. ففي نظرها قد تكون متكلفة وليست بدافع الاهتمام الحقيقي !! ……..
***
صعدت الدرج هي أولًا وخلفها هو حيث كان يحمل الأكياس وهي تحمل البعض الآخر ، فتحت الباب ودخلت ثم هو .. اغلق الباب بقدمه واتجه إلى غرفتها ليضع الأكياس على الفراش وويلتفت بجسده ناحية الباب فيراها تدخل وتقول بابتسامة عذبة :
_ شكرًا
لاحت بشائر الابتسامة على شفتيه واقترب منها بخطواط واثقة وهو يقول بنظرة ليست بريئة :
_ على إيه بظبط ؟
لم تتزحزح من مكانها وبقت كما هي تقف بثبات تهتف ببعض الجدية :
_ إنك جيت معايا
توقف أمامها مباشرة وقال بخبث :
_ بس أنا مش عايز شكر بس
رمقته بتعجب وفضول ليبتسم هو ويسترسل حديثه بغزل صريح بها ومنحرف :
_ أصل البيت هنا عاجبني أوي وعليه عيون تسرق العقل ولا جسم إنما إيه بطل ، والضحكة
حكاية ولا الشفـ…..
توردت وجنتيها بخجل وارتباك من نظراته وكلماته المنحرفة ، فهدرت به شبه منفعلة :
_ حسن احترم نفسك
انطلقت منه ضحكة عالية ثم اجابها بمشاكسة جميلة :
_ عشان كدا بفكر آجي اقعد مع البيت العسل ده ، لإني الصراحة عندي اكتئاب حاد وعلاجه إني اعيش مع بيت يحتويني ، وأنا واثق إني مش هلاقي حد يحتويني اكتر منك .. اقصد البيت !!
فشلت في حجب ضحكتها حيث اجابته مبتسمة باتساع على مشاكته :
_ لا ياحسن مش هتقعد معايا هنا .. غير لما اصفالك تمامًا
سكت لبرهة من الوقت ثم غمز لها وتشدق بتصنع البراءة :
_ طيب أنا عندي فكرة هتخليكي تصفيلي على الآخر
عقدت ذراعيها أمام صدرها مبتسمة بسخرية على طريقته المزيفة في الظهور ببراءة ، يستطيع خداع أي أحد ولكن هي تعرف داخله المنحرف فقالت وهي تلوي فمها مستهزئة :
_ إيه هو ؟
انحني على أذنها وهمس بعدة كلمات صدمتها .. هي كانت متوقعة أنه سيقترح اقتراح منحرف ولكن ليس إلى هذه الدرجة !! ، استحت واستاءت بذات اللحظة فبتلقائية منها ضربته بكفها على كتفه في غيظ هاتفة :
_ امشي ياوقح
كتم ضحكته بصعوبة وقال مازحًا بطريقة كوميدية وهو يهم بالانصراف :
_ براحتك إنتي الخسرانة
قوست ثغرها بقوة حتى لا ينفرج عن ابتسامة وقالت بحزم مصتنع :
_ برا ياحسن
ولاها ظهرها ورحل وهو يضحك وكذلك هي التي تركت حرية شفتيها لتفتر عن ابتسامة واسعة وهي تهمس بحياء بسيط :
_ وبيقولها ببجاحة مهو منحرف هيتكسف إزاي !!
***
نزل من السيارة وقاد خطواته الساخطة إلى داخل المنزل وهي تبعته بخطا متعثرة ومتوترة .. وجدته يقف بجواره الباب ينتظرها أن تدخل لكي يغلقه وفي عيناه تستقر نظرة قاتمة ، دخلت باضطراب ليغلق الباب بكامل الهدوء ويهتف في نبرة لا تزال شبه عادية حتى الآن :
_ أنا كلامي كان واضح جدًا لما قولتلك إنتي مش هتدّخلي وملكيش دعوة بالموضوع ده نهائي صح ولا لا ؟
أماءت له بالإيجاب وهي تجفل نظرها أرضًا لا تقوى على رفعهم إليه ، ليسترسل هو حديثه بسؤال صريح وصارم :
_ واللي حصل دلوقتي ده إيه ؟
لم تجد الكلمات التي ستبرر بها عن نفسها ففضلت الصمت وبقت ساكنة كالصنم لا تنظر له فقط تحدق بالأرض ، ولكن اجتاحتها نفضة عنيفة أثر صيحته القوية بها :
_ أنا بكلمك ياشفق ردي .. إيه اللي عملتيه ده ، كذبتي عليا وقولتيلي نازلة تشتري شوية حجات وروحتي لعمك الحيوان ده في بيته ، يعني مش كذبتي عليا وبس لا كمان عصيتي اوامري اللي هي لمصلحتك وعشان خايف عليكي ، إنتي إيه ضمنك إنهم ميأذوكيش عشان تروحليهم بنفسك
ادمعت عيناها بالدموع الحارقة وهي كما هي لا تنظر له .. مما استفزه هدوءها المبالغ فيه حتى أنها لا تحاول الدفاع عن نفسها لعل ضجره منها يهدأ قليلًا .
صاح بصوت جهوري :
_ متفضليش ساكتة كدا قولي إيه اللي وداكي هناك من غير ماتقوليلي .. هتفضلي لغاية امتي كدا عديمة مسئولية ومش بتفكري في نتائج اللي بتعمليه أنا بعمل كل حاجة عشان اخليكي في آمان ومفيش حاجة تأذيكي وإنتي اللي برجليكي بتروحي للأذي
اجهشت في بكاء عنيف وقالت بصوت مرتجف ومبحوح :
_ كفاية ياكرم من فضلك
سكت تمامًا واطال النظر في وجهها الغارق في الدموع فكاد أن يخر مستسلمًا أمامها ويعتذر منها ولكن يجب عليها أن تعرف خطأها جيدًا حتى لا تكرره مرة أخرى ، وسيتوجب عليه أن يكون أكثر صلابة أمام قلبه الذي ينخ لها من مجرد كلمة أو ابتسامة أو حتى لمسة ! .. اتاها صوته الغليظ وهو يقول بنبرة لينة قليلًا :
_ أنا كل اللي عايزك تفهميه هو خوفي عليكي ، وإنتي عارفة أنا بخاف من أن شعرة واحدة بس منك تتأذي ، وفاهمة إن عصبيتي أحيانًا مش بأيدي فارجوكي ياشفق اللي اقوله يتنفذ ومتكسريش كلمتي تاني مش عشان حاجة ده عشان مصلحتك لأن أنا مش همنعك من حاجة إلا وأنا عارف أنها ممكن تأذيكي .. كفاية عياط .. روحي اغسلي وشك وحقك عليا مقصدش ازعقلك كدا
رفعت نظرها له أخيرًا وطالعته بدموعها السابحة في عيناها مطولًا ثم استدارت ورحلت لتتركه يتأفف ويمسح على وجهه بزفير حار .. هو شخصيًا اصبح يتضايق من انفعاله المستمر على أقل واتفه الأشياء ، هو ليس برجل من هذا النوع .. ماذا يحدث له لا يفهم ! ، أهل هذا بسبب المشاكل التي تلاحقهم دومًا وتجعله دائم الخوف والقلق بشأن زوجته ؟ ، فتجعل منه سريع التحول والانفعال ! .. أم ماذا ؟! ، أي كان السبب فهو لا يعجبه هذا الوضع ويجب عليه أن يجد حلًا سريعًا له !! ………
***
في مساء ذلك اليوم ……
اتجهت هدى إلى الباب بعد أن سمعت صوت رنينه ، مسكت المقبض وادارته ثم جذبت الباب إليها لتقابل ” زين ” بوجهها ابتسمت بحنو وسعادة فانحنى هو ناحيتها وعانقها بدفء متمتمًا :
_ عاملة إيه ياست الكل وحشاني
نكزته في كتفه بتذمر مصتنع من ابتسامة محبة :
_ وحشاك إيه بس ياكذاب .. هو أنت فاكر حد أساسًا في الفسحة اللي اخدتها مع مراتك
دخل ونزع حذائه عنه مغمغمًا بمزاح وهو يضحك :
_ يبقى ظلماني كدا يادودو .. اخبار تيتا إيه ؟
_ كويسة الحمدلله طلعت يدوب من ربع ساعة تنام
دار بنظره في أرجاء المنزل متمتمًا :
_ امال رفيف فين ؟
_ في اوضتها فوق إنت عايزها في حاجة ولا إيه ؟
_ آه اندهي عليها عشان عايز اتكلم معاكم في موضوع كدا
عقدت حاجبيها باستغراب تجيبه بحيرة :
_ خير موضوع إيه ده ياحبيبي ؟!
_ خير إن شاء الله
فعلت كما طلب وذهبت لتخبرها بمجيء أخيها وأنه يريد التحدث معها ، فخرجت رفيف خلف أمها فورًا ورحبت بأخيها وهو كذلك ، ثم جلست بجواره على المقعد ، ليأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يبدأ حديثه بجدية تامة :
_ اسلام اتكلم معايا النهردا وطلب إيد رفيف مني
الدهشة الأكبر كانت من نصيب هدى التي نقلت نظرها بين ابنتها وبينه باندهاش ، أما رفيف فلم يصبها من الصدمة بقدر والدتها وكان الأمر مفرح بالنسبة لها ، تصنعت الذهول أمام أخيها وكأنها لا تعرف بشيء وأخفت سعادتها ! .
زين بنبرة رزينة :
_ إيه رأيك يا ماما ؟
هدى بابتسامة عذبة :
_ والله ياحبيبي أنا على قد ما اندهشت بس فرحت يعني إسلام أنا عارفاه كويس أوي وماشاء الله عليه راجل ومحترم .. الرأى في الأول والآخر لاختك سواء موافقة أو رافضة
انتقل بنظره إلى شقيقته التي كانت شبه خجلة وتتابعهم بصمت ثم غمغم بحنو :
_ صلى استخارة ياحبيبتي وفكري وردي عليا .. ولا إنتي مش موافقة أصلًا من البداية ؟
هزت رأسها بالنفي وتمتمت بحياء بسيط :
_ هفكر واستخير ربنا يازين واقولك قراري إن شاء الله
ملس على كفها بلطف وهو يبتسم مهمهمًا :
_ إن شاء الله
***
اتجهت يسر إلى الباب بعد أن سمعت صوت رنين الجرس .. مسكت المقبض ووقفت لثواني قصيرة تبتسم بخبث ثم اخفت ابتسامتها بسرعة وفتحت الباب لتنظر له بسكون قبل أن يتحدث هو بريبة :
_ في إيه يايسر .. إنتي كويسة ؟
اماءت بالإيجاب وتجيبه زامة شفتيها للأمام :
_ إنت شايف إيه ؟!!
_ امال ليه اتصلتي بيا وبتقوليلي اطلعلي فوق بسرعة !!؟
استندت بكتفها على جانب الباب وقالت مبتسمة في برود مقصود وبنظرات ملتذذة :
_ أصل أنا جعانة واكتشفت أن الأكلة اللي هعملها في مكونات ناقصة ، وكنت عايزاك تروح تجيبهم ليا
رفع حاجبه مستنكرًا طلبها منه في هذا الوقت المتأخر :
_ دلوقتي !!!
اماءت برأسها وقد اتسعت ابتسامتها ولكنها اخفتها تدريجيًا واعتدلت في وقفتها وهي تقول باستياء مزيف :
_ أه دلوقتي بس لو مش عايز خلاص مفيش مشكلة
همت بالاستدارة فقبض على ذراعها يستوقفها هاتفًا :
_ خدي هنا استني هو أنا قولت حاجة .. قولي إيه اللي عايزاه يلا ؟
عادت ابتسامتها لشفتيها حيث اجابته باسمة وهي تملي عليه طلباتها التي تريدها .
لم تكن تريد شيء فكل شيء موجود لديها فقط فعلت ذلك كيدًا فيه ولتستمتع ! .. ظلت بانتظاره لدقائق طويلة حتى عاد وحمل الطلبات ووضعها في المطبخ فقالت بخفوت :
_ شكرًا
ثم بدأت في إخراج الطعام وبدأت في تحضير وجبة عشائها ، فرأته يقترب ليقف بجوارها ويهمس برقة تليق بصوته الرجولي :
_ مش محتاجة مساعدة ؟
هزت رأسها بالنفي وقالت في كامل الهدوء وهي مثبتة نظرها على الذي تفعله :
_ لا شكرًا ياحسن امشي إنت خلاص
ضيق عيناه بتعجب واجابها بمرح وأعين تنضج بالعشق :
_ امشي !! .. طيب اعزمي عليا حتى وقوليلي اقعد اتعشى معايا ياحبيبي ، أي حاجة .. بقى بزمتك مصعبتش عليكي من يوم ماجيت هنا وأنا نص أكلى من برا ، ده أنا حتى وحشني الاكل الحلو من إيدك ياحلو إنت
لم يسعدها كلامه هذه المرة بل ظهر العبوس على محياها عندما عكرت صفوها ذكرى سيئة من ذكرياتهم ، فابتسمت بمرارة وقالت مستنكرة آخر جملة :
_ وحشك !!! .. ليه مش على أساس أنا مبعرفش أعمل أكل وأنه قرف لدرجة إنك رميته في الزبالة ، فاكر ولا نسيت !
لم تنسى أي موقف جرحها فيه ، هي كانت تتناسى جميع مواقفه لكن بعدما ساءت علاقتهم لم تتمكن من التظاهر بالتناسي وكلما ترغب بمسامحته تتذكر أحد مواقفه القاسية معها فينمو بداخلها شعور الخوف من أن تعطيه الفرصة فتعود معاناتها من جديد ، والآن فقط هو فهم لماذا لا تسامحه بسهولة !! .
اجفل نظره بخزي من نفسه وتمتم معتذرًا بصدق وضيق :
_ أنا آسف.. عارف إني جرحتك كتير وكنت متخلف بس حقيقي أنا ندمان على كل حاجة قولتها وعملتها
بذلت اقصى مجهود في أن تتحكم في دموعها ، لكن انسابت على وجنتيها بحرقة وهي تأبى النظر له حتى لا يراهم بوضوح ، شعرت به يلف ذراعه حول كتفها ويضمها لصدره وباليد الأخرى مسك بكفها يرفعه لشفتيه ويلثمه بعدة قبلات ناعمة هامسًا بعاطفة جيَّاشة وحب :
_ أنا طلبت منك فرصة تاني عشان نبدأ من جديد وفي صفحة جديدة تمامًا ، واوعدك إني هخليكي تنسى كل حاجة وحشة ومش هتفتكري غير ذكرياتنا الحلوة مع بعض
تسمح له بلمسها لأول مرة منذ انفصالهم ، اغمضت عيناها براحة وسكينة وهي تشعر بدفء أحضانه .. اشتاقت له أكثر مما يتخيل حتى ، الآن فقط احست بأن روحها التائهة قد سكنت في جسدها ووجدت مستقرها ، ودت لو تبقى بين ذراعيه وهو يحتضنها هكذا للأبد لكي تعوض أيام فراقها عنه ، لكن سحبت نفسها منه بهدوء وجففت دموعها متمتمة دون أن تنظر له :
_ خلاص روح إنت وأنا لما اخلص الأكل هنزّلك منه
” فيما كنت اتحدث وبماذا تجيبين إنتِ !! ” قالها لنفسه مستنكرًا بضحك ثم هتف برفض وبمداعبة غامزًا :
_ تؤتؤ مش همشي أنا عايز اساعدك ياستي إنتي مالك الله
_ لا متساعدنيش
ضحك وهتف بكامل اللطافة :
_ خلاص هقف اتفرج عليكي
زفرت بنفاذ صبر وقالت بجدية :
_ قدامك حلين يا تنزل الشقة تحت ياتطلع وتنساني برا لغاية ما اخلص .. لكن متقفش معايا في المطبخ عشان مش برتاح
ابتسم ببساطة عندما فهم سبب رفضها لوجوده معها الذي سيوترها فغمغم باستسلام :
_ طيب هطلع اتفرج على التلفزيون في الصالة برا
ثم استدار وانصرف فتنهدت هي بقوة ولاحت على ثغرها ابتسامة مغرمة ومستكينة ! ……
***
ترجل من سيارته وقاد خطواته نحو المنزل ومن ثم صعد الدرج متجهًا إلى غرفته ، فتح الباب ودخل فرآها تجلس على الفراش بصمت وبيدها هاتفها تعبث به وتتصفح أحد مواقع التواصل الاجتماعي ، أصدر تنهيدة قوية ثم اغلق الباب ونزع عنه سترته هاتفًا :
_ جيتي إمتى ؟
اجابته باقتضاب دون أن تنظر له :
_ بعد العصر
جلس على حافة الفراش بجانبها وبدأ في نزع حذائه عنه متمتمًا بهدوء تام وكأن كل شيء لم يكن :
_ قاعدة صاحية ليه مش المفروض إن بكرا أول يوم كلية ليكي
رغم كل ماحدث ويتصرف بطبيعية ويلقي عليها الأوامر أيضًا بدلًا من أن يعتذر منها أنه لم يصدقها وجرحها بموافقته على ما طلبته الجدة في فحصها عند طبيب ليتأكدوا من عذريتها !! .
هدرت بسخط وعنادًا به لكي تغضبه :
_ لا ما أنا قررت إني مش هروح الكلية لإني هرجع المانيا وهكمل هناك في كليتي وده طبعًا بعد مانتطلق
نجحت بجملتين فقط في اثارة غضبه كما كانت تريد حيث التفت برأسه نحوها وقال بغلظة وحدة :
_ قولنا قبل كدا مليون مرة موضوع المانيا ده تنسيه تمامًا ، مفيش رجوع هناك حتى لو حصل واطلقنا
ميار بكل برود أعصاب وعدم اكتراث لما يخرج ما شفتيها :
_ وأنا بكرهكم مش عايزة اعيش معاكم ، وحقيقي أنت خلتني اندم إني حسيتك مختلف عنهم وهتقف معايا وهتدافع عني وهتصدقني بس طلعت زيهم مفيش حد عنده استعداد ياجي على نفسه شوية ويصدقني ، أنا مصدمتش في نينا النهردا قد ما اتصدمت فيك .. أنا عارفة إنك مش عايزاني وعايز تطلقني ومش بتحبني بس كنت متخيلة إنك صدقتني وطلعت غلطانة للأسف
اطرق رأسه أرضًا بوجه بائس لتهتف هي بصوت مبحوح :
_ ما تتكلم ساكت ليه ؟
أخذ نفسًا عميقًا ثم هتف بأسى :
_ لما تيتا قالتلي كدا أنا مقدرتش ارفض يا ميار .. كان لازم اوافق عشان اقضي على أي ذرة شك جوايا حتى لو أنا مصدقك ففي صوت جوايا بيفضل يشكنني فيكي ، فوافقت عشان اثبت لنفسي إنك على حق .. وعشان أنا كمان مش عايز يفضل الشك ده جوايا وعايز نكمل في علاقتنا بطريقة أفضل واحلى
قالت باستهزاء وهي تبتسم بحزن :
_ ليه وهو إنت عايز نكمل مع بعض !!!
لم تجد رد منه سوى الصمت فاتسعت ابتسامتها وأجابت بجفاء :
_ طيب أي كان ردك سواء بأيوة أو لا .. أنا مش عايزة أكمل ياعلاء وحتى مشاعري اللي كانت تجاهك مش عايزاها
صدمته بجملتها الأخيرة حيث ضيق عيناه مدهوشًا وهتف بترقب لردها :
_ مشاعرك تجاهي !!!
ادركت السذاجة التي تفوهت بها فلعنت نفسها الحمقاء ألف مرة وحاولت التهرب من سؤاله بقولها :
_ تصبح على خير
مدت يدها على الغطاء وهمت بسحبه علي جسدها لكي تتمدد وتخلد للنوم كوسيلة للهرب منه ولكنه قبض على رسغها هاتفًا بفضول :
_ قصدك إيه ياميار ، وياترى المشاعر دي كانت كره ولا حاجة تاني ؟
انفعلت ودفعت يده هاتفة بخنق :
_ مش قصدي حاجة ياعلاء .. أنا عايزة انام ممكن !
تمددت على الفراش وولته ظهرها فبقى هو بنفس وضعيته يحملق بها بشرود للحظات يفكر فيما قالتها ، ثم وقف واتجه للحمام لكي يبدل ملابسه بعدما لم يصل لإجابة على حيرته ! …….
***
انتهت من تحضير كوب القهوة الخاصة به .. لم يطلبها ولكنها فعلتها كاعتذار بسيط ولكي تجد سبب لتتحدث معه ، فهو منذ الصباح لا ينظر بوجهها ولا يتكلم معها ولم يعطيها مجرد ابتسامة رقيقة حتى !! .. هي مخطئة ومعترفة بخطأها وأيضٌا تضايقت من طريقته العنيفة وانفعاله عليها ، وبنفس ذات اللحظة تقول لنفسها أنه على حق فبالتأكيد قلق عليها وهي تعرف أنه لا يغضب هكذا إلا عندما يكون الأمر يخص سلامتها وخوفه عليها .. لم تعد تعرف اتعتذر له مباشرة أم تنتظر حتى يهدأ غضبه منها وستعود المياه لمجرايها !! .
وصلت أمام باب مكتبه وفتحته ببطء شديد ثم دخلت واقتربت منه لتضع الكوب على سطح المكتب أمامه ، رفع نظره لها وقال بجفاء غير متوقع منه :
_ أنا مطلبتش منك قهوة !
لوت فمها بيأس ثم التقطت الكوب مجددًا وهي تهتف بنبرة قوية :
_ آسفة
سارت باتجاه الباب وبينما هي في طريقها لتنصرف .. انزلقت قدمها عن غير قصد وسكبت القهوة عليها فتركت الكوب من يدها ليقع على الأرض ويتناثر لأجزاء وتصدر هي تأوهات متألمة بشدة .. هب واقفًا مذعورًا وهرول إليها يمسك بيدها المحروقة وملابسها التي تلطخت بالقهوة فيهتف بزعر :
_ مش تاخدي بالك ياحبيبتي .. وريني إيدك
رفع يديها ينظر إليهم فيرى أحمرار شديد وهي تتألم بشدة فهتف بقلق :
_ تعالي غيري هدومك بسرعة وهحطلك مرهم للحروق
سارت معه حتى وصلا للغرفة وبحث هو بالادراج عن المرهم حتى عثر عليه واخرجه ثم اقترب منها وتمتم :
_ تعالى هحطلك منه
التقطته من يده وهدرت بحزم بسيط وضيق ملحوظ في نبرة صوتها ونظرتها :
_ خلاص ياكرم روح أنا هغير هدومي واحطه
_ هساعدك مش هتعرفي تغير هدومك وإيدك كدا
_ لا هعرف متقلقش روح كمل شغلك
لم يعيرها اهتمام واتجه إلى الخزانة ليخرج منها ملابس لها ثم عاد ومد يده لبلوزتها يفك ازارها فابعدت يده هاتفة باستياء بسيط :
_ بتعمل إيه .. قولتلك هغير أنا و….
توقفت عندما لمست يدها يده فألمتها أكثر ومسكت بها تصدر أنينًا متوجعًا .. لوى فمه باستنكار وكأنه يقول ” لقد اخبرتك ! ” .
شفق بخفوت وهي تجذب من يده البلوزة :
_ هات أنا هغير
ولته ظهرها وأكملت فك الازار ونزعت ذراع البلوزة بحرص شديد حتى لا يؤلمها ولم يستمع لها رغم كل هذا حيث مسك بالملابس النضيفة وساعدها على ارتدائها ومن ثم اجلسها على الفراش وبدأ بوضع المرهم على الجزء المحترق في يدها ، فنسابت دموعها على وجنتيها بغزارة ليس بقدر تألمها ولكن بقدر حزنها من جفائه .. انتبه لها بعدما انتهى فعبس وجهه وهم بأن يتحدث فجففت هي دموعها فورًا وقالت بصوت مبحوح :
_ ايدي بتألمني أوي عشان كدا عيطت .. أنا هنام تصبح على خير
تمددت على الفراش بعد أن ارتدت قفازات على يدها موضع المرهم والحرق .. تنهد هو بعدم حيلة فقد فشل في الصمود أمام دموعها ولم يسمح له قلبه بأن يتركها تنام الليلة وهي تبكي .. مدد نصف جسده بجوارها وانحنى عليها من الخلف يطبع قبلة على وجنتها هامسًا بحنو :
_ معاش ولا كان اللي يخلي أميرتي تعيط .. متزعليش ياروحي أنا اتعصبت عليكي لأنك فعلًا غلطانة ومكنش ينفع تكسري كلمتي صح ولا لا ، ورغم إنك غلطانة هتنازل واقولك صافي يالبن بس بشرط إنك تصالحيني
التفتت له برأسها وقالت بعدم فهم :
_ اعتذرلك يعني ؟
قال باسمًا بلؤم وهو يغمز لها :
_ تؤتؤ الاعتذار ده كلام أنا عايز أفعال
فهمت مبتغاه المنحرف فتنهدت مغلوبة على أمرها واعتدلت في نومتها لتقترب وتطبع قبلة عميقة على وجنته هامسة برقة وحب :
_ أنا آسفة اوعدك مش هتتكرر تاني
ابدى عن رفضه لطريقه مصالحتها له حيث قال بضيق :
_ لا مش بتصالح بدي أنا
_ امال بتتصالح بإيه ؟!!!
وجدته يقترب منها فتراجعت برأسها للخلف هاتفة بحيرة :
_ هتعمل إيه ؟!
كرم بابتسامة عريضة :
_ هوريكي بتصالح إزاي عشان تصالحيني بيها
هزت رأسها بالنفي متمتمة بضحك :
_ لا مش عايزة اشوف خلاص بكرا هبقى اصالحك
قوس وجهه محتقنًا وهتف :
_ بكرا إيه هو النهردا يا بلاش .. هاا تختاري إيه ؟
عادت تتمدد على الفراش مجددًا مغمغمة بابتسامة خجلة :
_ يبقى بلاش احسن
اغتاظ بشدة فمد يده واطفأ الضوء وتشدق بوعيد حقيقي :
_ شكلك كدا مش هتاجي بالذوق
انطلقت منها ضحكة مرتفعة من بينها هتفت باسمه عندما اغار عليها ينل منها ما رفضت اعطائه ولكن على طريقته الخاصة !! ……
***
ملاذ بنبرة مرحة ومعاتبة أيضًا :
_ بقى كل ده يحصل ومحدش يقولي .. ماشي يا إسلام
_ ما أنا قولتلك أهو .. أنا كنت بس منتظر لغاية ما أكون متأكد وافاتح زين بالموضوع الأول وأهو كلمته
تصنعت الضيق والضجر وهي تجيبه :
_ إيه يعني قصدك إني كنت هقول لزين مثلًا !!
إسلام ضاحكًا بمشاكسة :
_ ده أكيد أنا عارف كدا .. من فرحتك مش هتقدري تمسكي لسانك فعشان كدا قولت لماما متقولكيش إلا لما اكلم زين
قهقهت بقوة ثم أجابته برزانة وبعض الجدية :
_ ده أنا طايرة من الفرحة .. واطمن أنا واثقة إن رفيف هتوافق إن شاء الله ياحبيبي
_ إن شاء الله
خرج زين من الغرفة ونظر لها باستفهام عندما سمعها تهتف بـ ” حبيبي ” فهمست دون أن يصل الصوت لمسمع أخيها :
_ إسلام
أماء بتفهم واقترب ليجلس بجانبها بينما إسلام فسمعته يهتف بنبرة عادية :
_ أنا هقفل بقى يازوزا عشان اروح انام معايا شغل الصبح بدري
_ ماشي ياحبيبي تصبح على خير وابقى سلملي على بابا وماما
انزلت الهاتف من على أذنها بعدما انهت اتصالها مع أخيها ، والتفتت للجالس بجوارها تقول بحماس :
_ إنت شوفت رأى رفيف ولا لسا
زين بخفوت :
_ كلمتها هتصلي استخارة وترد عليا بقرارها
ملاذ بعذوبة وفرحة غامرة :
_ خير إن شاء الله .. فرحانة جدًا والله بالخبر ده
لم ينتبه لحديثها فقد كان عقله مشغولًا بشيء آخر .. يشعر بنفسه كأنه تائه في وسط غاب ولا يدري أهو بأولها أو آخرها أو منتصفها ، لا يعرف حتى إيه طريق النجاة !! .
تعجبت من شروده وسكوته الغريب فاقتربت منه أكثر هامسة بريبة ونظرات تحمل الحيرة :
_ زين ! .. مالك إنت من وقت مارجعنا من الرياض وحاسة إن في حاجة مضيقاك ودايمًا ساكت وسرحان كدا ، احكيلي ياحبيبي
نظر لها وغمغم بابتسامة منطفئة :
_ مفيش حاجة مهمة ياحبيبتي .. مشاكل الشغل العادية
استندت بكلتا كفيها على كتفه وهمست بدلال انوثي ورقة :
_ طيب ولسا برضوا مش عايزني اروح لدكتورة
تنهد الصعداء بصوت مسموع وتمتم بكامل اللطف :
_ احنا مش اتكلمنا في الموضوع ده ياملاذ وقولتلك سيبه براحته وقت ما ربنا يريد هيتم
انتصبت في جلستها وابتعدت قدر سنتي مترات عنه متمتمة في نعومة امتزجت ببعض الجدية :
_ بس أنا مش مطمنة وخايفة يكون في مشكلة فعايزة اروح اطمن مش اكتر
لن تفهمه ولن يستطيع شرح موقفه لها .. وسيظل وضعهم هكذا هي تريد وهو لا يتمكن من اخبارها ، حتمًا لابد من وجود حل لهذه المعضلة قبل أن يصلا لمفترق طرق مغلق ! .
هب واقفًا وقال شبه مختنقًا :
_ اعملي اللي تعمليه ياملاذ مش فارقة
تابعته وهو يرحل شبه منذهلة من ردة فعله المعاكسة والعجيبة ، ماذا يقصد بافعلي ما تريدين ؟!! .. كأن الطفل الذي ترغب في انجابه سيكوت طفلها بمفردها وليس طفلهم معًا ! ، ألا يريد هو أيضًا طفل ؟ .. باتت لا تفهم تصرفاته الغريبة ولكنها بدأت تغضبها وتسأم منها !! ……..
***
دخل كرم في غرفة مكتبة الخاصة واغلق الباب خلفه لكي يستطيع التحدث براحة أكثر بعيدًا عن آذان زوجته ! .. أجاب على هاتفه وتحدث بنبرة عادية :
_ أيوة ياحسن
_ هااا اديني اتصلت بيك ممكن بقى تفهمني إيه اللي بيحصل !!
غمغم كرم بصوت رجولي أجشَّ :
_ اللي بيحصل إن كمال الحسيني حطلي حشيش في العربية عشان يلبسني تهمة وادخل السجن بس من ستر ربنا إن الموضوع عدى على خير ومحصلش حاجة
انطلقت من حسن ضحكة متغطرسة وهو يهتف :
_ حشيش مرة واحدة !! .. وده طبعًا بسبب شفق ؟
_ بظبط ومن الآخر كدا الراجل ده مش هيتهد إلا لما ودنه تتقرص كويس أوي ، وعشان عقلهم ميوزهمش بس إنهم يقربوا من مراتي
حسن بنبرة غليظة وحادة :
_ شكلهم محرموش من أيام سيف .. ماعلينا طالما الموضوع كدا هبقى اعمل اللي اتفقنا عليه واكلمك ، بس بلاش تدخل معاهم في مشاكل دلوقتي خالص ياكرم لغاية ما اخلص كل حاجة
هدر الآخر بنظرات شيطانية :
_ متقلقش هتسلى عليهم بس بشويش
ضحك بخفة وأجابه مازحًا :
_ يلا ربنا يرحمهم بقى بما إنك ناويت عليهم
***
بعد مرور ثلاث أيام ………
خرجت رفيف من غرفتها عندما رأت مجيء أخيها من الشرفة .. حسمت قرارها وستخبر أخيها عنه ! .
وقفت على آخر الدرج تنظر لهم كانوا يتبادلون الأحدايث بمرح كُل من الجدة وهدى وزين ! ، تحركت بخطواتها تجاههم ورحبت بأخيها ثم جلست على أحد المقاعد تنضم لهم .. تأخذ نفسًا عميقًا قبل أن تبدأ في حديث الذي كان كالآتي :
_ زين أنا صليت استخارة الحمدلله وفكرت كويس و…..
توقفت عن الكلام ودارت بنظرها بينهم جميعًا فرأت علامات الاستفهام تعلو محياهم ، تحدث زين بصلابة :
_ وموافقة ولا لا ؟!
لاحت على ثغرها ابتسامة مستحية وهي توميء له بالإيجاب متمتمة :
_ موافقة
ثبت زين نظره عليها وهو يبتسم بطريقة عجيبة وكأنه كان يعرف بأنها ستوافق ، أما أمها فعانقتها مغمغمة بفرحة بالغة :
_ مبرووك ياحبيبتي
تحدثت الجدة ضاحكة :
_ البيت هيفضل علينا بس ياهدى قريب
مسكت هدى بكف الجدة وهي تقول مازحة :
_ وماله أهو هنسلى بعض ياماما .. دول حتى كانوا دايمًا معلين الضغط عليا
انفجر كل من رفيف وزين ضاحكين .. وهمست رفيف محدثة أخيها مستنكرة ما قالته أمها :
_ شايف بتكذب عيني عيني قدامنا .. امال مين يادودو اللي أول مامشيوا ولادك فضلت تعيط وتقول البيت فضى علينا واخواتك هيوحشوني
نكزتها هدى في كتفها ومالت عليها تهمس بمرح ومشاكسة :
_ بناكل عيش قدام جدتك يابت
ازداد ضحكها وهي تقول ضاحكة :
_ آه بتثبتي تيتا يعني
شاركتهم الجدة في الضحك وقالت بحدة مزيفة :
_ محدش له دعوة ببنتي تقول اللي هي عايزاه .. يلا قومي روحي شوفيلك حاجة تعمليها وإنت كمان قوم روح لمراتك خليني اكمل كلامي مع امكم
زين بضحك بسيط :
_ تسلمي ياست الكل على الطرد المحترم ده
تبادلوا الضحك جميعهم في جلسة عائلية لطيفة دامت للدقائق قصيرة .. مابين المرح والجدية والضيق على أمور أخرى ! …….
***
داخل شركة طاهر العمايري بأمريكا …….
كانت تجلس على مقعدها أمام المكتب وتتابع أعمالها فسمعت صوت طرق الباب لتهتف سامحة للطارق بالدخول .. فتح راسل الباب ودخل ثم اغلقه خلفه واقترب منها ليجلس على المقعد المقابل لها متمتمًا :
_ عاملة إيه يايسر ؟
رفعت نظرها له وقالت بعذوبة وابتسامة عريضة :
_ إيه يا راجل عاش من شافك .. ليك تلات أيام مش بتاجي !! ، إيه اللي حصل ؟
هتف بصوت مختنق :
_ كنت مخنوق شوية ومحتاج اقعد وحدي ، فاخدت اجازة كام يوم .. قوليلي إيه اخبار الشغل في غيابي ؟
يسر بتلقائية تمامًا :
_ زي الفل كل تمام وحسن كمان موجود وكان بيساعد معايا كتير
عبس وجهه أكثر عند سماعه لاسم ” حسن ” فغمغم بنبرة شبه ساخرة ومنزعجة :
_ إيه إنتي خلاص قررتي هترجعيله بعد كل اللي عمله ؟!
تنهدت الصعداء بيأس وهدرت بعدم حيلة :
_ حاولت ياراسل اتجاهل صوت قلبي بس مقدرتش .. وحاسة بجد إنه ندمان وعايز يصلح اللي حصل بينا ، والصراحة أنا أول مرة في حياتي اشوف حسن بالمنظر ده ، وده خلاني اصدق أنه اتغير فعلًا
اخفي ابتسامة مريرة ودت بالخروج على شفتيه وهتف بنبرة قوية :
_ قولتي ليه إنك لسا حامل ولا لسا ؟
هزت رأسها بالنفي في ضيق وخرج صوتها نادمًا :
_ لا ، بس أكيد هقوله .. هو فكرة إني على اخبي الكل دي كانت غلط من البداية ، لأن مهما حاولت اخبي في الآخر برضوا الموضوع هيتكشف ، وأنا حاليًا بفكر إزاي هقول لباب وماما وعلاء والكل إني مسقطتش زي ما هما فاهمين
_ قوليلهم وأنا واثق إن عمي وخالتي هيفهموا وضعك حتى لو اضايقوا منك بس هيفهموا بعدين .. بس الأهم إنك تكوني متأكدة من قرارك عشان متندميش للمرة التانية بعدين !
يسر بثقة تامة وابتسامة خافتة :
_ اطمن المرة دي مختلفة معتقدش إني هندم .. أنا حساك مضايق ؟!!
بالطبع منزعج .. ولكن كيف يخبرها بأنه معجب بها بشدة وكان يود عدم تراجعها في قرارها وأن تتم احراءت طلاقهم تمامًا لتحين هو فرصته ويعرض عليها الزواج !! .
راسل بسخط :
_ لازم اضايق يايسر أنا من وقت ما قولتيلي وأنا حايش نفسي عنه بالعافية ، رغم إن إنتي اللي غلطانة من البداية ومكنش ينفع توافقي تتجوزيه أصلًا وخايف عليكي دلوقتي منه أنه يكسرك تاني ، بس طالما إنتي متأكدة من قرارك خلاص
حدجته بأعين دافئة ومحبة لتهتف بمشاعر نقية :
_ متقلقش عليا وحسن مش وحش بالمنظر اللي إنت متخيله بيه ده .. هو يمكن حيوان وغبي وحجات كتير جدًا بس صدقني هو من جواه كويس أوي وأنا واثقة من ده .. عرفت بقى ليه إنا ليه مكنتش عايزة احكيلك عشان كدا بس إنت اللي اصريت لما بدأت تشك في الموضوع ، بس حقيقي ياراسل أنا مش عارفة اشكرك إزاي على وقفتك معايا ربنا يعلم إني بعزك وبحبك زي علاء بظبط ، ربنا يخليك ليا
تجاهل آخر جملها حتى لا ينزعج أكثر وتمتم بنبرة جادة :
_ طيب أنا بكرا نازل مصر هاخد فترة هناك وهقف مع عمي طاهر في الشركة لأنه محتاجني هو وعلاء
يسر بابتسامة صافية وناعمة :
_ توصل بالسلامة يارب
_ أمين .. أنا همشي بقى عشان في كام حاجة ورايا عايز اخلصها
هزت رأسها بالموافقة له وهي لا زالت تحتفظ بابتسامتها اللطيفة ، فوقف هو وسار باتجاه الباب ولكن قبل أن يخرج فتح حسن الباب وتسمر بأرضه فاخذت معالم وجهه معالم صارمة ومشتعلة وهو يتطلع به ، أما راسل فقد اقترب منه وانحنى على أذنه يهتف بوعيد حقيقي :
_ احمد ربك إنها ادتك فرصة وإنت متستهلهاش أساسًا ، بس أعمل حسابك إنك لو عملتلها أي حاجة أو جرحتها هتلاقيني أنا في وشك ياحسن
رمقه حسن بأعين نارية ومميتة لا تبشر بالخير مطلقًا ، لاحظت يسر ذلك وخشت من أن يقع شجار بينهم فهرولت باتجاه زوجها الذي كور قبضة يده بعنف ووضعت كفها الرقيق على يده كوسيلة لتهدئته واعطت لراسل ابتسامة واسعة تودعه بها عندما القى نظرة أخيرة عليها قبل أن ينصرف .
نظر حسن على يدها الممسكة بكفه بعد رحيله فنزعتها فورًا وانتصبت في وقفتها ، خرج صوته الرجولي الغليظ وهو يهتف بغضب :
_ بيقول إيه ده ؟!!
يسر بنبرة شبه عادية :
_ ولا حاجة ما أنت عارف إن راسل مش بيحبك
صاح منفعلًا :
_ عرف إزاي باللي حصل بينا يايسر !!!!
لم يخيفها صياحه مطلقًا بل ازعجها حيث قالت بكل ثبات :
_ أنا حكيتله
_ نعم !!! ، ازاي يعني حكتيله ؟!!!
يسر ببرود تام وعدم مبالاة باستياءه :
_ حكيلته ياحسن .. هو شك وأصر إني اقوله فحكيتله وراسل أنا بثق فيه وعمره ماهيتكلم ولا هيقول حاجة ، بعدين إنت مضايق ليه فيها يعني لما اقوله
حسن بصياح جهوري :
_ فيها كتييير ياهانم بصفته إيه ده عشان تحكيله على مشاكلنا واسرارنا
طفح كيلها فانفعلت هي الأخرى وصرخت به بعصبية :
_ متزعقليش فاهم ولا لا
ثم اندفعت إلى خارج الغرفة تمامًا وتركته يشتعل من الغيظ !!! ……
***
عبرت سيارته بوابة المنزل وكان يتحدث في الهاتف مبتسمًا بتشفي :
_ أيوة هو ده الشغل .. تعجبني كدا ياسامح ، تعالى بكرا في الشركة عشان نتكلم على راحتنا اكتر
سامح ضاحكًا بشيطانية :
_ ده مش بعيد تجيله سكتة قلبية لما يعرف اننا اخدنا منه الصفقة دي
كرم بنبرة تحمل الوعيد :
_ عشان يعرف أن كرم العمايري ميتلعبش بالنار معاه
_ نتقابل بكرا بقى يادنجوان ، سلام
انهى معه الاتصال وأوقف السيارة بمكانها المخصص في الحديق ونزل منها وعلى ثغره لا تزال ابتسامة ماكرة تزين ملامحه ، تمتم لنفسه متوعدًا بنارية ” هو لسا شاف حاجة مني !! ” .
قاد خطواته باتجاه الباب ثم وضع المفتاح في القفل وفتحه ليدخل ويغلقه خلفه ، لم يكن بالمنزل سوى صوت التلفاز فسار ناحية غرفته وصاح مناديًا عليها عندما لما يجدها :
_ شفق إنتي فين ؟
احس بكفيها على كتفه من الخلف .. فالتفت بجسده كاملًا لها ، وأمعن النظر بها بتدقيق .. ترتدي بلوزة بحمالات من اللون الاسود واسفلها بنطال قصير من نفس اللون وتركت العنان لشعرها الأسود الحريري ، هو لا يزال عند رأيه بأنها تملك جسد أنوثي صارخ يجعله لا يتمكن من مقاومتها .. ارتفعت على شفتيه ابتسامة خبيثة وهو يتطلع إليها بجراءة ، وجدها تلف كلتا ذراعيها حول رقبته وتقف بمياعة مع نبرة صوت بها غنج أنوثي ودلال مغري :
_ عايزة طلب صغنن أوي من الكوكو بتاعي
ضحك بخفة وأجابها بمداعبة :
_ أه طاب ما تقولي كدا من الأول ولا هو لازم الدخلة دي
انزلت يد من حول رقبته وجعلت تعبث باناملها في قميصه وتهمس برقة مثيرة :
_ أنا زهقانة وعايزة اخرج النهردا ومتقوليش معاك شغل لأن الشغل مش أهم مني صح
انحنى برأسه ناحيتها يخطف قبلة ناعمة من جانب ثغرها متمتمًا بحب :
_ مفيش حاجة أهم منك بالنسبالي ياحبيبتي ، ومقدرش ارفضلك طلب أساسًا ، هاخدك ونطلع بليل إن شاء الله بس بعدين هنروح عند ماما عشان كلمتني وقالتلي نروح نقعد يومين معاهم
وثبت بفرحة غامرة وعانقته بحميمية ثم قبلته من وجنته هاتفة بسعادة طفولية :
_ ربنا يخليكي ليا ياكوكو وميحرمنيش منك ولا من حنيتك عليا
اشار إلى وجنته الأخرى هامسًا بلؤم :
_ وحدة هنا كمان
فعلت بدون تفكير وطبعت قبلة قوية وعاطفية فضحك هو وأخذ حصته حيث قبلها من جبهتها بحنو ثم ابتعد عنها واتجه للحمام ……….
***
تابعها من داخل السيارة وهي تسير ناحيته ، كانت غائصة في الملابس الفضفاضة والمحتشمة التي اختارها هو بنفسه ، الآن هو لا ينكر أنها اعجبته بشدة في مظهرها الجديد هذا ! .
وصلت إليه واستقلت بجواره وهي تلوى فمها باقتضاب ، تجاهل قسماتها الغريبة وقال بهدوء ورفق :
_ إيه أخبار أول يوم ؟
ميار بسخرية ونبرة محتقنة :
_ فظيع بشكل مش قادرة اوصفلك كنت مبسوطة إزاي .. هو مش باين عليا ولا إيه ؟!
تمالك نفسه بصعوبة وأجابها بضحكة مكتومة :
_ لا باين الصراحة !
تشدقت بضجر حقيقي :
_ مفيش حاجة تضحك إنت جبتني الكلية بالغصب وأنا قولتلك إني مش عايزة اروحها
تجاهل كل ما قالته وتصرف ببرود وكأنه لم يسمع شيء ولم يلاحظ سخطها ، انطلق بالسيارة ورمقها بطرف عينه هامسًا بابتسامة خفية :
_ شكلك حلو على فكرة في الهدوم دي
هدأت قسمات وجهها المتقوسة بغضب لتأخذ معالم الدهشة والحياء بنفس اللحظة وتشيح بوجهها للجانب الآخر لتخفي توترها .. فلاحظ ارتباكها وابتسم بخفة ثم هتف بنبرة دافئة :
_ تحبي نروح نتغدى برا النهردا
_ نتغدى برا !!! .. وإيه المناسبة ؟!
علاء ضاحكًا :
_ وهو لازم يكون في مناسبة ياميار ، أنا حابب نطلع مع بعض
ضيقت عيناها باستغراب منه ، بل واصابها الذهول من آخر كلماته الجديدة تمامًا !! ، هل هو من يرغب في البقاء معها على انفراد وفي وجبة غذاء منفردة في أحد المطاعم !!! .
***
مع غروب شمس ذلك اليوم وارتفاع ضوء القمر في السماء ، كانت تجلس بشرفة غرفتها وتلف حول ذراعيها شالًا من الصوف يدفئها من البرد القارص ، تتأمل النجوم الساهرة بابتسامة خفية ونفس مطمئنة ومستكينة .. وكف يدها على بطنها تتحسسها بلطف ، تفكر لتتخذ القرار المناسب وتختار الوقت واليوم الذي ستخبره فيه بأمر الطفل وأنها لازالت تحتفظ به ، فليس هناك طريق آخر للكذب مجددًا ، وستضطر قريبًا بأخبار عائلتها بكل شيء ولكن يجب أن يكونوا مستعدين جيدًا لردة فعل أخيها وأبيها لكي يواجهوا الوضع بصمود وثبات ! .
سمعت صوت رنين الباب فتنهدت بعمق ووقفت حتى تذهب وتفتح له ، فتحت الباب ورمقته بنظرات ممتعضة تدل على انزعاجها منه بسبب شجارهم بالصباح ، لم يكن هو بحاجة لشرح هذا حيث فسر تعابير وجهها وعرف السبب فدخل واغلق الباب خلفه ، استدارت وسارت عائدة إلى غرفتها فلحق بها بخطوات عادية حتى وصل خلفها إلى الشرفة واستندت هي بمرفقيها على السور فوقف بجوارها وتأمل السماء كذلك ، جعلت تنظر له بريبة وتتساءل في قرارة نفسها ” إذا لم يأتي ليعتذر مني عن طريقته القاسية معي بالصباح ، فلماذا جاء إذًا ؟!! ” قرأ معالم
وجهها المتعجبة فابتسم واعتدل في وقفته ليصبح مواجهًا لها ويقول مبتسمًا بحنو :
_ أنا فعلًا جاي اعتذر بس مش بالكلام
_ امال بإيه ؟!
قالتها بابتسامة متغطرسة ليمسك بكفها ويجذبها معه للداخل هامسًا :
_ يلا ندخل الأول بس جوا عشان الجو برد وهقولك
سارت معه والفضول يأكلها لمعرفة كيف سيعتذر لها ، تابعته وهو يغلق باب الشرفة ويقترب منها ليقف أمامها مباشرة ثم يمد كفه في جيب بنطاله ويخرج علبة مستطيلة حمراء ويفتحها أمامها ، حدقت بالعقد الذي قام بشرائه في ذهول .. فهو نفسه العقد الذي رأته عندما خرجا معًا لشراء الملابس وقالت له أنها كان لديها واحد يشبهه تبقت لها ذكرى من جدها ولكنها فقدته .
علت الابتسامة الرائعة والجميلة إلى شفتيها تدريجيًا ثم مدت كفها ببطء والتقطته ، تارة تنظر له بإشراقة وجهها الساحرة وتارة تنظر للعقد ، فرأته يمد كفه له يطلب أن تعطيه العقد .. فعلت على الفور دون تردد والتف هو ليقف خلفها فتمد يدها وتأتي بخصلات شعرها على الجانب حتى يتمكن من لفه حول رقبتها ، لحظات عابرة وكان قد عقده حول رقبتها ثم أعاد هو بيديه خصلات شعرها إلى وضعهم الطبيعي على ظهرها واقترب منها أكثر ثم انحنى بوجهه على شعرها يشم رائحته التي اذابت باسواره . اغمضت عيناها تستلذ بانفاسها الدافئة التي تلفحها وتُشعرها بالطمأنينة والراحة ، سمعته يهمس بنبرة هائمة وابتسامة مغرمة لمستها في صوته :
_ تعرفي إني بحب ريحة شعرك جدًا ، هتجن وأعرف بتحطي فيه إيه !!
ضحكت بصوت مسموع والتفتت بجسدها كاملًا له وهتفت بمداعبة :
_ لا دي أسرار بنات مينفعش تطلع لجنس الذكور
هتف بضحكة مستنكرة :
_ لا والله .. ماشي ما علينا أي كان اللي بتعمليه فيه استمري لأنه بيني وبينك ريحة شعرك بتجنني وو …..
قاطعته بابتسامة ونظرة مصتنعة الحدة عندما ادركت بأنه سيبدأ في وقاحته المعتادة :
_ ميرسي ياحسن على السلسلة !
_ حسن حاف كدا .. مفيش حبيبي !!!
وقفت بغنج واقتربت منه تهمس بدلال انوثي :
_ ميرسى ياسُنسُن
اجابها بقرف :
_ إيه سُنسُن دي !!!!
اكملت بدلال أكثر :
_ خلاص حسونتي حلو كدا
انحنى عليها بوجهه وهو يغمز بلؤم ويهمس بنظرات ذات مغزى :
_ إنت كلك على بعضك حلو أصلًا ياحلو ، ماتجيبي بوسة !
فغرت عيناها بصدمة وتلونت بحمرة الخجل مع ابتسامتها المستحية التي انطلقت على شفتيها ثم ضربته على كتفه بخفة وهتفت بضجر مزيف امتزج بحيائها :
_ وقح .. ومش بتفكر غير في الحجات دي !
ثم تركته واندفعت لخارج الغرفة فرفع كفيه مستغربًا وهو يهتف بصوت عالى حتى تسمعه :
_ وهو أنا المفروض افكر في إيه يعني مع مراتي ؟!!
اصدرت ضحكة مرتفعة وصلت لأذانه وهي تجيبه من الخارج :
_ متفكرش خالص ياحسن .. صدقني كدا أفضل !
شاركها الضحك من مكانه ثم لحق بها للخارج ليكملوا أحاديثهم المرحة والغرامية !! ………..
***
توقف بالسيارة عند تل جبلي كبير بأحد الأماكن التي تعد صحراء ، تلفتت حولها باستغراب وسألته :
_ إيه المكان ده ؟! .. وليه جيت بينا هنا ياكرم ؟!!
كرم ببساطة وابتسامة دافئة :
_ عشان نتكلم شوية مع بعض على رواق قبل ما نروح عند ماما
أماءت بتفهم ثم اعتدلت في جلستها لتصبح مواجهة له وتقول بمشاكسة محببة لقلبه :
_ وياترى بقى الكوكو بتاعي عايزانا نتكلم في إيه ؟!
تنهد بعمق ثم أجابها بنبرة جادة :
_ حجات كتير ياشفق يعني أنا حاسس إننا منعرفش حجات كتير عن بعض ، عايزاك تحكيلي كل حاجة وأنا كمان احكيلك .. مش عارف بس حسيت إني محتاج استفرد بيكي في مكان زي كدا ونتكلم براحتنا في الحلو والوحش
سكتت لبرهة من الوقت تفكر في موضوع تبدأ به الحديث ثم هتفت بخفوت :
_ طيب أنا كان في حاجة كدا كنت حابة اسألك عنها من وقت جوازنا
اعتدل في جلسته أكثر واصبح مواجهًا لها ينتظر منها أن تسأل ، لتأخذ هي نفسًا عميقًا وتسأله بنظرات بائسة :
_ إنت لما قررت تتجوزني كانت رغبتك إنت فعلًا وعشان عايز تحميني زي ماقولت وإني أكون قدام عينك علطول ولا السبب كان حاجة تاني
اتخذت ملامحه التعجب من سؤالها ، ليبتسم كنوع من تلطيف الجو ويهمس :
_ وهي هتفرق في إيه كانت رغبتي أو لا مش الأهم دلوقتي أنا إيه !
شفق بنبرة خافتة ومصرة :
_ مش هتفرق بس أنا حابة أعرف
تنهد الصعداء بعدم حيلة وتحدث في نبرة شبه جادة ولكن بأعين تطلق شرارات العشق :
_ الحقيقة لا .. مش هقول إني اُجبرت لإن الإجبار بيبقى على حد إنت مش طايقه ، لكن أنا دايمًا كنت بعزك وبحبك ، اللي اقترح فكرة الجواز دي ماما وأنا رفضت في البداية بس هي فضلت ورايا عشان تخليني اوافق وبقت تعمل تصرفات أنا بستغرب منها ولما ودتك تقعدي في بيتنا القديم كانت حركة منها عشان تخليني اقلق واخاف عليكي واعرف إن عندها حق وإنك لازم تكوني معايا دايمًا وهي فهمتك إني سافرت بس أنا كنت قالب الدنيا عليكي وهتجن بسبب إني مش عارف روحتي فين .. في النهاية شكيت إنها ممكن تكون تعرف مكانك فروحتلها ورفضت تقولي مكانك إلا لما قولتلها إني موافق اتجوزك و………
قاطعته بسؤالها المبحوح وعيناها التي تلمع بالدموع :
_ مكنتش عايزني ليه ؟!!
لاحظ عيناها الدامعة فلعن نفسه الحمقاء التي سردت لها تفاصيل من المفترض أن لا تقال .. مد اناملها وملس على وجنتها بحنو ثم رفع كفها لشفتيه وقبَّل ظاهره برقة هامسًا بحب :
_ مين قال إني مكنتش عايزك ياحبيبتي .. أنا السبب الوحيد اللي خلاني رفضت في البداية إني خوفت اظلمك معايا وأنا وقتها كنت لسا متعلق بأروى جدًا ، فمكنتش حابب اخليكي تعيشي مع واحد ممكن ميقدرش يحبك ، بس الحقيقة إنك قدرتي بكل سهولة تاخدي قلبي وتعلقيني بيكي يمكن اكتر منها كمان
اشاحت بوجهها للجانب الآخر وفرت دمعة من عيناها ليخرج همسها الحزين وهي تجيبه :
_ لو كنت اعرف إن الموضوع كدا مكنتش هوافق ، أنا توقعت إن دي رغبتك أنت مش حد اجبرك عليا .. ولا هتفرق في إيه أصلًا صح سواء كانت رغبتك أو رغبة مامتك في كلتا الحالتين إنت اجبرت بينك وبين نفسك عليا
_هو لو ده معناه إجبار بنسبالك فهو بنسبالي أحلى إجبار في حياتي ، ولو رجع بيا الزمن تاني كنت هختارك برضوا
عادت بوجهها إليه ورمقته بأعين دامعة امتزجت بالغرام ليبتسم لها بعشق جارف ويقترب منها بوجهه يطبع قبلة طويلة على جانب ثغرها متمتمًا بتغزل ومرح :
_ حتى وإنتي بتبكي حلوة يا أميرتي ، مع إني مش فاهم إيه سبب العياط يعني إنتي زعلانة على إن واحد حمار ومتخلف كان عايز يضيع من إيده فرصة مش هتجيله تاني ، ده حتى أنا هروح ابوس إيد ماما وأقولها ربنا يخليكي ليا ياست الكل ودايما كدا تجبريني على الجوازات الحلوة
رمقته بنظرة مشتعلة وهتفت بغضب :
_ نعم !!!!
قهقه بقوة وانتقل للوجنة الأخرى يقبلها منها ويهدر من بين ضحكه بلؤم :
_ وهو برضوا في واحدة تقدر تملي عيني غير أميرتي وحبيبتي
منعت ابتسامته من الظهور بصعوبة وهي تبتعد بنظرها عنه في شيء من الشموخ ليعود هو لجلسته الطبيعية ويهتف ضاحكًا :
_ طيب أنا بقول نمشي احسن لإني شكلي اخطأت في موضوع إننا تتكلم لأنه قلب نكد من أول موضوع للأسف
_ يعني أنا نكدية ياكرم ؟!!
نظر لها وهتف بجدية مزيفة ونظرات بدت له حادة قليلًا في البداية وسرعان ما تحولت إلى مرحة في آخر الكلام :
_ أيوة نكدية ياشفق أنا هكدب عليكي يعني .. من ناحية النكد فإنتي مش بتضيعي فرصة عشان تعيطي ، بس برضوا بحبك والله وبحب نكدك وخلتيني احب النكد .. تخيلي كدا !! ، تعرفي إني كنت قلقان عليكي الفترة اللي فاتت اكمنك مكنتيش بتنكدي عليا بس دلوقتي أنا الحمدلله اطمنت عليكي وإن مراتي لسا بخير
تشدقت بنبرة لينة بعض الشيء لكنها متضايقة :
_ وإنت شايف إن اللي قولته ميضايقش يعني
كرم بنبرة رزينة ودافئة :
_ على قد ما أنا شايف إن يضايق طبعًا بس في نفس الوقت ميستهلش لأن خلاص ده ماضي ودلوقتي أنا مقدرش ابعد عنك للحظة واحدة وبحبك فوق ما تتصوري فليه نبص للماضي ونزعل نفسنا عليه خلينا في الحاضر والمستقبل اللي إن شاء هيكون كله نسخ مصغرة .. هااا فاكرة ؟
قال آخر جمله بابتسامة خبيثة مع غمزة وقحة من عيناه فتضربه هي بخفة على كتفه مبتسمة باستحياء :
_ بطل قلة أدب
_ ده أنا كدا محترم اصبري بس لما نروح البيت عند ماما واستفرد بيكي في الأوضة لوحدنا هتشوفي قلة الأدب على حق وهــ…..
احمرت خجلًا وهتفت بضحكة مرتبكة تمعنه عن استرسال كلامه :
_ كـــرم ، كفاية خلاص
كتم ضحكته بصعوبة وحرك محرك السيارة لينطلق بها متجهًا إلى منزل والده ، وهي بقت تنظر له بين الحين والآخر وتبتسم .. بقدر ما ازعجتها الحقيقة إلا أنها فرحت لأنه لم يخفي عليها واخبرها بها كاملة ، ربما هو لديه الحق في أن الماضي يجب أن يدفن مع الماضي ولا نعكر صفو حاضرنا به ؛ حتى لا نكون قد خسرنا الماضي والحاضر والمستقبل !! ….
***
انتهت من تسريح شعرها أمام المرآة وكانت تلقي عليه نظرة دقيقة بين الحين والآخر ، حتى استقامت واقتربت لتجلس بجواره على الفراش هامسة برقة :
_ زينو
كان يثبت نظره على حاسوبه الذي ينهي عليه بعض الأعمال ، فأجابها بنبرة عادية :
_ نعم ياحيبيتي
التصقت به وغمغمت في ابتسامة عريضة :
_ أنا حجزت عند الدكتورة والمعاد بكرا الصبح .. هتروح معايا أكيد مش كدا ؟
ترك مابيده وهو يزفر مغلوب على أمره ويقول بوجه مقتضب :
_ برضوا عملتي اللي في دماغك يعني !!
باتت لا تفهم سبب رفضه لوجود طفل ، بل وبدأت تنزعج حقًا وتغضب من طريقته وعدم اهتمامه وكأنه لا يريد على عكسها !! .
ابتعدت عنه قليلًا وهتفت بضجر بالغ :
_ زين إنت مش عايز تجيب مني أطفال ولا إيه ؟!!!
عقد حاجبيه بدهشة من تفكيرها العجيب وهتف شبه مستنكرًا ما قالته :
_ إيه اللي بتقوليه ده !! .. أكيد عايز يكون عندنا أطفال ياملاذ
_ امال فيه كل ما افاتحك في موضوع الدكتورة تقلب وتتعصب ، إنت إيه اللي مضايقك مش فاهمة ؟!!
التقط كفها وملس عليه بكفه الآخر في حنو متمتمًا وهو يثبت نظره في عيناها ويرمقها بأعين عاطفية :
_ حبيبتي أنا بس مش عايز نستعجل وبراحتنا وقت ما ربنا يريد هيجي الطفل .. ثم إني لسا مشبعتش منك ولما ياجي البيه هياخدك مني فخلينا نستمتع شوية قبل ما يشرف
جذبت يدها من بين كفيه ووثبت واقفة تهتف بانزعاج تام وشك ملحوظ :
_ دي حجة عشان تلهيني عن حاجة إنت مخبيها عني .. أنا حاسة إنك فيه حاجة مش طبيعية ليك فترة ومش عايز تتكلم ولا تحكيلي ، وده شيء بيعصبني اكتر يازين إنك شايل في نفسك ومش عايز تشاركني ، والله اعلم بقى إيه السبب الحقيقى اللي مخليك رافض نجيب أطفال دلوقتي .. بس مسيري هعرف متقلقش
ثم استدارت واندفعت لخارج الغرفة تمامًا وتركته يمسح على وجهه وهو يتأفف مستغفرًا ربه ، ضميره يقتله بكل لحظة وكل ثانية أنه يخفي عنها الحقيقة ولكنه لم يملك الشجاعة بعد ليحكي لها كل شيء دون خوف من ردة فعلها !! ………
***
اشاحت بنظرها عن تأمل الطريق وثبتته عليه تهتف بعدم فهم :
_ هو إنت مكنش معاك شغل النهردا ولا إيه ؟!
علاء بصوت هاديء :
_ كان معايا طبعًا
_ امال إزاي اخدت اليوم كله معايا برا وسبت شغلك .. إنت قولت هنتغدى فتوقعت اننا هنتغدى برا ونرجع البيت
رمقها بنظرة حانية وتمتم :
_ حبيت اخرجك ياميار ولا إنتي مضايقة ؟!!
هزت رأسها بالنفي وتمتمت بنبرة ممتنة :
_ لا مش مضايقة بالعكس كانت خروجة حلوة أوي .. شكرًا
قطع حديثهم رنين هاتفه ، نظر لشاشته وقرأ اسم المتصل الذي كان والدته ، اصدر تنهيدة حارة ورفعه لاذنه يجيب عليها :
_ أيوة ياماما
_ إنت فين ياعلاء وحتى الهانم ميار مجاتش لغاية دلوقتي من الكلية
علاء بصوت صلب :
_ ميار معايا ياماما .. متستنناش إنتي وبابا على العشا احنا مش جايين النهردا البيت
ضحكت الأم باستهزاء وهتفت بعد تصديق :
_ ياسلام مش جايين !! .. امال هتروحو فين بقى ؟!
زفر الهواء من فمه بخنق وأجابها بإيجاز حتى ينهي الحديث ولا يدخل في جدال معها :
_ أنا هقفل ياماما عشان سايق ومش عارف اركز في الطريق
انزل الهاتف وضغط على زر الأنهاء والقي نظرة على ميار التي كانت تتطلع إليه بذهول واستغراب وبعد ثواني قليلة هتفت بحيرة :
_ احنا رايحين فين ياعلاء ؟!
بكل هدوء أعصاب أجابها :
_ هنروح ناخد الليلة في فندق
_ نــعـــم .. وده ليه بقى إن شاء الله ؟!!
أكمل بنفس البرود المستفز :
_ كدا طلبت معايا إني اروح اقعد في فندق النهردا
هتفت مندفعة ببعض الضجر منه :
_ طيب وأنا مالي بيك ماتروح حد منعك .. تاخدني معاك ليه ؟ ، أنا مش عايزة اروح معاك ياخي هو غصب
_ المكان اللي أنا موجود فيه يبقى إنتي لازم تكوني موجودة فيه معايا
ميار بنفاذ صبر وعصبية :
_ آه ده زي ما بيقولوا المكان اللي يكون فيه جوزك تكوني إنتي فيه برضوا
نظر لها وهمس بابتسامة سمجة مثيرة للأعصاب :
_ بظبط هو ده
تأففت بصوت مسموع وهي تتمتم بكلمات غير مفهومة تدل على غيظها الشديد منه ، استمر هو في القيادة ومن آن لآن يلقي عليها نظرة ويبتسم كلما يراها تشتعل بنيران الغيظ .
وصلا أخيرًا أمام أحد الفنادق الفخمة والمعروفة ، ترجلت من السيارة أولًا ومن ثم هو ليقود خطواته إلى الداخل وتلحق هي به ، حتى وقفا أمام الأستقبال فرحب به موظف الاستقبال ترحيبًا حارًا وهو يهتف :
_ أهلًا وسهلًا ياعلاء بيه نورتنا
ابتسم له علاء بعذوبة لينظر الموظف إلى ميار ومن ثم يتمتم علاء بنبرة جادة :
_ عايز أوضة لليلة وحدة
هتفت ميار باستياء وهي تحدث الموظف :
_ اوضتين
رمقها علاء بنظرة صارمة وحادة لتصمت فورًا وهي تلوي فمها باقتضاب فيعود بنظره للموظف وكأنه يؤكد عليه كلامه الذي قاله فقام بحجز غرفة واحدة لهم لليلة واحدة فقط واعطاه الكارت .
سارا معًا باتجاه المصعد فيهتف علاء بصوت غليظ وساخط :
_ اللي حصل ده ميتكررش تاني ياميار فاهمة ولا لا
هدرت بعناد وتحدى :
_ لا هيتكرر أنا مش عايزة اقعد معاك مش كفاية جايبني غصب
ارتفعت نبرة صوته قليلًا وهو يجيبها بانفعال :
_ راجل وجاي مع مراته المفروض إنه يقعد في أوضة وهي في أوضة مثلًا ، ثم إن في إيه مالك إنتي ليكي كام يوم بتتصرفي بطريقة مش عجباني وأنا بدأت اتعصب الصراحة ، لما نطلع الأوضة فوق هتفهميني كل حاجة مفهوووم
هتفت بعدم اكتراث ونظرة متقرفة :
_ أنا مش قادرة اتكلم النهردا تعبانة وعايزة انام
حدجها بنظرة مستاءة وهو يجاهد في تمالك نفسه ، ثم فُتح باب المصعد واستقلوا به ليرتفع بهم إلى الطابق السادس حيث توجد غرفتهم !! ……..
***
مع صباح اليوم التالي ………
ينتظر الإجابة منذ ثلاث أيام .. الصوت الذي بداخله لا يتوقف عن جملة ” لن توافق بك .. كفاك هراء ” وبنفس اللحظة هناك شعور يكاد يكون يقين يأتي إليه من العدم يخبره بأنها ستوافق ، لم يعد يعرف يستمع لأي منهم أو يترك كلاهما ويرى في النهاية أي منهم سيصّدُق .
وصل إسلام إلى مقر الشركة بعدما اتصل به زين واخبره بأنه يريد التحدث معه .. في البداية ظن بأن الحديث سيكون عن العملية والسفر ولكن حين دخل عليه المكتب واقترب منه ليعانقه ويرحب به ، كان زين يستقبله بابتسامة عريضة ربما تكون جديدة نوعًا ما مما اشعره بالأمل والسعادة بأنها قد تكون وافقت .
جلس على المقعد المقابل له وسأل إسلام بنظرات متلهفة :
_ الأنسة رفيف اخدت القرار ولا لسا
زين بابتسامة صافية :
_ أيوة ووافقت .. مبروك
اشرق وجهه في فرحة غامرة ، لا يصدق أنها وافقت وقريبًا ستكون له .. هتف بضحكة سعيدة ونبرة رجولية :
_ افهم من كدا إننا ناجي ونقرا فاتحة بقى إن شاء الله
_ تشرفوا في أي وقت
سكت للحظات قصيرة ثم هتفت وقد اختفت ابتسامته قليلًا وقال بنبرة هادئة :
_ طيب أنا حابب تكون قراية الفاتحة مع افتتاح المطعم وياريت يكون قبل ما نسافر للعملية يازين
تفهم سبب رغبته وأنه يخشى أن يحدث له شيء أثناء اجراء العملية ، فيريد أن يجد سبب ليتمسك به عند سفره ويقوي من أمله بالحياة .. فلم يتمكن من الرفض وقال بنبرة خافتة وابتسامة عذبة :
_ موافق يا إسلام .. هنخلي افتتاح المطعم عائلي بينا احنا بس وهنكون في انتظارك إنت وعمي فراج ومرات عمي
هتف إسلام بفرحة وامتنان :
_ مش عارف اشكرك إزاي يازين والله .. إنت مش متخيل فرحتي إزاي ، ربنا يتمم الموضوع على خير
_ آمين
***
كان كرم بمكتب عمله ينهي أعماله بتركيز شديد وإذا به يجد الباب ينفتح على مصراعيه بقوة ويظهر من خلفه ” كمال الحسيني ” ابتسم كرم بنظرة متشفية وتمتم في برود مستفز :
_ الشركة نورت ياكمال بيه والله ، مش كنت تقولي عشان نعملك اللازم
اندفع نحوه كمال وصاح بصوته الجهوري :
_ الصفقة اللي اخدتها مني بالنصب دي هدفعك تمنها غالي أوي يابن العمايري
كرم بكامل الهدوء والثبات والانفعالي :
_ تؤتؤتؤ مينفعش كدا ياكمال بيه .. بقى أنا استقبلك بكل احترام وإنت تقولي نصب ، هو أنا برضوا بتاع الكلام ده .. ثم إن ده شغل و business وإنت عارف business بقى يوم ليك ويوم عليك
رفع كمال سبابته في وجهه وهتف بلهجة تهديدة ونظرة نارية تحمل الوعيد الشرير :
_ مبقاش أنا كمال الحسيني أما ندمتك على اليوم اللي فكرت تتحداني فيه يا كرم .. وبنت اخويا هاخدها سواء بالذوق أو بالعافية
تجاهل آخر جملة قالها حتى لا يغار عليه ويبرحه ضربًا من الغضب واكتفى بنظراته القاتلة التي تعكس داخله الذي يلتهب بنيران السخط ، تابعه وهو يغادر المكتب بأكمله ليهمس في عصبية مكتومة :
_ شكلك مش هتجيبها لبر معايا
***
وضع حسن المفتاح في القفل وفتح الباب ثم دخل ونزع حذائه بجانب الباب ، سار إلى الداخل حيث غرفتها وهو يصيح مناديًا عليها :
_ يسر
سمع صوت رذاذ المياه في الحمام فعرف أنها تأخذ حمامًا صباحي ، جلس على الفراش بإرياحية ينتظر خروجها وإذا به يلمح ببنطال صغير جدًا اسفل الخزانة يبدو لطفل حديث الولادة ، عقد حاجبيه بريبة وتلفت برأسه ناحية الحمام ثم استقام واقترب من الخزانة لينحني على الأرض ويلتقط البنطال ويدقق النظر به في شك ، فتح باب الخزانة ليتفحص الملابس فوجد أن هناك الكثير من ملابس الأطفال حديثي الولادة ، تعشش الشك في أعماقه وأصبح شبه متأكدًا من أنها تخفي عنه شيء وبالتأكيد أنه هو مايدور في ذهنه الآن .
خرجت من الحمام وهي تلف المنشفة حول جسدها فشهقت بفزع عندما رأته وهتفت :
_ حسن !!!
التفت لها بكامل جسده ورفع البنطال أمام مستوى نظرها مغمغمًا بنبرة خشنة ومخيفة :
_ إيه ده يا يسر ؟!
نقلت نظرها بينه وبين البنطال وازدردت ريقها باضطراب ، فلقد وصلت كذبتها لنهاية الطريق ولا مفر من الحقيقة ! ………..
حسن بانفعال وغضب :
_ يسر أنا بسألك إيه ده ؟! .. ردي عليا
ابتسمت بمرارة وتمتمت بأسى :
_ فارق معاك ومهتم أوي إنك تعرف يعني !
القى بالبنطال على الفراش في عدم اهتمام وتحرك ناحيتها وهو يهمس بأعين منذهلة :
_ إنتي لسا حامل ؟!!!
اخذت نفسًا عميقًا وأماءت له برأسها فغضن حاجبيه بصدمة وهتف في خفوت وخزي واضح في عيناه :
_ ليه عملتي فيا كدا .. عملتي فينا كدا ليه ؟!!
صاحت بأعين تلمع بالعبارات المتجمعة فيهم :
_ مش دي كانت رغبتك وإنت مكنتش عايزاه
صرخ هو الآخر ولكن بصوت ينفض البدن وانفعال مرعب :
_ كنت ، وتراجعت وحاولت اوصلك عشان امنعك ومتنزلهوش ، اللي عملته كان في لحظة تهور مني وبعدين ادركت إن ده مهما كان هيفضل ابني ومقدرتش افرط فيه أو فيكي .. إنتي متعرفيش حاجة عن اللي كنت عايشه بسبب عذاب ضميري وندمي وأنا كنت فاكر إني خسرت ابني وخسرتك ، ازاي تخبي حاجة زي كدا عننا وعني بذات .. ده مش ابنك وحدك ده ابني كمان وأنا ابوه وليا حق أعرف ، كنتي هتفضلي مخبية لغاية إمتى مثلًا !!!
انسابت دموعها بغزارة على وجنتيها وابتسمت بمرارة ونظرات منكسرة مع همس مبحوح :
_ اممممم ابوه !! .. ابوه اللي في أول ليلة لينا حملني أنا الذنب وقالي إني استغليت الفرصة وكنت السبب في اللي حصل .. ابوه اللي أول ما عرف إني حامل اتجنن واهاني وذلني .. ابوه اللي مد ايده عليا عشان يخليني اروح انزله وقالي لو منزلتهوش أنا اللي هسقطك .. وفي الآخر ابوه جاي بيقولي أنا ليا حق اعرف بوجوده وإني تراجعت وندمت وعايز ابني
كانت كلماتها في الهدف تمامًا ، حيث اسكتته وابلعته لسانه فلم يجرؤ على التكلم بعد الحقيقة المؤلمة التي واجهته بها ، وهي أنه فعل معها مايستحق لكي تخفي عنه وجود طفله ، تقهقر للخلف وهو يثبت نظره عليها يطالعها بيأس وأسف ، توقف عند الباب والقى عليها نظرة أخيرة قبل أن يستدير بجسده وينصرف عن المنزل بأكمله وليس الغرفة فقط ! .. جلست على الفراش ودفنت وجهها بين ثنايا كفيها مجهشة في بكاء قوي !! ….
***
تململك في الفراش وهي مغمغضة عيناها ويغلب عليها النعاس ولكنها احست بيد على جسدها ففتحت عيناها فورًا واعتدلت في نومتها لتراه نائم بجوارها وذراعه يلتف حول خصرها ، ابتسمت وهي تتنهد الصعداء متذكرة ليلة أمس ! …..
خرجت من الحمام بعد أن بدلت ملابسها فوجدته متمدد على الفراش ويرفع الغطاء على نصف جسده ، فاقتربت ووقفت امامه متمتمة :
_ إنت هتنام على السرير جمبي ؟!
علاء بكامل الهدوء :
_ أمال هنام فين يعني .. إنتي شايفة في مكان تاني غير السرير ؟!
_ مهو أنا عشان كد قولت نحجز اوضتين أو اوضة بسريرين على الأقل بس واضح إن حضرتك اللي عايز ده
تقلب على جانب الايمين يولي الجزء الفارغ في الفراش ظهره وتمتم ببرود مثير للأعصاب :
_ تصبحي على خير ياميار
تأففت بصوت مسموع ونفاذ صبر ثم اقتربت من الفراش وتمددت على طرفه بعيدًا عنه تمامًا وهتفت بمضض :
_ ممكن تروح على آخر السرير
لم يبدي أي ردة فعل وامتثل لطلبه بصمت وهو يبتسم دون أن تراه ، لتأخذ راحتها أكثر بعدما افسح لترك مسافة كبيرة نسبيًا بينهم وشدت الغطاء على جسدها مغمضة عيناها لتذهب في ثبات عميق وهي الأخرى توليه ظهرها !! …
عادت لواقعها عندما احست بحركته وأنه على وشك الاستيقاظ ، اغلقت عيناها فورًا متصنعة النوم وماهي إلا ثواني قصيرة وفتح عيناه ثم رفع كفه يفرك عينه ويعتدل في نومته جالسًا ، التفت برأسه إليها يمعن النظر في معالم وجهها الهادئة ، ومد انامله ليبعد خصلات شعرها عن وجهها .. فاحس بغزة اجتاحت جسدها عندما لمسها ، رفع حاجبه باستنكار وابتسم بلؤم بعدما فهم أنها تتصنع النوم ، انحنى إليها بابتسامة شيطانية وخبيثة ثم طبع قبلة على وجنتها وانتظر أن يرى ردة فعلها ، لم يجد منها شيء سوى انفاسها التي تسارعت بعد أن كانت منتظمة ، اتسعت ابتسامته حتى أظهرت عن أسنانه ونزل بشفتيه إلى رقبتها فانتفضت وفتحت عيناها على أخرهم بصدمة هاتفة :
_ بتعمل إيه ؟!
ضحك بصوت مكتوم عندما فتحت عيناها وتراجع برأسه للخلف هامسًا وهو يغمز بمكر :
_ لا كنت بتأكد من حاجة بس .. قومي يلا عشان متتأخريش على كليتك
اعتدلت جالسة على الفراش وهتفت بارتباك ملحوظ :
_ معنديش محاضرات النهردا
أماء برأسه في إيجاب ثم نهض وسار ناحية الحمام ، ولكنه توقف عندما سمع صوتها الخافت وهي تهتف بنبرة متضايقة :
_ علاء ، ممكن متقربش مني تاني !
تسمر بأرضه كالصنم فلم يكن قط يتوقع منها رد كهذا ، التفت برأسه إليها وحدجها بنظرات كلها حيرة وعدم فهم ، فاشاحت بوجهها على الجانب الآخر تتفادى النظر إليه وماهي إلا لحظات ووجدته يجلس بجوارها ويهتف بصوت رجولي جاد ورزين :
_ ممكن إنتي اللي تفهميني في إيه بظبط معاكي !!! ، ليكي كام يوم بتتصرفي معايا بطريقة مش عجباني ، لو لسا مضايقة من موضوع الدكتور قوليلي !
عادت بوجهها إليه وثبتت نظرها على عيناه بصعوبة وبثبات مزيف هتفت :
_ أنا عايزة اطلق
_ احنا لينا اكتر من شهرين مع بعض ومطلبتيش الطلاق ده أبدًا إيه اللي اتغير دلوقتي ؟!
ميار بأعين دامعة وأسى :
_ بوفر عليك اللي هتعمله وأنا بطلب الطلاق أهو عشان تريح نفسك وتريح مرات عمي وتريحني أنا كمان
_ انتي سمعتي كلامنا أنا وماما ؟!!
اطالت النظر في عيناه بسكون ثم استقامت وهمت بالابتعاد فقبض على ذراعها وتمتم بدفء :
_ أنا غيرت رأي ياميار ومش عايز اطلقك
ضحكت باستهزاء وجذبت يدها بعنف مهمهمة بمرارة :
_ وياترى رأيك ده كان هيتغير ولا لا لو مكنتش روحت للدكتور واتأكدت إنت ونينا إني معملتش حاجة
الكلام كثير الذي سيبرر لها من خلاله أنها على خطأ بشأنه ، ولكنه لا يعرف بأيهم يبدأ هل بالتبرير أم الاعتذار أم الحقيقة وهي أنه يريدها وأنها بدأت بالفعل تؤثره .. بقى صامتًا يحدجها دون أن يتفوه بأي كلمة فوصلت لها الإجابة من صمته كما شكَّلها لها عقلها ، ورمقته بانفطار قلب قبل أن تتركه لتذهب للحمام !!! ….
***
انتهت من ارتداء ملابسها فمن المفترض أن تكون بعيادة الطبيبة بعد ساعة بالضبط على حسب موعدها معها .. خرجت من الغرفة وكان زين بانتظارها بالخارج وعندما رآها هب واقفًا فرمقته هي بنظرة منزعجة وغير مهتمة لتهتف بنبرة جافة بعض الشيء :
_ وصلني عند الدكتورة وروح شغلك عشان متتأخرش و…..
أجابها بكل هدوء وثبات :
_ ملاذ ! … أنا رايح معاكي عند الدكتورة يلا
_ على اساس مش موافق إني كنت اروحلها ووافقت مغصوب لما أنا اصريت .. هتروح معايا ليه دلوقتي ؟!
اقترب منها وانحنى يخطف قبلة سريعة من وجنتها متمتمًا :
_ حبيبتي أنا مش معترض بالعكس أنا نفسي في طفل ويمكن أكتر منك كمان ، بس أنا كنت حابب نعيش يومين حلوين لكن طالما إنتي مستعجلة أوي كدا وزعلانة أوي إني مكنتش محبز فكرة الدكتورة .. يبقى خلاص ياحياتي أنا مقدرش على زعلك أصلًا
اشرق وجهها بإبتسامة عاشقة تدل على صفائها الكامل تجاهه ونكزته في صدره بلطف ثم لفت كلتا ذراعيها حول رقبته ومالت عليه بغنج انوثي هامسة :
_ ربنا يخليك ليا يازينو .. بس برضوا لسا حاسة إنك فيك حاجة غريبة وهتحكيلي مالك وده اجباري مش اختياري
طبع قبلة رقيقة على جبهتها وابتسم بأعين منطفئة مغمغمًا بصوت رجولي غليظ :
_ هقولك متقلقيش .. مسيري هحكيلك أنا بس مستني أكون جاهز ووقتها أكيد هاجي وأقولك
_ يااا هي حاجة كبيرة للدرجة دي .. تخص الشغل ولا إيه ؟!
تنهد بأسى وخنق ثم زين وجهه ببشاشة مصتنعة وهتف :
_ يلا عشان منتأخرش على الدكتورة وعشان معايا شغل كمان في الشركة بعدين
لم تعقب كثيرًا على تجاهله لسؤالها وقررت أن تسير معه في الخط لنهايته حتى يأتي هو بنفسه ويسرد همه كما قال للتو .
اماءت له بإيجاب وابتعدت عنه ليغادر هو أولًا وتلحق به بعد لحظات قصيرة جدًا …….
***
نزلت من الدرج وهي تقابلهم بوجه سمح وابتسامة مشرقة .. كانت كل من الجدة وهدى على مائدة الطعام بانتظارها باستثناء رفيف التي ذهبت للعمل وكذلك كرم .
انضمت لهم على المائدة وسحبت أحد المقاعد لتجلس عليه وهي تهتف برقة :
_ صباح الخير
ردوا الأثنين بنفس اللحظة :
_ صباح النور
تحدثت هدى بسعادة وحنو :
_ والله كنتي وحشاني اوعي ياشفق .. والبيه كرم جاي عندي عشان يروح الشغل لما ياجي هربيه
_ غصب عنه والله ياطنط الشغل كتير عليه هو وزين اليومين دول
تمتمت هدى بإشفاق وحنان أمومي :
_ ربنا يقويهم يارب ويحفظهم .. بس برضوا متحاوليش تهديني وتدافعي عنه
تحدثت الجدة بضحكة بسيطة :
_ ماهي لازم تدافع عنه ياهدى مش جوزها .. إنتي كمان كنتي بتعملي كدا مع محمد الله يرحمه قدامي
تمتموا جميعهم في حزن ” ربنا يرحمه ” ثم هدرت شفق بمداعبة ومرح امتزجت ببعض المكر :
_ بس ولا تزعلي نفسك .. سيبهولي وأنا هاخدلك حقك منه
وبينما هم في جلستهم يتبادلون الأحاديث والضحك فتح الباب ودخل .. التفتوا جميعهم برأسهم إليه فقابلهم بإبتسامة عريضة وتمتم :
_ السلام عليكم
ردوا عليه السلام في نبرة عادية باستثناء شفق التي هتفت بسخط مصتنع :
_ إنتي مش قولتلي هتخلص اجتماع وراك وتاجي ليه اتأخرت ؟! .. هو احنا مش جايين عشان نقعد مع مامتك وجدتك ولا عشان تروح تقضي اليوم في الشغل
تصلب مكانه واختفت ابتسامته لتتقوس معالم وجهه بحزم وهو يرفع حاجة مستنكرًا طريقتها غير اللائقة معه ، تراجعت فورًا عن سخطها المزيف وتوترت من نظرته لتهمس باضطراب بسيط :
_ ماما هدى زعلانة منك !! عشان روحت الشغل والمفروض تقعد معاها
انفجرت هدى والجدة بضحك على منظرها واستسلامها بنظرة واحدة منه ، ليتنهد هو الصعداء ويكتم ابتسامته ثم يقترب من والدته وقبَّل رأسها هاتفًا بحب :
_ حقك عليا ياست الكل والله هو جه مرة واحدة الشغل ده .. أنا كنت عامل حسابي إني هاخد النهردا أجازة منه بس أعمل إيه بقى
رتبت هدى على كفه بحنو وهمست :
_ ولا يهمك ياحبيبي ربنا يقويك إنت واخواتك
انتقل إلى جدته وفعل معها المثل هامسًا بمرح :
_ لازم ناخد رضاكي كمان ياكبيرتنا
ضربته الجدة على كتفه بخفة متشدقة بضحكة خفيفة :
_ امشي ياولا
ضحك بقوة ثم نظر لزوجته وعاد لحدة ملامحه وهو يسألها بصوت غليظ ومقتصد :
_ وإنتي كمان زعلانة ؟!!
ازداد توترها أكثر وهزت بكتفيها في نفي وهي تقول بابتسامة مرتبكة وتشير بسبابتها على نفسها :
_ أنا !! ، لا لا خالص
جميعهم حجبوا ضحكتهم بصعوبة وكذلك هو الذي استمر في تصنع الحدة وتحرك ناحية الدرج وأثناء مروره من جانبها انحنى إليها وخطف قبلة سريعة من وجنتها واستكمل سيره للأعلى وهو يقول مبتسمًا :
_ هغير هدومي وانزلكم
احمرت وجنتيها بخجل من الذي فعله أمام أمه وجدته ووضعت عيناها في صحن طعامها تقلب بالمعلقة دون أن تأكل كوسيلة للتهرب من استحيائها أمامهم ، وكل من هدى والجدة تبادلوا النظرات وهم يبتسموا بدفء وبالأخص هدى التي وجدت السعادة طريقها إلى قلبها بأنها و أخيرًا رأت أبنها سعيدًا في حياته ولم تُخطأ عندما راهنت أمام الجميع بأنه سينسى كل شيء وسيبدأ بداية جديدة مع زوجته بعشق مختلف ونقي ! ……
***
كيف تخفي عنه ؟ .. كيف تكذب عليه وتخبر الحميع بأن طفلهم لم يعد موجودًا ، هو معترف بخطأه ولكن خطأها لا يمكن التغاطي عنه ، فهمها وصل نقمها وغضبها منه لا يحق لها أخفاء شيء هكذا عنهم .. أو أن الذي فعلته معها جعلها تفقد ثقتها بالكامل بي وخشيت من أن تخبرني بالحقيقة فأؤذيها وأؤذي طفلي ، أنا ليس بعديم الإنسانية لهذا الحد .. لست قاسي ولا أملك قلبًا بهذه الصورة التي تصورتني بها بعد الذي فعلته ، ربما كنت بلا مشاعر معها ولكن بالطبع لن يصل بي الوضع لكي أؤذيها أو أؤذي ابني !! .
داخلي يحترق من الألم فلقد كنت اعاني لفترة طويلة وأنا أظن أنني خسرت ابني وبسببي ، وهي كانت تكذب علي دون أي مرعاة .. أو أنها كذبت وأخفت عني لأنها تعرف أنني أذا عرفت بأنها لازالت تحمل طفلي بأحشائها لن اسمح بطلاقنا أبدًا ؛ ولهذا اخترقت هذه الكذبة حتى تتمكن من الطلاق مني ؟!!! .
كلها أسئلة تدور في حلقة ذهنه ولا يجد إجابة مباشرة لها ، وفقط ضجره وسخطه يهمينان عليه ويستحوذانه بالكامل ! .. إذا به يسمع باب المنزل الخارج يُفتح فوثب واقفًا وهرول إلى باب شقته ليفتح ويفاجئ بها وهي على وشك الخروج ، فيندفع نحوها ويجذبها من ذراعها هاتفًا بعصبية :
_ رايحة فين ؟!
يسر بامتعاض وهي تسحب يدها من قبضته ببطء :
_ رايحة عند خالتو
جذبها إليه واغلق الباب هادرًا بنبرة شبه مرتفعة :
_ مفيش خروج من البيت يايسر اطلعي على الشقة فوق يلا
استاءت بشدة وهتفت :
_ إنت هتحبسني يعني ولا إيه ؟!
_ اعتبريه زي ما تعتبريه .. أنا قولت مش هتخرجي يبقى مش هتخرجي ومش هكرر كلامي تاني
صاحت به بصوت مرتفع ومنفعل :
_ إنت مضايق ليه ده أقل حاجة أعملها بعد اللي عملته معايا إني اخبي عليك إني لسا حامل
صرخ بصوت رجولي نفضها بأرضها :
_ ملكيش حق تخبي عليا .. فاهمة ولا لا ده ابني وأنا ابوه
نظرت لكفه الذي يقبض على ذراعها بقوة وقالت بألم مكتوم :
_ سيب إيدي ياحسن .. ممكن !!!
ترك يدها ولا تزال نظراته مشتعلة تجاهها فرمقته بنفسها وهتفت بقوة كطبيعتها :
_ أنا هسكت عن اللي بتعمله عشان أنا فعلًا غلطانة ومعترفة بغلطي بس متنساش برضوا إن أنت اللي وصلتني لكدا
اندفعت إلى الدرج ولكنها توقفت واستندت على الحائط بسرعة عندما داهمها دوار فجأة واحست بأنها ستسقط للخلف ! ، اقترب منها ووقف بجانبها هاتفًا بقلق :
_ مالك .. إنتي كويسة ؟!
هزت رأسها بالإيجاب وهمت بالسير ولكن الدوار لا يزال موجود فانحنى هو وحملها على ذراعها متجهًا بها للأعلى …
يسر بخنق :
_ نزلني ياحسن لو سمحت
أجابها بقرف وعدم اكتراث بما قالته :
_ بس يابت اسكتي بلا نزلني بلا قرف
ضربته على صدره مغتاظة وهدرت :
_ انتي بتكلمني كدا ليه !!!
حسن بوجه سمج وبرود :
_ معلش
تأففت بخنق بينما هو وصل بها إلى الغرفة ووضعها على الفراش برفق هاتفًا بصوت خشن :
_ اكلتي حاجة من الصبح ولا لا
رمقته شزرًا بغيظ وهزت رأسها بالنفي فصاح مستاءًا :
_ يعني إيه مكلتيش !! .. إنتي حامل ولازم تهتمي بأكلك وصحتك أنا مش عايز إهمال يايسر عشانك وعشان ابني ، من هنا ورايح مفيش تقصير في الأكل مفهووم .. خليكي هنا هروح اعملك حاجة تاكليها واجيلك
يسر بتسرع وسخط على طريقته القاسية ونبرته المرتفعة :
_ مش عايزة منك حاجة
استقرت في عيناه نظرة مخيفة على اعتراضها فلوت فمها ممتغضة واشاحت بوجهها بعيدًا عنه معبرة عن خنوعها له بالأخير أمام نظراته المريبة !! ، فاستدار هو وغادر الغرفة تاركًا إياها ساخطة على طريقته وبنفس اللحظة فرحة على أهتمامه بها وخوفه على ابنه !!! ……
***
في مساء ذلك اليوم …….
كانت تقف أمام المرآة وتسرح شعرها وصورته معكوسة في المرآة وهو متمدد على الفراش ، سمعت صوته يقول مبتسمًا :
_ إنتي بس لو تسمعي كلامي .. ادينا روحنا للدكتورة وقالت مفيش حاجة بتمنع
_ طيب وأنا إيه عرفني أنا خوفت يكون في حاجة عشان كدا صممت اروحلها
استقام من الفراش وتحرك باتجاهها حتى وقف خلفها مباشرة ولف ذراعيه حول خصرها يجذبها إليه وينحنى عليها من الخلف يُقبل كتفها ويهمس غامزًا بحب :
_ سبيه ياجي في وقته إنتي قلقانة ليه ياحبيبتي .. ثم إني لسا مشبعتش منك
التفتت له بكامل جسدها وهمست بدلال أنوثي :
_ وياترى هتشبع إمتى بقى ؟!
تمتم بنظرات خبيثة :
_ وهو البحر بيشبع برضوا
غيرت مجرى الحديث بطريقة استفزته حيث قالت بفرحة غامرة :
_ هتبقى قراية فاتحة وخطوبة بعد بكرا مش كدا ؟ .. فرحانة أوي والله لرفيف وإسلام
اختفت ابتسامته بلحظة وحل محلها الخنق وهو يجيبها متأففًا :
_ إسلام ورفيف إيه دلوقتي ياملاذ .. احنا بنتكلم في إيه وإنتي بتقولي إيه !
لم تهتم لانزعاجه واكملت تسأله بعد أن لفت ذراعيها حول رقبته :
_ هو حسن هياجي هو ويسر ولا لا صح ؟!
زين بنفاذ صبر :
_ جايين بكرا بليل ياملاذ .. وممكن بقى نسيبنا من الناس ونركز مع نفسنا !
ضحكت بقوة وشدت نفسها لتصل لمستواه وتقبله من وجنته هامسة بغنج ونظرة مغرية :
_ عيوني .. أساسًا مفيش حد أهم منك ياحبيبي
عادت الابتسامة لشفتيه وتمتم بمكر :
_ ومين فهمك إني هسمح يكون في حد أهم مني أصلًا ، وتعالى بقى عشان إنتي وحشاني أوي
حملها وسار بها إلى الفراش بعد أن احنى رأسه وأخذ يهمس لها في أذنها بكلمات تبدو منحرفة فتضحك هي بخجل وتنكزه في صدره برفق من بين ضحكاتها المرتفعة !! …….
***
الجميع نائم وليس هناك أي مصدر صوت بالمنزل الكبير ، حتى الأضواء مغلقة ، اغلق الباب خلفه وهم بالاتجاه إلى الدرج ليصعد ويذهب لغرفته ولكنه لمح ظل غربيًا لشيء يجلس على المقعد أمام النافذة الكبيرة في الظلام ، فمد يده بسرعة إلى زر الكهرباء واضاء المصباح ، فعقد حاجبيه بحيرة ودهشة عندما وجد ” ميار ” الجالسة في ذلك الظلام الدامس بمفردها ، لوهلة اعتقد أن أصابها مكروه فهرول إليها وهو يهتف بقلق :
_ ميار إنتي كويسة ؟!
مدت اناملها إلى عيناها لتجفف دموعها وهي تشيح بوجهها لجانب الآخر عنه وتهز له رأسها بالإيجاب دون التفوه بكلمة واحدة .. انتابته الريبة أكثر حول أمرها فجذب مقعد وجلس بجوارها ثم مد يده وامسك بذقنها يدير وجهها إليه ويقول بلطف :
_ بتعيطي ليه ، وإيه اللي مقعدك في الضلمة وحدك كدا !!؟
همت بالوقوف مجيبة إياه بجفاء :
_ مفيش حاجة ياعلاء .. أنا هطلع أنام تصبح على خير
قبل أن تستدير وتتحرك خطوة واحدة احست بقبضة يده القوية تقبض على ذراعها ويهدر بنبرة غليظة :
_ اقعدي وقولي في إيه مالك .. إيه اللي مضايقك ؟!
_ إنت مضايقني ياعلاء
تشدق باستغراب وهو يشير بسبابته على نفسه :
_ أنا !!!! .. ليه أنا عملت إيه ؟!
ميار بقسوة قوية وعدم اكتراث باهتمامه وأنه يحاول التقرب منها بكل الوسائل :
_ عشان رافض تطلقني وتخليني ارجع المانيا
ترك يده ومسح على وجهه متأففًا بانزعاج شامل ويردد بين شفتيه ” استغفر الله العظيم يارب ” .. نظر لها من جديد وقال بهدوء تصنعه بعدما أثارته كلمة ” طلاق ” :
_ طيب اقعدي هوريكي حاجة أنا كنت جاي عشان اورهالك بس افتكرتك نايمة لما لقيت البيت كله مضلم ، وبما إنك صاحية فده أفضل وقت تشوفي فيه الفديو ده
_ فديو إيه ؟!!
أشار لها على المقعد وغمغم :
_ اقعدي وهتشوفي
جلست بجواره وانتظرته يخرج هاتفه ثم وضعه في النصف بينهم ليتمكنوا كلاهما من الرؤية ، وبدأ الفديو فاتسعت عيناها بصدمة حين رأت ذلك الوغد الذي حاول الاعتداء عليها وصورها ثم ارسل الصور لعائلتها .. كان بالفديو ثلاث رجال أثنين وهو الثالث والرجُلين ابرحوه ضربًا وأمام الضرب العنيف الذي تلقاه منهم اعترف بكل شيء وأنه حاول الاعتداء عليها ، ثم بالأخير تركوه ملقى على الأرض يتألم ولا يتمكن من الحركة .
انتهى الفديو وهي لا تزال تحدق بشاشة الهاتف مذهولة حتى أكمل علاء بصوت رجولي صلب :
_ كمان كان شغال في شركة كبيرة جدًا في المانيا خليتهم يطردوه من الشغل وبما إن الـ *** ده عايش وحده بعيد عن أهله فمش هيقدر يلاقي حتى الأكل
رفعت نظرها عن الهاتف أخيرًا ونظرت إليه تهتف بخفوف وتوتر :
_ بس ياعلاء لو راح واشتكي على الرجالة اللي ضربوه دول هيتحبسوا وممكن الموضوع يوصل ليك كمان بما إنك السبب في اللي حصله وإنت اللي بعت الرجالة
_ ميقدرش يتكلم لأنه لو اتكلم الفديو هيوصل للشرطة هناك وهيتحبس هو كمان بتهمة محاولة الاعتداء
عم الصمت للحظات قصيرة حتى قطعته وهي تحدق به بامتنان حقيقي ونظرات تحمل العاطفة :
_ شكرًا ياعلاء
_ على إيه ؟!!
_ على اللي عملته عشاني
ابتسم بدفء وملس على ظهر كفها في لين هامسًا في صوت يحمل الحنو والخشونة بنفس ذات اللحظة :
_ أنا معملتش حاجة .. أنا بس اخدت جزء من حق بنت عمي ومراتي
سحبت يدها ببطء وبادلته الابتسامة ثم استقامت من جديد وقالت بنبرة لطيفة وليست جافة كما كانت منذ قليل :
_ أنا هطلع أنام
سألها بترقب وتعجب :
_ هو إنتي مفرحتيش ولا إيه ؟!
لفت كفيها خلف ظهرها وأخذت تفركهم وقالت بارتباك بسيط :
_ بالعكس فرحت جدا .. فرحانة إن أخيرًا الحق بقى ظاهر علني قدام الكل والكل هيتأكد إني مليش ذنب في حاجة ، وأكيد كمان فرحت باللي عملته عشاني .. بس للأسف أنا مش بعرف أعبر عن مشاعري كويس في كل المواقف
استقام هو الآخر ولف ذراعه حول خصرها وجذبها إليه فجأة فأصدرت شهقة مفزوعة وطالعته بحيرة امتزجت بالسخط بينما هو فهمس بكامل الهدوء وبابتسامة مغرمة :
_ وبما إنك فرحتي باللي عملته يبقى نقفل بقى على موضوع الطلاق والمانيا ده نهائي تمام ؟!
رفعت حاجبها باستنكار وقالت بنظرة ثاقبة وقوية :
_ علاء ، إنت ليه مش عايز تطلقني !!!
لم تختفي ابتسامته وظل يحملق بها مبتسمًا للحظات كانت شبه طويلة حتى هتف وكأنه يسألها ويسأل نفسه وعيناه ليست ثابتة عليها كدليل على حيرته وخبثه :
_ يمكن عشان بدأت أحبك مثلًا ؟!!
انفرجت شفتيها بتلقائية وصدمة ، رمشت بعيناها عدة مرات وهي لا تستوعب وتسأله بحزم عندما ظنت أنه يمزح معها :
_ إنت بتهزر صح !
وكأنه وجد الحجة ليفعل ما يدور في ذهنه الآن حيث هتف بمكر وهو يضحك :
_ شكلك مش مصدقة .. طيب تعالي أنا هثبتلك !
وجدته ينحنى عليها يهم بتقبيلها فزعرت وارتبكت بشدة ، ثم رفعت كفها فورًا وكتمت على شفتيه بيدها هاتفة بحدة ممزوجة بالخجل مع عينان تدوران في كل مكان كالسارق الذي يخشي أن يمسك به صاحب المنزل :
_ إيه اللي بتعمله ده إنت اتجننت !! .. أفرض عمي ولا مامتك شافتنا دلوقتي ، تقدر تقولي منظرنا هيبقى إزاي قدامهم
تراجع برأسه وتمتم مؤيدًا رأيها :
_ لا تصدقي عندك حق .. يبقى تعالي هثبتلك في اوضتنا فوق
كان على وشك أن يحملها فدفعته هي برفق بعيدًا عنها وقالت بعناد وتصنع الجفاء لتخفي ابتسامتها الخجلة والسعيدة التي تخوض المعارك لكي تنطلق على شفتيها :
_ لا شكرًا مش عايزة إثبات
وبظرف لحظة فرت هاربة على الدرج متجهة إلى الغرفة وهي تتوق للحظة التي ستنفرد بها مع نفسها حتى تطلق العنان لضحكتها وابتسامتها ! ……..
***
بيدها سندوتش تقوم بحشوه مربى فروالة وتتندن على الحان أغنية هادئة ورومانسية لأصالة ، غير منتبهة لذلك الذي يتسلل من خلفها ببطء شديد ، وإذا بها من بين اندماجها بالدندنة وحشوها للسندوتش احست بأصابع نغزتها في خصرها من الخلف فشهقت مفزوعة والتفتت له فورًا ، ثم ضربته على صدره مغتاظة وهتفت :
_ ياخي مش هتبطل حركاتك البايخة دي
هز رأسه بالنفي وهو يضحك ثم سألها بخفوت :
_ بتعملي إيه ؟!
_ بعملي سندوتش مربى أصل لقيت نفسي جعانة وأنا مكلتش كويس في العشا .. إنت مش كنت نايم ؟!
كرم بنبرة عادية ونظرة مريبة قليلًا :
_ أيوة وصحيت عندك مانع ولا إيه ؟!
ولتها ظهرها وقالت ببرود :
_ أه عندى روح كمل نومك
التصق بها وهمس بجانب أذنها في صوت به لمسة الخبث والاستمتاع :
_ طيب ما تدوقيني من المربى دي الأول
تنهدت بعدم حيلة ورفعت السندوتش إلى فمه حتى يأكل فأبدى هو عن نفوره وهو يهتف بأعين راغبة وجريئة :
_ لا أنا مش عايز المربي دي !
ضيقت عيناها باستغراب وسألته بحيرة :
_ أمال عايز إيه ؟!!
قبلة سريعة خُطفت من وجنتها هامسًا بمداعبة :
_ عايز دي
دفعته بعيدًا عنها برفق وهتفت بصرامة شبه جادة :
_ كرم احترم نفسك الله .. احنا مش بيتنا ممكن حد يشوفنا
لم يبالي واقترب منك مجددًا مغمغمًا بغمزة وقحة :
_ كله نايم اطمني !
حاولت ردعه وإبعاده بين ضحكها وصوتها التحذير :
_ كرم بس بقى .. اطلع طيب وأنا هخلص وآجي وراك
_ لا أنا طلبت معايا هنا وهاخدها هنا
فغرت عيناها بصدمة ورجعت برأسها للخلف محاولة تفادي محاصرته حتى لا ينل منها بالقبلة ، انحنى بوجهه عليها وكان على وشك ولكنها دارت بوجهها للجانب الآخر ، فحرك هو رأسه ناحيتها لتدير رأسها مجددًا على الجانب الآخر ليزفر هو بخنق وينحنى برأسه أكثر فينل من رقبتها يثلمها وسط ضحكها المكتوم وكذلك ضحكه ، وفي وسط اللحظات الغرامية افسدتها الجدة بدخولها المطبخ فجأة فانتصب هو واقفًا كالذي لدغته عقرب والتفت بجسده ناحية جدته يطالعها بابتسامة صفراء مضطربة والأخرى اختبأت خلفه تخفي خجلها فيه .
بقيت الجدة ثابتة تحملق بهم بملامح جامدة صنعتها بصعوبة أمام ابتسامتها التي ترغب بالانطلاق ، فتنحنح هو بإحراج هامسًا :
_ احم .. منورة ياكبيرة !
كتمت شفق ضحكتها بكفها حيث كانت في وضع صعب لا تدري أتضحك على منظره أم تخجل على الوضع المخرج الذي بقوا فيه أمام الجدة .. تحرك هو بخطواط مضطربة ناحية الباب وهو يهتف بارتباك :
_ أنا هطلع أكمل شغل في الأوضة
شغل !! ، عن أي عمل يتحدث فلقد كان نائمًا ! ، ولكن ليس مهمًا فقد تكون هذه حجة جيدة لتفر هي الأخرى هاربة من نظرات الجدة الثاقبة عليها .. التقطتت الشندوتش وقالت على عجلة وهي تسرع باتجاه الباب :
_ وأنا هروح اساعده .. أااقصد هروح اطلع ليه ورق الشغل أصل أنا شلته وهيفضل يدور عليه
وبسرعة البرق فرت مهرولة إلى الخارج فانفجرت الجدة ضاحكة بقوة وهي تضرب كفًا على كف .. ما معنى تقبيلها بمنتصف المنزل في المطبخ أليست هناك غرفة خاصة بهم وبها باب يغلق عليهم حتى لا يراهم أحد .. لكن شبابهم ليس كشباب هؤلاء أبناء الجيل الجديد !!! .
***
اطفأ جميع الأضواء ولم يترك سوى ضوء الصالة الهاديء واقترب من النافذة ينظر إلى المطر الذي يهطل بغزارة منذ وقت .. وضع كلتا قبضتيه في جيبي بنطاله وتأمل لوحة السماء بشرود ، بداخله سعادة عظيمة بأنه لم يخسر ابنه وفرصته في أن يكون أب لم يفقدها ، وبنفس ذات اللحظة مشاعر الضجر تحتل جزء كبير منه .. يغضب عليها ثم يعود ويعطيها القليل من الحق عندما يفكر بعقلانية في الأمر الذي دفع بها لأختراع كذبة كهذه ، كل هذا في جانب وهناك جانب آخر من قلبه يخبره بوضوح وغضب أن يكف عن هذه الحركات فالآن يجب عليه فعل شيء واحد وهو أن يكون سعيدًا ومطمئنًا بعد أن حصل على الذي طالما أراده ، سيرزق بطفل قريبًا وزوجته سامحته ولم يعد هناك عوائق في حياتهم ، أذا من المفترض أن ينظر لنصف الكأس الممتلئ وليس الفارغ !! …
صك سمعه صوتها الضعيف وهي تصيح عليه :
_ حــــســــن
أسرع إليها في الغرفة فوجدها نائمة في الفراش بثبات عميق ومتدثرة بالغطاء ، فابتسم بسخرية من نفسه التي بدأت تهلوس بسماع صوتها حتى عندما تكون معه ، اغلق الباب بحرص شديد حتى لا يوقظها واتجه إلى النافذة وسحب الستار على الزجاج ثم عاد إليها والتف من الجهة الأخرى للفراش ليمدد نصف جسده ويستند بمرفقه على الوسادة واضعًا كفه أسفل وجنته ويمعن النظر بها بأعين عاشقة وكلها حنو ، مد يده الأخرى وأبعد خصلات شعرها عن وجهها وانحنى يطبع قبلة رقيقة على جبهتها ثم نزل بكفه إلى بطنها يملس عليها بلطف وعيناه معلقة على كفه وهو يبتسم بحب .. تململت في الفراش ففتحت جزء صغير من عيناها ورأته لتصعد الابتسامة المغرمة لشفتيها تحت تأثير النوم وتغمض عيناها مجددًا لتقترب منه وتلتصق به تلف ذراعها حول خصره هامسة بخفوت وعشق تحت تأثير النوم :
_ وحشتني أوي ياحسن
انفرجت شفتيه عن ابتسامة اشبه بضحكة واعتدل في نومته ليمدد كامل جسده على الفراش ويضمها أكثر لأحضانه مغمغمًا في هيام وشوق وهو يلثم رأسها بعدة قبلات متتالية :
_ وأنا مشتقالك لدرجة لا يمكن عقلك يقدر يتخيلها ، بس خلاص من النهردا مفيش بُعد تاني ومستحيل اسمحلك تبعدي عني إنتي وابني تاني
لا يوجد إجابة منها فقد أكملت نومها ولم تستمع لأي شيء قاله بعد جملتها التي تفوهت بها بينما هو فأكمل إمعانه بها وكأنه يملأ عيناه منها للمرة الأخير ، ولكن الحقيقة أنها المرة الأولى التي يملًا عيناه منها وربما إن استيقظت لن تسمح له بسرق هذه اللحظات وهو يتأملها بهدوء .. بقى على وضعه لدقائق طويلة حتى غلبه النوم واستسلم أيضًا لسلطان نومه ……
مع طلوع ضوء يوم جديد فتحت هي عيناها تدريجيًا ورفعت كفها تفرك عيناها ثم انتبهت أنها بين ذراعيه ، دهشت بالبداية ولكن انطلقت على شفتيها ابتسامة عريضة ورفعت شفتيها تلثم وجنته بثلاث قبلات ، انزعج في نومه على أثرهم وهز رأسه فوضعت هي رأسها على صدره مسرعة واغمضت عيناها متصنعة النوم .. فتح عيناه ونظر له ولوهلة كان سيصدق أنها نائمة ولكن عندما لاحظ رموشها التي تتحرك بقوة ففهم أنها تتصنع ، ضحك بصوت مكتوم وأبعدها عن صدره لتستقر رأسها على الوسادة ثم يصبح هو شبه فوقها وينحنى برأسه عليها يثلم كل جزء من وجهها حتى رقبتها وهو يهمس بمشاكسة وغرام :
_ صباح الفل والعسل والقشطة والياسمين يامزتي
كان يزيد من قوة قبلاته عمدًا حتى تفتح عيناها وأخيرًا همس بجانب أذنها في صوت ينسدل كالحرير ناعمًا :
_ بحبك أوي يايسر
ابعد وجهه عنها وتطلع إليها فعقد حاجبيه بريبة وقلق حين رأى دموعها تنساب بصمت !! …
حسن بحيرة :
_ يسر بتعيطي ليه ياحبيبتي ؟!! .. إنتي اضايقتي ؟!
فتحت عيناها أخيرًا وطالعته بأعين غارقة في الدموع ولكن لم تكن دموع ضيق أو حزن بل كانت أخرى لم يفهمها جيدًا ، حتى خرج صوتها المبحوح :
_ أنا خايفة أكون بحلم .. فوقني ياحسن ابوس إيدك لو أنا بحلم ، كفاية مش عايزة أعيش في أحلام مش هتتحق تاني
مد أنامله يجفف دموعها ثم ينحنى ويقبل جفونها برقة هامسًا في عشق جارف :
_ أولًا إنتي مش بتحلمي وكل ده حقيقة ، ثانيًا وده الأهم مش عايز اشوف دموعك تاني وبذات لو بسببي
هتفت بأعين تائهة ومندهشة مع فرحة أشبه بفرحة طفل :
_ يعني إنت بتحبني بجد !!
امسك بكفها ووضعه على يساره يهمس بأعين ثابتة علي عيناها :
_ حطي إيدك هنا وإنتي هتعرفي
احست بقلبه ينبض بقوة كالمطرقة ثم وجدته ينحني عليها ويهمس في أذنها بنبرة لا يمكن وصفها سوى أنها تذيب القلوب :
_ عارفة بيقول إيه ؟ .. بيقول سقطت في عشق انثى وصفت العشق على أنه يقود للجنون ففعلت كل مايمكن فعله لتحصل عليه وبالأخير حصلت عليه بالفعل
اناسبت دموعها بغزارة أكثر ، تشعر بأنها ليست في واقع أو ربما تتخيل ، لكنه حقيقة وهذا من يذهلها بشدة .. انفجرت باكية بحرارة وعانقته بحميمية هاتفة من بين بكائها :
_ وأنا كمان بعشقك فوق ماتتخيل ، متسبنيش تاني أنا كنت ببموت في بعدك عني
_ اطمني أنا قاعد علي قلبك لغاية ماتزهقي منك
ابتسمت بين دموعها وتمتمت بعاطفة جيَّاشة :
_ لا يمكن ازهق منك
***
اليوم المنتظر لكل من إسلام ورفيف ، هاهو قد أتى .. انتهوا من تحضيرات الافتتاح وكذلك زينوه حتى يكون مناسبًا لحفل الخطبة العائلية التي ستتم فيه ، حرص إسلام على إقامة الخطبة بالمطعم إيمانًا بأن هذا المكان هو السبب في اجتماعهم .. تعرفا فيه على بعضهم البعض ، تعلق بها أكثر وهو يراها كل يوم .. رغم أن تعاملهم كان هناك قواعد صارمة وحازمة تحدده ، إلا أن القلب لا حاكم عليه .. كلاهما انغرسا في وحل مشاعرهم التي تحركت تحاه بعضهم .
حسن ويسر وصلا لأرض الوطن مساء الأمس ورغم أن الجميع تعجبا من تصالحهم السريع إلا أن طاهر لم يبدي أي ردة فعل مغايرة ، كان مرتاحًا وسعيدًا لرؤية ابنته مطمئنة وفرحة بقربها من زوجها .. لكن أبدت الأم بعض الضيق والاعتراض خوفًا على أبنتها من أن يحزنها مجددًا ولكن طاهر اسكتها ومنعها قائلًا ” لا يجوز التدخل بين الزوجين وطالما ابنتنا سعيدة وهو كذلك فلا حاجة لإثارة الجدل والمشاكل ، ستدعي لهم بأن يسعدهم الله دومًا وليس أن يفرقهم ! ” .. هناك عائق أمامهم وهو إخبار الجميع بحملها وأنها كذبت عليهم ، لكن كيف ستبرر لهم كذبتها دون أن يؤثر على علاقتها بزوجها ، لا تعرف حتى الآن !!! .
داخل منزل محمد العمايري تحديدًا بغرفة رفيف …..
كانت يسر تتولي مهمة تزينها ووضع مساحيق الجمال لها والجلسة لم تكن تقتصر عليهم فقط بل كل من ملاذ وشفق يشاركوهم الجلسة مع تبادل الأحاديث الممتعة وضحكهم لا يتوقف للحظة ، تارة هذه تقول شيء فيضحكوا وتارة الأخرى .. إلى أن انتهو من تجهيز العروس ، وقفت رفيف تتأمل بنفسها في المرآة وهي تبتسم بحياء فقالت شفق بوجه بشوش :
_ يلا عشان كرم مستنينا تحت وحسن وزين في المطعم هناك مع العريس
القت نظر أخيرة على نفسها ورحلوا جميعًا مستقلين بسيارة كرم .. استقلت بجواره زوجته وبقية الفتيات كانوا من الخلف ، التفت برأسه تجاه شقيقته وحدجها بنظرة دافئة وحانية ليهمس مبتسمًا بحب :
_ إيه القمر ده بس ياحبيبتي
هتفت يسر بمشاكسة كنوع من تلطيف الجو :
_ أنا اللي حطالها المكياج على فكرة
ضحك ونظر أمامه يحرك محرك السيارة ويجيبها مشاكسًا إياها بمكر :
_ هي حلوة من غير أي حاجة أساسًا
يسر بدهشة وغيظ :
_ لا والله .. ماشي يا أستاذ كرم
همست رفيف في أذنها ضاحكة :
_ سيبك منه ده بيغيظك
تبادلوا الحديث جميعهم في السيارة طوال الطريق بضحك ومرح فيما عدا ملاذ التي كانت تتابعهم وتضحك بصمت لوجود كرم واستحيائها منه .. وصلوا إلى المطعم وكان الجميع بانتظارهم ، فرحوا واعجبوا برفيف وبالأخص إسلام الذي أشرق وجهه بابتسامة عريضة كادت تشق طريقها إلى أذنه .. بدأ الحفل واستمر لساعات طويلة حتى أتت لحظة ارتداء خاتم الخطوبة فتولت هدى المهمة والبست هي ابنتها الخاتم كما فعلت تمامًا مع حسن وزين في خطبتهم وبالأخص زين الذي حرص على أن تلبسه الخاتم أمه حتى لا يلمس يد خطيبته ، انطلقت الزغاريد والتصافيق فور انتهائهم من ارتداء الخواتم .. فرحة الجميع كانت لا توصف خصوصًا هدى التي ادمعت عيناها فرحًا على ابنتها وهي تراها سعيدة ومسرورة ! …
أخرج كرم هاتفه من جيبه بعد أن شعر باهتزازه ونظر للمتصل الذي كان رقمًا مجهولًا ، هم بأن ينهض من جوار شفق فقبضت على كفه تسأله بتعجب :
_ رايح فين ؟!
_ هروح أرد على التلفون برا
شفق بنظرات مريبة ومضطربة :
_ طيب متتأخرش
منذ دخولها لذلك المطعم وقد شعرت بغزة في قلبها لا تعرف سببها ، حاولت تجاهلها ولكن كلما يمر الوقت تزداد شدتها أكثر والآن اصبحت الضعيفن عندما خرج وتركها … !!
ذهب إلى الخارج تمامًا حتى يستطيع الرد بعيدًا عن ضجة الموسيقى ، وضع الهاتف على أذنه وهتف :
_ ألو ….
انتظر الإجابة ولكن ليس هناك أجابة فعاد يهتف بحيرة :
_ الووو ، مين معايا .. الو
وعلى غفلة دون أو يكون في تخيله حتى أنه فخ نصب له ، أحس بأن روحه خرجت عندما طعنه أحدهم من الخلف في ظهره وبنفس ذات اللحظة أخرج السكين من جسده بكل عنف ، فوضع كرم كفه موضع الدماء التي بدأت في السيلان من جسده وعلت ملامح وجهه الألم وهو لا يتمكن حتى من سحب انفاسه ، تحامل على نفسه والتفت للخلف بصعوبة فوجده رجل ملثم رفع يده حتى ينزع القماش الذي يخفي به وجهه ، فأتته الطعنة الثانية في معدته ثم يفر ذلك الرجل هاربًا يستقل بأحدى السيارات وينطلق ، ويسقط كرم على الأرض كالجثة الهامدة التي لا حياة فيها ومن حوله الدماء تحوطه !! ……
استقامت شفق واقفة وقررت الخروج لتطمئن عليه فقلبها يأكلها من القلق ، وتداهمها نغزة مؤلمة في قلبها .
قادت خطواتها للخارج وهي تتلفت حولها باحثة عنه ، حتى وصلت إلى باب المطعم الرئيسي ، فتصلبت بأرضها وكأن صاعقة قد أصابتها ، سرت رجفة عنيفة في جسدها مع صراعات بدأت في عقلها ترفض تصديق عيناها ، هذا لا يمكن أن يكون زوجها .. تحركت تجاهه بخطوات متعثرة كالذي فقد عقله ولا يدرك ما يراه أمامه ، جثت أمامه على الأرض وامسكت بوجهه تهتف في صوت مرتجف وأعين دامعة :
_ كرم قوم إنت بتهزر معايا مش كدا !!!
اكملت همسها المرتعش وانسابت دموعها بغزارة :
_ كرم رد عليا .. كرم .. كـــرم
رفعت يدها ونظرت إلى دمائه التي لطختها فعادت تنظر له وانفجرت باكية مع صرخة مدوية اطلقتها رغم الموسيقى إلا أن الجميع سمعها ، فهرلوا راكضين إلى الخارج على أثر الصرخة وبمجرد ما وقع نظرهم عليه توالت الصرخات من كل من هدى ورفيف ، التفوا جميعهم حولها وهي تحتضنه وتبكي بهستيريا ، انحنى كل من زين وحسن على أخيهم .. هزه زين بيد مرتعشة هاتفًا :
_ كرم إنت سامعنا كرم
وضع يده على رقبته يقيس النبض فوجده طبيعي ، صاح حسن بانفعال ورعب باديء على محياه :
_ يلا هنوديه للمستفشى يازين اكيد مش هنستني الإسعاف
استقام زين وابعدت ملاذ شفق عنه بصعوبة ليحمله كل من حسن وزين ويضعوه في السيارة ، وهرولت شفق لتستقل بجواره ، والباقية لحقوهم بسيارة حسن التي تولت قيادتها يسر والباقي بسيارة إسلام …..
***
داخل المستفشى …….
الجميع في حالة مزرية ، هدى لا تتوقف عن النحيب والبكاء وكذلك رفيف ، أما شفق فكانت تجلس على أحد المقاعد وقدماها تهتز بشدة وتقرض أظافرها بعنف هامسة لنفسها ودموعها لا تتوقف عن السقوط :
_ لا هو عارف إني مليش غيره .. عارف إني مقدرش أعيش من غيره ومقدرش اخسره ، هو وعدني إنه مس هسيبني وهو مستحيل يخلف وعده لأنه عمر ما خلف وعده معايا قبل كدا ، أنا واثقة إنه كويس
كانت يسر بجانب رفيف تارة تحاول مواستها وتارة تحتاج هي إلى من يواسيها ، أما ملاذ فقد لاحظت حالة تلك المسكينة فاشفقت عليها وادمعت عيناها لتنهض وتذهب فتجلس بجوارها وتضع كفها على قدمها هامسة بأعين دامعة :
_ ادعيله وهو هيبقى كويس إن شاء الله صدقيني وربنا هيقومه بالسلامة
نظرت لها وقالت بنظرات قوية وطريقة تدل على فرط بعثرتها الداخلية وأنها ليست بوعيها :
_ هو كويس أصلًا .. أنا عارفة هو بس بيحب يهزر هزار بايخ كدا دايمًا معايا ، مع إنه عارف إني مليش في الدنيا دي غيره .. بس هو لما يطلع مش هسيبه وهتخانق معاه
انهمرت دموع ملاذ بألم وحزن لتفرد ذراعيها وتضمها لصدرها مرتبة على ظهرها بحنو ومتمتمة بصوت باكي :
_ هيطلع بإذن الله متخافيش .. هيطلع
انهارت شفق بين ذراعيها في نوبة بكاء حارة وعنيفة وهي لا تهمس سوى بشيء واحد من بين بكائها ” كــرم .. كـــرم ” .
كان زين يقف بأحد الأركان وساكنًا كالصنم الذي لا حياة فيه .. يكتم جميع حزنه وخوفه بداخله ، حتى مشاعر الغضب لا يظهرها لكنه يتوعد لمن فعل ذلك بأخيه أنه لن يدعه يرى للرحمة عنوان ، على عكس حسن الذي كان واضح عليه السخط والقلق ولم يتمكن من منع نفسه حيث هتف بوعيد حقيقي وأعين حمراء كالدم وهو يجوب أمام غرفة العمليات :
_ هشرب من دمك ياكمال الحسيني .. وحياة أمي ما هسيبك تتهنى في حياتك يوم واحد
انتبه الجميع لما قاله وبالأخص زين وشفق ، اقترب زين من أخيه وهتف بنظرات كلها شر وجديدة عليه :
_ كمال الحسيني اللي عمل كدا ياحسن ؟
_ مفيش غيره .. بس هيروح مني فين
كور زين قبضة يده بقوة يحاول تمالك أعصابه مؤقتًا إلى أن يخرج أخيهم من العمليات ، وأخيرًا بعد ساعات من الانتظار خرج الطبيب فكان كل من حسن وزين هم الأقرب إلي الطبيب والباقي لحقوا به .
الطبيب بوجه بائس :
_ والله احنا عملنا اللي علينا بس الطعنتين كانوا في أماكن خطرة جدًا .. وحالته حتى الآن خطرة فهيفضل تحت العناية المشددة لغاية ما حالته تتحسن ، بس هو أخد طعنة في الظهر وممكن تأثر عليه بعد ما يفوق إنه ممكن ياخد فترة مش بيمشي للأسف
تعالى بكاء هدى التي كانت تهتف ببكاء حاد :
_ ياحبيبي يابني ربنا ينتقم من اللي كان السبب .. يارب قومه بالسلامة لينا
ثبتت شفق نظرها على الخلاء .. واستقرت نظرة نارية في عيناها لا تبشر بالخير ، ثم همت بالرحيل فقبضت على ذراعها ملاذ وهتفت بتساءل :
_ رايحة فين ياشفق ؟
شفق بنظرة مريبة :
_ رايحة الحمام وراجعة
_ آجي معاكي طيب
أجابتها بالرفض وبلهجة صارمة استغربتها منها :
_ لا هروح وحدي
اندفعت من أمامهم ولم ينتبهوا لها لانشغالهم بحزنهم علي كرم … وإذا بالدقائق تمر حتى اقترب زين من ملاذ وهتف :
_ شفق فين ياملاذ
وثبت واقفة بزعر وقالت بارتيعاد :
_ دي قالتلي رايحة الحمام وراجعة ولغاية دلوقتي مرجعتش أنا إزاي نسيتها !!
زين بدهشة وقلق :
_ إزاي سبتيها وحديها ياملاذ
ملاذ بنبرة متلقلقة :
_ هي مرضتش تخليني اروح معاها والله
انضم إليهم حسن عندما لاحظ هو الآخر اختفاء زوجة أخيه من الوسط فقال زين بحزم :
_ حسن شفق مش موجودة أنا هدور عليها في المستشفى وإنت أطلع دور عليها برا
صمت لبرهة ولاحت بعقله فكرة جعلته يزداد غضبًا وخوفًا :
_ معقول يكون عمها خطفها !!!
رمقه زين مرتعدًا ثم اندفع يبحث عنها في الأرجاء أما حسن فاندفع لخارج المستشفى بأكملها …….
***
ترجلت من سيارة الأجرة أمام البناية التي يوجد بها شقة والدها ، رفعت نظرها للطابق العلوي ثم قادت خطواتها شبه ركضًا إلى الداخل واستقلت بالمصعد الكهربائي ليقف بها أمام طابق شقتهم ، فخرجت وهرولت إلى الباب ، ثم اخرجت المفتاح ووضعته في القفل وفتحت ثم دخلت واغلقت الباب خلفها ، ألقت نظرة فاحصة على المنزل ومرت أمام عيناها ذكرياتها كلها مع أخيها وأمها .. حتى الأيام الذي كان يأتي فيها ” كرم ” لزيارتهم مرت أمام عيناها .. سالت دموعها بألم وحزن ثم قادت خطواتها إلى غرفتها حتى لا تتغافل عن السبب الذي اتى بها إلى هنا .
فتحت باب غرفتها واضاءت النور وإذا بصرخة مرتفعة تصدر منها عندما رأت ذلك ” الجاسر ” يجلس على مقعد وينتظرها بإبتسامة شيطانية وشرانية .. رفع جاسر أمامها SD ليقول بلؤم مبتسمًا :
_ جاية تدوري على ده مش كدا !!
الخطأ خطأها فشيء كهذه كان يجب عليها أن تخفيه بمكان لا يتمكنوا من توقعه ، والآن فشلت خطتها التي كانت تنوي فعلها لتنتقم لزوجها ، ووقعت أثيرة لشرور عمها وابنه .
تلفتت حولها فالاحظت عيناها الفاظة الموضوعة فوق المنضدة ، فاسرعت والتقطتها وكانت على وشك أن تضربه بها ولكنه سبقها وأخذها منها ليكبلها بذراعيه ويهتف ببرود :
_ ينفع برضوا تضربي جوزك المستقبلي ياحبيبتي
رمقته باشمئزاز وتقرف وبدون أي خوف أي تردد بصقت في وجهه ، وصاحت بنبرة أنوثية قوية :
_ ورحمة سيف وماما ماهسيبك إنت وأبوك ياجاسر وحق كرم أنا اللي هاخده ، ومش بس حق جوزي بس لا ده حقي وحق أخويا كمان ، هنهيكم نهائي وخليك فاكر كلامي ده
جذبها من ذراعها بغضب بعدما نجحت في إثارة جموحه :
_ طيب يلا عشان توريني هتاخدي حقك إزاي
حاولت نزع قبضته عنها وهي تصرخ :
_ ابعد سيبني ياحيوان .. أنا مش هروح معاك مكان
صرخة عارمة خرجت منه اخافتها حقًا :
_ هتاجي ياشفق وإلا المرة دي هبعت حد واخليه ينهي على البيه بتاعك خالص هو وفي المستشفى وأقدر اعملها وإنتي عارفة ، الاختيار ليكي
قد يفعلها حقًا هو لا يكذب .. أجبرت على السير معه للخارج حتى وصلا أمام المطبخ فلاحت في ذهنها فكرة ، لتوقفه وتقول بنبرة عادية مصتنعة :
_ طيب ممكن اروح أشرب
نظر لها بشك ولكنه فعل كما رغبت حيث ذهب بها إلى المطبخ ووقف خلفها ينتظرها حتى تنتهي وبعدما انتهت جذبها من ذراعها يجرها خلفه ، وقد سنحت لها الفرصة فالتقطت سكين بسرعة دون أن ينتبه لها واخفتها خلفها ، سارت معه حتى غادروا البناية وأصعدها بسيارة كانت تنتظرهم واستقل هو بجوارها ، وهي كانت تحاول بقدر الإمكان إخفاء السكين عن أنظاره ……….
***
توقف حسن أمام المستشفى يلتقط أنفاسه بعدما بحث عنها بكل مكان ، رأى أخيه يتجه نحوه وهو يسأله بغلظة :
_ ملقتهاش برضوا
هز رأسه بالنفي وهو يمسح على وجهه متأففًا بخنق ليقول باستياء :
_ أنا هروحله الـ *****
اوقفه زين بصرامة وقال في أعين قاتمة :
_ لا خليك إنت هنا في المستشفى معاهم وعينك متغفلش عن حد فيهم ياحسن وأنا هتصرف ولو في أي جديد بخصوص كرم اتصل بيا
ثلاثتهم حين يتطلب الأمر إظهار عدم الرحمة لا يترددوا في إخراج الوحوش الخامدة في أعماقهم ، وقد يكون كل من زين وكرم أسوء من حسن حين يخرج ذلك الوحش الكامن داخلهم ، وربما اليوم لأول مرة سيخرج وحش الزين !! .
استقل زين بسيارته وانطلق بها يشق الطرق بجنونية وبعد دقائق طويلة من القيادة توقف أمام منزل ” كمال الحسيني ” ، فترجل من سيارته وسار إلى الداخل بخطواط سريعة وساخطة حتى وصل إلى الباب وطرق عدة طرقات عنيفة ففتحت له ريماس التي رمقته بريبة من منظره وسمعته يهتف بصوت رجولي مرعب :
_ أبوكي وأخوكي فين ؟
ريماس بارتيعاد :
_ مش موجدين ليه هو حصل إيه ؟!!
لم يطل في الوقوف حيث رمقها بنظرة مميتة وهتف منذرًا :
_ بس صدقيني لو مخبينهم جوا هعرف
ثم استدار وذهب عائدًا إلى سيارته بينما الفتاة فبقيت بمكانها تحدق على أثره بتفكير ودهشة ، إلى أن اقتربت منها أمها وسألت :
_ مين اللي كان على الباب ياريماس
التفتت برأسها إلى أمها وقالت بنظرات خائفة :
_ ده زين العمايري كان بيسأل عن بابا وجاسر وشكله يخوف .. هو بابا وجاسر عملوا إيه ياماما ؟!
تصنعت الأم الجهل وأجابتها بعدم اكتراث بعدما استقامت وسارت إلى المطبخ :
_ هيكونوا عملوا إيه يعني .. معملوش حاجة هما بس من كرهم لأبوكي وأخوكي عايزين يأذونا بأي شكل
استقرت نظرات ريماس على الفراغ وهي تفكر بالجريمة التي ارتكبوها هذه المرة ، فبالتأكيد لن يأتي زين بنفسه ليسأل عنهم إلا إذا حدث أمر ليس بهين .. اتسعت مقلتي عيناها عندما حدثها عقلها يطرح عليها سؤال ذكي ” إذا حدثت مشكلة فلماذا لم يأتي كرم وجاء أخيه .. هل يعقل أن يكونوا قد فعلوا شيء له ؟!! ” ….
***
وصلا إلى منزل أرضى معزول عن المساكن وبمنطقة شبه مهجورة ، فتح جاسر الباب وهو ممسكًا بذراعها في عنف ويجرها خلفه ، وصل بها إلى غرفة داخلية ودفعها للداخل بعدم شفقة واغلق الباب عليها ، ظلت تضرب على الباب بقدمها ويديها صارخة :
_ افتح الباب ياجاسر
أجابها بغلظة صوت :
_ مفيش باب هيتفتح ياشفق واعملي حسابك إنك هتطلقي من كرم .. لإني مش هسمحلك تكوني لحد غيري
صاحت به من خلف الباب بشجاعة وعدم خوف :
_ نجوم السما اقربلك من اللي بتفكر فيه ده .. أنا ممكن اقتلك ومش هيهمني
استفزته كلماتها فأخرج المفتاح من جيبه ووضعه في قفل الباب ليفتحه ويدخل لها ، وبحركة مفاجأة جذبها من خصرها إليه وقال أمام وجهها بنظرات شيطانية :
_ إنتي ليا .. كنتي ليا وهتفضلي ليا
حدجته بشراسة واشمئزاز ثم دفعته بعيدًا عنها بقوة وبصقت في وجهه ، أغمض عيناه بقوة وقد تمكن منه الجموح فرفع يده إلى وجهه يمسحه وهي يجز على أسنانه ، ثم فتح عيناه ورمقها شرزًا وإذا بكفه يرفعه ويهوى به على وجنتها فاصدرت هي شهقة مرتفعة ووضعت كفها على وجنتها موضع صفعته ، لتهتف وهي تنظر له بوعيد حقيقي :
_ مش هتنفد بعملتك إنت وعمي واللي عملتوه مع جوزي هدفعكم تمنه غالي أوي ، وخليك فاكر كلامي ده كويس
لم يبالي بكلماتها وابتسم مستهزئًا ثم استدار وغادر وأغلق الباب بالمفتاح مجددًا ، سالت دموعها غزيرة على وجنتيها وجثت على الأرض تضم ساقيها إلى صدرها وتدفن وجهها إلى الأسفل ، تأخذ وضعية الجنين وببكاء حار همست من بين بكائها :
_ كرم أنا محتجاك ياحبيبي .. يارب قومه بالسلامة ، أنا مليش غيره ولو جرتله حاجة مش هقدر استحمل .. يارب إنت العالم بحالي وحالنا كلنا
***
داخل المستشفى ….
اقترب حسن من أمه التي تجلس بسكون ، دموعها تسقط في صمت وحالتها مزرية .. جثي على ركبتيه أمامها والتقط كفها يقبله بحنو ويهمس في صوت مهموم :
_ قومي ياماما عشان تروحوا البيت .. إنتي شوفتي الدكتور قال إيه مينفعش الكل يفضل هنا ، أنا هقعد مع كرم هنا أنا وإسلام
هتفت هدى بحدة وأعين مليئة بالدموع :
_ أنا مش هسيب ابني وامشي .. مش هتحرك من هنا غير لما اشوفه واسمع صوته واطمن عليه
تمالك نفسه بصعوبة أمامها فهو يحترق ألمًا على أخيه ولا يظهر ذلك بالضبط كزين الذي يتصنع الثبات أمام الجميع .
استقام وانحنى على رأسها يقبلها بلطف ويهمس في دفء محاولًا اقناعها ومسايستها بالكلام :
_ ياماما كرم لغاية دلوقتي حالته كويسة ومش خطرة أوي ، وقعادكم هنا مش هيفيد بحاجة .. روحي البيت وارتاحي وتعالي بكرا الصبح وأنا أهو موجود ولو في أي حاجة هتصل بيكي
هتفت بعناد وغضب :
_ قولتلك لا ياحسن مش همشي
تنهد الصعداء بألم ونظر لها بنظرات موجوعة وهو يتوسلها :
_ يا أمي بالله عليكي متتعبنيش .. هنا مش آمان ليكم لكن البيت آمن اكتر ، روحي وصلي في البيت وادعيله ربنا يقومه لينا بالسلامة
انسابت دموعها بحرقة وذعنت بالأخير لرغبته فأمسكت بها ملاذ وسندتها ليسيروا معًا للخارج ، أما رفيف فنظرت لأخيها وكأنها تتوسله أن يتركها تبقى معهم ، فضمها لصدره مقبلًا جبهتها بحنو هامسًا في حزن :
_ مينفعش يارفيف .. روحي غيري فستانك ياحبيبتي وريحي في البيت معاهم
_ بس اوعدني إنك هتتصل بيا تقولي لو حصل أي حاجة
_ حاضر اوعدك يلا روحي معاهم وهتلاقوا مسعد مستنيكم برا
أماءت له بالموافقة وسارت خلف أمها وزوجة أخيها وهي تجفف دموعها التي تتساقط باستمرار .. وقفت يسر أخيرًا واقتربت منه تحتضن كفه بين كفيها مهمهمة بنظرة مهتمة ومشفقة :
_ خليني جمبك ياحبيبي ، هفضل قلقانة عليك لو سبتك وحدك
رفع أنامله وملس على وجنتها بنعومة هامسًا :
_ متقلقيش عليا أنا كويس ، علاء هيقعد الليلة معاكم في البيت هناك لغاية ما الوضع يهدى ونمسك اللي عمل كدا
أماءت له بالإيجاب ثم سألت باهتمام وخوف :
_ لسا ملقتوش حاجة عن شفق
_ لا زين راح يدور عليها ولسا متصلش بيا لغاية دلوقتي
يسر بجدية تامة :
_ بلغوا البوليس ياحسن اللي بيحصل ده مينفعش
قال بأعين كلها نقم ووعيد بالأنتقام :
_ هنبلغ بس بعد ما نمسكه احنا الأول
تأففت بعدم حيلة ولم تجادل معه كثيرًا حيث ابتعدت عنه ولحقت بالباقية ……
***
توقفت السيارة أمام أحد المنازل الصغيرة ، فترجل زين من السيارة وقاد خطواته الساخطة نحو الباب ، طرق عدة طرقات عنيفة كادت أن تكسر الباب ، ليفتح له كمال الذي اندهش به .. لم يمهله زين اللحظات لكي يندهش حتى حيث وجه له لكمة قوية كادت أن تطيح بذلك العجوز أرضًا ، ودخل وأغلق الباب خلف هاتفًا في صوت مريب :
_ كان نفسي أقول ده راجل كبير وميصحش بس شكلك مش بتاجي غير بكدا ووصلت بيك إنك تحاول تقتل أخويا
انتصب كمال في وقفته وقال بشجاعة مزيفة يدافع عن نفسه :
_ اخوك إيه وقتل إيه !! .. أنا مش فاهم إنت بتتكلم عن إيه ؟!
لمعت عيني زين بوميض شراني مخيف حيث جذبه من لياقة قميصه ووجه له لكمة أخرى وتمتم بنبرة أشبح بصوت فحيح الأفعى تحمل في طياتها كل معاني الغضب والشر :
_ كلنا عارفين إنك اللي عملت كدا في كرم وأنا مش جاي هنا عشان أسألك عملت كدا ولا لا ، لأن ده أمر مش محتاج سؤال وعقابه هيكون تقيل أوي عليك يعني جهز نفسك عشان لو نزلت سابع أرض هجيبك وهدفعك تمن اللي عملته في أخويا ومش هيكون عقاب عادي .. والسؤال الأهم دلوقتي هو شفق فين ياكمال ؟
صوته ونظرته يتحدثان بالثأر لأخيه ، لم يبدو له أبدًا أنه يحاول إخافته أو تهديده فقط بالكلام بل سينفذ بالأفعال .. ركز على آخر جملة وهي سؤاله عن زوجة أخيه فأجابه بخفوت تام :
_ معرفش حاجة عنها ، ثم أن متنساش إن اللي بتسألني عنها دي بنت أخويا وأكيد مش هأذيها يعني !!
زين بلهجة تحذيرية :
_ لآخر مرة هسألك شفق فـــيــــن ؟
دفع كمال يده عن لياقة قميصه وصاح به مندفعًا :
_ قولتلك معرفش فينها .. إنت جاي بتهددني في بيتي بمحاولة قتل أخوك وعايزني أسكت ، أنا هتصل بالشرطة دلوقتي حالًا وابلغ عن اللي بيحصل ده
_ بلغ بس متنساش الأول إني ماسكك من إيدك اللي بتوجعك .. أعتقد إنت من أيام سيف الله يرحمه وجربت مين هو زين العمايري ويقدر يعمل إيه ، فأنا هديك مهلة لغاية بكرا الصبح
حدجه كمال برهبة وفضول لمعرفة أي مهلة هذه ولماذا ، ليسترسل زين حديثة ولكن بخفوت مخيف به لمسة التهديد :
_ أنا مش هوسخ إيدي سواء بيك أو بأبنك الحقير ده .. شفق هترجع في خلال ساعة ومعاك لغاية الصبح تجهز نفسك وتروح تعترف إنك إنت اللي حاولت تقتل كرم ، ومحاولة قتل أهون ما اروح اعترف أنا وأقولهم على كل بلاويك .. ساعة واحدة ولو شفق مرجعتش يبقى إنت اللي جنيت على روحك
ثم استدار وانصرف وتركه يفكر في حل للمعضلة التي وقع بها ، يجب عليه الاعتراف أنه أخطأ عندما خطط لمحاول التخلص من ” كرم ” قبل أن يهتم بشقيقه الأكبر !! ……
***
جالسًا على أريكة طويلة وبيده مفتاح الغرفة يعبث به يمينًا ويسارًا ونظره معلق عليه ، تستحوذ على تفكيره ويخطط كيف سيطلقها من زوجها ليجتمع بها وتصبح له للأبد …
مايسميه البعض عشق قد لا يكون يحمل أي ضرب من ضروبه ، هو فقط هلاوس تعلقت بالذهن لتقنعه بأنه يعشق فتتحول الهلاوس إلى هوس وجنون ، قد لا تجني سوى الشر والأذي للطرفين ، بل وبمعنى أدق هو شعور بالنقص فيلجأ إلى مشاعر الحب ليكي تعوض ذلك النقص وحين يفشل يفرض نفسه على العشق وأما أن أحصل عليه أنا أو لا أحد يحصل عليه مطلقًا !! ….
انتشله صوت رنين هاتفه فالتقطه وأجاب بهدوء :
_ أيوة يابابا
كمال بعصبية ولهجة آمرة :
_ سيب شفق تمشي ياجاسر دلوقتي حالًا
_ نعم .. أسيبها ده إيه !! ، أنا ماصدقت إنها بقت معايا خلاص
صرخ به في صوت جهوري :
_ بقولك سيبها وإلا هنروح في داهية وجهز نفسك عشان هنحجز تذكرتين وهنمشي من مصر نهائي قبل الصبح
استقام وصاح بأبيه منفعلًا :
_ أنا مش هسيب شفق يابابا .. لو إنت خايف على نفسك احجز التذاكر ليك إنت وماما وريماس وأمشوا وملكمش دعوة بيا
_ إنت مبتفهمش .. بقولك هتحبس ومش بعيد يكون فيها مؤبد ده لو مكنش إعدام ، زين اداني مهلة ساعة ترجع فيها شفق ولو مرجعتش هيبلغ بكل حاجة .. اسمع الكلام ياجاسر وسيبها تمشي
صمت لبرهة من الوقت دون أن يتحدث ثم أنزل الهاتف والقاه على الأريكة وسط صيحات أبيه به المتكررة وهو يصيح في الهاتف :
_ جاسر .. جـــاســـر رد عليا
وصل إلى باب الغرفة وفتحه ثم دخله فوجدها جالسة على الأرض وتضم ساقيها إلى صدرها كمحاولة بائسة منها لتدفئة نفسها في ذلك البرد القارص ، جذبها من ذراعها فوقفت وهو يجرها خلفه وهي تصيح به محاولة الإفلات منه :
_ سيب إيدي إنت واخدني على فين ؟!
جاسر بنظرات مشتعلة :
_ هنروح على مكان محدش هيعرف يوصلنا فيه أبدًا .. مش هسمح لحد ياخدك مني
صاحت وهي تبكي بعنف وخوف :
_ إنت مريض نفسيًا لا يمكن تكون طبيعي
صرخة جهورية صدرت منه نفضتها نفض :
_ اسكتي خالص
اكمل سيره وهو يجرها خلفه وهي لا تزال تحاول الهرب منه ولكن دون فائدة ، حتى وصلا إلى السيارة وجعلها تركب عنوة ثم استقل هو بمقعده المخصص للقيادة وانطلق بالسيارة يشق الطرقات لمكان لن يتمكن أحد فيه من الوصول إليهم !!! …..
***
انفجر حسن بأخيه غاضبًا وهو يصيح :
_ يعني إيه يسلم نفسه .. إنت هتسيبه يسلم نفسه بالسهولة كدا
زين بنبرة رجولية صارمة :
_ حق كرم مش هناخد بالطريقة اللي إنت عايزها دي .. مش هنروح نقتله مثلًا ، بالنسبالي ده أكبر عقاب إنه يقضي بقية حياته في السجن وأنا عارف إنه مش هيروح يعترف على نفسه وعشان كدا عملت حسابي وبلغت البوليس بكل حاجة عنه .. ولما يفوق كرم بإذن الله يختار هو يكمل حقه بأي شكل يحب
_ طاب كمال وفهمنا لكن جاسر أنا مش هسيبه
هتف زين مندفعًا :
_ حسن مش وقته دلوقتي .. الاهم دلوقتي مرات أخوك ترجع وأخوك يقوم بالسلامة بعدين نشوف هنعمل فيهم إيه
حسن ساخرًا بعصبية :
_ وإنت فكرك إن لو شفق معاهم هيسبوها .. أنا مش هفضل قاعد كدا ومستني هروح أحل الموضوع ده بنفسي ، بس أنا معنديش قلب ولو وقعوا تحت إيدي مش هرحمهم
ثم اندفع مغادرًا المستشفى بأكملها لينظر إسلام إلى زين ويقول بجدية :
_ روح وراه يازين وأنا هفضل هنا اطمن
استقام وهرول راكضًا خلف أخيه وهو يصيح مناديًا عليه ولكنه يتجاهله تمامًا ولا يجيب عليه ، حتى وصل إلى سيارته واستقل بها لينطلق بها كالسهم فلحقه زين بسيارته !!! …….
***
بينما كان كمال يغرفته يجمع ملابسه داخل حقيبة السفر التي جهزها ؛ لكي يهرب قبل أن ينفذ ” زين ” تهديده .. وإذا به يسمع بطرق عنيف على باب المنزل ، التفت برأسه للخلف وجحظت عيناه بصدمة امتزجت بالرعب من أن يكون الطارق هو الذي يتوقعه ، الطرق مستمر وأصبح أشد عنفًا فحسم قراره وقاد خطواته المرتجفة إلى الباب ، ليمسك بالمقبض ويفتح ولم يخطأ توقعه ، حيث وجد الضابط أمامه وثلاثة من العساكر معه .. ابنلع ريقه بخوف وحدج بالضابط في ارتيعاد وبالأخص عندما سأله في غلظة :
_ إنت كمال الحسيني مش كدا ؟
هز رأسه بالإيجاب في أعين مضطربة فعاد الضابط للمرة الثانية يسأله في سخط ونظرات ثاقبة :
_ ابنك فين ؟!
التزم الصمت لثلاث ثواني يفكر في كذبة يخترعها ولكن عقله لم يسعفه فهتف متلعثمًا :
_ مش موجود ياحضرة الظابط ، ليه هو في حاجة ؟
قبض الضابط على ذراعه هاتفًا بنبرة رجولية صارمة :
_ في القسم هتعرف في إيه .. اتفضل معانا يلا
خدعه واوهمه بأنه لن يسلمه للشرطة مقابل أن يترك شفق .. ولكنه فعل وأخبر الشرطة بكل جرائمة وهاهو قد وقع أثيرًا لأخطائه بالنهاية !! ………
***
ساعات مرت من البحث كل من زين وحسن يبحثوا بطرق مختلفة في محاولات بائسة لإيجاد ذلك الوغد المدعو بـ ” جاسر ” وحتى الآن لم تصل أخبار من الشرطة أنهم عثروا على مكانه ، الجميع مابين لحظات الخوف والرعب على مريضهم ( كرم ) الذي لا يزال تحت العناية المشددة ولم يستعد وعيه ، وبين القلق والرهبة على تلك المسكينة المفقودة التي استغلها عمها وابنه لأطماعهم الجشعة !! .
أذان الفجر ارتفع في مآذن المساجد ولا يوجد خبر حتى الآن ، وأخيرًا وصل اتصال على هاتف حسن الذي أجاب بتلهف :
_ أيوة ياحسام عرفتوة مكانهم
_ أيوة ياحسن عرفنا المكان هبعتهولك في رسالة وتعالي ورايا
انهي معه الاتصال وانتظر للحظات حتى بعت له الموقع في رسالة لينطلق بالسيارة في سرعة البرق ومن ثم يجري اتصال بزين ليخبره بأن يلحق بهم على هذا المكان …….
على الجانب الآخر تمكنت بصعوبة من فك الأحبال التي قيدها بها على كرسي خشب في هذا المخزن المهجور في منطقة شبه صحراوية ، كانت على وشك أن تقف وتركض هربًا ولكنها رأته يتجه نحوها فبقت كما هي في مقعدها وحاولت أن لا تظهر له أنها فكت قيد الحبال ، والسكين الذي أخذتها من منزلهم مازالت محتفظة بها وقد حان وقت استخدامها .
انحنى جاسر وجلس القرفصاء أمامها يهمس في هيام ونظرات مغرمة :
_ أنا أضطريت اربطك عشان متحاوليش تهربي متي ياشفق لكن صدقيني أنا مستحيل أذيكي والله ، كل اللي عايزه تكوني معايا بس
ضغطت على أسنانها وأجابت بصوت مكتوم وبه لمسة شرسة :
_ سيبني امشي ياجاسر بالذوق
تلاشت ابتسامته وحل محلها الغضب والقسوة ليقول بلا رحمة :
_ قولتلك مليون مرة مش هتمشي ياشفق انسي إنك ترجعيله تاني
لقد اعطته أكثر من فرصة لكي يتركها بالحسنى دون أن تأذيه ولكنه أصر على أن تنفذ ما ينغز به الشيطان عقلها منذ أن أخذت السكين من منزلها .
اخرجت يدها من خلف ظهرها وغرزت السكين في فخذه فأطلق صرخة متألمة جلجلت المكان ، لتثب هي واقفة وتركض مسرعة للخارج ، ورغم إصابته تحامل على نفسه عندما رآها تهرب وهب واقفًا ليسرع خلفها حتى يلحق بها ، جذبها من ذراعها فصرخت هي بأعلى قوة لديها وهي تحاول الفرار منه ودفعه بعيدًا عنها حتى نجحت وأكملت ركضها ولسوء حظها أن المكان كان مليء بالحجارة بعضها كبير والبعض الآخر صغير ، فتعثرت في أحدهم وسقطت لتصطدم رأسها بأحد الحجارة الكبيرة وتفقد وعيها في الحال وتبدأ الدماء في السيلان من رأسها !!! ……..
فتحت عيناها ببطء شديد لا تتذكر شيء ولا تدري مالذي يحدث فقط رأت ضوء الشمس المتسلل من النافذة إلى الغرفة فهمست بخفوت :
_ كرم .. كرم فين ؟
ابتسمت رفيف بفرحة وقالت في تلهف :
_ شفق إنتي كويسة ؟
نظرت لها عندما انتبهت لصوتها وتمتمت بصوت ضعيف ومتألم وهي تضع يدها على رأسها :
_ هو إيه اللي حصل يارفيف ، أنا راسي وجعاني أوي
استقامت الأخرى واقفة وهتفت باهتمام :
_ أنا هروح اندهلك الدكتور وأجي
وبظرف لحظة هرولت رفيف للخارج حتى تنادي الطبيب ليطمئن على وضعها الصحى ، بقيت شفق تحدق في الغرفة من حولها كتائه تحاول تذكر ماحدث بالأمس وأول شيء تذكرته هو مشهد زوجها وهو ملقي على الأرض والدماء تسيل من جسده ومن ثم توالت على ذهنها بقية أحداث الأمس لتتذكر كل شيء بالتدريج ، لم تهتم لأي شيء عن ماذا حدث أو كيف أتت لهنا وماذا حدث لابن عمها ! .. فقط انشغل ذهنها وازداد رعبها قلقًا وخوفًا على زوجها ، فتحاملت على نفسها واعتدلت في نومتها لكي تنهض وتذهب لتطمئن عليه ، كانت بيد تستند على الفراش لتقوم وباليد الأخرى تمسك بها رأسها التي زاد ألمها عندما حاولت النهوض وبينما كانت على وشك أن تغادر الفراش دخل الطبيب بصحبة رفيف .
اسرع الطبيب نحوها وهو يقول بحزم بسيط :
_ بتعملي إيه يامدام شفق مينفعش تقومي من السرير دلوقتي خالص ، لازم ترتاحي شوية عشان الجرح اللي في راسك
هرولت رفيف إليها فنظرت شفق إليها وقالت بأعين دامعة وبنبرة صوت مرتعدة :
_ أنا عايزة اروح اشوف كرم وحشني أوي وعايزة أطمن عليه يارفيف
ملست رفيف على ذراعها بحنو مغمغمة بابتسامة صافية :
_ اطمني الحمدلله كرم بخير وزي الفل ارتاحي إنتي زي مابيقولك الدكتور بس
قالت باصرار وعناد :
_ لا أنا لازم اروح اطمن عليه بنفسي
اقترب الطبيب منها متمتمًا بوجه بشوش محاولًا تهدئتها :
_ طيب ممكن اطمن أنا عليكي الأول وعلى وضعك وبعد كدا اعملي اللي تحبيه
نقلت نظرها بينهم بتفكير ثم استسلمت للطبيب الذي بدأ يفحصها ويطمئن عليها ، ثم هتف بعذوبة :
_ الحمدلله إنتي زي الفل بس محتاجة ترتاحي على السرير على الأقل ليوم عشان ألم الرأس ميتضاعفش عليكي
_ شكرًا جدًا يادكتور
قالتها رفيف ممتمنة بابتسامتها اللطيفة ليجيب عليها هو :
_ العفو على إيه ده واجبي ، ألف سلامة عليها
استدار وغادر الغرفة بأكملها ولاتزال شفق مصرة على الذهاب حيث همت بالوقوف فقبضت رفيف على ذراعها تقول بدفء ورزانة :
_ شفق ارجوكي اسمعي الكلام وبلاش عند ، والله العظيم كرم كويس وزي الفل وفاق كمان الصبح ونقلوه لغرفة عادية
تهللت اسرايرها وأشرق وجهها المنطفيء بضحكة غمرتها بالسعادة :
_ بجد والله فاق
_ أيوة بجد .. بس بقى متتعبهوش وتروحيله وإنتي تعبانة كدا ، صدقيني هيتعب أكتر اصبري شوية تفوقي كويس بس وبعد كدا نروحله ، احنا قولنا ليه لما سأل عليكي أول مافاق إنك تعبتي شوية وارهقتي واجبرناكي تروحي البيت وتريحي شوية ، مقولناش ليه حاجة عن اللي حصل وإلا كان هيتعصب وهيتعب أكتر
عادت وادمعت عيناها من جديد لتقول بصوت باكي ومبحوح :
_ يعني هو كويس بجد يارفيف متخبيش عليا بالله عليكي
ضحكت رفيف بخفة وهتفت بشيء من المرح :
_ احلفلك بإيه اكتر من كدا ، والله كويس بعدين إنتي مش شيفاني بضحك وبهزر إزاي ، معقول هو لو تعبان هبقى مرتاحة ومبسوطة كدا
رفعت كف يدها إلى عينيها تجفف دموعها المتجمعة بهم وهي توميء برأسها بالإيجاب مهمهمة بنبرة رقيقة :
_ طيب أنا هصبر شوية لغاية ما اقدر اقف على رجلي حتى وبعدين هتوديني ليه
اجابتها مبتسمة وهي تشير بسبابتها إلى عيناها :
_ من عنيا
***
_ زين فين ياحسن ؟!
_ بيخلص كام حاجة في الشركة وجاي .. أنا لسا جاي من عند رفيف وشفق وتعبانة أااااا
وسعت هدى مقلتيها في حزم وأشارت بسبابتها إلى شفتيها تقطعة عن استكمال كلامه ، ونظرت إلى الباب واغلقته جيدًا حتى لا يصل كلامهم إلى مسامعه ، وهتفت بنبرة جادة ومنخفضة :
_ شششش اوعي تجيب سيرة قدام أخوك عن اللي حصل لمراته ليتعب اكتر ، هو بيكتم في نفسه ومش بيظهر حاجة لو تشوفه عامل إزاي من وقت ما قال الدكتور إنه هياخد فترة مش هيمشي على رجله
سكتت عن الكلام وانهمرت دموعها لتكمل ببكاء ووجع :
_ اللهم لا اعتراض عليك يارب ، أنا مش عارفة بيحصل معانا كدا ليه .. الأول زين وحصل معاه برضوا زي كرم كدا ، ودلوقتي خايفة عليك إنت ياحبيبي
ضمها إلى صدره وقبل رأسها وهو يملس على ظهرها بحنو وهمس مداعبًا إياها حتى يضفي بعض المرح ويخرجها من حزنها :
_ إيه يادودو إنتي بتفولي عليا ولا إيه ؟!!
هدى بصوت باكي :
_ بعد الشر عليك ياحبيبي ، ربنا يحفظكم ليا وميورنيش فيكم حاجة وحشة أبدًا
أبعدها عن صدره وقبّـل رأسها بحب هامسًا بنظرات حانية :
_ طيب امسحي دموعك دي ياماما خلاص عشان ندخله متخلهوش يشك في حاجة ، والحمدلله إنه بخير وموضوع رجله ده هين وبالعلاج الطبيعي هيرجع زي الاول واحسن متقلقيش
رفعت يدها للسماء ودعت الله بأن يشفي لها ابنها ويعود كما كان ، بينما حسن فلف ذراعه حول كتفيها ودخل معها له .
وجودوا كرم ينظر لهم بنظرة مريبة قليلًا وكأنها ساخطة أو قلقة ، تبادلت هدى مع حسن النظرات المستغربة حتى سمعوا صوته الغليظ وهو يسألهم :
_ شفق مالها ياماما
ارتبكت هدى وقالت باسمة بطبيعية مصطنعة :
_ مالها ؟!!
بدأ الضجر الحقيقي يظهر عليه حيث أجابهم بصرامة :
_ أنا سمعت حسن وهو بيقول إنه كان جاي من عندها ولسا مكملش كلامه قاطعتيه وقفلتي الباب عشان مسمعش
تنهد حسن بعدم حيلة ولم يجيب عليه بل اتجه وجلس على مقعد وثير متوسط الحجم دون ان يتفوه بنصف كلمة ، أما هدى فقالت مخترعة كذبة فاشلة :
_ هيكون مالها يعني يابني .. حسن كان جاي من البيت وبيطمني عليها وأنا قفلت الباب عشان افتكرتك نمت وخفت تصحي على صوتنا
حرك عيناه عليهم في نظرات ثاقبة ثم قال بهدوء لا يبشر بالخير :
_ ماما أنا مش عبيط عشان تضحكوا عليا بالكلمتين دول ، في حاجة بتحصل وإنتوا مخبين عني ، مهو مش معقول شفق تعبت ومشيت تريح في البيت ومش هتاجي تطمن عليا لما فوقت حتى
شعرت بأنها احتجزت في المنتصف فنظرت إلى حسن وهتفت شبه منفعلة :
_ ماتقول حاجة ياحسن لأخوك ده .. مصمم يعصب نفسه على مفيش وهو تعبان
_ وأنا مش هتعصب لو شفت مراتي ، عشان اللي بيحصل ده مش داخل دماغي ومش هرتاح غير لما اشوفها قدامي
هدى بنفاذ صبر ونبرة هادئة ولطيفة :
_ وهتروح تشوفها إزاي بس يابني ، إنت مسمعتش الدكتور قال إيه
صاح بهم منفعلًا وبعصبية :
_ أنا مليش دعوة بكلام دكتور ، إن شاء االه تجبولي زفت كرسي متحرك .. مش هفضل قاعد ……
توقف عن الكلام ووضع يده على موضع جرحه الذي ألمه عندما أنفعل ورفع صوته ، ليهب حسن واقفًا ويقول بإذعان لرغبته :
_ خلاص هدي نفسك ياكرم هروح اجبلك كرسي وأجيلك
اسرعت نحوه هدى وجلست بجواره على الفراش تهتف بأسى وإشفاق :
_ بتعمل في نفسك كدا ليه يابني .. مش عايز تريح نفسك ليه لغاية ما ربنا يتمم شفاك على خير
أغمض عيناه بألم وهمس بخفوت متحملًا الألم بصعوبة :
_ أنا كويس ياماما
هدى بقلق وخوف :
_ أنا هروح اندهلك الدكتور
همت بأن تقف ولكن خرج صوته محتشرج وقوي وهو يرفض رفض قاطع بخنق :
_ مش عايز دكاترة أنا
أصدرت هدى تنهيد حارة بشجن واستقامت ثم انحنت عليه وطبعت قبلة حانية على شعره متمتمة بصوت جاهدت في إظهاره طبيعيًا :
_ طيب مش هندهه بس ابوس إيدك متعصبش نفسك ياحبيبي ، إنت شوفت أهو لما اتعصبت تعبت إزاي
رفع نظره إلى أمه وطالعها بدفء أخيرًا يحتضنها بنظراته ثم التقط كفها وقبل ظاهره بلطف وهو يبتسم لها بحب فبادلته إياها ولكن ابتسامتها هي كانت أمومية تحمل كل ضروب الحنان في ثنايها .
***
فُتح الباب ببطء ودخل وهو يسير على كرسي متحرك وخلفه أمه تدفع به الكرسي في رفق ، وثبت رفيف واقفة باندهاش وكانت على وشك التحدث لولا كرم الذي أشار إلى شفتيه بسبابته حتى لا تتكلم وتوقظ ” شفق ” ، فنقلت نظرها بين أخيها وأمها بحيرة لتهز هدى كتفيها لأعلى بعدم حيلة وتتنهد رفيف الصعداء بعدما فهمت إصرار أخيها في اطمئنانه على زوجته بنفسه .. اقتربت منه وانحنت علي أذنه تهمس بعينان متعلقة على شفق النائمة في الفراش بهدوء :
_ فضلت تقاوم وكانت مصممة إنها تاجيلك في الأوضة بس مقدرتش تقاوم ونامت من التعب
هز رأسه بالتفهم ثم رفع عيناه إلى شقيقته وتمتم بخفوت تام :
_ طيب خدي ماما يارفيف واطلعوا وسيبوني معاها وحدي شوية
انتصبت في وقفتها ونظرت لأمها بانفطار قلب على وضع أخيها ولم يكن حال هدى أفضل منها ولكنهم امتلثوا لطلبوا وغادروا الغرفة ليتركوه ينفرد في الحديث مع زوجته على انفراد ! .
تحرك بمقعده ليقترب من فراشها أكثر فأصبح أمامها مباشرة ، دقق النظر في جبهتها المجروحة واللاصق الطبي الذي يخفي جرحها .. كذبوا عليه وأخبروه بأنه مجرد إرهاق وتعب ولكن يبدو أن ليلة غيابه عن الواقع حدث فيها الكثير وهم يخفوا عنه الحقيقة ، مد يده وملس بأنامله على وجنتها بلطف قاصدًا إيقاظها مع ابتسامة مشتاقة على شفتيه .. فتحت هي عيناها تدريجيًا وحين ادركت صورته أمامها ، وثبت جالسة كالذي لدغه عقرب !! ، حدجته بصدمة وهمست بأعين تلمع بوميض السعادة :
_ كرم
ابتسم لها بحب فغامت هي عيناها بالعبارات في لحظتها وغارت عليه ترتمي بين ذراعيه ، تعانقه بقوة وحميمية دافنة وجهها بين ثنايا رقبته ، المته بشدة عندما ارتمت عليه بكامل حمل جسدها ، فأصدر هو أنينًا خافتًا متألمًا .. ارتدت مبتعدة عنه بهلع هاتفة بأعين باكية :
_ أنا آسفة مقصدش والله
ثم امسكت بوجهه وادارته يمين ويسارًا مغمغمة بنبرة مرتعدة ومرتشعة :
_ إنت كويس ياحبيبي ، طمني عليك
امسك بكلتا كفيها وقبَّل كل كف على حده هامسًا بحنو امتزج بمشاكسة لطيفة :
_ أنا كويس ياقلب حبيبك .. بعدين أنا متصبتش في وشي ياشفق
لم تهتم لما قاله أو حتى مشاكسته حيث عادت وعانقته ولكن هذه المرة بحرص وهتفت باكية بعنف وصوت متقطع :
_ إنت وحشتني أوي .. كنت هتجن من الخوف عليك ، إنت عارف إني مليش غيرك ولو حصلك حاجة مش هقدر أعيش من بعدك ، أنا أساسًا مكنتش عايشة إمبارح .. لو هتمشي خدني معاك متسبنيش وحدي ، إنت وعدتني إنك مش هتسبني في الدنيا دي وحدي
لثم كتفها ورقبتها برقة هامسًا في هيام :
_ بعد الشر عليكي ياحبيبتي مسمعكيش بتقولي الكلام ده تاني .. ثم إني مسبتكيش واديني قدامك أهو ياشفق ، وأنا عند وعدي طول ما فيا نفس مش هسيبك أبدًا
اكملت نوبة بكائها العنيفة واحتضنته تُقبل كل أنش في وجهه من بين بكائها تهتف بارتجافة :
_ ربنا يخليك ليا .. متسبنيش تاني ياكرم ولو لحظة أنا من غيرك اضيع
استسلم تمامًا لقبلاتها الرقيقة والناعمة من شفتيها على وجهه وأغمض عيناه متلذذًا ليجيبها مداعبًا :
_ أنا بعد الكام بوسة دول حاسس إني بقيت زي الفل
_ إنت إيه اللي قومك من سريرك ياكرم .. إنت لسا طالع من عملية إمبارح ومحتاج ترتاح
قالت كلامها بحزم واهتمام فهتف هو بكل بساطة :
_ كنت قلقان عليكي ومكنتش هرتاح إلا لما اشوفك قصاد عيني ، وممكن بقي تفهميني إيه اللي حصل معاكي
مد أنامله وجفف دموعها في لطف ثم اقترب وقبلها من جانب ثغرها هادرًا بنظرات جادة ونبرة دافئة :
_ مين اللي عمل فيكي كدا ياحبيبتي ؟
اجفلت نظرها أرضًا وقالت بكذبة فاشلة وواضح اختراعها في محاولة بائسة لكي تلهيه عن الحقيقة :
_ محدش عملي حاجة أنا وقعت واتعورت
رمقها بنظرات حادة ومريبة يحذرها من الكذب عليه وهدر في صوت قوي :
_ شــــفــــق !!!
ابتلعت ريقها بتوتر وقالت محاولة تغير مجري الموضوع ولكن بذكاء :
_ طيب أنا مش هخبي عليك والله ، بس هحكيلك لما وضعك يتحسن أكتر عشان متتعصبش وتتعب ياحبيبي
لمعت عيناه بمويض ناري مخيف وهو يسألها بصوت خشن :
_ عمك وجاسر اللي عملوا معاكي كدا صح ؟!
_ كرم ابوس إيدك ياحبيبي ماتشغل بالك بالمواضيع دي دلوقتي أنا كويسة وبخير الأهم إنت ، وأنا وعدتك إني هحكيلك كل حاجة .. ممكن بقى نروح اوضتك عشان تريح على سريرك لأنك ممكن تتعب كدا
قرب رأسها من شفتيه ليقبل جبهتها موضع جرحها بحب ويهتف بوعيد حقيقي امتزج بحنانه :
_ أنا آسف كان لازم أخد احتياطاتي عشان مديش الفرصة لعمك الحيوان ده أنه يقرب منك أو يأذيكي ، بس اقسم بالله مش ……
وضعت سبابتها على شفتيه تمعنه من استرسال حديثه وتنحني لترتمي بين ذراعيه هامسة بهيام :
_ أنا مش عايزة حاجة غير إنك تكون كويس وجمبي ، ممكن بقى كفاية مشاكل وخلينا نركز في حياتنا ياحبيبي .. أنا معنديش استعداد اخسرك إنت كمان
لم يعقب على كلامها وتركها تنعم بلحظاتها الغرامية والمشتاقة له وهي بين ذراعيه ، وحاله لم يكن يختلف عنها حيث أنه ضمها أكثر إليه يستنشق رائحتها متلذذًا بشعور الراحة الذي يداهمه وهي بين ذراعيه ……
***
وصل زين إلى قسم الشرطة وقاد الردهة الطويلة المؤدية لمكتب الرائد حسام ، وصل أمام باب المكتب وسأله الصول من هو وماذا يريد وبمجرد ما أخبره اسمه فتح له الباب بعدما اخبره بأن سيادة الرائد في انتظاره .
استقام حسام واقفًا وصافح زين بحرارة مبتسمًا بعذوبة وهو يقول :
_ اتفصل يازين .. طمني على كرم اخباره إيه
جلس زين على المقعد الخشبي الوثير المقابل لمكتبه وقال متنهدًا براحة :
_ الحمدلله فاق ووضعه بقى زي الفل
ردد حسام براحة ” الحمدلله ” ثم انتصب في جلسته وظهرت معالم الرسمية والجدية على وجهه قبل أن يبدأ في حديثه الذي كان كالآتي :
_ إنت طبعًا ادتني ورق وسيدهات كنت ماسكها على كمال الحسيني توديه ورا الشمس وهو في السجن دلوقتي ، وامبارح بعد ما ممسكنا جاسر لقينا ده في جيبه
رفع أمامه SD فعقد زين حاجبيه مستغربًا وقال بفضول ونظرة ثابتة :
_ إيه SD ده وفيه إيه ؟!
_ لحظة هخليك تسمعه بنفسك
كان بجانبه جهاز الحاسوب النقال فوضع بداخله ذلك SD وماهي إلا لحظات وبدأ فسمع صوت جاسر وهو يهتف بعصبية :
_ وإيه الحل دلوقتي ، أنا خلاص هقبل بالأمر الواقع وهستسلم مثلًا يابابا
هتف كمال بسخرية وغضب :
_ احمد ربك بأن سيف اكتفي باللي عمله فيك ، إنت متوقع إنه هيسمحلك تتجوز اخته بعد اللي عملته ده إنت حاولت تعتدي عليها يا أستاذ وإنت سكران
صرخ منفعلًا بجنون :
_ شفق خطيبتي وميقدرش يفسخ الخطوبة .. أنا مكنتش في وعي
_ إنت تكتم خالص وتحمد ربك إن محدش عرف لغاية دلوقتي إنك حاولت تقتل سيف وأنا مداري عليك كل ده
توقف الصوت وانتهي التسجيل فبقي زين مذهولًا يحدق أمامه في عدم استيعاب لما سمعه ، حتى أتي صوت حسام المستاء وهو يهتف بنظرة نارية :
_ محاولة قتله لظابط ومن اكفأ الظباط دي جريمة وعقابها مش سهل ده غير محاولة اعتدائه على مدام شفق زي ما سمعت ، وفوق ده كله الكلام ده هيصعب موقف كمال اكتر لأن فوق كل اللي عمله هو يعتبر مشترك مع ابنه في اللي عمله ده كمان
وقف زين وهو يزفر النيران من بين شفتيه ويترنح من فرط الغيظ متمتمًا :
_ دول متعودين على القتل بقى أه ياولاد ال…..
مسح على وجهه متأففًا يستغفر ربه ولم يكمل سبه فيهم ، استقام حسام هو الآخر وسأل بحيرة :
_ اللي مستغربه هو يشيل حاجة زي كدا معاه ليه ؟!
_ أكيد شفق اللي كان معاها التسجيل ده وهي كانت عايز تسلمه للبوليس وهو لما عرف خطفها
حسام بنظرات بها وعيد شيطاني :
_ اطمن أنا هوصي عليهم كويس أوي
***
في مساء ذلك اليوم ……
انفتح الباب وظهر من خلفه علاء ، كان وجهه عابس ومهمومًا يبدو عليه علامات الإرهاق والتعب ، لتهتف أمه بسرعة في قلق :
_ أخبار كرم إيه ياعلاء .. أبوك اتصل بيا الصبح وقالي إنه فاق
تحرك باتجاه الأريكة وجلس عليها يتمتم بخنق :
_ كويس ياماما الحمدلله بقي كويس
_ امال مالك يابني مضايق كدا ليه ؟
_ طبيعي اضايق ياماما على وضعه ، هما ولاد ال**** دول نفدوا منينا لما اتسجنوا
ملست على كتفه بحنو مردفة بدعاء يخرج من صميم قلبها :
_ ربنا يشفيه يارب .. وكدا أفضل لما القانون يعاقبهم
كانت ميار تجلس على أحد المقاعد وتطالعه بتأثر وأسى فهب هو واقفًا وانتبه لها فقال بإيجاز وهو يسير باتجاه الدرج :
_ تعالي ورايا ياميار عايزك
خرج صوت الأم قوي وهي تهدر :
_ لا أنا عايزة اتكلم مع ميار شوية ، اقعدي
أصدر علاء تنهيدة حارة باختناق ثم قال بلهجة حازمة بعدما فهم والدته جيدًا :
_ وأنا عايز مراتي دلوقتي ياماما ، معلش اجلي كلامك معاها بعدين لو سمحتي
وقفت ميار في المنتصف وهي تنقل نظرها بينهم هم الأثنين ، تتفهم علاء ولما يرفض حديثهم وبنفس اللحظة هي أيضًا تريد التحدث معها ، فنظرت لزوجها وهزت رأسها بإيحاب واعين دافئة وهي تهمس :
_ خلاص اطلع ياعلاء وأنا هشوف طنط عايزة إيه وهاجي وراك
وقف يتطلع في كلاهما بعدم حيلة ثم تركهم وصعد الدرج متجهًا لغرفته ، تحركت ميار لتجلس على الأريكة بجانب زوجة عمها وتهمهم بهدوء تام :
_ نعم
_ اظن إنه كفياكي أوي لغاية كدا مع ابني
أخذت نفسًا عميقًا واخرجته زفيرًا متمهلًا لتجيبها بصوت رخيم وأعين منطفئة :
_ أنا نفسي افهم إنتي ليه بتكرهيني !!
قالت بجفاء وعدم مبالاة بأمرها :
_ أنا مش بكرهك ياحبيبتي ، بس مش عايزاكي تكوني مرات ابني .. عشان علاء يستاهل واحدة تكون أفضل منك بمية مرة ، مش واحدة شرفها بقى في الأرض بصورها اللي شافها الكل
كانت عيناها على وشك زرف الدموع ولكنها شدت على محابسهم وأجابتها بقوة ولكن صوتها به غصة مريرة :
_ أنا مظلومة ومعملتش حاجة غلط .. عارفة إنه علاء راجل وكويس وألف من يتمناه ويستاهل الأحسن مني ، بس أنا بحبه بجد ومش عايزة أبعد عنه وهحاول أعمل كل حاجة عشان اسعده ، إنتوا من قبل ما يحصل اللي حصل ومحدش فيكم كان بيحبني هو الوحيد اللي حسيته عايزني بجد ، ارجوكي يامرات عمي متفرقهوش عني ، وسبيني اثبتلكم واثبتلك إني استاهله
طالعتها زوجة عمها بصمت ونظرات ثاقبة كالصقر دون أن تتحدث ببنت شفة وهي تفكر في حديثها وتعقله في ذهنها جيدًا بينما هي فاستقامت وهرولت إلى الأعلى تفر هاربة منها قبل أن تفقد زمام نفسها وتنفجر أمامها باكية !! ……
***
انفردت بنفسها في الغرفة وأجابت على الهاتف بنبرة عادية :
_ الو
_ أيوة يارفيف عاملة إيه ؟
جلست على الفراش وتنهدت بتعب متمتمة :
_ الحمدلله يا إسلام بخير وإنت
أجابها بخفوت واهتمام :
_ أنا كويس .. إنتي تعبانة ولا إيه مال صوتك ؟
رفيف بصوت مرهق :
_ أهاا شكلي داخلة على دور برد بس اخدت علاج وبقيت احسن عليه الحمدلله
تمتم في تلقائية ونبرة صوت تنسدل كالحرير ناعمًا ودافئًا :
_ الف سلامة عليكي خدي بالك من نفسك
خجلت بعض الشيء ولم تجيبه فتسمع صوته من جديد وهو يقول براحة وصلتها من نبرة صوته :
_ أنا كنت عندي كرم الصبح والحمدلله كان زي الفل ، حمدلله على سلامته
عبس وجهها من جديد بعد أن كانت على وشك أن تدخل السكينة لنفسها وتمتمت بقلب منفطر :
_ الله يسلمك .. والله يا إسلام أنا خايفة عليه أوي ، خايفة ميكونش الموضوع بسيط وخلاص زي ما قال الدكتور ومع العلاج هيرجع يمشي
_ لا متخافيش طالما قال الدكتور أنه بالعلاج الطبيعي هيبقى زي الفل يبقى اطمني .. ثم إني شفت وضعه بنفسي هو وضع رجله من سيء للدرجة دي كل مافي الموضوع أن في صعوبة ومش بيقدر يحركها بسهولة وده شيء بسيط الحمدلله وبالعلاج بيتحسن
اتاه صوتها المترجي من الله وهي تتمني بصوت مسموع :
_ يارب .. يسمع من بقك ربنا يا إسلام
عم الصمت بينهم للحظات حتى هتف هو بصوت رجولي هاديء يحمل كل ضروب اللطف والرقة :
_ طيب أنا كنت جايبلك هدية والمفروض إنها مفاجأة كنت هبعتهالك بكرا على البيت بس بما إنك متضايقة وده واضح من صوتك فهبعتلك صورتها دلوقتي يمكن تفرحك وتخرجك من المود
ابتسمت بتلقائية وقالت بعفوية :
_ بجد هدية إيه ؟!
_ ثانية خليكي معايا هبعتلك صورتها في رسالة على الواتس آب
امتثلت لطلبه وبقيت تنتظر وصول الرسالة ومازال الاتصال مفتوح بينهم ولكن لا يوجد صوت ، وأخيرًا وصلت الرسالة فاسترعت وفتحتها لتجد صورة بها ” دبدوب ” ضخم من اللون الأبيض الناصع ، بهرت به وأعحبها بشدة فوضعت الهاتف على أذنها وقالت بسعاظة غامرة واضحة في صوتها :
_ الله جميييل أوي أنا بحب الدباديب جدًا ، ميرسي يا إسلام على الهدية الحلوة دي
ضحك بخفة وأجابها مداعبًا :
_ الحمدلله إنه عجبك أنا جبته وكنت خايف تكوني مبتحبيش الدباديب ، بس بعد ما سمعت صوتك كدا أنا اتأكدت إن هدفي من الهدية وصل
ابتسمت باستحياء ولم يأتيه صوت منهة ففهم أنها خجلة بعض الشيء ليقول مبتسمًا بخفوت :
_ هيوصلك إن شاء الله بكرا الصبح
_ إن شاء الله مستنياه بفارغ الصبر
عم الصمت بينهم من جديد وكل منهم يبحث عن شيء ليقوله ولكن كلاهما لا يجدوا ما يقولوه ، فتشجعت هي وهتفت بحياء واضطراب ملحوظ في صوتها :
_ طيب تصبح على خير بقى
_ وإنتي من أهله
بمجرد ما أن سمعت هذه الجملة انهت الاتصال فورًا وعادت تفتح الرسالة من جديد وتمعن النظر في هديته وهي مبتسمة بفرحة طفولية !! ……..
***
فتحت باب الغرفة ودخلت ثم اغلقته خلفها بهدوء تام وسارت باتجاه الفراش لتلقي بجسدها عليه وتنفجر باكية بصوت مرتفع وصل لأذنيه في الحمام .. حيث كان يأخذ حمام دافيء ليزيح عن جسده تعب النهار الطويل فسمع صوت شهيقها وبكائها ، عقد حاجبيه بدهشة وقلق وفورًا خرج من أسفل الماء ولف حول نصف جسده منشفة وخرج لها ، اسرع إليها وجلس على الفراش يمسك بها ويبعد خصلات شعرها عن وجهها هاتفًا بقلق :
_ ميار مالك .. ماما قالتلك إيه ؟!
لم تجيبه واكملت بكائها العنيف دون أي أجابة فعاد يسألها ولكن هذه المرة بجدية وهو يحاول أن يرفع وجهها ليراه :
_ ميار ردي عليا !!
اعتدلت وارتمت بين ذراعيه واضعة رأسها على صدره العاري غير مهتمة بالماء التي على جسده بسبب أنه لم يجفف جسده وخرج لها مهرولًا .. هتفت ببكاء قوي :
_ ليه محدش بيحبني ياعلاء .. ليه كلكم بتكرهوني !!
ملس على شعرها وخرج صوته رجولي صلب وهو يسألها بحدة :
_ طيب ردي عليا وقوليلي ماما قالتلك إيه ؟!!
ابعدت رأسها عن صدره ورفعت عيناها إلى وجهه تقول بخفوت رقيق ونظرات دامعة وبريئة :
_ مقالتش حاجة أنا مضايقة إنها مش بتحبني وشيفاني وحشة وهأذيك ، ومش هي بس لا الكل شايفني كدا
أبعدها عنه تمامًا واستقام واتجه إلى خزانة الملابس ليخرج له ملابس ليرتديها ويقول باستياء :
_ أنا هنزل اتكلم معاها
وثبت واقفة ومنعته بصرامة وضجر حقيقي وهي تنهاه بتحذير :
_ عارف لو نزلت واتكلمت مع مامتك في أي حاجة هتبقى خسرتني أنا .. هي مقالتش حاجة غلط أساسًا ولا زعلتني أنا زي ماقولتلك زعلانة بسبب إني نفسي تحبني ومتبقاش بتكرهني كدا
حدجها بصمت للحظات وبدا لها أنه استسلم لرغبتها ولكنه عاد يكمل إخراج ملابسه فهتفت هي بخنق :
_ علاء أنا بتكلم بجد
_ ماشي يا ميار مش هنزلها خلاص
_ امال إنت بتعمل إيه ؟!!
نظر لها وقال ببساطة شديدة :
_ بطلع هدوم عشان البس ولا هقعد كدا يعني !!
قالت منصدمة وباقتضاب :
_ وإنت هتلبس قدامي يعني ولا إيه مش فاهمة ؟!!
حول رأسه ناحيتها وقال مبتسمًا بلؤم :
_ إيوة فيها إيه يعني !
_ نعم هو إيه اللي ايوة ده !!! .. ادخل البس في الحمام ياعلاء بلاش قلة أدب
غمز لها بعيناه في وقاحة وهمس :
_ أنا بحب البس هنا ، إنتي مضايقة ليه مش فاهم .. غمضي عينك وخلاص الموضوع اتحل
رفعت نظرها للأعلى وتأففت بقوة وهي تهتف بغيظ :
_ استغفر الله العظيم يارب
كتم ضحكته وامسك بالمنشفة يوهمها بأنه سيفعلها كنوع من مناكشتها ، فشهقت هي بصدمة واستدارت فورًا توليه ظهرها وتخفي عيناها بكفها صائحة به بسخط :
_ علااااااء .. إنت dirty أوي على فكرة
انفجر ضاحكًا وأجابها من بين ضحكه :
_ أنا مكنتش هعملها .. كنت بشتغلك بس وإنتي صدقتي طبعًا ، بس ما علينا أنا داخل البس في الحمام عشان ترتاحي
ظلت كما هي على وضعها توليه ظهرها حتى سمعت صوت خطواته يتجه إلى الحمام وعندما سمعت صوت غلق الباب التفتت بجسدها وهي تضحك مغلوبة على أمرها وتهمس :
_ منحط بصحيح !
***
جذبت مقعد صغير ووضعته أمام الفراش وجلست عليه ثم ظلت تتأمل ملامحه الهادئة والجذابة وهو نائم ، كيف أنه وسيم حتى في تعبه ، معالم وجهه تنضج بالحنو والدفء عندما تراه هكذا لا تصدق أن هو نفس ذلك الرجل المرعب الذي يتحول إليه عندما يغضب ، يستطيع في لحظة الخروج من قوقعة لطفه وحنانه إلى حقيقة مخيفة عنه ، لكنها لا تبالي بأي شيء سوى وجوده بجوارها أحبته بطلف وحنانه وستظل تحبه حتى في لحظات سخطه وتحوله للشخصية القاسية والمريبة ، كان دومًا رجلًا معها بما تحمل الكلمة من معاني .. لم يتركها للحظة منذ وفاة أخيها ، اهتم بها كأنها ملزمة منه ، حافظ عليها وأحبها وكان لها كالحصن المنيع الذي تحتمي خلفه ، والآن هي أكثر من مجرد متيمة به ! .
مدت أناملها الرقيقة وغلغلتها في خصلات شعره وعبثت به في رقة ، ثم انحنت عليه وطبعت قبلة على جبهته ونزلت بشفتيها إلى وجنته تلثمه بكم مفرط من اللطافة والرقة ، لدرجة أنه فتح عيناه من النوم على أثر لمساتها وهو يبتسم ، لاحظ أن الشمس لم تشرق بعد وأنهم بالمساء فقال بخفوت وصوت ناعس :
_ صاحية ليه لغاية دلوقتي ؟!
هزت كتفيها بعبث وهمست في رقة أنوثية مغرية :
_ مش جايلي نوم ، فقولت افضل صاحية عشان لو صحيت وعوزت حاجة تلاقيني موجودة
افسح في فراشه وتحرك بصعوبة على الجانب وببطء ثم أشار على الجزء الفارغ بجواره وهتف بعاطفة جيَّاشة :
_ تعالي نامي في حضني
قاست حجم الفراش بعيناها وقالت بعبوس :
_ السرير صغير ياكرم مش هيكفينا وبعدين أخاف انام جمبك وإنتي لسا جروحك ملتأمتش
رفع كفه وملس على وجنتها بنظرات تنضج بالعشق وبصوت يذيب القلب :
_ مفيش حاجة بتأذيني إلا بعدك عني ، يلا تعالي
لم تتمكن من الاعتراض بعد جملته الغرامية التي قالها ففعلت على الفور والتفتت لتتمدد بجواره فيفرد هو ذراعه بجواره على الفراش لتضع رأسها على صدره ويلف هو ذراعه حول جسدها يضمها إليه أكثر وبشفتيه يثلم شعرها بقبلات متتالية ثم استحوذ عليهم الصمت لدقائق حتى هتفت هي بصوت خافت :
_ كرم هو ممكن حد يدخل !
_ محدش هيدخل وحتى لو حد دخل هيخبطوا الأول اطمني
اكتفت بالصمت ليتمتم هو بخبث شبه ضاحكًا :
_ أنا في حجات كتير نفسي أعملها دلوقتي بس زي ما إنتي شايفة وضعي ورجلي يعني الصحة يدوبك الحمدلله
لو تركت نفسها تفكر في حديثه لعبست وحزنت بشدة ولكنها ارادت إضفاء جو مرح على جلستهم حيث أجابته بمداعبة ضاحكة :
_ لا صفي النية ياكوكو عشان ربنا يشفيك بسرعة ويقومك ليا بالسلامة وصدقني أنا اللي هظبطك بس إنتي قوملي بالسلامة كدا
_ طيب إنتي مش شايفة إن كدا أنا هخلل .. خصوصًا إن العلاج الطبيعي لرجلي هيطول شوية فنستني ليه ماتظبطيني دلوقتي !
لم تتمكن من تجاهل حزنها وشعورها بنبرة الحسرة والمرارة في صوته ، لتعتدل في نومتها وترفع رأسها عن صدره لتلثم جانب ثغره وتتمتم بحنان جارف وأعين كلها عشق :
_ أنا معاك وجمبك لغاية ما ربنا يقومك ليا بالسلامة وترجع تمشي على رجلك من تاني .. والدكتور قال الموضوع بسيط فمتضايقش نفسك ياحبيبي ، ثم إن لو موقفتش أنا جمبك في محنتك مين هيقف جمبك .. صدقني هكون ليك السند والضهر اللي هتسند عليه في فترة علاجك ، احنا الاتنين بنكمل بعض ياحبيبي .. مش عايزاك تشيل هم خالص وطول ما احنا مع بعض هنجتاز الامتحان ده إن شاء الله
ابتسم لها بهيام وقرب رأسها منه ليقبل رأسها مطولًا بحب ويهمس :
_ ربنا يخليكي ليا ومحرمنيش منك ياقلب حبيبك ، أنا كفاية عليا تكوني معايا بس
عادت لمرحها من جديد وغمغمت بمكر أنوثي لطيف ومضحك :
_ أيوة كدا أضحك ، تعرف إن أحد الأسباب اللي كانت بتجذبني ليك وخلتني أحبك هي ضحكتك وابتسامتك
دهشه ردها قليلًا فضحك وقال من وسط ضحكته :
_ لا والله !!!
غمزت له بعيناها في نظرات ليست بريئة أبدًا وهي تتغزل به في تغزل صريح قاصدة إضافة المرح عليهم :
_ يعني مش كفاية وسيم ومز وكمان عليك ضحكة جنان ، حرام عليك القلب اشتكي
انطلقت منه ضحكة رجولية متأججة وهتف من بين ضحكاته وهو يبادلها اللؤم :
_ طيب ماتيجي اهشتكهولك بما إن قلبك اشتكي
شفق بمشاكسة ضاحكة :
_ لا متخفش هو قلبي اتعود على كتلة الوسامة دي خلاص ، كنت بواجه مشاكل عويصة في البداية الحقيقة ومش عارفة الاقيها من فين ولا من فين .. من سامتك لا ابتسامتك ولا لطافتك ولا حنيتك ولا إيه فمكنتش عارفة اتلم على نفسي وبهنج من مجرد بس نظرة منك .. بس الحمدلله قدرت اسيطر على الوضع
لم يتوقف ضحكه حيث هتف باندهاش :
_ ياااه للدرجة دي .. مكنتش أعرف إني عاملك المشاكل ده كلها
_ شوفت بقى وسامتك عملت فيا إيه !!
_ طيب بقولك إيه ماتجيب بوسة ياجميل إنت
تصنعت الخجل والدهشة من طلبه حيث قالت وهي تجحظ عيناها :
_ كرم عييييب .. لا إنت مكنتش كدا أنا عايزة الكوكو بتاعي اللي بيتكسف
_ لا كسوف إيه بقى خلاص كان زمان وجبر ، مفيش وقت للكسوف دلوقتي ياحبيبتي
انفجرت هي الأخرى ضاحكة وعادت تدفن وجهها بين ثنايا صدره وهي تضحك فيضحك هو على طريقة ضحكها اللطيفة ! ……
***
وجدته جالس على الفراش وبيده المسبحة يذكر الله وغير منتبه لها مطلقًا ، فابتسمت بدفء واقتربت منه لتتمدد على الفراش وتضع رأسها على حجره وتسحب الغطاء على جسدها هامسة برقة جميلة :
_ زينو اقرالي قرآن بصوتك
وضع كفه على شعرها وجعل يملس عليه بحنو مبتسمًا ثم بدأ يرتل لها بصوته العذب آيات من القرآن الكريم ، فأغمضت هي عيناها متلذذة بالسكينة التي دخلت على قلبها ، مرت ما يقارب النصف ساعة وهو لا يزال يقرأ وأناملها تعبث بخصلات شعرها في لطف مما بعث لها الاسترخاء الجسدي وكانت ستغفل بين ذراعيه وعلى صوته الجميل ، لولا أنها سمعت صوته وهو يهتف ” صدق الله العظيم ” رددت خلفه ولكن بهمس غير مسموع ، مما جعله يظن أنها نامت فانحنى برأسه عليها ينظر لها بتدقيق ويتمتم :
_ ملاذ إنتي نمتي ولا إيه ؟!
هزت رأسها بالنفي ثم اعتدلت في نومتها ونامت على ظهرها فاصبحت مقابلة لوجهه تمامًا وهتفت بصفاء :
_ كنت على لحظة وهنام خلاص ، بحب اسمع صوتك أوي وإنت بتقرأ قرآن .. ماشاء الله عليك ياحبيبي
انحني عليها برأسه يخطف قبلة على مقدمة شعرها مغمغمًا بمداعبة :
_ عايزين نبدأ حفظ بقى ومن غير تلكيع ولا كسل مفهوووم
أشارت بسبابتها إلى كلتا عيناها وهي تضحك وتجيبه بابتسامة مشرقة :
_ إن شاء الله مش هتشوف الكسل ده أبدًا .. وبعدين هو أنا أطول لما الشيح زين بنفسه هو اللي يديني إحكام تجويد و يحفظني قرآن
هتف زين بضحكة بسيطة :
_ يابكاشة .. بتاكلي عيش وبتثبتيني بالكلمتين دول
تصنعت البراءة وقالت مدهوشة بوجه مبتسم :
_ أنا .. ابدًا ده إنت اللي دايمًا فاهمني غلط
اصدر ضحكة خفيفة ثم خرج صوته جادًا وتغيرت نبرته وهو يقول :
_ صحيح بعد بكرا هسافر أنا وإسلام عشان الدكتور حدد معاد العملية وهتكون يوم الخميس والنهردا الأثنين فيدوب نسافر من بكرا
اعتدلت جالسة وهزت رأسه بتفهم مردفة :
_ أيوة ماما قالتلي الصبح .. خايفة عليه والله ربنا يقومه بالسلامة ويعدي العملية دي على خير
_ متخفيش هي عملية مش خطيرة ولا صعبة وإن شاء الله هتعدي على خير
مدت كفها ومررت أناملها برقة على لحيته الكثيفة وهي تهمس ممتنة بعشق جارف :
_ ربنا يخليك ليا ياحبيبي .. مش عارفة أشكرك إزاي على وقفتك مع إسلام دي بجد
رفع حاجبه مستنكرًا كلامها السخيف والذي ضايقه حيث تشدق بغلظة صوته الرجولي :
_ تشكريني !!! .. اهلك هما أهلي ياملاذ ومفيش شكر بين الأهل ، بلاش هبل ومتقوليش الكلام ده تاني عشان متعصبش
انفجرت شفتيها باتساع ومالت برأسها على الجانب في نظرات كلها خبث ودلال أنوثي مثير حد اللعنة ، ومدت كفها الآخر تعبث بأناملها في لحيته وتقترب منه تحرك ارنبة أنفها على لحيته بطريقة جذابة :
_ من عنيا إنت تأمر .. أنا مقدرش على زعلك أصلًا
التقط أنفاسه ببطء وأبعدها بلطف عنه بعدما أحس بأنه سيفقد زمام شهواته :
_ طيب ابعدي وسيبي دقني يابنت الناس .. لازم التلامس ده
مالت شفتيها بابتسامة ماكرة والتصقت به أكثر تلف ذراعيها حول رقبته هامسة بصوت به بحة أنوثية مغرية :
_ إيه ده يازينو إنت من إمتى بتتأثر من مجرد لمسة ياحبيبي
هو ليس بحجر .. من الطبيعي كأي رجل أن يفقد سيطرته هلى نفسه عندما تكون زوجته امرأة فاتنة مثلها ، حدجها بنظرة كلها رغبة وبالرغم من ذلك تمالك نفسه بصعوبة واكتفي بالقبلة التي خطفها من جانب ثغرها وهو يجيبها بنبرة ذائبة :
_ ملاذ أنا معايا شغل الصبح بدري ياحبيبتي والله ، متخلنيش اتأخر على شغلي زي المرة اللي فاتت لما صحيت متأخر وكان معايا اجتماع .. تصبحي على خير ياملاذي
ثم مدد جسده على الفراش وتدثر بالغطاء موليًا إياها ظهره وهو يهتف ببساطة :
_ نامي ياحبيبتي الوقت اتأخر كفاية
حجبت ضحكتها وهتفت بتذمر مزيف عاقدة ذراعيها أمام صدرها :
_ طيب أنا عايزة أنام في حضنك
أخرج زفيرًا حارًا فهي تفعل كل هذه الحركات عمدًا لكي تثيره ، تسطح على ظهره وبسط ذراعه بجانبه يقول مغلوبًا علي أمره :
_ تعالي ياملاذ نامي في حضني
اظهرت عن ابتسامة عريضة وانضمت لأحضانه ، تضع رأسها على صدره الواسع والدافيء وتعانقه بقوة تستمد منه حرارة جسده لتدفئها ، فيضمها هو بذراعه ويرفع الغطاء عليهم مبتسمًا بغرام على أفعالها التي تبدو له طفولية في بعض الأحيان !! …..
***
عيناها تدور في كل ركن أمامها .. تتفحص المنزل وكأنها للوهلة الأولى تراه ، ذلك المنزل الذي شهدت فيه تعاسة لأيامها تلاحقها حتى الآن كلما تتذكرها .. تحاول التركيز على حياتها الجديدة معه وأن وضعهم لم يعد كسابقًا ، هي أصبحت يسر مختلفة وهو لم يعد ذلك الشخص القاسي وعديم المشاعر التي كانت معه .. وعدها أنه سيعوضها وهاهو يوفي بوعده حقًا .
لكن الماضي لا يتركها تنعم بالحياة التي دومًا تمنتها ، يستمر في تعكير لحظاتها ، فكيف للمرء أن يتخلص من ماضي ترك بصمة في نفسه وغيره .. هل هو بكل هذه السهولة التي يعتقدها البعض ، البعض الذين لم يعانوا من نفس الماضي !! .
رأته ينضم ليجلس على المقعد بجوارها ويسألها بتعجب :
_ قاعدة كدا ليه ؟!
ابتسمت بمرارة وقالت :
_ مفيش .. بستعيد الذكريات مع نفسي ، لما خرجت من البيت ده كنت مقررة إني مستحيل ادخله تاني ومش هرجعله ولا حتى إنت ، واديني فيه من تاني أهو
_ يسر لو مش حابة تقعدي في البيت هنا وشايفة إنه بيفكرك باللي حصل بينا .. نشتري بيت جديد ياحبيبتي ونبدأ فيه من البداية
هزت رأسها بالنفي واحتضنت كفه تتمتم بنظرات بها رجاء :
_ ده البيت اللي بدأت فيه حكايتنا وهتنتهي فيه ، أنا بس كل اللي بطلبه منك إنك متخذلنيش ياحسن
_ يعني بالله عليكي ياحبيبتي بعد كل اللي عملته عشان ارجعك ليا واخليكي تسامحيني هل ممكن اخذلك تاني .. ده أنا ابقى حمار أوي لو عملت حاجة تخليني اخسرك من تاني ووقتها استاهل كل اللي تعمليه فيا
حدجته بأعين تطلق شرارات العشق ثم عبس وجهها من جديد وهتفت بيأس :
_ المشكلة دلوقتي هقول لبابا وماما إزاي إني لسا حامل
تعكر مزاجه هو الآخر بمجرد تذكره لأمر حملها وقال مقتضبًا :
_ أنا نفسي أفهم كنتي بتفكري إزاي لما خبيتي عنينا حاجة زي كدا ، فهمت إنك كنتي ناوية تخبي عليا بسبب إني مكنتش عايزه الطفل ده بس حتى بعد ماغيرت رأى ورجعت لوعي إنتي فضلتي مستمرة في كذبتك يايسر .. أنا كل ما بفتكر بتنرفز حقيقي
_ لإن إنت السبب ياحسن .. إنت اللي خلتني معنديش ثقة فيك ، كنت خايفة على نفسي منك .. متخيل إنتي وصلتني لمرحلة إيه !!
رد عليها ضاحكًا بسخرية :
_ تخافي على نفسك مني ! ..ده على أساس إنك بريئة اوي يايسر وكنتي هتسمحيلي أصلًا إني اقربلك مثلًا ، ده إنتي كنتي بتقوليلي هقتلك لو قربت مني لو فاكرة يعني .. إنتي عملتي كدا عشان تحرقي قلبي وبذات بعد ما عرفتي إني تراجعت فحبيتي تنتقمي مني بالطريقة دي صح ولا لا ؟!
استقامت واقفة وصاحت به منفعلة بغضب عارم :
_ صح ولا غلط هتفرق بأيه .. إنت شوف أنا بكلمك في إيه وإنت بتتكلم في إيه ، غطلي ميجيش حاجة قصاد غلطاتك اللي كنت بتغاضي عنها ياحسن .. بعدين أنا بقولك مش عارفة أقول إيه لبابا بدل ما تقف جمبي وتساعدني بتتعصب عليا ، ماهو الموضوع مش هياجي فوق راسي أنا لوحدي لازم ابرر لبابا موقفي اللي خلاني اخبي عليهم وأكيد مش هروح اقولهم اللي حصل بينا وإلا هتتفتح مشاكل ملهاش آخر ، بس حضرتك ماسكلي في الغلطة اللي غلطتها وكل دقيقة والتانية تفضل تتعصب عليا بسببها ، بدل ما تفكر معايا في حل .. بس بجد حقيقي شكرا إنك اثبتلي إن إنت عايزنا نفتح صفحة جديدة مع بعض وننسي القديم فعلًا
قالت آخر كلماتها واندفعت إلى غرفتهم تدخل وتغلق الباب عليها بالمفتاح من الداخل حتى لا يتمكن من الدخول عليها ، أما هو فمسح على وجهه متأففًا .. لا يعرف كيف فقد أعصابه بهذا الشكل ، دومًا يتصرف بحماقة ومن ثم يندم ويقرر الاعتذار وهاهو سيذهب لها ليعتذر كالعادة !! .
مسك مقبض الباب واداره أكثر من مرة ولكنه لا يفتح فطرق على الباب وهتف بصوت هاديء :
_ افتحي الباب يايسر
اتاه صوتها المستاء تهدر بعصبية :
_ لا مش هفتح ياحسن عايزة افضل وحدي ممكن .. وكمان روح نام في الأوضة التانية
حسن بكل بساطة ورفض :
_ لا مش هينفع اروح انام في أوضة تاني
_ ياسلام .. وده ليه بقى إن شاء الله !!
أكمل ببرود تام وصوت خافت :
_ عشان بخاف أنام وحدي
ابتسمت باستهزاء وقالت بقرف :
_ هاهاهاها ظريف ودمك خفيف
_ عارف .. افتحي يلا بقى
صاحت بإصرار ورفض قاطع :
_ قولت لا ياحسن مش هفتح
تغيرت نبرتها من المرح إلى الجدية وهو يعتذر منها بصدق وصوت مهموم :
_ أنا آسف صدقيني مقصدش اتعصب عليكي والله ، بس أنا أعصابي تعبانة اليومين دول ومرهق بسبب كرم واللي حصل معاه .. غصب عني انفعلت عليكي اعذريني ياحبيبتي
لوت فمها وأشفقت عليه ، فهي تعرف أنه حقًا
ليس بمزاجه الطبيعي بسبب المشاكل الأخيرة ، لان قلبها عليه واتجهت نحو الباب لتفتح له ثم عادت للفراش وجلست التربيعة في منتصفه وهي لا تنظر له ، فتحرك هو باتجاهها بعد أن اغلق الباب وجلس بجوارها لينحني برأسه ويطبع قبلة على كتفها هامسًا :
_ متزعليش وهقولك أنا آسف مرة وأتنين وتلاتة كمان
نفرت بكتفها تبعد ملمس شفتيه عن جسدها وتلتفت نصف التفاتة لتعطيه جزء من ظهرها توضح له رفضها لاعتذاره ، فضحك هو بصمت واحتضنها من الخلف يضع كفه على بطنها هامسًا أمام أذنها :
_ طيب عشان خاطر المفعوص اللي من قبل ما ياجي وهو عامل مشاكل بينا ، شكله هيطلع هادي خالص ومش هتعبنا أبدًا
يسر بغيظ ونظرات بها غل :
_ هيطلع عينك ويطفشك عشان ياخد حق أمه منك
هتف مبتسمًا وهو ينزل بوحهه يدفنه بين ثنايا رقبتها :
_ وماله .. هو من دلوقتي أصلًا ومخلي هرموناتك ماشاء الله عليها وكله طالع عليا أنا للأسف ، بس مش مشكلة كله يهون عشان خاطركم
دغدغتها انفاسه الدافئة التي تلفح رقبتها وأثارت رعشة في جسدها فابتسمت ومالت برأسها للجانب تهتف بحياء بسيط :
_ ابعد ياحسن الله خلاص .. أنت ما بتصدق وتستغل الفرصة
تجاهل كلامها وشدد عليها يقربها منه أكثر ويتمتم بلؤم :
_ إنتي دلعتيني باسم غريب واحنا في امريكا .. فكريني بيه كدا
لفت رأسها تجاهه نصف التفاتة وقالت ضاحكة :
_ سنسن !
سكت للحظات يردد الاسم بين شفتيه وكأنه يتذوقه ثم قال بنظرات ليست بريئة أبدًا :
_ كمان مرة
فهمت مغزاه المنحرف وقررت السير معه لنهاية الطريق لترى نهايته حيث قالت برقة انوثية جميلة :
_ ســنســن
مد يده دون أن تشعر لضوء الغرفة واكمل همسه الماكر :
_ آخر مرة بقى
وفي اللحظة التالية فورًا وجدت الغرفة أظلمت فشهقت بفزع وضحكت بخفة تنعته بالوقح !! …
***
بعد مرور يومان ….
هرولت ملاذ مسرعة على رنين هاتفها حتى تجيب عليه بعدما توقعت أن المتصل هو زوجها فقد سافر صباح اليوم هو وأخيها للندن من أجل العملية ، وقد وصته بأنه بمجرد وصوله سيتصل بها ليطمأنه عليهم وها هو يفعل ! .
أجابت على الهاتف بصوت جميل :
_ ايوة يازين اخباركم إيه ياحبيبي وصلتوا بخير
_ بخير الحمدلله ياملاذ وقاعدين في فندق كمان .. خلي بالك من نفسك ومتقعديش وحدك في البيت البسي وروحي لمامتك تمام
_ حاضر هلبس دلوقتي واروحلها والله متخفش ااا…
توقفت عن الكلام عندما احست بدوار فجأة والاشياء من حولها دارت بها بحركة دائرية لتسمع صوته في الهاتف غير واضح وبعيد :
_ الو ملاذ إنتي معايا
تمتمت بصوت خافت وضعيف :
_ ايوة أنا معاك يازين
اكمل حديث معها ولكن انقطع صوتها تمامًا ولا يجد منها رد فهتف بصوت مرتعد :
_ ملاذ .. ملاذ
داخل المستشفي كان كرم جالسًا على مقعده المتحرك ويقف أمام الشرفة يتطلع إلى المارة في الخارج وحركة السيارات .. تعافي سريعًا وتحسنت صحته كثيرًا خلال اليومان الماضيين ، ورغم أنه نفسيته ليست جيدة بسبب وضعه إلا أن وجود زوجته بجانبه ومساندتها له وهي تشعره طوال الوقت أن الأمر بسيط بل وكأنه معافي وسليم تمامًا وليس به أي سوء يحسن من نفسيته كثيرًا ، وقد ينسب لها في المرتبة الثانية الفضل بعد الله أولًا في تحسن حالته الصحية فلولا ما تفعله معه لما وصل لهذا الوضع .
انتشله من شروده رنين هاتفه فالقي نظرة من مكانه على شاشته يقرأ اسم المتصل ، ثم نظر إلى الحمام يتأكد من صوت الماء هل مازال الصنبور مفتوح أم اغلق وعندما سمع اندفاع الماء .. فانحني على المنضدة والتقط الهاتف يجيب على المتصل في حزم :
_ أيوة يامسعد عملت إيه
_ اطمن ياكرم بيه وصيت عليهم كويس أوي في السجن
كرم بأعين بها لهيب ناري مرعب :
_ مش عايزهم تفضل فيهم حتة سليمة يامسعد
_ متقلقش كل اللي عايزه هيتم
خرجت شفق من الحمام وهي تجفف يديها ووجهها بمنشفة بيضاء صغيرة ، وقالت وهي ترفع حاجبها متعجبة جملته الأخيرة :
_ هما مين دول ؟!!
رمقها سريعًا ولم يجيبها ثم تمتم مع مسعد بإيجاز :
_ طيب يامسعد سلام دلوقتي ولما يوصلك خبرهم ابقى كلمني
_ حاضر
انهي معه الاتصال ووضع الهاتف بمكانه ، ليلتفت برأسه لها وهو يبتسم بصفاء ، فتتحرك هي تجاهه وتقف أمامه مباشرة تسأله للمرة الثانية ولكن هذه المرة بريبة شديدة :
_ في إيه ياكرم ؟!
لف ذراعه حول خصرها وجذبها لتجلس على حجره وهمس وهو يلثم جنتها ورقبتها :
_ مفيش حاجة ياحبيبتي ، يلا بقى جهزي نفسك والبسي طرحتك عشان نمشي ، لإني اتخنقت من قعدة المستشفى دي وعايز ارجع بيتي
_ ياكرم الدكتور قال الأفضل إنك تاخد يوم أو يومين تاني على الأقل وبعدين نمشي ياحبيبي .. إنت ليه مستعجل كدا !!
_ زهقت ياشفق ، وأنا كويس والله متقلقيش .. وإنتي موجودة أهو وهتراعيني طبعًا وهتهتمي بيا وأنا عندي مراتي احسن من أكبر دكتور ، وجودها جمبي بس بيخفنني
ضحكت بخفة مغلوبة على أمرها وقالت وهي تنحني لتخطف قبلة سريعة من وجنته :
_ حلو التثبيت ده ! .. بس ماشي هنمشي خلاص طالما إنت مش حابب تقعد هنا أكتر ، بس هيكون في التزام في البيت ووقت ما أقول هنبدأ نعمل جلسة علاج طبيعي متهملش وتتجاهل
_ من عنيا أنت تأمر يادكتور
قالها مازحًا بمداعبة لطيفة لتنكزه هي في كتفه بخفة ضاحكة وتنهض لتبدأ في ارتداء حجابها وتلملم أشيائهم وهو يتابعها بإمعان ! …..
***
طرقات متتالية على الباب ولا يوجد إجابة منها ، فدارت بذهنها اسئلة كثيرة أولهم ” لماذ لا تفتح هذه الفتاة الباب ” .. لجأت للمحاولة الثانية وهي الطرق العنيف على الباب مع صوتها وهي تنده عليها بقلق :
_ ملاذ .. ملاااااذ
وسط طرق والدتها القوي والمتكرر استعادت وعيها تدريجيًا وفتحت عيناها ببطء ثم استقامت من على الأرض بصعوبة وهي يداهمها الدوار الشديد ، ليخرج صوتها ضعيف وغير واضح كثيرًا :
_ أيوة ثانية جاية
سمعت أمها صوتها منخفض كثيرًا ولم تفهم ما تقوله ولكن هدأ قلقها بعض الشيء عندما سمعت صوتها وانتظرت للحظات طويلة حتى وجدتها تفتح لها الباب وهي تمسك برأسها من الألم وعيناها لا تقوي على فتحهم جيدًا ، فيصبح حالها من مجرد القلق إلى الفزع على ابنتها ، لتهرول وتدخل تسندها هاتفة بهلع :
_ مالك ياحبيبتي حصل إيه ؟!!
ملاذ بصوت خافت :
_ معرفش ياماما دوخت مرة واحدة وأغمي عليا ، كنت بكلم زين وبطمن عليه ومحستش بنفسي
سمعوا صوت رنين صاخب من الهاتف فقالت ملاذ باهتمام :
_ ده تلاقيه زين ياماما أكيد اتخض عليا
سندتها إلى الأريكة واجلستها عليها بحرص ثم جلبت لها الهاتف لتجيب هي على زوجها .. وبمجرد ما أن وضعت الهاتف على أذنها سمعت صوته المرتعد وهو يهتف :
_ ملاذ حصل إيه معاكي .. إنتي اغمى عليكي ؟!!
_ أه دوخت يازين فجأة .. بس أنا كويسة الحمدلله متقلقش وماما معايا كمان
_ طيب الحمدلله .. البسي وروحي معاها البيت متقعديش في الشقة وحدك
ملاذ بإذعان تام لأوامره ودون أي ضيق :
_ حاضر ياحبيبي هبقى البس واروح معاها اطمن .. المهم إنتوا خلوا بالكم من نفسكم
_ ان شاء الله .. يلا أنا هقفل بقى في حفظ الله
_ في حفظ الله
رددت خلفه بكامل الهدوء ثم انهت الاتصال لتهتف أمها بنبرة مهتمة :
_ وإيه سببه اللي حصل معاكي ده
_ معرفش ياماما يمكن من الإرهاق والتعب
هزت رأسها بعدم اقتناع وقالت بابتسامة عريضة :
_ لا معتقدش إنه ليه دعوة .. ممكن يكون حمل
سكتت ملاذ لبرهة تفكر فيما قالته باندهاش بسيط عندما رجحت هي الأخرى هذا السبب ولكن سرعان مانفرته من ذهنها وقالت باستنكار :
_ لا حمل إزاي ياماما .. أنا يدوب كنت عند الدكتورة من أسبوع ولو كان في كانت هتقولي في حمل
_ جايز تكون اخطأت وده شيء وارد .. اتأكدي تاني ياحبيبتي إنتي مش خسرانة حاجة
هزت كتفيها بحيرة وهدرت بعدم اكتراث :
_ هجرب تاني واشوف يمكن يطلع كلامك صح وأهو زي ماقولتي مش هخسر حاجة
***
تسللت من خلفه وهو يقف أمام المرآة يستعد للمغادرة ، يهندم ملابسه وينثر العطر عليها .. وجدها تلف ذراعيها حوله من الخلف هامسة برقة :
_ سنسن
أجابها بنبرة عادية وهو يكمل استعداده :
_ نعم
ارتدت خطوة للخلف وعبس وجهه بضيق هاتفة باحتجاج :
_ طيب بص عليا حتى .. اللي يشوفك كدا يقول ملكش نفس ترد عليا من الأساس
” هذه المرآة فقدت عقلها بالكامل .. فلا يمكن أن يكون مجرد حمل يفعل بها كل هذا !! ” قال هذه الجملة بينه وبين نفسه مستنكرًا غضبها على شيء تافه كهذا وقرر مسايستها حتى لا ينخرطوا في دوامة جدال ونقاش كبيرة .. التفت لها بجسده وغمغم باسمًا بابتسامة شبه صفراء :
_ أنا مش طايقك !! .. ماعلينا أهو بصيتلك ياستي اؤمري
زينت ابتسامتها ووجهها من جديد وقالت برقة انوثية جميلة لا تقاوم :
_ نفسي في مانجا
رفع يده يحك مؤخرة رأسه هامسًا وهو يلوى فمه :
_ امممممم بدأنا
ضيقت عيناها بتعجب واشتدت نظراتها قوة لتجيبه بوجه اختفت لطافته ورقته :
_ إنت مضايق ولا إيه ياحبيبي !!!
_ وأنا هضايق من إيه !! .. الفكرة إننا في الشتا ياحياتي فمانجا إيه اللي نفسك فيها دلوقتي .. إيه رأيك اجبلك برتقال حلو وربنا مكتر منه في الشتا
يسر باستهزاء وغيظ :
_ برتقال إيه .. إنت هتنقيلي على مزاجك ماتيجي تتوحم بدالي احسن ، أنا عايزة مانجا اتصرف وجبلي منها
تأفف بنفاذ صبر مردفًا بنبرة شبة مرتفعة :
_ أيوة اجيب أنا مانجا منين دلوقتي
اغتاظ هي الأخرى وصاحت به مندفعة :
_ اتصرف أنا مالي .. هو مش ابنك ده ، ولا هو أنا اللي بدلع وبتوحم من نفسي .. قول بقى كمان مش هجيب عشان الولد يطلع في وشه منجايا كبيرة كدا ويتعقد في حياته
حدجها بقرف وأجابها ساخرًا منها :
_ طيب بس بلا شغل عبط قال منجايا ، هبلة بصحيح ..وصوتك ميعلاش عليا تاني مرة مفهووووم
قربت وجهها منه وثبتت عيناها على عيناه لتهمس بتحدي متعمدة استفزازه :
_ هعلي صوتي براحتي .. عارف ليه عشان أنا مبخفش منك
دفعها بخفة ولطف من أمامه وهو يحدجها بأعين متقوسة بقرف ووجه ساخر :
_ طاب اتكلي على الله من هنا بقى خليني اكمل لبسي عشان امشي
تقهقرت للخلف بعينان مشتعلة بنيران العيظ وهمست بوعيد له ووجه يعطي أحمرارٌا بسيطًا من الضجر :
_ مـــــاشــــي ياحسن براحتك أوي
استدارت وتركت الغرفة بأكملها لتتركه يكمل استعداده وهو يبتسم بعد حيلة من أمرهم العجيب !! …….
***
تابعها وهي تقترب ناحيته وتسير معها إحدى صديقاتها .. لأول مرى يرى معها هذه الفتاة ، كان مثبت نظره عليهم ويقف أمام السيارة يستند بظهره عليه عاقدًا ذراعيه أمام صدره ، وقبل أن يصلا إليه مباشرة توقفا على مسافة شبه بعيدة عنه وعانقتها مودعة إياها ثم تركتها ورحلت .. فأكملت هي سيرها ناحيته لتهتف باستغراب :
_ إنت مش قولت معاك شغل ومش هتقدر تعدي تاخدني
_ خلصت شغلي بدري وجيتلك .. صحبتك دي اللي كنتي ماشية معاها ؟!
أماءت له برأسها وقالت بعفوية وابتسامة عريضة :
_ أيوة اتعرفت عليها من يومين .. بنت كويسة بجد حبيتها أوي ، وطيبة بشكل ياعلاء .. انبسطت لما اتعرفت عليها كنت بزهق وبمل وأنا قاعدة وحدي طول الوقت
لم يعقب واكتفى بإماءة رأسه البسيطة ثم التفت من الناحية الأخرى للسيارة ليستقل بها وهو يشير لها بعيناه متمتمًا :
_ طيب اركبي يلا
رفعت حاجبها بحيرة من طريقته الغريبة ، ثم فتحت الباب واستقلت بجواره لتسأله باهتمام :
_ إنت مضايق من حاجة ولا إيه ؟!!
بكل هدوء هز رأسه بالنفي وهمس بنبرة عادية قبل أن يحرك محرك السيارة وينطلق بها :
_ لا
رمقته بمكر وقالت بابتسامة لطيفة ونبرة مشاكسة :
_ بجد يعني !
مالت شفتيه على الجانب قليلًا في ابتسامة تكاد تكون خفية وأجابها :
_ أيوة بجد ياميار .. أنا تعبان من الشغل بس وعايز اروح البيت عشان اريح
تفهمت الأمر ثم هدرت باضطراب بسيط وخوف :
_ طيب أنا عملت حاجة وخايفة أقولك تتعصب وتزعقلي
اشتدت معالم وجهه إلى الحزم ليرمقها بنظرة ثاقبة ويخرج صوته الرجولي الخشن :
_ حاجة إيه ؟!
_ لا لا مش هقولك خلاص .. شوف إنت بتبصلي إزاي من قبل ماتعرف إيه هي أصلًا !!
تأفف وأجابها بنبرة أقل حدة :
_ قولي ياميار ومش هتعصب .. لكن لو فضلتي بالمنظر ده هتعصب حتى لو الموضوع مش مستاهل
ازدردت ريقها وقالت بنظرات استقصدت أن تكون بريئة حتى تستعطفه من خلالها :
_ أنا كان معايا تلات محاضرات النهردا والتانية اتلغت فكان في وقت فراغ بين المحاضرة الأولي والأخيرة ، في الوقت ده أنا طلعت مع صحبتي اللي شفتني معاها دي واشتريت حاجة بس طولت شوية واخدت حوالي ساعة وبعدين رجعنا تاني الكلية على آخر محاضرة
عم الصمت بينهم لثواني كانت بالنسبة لها ساعات من القلق أن تخرج منه ردة فعل عنيفة ولكنه خيب ظنها وتمتم بنبرة رخيمة لا تبدو منزعجة :
_ هو أنا مش هتعصب عليكي .. بس أفهم الأول متصلتيش بيا ليه تقوليلي إنك هتطلعي وتشتري الحاجة اللي أنا بتساءل عنها برضوا دي
_ مكنش هينفغ اتصل بيك
_ ليه بقى إن شاء الله !؟
ميار بارتباك ووجه مبتسم مع القليل من الحماقة في الكلام :
_ من الآخر كدا أنا اشتريت حاجة ومش عايزاك تعرفها دلوقتي .. بليل هتعرف إيه هي ، بس عندي طلب الأول ومتفهمنيش غلط
_ طلب إيه ؟!!
مصمصت شفتيها باستحياء وقالت بأعين زائغة و نظرات متوترة :
_ إنت قولتلي قبل كدا إنك معاك شقة بس مش بتروحها غير نادرًا .. فــ .. ممكن .. ممكن يعني ناخد الليلة فيها .. اقصد النهردا
ضيق عيناه بريبة من طلبها ، فنظر لها وهو يرفع حاجبه مبتسمًا بلؤم ، لتفهم هي فورًا الذي دار بذهنه المنحرف فتهتف مسرعة بخجل ملحوظ :
_ أنا مش قولتلك متفهمش غلط
اصدر ضحكة عالية وقال بصوت ماكر :
_ ما أنا بحاول اصفي النية بس مش عارف صدقيني .. هو إنتي جيبالي هدية وعايزة تعمليلي مفاجأة يعني ؟
_ امممممم يعني حاجة زي كدا
تصنع التفكير وهتف بابتسامة كلها خبث مع نظرات وقحة :
_ هدية ومفاجأة ونقضي الليلة في شقة وحدنا .. طيب أنا راضي ذمتك عايزاني اصفي نيتي إزاي !!
تذمرت وقالت بخنق من محاصرته لها وتلمحياته المنحرفة التي اخجلتها :
_ خلاص ياعلاء اعتبرني مقولتش حاجة ، انسي الموضوع مش عايزة اروح
تحول إلى الحدة والاستياء بلحظة وهو يجيبها بحدية مزيفة :
_ لا انسي إيه .. مفيش رجعة هي الكلمة بتتقال مرة واحدة ، قولتي عايزة ناخد الليلة هناك وأنا أكثر من مرحب بالفكرة .. بس عندي شرط ، أي كانت المفاجأة اللي عملاها فأنا عايزك إنتي كمان تفاجئيني ، واعتقد فهمتيني يعني
حدجته مغتاظة ونكزته في كتفه هاتفة بحياء تجاهد في إخفائه :
_ لا مفهمتش ووديني وإنت ساكت
ضحك وثبت تركيزه على قيادته ليزود السرعة متجهًا إلى منزلهم بعدما أخبرته بأنها تريد أخذ بعض الأشياء من المنزل قبل أن يذهبا للشقة …..
***
غربت الشمس وارتفع ضوء القمر في السماء التي تزينت بالنجوم الساهرة الجميلة …
أسفل أسقف أحد منازل أبطالنا ، كانت تمسك بيده وتسير بجواره في بطء شديد وهو يتحرك مستندًا عليها بكامل الحذر ، يسيران إيابًا وذهابًا مسافة متر .. تثبت هي نظرها عليه ووجهها يبتسم بغرام وهو تركيزه مثبت على حركة قدمه الذي يجد صعوبة بالغة في تحريكها لخطوة واحدة فقط ! .
جمعنا القدر معًا لنكمل بعضًا البعض ونكون عونًا لبعضنا ، حين يقع واحد منا الآخر يسنده ، تعاهدنا على السير معًا في السراء والضراء ، وعهدنا سنحافظ عليه لآخر انفاسنا .. فأنت قمري الجميل والميم دال !! .
توقف عن السير وهتف بتعب :
_ كفاية ياشفق كدا النهردا أن تعبت ، نبقى نكمل بكرا
أجابته بصوت ناعم وحنون :
_ حاضر ياحبيبي بس خلينا نكمل لكام دقيقة تاني حتى .. الدكتور قال لمدة خمس دقايق وأحنا مكملناش دقيقتين على بعض
_ مش قادر ياشفق تعبت بجد !
تنهدت الصعداء مغلوبة على أمرها وساعدته على السير نحو الفراش .. ليمدد جسده عليه ويستند على ظهر الفراش ، هتفت شفق :
_ أنا هروح احضرلك العشا عشان تاخد العلاج
أشار لها بيده أن تأتي بجانبه على الفراش مغمغمًا بنبرة قوية :
_ لا أنا مش جعان خلي الأكل كمان شوية وتعالي اقعدي جمبي عايز اتكلم معاكي
انتابها الفضول والريبة من أمره ثم اقتربت وجلست بجواره كما طلب منها ليبدأ هو بسؤاله الحازم :
_ قوليلي حصل إيه معاكي في الليلة اللي كنت فيها في المستشفى .. وعايز أعرف كل حاجة بالتفصيل ياشفق وإياكي تكذبي عليا
زفرت بصوت مسموع وقالت باختناق :
_ إنت ليه شاغل نفسك بالموضوع ده ياكرم .. اللي حصل حصل والأهم إننا كويسين الحمدلله ومع بعض أهو
كرم بنبرة رجولية مخيفة بعض الشيء بها شيء من التحذير :
_ اتكلمي ياشفق .. مش هكرر الكلام مرة تاني !
مسحت على وجهها متأففة باقتضاب وبدأت تسرد له ما حدث معها بالضبط من بداية مغادرتها للمستشفي حتي صباح اليوم التالي عندما استيقظت ووجدت نفسها على فراش داخل غرفة بالمستشفى .. احمرت مقلتي عيناه وظهر فيها وميض مرعب ، وأخذت معالم وجهه تقوسًا مخيفًا ، اخفضت نظرها قليلًا فرأت قبضة يده التي كورها بعنف .. أدركت أن بداخله انفجار بركاني هائل ويتمالك زمام نفسه أمامها ، فخشيت أن يؤذي نفسه بعصبيته المفرطة هذه لتهمس بنبرة قلقة :
_ كرم ياحبيبي متعصبش نفسك .. اللي حصل كان غباء مني كان لازم اقول لحسن أو زين على الاقل عشان حد منهم ياجي معايا ومديش الفرصة ليه .. وخلاص هما في السجن دلوقتي
صاح في صوت جهوري نفضها بمكانها :
_ ماهو المشكلة إنهم اتسجنوا ومش هعرف اشفي غليلي منهم بإيدي ال***** .. بس فكرك إنهم عشان اتسجنوا يبقر خلاص كدا ، وغلاوتك لأخليهم يسحفوا سحف على بلاط السجن .. أه يابن ******
عانقته بقوة ودفنت وجهها بين ثنايا رقبته تلثمه بحب لتهدئه وامتزج بالخوف من وعيده لهم :
_ ابوس إيدك بلاش تعمل مشاكل ياحبيبي .. كفاية ياكرم وهدي نفسك أنا خايفة عليك تتعب ، كله بسببي وبسبب غبائي لو مكنتش روحت مكنش حاجة من ده كله هتحصل
قالت جملتها الأخيرة بصوت باكي بعدما انهمرت دموعها على وجنتيها ، ليبعدها عنه ويحتضن وجهها بين كفيه هامسًا أمام شفتيها مباشرة بنظرة متيمة ونبرة تحمل وعيد الانتقام :
_ أنا ممكن اسكت عن اللي عملوه معايا وميهمنيش ، بس اللي يقربلك ويلمس شعرة منك يبقى هو اللي جنى على نفسه .. منتظرة مني اسكت بعد ماعرفت إنه حاول يعتدي عليكي وخطفك وحاول يقتل صاحبي كمان ، صدقيني لاخليه يندم على اليوم اللي اتولد فيه ، هخلي السجن عليهم جهنم وهيتوسلني إني ارحمه
هم بأن يقترب أكثر ليقبلها حتى يؤكد لها على صدق كلامه ومشاعره المغرمة بكل شيء فيها ، لكنها تراجعت للخلف ووثبت واقفة لتقول ببكاء عنيف وصوت متلقلق من شدة البكاء :
_ وأنا كرم اللي اعرفه وحبيته عمره ما كان جبار وعديم الرحمة بالشكل ده .. مهما كان اللي عملوه معايا أو مع سيف هما دلوقتي هيتعاقبوا أفضل عقاب في السجن ، أنا مش عايزاك تكون كدا .. أنا بقيت بخاف منك ياكرم أحيانًا ، مع إني عمري ما اتخليت إني في يوم ممكن احس بخوف منك
تفوهت بآخر كلماتها وهرولت للخارج فصاح هو مناديًا عليها :
_ شــــفــــق
حاول التحرك والنهوض من الفراش لكنه لم يستطع فعاد يصيح عليها من جديد :
_ شفق تعالي هفهمك ياحبيبتي
لم يجد إجابة منها فقط سمع صوت باب الغرفة الثانية القوي عندما دفعته واغلقته عليها ، فحاول مرة وأثنين حتى ينهض بنفسه ولكن قدماه كأنها شلت أكثر ، فالتقط كوب الماء الموضوع على المنضدة بجواره ومن غضبه ونقمه على كل شيء القاه على الأرض ليتناثر إلى جزئيات صغيرة متفرقة في كل مكان ، ثم القى برأسه على الفراش وهو يخفي عيناه بكفه .. ولوهلة لعن كل شيء فهو حتى لا يتمكن من الوقوف على قدماه أو النهوض من فراشه ، ولكن في اللحظة التالية فورًا استغفر ربه بعينان منطفئة وبائسة !! ………
***
تشاهد التلفاز باستمتاع وبيدها صحن فشار تلتقط منه حبة كل آن وآن وتلقيها في فمها ، ومن شدة اندماجها مع التلفاز لم تنتبه له عند اتي ، حيث دخل من الباب وأغلقه خلفه ثم بدأ في نزع حذائه عنه وسار ناحيتها فاستغرب عندما وجدها لا تنظر له نهائيًا ، ليبتسم بعدما فهم أنها تتجاهله ويكمل سيره بحذر ويضع الكيس الذي يحمله بيده بجانب الأريكة على الأرض ويجلس بجوارها هاتفًا بمداعبة وهو يمد يده لصحن الفشار :
_ بتتفرجي إيه ؟!
منعت يده قبل أن تصل للصحن ويلتقط من الفشار ودفعتها هاتفة بقرف :
_ ملكش دعوة ومتاكلش من الفشار ااا……
توقفت عن الكلام عندما دخلت لأنفها رائحة مانجا فأشرق وجهها بفرحة غامرة وقالت :
_ إنت جبت مانجا
ضحك على منظرها وانحنى للخلف ليتلقط الكيس ويناوله لها هامسًا بدفء :
_ اتبهدلت وأنا بلف عليها
التقطت واحدة من الكيس واشتمت رائحتها بتلذذ لتغمغم :
_ الله ريحتها حلوة أوي
تقوس وجهها في اللحظة التالية وغمغمت باستهزاء منه :
_ مش على أساس مفيش مانجا ومش هتعرف تجيب .. جبتها إزاي بقى ؟!
التصق بها وطبع قبلة مطولة على وجنتها وكفه وضعه على بطنها يهمس بالقرب من أذنها في عشق جارف :
_ مقدرش ارفض طلب لابني وامه .. أنا كنت بناكف فيكي الصبح بس مش أكتر وإنتي ماصدقتي لقيتي حاجة تتخانقي عليها
لوت فمها بأسف وقالت بعفوية :
_ ايوة أنا حاسة إننا بقينا بنتخانق على حجات تافهة أوي زي الأطفال صح ؟!!
أجابها بابتسامة صفراء وهو يوميء بإيجاب :
_ تافهة أوي للأسف .. بس اللي يحبك يناكف فيك
لفت ذراعيها حول رقبته وخطفت قبلة من وجنته هامسة بدلال وغنج مع ابتسامة عريضة :
_ وأنا كمان بحبك ياسنسونتي .. ربنا يخليك ليا ياحبيبي
حسن بغمزة لئيمة مع ضحكة بسيطة :
_ طيب بلاش تدلعي فيا كتير عشان أنا بضعف ومش ضامن نفسي .. وقومي بقى اعملينا عصير من المانجا دي لاحسن ريحتها مغرية أوي الصراحة
ابتعدت عنه وقالت بشراسة ورفض قاطع :
_ لا دي ليا أنا ، روح لجيب لنفسك وأنا أعملك
_ لا والله وهو أنا مش جايبها دي وفضلت الف عليها في الليل وفي عز الشتا عشان سيادة البيه وأمه اللي بتتوحم ياكلوا مانجا .. كمان مش هاكل منها دلوقتي
_ أيوة مش هتاكل منها أنا نفسي فيها وهاكلها وحدي
دفعها بيده في كتفها بخفة هاتفًا بغيظ :
_ ماكفاية طفاسة بقى يابت وقومي .. إنتي أصلا مش هينفع تاكلي منها كتير لأن الأملاح غلط علي الحامل
ضحكت مستنكرة ما قاله وهتفت بنبرة منذرة :
_ هه ده هاكل منها براحتي
أدرك الموقف الذي يتجادلون حوله وتفاهته فانفجر ضاحكًا بقوة ، لتحدجه هي بحيرة وتهتف :
_ بتضحك على إيه !!
أجابها من بين ضحكه القوي :
_ احنا لسا بنقول بنتخانق على حجات تافهة وطفولية ومكملناش دقيقة وبصي بنتناقش في إيه !!!
صمتت للحظة تدرك الأمر لتنفجر هي الأخرى تطلق ضحكاتها المتأججة ، فتدفن وجهها بين ثنايا ذراعه وهو تضحك ثم ترفع نظرها له وتقول بضحك :
_ احنا تافهين أوي ياحسن
_ أوي والله فوق ماتتخيلي كمان
عادت لضحكها من جديد بينما هو فتوقف عن الضحك وثبت نظره عليها يتأملها بنظرات عاشقة ليست الأولى ولا الأخيرة !! ……
***
انتهت أخيرًا من كل التحضيرات .. أعدت بنفسها الكعكة وزينتها وكذلك وضعت القليل من الزينة في المنزل وبالأخير اهتمت بنفسها حيث ارتدت رداء لطيف وهاديء من اللون الحراري بحملات عريضة تغطي نصف اكتافها و فتحة الظهر صغيرة بالكاد تظهر الجزء العلوي من ظهرها ، أما فتحة الصدر فكانت ضيقة ولا تظهر شيئًا منها ، وميزه الرداء بأنه كان طويل فكان أنيق وبنفس اللحظة محتشم بعض الشيء .. وأخيرًا تركت العنان لشعرها بدون أي قيود تقيده .
هاهو قد أتى .. بمجرد ما أن سمعت صوت فتح الباب ركضت ووقفت أمام الطاولة الموضوع فوقها الكعكة وظلت واقفة تنتظره حتى يأتي إليها ، دخل ووجد الصالة مظلمة فمد يده لإضاءة النور وحين انفتح الضوء فزع وكأنه رأى شبح فتحول هلعه إلى غضب مؤقت حيث هتف بصيحة بسيطة :
_ إيه ياميار شغل العفاريت ده !! .. يحرق المفاجآت كلها لو بالمنظر ده
أصدرت ضحكة انوثية عالية ثم تصنعت العبوس وهي تجيبه بتذمر :
_ أخص عليك ياعلاء ده بدل ماتشكرني إني عملالك مفاجآة وتورتة
دار بنظره في أرجاء الصالة المزينة ببعض الزينة وإلى الكعكة الشهية متوسطة الحجم ، فتهدأ نفسه المستاءة ويبتسم لها بعاطفة ويقترب نحوها هامسًا بصوت جميل وهو يقبل شعرها :
_ شكرًا ياحبيبتي ، ربنا يخليكي ليا
لم تكن تعرف أتخجل أم تسعد لكلماته الغرامية ، وبين اضطراب مشاعرها ظهرت على ملامحها الرقيقة ابتسامة فرحة وتوردت وجنتيها باستحياء ، لكن تغلبت على خجلها ورفعت كفها تملس على جبينه بأبهامها وتتمتم برقة مغرية :
_ Happy birthdayياحبيبي ..
والعمر كله نكون مع بعض ومفيش حاجة تفرقنا
لف ذراعه حول خصرها وجذبها يضمها لصدره مغمغمًا :
_ آمين ياقلب حبيبك
بقيت بين ذراعيه للحظات طويلة حتى ابتعدت عنه ونظرت للكعكة لتقول بنبرة حماسية :
_ يلا عشان تدوق من التورتة وتقولي رأيك
قطعت منها قطعتين ووضعت كل قطعة في صحن ثم ناولته واحد وجلسوا على الأريكة يأكلون ويتبادلون الأحاديث المرحة ، إلى أن انتهوا وأبدى هو إنبهاره بمذاقها الرائع .. ثم نهضت وأخذت الكعكة للمطبخ لتضعها بالثلاجة وبعد دقائق عادت له وجلست بجواره ترفع أمامه علبة صغيرة طويلة ، فيهتف هو مبتسمًا بدفء :
_ دي الهدية مش كدا !
أماءت له برأسها فالتقطتها من يدها وفتحها ليجدها ساعة رجالية أنيقة وفخمة ، وسمعها تهمهم :
_ الحقيقة أنا بحب شكل الساعات في إيدك جدًا فقررت إني اجيبلك ساعة وتكون على زوقي أنا
انفرجت شفتيها باتساع ثم أخرجها من العلبة ولفها حول رسغه ينظر إليها في يده بإعجاب ، فيجيبها بنبرة معجبة :
_ لازم تكون حلوة مش على زوقك
قال جملته وانحنى إليها يخطف قبلة سريعة من وجنتها ، ثم ينزعها عنه ويضعها بمكانها كما كانت ، ويعود بنظره لها يدقق فيها النظر جيدًا هذه المرة كأنه يتفحصها ، فيغمز لها بخبث ويقول :
_ حلو الاحمر ده .. شوفتي إنتي اللي بتخلي نيتي تروح لحجات مش سليمة بتصرفاتك ، وبالشكل ده إنتي بتجرجريني للرذيلة وأنا بحبها أوي
نزلت بنظرها إلى ملابسها ولعنت نفسها الحمقاء التي لم تجد سوى هذا الرداء لترتديه ، عادت بعيناها له وهمست بعدم حيلة من انحرافه وهي تبتسم :
_ على فكرة مكنش قصدي خالص والله .. هي جات صدفة
استقام وانحنى عليها يحملها على ذراعيه هاتفًا بنظرات ليست بريئة :
_ أنا بعشق الصدف .. يلا هحكيلك على صدفة حلوة حصلت معايا برضوا
_ طيب ماتحكيها هنا إنت ماخدني جوا ليه
_ مينفعش هنا اصلها حكاية طويلة
أماءت برأسها في أعين شبه مغتاظة ، وفهمت جيدًا مقصده فاستسلمت لأمرها الواقع ولم تحاول المقاومة ، واكتفت بابتسامتها المغلوبة والخجلة على شفتيها !! ……..
***
ملاذ بسعادة غامرة :
_ فرحانة أوي ياماما .. الحمدلله
رتبت أمها على ذراعها بحنو وتشدقت :
_ ربنا يتمم حملك على خير ياحبيبتي وياجي ويتربى في عزكم .. وعقبال ما أشوف ولاد أخوكي كدا كمان
_ آمين يارب هو بس يقوم بالسلامة وكل حاجة هتبقى زي الفل إن شاء الله .. أنا بالي مشغول وقلقانة عليه
_ أنا من وقت ماسافر ومش عارف أنام براحة
ياملاذ من القلق والخوف عليه وبدعيله ربنا يقومه بالسلامة من العملية دي
_ آمين يارب .. العملية بكرا خلاص ربنا يعديها على خير
رفعت أمها يدها للسماء تدعو الله بأن يستجيب لدعائها ويحفظ لها ابنها ، ثم هتفت بتساءل :
_ إنتي مش هتكلمي جوزك تقوليلوا على الخبر
هزت رأسها بالنفي تقول بنظرة متشوقة :
_ لا هخليها مفاجأة لما ياجي هقوله
***
مع صباح يوم جديد قد لا يكون جيدًا بالنسبة للبعض حيث يحمل مفاجآت صادمة لهم !! ….
وصلت يسر إلى منزل أبيها واستقبلتها أمها بترحيب حار ، لتنحنى يسر على والدتها وتعانقها بلطف مغمغمة :
_ عاملة إيه ياماما
ابتسمت لها أمها بحنو وتمتمت :
_ بخير الحمدلله يابنتي .. متصلتيش بيا يعني تقوليلي إنك جاية
تنهدت يسر الصعداء بوجه عابس وأجابتها بنبرة مضطربة :
_ أصل أنا جاية اتكلم معاكي إنتي وبابا في موضوع وماشية تاني
_ موضوع إيه ده ؟!!
_ هتعرفي دلوقتي ، بابا فين بس ؟!
أشارت لها بعيناه على غرفة المكتب وقالت بحيرة :
_ في المكتب
تحركت باتجاه الغرفة وهي تهتف :
_ طيب تعالي ياماما
غضنت الأم حاجبيها بريبة امتزجت بالقلق ، وسارت خلفها حتى فتحت الباب ودخلت فتلقت أيضًا الترحيب من أبيها وعناق دافيء ، هتف بنظرات حانية :
_ عاملة إيه يابنتي .. وأخبار حسن إيه ؟
هزت برأسها وهي تجيبه بمعالم مرتبكة :
_ أنا كويسة يابابا الحمدلله وحسن كمان كويس .. أنا كنت جاية اتكلم معاك إنت وماما في حاجة
تبادل طاهر النظرات المتعجبة مع زوجته ثم استقرت نظراته بالآخير على ابنته التي جلست قبالته وبجوارها جلست أمها .. ظلوا يحدقوا بها منتظرين أن تبدأ في حديثها المهم الذي تريد إخبارهم عنه ، وهي تنقل نظرها بينهم بتوتر تجهز الكلمات جيدًا حتى لا تخطأ بشيء وتكتب نهاية زواجهم بيدها ! .
تكلمت أخيرًا بأعين زائغة :
_ أنا لسا حامل .. يعني محصلش إجهاض ولا حاجة زي مافهمت الكل
سكتت تنتظر ردة فعل منهم ولكن غاصوا في فقاعة صمت قاتلة ، لتحدج بوجه كل من أبيها وأمها لتقرأ قسمات الدهشة وعدم الفهم عليهم ، فتأخذ نفسًا طويلًا وتسترسل حديثها وهي مطرقة رأسها أرضًا تخترع كذبة بإحترافية حتى تخفي على كل أفعال زوجها وأفعالها :
_ اللي حصل إن احنا من وقت جوازنا وكان في مشاكل كتير بينا أنا وحسن ومكناش قادرين نتفاهم مع بعض كويس .. وهو مكنش حابب نجيب أطفال إلا بعد مايعدي فترة على الأقل على جوازنا وحصلت كذا مشكلة بينا بسبب الموضوع ده .. ولما حصل حمل اتخانقنا خناقة كبيرة أوي ووصلت لدرجة إنه طلب مني أنزله فزادت الخلافات بينا بعد المشكلة دي ووصلت للطلاق زي ماحصل .. وأنا كذبت على الكل وقولت إني اجهضت الطفل عشان كنت فاكرة إنه لو عرف إني لسا حامل مش هيوافق يطلقني والمشاكل هتزيد بينكم وأنا مكنتش حابة كدا ، وكنت بمجرد ما نتطلق نهائي هقول للكل ، الكلام ده طبعًا بعد ما هو تراجع واعتذرلي أكتر من مرة عن اللي حصل بس أنا رفضت أسامحه .. أنا عارفة إني غلطانة واستاهل كل اللي تعملوه معايا بسبب اللي عملته وإني كذبت عليكم في حاجة زي كدا بس أنا والله مش عارفة عملت كدا إزاي ولا عقلي كان فين لما فكرت أعمل كدا ، أنا آسفة !
لجمت الصدمة السنتهم فأخذوا يحملقوا بها لدقيقتين في ذهول إلى أن صاحت أمها بها في انفعال :
_ كل ده يحصل معاكي ومتقوليش لينا حاجة .. هو احنا مش اهلك ولا إيه يايسر
يسر بصوت مبحوح :
_ والله ما اقصد ياماما أن كنت في حالة نفسية تحت الصفر ومبقيتش عارفة أنا بعمل إيه ومن كتر زعلي وحزني بقيت بتصرف بعدم عقل
خرج صوت أبيها متحشرج وهو يصيح بنبرة ارعبتها :
_ ده مش مبرر للي عملتيه .. كام مرة نسألك عشان تقولي اللي حصل بينكم وإنتي رافضة تتكلمي سواء إنتي أو الأستاذ التاني ، وفوق ده كله تكذبي علينا وعلى الكل إنك اجهضتي العيل .. ده ملوش معنى غير إنه عدم احترام لينا ياهانم وبعدين إيه لو عرف إني لسا حامل مش هيطلقني ده ، تفكير متخلف .. ودلوقتي رجعتوا من أمريكا زي السمنة على العسل وخلاص اتصالحنا ، هو شغل عيال
انسابت دموعها على وجنتيها وهمست بصوت مرتجف وهي مجفلة نظرها أرضًا :
_ أنا آسفة يابابا
هتفت أمها بغضب :
_ والبيه عرف إنك لسا حامل ولا كمان لسا مقولتيش ليه
_ عرف من وقت ما كنا في أمريكا واتخانق معايا برضوا إني خبيت عليه حاجة زي كدا
طاهر بنظرات مشتعلة من الغضب :
_ وإيه اللي حصل خلاكم تتصالحوا بالسرعة دي !!
رفعت كفها وجففت دموعها تجيبهم بصوت به بحة قوية :
_ هو ندم على كل حاجة وفضل يعتذرلي ومسابنيش واثبتلي إنه ييحبني بجد وعايزني ، ولما حسيت إنه بجد اتغير اديتله فرصة تاني .. وإنت عارف يابابا إني بحب حسن أوي وطول ماهو جنبي أن بكون مبسوطة
حدجها طاهر بنظرة خنق ليهتف باستياء :
_ مش عارف ارد عليكي بإيه .. ربنا يسامحك يابنتي والله ، دايمًا تاعبينا إنتي وأخوكي كدا
ثم اندفع وغادر ليتركها مع أمها لوحدهم فتنفجر هي باكية بقوة وتهتف من بين بكائها :
_ والله ما اقصد اخبي عليكم أنا كنت عايزة اخبي على حسن وخوفت اقولكم تروحوا وتقولوا ليه
أشفقت عليها أمها فضمتها لصدرها وملست على شعرها هامسة بعتاب :
_ مهما كان يايسر لا احنا ولا حتى جوزك ينفع تخبي عليه حملك وتكذبي علينا
استمرت في بكائها العنيف وأمها تملس عليها محاولة تهدئتها بدون جدوى !! ……
***
بمدينة لندن البريطانية …….
داخل أحد أكبر المستشفيات بالمدينة بعد مرور ساعات قليلة من خروجه من غرفة العمليات وقد طمأنهم الطبيب على حالته الصحية وأنه بخير والعملية ناجحة تمامًا ، فتهللت أسارير كل من زين وأبيه الذين كانوا معه .. وانتظروا لما يقارب ساعة حتى تم نقله لغرفة خاصة واستعاد وعيه ، فدخلوا له وهتف أبيه بوجه بشوش :
_ حمدلله على سلامتك يابني
أجاب عليه إسلام بصوت ضعيف :
_ الله يسلمك يابابا
هتف زين بدوره وبابتسامة مداعبة :
_ حمدلله على السلامة يابشمهندس ، والف مبرووك الحمدلله الدكتور بيقول إن العملية نجحت وزي الفل يعني بمجرد هترجع تقف على رجلك زي الأول واحسن إن شاء الله
أشرق وجهه إسلام بفرحة غامرة ورفع عيناه لأعلى يتمتم بقلب ينبض بسعادة :
_ اللهم لك الحمد والشكر يارب .. أخيرًا
وأخيرًا زين احس بأن ضميره توقف عن تعذيبه فقد أتم جزء كبير من التكفير عن ذنبه ، سيأتي الآن دور الوقت الأصعب وهو أخباره بالحقيقة !! ……
***
ترجلت ملاذ من السيارة الأجرة أمام مقر شركة العمايري .. حيث جاءت لرفيف عندما أخبرتها ملاذ أنها في طريقها لشراء بعض الأشياء فاقترحت عليها رفيف أن تمر عليها بالشركة وتريها بعض الأشياء الخاصة بها لتأخذ رأيها فيها ومن ثم تذهب معها للتسوق .. فلم تمانع ملاذ وأتت لها .
قادت خطواتها الواثقة للداخل واستقلت بالمصعد الكهربائي وتوقف المصعد بالطابق الثالث حيث يوجد مكتب رفيف .. وسارت إلى آخر الطرقة حيثما يوجد باب لغرفتين أحدهم لرفيف والأخرى لحسن ، اختلفت عليها الغرفة واخطأت وكانت على وشك أن تدخل مكتب حسن ولكنها تراجعت على آخر لحظة وهمت بالاستدارة للذهاب للغرفة الثانية حيث مكتب رفيف ولكن استوقفها سماعها لاسمها من حسن الذي كان يتحدث مع أخيه في الهاتف .. فوقفت مكانها باستغراب عندما سمعته يتحدث عنها كالآتي ..
حسن برزانة :
_ مينفعش زين يخبي عليها ياكرم مسيرها هتعرف .. هو عنده حق يقلق شوية ويتوتر ما يقولها .. وسيبك من موضوع ادمانه وإنه كان مدمن ودخل مصحة يتعالج ، دي حاجة عدت عليها سنين وخلاص انتهت ، هو يمكن ليه الحق في نقطة أنه يروح ويقولها أن أنا اللي خبطت أخوكي وكنت السبب في اللي حصل معاه لأنها فعلًا صعبة
كانت ملاذ تمسك بهاتفها في يدها ، وأصابتها الصدمة التي لجمت لسانها وكأن صاعقة صفقتها بأرضها .. ظلت متجمدة مكانها وهي فاغرة شفتيها وعيناها بعدم استيعاب لما سمعته ، واحست بانسياب أعصابها فلم تشعر بنفسها وسقط الهاتف منها على الأرض ليحدث صوتًا قوي و مزعجًا بعض الشيء !!! ………..
صك سمعه صوت اصطدام شيء بالخارج ، فعقد حاجبيه بريبة وهب واقفًا يهتف محدثًا كرم في الهاتف :
_ ثانية ياكرم خليك معايا كدا
تحرك باتجاه الباب في خطا ثابتة حتى امسك بالمقبض وجذب الباب إليه ليلقي نظرة برأسه على الخارج ، لم يجد شيء !! .. اتاه صوت كرم في الهاتف وهو يسأل :
_ في إيه ياحسن ؟!
حسن بأعين تدور في الأرجاء وقسمات وجهه حادة :
_ اصل سمعت صوت برا فافتكرت في حد بيتنصت على الباب
اخذتها قدماها وهي تسير إلى خارج الشركة ودموعها بدأت في التساقط ، وما انقذها من أن تقع في موقف محرج أمام العامة هو نقابها الذي يخفي دموعها .. لا تستوعب ما سمعته وتحاول تكذيب أذناها ولكن كيف !! ، لماذا اخفي عليها ولم يخبرها ؟ .. أهذه هي الثقة الذي حاولوا بنائها وتعاهدوا على أن تظل قائمة دومًا ؟ ، أهذا هو الوعد الذي قطعوه لبعضهم بأنه لن يخفي أحدًا منهم أمرًا عن الآخر ؟ .. كيف فعلها وتمكن من إخفاء حقيقة كهذه عنها ؟!!! .
***
رنين الهاتف الصاخب لا يتوقف ، والمتصل لن يتوقف إلا عندما يجيب عليه .. استيقظت على صوته وفركت عيناها لتزيح عنهم بعض أثار النعاس ، ثم مدت يدها تهزه بلطف وتهمس بصوت ناعس وخافت :
_ علاء قوم رد على الموبايل .. عـــــلاء
تقلب في الفراش بنعاس والتقط الهاتف يرى اسم المتصل فوجده أمه ، كتم صوت الرنين ثم اكمل نومه وماهي إلا لحظات قليلة وعادت تتصل من جديد فتأفف بصوت مسموع وخنق ليجيب عليها :
_ الو
سمع صوت أمه وهي تهدر بهلع :
_ علاء اختك اتخانقت معايا ومع أبوك وصممت تمشي وحدها وكانت بتعيط ودلوقتي برن عليها مش بترد
استيقظت جميع حواسه حيث هتف وهو يهب جالسًا :
_ اتخانقت معاكم ليه ؟!
_ موضوع كبير مش هعرف احكيهولك على التلفون .. المهم شوف اختك واطمن عليها لأحسن أنا هتجن من الخوف عليها
جذب التيشرت الخاص به واجابها بإيجاب وقلق :
_ حاضر ياماما متقلقيش هشوفها واطمنك
انهي معها الاتصال واستقام من الفراش يرتدي تيشرته ثم اسرع نحو الحمام .. اعتدلت ميار في جلستها بعدما سمعت آخر كلماته ولم تفهم شيء لكنها نالت بعضًا من قلقه حول إذا صاب أحدهم مكروه ، دقيقتين بالضبط وخرج فغمغمت بصوت مضطرب :
_ إيه اللي حصل ياعلاء ؟
أجابها بإيجاز وهو يخرج ملابسه ويشرع في التغيير مهمهمًا :
_ مش عارف ياميار ، شكله في مشكلة حاصلة في البيت فهروح اشوف في إيه
ميار بصوت ناعم :
_ طيب تحب البس وآجي معاك
رفض بهدوء :
_ لا خليكي هنا .. أنا شوية بليل هرجعلك
ضيقت عيناها باستغراب وقالت بفضول :
_ هو احنا هنقعد هنا مش هنرجع البيت ولا إيه ؟!
كان قد انتهى من ارتدائه للبنطال والقميص ولا يتبقى سوى الحذاء فاقترب منها يخطف قبلة من وجنتها وهو يغمز بلؤم :
_ نرجع البيت إيه دلوقتي بس .. احنا عايزين ناخد راحتنا اليومين دول ياحبيبتي من غير ماحد يزعجنا
ابتسمت له باستحياء ملحوظ دون أن تجيب وتابعته بعيناها إلى أن انتهي من ارتداء ملابسه بالكامل حتى الحذاء ، وودعته قبل أن يغادر .
***
انتهت من تحضير الطعام ووضعت الصحون على صينية متوسطة الحجم ، وسارت بها إلى غرفتهم .. فتحت الباب بهدوء تام ودخلت ثم وضعت الصينية على الفراش أمامه وغمغمت بنبرة مقتضبة :
_ متنساش تاخد العلاج قبل الأكل !
كان هو جالسًا وبيده أحد كتب الفلسفة ( نوعه المفضل من الكتب ) ، ويرتدي نظارة القراءة خاصته . فترك الكتاب ووضعه بجانبه ثم نزع عنه النظارة وهتف بنظرة ذات معنى :
_ مش هتفطري معايا ؟!!!
تمتمت بنبرة جافة وهي لا تنظر له :
_ مش جعانة شوية كدا هفطر .. كل إنت بالهنا والشفا
ثم استدارت بجسدها وهمت بالانصراف لولا يده التي قبضت على رسغها وحدثها بصوت متضايق :
_ تمام براحتك طالما إنتي عايزة تاخدي موقف مني بسبب كلامنا إمبارح .. بس ياترى هل أنا استاهل التجاهل والقسوة دي منك وبلأخص في اكتر وقت أنا محتاجك فيه تكوني جمبي وتسانديني ؟!
اغمضت عيناها بقوة فقد اصابها في الهدف بكلامه ، وجعلها تشعر بالخزي من نفسها .. لكنه لم يترك لها حلًا سوى أن تتخذ منه موقف قاسي حتى يعود لعقله ويدرك حجم الاخطاء التي يرتكبها ! .
جذبت يدها من قبضته برفق والتفتت له كاملًا بجسدها تهمس بنفس ضعيفة وأعين منطفئة تلمع بالدموع :
_ لازم اخليك تفوق من اللي إنت فيه ياكرم .. إنت بقيت شخص مخيف غضبك بيسيطر عليك بطريقة مرعبة لدرجة إنك بتخليني اتخيل إنك ممكن تقتل حد فعلًا ، وكنت هتعملها فعلًا يوم لما اتخطفت ولولا حسن اللي لحقك كنت قتلته بالفعل ، وأنا كنت بحاول امنعك واهديك وابعد الأفكار دي عن تفكيرك ، كنت مدركة حجم الألم والعجز اللي حاسس بيه عشان مش قادر تاخد حقها .. بس إنت مفكرتش غير في أروى وفي غضبك وركتني أنا على الرف ، مفكرتش إنك لو كنت قتلته فعلًا ودخلت السجن كان هيحصلي أنا إيه وأنا مليش غيرك ، ولنفس السبب دلوقتي وهو غضبك كنت هخسرك وكنت على أبواب الموت وفوق ده كله لسا بتقول إنك هتنتقم منهم .. قولي المفروض اتصرف إزاي ولا أعمل إيه ، بنسبالي أقل حاجة إني أخد منك موقف عشان تعرف إنك غلط
كرم بصوت خافت وحزين :
_ وهو أنا مش بعمل ده كله عشانك وعشان احميكي !!
صرخت به بانفعال وقد انهمرت دموعها بحرارة :
_ وأنا قولتلك مليون مرة مش عايزاك تعمل حاجة عشاني .. إنت كدا بتأذيني مش بتحميني ، في حاجة اسمها قانون هو اللي بيعاقب الناس .. مش إنت ياكرم !! ، ارجوك كفاية أنا مش عايزة اعيش في احساس الخوف ده تاني ، يكفي إني كنت بحسه مع سيف لما كان بيروح لمهمة تبع الشغل وبنبقى أنا وماما حاطين إيدنا على قلبنا خوف إنه ميرجعش لينا وفي الآخر مرجعش فعلًا .. إنت مش عايز تفهمني ولا تفهم كم الرعب اللي بيتملكني وأنا خايفة أن حد يأذيك
جذبها من ذراعها واجلسها بجواره على الفراش ثم ضمها لصدره وقبَّل مقدمة رأسها هامسًا بأسف :
_ أنا آسف
شفق بصوت متلقلق من البكاء :
_ أنا مش عايزة أسفك أنا عايزة كرم اللي أنا اعرفه من قبل ما نتجوز
_ أنا لسا كرم اللي تعرفيه ومتغيرتش معاكي ياشفق أبدًا ، بس لازم أكون الشخص اللي إنتي بتكرهيه ده مع اللي يستاهل إنه يشوف الجزء المظلم ده مني
ابتعدت عنه فورًا ورمقته بدهشة وسخط اعتلى معالمها من جديد :
_ يعني إيه ؟!
ابتسم بحنو وانحنى يطبع قبلة أخرى لكن هذه المرة على وجنتها مردفًا بخشوع :
_ بس متقلقيش من هنا رايح هتصرف بحكمة ومش هسمح لغضبي إنه يسيطر عليا ولا هسمح إنك تحسي بإحساس الخوف ده تاني ابدًا
لانت قسماتها واستقرت في عيناها نظرة بريئة قادرة على أثر قلوب اعتى الرجال واشرسهم وهي تهمس برقة جميلة :
_ وعد ؟!!
هز رأسه بالإيجاب وهو يضحك بخفة ويعود يختطف القبلات منها بعاطفة جيَّاشة وغمزة مشاكسة :
_ وعد ياقلب الكوكو بتاعك
أخيرًا أظهرت عن اسنانها في أبتسامة عريضة وعادت ترتمي بين ذراعيه من جديد مغمضة عيناها بسكينة ….
***
كان مشغولًا بعمله عين في الورق وعين على الحاسوب أمامه ، يحاول إنهاء الأعمال المتراكمة في غياب أخويه الأثنين ، وإذا به يجد الباب ينفتح وتظهر من خلفه يسر التي دخلت واغلقته خلفها ثم تسمرت بأرضها تحدق به بدموعها التي تملأ وجهها ، ضيق عيناه باستغراب واستقام واقفًا بارتعاد يهتف :
_ مالك يا يسر ؟!!!
هرولت إليه والقت بنفسها بين أحضانه تهتف ببكاء :
_ اتخانقت مع بابا وماما !!
لف ذراعه حولها وتمتم بحيرة :
_ اتخانقتي معاهم ليه ؟!
_ حكيتلهم وقولتلهم إني لسا حامل
تراجع خطوة للوراء وتشدق بصوت خشن امتزج بالضجر :
_ روحتي وحدك ليه ! .. أنا مش قولتلك إن أنا اللي هكلم عمي ، بتتصرفي من دماغك ومن غير ماتقوليلي يايسر !
يسر برزانة :
_ مكنتش هتعرف تتصرف مع بابا ومش بعيد كنت تتكلم وتحكي الحقيقة وبابا كان هيخرب الدنيا لو عرف
حسن بانزعاج يشمله بالكامل :
_ أنا مش غبي للدرجة دي .. بس كان لازم أنا اللي اتكلم معاه واعتذر منه وافهمه عشان أنا اللي غلطان مش إنتي ، لكن إنتي طبعًا مش بتسمعي كلام حد !
_ أنا شايفة إن كدا أفضل ياحسن .. وأهو حصل اللي حصل خلاص وبابا زعل واتعصب عليا أوي وحتى ماما .. هما مضايقهمش حاجة قد موضوع الحمل وإني كدبت عليهم
قطع حديثهم صوت رنين هاتفها المتكرر فاخرجته من حقيبتها وقرأت اسم المتصل لتقول بخنق :
_ ده علاء .. أكيد ماما حكتله
جذب الهاتف من يدها دون أذنها وأجاب بصوت أجشَّ :
_ أيوة ياعلاء ؟
_ يسر معاك ياحسن ولا إيه ؟!
_ أيوة معايا
قال علاء بنبرة تحمل الريبة :
_ طيب هي كويسة .. أصل ماما اتصلت بيا بتقولي اتخانقت معاهم وطلعت من البيت بتعيط و مش فاهم إيه اللي حصل ؟
أجابه حسن بنبرة رجولية ثابتة :
_ أنا هاجي البيت عندكم بليل وهنتكلم أنا وإنت وعمي
رفع حاجبه بتعجب وقد حدثه حدسه بأن هناك أمرًا ليس بهينًا حقًا ، فهتف يجيب على حسن بالموافقة :
_ طيب مستنيك
انزل الهاتف من على أذنه وضغط على زر الأنهاء فقالت يسر باعتراض :
_ لا إنت بذات مينفعش تتكلم مع علاء .. سيبني أنا هقوله
رمقها بنظرات ثاقبة كالصقر وهتف بلهجة لا تقبل النقاش :
_ ملكيش دعوة أنا عارف أنا هتصرف إزاي
تأففت بنفاذ صبر بعدما فهمت أنها لن تتمكن من جعله يتراجع ، وقالت بعدم حيلة من أمرها :
_ طيب أقعد هحكيلك اللي قولته لبابا وماما على الاقل عشان متروحش تتكلم مع علاء أو بابا وتقول كلام غير اللي قولتله
حسن بصوت حازم ومتحشرج :
_ لا هقول اللي حصل يايسر .. كفاية أنا زهقت من الموضوع ده هنفضل نكدب لغاية إمتى !
حجظت عيناها بذهول وقالت مسرعة تنهاه عن الذي يقوله :
_ إنت مدرك للي بتقوله .. لتكون فاكر إن لو بابا وعلاء عرفوا باللي عملته معايا هيعدوا اللي حصل بسهولة ويقولوا خلاص مش مشكلة ، مش بعيد بابا بنفسه هو اللي يخليك تطلقني
رأت في عيناه نظرات قوية وهو يهتف بوعيد بدا لها غريبًا وجديدًا تمامًا عليه :
_ مش هسمح لحد إنه يبعدك عني حتى لو كان أبوكي ، هقول الحقيقة عشان اريح ضميري لإني مش قادر ابص في عينهم وأنا بكدب عليهم
احتضنت وجهه بين كفيها وتمتمت بتوسل وخوف :
_ بلاش ياحسن أنا عارفة بابا كويس أوي والله ، ابوس إيدك ياحبيبي بلاش
أجابها بوجه جامد ولكن بنبرة دافئة وهو يلتقط كفيها من على وجهه :
_ متخافيش
***
داخل أحد السجون بين أربعة جدران يوجد على سريرين منهم كل من جاسر وكمال …
يستند كمال بظهره علي الحائط وهو جالسًا ويحدق في السقف بشرود وبجهة أخرى يجلس جاسر نفس الوضعية ، ولا يلاحظوا عيون الباقية التي تتابعهم بشر وابتسامات شيطانية ، اتجها أثنين نحو جاسر وانحنوا عليه يهمسوا بلؤم ونبرة صوت مريبة :
_ شكلك مش قد البهدلة يا*** ماتقولنا كدا إنت وأبوك عملتوا إيه يدخلكم السجن وإنتوا باين عليكم ولاد ناس واكابر
رمقه جاسر بقرف واشمئزاز هاتفًا :
_ ابعد عن وشي احسن اوريك ولاد الأكابر دول ممكن يعملوا إيه معاكم
نظر الرجل إلى صديقه وكركر بسخرية ثم عاد له وقال بوعيد :
_ ده بيهددنا كمان .. وأنا اللي صعب عليا وكنت ناوي انسى التوصية اللي اتوصتلنا عليهم .. بس شكلك تستاهلها !
اغار عليه هو وصديقه يبرحانه ضربًا فوثب كمال واقفًا وهرول راكضًا نحو أبنه حتى ينقذه من بين إيدهم ، لكنخ تلقى لكمة قوية في وجهه من أحد المساجين اطاحته أرضًا وهو يقول بصوت به بحة مرعبة :
_ خليك بعيد إنت راجل كبير ومش عايزين نمد إيدنا عليك
استقام كمال واقفًا بعد أن وضع يده على ثغره الذي سالت منه الدماء واتجه نحو ابنه الذي كانوا قد انتهوا من ضربه .. انحنى عليه يسنده وقد ادمي وجهه الدماء ، فنظر كمال إليهم وكان على وشك أن يتحدث لولا أن واحد من الأثنين الذين اعتدوا بالضرب على ابنه همس وهو يبتسم بخبث :
_ كرم العمايري باعتلكم سلامه وبيقولكم مقدمًا مبروك عليكم المؤبد
***
كان إسلام جالسًا على مقعده داخل غرفته بالمستشفى أمام النافذة ويتأمل في السماء الملبدة بالغيوم في راحة نفسية ، حتى قطع لحظات خلوته دخول زين الغرفة ، فالتفتت له برأسه وسمعه يقول صوت غريب :
_ عايز اتكلم معاك شوية يا إسلام !
_ تعالي يازين !!
أخذ نفسًا عميقًا قبل ان يخطو خطواته ناحيته ويجلس على المقعد المجاور له ، فقد حانت اللحظة لكشف كل شيء مخفي منذ البداية !! .
خرج صوت زين مختنق :
_ هتكلم معاك في موضوع ، أنا عارف إني المفروص كان أقوله من بدري ومن أول ماعرفت بس للأسف مكنتش جاهز إني اواجهك بيه أو حتى اواجه نفسي
لم يفهم شيء من الالغاز التي القاها عليه للتو بكلامه ، لكنه شعر بأن الأمر شديد الخطورة حقًا .. فلم يسبق له ورأى زين يتحدث بهذه الطريقة أبدًا ، ثواني بالضبط وبدأ زين في التكلم بصوت مرير وشجن :
_ أنا دخلت مصحة إدمان من عشر سنين .. كنت مدمن ومتعالجتش إلا لما دخلت المصحة والحمدلله ربنا هداني وانقذني من الوحل اللي كنت فيه .. بس قبل ما ادخل المصحة كنت في يوم راجع البيت ومش في وعي فخبطت واحد وللأسف كنت بني آدم قذر وحيوان لدرجة إني سبته وهربت بسبب إني شارب ومش مدرك لأي حاجة ، بعد ما دخلت المصحة وطلعت قلبت الدنيا على الشخص ده عشان اعرفه مات ولا عايش ، محتاج مساعدة اقدمهاله ولا لا ، اثبتله ندمي وإني حرفيًا مكنتش بعرف أنام من الكوابيس اللي بتلاحقني كل ليلة ، وإن ضميري بيقتلني ومش عارف أسامح نفسي .. قضيت العشر سنين وأنا بكفر عن ذنوبي بالصلاة والدعاء والتقرب من الله وبدعي ربنا إنه يوصلني ليه عشان استسمحه واخليه يسامحني على اللي عملته معاه يمكن ضميري يرتاح شوية ، وبعد ما اتجوزت بفترة طويلة اكتشفت إن الشخص ده هو إنت .. حسيت بالعجز اللي عمري ماحسيت بيه وكأن ربنا بيمتحني بحاجتين أصعب من بعض ، مبقتش عارف أعمل إيه وبقيت تايه .. كل مرة كنت بقول هواجهك وهقولك إنت وملاذ كنت بتراجع وبخاف ، لأن أنا شخصيًا مش عارف اسامح نفسي على اللي عملته فمكنتش عارف هخليكم تسامحوني إزاي ، حاولت اساعدك عشان تعمل العملية وأحاول أصلح اللي عملته ومكنش في نيتي حاجة غير إن اساعدك واصلح ذنبي اللي عملته .. سامحني يا إسلام
حالة من الذهول والصدمة استحوذته بالكامل ، هل مايسمعه حقيقيًا أم أنه يهلوس بأشياء لا وجود لها ، فهذا لا يمكن أن يكون حقيقيًا أبدًا ولا يستوعبه عقل !! .
تمتم إسلام بنظرات مدهوشة وصوت يبدو عليه عدم الاستيعاب والتصديق :
_ إنت بتقول إيه .. لا إنت أكيد بتهزر ؟!
رمقه زين بوجه بائس ومتأسف ولم يجيبه بأي شيء ، فاطال النظر فيه يقرأ معالم وجهه التي تثبت صحة كلامه !! ، فيطلق ضحكة مستنكرة مكتومة .. ضحكة لم تكن سوى تعبيرًا على صدمته وأنه لا زال لا يستوعب أنه كان السبب في عذابه كل هذه السنوات ! ، استقام واقفًا وهتف بصوت بدأ يأخذ طريقًا مغايرًا في نغمته :
_ إنت عايز تفهمني إنك كنت السبب في كل اللي حصلي ده !!
توقف زين أيضًا وقال بخزي من نفسه وعجز :
_ كنت متهور وعيل مش فاهم حاجة .. مكنتش في وعي ، أنا ندمان على كل حاجة عملتها في حياتي زمان .. ومكنش قصدي اخبطك كل اللي فاكره إنك طلعت في طريقي مرة واحدة
تحرك إسلام إيابًا وذهابًا في الغربة وهو يمسح على شعره نزولًا إلى وجهه ويلتهب بنيران الغضب ، يطلق من بين شفتيه زفيرًا أشبه بشرارت النار الأحمر كالدم ، ثم توقف وصاح منفعلًا :
_ إنت عارف أنا كنت ناوي لما نرجع مصر هفتح القضية من تاني عشان يرجعوا يدوروا عليه من تاني .. أنا شوفت أيام لا يمكن تتخيلها ، كنت حرفيًا بتعذب .. عشر سنين يازين وأنا عاجز وبمشي على عكاز بسبب الحادث ده
زين بثبات تام ونظرات جادة :
_ وأنا بقولك اهو لو هترتاح لما تبلغ عني بلغ عني .. لإني مدرك ألمك واللي عشته قد إيه كان صعب لأن حتى أنا جربته لفترة ومكنتش بمشي غير على كرسي متحرك .. ليك الحق لو عملت إي حاجة ولا يمكن الومك
هدر إسلام بنظرات عاجزة ومستاءة :
_ للأسف مش هقدر !!
قالها ثم اندفع إلى خارج غرفته تمامًا حتى لا يفقد أعصابه أكثر من ذلك فهو بحاجة إلى أن يخلو بنفسه لبعض الوقت ويفكر في كل هذا بعقلانية وليس بتسرع ، أما زين فعاد وجلس على المقعد يمسح على وجهه بكفه الكبير وهو يزفر بخنق وضيق ! …..
***
في مساء ذلك اليوم ……
تقف على مسافة بعيدة نسبيًا عنه وتتابعه وهو يخطو خطواته بمفرده دون مساعدة منها .. يسير ببطء مسافة ثلاث خطوات ذهابًا ويعود بهم إيابًا ، اقتربت منه بعد لحظات وجيزة وعانقته هاتفة بسعادة :
_ الحمدلله وضعك اتحسن أوي ياحبيبي .. بالمنظر ده قريب أوي هترجع تمشي على رجلك تاني زي الأول واحسن
كرم بتمنى :
_ يارب ياشفق والله ، لاحسن أنا اتخنقت من البيت والسرير وعايز اطلع
فغرت عيناها بصدمة مصتنعة وهي تجيبه بغضب ليس حقيقي :
_ إيه اتخنقت من البيت ده .. قصدك اتخنقت مني أنا يعني !!
كتم ضحكته وهتف مقوسًا ملامح وجهه بقرف مزيف مشاكسًا إياها :
_ آه جدًا ومش طايقك كمان !
نسخت نفس ملامح وجهه وأجابته مازحة :
_ ولا أنا طيقاك على فكرة برضوا !
كركر بصوت مرتفع فزينت هي وجهها بابتسامة عريضة نتيجة لضحكته وساعدته في التسطح على الفراش ، ثم التفتت من الجهة الأخرى وتمددت بجواره تضع رأسها على صدره .. عم الصمت بينهم للحظات طويلة ، هي تحدق في اللاشيء أمامها بفراغ وهو إحدى ذراعيه حول جسدها يضمها إليه وبأنامله يعبث في خصلات شعرها الناعمة برفق ، حتى قرر هو اختراق فقاعة الصمت القاتلة وهو يغمغم بصوت هاديء ومهموم :
_ مش إنتي وحدك اللي خايفة تخسريني ، أنا مش بحس بنفسي لو شعرة منك اتلمست بس ، بخاف عليكي من نفسي ياشفق أحيانًا .. وزي ما إنتي معندكيش استعداد تخسريني أنا كمان معنديش ، لإنك بنسبالي جوهرة لو ضيعتها بإهمالي مش هلاقيها تاني أبدًا ، وآخر حاجة هبقى عايزها إني اشوف الخوف في عينك مني أو تشوفيني بقيت شخص مختلف .. أنا بعمل ده كله من خوفي لأخسرك ياشفق مش لمجرد إني عايز اخد حقك من أي حد أذاكي ، من وقت جوازنا اعتقد إن كل مرة كنت بتخانق معاكي أو بزعقلك بيكون خوفي هو السبب ، صدقيني أنا مهما اتغيرت وبقت واحد قاسي مع الناس معاكي هرجع لحقيقتي .. إنت نقطة ضعفي
اعتدلت شبه جالسة وطالعته بابتسامة دافئة وعينان تنضج بالعشق ، ثم مدت كفها وملست على وجنته برقة هامسة بنظرتها المعتادة القادرة على أذابته بالكامل :
_ أنا فاهمة كله ده ومش خايفة أبدًا إنك ممكن تتغير معايا لإني الراجل اللي حماني وكان جمبي وضهر ليا في الوقت اللي ضهري كان فيه مكسور بعد وفاة أخويا مستحيل يكسرني .. أنا مش غبية على انسى اللي عملته معايا لإن بالعقل والمنطق لا يمكن أن واحد كان بيعاملني معاملة الأميرات لدرجة إني كنت بحس إنه بيحبني فعلًا وهو كل ده مكنش بيحبني ولما يحبني يبقى شخص تاني ! ، أنا لما قولتلك إني بخاف منك مكنش قصدي بالمعنى اللي فهمته لإني مستحيل احس بخوف منك إنت الشخص الوحيد اللي اسلمله نفسي وأنا مغمضة عيني .. أنا كان قصدي إني خايفة منك لتأذي نفسك بتصرفاتك اللي بقت متهورة ، لإن كرم اللي اعرفه كان دايمًا حكيم ومش بيمشي خطوة إلا لما يحسبلها ألف حساب الأول .. إنت خايف عليا من الناس وأنا خايفة عليك من نفسك ، عشان كدا اتخانقت معاك لإني مش عايزاك تكون كدا أبدًا ياحبيبي ، بعدين مين المتخلفة دي اللي تخاف من الكوكو ياراجل ده إنت كيوت ولطيف أكتر مني
قالت آخر جملها وهي تضحك بمداعبة لكي تبعث القليل من المرح على هذه الكآبة التي هيمنت فجأة عليهم ، فرأت ابتسامته التي تسحرها ترتفع لثغره مع أعين تحدقها بهيام ، لف ذراعه حولها ويجذبها إليه مغمغمًا وأنفاسه الدافئة تلفح رقبتها فأصابتها بشقعريرة جميلة :
_ وكنتي بتسأليني قبل كدا بحبك ليه ! .. وهو مين اللي ميكونش معاه ست زيك بكم الجمال والرقة دي وميحبهاش .. إلا بقى لو كان راجل حمار
سمع صوت قهقهتها البسيطة وهي تجيبه بعاطفة وغنج أنوثي ساحر بعد أن ابتعدت برأسها وجعلت وجهها مواجهًا لوجهه مباشرة :
_ أنا مش محتاجة أقول بحب الكوكو بتاعي قد إيه لأنه عارف عارف كويس أوووي .. كفاية ضحكته بس
وكأنها قالتها عمدًا ليضحك حيث قهقه بقوة ثم أجابها من بين ضحكه وهو يغمز بلؤم :
_ طيب تعرفي إنك وحشتي الكوكو أوي !
تحلت بالأنوثة ولم تتصرف كطبيعتها الخجلة والبريئة التي أشبه بطبيعة طفلة ، حيث لفت ذراعيها حول رقبته وهمست بفحيح أنوثي مثير :
_ وهو كمان وحشني أوي !
مالت شفتيه للجانب في ابتسامة ماكرة وهو يرفع حاجبها بإعجاب من جرائتها غير المألوفة عليه !!! …..
***
عيناها عالقة على التلفاز ولكنها لا ترى شيء .. ترغب كثيرًا في البكاء كلما تتذكر ماسمعته ، ليس لديها الحق في محاسبته على ماضيه سواء كان جيدًا أم سيئًا ولكن لديها الحق في المعرفة وهو رأى أن ذلك الحق كثيرًا عليها !! .. اخفى عليها شيئًا لا يمكن إخفائه ، وما يمزقها لأربًا أنها لا تستوعب فكرة أنه هو الذي صدم أخيها ، ترفض التصديق أو بالاحرى عواطفها التي تأبي التصديق .. كيف فعلها وماهي مبرراته لفعلته الشنيعة !! ، هل لديه أسبابه التي تستحق أن تجعلها تلتمس له العذر بعد سماعها وتسامحه أم أن أسبابه هراء وليست مقنعة ؟! ، كلها اسئلة تطرحها على نفسها منذ الصباح وأجابتها ستكون لديه هو لذلك هي تنتظر عودته حتى تواجهه بالشيء الذي لم يمتلك الشحاعة ليواجهها به !! .
انتشلها من قاع أفكارها المظلم صوت رنين هاتفها فالتقطته وحدقت في شاشته بسكون وخنق دون أن تجيب لتسمع صوت أمها التي كانت تشاركها جلستها أمام التلفاز :
_ ماتردي على التلفون يابنتي !!
انتبهت لأمها فاخفت الهاتف بجانبها وضغط على زر كتم الصوت تهتف بجفاء :
_ ده رقم غريب
دققت أمها النظر في قسماتها بريبة ثم عادت تثبت نظرها على شاشة التلفاز من جديد ، فيعود صوت رنين الهاتف مرة أخرى وتفعل كما فعلت بالرنة الأولى عندما كتمت صوت الرنين ، تابعتها أمها بنظراتها في تشكيك خاصة عندما لاحظت اهتزاز قدماها بعصبية وتلون وجهها باللون الأحمر وعيناها بدأت تلمع بالدموع ، فانتصبت في جلستها ومدت يدها تجذب الهاتف لكن الرنين انتهى ، وماهي إلا ثواني وعاد يرن من جديد فوجدت أن المتصل هو ” زين ” .. رفعت نظرها لملاذ وقالت بجدية :
_ ده زين !! .. مش عايزة تردي عليه ليه ياملاذ ؟!!
هبت واقفة وقالت بصوت مبحوح وهي تقود خطواتها نحو غرفتها :
_ لو هتردي عليه قوليلوا إني نايمة
_ ملاذ تعالي فهميني في إيه ؟!!
_ مش دلوقتي ياماما مليش نفس اتكلم
استمعت إلى صوت باب غرفتها وهو ينغلق ، فبقت مكانها تنظر في الفراغ بتفكير وتعجب فحتى الأمس كانت تتحدث معه بطبيعية ولم يكن هناك أي شيء بينهم .. مالذي حدث من الأمس !!! .
***
خرج حسن من باب المنزل وسار بخطواط هادئة نحو سيارته حتى استقل بها وكان على وشك أن ينطلق لولا باب المقعد المجاور له الذي انفتح وركبت يسر بجواره فخرج صوته رجولي وقوي :
_ بتعملي إيه ؟!
أجابته بتصميم وعند :
_ مش هسيبك تروح وحدك
حسن بشيء من الانفعال :
_ وأنا قولتلك مش هتروحي .. انزلي يايسر
قالت بإصرار وغضب عارم :
_ مش هنزل ياحسن .. ويلا اتحرك
تأفف بقوة وبعصبية منها ثم وضع المفتاح وحرك محرك السيارة لينطلق بها متجهًا إلى منزل طاهر العمايري .
وصلا إلى المنزل ودخل حسن ليتحدث مع عمه وعلاء بالداخل ، بينما هي فبقيت بالخارج تستمع لحديثهم بعدما رفض أن تدخل معهم ، سمعت حديثهم الذي كان كالآتي ….
_ أظن إن اللي حكتهولي يسر كفاية أوي ياحسن
كان هذا صوت والدها فسمعت حسن يجيب عليه بنبرة خافتة ومخنوقة :
_ يسر محكتش كل حاجة أو بمعنى أصح مقالتش الحقيقة ياعمي
كانت تتصنت على باب الغرفة من الخارج عندما سمعت زوجها يبدأ حديثه وهو يسرد لهم كل شيء كالآتي .
_ أنا مش مكنتش بحب يسر زي ما قولت لما طلبت إيدها من حضرتك ، كنت ماخد الموضوع لعبة وعايز اتسلي .. معترف بأخطائي وإني مكنتش راجل ولا قد الكلمة والامانة اللي سلمتهالي ياعمي ، لإني عاملتها وحش كتير وهي كانت بتستحمل معاملتي بسبب حبها ليا وأنا كنت للأسف غبي وحقير ومأدركتش قيمة ده إلا لما لقيتها هتضيع من بين إيدي .. كنت ناوي اطلقها واتفقنا على الطلاق خلاص بس حصل مرة واحدة موضوع الحمل اللي قلب الموازين .. مش هدافع عن نفسي ولا عن موقفي في اللي عملته معاها لما مديت إيدي عليها و طلبت منها تنزل الطفل لأني مدرك غلطي كله ، ولما هي قالتلي إنها نزلته وكدبت عليا أنا قبلها كنت تراجعت وندمت على اللي قولته واللي عملته ، بس كان يفيد بإيه بقى لأن لحظتها أنا كنت خسرتها هي وابني وحاولت زي ماشوفتوا ارجعها واخليها تسامحني موافقتش نهائي ، ولما فضلت وراها وحاولت اثبتلها ندمي قدرت ارجعها ليا تاني .
سكت للحظات قصيرة من الوقت ثم استكمل حديثه بصوت به بحة حزينة :
_ كان لازم اقول الحقيقة لإني مكنتش هقدر ابص في عينك ياعمي إنت وعلاء أكتر من كدا وأنا بكدب عليكم ، كل اللي عايز اقوله دلوقتي إني عرفت قيمة مراتي وبحبها ومش مستعد ابعدها عني تاني أبدًا هي وابني .. أنا آسف ياعمي سامحني
ادمعت عيناها بمشاعر العشق المتيم به بعدما سمعت كلماته ، القى اللوم كله على نفسه ولم يظهر سوءها ! .. لم يخبرهم عن تهديدها له بصوره وتسجيلاته .. لم يخبرهم عن ابتزازها له الذي دفعه للزواج منها حتى ينتقم ، تحمل الذنب كل وحده ! ، بالرغم من أنها مذنبة ومخطئة مثله تمامًا ! .
عم الصمت بالغرفة ولم تسمع أي صوت يصدر ، إلا وبلحظة سمعت صوت صفعة قوية فشهقت بهلع بعدما توقعت الذي حدث واندفعت للداخل إليهم فورًا فوجدت أبيها يقف أمام حسن ، وكما توقعت فقد صفعه بكل عنف وغضب ثم بدأ بالصياح المخيف :
_ بقى هي دي التربية اللي ربهالك محمد .. اسلمك بنتي وامنك عليها وإنت تخون الأمانة وتعمل فيها كدا ، تعرف أنا دلوقتي بس ندمت إني مطلقتهاش منك
كان ساكنًا تمامًا يجفل نظره أرضًا حتى وجد علاء يجذبه من تلابيب قميصه صائحًا بعصبية :
_ دايمًا كنت شاهد على كل قذاراتك ، بس متوقعتش إنها توصل بيك لاختي
لا يزال صامتًا لا يجيب فقط يحدق بالأسفل بخزي ومرارة ، لم يتمالك علاء نفسه فوجه له لكمة عنيفة كادت أن تطيح به أرضًا .. هرولت يسر ووقفت حاجز بينهم تصيح بشجاعتها المألوفة :
_ علاء اهدى .. حسن معملش ليا حاجة أنا اللي غلطانة من البداية لما …..
انتصب في وقفته وقبض على ذراعها ضاغطًا عليه يحدقها بعيناه التحذيرية من أن تتحدث ثم تحرك للأمام وقال بخشونة :
_ أنا مدرك غلطي ياعلاء ومش بنكره بس أنا دلوقتي ندمت والله
علاء وهو يدفعه في كتفه بعنف ويصرخ به :
_ يعني إيه كنت عايز تتسلي هاااا .. وفوق ده كله مديت إيدك عليها ، واحنا منعرفش با ولا حاجة من اللي بيحصل ده
تدخلت للمرة الثانية وهي تصيح بأخيها مستاءة :
_ أنا مشتكيتش لحد من حاجة .. استحملت كل ده عشان خاطر أنا عايزة كدا ولو كنت عايزة اطلق كنت اطلقت من زمان ، كفاية إني عارفة دلوقتي أنه بيحبني وميهمنيش أي حاجة تاني
غرس أصابعه بين لحم ذراعها يهدر بأنفعال وصوت مرعب :
_ يعني إيه ميهمكيش أي حاجة .. إزاي سمحتي لنفسك إنه يعمل معاكي كدا ومقولتيش لحد فينا ، سمحتيله يهينك ويزلك وأحنا موجودين .. ليه ملكيش أهل يايسر
تملك الضجر من حسن الذي عيناه استقرت على قبضة علاء وهو يمسك بذراعها في عنف هكذا ، فازاح يده عنها بهدوء مريب مع صوته وهو يتمتم :
_ علاء _ إنت متتكلمش معايا نهائي فاهم ولا لا .. ياصا..حبي ، كفاية إني سايبك واقف قصادي سليم كدا
التقطت أذنيه كلمة ” صاحبي ” ببطء مميت ، حيث كان يقولها بسخرية وخزي ونظرات كلها سخط وبغض .. المته نبرة صوته وتلك النظرات أكثر من أي شيء ، ليتحدث أخيرًا طاهر بعد برهة طويلة من الصمت بأعين ثاقبة كالصقر وصوت غليظ به لهجة آمرة :
_ عـــــلاء خلاص سيب اختك أنا هتصرف معاها بعدين بطريقتي ، لكن بعد اللي سمعته من البيه واللي حصل بينهم واللي عمله مع بنتي وأنا واثق إن في تفاصيل تاني انيل من اللي عرفتها دي دلوقتي ولسا منعرفهاش ، لا يمكن امنلك على بنتي تاني ياحسن .. اخويا لما مات وساب ولاده أنا اعتبرتهم ولادي بالظبط وأنت وكرم وزين زيكم زي علاء بنسبالي ، ولما جيت سيادتك واعترفتلي ووقفت قدامي زي الرجالة وطلبت إيد بنتي فرحت وسلمتها ليك وأنا مطمن ومغمض عيني من غير ما افكر حتى بس للأسف كسرتلي الامانة اللي امنتك عليها .. ودلوقتي أنا اللي هخليك تطلقها
لم يندهشوا من جملته الأخيرة حيث توقعوا أنه سيفعل ذلك ، وعلى عكسها هي التي لم تجهز نفسها لمواجهة هذه اللحظة هو كان يعرف جيدًا بمذا سيجيب وبكل ثبات وثقة حيث غمغم بصوت رجولي حازم :
_ أنا آسف ياعمي .. أنا جيت واعترفت بكل حاجة عشان اريح ضميري بس مش اكتر ، لكن مستحيل افرط في مراتي بس ماصدقت إنها رجعتلي .. ومستحيل أطلقها ولا هسمح لحاجة تبعدني عنها
ثم شبك كفه بكفها يحسها على السير معه ، لكن عيناها كانت معلقة على أبيها وأخوها فملست على ظهر كفه بلطف وهمست بصوت بالكاد سمعه هو :
_ اسبقني على العربية ياحسن وأنا هاجي وراك
القى نظرة أخيرة عليهم قبل أن يترك يدها وينطلق إلى خارج المنزل بأكمله ، أما يسر فاقتربت من أبيها وعانقته بقوة متمتمة بصوت مبحوح ويغلبه البكاء :
_ آسفة إني خبيت عنكم ومقولتلكمش .. بس صدقني أنا دلوقتي مبسوطة اكتر من أي وقت كنت فيه في حياتي يابابا ، ومرتاحة مع حسن .. مش عايزة ابعد عنه بعد ما أخيرًا حياتنا استقرت وهو حبني ، أنا عارفة أن إنت عايز مصلحتي وخايف عليا بس حسن مستحيل يأذيني نفسيًا تاني صدقني .. هو بيحبني بجد وأنا معنديش شك في ده ، ارجوك بلاش تزيد المشاكل بينا ولو عايز سعادتي بجد سيبني أعيش بالطريقة اللي أحبها ومع الشخص اللي عايزاه
كان طاهر كالصنم يستمع لحديثها دون أن يجيب عليها ، لا يدري أيتبع حدثه الذي بات لا يثق بابن أخيه بتاتًا أم يتبع قلبه الذي يلين لابنته وتوسلاتها وهي تقسم أنه يحبها وهي تعيش حياة سعيدة ومستقرة معه ؟ .. بينما علاء فجلس على أحد المقاعد وبقى يحدق بشقيقته وهو يكاد ينفجر من الغيظ والعصبية ولكنه يتمالك أعصابه حتى لا يتضرر أحد سواء نفسيًا أو جسديًا ! .
ابتعدت عن أبيها وانتظرت أن تجد منه إجابة ولكن إجابته كانت واحدة وهو الصمت فزمت شفتيها بيأس وقالت بعبوس:
_ أنا همشي
ثم استدارت وانصرفت إلى خارج المنزل بأكمله حتي وصلت إلى سيارته وفتحت باب المقعد المجاور له ثم استقلت به واعتلى وجهها قسمات البؤس والخنق ليقول هو بخفوت ونبرة شبه عادية :
_ لو حابة تقعدي يومين هنا عند اهلك يايسر وتحاولي تصالحيهم معنديش مشكلة روحي
هزت رأسها بالنفي في وجه مهموم ثم رسمت الابتسامة العاشقة على شفتيها باللحظة التالية فورًا والتفت بجسدها تعتدل ناحيته جيدًا لتمسك بكفه تحتصنه بين كفيها الناعمتين وتهمس بهيام وحب :
_ تؤتؤ هاجي معاك .. مش هسيبك وحدك
رفع كفه الذي تحتضنه وادار جهة كفها ناحية شفتيه حتى يلثمه بقبلات ناعمة ويهمهم :
_ بحبك أوي
ارتمت عليه تعانقه بحميمية هامسة بجانب أذنه في فحيح أنوثي مثير :
_ وأنا بعشقك
***
في تمام الساعة التاسعة صباحًا ، تقف في المطبخ وتقوم بتحضير الفطار .. ترتدي منامة منزلية قصيرة تظهر منحياتها الجميلة وتثبت شعرها للأعلى بدبوس .
خرج هو من غرفته مستندًا على عكاز .. اليوم الأول له منذ الذي حدث يقف على قدمه ، وجد صعوبة بالبداية في استخدام العكاز ولكنه يسير بكل هدوء وبطء شديد حتى لا يضغط على قدميه .
تسلل من خلفها بحرص دون أن تشعر به وهو يراها تتمايل يمينًا ويسارًا على الحان أغنية تتندنها بنفسها .. وقف خلفها تمامًا ثم لف ذراعه حول خصرها وانحنى على رقبتها يلثمها بحب ، فانتفضت واقفة وشهقت بفزع قبل أن تستدير ناحيته وتحدجه بصدمة ، تفحصته بنظرها من أعلاه لأسفله مدهوشة ثم هتفت بحزم وغضب :
_ كرم إنت مصمم يعني تتعب نفسك وتتعبني معاك ، مينفعش تستخدم العكاز دلوقتي خالص وإنت شوفت كلام الدكتور .. قال ممكن يحصل مضاعفات لو ضغطت على العروق
التقط شهقيًا طويلًا وأخرجه زفيرًا متهملًا بنفاذ صبر ، ثم تمتم بصوت دافيء :
_ أنا كويس ياشفق متقلقيش ومش بضغط على نفسي .. دول هما خطوتين من الأوضة للمطبخ ، حرام عليكي والله مش قادر استحمل قعدة السرير
اشفقت عليه ولانت نظراتها إلى الحنو ثم ارتفعت لمستواه تخطف قبلة من وجنته متمتمة :
_ عارفة وحاسة بيك والله .. بس معلش استحمل شوية كمان ، أنا خايفة عليك ياحبيبي ، خايفة وضعك يسوء تاني بعد ما صدقنا إنه اتحسن كتير الحمدلله
ابتسم لها بصفاء وغمغم مداعبًا إياها :
_ حاضر ياشفق هرجع الأوضة ، تؤمري بحاجة تاني ؟!
ضحكت بصمت ثم التصقت به ولفت ذراعيها حول رقبته ، تنحنى برأسها عليه تمطره بوابل من قبلاتها المثيرة على كل وجهه هامسة بغنج:
_ وهو أنا هعوز إيه اكتر من أن جوزي حبيبي يكون بخير وزي الفل .. ده هو حياتي كلها ومن غيره ميبقاش لها طعم و…
حبس أنفاسه لثواني بعد أحس بأنها ايقظت لهيب رغبته بها الذي يخمده منذ حادثته بسبب وضعه ، اغمض عيناه وأجابها وهو يزفر بحرارة :
_ ابعدي ياشفق عني عشان أنا بجد فاضلي لحظة وهعمل حجات أنا مش مسئول عنها
لم تكترث لتحذيره الصريح واكملت تدللها عليه وهي تسأل بأنوثة ماكرة :
_ حجات زي إيه ؟
رفع حاجبه وتمتم بابتسامة واسعة :
_ مابلاش !
ظلت كما هي تحدجه بالامبالاة فشهقت عندما دفعها بخفها فارتدت للخلف لتلتصق بالمطبخ ، حدجته بدهشة وهتفت بجدية هذه المرة :
_ لا أنت شكلك مش طبيعي فعلًا !
أجابها بلؤم وهو بتقدم إليها ببطء :
_ ما أنا حذرتك وقولتلك بلاش مسمعتيش الكلام
انحنت بنصف جسدها العلوي للخلف وهي تضحك عندما رأته يهل عليها بهيئته الضخمة مقارنة بقامتها الضئيلة ، وهتفت من بين ضحكها :
_ لا بقولك إيه أنا مش عايزة جنان !!
لا زالت الابتسامة الخبيثة في عيناه التي توضح مراده المنحرف ، وصلت هي إلى اقصى انحنائها للخلف وهي تطالعه بوجه يضحك تحاول توقع ماينوي فعله ، ففهمت عندما رأتها ينحنى برأسه ناحيتها ، لكن رنين الباب أفسد لحظاتهم حيث ابتسمت هي ببلاهة وهي تشير بيدها على الخارج :
_ الباب بيرن !
تقوس وجهه بالسخط وهو يجيبها مغتاظ :
_ مش عايزين حد ومش فاضيين ، خليه يرن
اتسعت ابتسامتها البلهاء وهي تستكمل محاولة كتم ضحكتها :
_ دي أكيد مامتك أصلها اتصلت بيا قبل ما تصحى وقالتلي إنها جاية تشوفك وتطمن عليك
_ اووووووف
قالها وهو يزأر من بين أسنانه بخنق فضحكت هي وطبعت قبلة على جانب ثغره كنوع من التثبيت هامسة برقة :
_ معلش ياحبيبي تتعوض ولا يهمك
ثم اندفعت إلى الخارج مسرعة حتى تذهب وتفتح لهدى المنتظرة على الباب .. أما هو فتمتم باختناق وقرف :
_ تتعوض !! ، وأنا اعمل بيها بعدين أنا عايزها دلوقتي .. هي بتاجي في لحظتها كدا ، هقول إيه بس ربنا يسامحك يا أمي
***
فتحت ميار عيناها تدريجيًا ، النعاس يغلبها بسبب بقائها مستيقظة لوقت متأخر بالأمس تنتظره وتحاول الاتصال به ولكنه لا يجيب على اتصالاته .. فبقت مستيقظة إلى مايقارب الثانية بعد منتصف الليل وبالأخير استسلمت لسلطانها .
تململت بالفراش يمينًا ويسارًا لتجد نفسها بمفردها في الفراش تحسست بيدها على الفراش جيدًا ، لكنه ليس موجود ففتحت عيناها دفعة واحدة وقطبت حاجبيها بذهول ، انتصبت جالسة بمكانها وصاحت منادية عليه :
_ عــــــلاء !!!
وثبت من فراشها واقفة واتجهت للحمام ، طرقت ثلاث طرقات على أمل أن يكون بالداخل ، فتحت الباب بأكمله لكن لا أثر له .. اندفعت إلى خارج غرفتها تبحث عنه ببقية المنزل ، وكانت نتيجة بحثها أنه ليس موجود ، استشاطت بينران الغضب .. فقد تغاضت عن تجاهله لاتصالها بالأمس ولكن ليس إلى الحد الذي يتركها تقضي الليل بمفردها في المنزل وحتى الآن لم يأتي ! .
عادت إلى غرفتها والتقطت هاتفها تجري اتصال به وهي تتوعد له بأنها ستفرغ كل سخطها به .. أجاب عليها بصوت عاديًا :
_ أيوة ياميار
صاحت مستاءة ومنفعلة :
_ يعني الليل كله امبارح برن عليك ومش بترد عليا وفي الأخر متجيش البيت كمان وتسيبني ابات وحدي !!
بكامل هدوءه غمغم ولكن صوته واضح عليه الضيق :
_ أنا جيت إمبارح ياميار .. مش معقول هسيبك في البيت وحدك يعني ! ، جيت متأخر بس وكنتي نايمة وطلعت الصبح بدري قبل ما تصحي عشان كان معايا اجتماع الساعة 8
_ ومصحتنيش ليه ياعلاء .. أنا قلقت عليك لما لقيتك مش بترد عليا !
تنهد الصعداء وأجابها بخفوت غريب :
_ أنا كويس ، مكنش ليا نفس بس اتكلم امبارح بسبب المشاكل اللي حصلت .. لما آجي هبقى احكيلك
هدأت عاصفتها تمامًا وذاب سخطها لتجيبه برزانة :
_ ماشي .. أنت كنت عايزة اروح عند مامتك هتكلم معاها شوية
_ تتكلمي معاها في إيه ؟
_ يعني مش حابة يكون في كره بينا ياعلاء هحاول اصلح سوء التفاهم اللي حاصل بينا
علاء بإيجاب دون ان يبدي أي اعتراض :
_ طيب ياميار وانا هخلص شغلي وهاجي وراكي
انزلت الهاتف من على أذنها بعدما انهت المكالمة معه ، عقلها مشغول به فنبرة صوته كان واضح عليها الحزن والخنق ، ياترى ما الذي حدث وماهي المشكلة التي جعلته بهذا السوء ؟!
***
كان يقف أمام المرآة يستعد للخروج والذهاب للعمل ، تسللت هي من خلفه وعانقته هامسة بحب :
_ أنا حضرت الفطار مش هتفطر معايا ولا إيه ؟!
تنهد الصعداء واستدار لها بجسده يجيبها بابتسامة متصنعة :
_ مش جعان يايسر لما اجوع هفطر في الشركة هناك
لمست نبرة الهم والأسى في صوته فاصدرت تنهيدة حارة ثم عادت ترسم البهجة على وجهها من جديد تترجاه بلطافة :
_ افطر حاجة صغيرة وبعدين امشي ، مش عايزة افطر وحدي ياحسن .. عشان خاطري
اطال النظر في معالم وجهها ونظراتها فلم يتمكن من المقاومة وهتف مغلوبًا على أمره :
_ طيب يايسر
تعلقت به في عناق قوي ثم ابتعدت برأسها فقط لتكون مقابلة لوجهه مباشرة وتهمس بملامح بدأ اليأس يعتليها :
_ ممكن متضايقش نفسك بسبب اللي حصل .. إنت عارف إن بابا وعلاء بيحبوك أوي وأنا واثقة إنهم لما يهدوا كل حاجة هتتحل
هز رأسه ينفي ماقالته ويتمتم بنبرة مريرة :
_ مفيش حاجة هتتحل .. أخوكي وأبوكي أنا خسرتهم يايسر خلاص ، بس أهم حاجة بنسبالي دلوقتي هي إنك معايا وبعد كدا مفيش حاجة تاني تهمني
ظهرت في عيناها نظرات الحنو والعاطفة ثم رفعت كفها وملست على وجنته مغمغمة بضيق :
_ إنت ليه مخلتنيش أقولهم إني أنا الغلطانة والسبب في كل اللي حصل ده من البداية لما هددتك بالصور والتسجيلات ، يمكن مكنش الوضع بينكم هيوصل للنقطة دي !
تمتم بصوت رخيم ومشبع بحرارة العشق :
_ إنتي نقذتيني من اللي كنت فيه باللي عملتيه ولما خلتيني اتجوزك ، كنت هفضل غارق في القذارة اللي كنت فيها يايسر ، وعشان أنا حمار ومتخلف مش بعيد كنت اضعف لرحمة تاني لما رجعت وحاولت تعتذرلي بس إنتي نقذتيني منها للمرة التانية كمان
ضحكت بأعين دامعة بعدما سمعت نعته لنفسه بـ ( الحمار ) ، وزاد لمعان عيناها بالدموع بعدما استرسل حديثه بمشاعر اقوى من السابقة :
_ لو كنتي غلطتي في حاجة فهتكوني لما خبيتي علينا حملك .. لكن في وجه نظري أنتي مغلطتيش في حاجة تاني ، كل الغلط عليا لأن كل اللي عملته معاكي ملوش تفسير غير إني كنت واحد قذر فعلًا ، وأكيد مكنتش هسمح أقول لعمي وعلاء على موضوع الصور والتسجيلات واخلي علاقتكم تسوء أكتر ، هما طبيعي زعلانين منك بسبب الحمل وإنك خبيتي عليهم كل حاجة عملتها معاكي ، فمش حابب أكون سبب في حدوث فجوة بينكم
انهمرت دموعها حارة على وجنتيها وهي تطالعه بغرام .. ذلك الأحمق لم يخبرها من قبل أنه بكل هذا الجمال والحنان ، هي الآن ليست نادمة على أي شيء فعلته لكي تحصل عليه ، حتى ولو كان بطرق خاطئة فلو عاد بها الزمن لكانت فعلته مرة أخرى دون تردد .
ارتمت بين ذراعيه تهتف من بين بكائها :
_ بحبك أوي ، أنا دلوقتي بس ادركت قيمة اللي عملته عشان احصل عليك ومش ندمانة ولا هعمري اندم
تمتم مشاكسًا إياها حتى يمحو الجو المشحون بالكآبة :
_ والله يايسر بخاف على نفسي منك أحيانًا ، إنتي أول ست تثبتيلي إن كيدهن عظيم فعلًا
نجح في رسم الابتسامة على وجهها فابتعدت عنه وقالت بعبوس مزيف وطريقة كوميدية :
_ اخص عليك ياسنسن ده .. ده أنا غلبانة ولطيفة أوي ، عملت إيه أنا غير أني بعت للحيوانة رحمة واحد عشان يلهيها وتبعد عنك وهددتك بصورك وتسجيلاتك إني هفضحك قدام العيلة كلها ولما اتجوزنا كنت ممشياك على العجين متغلطبهوش ومش بتقدر تقف قصادي ولما حاولت رحمة ترجعلك تاني كشفتها وخليتك تعرف حقيقتها القذرة عشان اكرهك فيها اكتر وبعدين خبيت عنك وفهمتك إني سقطت وخليتك تعيش فترة كلها حزن وكآبة في بعدك عني وتعذيب ضميرك ، وكل ده عشان انتقم منك بس !
انطلقت منه ضحكة رجولية متأججة ليهتف بدهشة :
_ لا فعلًا معملتيش حاجة .. ده إنتي بريئة أوي ياحبيبتي
يسر بنظرات تطلق قلوب حمراء :
_ بس قصاد كدا ورغم كل اللي عملته متقدرش تنكر إني بحبك وبعشقك
انحنى إليها يطبع قبلة قوية على وجنتها وهو يهمس بصدق :
_ وأنا كمان بعشقك ياحياتي .. ربنا يخليكي ليا
_ ويخليك ليا كمان
***
اليوم هو معاد طائرتهم ، بالقدر الذي سعيدة به لعودة اخيها وأبيها إلا أن كلما تتذكر الذي عرفته يتعكر مزاجها ، وتفكر بأي طريقة ستواجهه .. ولوهلة احست بأنها لا تريد رؤيته على الأقل إلى أن تهدأ نفسها الثائرة من ناحيته ، فهي تشعر أنه استغفلهم جميعًا بإخفائه حقيقة كهذه عنهم .
صك سمعها صوت رنين الباب فاستقامت واقفة وغادرت غرفتها فورًا ، بالتأكيد أنهم قد وصلوا ، سبقتها أمها عندما فتحت لهم لتستقبل أبنها بسعادة غامرة وهي تراه يقف على قدماه دون عكازه ، عانقته لوقت طويل وادمعت عيناها من الفرحة ليبعدها عنها ويهمس بابتسامة ساحرة :
_ خلاص ياماما !
_ فرحانة ياحبيبي ومش مصدقة نفسي من الفرحة
اقتربت ملاذ من أبيها تعانقه مرحبة به ، ثم فعلت المثل مع أخيها وهي تهتف بفىحة غامرة لا تقل عن أمها :
_ حمدلله على سلامتك ياحبيبي .. أخيرًا الف حمد وشكر
تجولت أمها بنظرها بينهم بعدما رحبت بزوجها وسألت بحيرة :
_ أمال زين فين ؟!
هتف فراج بنبرة عادية :
_ قال إنه معاه شغل هناك وهيخلصه وياجي ورانا !
تقوست معالم ملاذ بشبه دهشة لتجيب باستغراب وشيء من الأستياء :
_ شغل إيه ده اللي معاه هناك ؟!!!
فراج برزانة :
_ ابقي اتصلي بيه يابنتي وافهمي منه كويس .. هو مقالناش حاجة
نقلت نظرها بقلق بينهم جميعًا ، بعدما حدثها قلبها بأن يوجد شيئًا ليس طبيعيًا ، لكنها دعوت ربها بأن يخيب ظنها ويكون عمل بالفعل وسينهيه ويعود ! .
***
_ عامل إيه يابني طمني عليك ؟
ابتسم لها بحنو ورفع كفها لفمه يلثمه متمتمًا :
_ الحمدلله بخير ياماما .. وحشتيني أوي والله ، ليه مجبتيش رفيف معاكي ؟!
أجابت هدى :
_ في المطعم مقدرتش تاجي بس قالتلي هتبقى تاجي وتشوفك
تحركت شفق نحوهم وهي تحمل صينية فوقها ثلاث كاسات من العصير ، انحنت على هدى أولًا تقول بوجه بشوش :
_ اتفضلي ياطنط
_ تعبتي نفسك والله يابنتي هو أنا غريبة !
اجابت وهي تحرك الصينية باتجاه كرم ليلتقط كأسه :
_ تعبك راحة بعدين إنتي مجتيش البيت عندنا من وقت ما اتجوزنا غير مرة واحدة ، وطالما جيتي بقى يبقى مش هتمشي غير لما تاخدي اليوم كله معانا النهردا
تحدث كرم بمرح مشاكسًا زوجته :
_ ايوة ياماما اقعدي واعمليلي الكفتة بتاعتك عشان وحشتني أوي وأهو كمان تعلمي شفق بالمر لاحسن مبتعرفش تعملها
رمقته وهي ترفع حاجبها بعدما فهمت حركته وأن يتعمد اغاظتها فقالت بعذوبة حتى لا تنوله مراده :
_ وماله وهو أنا اطول لما اتعلم من طنط حبيبتي
رمقت هدى ابنها وقالت مستنكرة ما قاله :
_دي مراتك عليها أكل يجنن وانا شاهدة على كدا .. إنت بس اللي ناكر للجميل
شفق بعفوية وصفاء :
_ تعالي ياطنط عايزة افرجك على حاجة في المطبخ وأخد رأيك فيها
استقامت هدى وسبقتها على المطبخ لتهم هي باللحاق بها لكنها توقفت ورجعت بخطواتها للخلف نتحني عليه وتهمس بنظرات مشتعلة من الغيظ :
_ بقى أنا أكلي وحش ! .. طيب إيه رأيك عقاب ليك هتنام من غير عشا النهردا ياكرم ومش هيمني بتاخد علاج وتعبان ولا غيره
كركر بصوت عالي فحدجته بقرف مغتاظة واستدارت تلحق بهدى إلى المطبخ ! .
***
تحركت باتجاه الباب في خطوات سريعة بعدما استمعت إلى رنينه ولوهلة ظنت الطارق ابنتها ، لكن دهشت بميار أمامها .. لوت فمها باقتضاب وافسحت لها الطريق تهتف بمضض :
_ إيه نسيتي حاجة وجاية تاخديها ولا إيه .. ما أنتي خلاص بقى ضحكتي على ابني واخدتيه مني ومبقيش يسمعلي كلمة
دخلت ميار ثم اغلقت الباب وتمتمت بخفوت :
_ أنا جاية اتكلم معاكي يامرات عمي .. ممكن ؟
طالعتها من اعلاها لأسفلها بنظرة دقيقة ثم استدارت واتجهت إلى الاريكة وجلست مثبته نظرها عليها تحدقها باعين ثاقبة كالصقر تنتظرها أن تنضم لها حتى تقول ماترغب في التحدث فيه معها .. أخذت ميار نفس عميق ثم تحركت نحوها وجلست بجوارها هامسة بشجن :
_ أنا مش عايزة تكوني بتكرهيني كدا .. صدقيني أنا مش وحشة زي ما أنتي شيفاني او متخيلاني ، وأبدًا مكنش في نيتي أخد علاء منك أو ابعده عنك .. عارفة إنك مضايقة بسبب إنه ساب البيت بس أنا مقولتلهوش حاجة والله هو وحده اللي قالي هنقعد في البيت هناك ومش هنرجع
صاحت بها مستاءة ومندفعة :
_ وهو قال كدا ليه ! .. ماهو عشان إنتي أثرتي عليه ومبقيش مستحمل مني كلمة
اطرقت رأسها أرضًا للحظات طويلة تتمالك نفسها التي تنغزها لتبكي ، ثم رفعت وجهها لها مرة أخرى وتمتمت بانكسار :
_ أنا اتحرمت من ماما من أنا وصغيرة ، ومكنش معايا غير نينا كانت هي الأم بنسبالي ودلوقتي الحمدلله علاقتنا أنا وهي رجعت زي الأول فمش حابة يكون في الكره ده بينا أنا وإنتي كمان .. ونفسي تسمحيلي أكون بنتك التانية وتكوني ليا أم لأني محتاجة ده بجد .. محتاجة للنصيحة والسند ، عارفة إنك بتكرهي تصرفات كتير فيا وفي حجات كتير مش عجباكي فيا سواء طريقتي أو كلامي أو غيره ، بس أنا معنديش مشكلة أنك تعتبريني بنتك وتنصحيني وتفهميني الغلط من الصح ، صدقيني هفرح أوي وهنفذ كل نصايحك .. يا.. ماما
شعرت بغصة مريرة في حلقها وتجمعت العبرات في مقلتيها ، اشفقت عليها وذاب الثليج عن قلبها تجاهها .. وشعرت بأنها ظلمتها حقًا عندما لم تسمح لها بإثبات طينتها الجيدة ، فهي نجحت أخيرًا في ضمها لصفها بهذا الكلام وبالاخص بعدما قالت ” ماما ” ! .
مدت كفها وملست على ذراعها بحنو ولطف تجيبها بصوت مبحوح وابتسامة مداعبة :
_ تمام طالما إنتي اللي عايزاني اعتبرك زي بنتي يبقى تستحملي بقى ، بس متندميش بعدين
تهللت أسارير ميار وشعرت بفرحة غامرة بعدما نجحت في مهمتها وتمكنت من إذابة الثليج بينهم ، فهتفت بسعادة ووجه مشرق :
_ اطمني مستحيل أندم
فردت لها ذراعيها تحسها على الانضمام لصدرها فغعلت ميار على الفور بفرحة ، اغلقت زوجة عمها ذراعيها حولها وبيدها تملس على ظهرها بحنان ! .
***
دخلت ملاذ إلى غرفتها واغلقت الباب عليها ثم امسكت بهاتفها واجرت اتصال به ، فقلبها يأكلها من القلق والخوف عليه لا تعرف لماذا !! .
وضعت الهاتف على أذنها تنتظر أن تسمع صوت الرنين ولكن اعطاها ان الهاتف خارج نطاق الخدمة ففغرت عيناها بدهشة وتضاعف خوفها ! ، لكنها هدأت نفسها بأنه قد يكون بسبب الشبكة وعادت تتصل من جديد ولكن كانت النتيجة كسابقها ، فانزلت الهاتف من على أذنها وبقت تحدق بشاشته بارتيعاد وقد ذهب لون وجهها وأصّفر لونه !! ……
عاصفة ثلجية ضربت قلبه فأنشأت صقيع لن يمحوه سوى دفء الشمس ، وهذا لا يُسميه بمعنى الهروب من الواقع كما يظنون ، هو فقط بحاجة لفترة نقاء بعيدًا عن الكل ؛ حتى يتمكن من التسامح مع نفسه أولًا ويقبلها بأخطائها الشنيعة ! .
كان جالسًا بشرفة أحد المنازل الأرضية التي استأجرها موخرًا لقضاء فترة نقائه فيها ، قرر أن يفعل كما اعتاد قديمًا أن يخلو بنفسه كل فترة والأخرى ويتفرغ فقط لعبادة ربه ، يبتعد عن كل شيء يشغله عن التفرغ التام لربه في هذه الفترة ، بلا هاتف ، بلا عمل ، بلا تلفاز ، وأخيرًا بلا أي وسائل تكنولوجية حديثة .. كان المنزل يعطي وجهه إلى البحر مباشرة وبمنطقة شبه معزولة قليلًا عن المنطقة المكتظة بالسكان ، مما سيوفر له الراحة النفسية وعدم الأزعاج الذي يحتاجه ، وبيده مسبحته الخاصة يذكر الله بقلبه قبل لسانه وشفتيه ، وكلما يهمس بالذكر يرجع بإحدى حباتها إلى الخلف بينما عيناه معلقة على منظر المياه أمامه .
اشتاق لزوجته كثيرًا خلال فترة غيابه عن المنزل ، لكن هذا هو أفضل حل لكليهما فإن عاد لها وهو مشوش ذهنيًا وليس بحالته الطبيعية لن يتمكن من مواجهتها بالطريقة الصحيحة والأمور ستزداد سوءًا بينهما بعدما يخبرها بكل شيء ! .
بينما بمصر تحديدًا داخلة غرفتها ، وساوسها تنهشها نهش ولا تتوقف عن اسئلتها التي تتكرر بنفس المعنى في ذهنها ، وهي لماذا لم يعود معهم ولما هاتفه مغلق ؟! ، تحاول إجاد سبب مقنع لبقائه هناك فما العمل الذي سينهيه ويعود بعد ذلك ؟! هو أساسًا لم يخبرها قط من قبل بأنه لديه أعمال في لندن !! .
فتحت أمها الباب بعد طرقها الذي لم تسمعه بسبب شرودها واقتربت منها تهتف باستغراب :
_ مالك ياملاذ دخلتي الاوضة وقفلتي على نفسك ليه ؟!!
نظرت لأمها بأعين موهومة وغمغمت :
_ برن على زين تلفونه مقفول ياماما .. ومش عارفة خايفة ومش مطمنة !
_ يمكن تلفونه فاصل شحن يابنتي بلاش توهمي نفسك بحجات ملهاش لزمة .. اصبري شوية وجربي ورني عليه تاني
رمقت أمها بشرود وتفكير ثم استقامت واقفة بعد ثواني وتمتمت :
_ طيب ياماما اسبقيني برا وأنا هغير هدومي واطلعلكم
هزت الأم رأسها بالموافقة وهي تبتسم بعذوبة ثم استدارت ورحلت وتركتها في أفكارها التساؤلية التي لا تتوقف !!! ….
***
وقف علاء خلف والده ينتظره أن يخرج المفتاح ليفتح الباب ويدخلوا ، ثواني قليلة ووضع طاهر المفتاح في القفل ثم اداره فانفتح الباب ودخل ومن بعده علاء .. الذي توقف بمجرد دخوله عندما انتبه لصوت الضحك المنبعث من المطبخ .. تبادل هو وطاهر نفس النظرات المستغربة والمدهوشة بنفس اللحظة بعدما سمعوا أصوات الكركرة ! .
تمتم طاهر قاطبًا حاجبيه :
_ دي مش ميار اللي قاعدة مع امك جوا وبتضحك معاها ؟!!!
هز علاء رأسه بالإيجاب وقد اتخذت معالمه الصدمة ، فلا يصدق أن تكون نجحت بكل هذه السهولة أن تحسن علاقتها بأمه من مرة واحدة ويصل الوضع إلى الضحك والمزاح كما يسمعون الآن !! .
تقدم هو أولًا نحو المطبخ ولحق به طاهر ، اقتحموا عليهم جلستهم النسائية وضحكهم .. ليتوقفوا عن الضحك وتستقر عيناهم عليهم فيجدوا أنهم يقفون كالبُلهاء لا يفهموا شيء ولا يستوعبوا ما يروه ! .
تحدث طاهر وهو يضحك على كم الود والحب الذي يراه أمامه بين زوجته وابنة أخيه :
_ خير إن شاء الله ضحكونا معاكم ؟!
اكتفوا بالتحديق في بعضهم وهم يبتسموا ثم هتفت الأم بإشراقة وجه جميلة :
_ كويس إنكم جيتوا بدري كنا مستنينكم عشان الغدا .. يلا روحوا غيروا هدومكم وأنا وميار هنحط الأكل على السفرة على ماتنزلوا
نظر طاهر ناحية ابنه الذي لا يزال يرمقهم ببلاهة فقبض على ذراعه ساحبًا إياه معه للخارج وهو يهمس بالقرب من أذنه مبتسمًا :
_ تعالي تعالي متشغلش دماغك بمواضيع الحريم يابني عشان متتعبش
كتم علاء ضحكته وهمس مداعبًا :
_ أهاا احنا خلينا في بطننا أهم حاجة الأكل ياحج
قهقه طاهر عاليًا وهو يجيبه بتأييد:
_ بالظبط
نصف ساعة تقريبًا مرت حتى التف الجميع حول مائدة الطعام ، فكل من طاهر وعلاء أخذوا حمامًا دافئًا قبل أن ينزلوا ؛ حتى ينعشوا جسدهم المرهق من ضغط العمل .
بدأ علاء بتناول طعامه وكذلك الجميع باستثناء ميار التي ذهبت للمطبخ حتى تجلب الملح بعدما نسيت أن تضعه زوجة عمها على المائدة ، عادت لها وناولتها ( الملاحة ) وهي تهتف بصوت عذب وتلقائي :
_ اتفضلي ياماما
بنفس اللحظة التي نطقت فيها هذه الجملة كان علاء يذهب بيده إلى فمه حتى يضع فيه اللقمة لكن يده وقفت في منتصف الطريق ورفع نظره يحدق بزوجته وأمه منذهلًا ، وفمه كان لا يزال فيه الطعام الذي لم ينتهي من مضغه جيدًا فنزل في حلقه ووقف ! ، فانتفض الجميع جالسًا بزعر على صوت سعاله العنيف فجاة ، لترتب أمه على ظهره هاتفة بقلق :
_ اسم الله عليك ياحبيبي
رفع نظره إلى ميار التي تقف متسمرة بأرضها مخضوضة من سعاله القوي وأشار لها بيده على فمه وهو يضم أصابعه على شكل كأس الماء ، ففهمت والتقطت زجاجة الماء الموضوعة على منضدة صغيرة بجانب المائدة وسكبت في الكأس الموجود بجانبها ثم مسكته وهرولت به إليه ليجذبه من يدها ويشربه كله دفعة واحدة ، وهي تراقبه بعيناها ألى أن انزل الكأس من فمه وسنده على سطح المائدة ورمقها بنظرة ثاقبة اربكتها ! ، وبلحظة غير متوقعة منه جذبها من ذراعها لتنحني عليه ويهمس هو بجانب أذنها :
_ إنتي عملتي إيه في ماما ؟!
كانت ستنطلق منها ضحكة ولكنها تمالكت نفسها واعتدلت واقفة وهي تزغره بنظرها أن يهدأ إلى حين ذهابهم لمنزلهم وهي ستشرح له كل شيء ، شد جسده في مقعده وجلس باعتدال ليحدق أمه بنظرات مريبة وهو يبتسم بتكلف حتى لا يوتر الأجواء أكثر من ذلك !! .
***
في تمام الساعة التاسعة مساءًا …..
كان حسن بمكتبه الخاص في المنزل ينهي الأعمال المتبقية وغير منتبهًا للساعة وأنه استغرق حتى الآن ثلاث ساعات وربما أكثر وهو يعمل !! . فصك سمعه صياحها وهي تنده عليه بعصبية ليرفع نظره عن الورق ويقطب جبينه بتعجب وسرعان ما هب واقفًا وغادر المكتب متجهًا لها فيجدها تمسك بهاتفه بيد واليد الاخرى تعقدها في وسطها وقسمات وجهها تبشر بطوفان عاتي قادم ، عيناها حمراء كالدم .. كل هذا لم يكن سوى علامات لتفسير شيء واحد وهو الغيرة ، فهو يحفظ هذه الحركات جيدًا عن ظهر قلب .. رفعت الهاتف وادارته لناحيته تهتف بغضب :
_ مين دي ؟!
كان بالهاتف صورة تجمعه مع امرأة .. لا تبدو أبدًا كصورة تسكع أو أي شيء آخر كما تتوقع ، بل بالعكس كانت صورة رسمية والمرأة التي تشاركه إياها كانت بملامح حازمة وتقف بثبات وشموخ ، وفوق كل هذا المسافة بينهم كانت قرابة نصف متر !!! .
حسن باستنكار :
_ طاب أنا راضي زمتك .. هي دي صورة تغيري منها ياشيخة اتقي الله
_ مليش دعوة .. أنا سألتك مين دي وبتتصور معاك ليه ومستنية الرد ياحسن
_ يسر إنتي هرمونات الحمل مأثرة عليكي أوي والله بجد .. أصل مش معقول تصرفاتك دي !
صرخت باندفاع تحذره بوضوح :
_ لا دي مش هرمونات الحمل .. وجاوب على السؤال متتهربش ياحسن ، أصل إنت شكلك وحشتك يسر القديمة
رفع حاجبه متعجبًا من ردها ثم تقدم نحوها بخطواط بطيئة متمتمًا بأعين صارمة ونبرة رجولية خشنة :
_ وهتعملي إيه بقى لو مجاوبتش ؟!
تقهقهرت للخلف ورفعت سبابتها تهتف بارتباك وتهديد مصتنع :
_ خليك مكانك ومتتحركش احسلك .. لاحسن والله اتعصب بجد وإنت حر بقى
مالت شفتيه لليسار في شبه ابتسامة وأكمل تقدمه نحوها هامسًا :
_ اتعصبي
ظلت تتراجع للخلف حتى اصطدمت بالأريكة فجلست عليها ورمقته بشجاعة وعدم مبالاة مزيفين ، بالأخص عندما انحنى عليها بجسده وحاوطها بكلتا ذراعيه من الجهتين مستندًا بكفيه على الأريكة ، فتراجعت عن طريقتها وقالت بلطافة غير معهودة منها في مثل هذه المواقف :
_ على فكرة أنا كنت بس عايزة اعرف مين دي .. مكنش في نيتي حاجة تاني ، إنت بس اللي كبرت الموضوع
رأته ينفجر ضاحكًا بصوته الرجولي ويهتف ساخرًا :
_ بقى هي دي يسر القديمة !!
شدت عضلاتها وهمست أمام وجهه مباشرة وتحديدًا شفتيه بمكر أنوثي ونظرات مثيرة تحمل الشراسة :
_ ما أنا لو عايزة اورهالك هورهالك ياحبيبي .. بس مفيش واحدة تستاهل إننا نتخانق مع بعض عشانها ، لأن باختصار شديد إنت ليا ومفيش مخلوقة تقدر تقرب منك لأن سعتها هتكون جنت على نفسها
أثارت رجولته وأذابته فجعلته مغيب وفقط يحدجها بهيام وبأعين راغبة ، فبآخر كلماتها تمكنت من ايقاظ نيران شهوته .. رأته يميل برأسه إليها مختلسًا المسافة القصيرة بينهم فرجعت برأسها للخلف هاتفة بلؤم رافضة :
_ تؤتؤ لما تقول مين دي الأول ؟!
فتح عيناه على وسعهم وصاح بها منفعلًا على افسادها للحظتهم واندماجه بالتركيز على خطوته القادمة :
_ ماتتحرق بجاز معفن أنا مالي بيها ، امال هو مفيش واحدة تستاهل نتخانق عشانها لكن في واحدة تستاهل نهدم لذاتنا عشانها
اغمضت عيناها كدليل علي رفضها للاستسلام له ، وهزت رأسها نافية تهدر بإصرار :
_ هو ده اللي عندي .. تقولي مين دي الأول وبعدين افكر في الموضوع التاني
_ ومين قالك إني هستناكي تفكري أصلًا .. وإن مكنش بالذوق يبقى بالعافية
انحنى عليها مجددًا حتى يحصل على مبتغاه وهو القبلة ولكنها اخفت شفتيها بكفيها وهي تضحك بمشاكسة ، فيجيبها مغتاظًا وبوعيد حقيقي :
_ يعني مش هتيجي بالذوق .. تماما براحتك !
حملها على ظهره وسار بها باتجاه غرفتهم ، ظلت تلوح بقدماها في الهواء وتهتف ضاحكة :
_ طيب خلاص نزلني وهنتفاهم والله
لم يجيبها فعادت تهتف من جديد :
_ طب أنت ماخدني الأوضة ليه دلوقتي ؟!
استنكر سؤالها واجابها باستهزاء منها :
_ هنشرب كوبايتين شاي في الهواء الطلق
حاولت أن تعدل جسدها ولكن دون جدوي لتجيبه باقتضاب :
_ إنت كل المشروبات بنسبالك شاي .. امتى هتفهم اني مبحبهوش ؟!!
هتف بكل بساطة وبرود بعدما وصل إلى الغرفة :
_ لما تحبيه !
دخل واغلق الباب خلفه لتبدأ ليلتهم الغرامية التي لا يوجد فيها سوى عشقهم المُتيم ! …
***
الأضواء الهادئة في كل جزء والصمت القاتل يملأ المنزل كله .. وكانت هي تسير بخطوات خفيفة في الطرقة الطويلة المؤدية في آخرها إلى غرفة مكتبه ، وقفت أمام الباب ثم مدت يدها لمقبض الباب وانزلته لأسفل فانفتح .. دفعت الباب ببطء ودخلت بهدوء ، رأته يجلس على مقعد وثير في آخر الغرفة وعلى حجره يضع جهازه النقال ، وبمجرد دخولها اغلق الحاسوب فورًا ، فقطبت مابين حاجبيها باستغراب لكنها لم تظهر له اكتراثها بالأمر حيث تصرفت بطبيعية واقتربت منه لتجلس على ذراع المقعد الجالس عليه وتلف ذراعها حوله هامسة بابتسامة رقيقة :
_ بتعمل إيه ياحبيبي ؟
أجابها وهو يبتسم بأسى وبنظرات زائغة :
_ كنت بتفرج على الصور القديمة
مدت كفها للحاسوب ورفعت غطائه وهي تهمس بنعومة :
_ طيب ماتخليني اتفرج معاك
ادار وجهه للجهة الأخرى وهي يتنهد مغلوبًا على أمره .. فلم يكن يريدها أن ترى الصور خشية لتنجرح نفسيًا وتفهم الأمر بشكل خاطيء أو تنزعج بعض الشيء ! .
اضاءت الشاشة فاظهرت عن صورته مع أروى ! ، حولت رأسها نحوه ترمقه بنظرة ظن أنها ستغضب لكنها لم تفعل .. حيث حملت الحاسوب على حجرها وهي تسأله بابتسامة نقية :
_ دي اروى مش كدا ؟
تلقت الرد منه بالصمت وهو يحدجها بحيرة من ردة فعلها ، بينما هي فجعلت تشاهد صورهم كلها وهي تبتسم بعدما فهمت لماذا اغلقه بمجرد دخولها عليه المكتب ! ، تمتم كرم بشيء من الريبة ليوضح لها الأمر أكثر :
_ كنت بتفرج على صوري أنا وسيف الله يرحمه ، ولقيت صورنا أنا وهي في نفس الملف
همست بعذوبة وصوت يفيض رقة وحنانًا مع ابتسامتها اللطيفة التي تحمل القليل من المكر :
_ إنت كنت فاكر إني لما اشوف صوركم هضايق وهغير ؟!
ران عليه السكون يطالعها بترقب لحركتها القادمة بعد ردها الغريب ، بالفعل استقامت وتحركت خطوتين بعيدًا عنه حتى تضع الحاسوب على سطح المكتب ثم عادت له وجلست على حجره تلف كلتا ذراعيها حول رقبته مهمهة بصوت رحب وأعين دافئة وصافية :
_ أولًا أنا مش من حقي امنعك إنك تحبها وعارفة إنها وحشتك ، ومش من حقي ازعل منك .. ثم إني أكيد مش هغير من واحدة ميتة .. إن جيت للحق أنا شخصيًا لما بتاجي على بالي احيانًا بتصعب عليا وبعذرك ، الطريقة اللي ماتت بيها بشعة ، بالأخص وأنا متخيلة اللي حست بيه وقتها .. كم الخوف والرعب ومشاعر كتير مش هعرف اوصفها لكن كلها أنا حسيت بيها لما حاول الحيوان ده يقرب مني مش بس يلمسني ، ولولا إن ربنا نقذني الحمدلله وإنت كنت معايا وقدرت تحميني منه كنت ممكن أكون ميتة زيها دلوقتي .. صدقني أنا اكتر واحدة فهماك ياكرم ، فمتخفش تحكيلي أي حاجة مهما كانت .. وكن متأكد إني هفهمك صح وهتلاقيني جمبك وبساندك
لمعت عيناه بوميض العشق النقي ، فهي كما وصفها بالضبط ( طوق النجاة ) .. ربما لن تصدق إذا أخبرها أنه أحيانًا يظنها ليست حقيقية ، ذهنه يوهمه بأفكار ساذجة حول الملاك غير البشري الذي ارسله الله له ليخرجه من محيط أحزانه .. قد تكون أفكار سخيفة وحمقاء لكنه رغمًا عنه يتخيلها هكذا كلما يفكر في نعيم الحياة التي يعيشها مع امرأة لا يوجد لها مثيل بين كل نساء العالم في نظره !! .
تمتم بنبرة هائمة ومسلوبة السيطرة :
_ إنتي إزاي كدا ؟!!
ابتسمت بحب وهمهمت ببساطة :
_ إزاي كدا عشان لو كنت إنت مكاني مكنتش هتتصرف بالشكل ده يعني ؟!
_ أكيد مكنتش هستحمل فكرة إن في مكان لراجل غيري في قلبك حتى لو كان ميت
رفعت كتفيها لأعلى بريبة وهي تضحك بخفة وتجيبه بعذوبة وصوت لين به براءة يعشقها :
_ معرفش أنا إزاي كدا ياكرم .. اروى هي الوحيدة اللي مبغيرش منها ممكن اغير لو شفتك مع أي واحدة تاني لكن هي لا ، بالرغم من إني عارفة إنها لسا مستحوذة على جزء من قلبك
لحظة عابرة مرت بعد توقفها عن الكلام وهي تطالعه بغرام ، ثم وضعت كفها على منطقة قلبه واستكملت حديثها بمشاعر جيَّاشة :
_ بس يمكن ده عشان أنا كمان عارفة مكانتي في قلبك فين بظبط ، ومتأكدة إنك لو كنت بتشتقالها قراط فأنا عشرة ، ولو بتحبها فأنا بتعشقني .. يعني من الأخر أنا مرتاحة لإني ضامنة عرشي في قلبك وإن لا يمكن تعتلي العرش ده ملكة غيري
اتسع بؤبؤي عيناه وهو يثبته عليها كدليل على السيل الجارف من المشاعر التي تتملكه الآن ، أو بالمعنى الأدق هو الخادم الذي يخر خاضعًا ومطيعًا أمام ملكة عرشه التي أثرته كليًا ، ليس عاطفيًا فقط بل ذهنيًا وجسديًا أيضًا .. همس بصوت خافض وذائبًا :
_ شفق هو إنتي حقيقية ؟!
انفرجت شفتيها في ابتسامة واسعة لتلتصق به أكثر وتهدر بدلال مغري :
_ إنت شايف إيه !!
كرم بصوت يقطر حبًا وحنانًا وبنظرات كلها رومانسية جميلة :
_ أنا شايف ملاك قدامي .. ربنا بعتهولي من السما ، وشايف اجمل ست في الوجود لدرجة إني مش قادر استوعب إن اللي بيحصل معايا ده حقيقي ، إنتي لما بتكوني في حضني وجمبي بحس باحساس غريب وكأن بين ايديا الكون كله .. بكون في قمة سعادتي لما اشوف ضحكتك ولم نكون مع بعض ..
أنا سألتك السؤال ده قبل كدا وهسأله تاني دلوقتي .. إنتي عملتي فيا إيه ياشفق ؟
تلألأت الدموع العاشقة في عيناها فانحنت عليه واستندت بجبهتها على جبهته تجيبه بهمس اشبه بلحن غرام مميز وهي مغمضة عيناها :
_ حبيتك !
كلمة واحدة كان لها دورها في هدم جميع اسوار صموده أمام كتلة الجمال الصارخ هذه ، ليخر مهزومًا مستسلمًا لعواطفه المتيمة وشهواته تجاهها .. سمعت همسه الرجولي والمتملك يقول :
_ أميرتي
فتحت عيناها ورفعت جبهتها من عليه لتسلط عيناها على خاصته في لحظات مرت كالسهم قبل أن يأخذها معه ويبحر بها في عالهم الخاص .. مختسلين الوقت من الزمن لينعموا بلحظات رومانسية ليست الأولى ولا الأخيرة ……
***
نزع القميص عنه ثم التقط التيشرت المنزلي وارتداه ، وهي كانت جالسة على الفراش تتفحص هاتفها بتركيز .. بينما هو فانتهي من تبديل ملابسه واقترب ليشاركها الفراش هاتفًا بفضول :
_ هااا قوليلي بقى عملتي إيه مع ماما ؟
ميار بهدوء تام :
_ اتكلمت معاها
_ اتكلمتي معاها إيه ياميار ..ده إنتي لسا كنتي مكلماني وبتقوليلي هروح واحاول اصلح علاقتي بمامتك ، مش معقول بالسرعة دي ، ياشيخة ده أنا فكرتك عملتيلها عمل ولا حاجة !!
قهقهت ببساطة وتركت الهاتف من يدها ثم اعتدلت جالسة لتصبح في مواجهته تمامًا وتهمس برزانة :
_ لا مفيش سرعة ولا حاجة ياعلاء .. إنت عارف مامتك كانت بتكرهني إزاي ولما كنا قاعدين في البيت معاها حاولت كذا مرة اتكلم معاها واخليها تحبني معرفتش وكنت بفشل .. بس المرة دي تقدر تقول اتصرفت بذكاء معاها وقدرت اكسبها
غمغم علاء بعدم فهم ونظرات مستنكرة :
_ أيوة برضوا ما أنا مفهمتش إنتي عملتي إيه ولا قولتيلها إيه ؟!
غمزت بعيناها في لؤم أنوثي تجيبه برفض :
_ لا ملكش دعوة بقى قولتلها إيه .. دي حاجة بيني وبينها
هتف ساخرًا رافعًا حاجبه :
_ لا والله !!
نكزته في كتفه بخفة وهي تهتف ضاحكة بمداعبة :
_ خلاص بقى ياعلاء ، إنت شاغل دماغك ليه مش المهم إننا اتصالحنا خلاص والمشاكل اتحلت
_ تصدقي عندك حق .. أنا مالي بمواضيعكم دي ما تعملوا اللي تعملوه ، ابعدي كدا وفسحي شوية خليني انام
تراجعت بجسدها للخلف في الفراش وهي تجيبه بتعجب :
_ افسح !!
لم يعيرها اهتمام وسحب الغطاء على جسده ثم مد يده لكبس الكهرباء ليطفأ الضوء ، فتلفتت هي حولها في الظلام الداس الذي كسا الغرفة بأكملها ، أصدرت تنهيدة حارة ودخلت اسفل الغطاء معه لتعانقه من الخلف هامسة بأنفاسها الحارة التي لفحت عنقه :
_ علاء أنا عايزة أنام في حضنك طيب
هدر بنبرة عادية دون أن يفتح عينه أو حتى يلتفت لها :
_ بكرا بكرا ياميار .. مش كفاية لازقة في ضهري زي الجرادة !
لوت فمها بتذمر وغيظ ، فضربته على ذراعه بشبه قوة وهتفت وهي تبتعد عنه وتوليه ظهرها :
_ إنت أصلًا بارد .. أهو بعدت عنك نام واشبع نوم
فتح عيناه وبقى على وضعه ينتظر أن يسمع أي حركة أو صوت منها لكنها سكنت تمامًا ، مما أكد له أنها تضايقت كثيرًا حقًا .. تأفف بعدم حيلة واستدار بجسده ناحيتها ليجده متمددة بجواره وتوليه ظهرها ، اقترب منها وفعل مثل فعلت عندما عانقته من الخلف وهمس معتذرًا بلطافة :
_ متزعليش مكنش قصدي والله .. أنا كنت بهزر وإنتي اخدتي الموضوع بجد وزعلتي !
تملصت من بين محاصرته لها وابعدته عنها متشدقة بقرف مصتنع :
_ لو سمحت متلزقش فيا زي الجراد عشان مبحبوش وبخاف منه
كركر بصوته الرجولي عاليًا وعاد يجذبها إليه مجددًا وهو يقول مشاكسًا إياها :
_ ماهو الجراد لما بيمسك في حاجة مش بيسبها بسهولة ، وأنا خلاص مش هسيبك
ميار بوجه عابس ومختنق :
_ ابعد ياعلاء عشان بجد أنا مضايقة مش بهزر
دغدغها في أعلى وسطها فانتفضت بمكانها وهتفت بنظرة منذرة تتصنع من خلالها الحدة المزيفة وهي تكتم ابتسامتها :
_ لا بص اوعى !
انكمشت على نفسها حتى لا تدع له مساحة ليكي يدغدغها فيها ولكن قوته الجسمانية فاقت جسدها الناعم ، حيث اغار عليه يدغدغها بيديه الأثنين في أماكن متفرقة من جسدها ودفن وجهه بين ثنايا رقبتها يلثمها وهي تتلوي بين يديه محاولة التملص منه وتضحك بهستريا صائحة به :
_ بس ياعلاء خلاص ابوس إيدك مش قادرة والله .. علااااء
انفجر هو الآخر ضاحكًا على ضحكها الهستيري ورغم ذلك لا يحررها من بين براثينه !! …..
***
في تمام الساعة العاشرة صباحًا من يوم جديد …..
كانت تقف أمام المرآة وترتدي حجابها ونقابها بعد أن انتهت من ارتداء ملابسها بالكامل ولم يتبقى سوى حجابها .
الأمر أصبح ليس مطمئنًا أبدًا ، فمنذ صباح الأمس وهي تحاول الوصول له ولكن هاتفه مغلق ، مما جعل الشك والوساوس السيئة تجد طريقًا للولوج إلى ذهنها ، تتساءل عن سبب عدم عودته ! ، هل عرف بأنها عرفت الحقيقة ويخشي أن يأتي حتى لا يواجهها ؟! ، أم لديه أسبابًا أخرى ؟ ، أو أنه أصاب بمكروه ؟ .. وهذه كانت أكثر فكرة ترعبها !! .
فتحت أمها الباب ودخلت لتندهش بها وتهتف بريبة :
_ رايحة فين ياملاذ ؟!
ملاذ بخوف يعتيلها وقلق :
_ ماما زين تلفونه مغلق من إمبارح وأنا هتجن من القلق عليه .. هروح عند طنط هدى يمكن يكونوا عارفين أو اتصل بحد من اخواته
_ وهو هيتصل ياخواته وأمه وميتصلش بيكي ليه يعني ياملاذ .. ماهو أكيد هيطمنك زي ماهيطمنهم ، ارتاحي يابنتي واتصلي بيهم من البيت هنا اسأليهم .. متتعبيش نفسك وإنتي حامل لتأذي نفسك وابنك
اجابت بإصرار :
_ معلش ياماما خليني اروح بنفسي .. كدا هرتاح أكتر ومتخافيش عليا أنا كويسة ومش هتعب نفسي
قالت أمها بنفاذ صبر من عنادها :
_ طيب استني هقول لأخوكي يوصلك متروحيش وحدك
_ لا لا أنا هروح وحدي بعدين إسلام متفق مع خطيبته هيروح يشوفها .. بلاش اخره على معاده مع رفيف ، يلا مع السلامة
سحبت حقيبة يدها واندفعت إلى الخارج لتغادر المنزل بأكمله ، فتقف أمها بمكانها مسلوبة الحيلة وهي تزفر بقوة ! …
***
داخل مقر شركة عائلة العمايري ….
طرق عدة طرقات خفيفة على الباب ولم يدخل إلا عندما سمع صوته الغليظ يسمح للطارق بالدخول ، خطي إلى داخل الغرفة واغلق الباب خلفه بهدوء تام .. وكان طاهر نظره ثابت على الاوراق التي أمامه فهتف بصوت جاد بعدما ظن أن الذي دخل هو ابنه :
_ هااا ياعلاء عملت إيه في اللي قولتلك عليه ؟!
أخذ حسن نفسًا عميقًا واخرجه زفيرًا متهملًا باضطراب ، وهو متصلب بمكانه لا يصدر أي صوت ينتظر من عمه أن يرفع عيناه عن الورق ، وبمجرد ما أن رفعها ورآه تهجمت ملامحه وتقوست لتأخذ ملامح الغضب .
عاد يخفض نظره للورق مجددًا وهو يهتف بصرامة واستياء :
_ إنت لسا ليك عين تاجي تقف قدامي !!
تنهد حسن الصعداء واقترب خطوتين نحو مكتبه وهو يقول بندم صادق :
_ عمي إنت في مقام بابا الله يرحمه بنسبالنا ، وصدقني مش هقدر اخسرك لا إنت ولا علاء .. أنا آسف سامحني .. عارف إن اللي عملته ملوش مبرر ومتستاهلش تسامحني عليه ، بس والله أنا ندمان وعرفت غلطتي وعقلت وفهمت ولا يمكن اغلط غلطة زي دي تاني
طاهر بجفاء وعصبية :
_ اوعي تفتكر إني خلاص نسيت موضوع الطلاق عشان يسر عايزاك .. أنا لسا عند قراري
حسن بشجن ويأس :
_ أنا كلمتك لما كنت في امريكا .. ولو فاكر قولتلك إني بحب مراتي ومش هطلقها ، عندي استعداد احلفلك على المصحف إني لا يمكن أذيها تاني وإني هشيلها في عيني وقلبي .. أنا عرفت قيمة يسر ياعمي ولا يمكن اعمل حركة غبية تاني تضيعها مني
هب طاهر واقفًا وهو يصرخ به بانفعال :
_ بعد كل اللي حكيته لينا مستني مني استأمنك على بنتي تاني إزاي !!
حسن بنبرة رخيمة وبوعيد رجالي حازم :
_ عندك حق تخاف عليها مني .. بس اديني فرصة أخيرة واوعدك إني هكون قد الثقة المرة دي ومش هخون الإمانة تاني مهما حصل
استقرت في عينان طاهر نظرة مريبة وثاقبة كالصقر ، مع قسمات وجه قاسية دون ان يجيبه بأي شيء !! …
***
قادت هدى خطواتها في الردهة الطويلة المؤدية إلى الباب .. وصلت وفتحت لتجد ملاذ أمامها فتستقبلها بوجه بشوش هاتفة :
_ ملاذ ! .. أهلا يابنتي ادخلي
دخلت وتجولت بنظرها في الأرجاء لتتأكد من عدم وجود أحد ، بينما هدى فاغلقت الباب خلفها وتمتمت مبتسمة :
_ ارفعي النقاب محدش موجود اطمني
رفعت عن وجهها النقاب ونظرت لها تهدر بابتسامة عذباء :
_ عاملة إيه ياطنط وحشاني والله
_ وإنتي اكتر ياحبيبتي والله .. حمدلله على سلامة إسلام
_ الله يسلمك
تساءلت هدى بحسن نية وبنبرة طبيعية تمامًا :
_ امال زين مجاش معاكي ليكي .. ليه اسبوع مسافر وكان قايلي إنه لما يرجع هياجي يشوفني
اختفت ابتسامة ملاذ تدريجيًا بدهشة وقالت بعبوس وارتيعاد :
_ هو متصلش بيكي أو بكرم أو حسن حتى ؟!!!
ضيقت هدى عيناها وقالت بقلق مشابه لها بعدما احست بأن هناك شيء سيء حدث :
_ لا متصلش .. ليه هو في إيه ؟!!!
مسحت ملاذ على وجهها متأففة بيأس واتجهت نحو الأريكة لتجلس عليها وتهتف بصوت متلقلق :
_ زين مرجعش مع بابا وإسلام .. قالهم إنه معاه شغل وهياجي وراهم وميعرفوش حاجة عنه وأنا من إمبارح بحاول اوصله وتلفونه مغلق .. هتجن من الخوف عليه ، قولت اجي هنا يمكن يكون كلمكم
انقبض قلب هدى زعرًا ، وتسارعت دقاته برعب جلي .. حيث أجابتها بوجه خُطف لونه ونبرة مزعورة :
_ شغل إيه ده اللي معاه هناك ، أنا فكراه رجع من امبارح مع اخوكي وابوكي وكنت مستنياه النهردا ياجيلي ، وهو لو معاه شغل فعلًا قافل تلفونه ليه ؟!!
_ ماهو هو ده اللي هيجنني .. ليه يقفل تلفونه لو معاه شغل فعلًا زي ماقالهم !!!
التقطت هدى هاتفها وقالت بقسمات مرتعدة وصوت ليس عاديًا مطلقًا :
_ لا لا في حاجة مش طبيعية .. زين مش بيقفل تلفونه أبدًا ، أنا هتصل بكرم اخليه يشوف اخوه فين ؟!!
***
فتح كرم عيناه على صوت رنين الهاتف المتكرر ، فتململ في فراشه متأففًا ونظر إلى زوجته النائمة بجواره فمد يده على الهاتف وكتم الصوت حتى لا يوقظها ثم اعتدل جالسًا والتقطت عكازه وسار إلى الخارج مجيبًا على الهاتف بهدوء :
_ أيوة ياماما
هتفت هدى بصوت مرتعد :
_ كرم اخوك متصلش بيك أو قالك حاجة
_ مين حسن ؟!
_ لا زين
أجابها بالنفي ونبرة مستغربة :
_ هو مش مسافر مع إسلام عشان العملية والمفروض يكون رجع إمبارح !!
هدى بخوف جلي وتوتر :
_ مرجعش ياكرم ومش عارفين نوصله .. تلفونه مغلق ومنعرفش بيعمل إيه ، قالهم معاه شغل هناك وهيرجع وراهم .. إنتوا ليكم شغل في بلجيكا ؟!
ابتسم كرم بسخرية وهتف بجدية بعد أن بدأ القلق بتسرب لأعماقه هو أيضًا :
_ شغل إيه ده بس ياماما اللي لينا في بلجيكا !! .. بصي متوتريش نفسك وأنا هكلم حسن وهنتصرف وهنشوفه فين ، أنا مستغرب والله !! .. اصل زين مش بتاع الحركات دي أبدًا !
هدى بنبرة متوسلة وصوت تخنقه العبارات :
_ لو عرفت توصله طمني عليه يابني متسبنيش على اعصابي ياكرم
_ حاضر ياماما هكلمك متقلقيش
اغلق الاتصال وانزل الهاتف من على أذنه وهو يزفر بلا حيلة وهو يتمتم :
_ اووووف يازين .. نفسي افهم بتعمل في نفسك كدا ليه !!
***
السماء غربت وهو لم يتصل بها حتى الآن ولم يعتذر حتى عن تأخره عن موعدهم !! ، اقسمت بين نفسها أنه عندما يتصل ستعنفه بقوة وستتشاجر معه ، فهذا ليس تصرف لائق أبدًا منه أن يتركها بانتظاره كل هذه الساعات وبالأخير لا يأتي ! ، وفوق هذا لم يكلف نفسه حتى ويتصل ليعتذر عن تأخره ويبرر لها موقفه !! .
هاهو الهاتف أخيرًا اعلن عن اتصال من أحدهم ، وبالتأكيد هذا المتصل هو .. هرولت ناحية الهاتف والتقطته لتقرأ اسم المتصل وكما توقعت ، اجابت عليه بمضض :
_ نعم
_ أنا آسف
قالها بدون أي مقدمات فقط تفوه بها بعفوية لتهتف هي بضيق وضجر شديد :
_ أسفك مش مقبول يا إسلام .. إنت كنت عارف إني قلقانة عليك لما كنت قي بلجيكا ومهنش عليك تطمني أو حتى تتصل بيا قبل ما ترجع تقولي إنك راجع ولما رجعت برضوا متصلتش بيا غير النهردا الصبح وقولتلي هتاجيلي في المطعم وهنقعد شوية ونتكلم ، عديتها وقولت مطعم مطعم مش مهم ، لكن إنك متعبرنيش وافضل مستنياك ومتتصلش تقولي حتى اتأخرت ليه كدا زودتها أوي !
إسلام بأسف حقيقي ونفس مختنقة :
_ أنا عارف إني لو قولت أنا آسف من هنا للصبح مش هتكفي يارفيف .. بس احلفلك بإية إني كان معايا مشاكل وكنت مخنوق ومليش نفس اتكلم مع أي حد ، أو بالأخص معاكي إنتي لإني كنت خايف اعمل تصرف غبي أو اجرحك بكلمة من غير ما اقصد فحبيت ابعد شوية عنك لغاية ما اهدى .. والنهردا اللي عملته ملهوش مبرر عارف بس صدقيني حصل معايا ظرف طاريء واتأخرت ومكنش معايا شاحن والتلفون فصل شحن مني برا فمعرفتش اكلمك
سكنت تمامًا وانتباها الفضول بسبب ما قاله وسط كل هذا الكلام الكثير حول المشاكل وأنه لم يتصل بها هي تحديدًا بسبب مشاكله ، مما جعلها ترجح أن الأمر له علاقه بها بالتأكيد !! .
رفيف بصوت مترقب وجاد :
_ مشاكل إيه وليه تجرحني بالكلام ؟!! .. مش فاهمة قصدك ؟!
زفر الهواء بقوة من فمه فبالطبع لن يخبرها بأمر أخيها ، تمتم بخفوت وصوت رخيم مخترعًا شيئًا ليتهرب مما قاله :
_ قصدي يعني إني كنت مضايق وخوفت اكلمك وأنا مضايق فاقول حاجة من غير ما احس واضايقك مني
رفيف بصوت مقتضب وواضح عليه الانزعاج :
_ اممممم ماشي يا إسلام أنا هقفل عشان عايزة أنام
هدر هو معتذرًا للمرة الثالثة بندم :
_ رفيف أنا آسف ارجوكي مـ…..
قاطعته بلهجة صارمة وجفاء :
_ مش زعلانة يا إسلام خلاص حصل خير ، تصبح على خير
ولم تنتظر رده حيث انهت الاتصال فور انتهائه من كلامها ، بينما هو فانزل الهاتف من على أذنه وهو يحدق بشاشته في خنق ، ثم رفع كفه إلى وجهه ومسح عليه متأففًا .. لم يكن يقصد أن يتجاهلها كل هذه الفترة ولكنه حقًا كان منزعجًا من كل شيء ولوهلة فكر بأن يفسخ الخطبة وتراجع باللحظة الأخير ، وكان أفضل حل هو الابتعاد عنها حتى تهدأ نفسه الثائرة ، مثلما يفعل أخيها الآن بالابتعاد عن الجميع !!! …
***
في إحدى بقاع الأرض تحديدًا بدولة بلجيكا ….
الأشجار الضخمة والعشب يحاوطوه من كل جهة وأمامه مجموعة من الطوب وضعهم بجانب بعضهم ليشكلوا حلقة دائرية وفي نصف هذه الدائرة النار تعلو وتهبط كلما يعبث بها بالخطبة التي في يده ، وتزداد توهجًا وارتفاعًا عندما يلقي المزيد من الخطب بداخلها .
لا يعرف مالذي يفعله فهذه الأفعال ليست من شيمه ولكنه يشعر بالراحة هكذا ، الراحة في البعد عن الجميع حتى عن أحبائه !! .. فقد ادرك قيمة انفراده التي اعادت لنفسه الكثير مما فقدته ، اليومين الذي قضاهم مبتعًدا افادوه وجعلوا من روحه الثائرة والتائهة التي تدور في نفس المتاهة ولا تجد طريقها .. أن تسكن أخيرًا في مستقرها .
الانعزال عن الكل لفترة قد يفيد صاحبه وقد يؤذيه ، لكن الأهم هو عدم الإفراط في العزلة .. فقد تصبح مرضًا لك لن يداويه حتى لو تجمع كل من تعرفه حولك ليخرجونك من ظلمتك ، سيفشلوا ! .
نظر إلى يده وبالأخص اصبعه الذي يحمل خاتم زواجه ، اطال النظر فيه بشرود وهو يعبث بأنامل يده الأخرى في اصبعه والخاتم .. بالأخير اخرجه وقلّبه بين يديه أمام عيناه يمعن النظر فيه ثم القي به بين ثانيا النيران المتعطشة لأي شيء حتى تأكله !!! .
فتحت شفق عيناها وتململت في الفراش بانزعاج من اشعة الشمس المتسللة إلى عيناها من النافذة ، لمحته يقف أمام المرآة لكنها لم تدرك ما الذي يفعله في البداية فقالت بخمول :
_ اقفل الشباك ياكرم مش عارفة أنام !
اتاها صوته الحاني وهو يقول مداعبًا :
_ تنامي إيه تاني !! .. الساعة عشرة يا شفق ، ده أنا بصحي بلاقيكي صاحية قبلي من الساعة سبعة ، كفاية يلا قومي بلاش كسل
_ اووووف ياكرم
اعتدلت جالسة وهي تتأفف .. وتفرك عيناها لتزيج عنهم آثار الخمول فتنتبه أخيرًا إلي ملابسه وهو يقف يسرح شعره الغزير ويهندم من مظهره ، ضيقت عيناها وقالت بحزم :
_ إيه ده !! .. إنت رايح فين ؟!
كرم ببساطة وهو مستمر في تسريح شعره غير مباليًا بنبرتها الحازمة :
_ رايح الشركة
هبت واقفة من الفراش واقتربت منه تهتف بنفاذ صبر وسخط :
_ يعني مفيش فايدة فيك !! ، ده بدل ما تقعد في البيت وترتاح عشان متتعبش اكتر عايز تروح الشغل !!!
استطرد ببرود تام وعدم اكتراث لسخطها :
_ شفق إنتي مش شايفة إنك مزوداها شوية .. ده الدكتور ذات نفسه لما كنا عنده إمبارح قال إن وضعي الحمدلله كويس أوي وكلها اسبوعين ولا اكتر وهرجع امشي على رجلي زي الأول ، فملوش لزمة القلق ده كله
أشارت إلى نفسها بسبابتها بما جحظت عيناها من رده :
_ يعني أنا مزوداها عشان خايفة عليك !
استدار لها وانحني على وجنتها يلثمها برقة متمتمًا :
_ لا مش قصدي كدا ياحبيبتي أكيد .. بس أنا خلاص جبت اخري من قعدة البيت
تنهدت الصعداء بعدم حيلة ورفعت جسدها الضئيل لقامته الطويلة والعريضة لتطبع قبلة على وجنته المزينة باللحية الخفيفة وتمتمت :
_ طيب بس متتأخرش ياحبيبي ومترهقش نفسك في الشغل
_ حاضر ياقلب حبيبك
ثم مال عليه وهمس غامزًا بعيناه في لؤم ونظرات جريئة :
_ عايز ارجع الاقي أميرتي مجهزالي سهرة صباحي حلوة كدا زيها
ابتسمت له بحب وهمست بدلال أنوثي جميل :
_ بس كدا من عيوني
خطف قبلة سريعة قبلة أن يستدير وينصرف تاركًا إياها تتنهد بحرارة ثم اتجهت للحمام حتى تأخذ حمامها الصباحي المعتاد ! …
***
داخل مقر شركة عائلة العمايري …..
وأخيرًا بعد غياب دام لثلاث أيام هاتفه يعطي الرنين .. تهللت اسارير حسن الذي كان يتصل به حيث نظر إلى أخيه وقال بوجه مشرق :
_ بيرن الحمدلله
ردد كرم خلفه براحة وابتسامة عريضة :
_ الحمدلله .. لما نشوف الاستاذ كان بيعمل إيه وقافل تلفونه ليه
ظل حسن مترقب لإجابته على الهاتف ، لكن الرنين طال ولا توجد إجابة منه .. وعلى آخر رنة سمع صوته يهتف بهدوء :
_ ايوة ياحسن
هدر حسن بعصبية بسيطة معنفًا إياه بشراسة :
_ إنت بتستهبل يا زين !! .. ليك تلات أيام قافل تلفونك ومحدش عارف يوصلك والكل قلقان عليك وأمك ومراتك هيتجنوا من الخوف عليك
أجاب عليه بصوت رخيم :
_ كنت عايز اقعد وحدي لكام يوم وقفلت تلفوني عشان محدش يزعجني ياحسن
ضحك حسن من الغيظ على إهماله ونظر لكرم ثم ناوله الهاتف وقال بصوت صلب :
_ خد كلمه إنت عشان أنا لو اتكلمت اكتر من كدا هتخانق معاه
جذب كرم الهاتف منه وأجاب على أخيه بنبرة رزينة :
_ ايوة يازين .. في إيه وإنت من إمتى بتقفل تلفونك يابني ، يعني إنت مش عارف أمك بتقلق إزاي من أقل حاجة .. ثم إن شغل إيه ده اللي معاك هناك ؟!
_ كان معايا شوية حجات خلصتهم وجاي بكرا متقلقوش .. ابقى اتصل بماما وطمنها وأنا هكلم ملاذ
لمس نبرة الشجن في صوته فثبت نظره على حسن الذي كان يحدق به بتركيز وقال بخفوت :
_ إنت قولت لإسلام ولا إيه ؟
زين بصوت مهموم :
_ اممممم قولتله وكنت محتاج اقعد مع نفسي شوية عشان استعد لما ارجع لردة فعل ملاذ كمان
هتف كرم بنبرة مشفقة عليه وبدفء :
_ أنا واثق إن ملاذ هتفهمك .. بعدين أنا قولتلك قبل كدا أن إنت كمان كنت ضحية في اللي حصل يازين
ارتفعت نبرة صوته وهو يقول في شبه صيحة مستاءًا :
_ متحاولش تقنعني إني مش غلطان ياكرم .. أنا اللي عملت في نفسي وإسلام كدا ، وأنا اللي خبيت عن مراتي لغاية ما وصلنا للمرحلة دي .. ودلوقتي لازم اتحمل نتيجة اخطائي زي ما اتحملتها زمان
لوى فمه بأسى على أخيه وتمتم بخشوع :
_ طيب هدى نفسك خلاص ولما تاجي بكرا نبقى نقعد احنا التلاتة ونتكلم
_ سلام
قالها بجفاء قبل ينهي الاتصال فورًا فانزل كرم الهاتف من على أذنه متنهدًا بضيق ليرمق حسن الذي كان حاله لا يختلف عنه كثيرًا ، والوضع لم يكن يحتاج لشرح حيث أنه فهم كل شيء من آخر جملة قالها كرم !! …
***
تقوم بتحضير وجبة الغذاء في المطبخ ، فقد اقترب موعد قدوم زوجها وهي اعتادت أن يعود من عمله يجد الغذاء جاهزًا .. بالرغم من أنها لا تشعر نفسها بخير منذ الصباح ولكنها تتحامل على نفسها وتكمل مهامها ، متجاهلة الألم الذي يمسك في بطنها وينغزها كالذي وجد سكين فيغرزها ويخرجها من معدتها بقوة .
وبينما هي مندمجة في تقطيع الطماطم اجتاحها ألم لا يحتمل ، التوى ظهرها للأمام على أثره وهي تتأوه بقوة ممسكة ببطنها وظلت ممسكة بها على أمل أن يذهب الألم ولكنه يزداد أكثر فأكثر ، فتعالت صوت تأوهاتها وسارت للخارج بصعوبة حتى وصلت إلى هاتفها فالتقطته واجرت اتصال به ، بعدما جلست على الأريكة وهي تضغط على بطنها كاعتقاد منها أن الألم سيخف هكذا ، لكن العكس ! .
اجاب على الهاتف بصوت طبيعي ليأتيه صوتها المتأوه والذي يغلبه البكاء وهي تستنجد به :
_ ايوة ياعلاء تعالى الحقني بسرعة .. تعبانة أوي
كان سيجيب عليها ليسألها مالذي بها بالضبط لكن صك سمعه صوت تأوهاتها المرتفعة فوثب من مقعده مزعورًا وقال بصوت متلهف :
_ حاضر حاضر أنا جايلك اهو ياميار
انزل الهاتف من على أذنه والتقطت مفاتيحه الخاصة وغادر مكتبه مهرولًا إلى الخارج ، بينما يسر فكانت في طريقها إليه لكنها تصلبت مكانها بعدما رأته يركض بهذا الشكل لتصيح منادية عليه بقلق :
_ عـــــــلاء
لم يجيبها وربما لم يسمعها حتى من فرط توتره على زوجته وهلعه ، قوست حاجبيها بريبة ومن داخلها تدعو ربها أن لا يكون هناك شيء سيء حدث ، ثم غيرت وجهتها واتجهت نحو مكتب زوجها …..
***
فتحت الباب دون أن تطرق ودخلت فرأته يقف أمام النافذة الكبيرة واضعًا كفيه في جيبي بنطاله ويعطي للباب ظهره ، التفتت خلفها تجاه الباب واغلقته بحذر حتى لا يصدر أي صوت مزعج .. ثم تحركت نحوهه ووقفت بجواره ممسكة بكفه هامسة باهتمام :
_ مالك ياحبيبي ؟!
سحب كفه بقسوة من بين يديها ، لتستقر في عيناه نظرة مرعبة وهو يجيبها بغلظة صوته الرجولي :
_ إنتي إيه اللي جابك ؟!!
ارتبكت قليلًا من لهجته ونظرته .. هدرت بخفوت :
_ لقيت نفسي كويسة ياحسن فقولت آجي الشركة اصل الشغل وحشني ، ومنها اساعدك شوية
تحول إلى جمرة نيران متوهجة حيث رأته وهو يعتدل في وقفته ليصبح مواجهًا لها تمامًا ويقول بلهجة أشد قسوة وخشونة من السابقة :
_ إنتي شاورتيني قبل ما تطلعي وقولتيلي إنك عايزة تاجي الشغل ؟!!
أخذت نفسًا عميقًا وتمتمت بطاعة تامة دون أن تدخل معه في أي جدال :
_ أنا آسفة كان لازم اشاورك الأول فعلًا .. بس متوقعتش إنك هتتعصب يعني !!
أصبح كبركان على وشك الأنفجار وهو يهتف بنظرة دبت الخوف في نفسها :
_ وهو أنا المفروض متعصبش لما تطلعي من غير ماتقوليلي مثلًا !!
تراجعت خطوة للخلف وأجابته بنظرات مستغربة :
_ في إيه ياحسن مالك !
تفحص ملابسها بعيناه التي كانت تطلق شرارات الغضب العاتية ، ترتدي نفس الرداء الذي يثير جنونه ويعصبه .. هتف في شبه صيحة عنيفة بها وهو يشير بعيناه على ملابسها :
_ بعدين أنا كام مرة هقول الفستان الزفت ده متلبسهوش تاني
هبطت بنظرها على ملابسها ثم رفعته مرة أخرى وثبتته عليه تطالعه بريبة من عصبيته الغريبة ، هي اخطأت بالفعل لكن يبدو أن الامر ليس لمجرد خروجها بدون أذنه فقط ، ومن حماقتها أنها لم تنتبه لكلامها وتحدثت بعفوية وشيء من الخنق :
_ إنت متعصب كدا ليه .. أنا مش كنت متفقة معاك إمبارح إن ممكن ارجع الشغل النهردا أو بكرا .. بس لما لقيت راسل موجود قولت آجي وبالمر اسلم عليه
رسم ابتسامة مخيفة على شفتيه ولمعت عيناه بوميض ليس بطبيعيًا ، كأنه كان ينتظر منها هذا الرد ! .
فور رؤيتها له على هذا الوضع ادركت فداحة الخطأ الذي ارتكبته بسذاجتها ، فكيف تخبره أنها جاءت خصيصًا لرؤية أكثر شخص يكرهه ولا يطيقه ؟! .
رأى في عيناها نظرات مضطربة من مواجهة طوفانه ، تقهقرت للخلف ولا تزيل نظرها عنه حتى اصطدمت بالمكتب فوقفت واستندت بكلتا كفيها على سطحه وانحنت بنصف جسدها للخلف بعدما وجدته يهل عليها بهيئته الضخمة وينحنى للأمام عليها هامسًا وهو صر على أسنانه بقوة وبهدوء ما قبل العاصفة :
_ آه يعني إنتي جاية عشان تشوفي راسل !!
هزت رأسها يمينًا ويسارًا عدة مرات متتالية تنفي إجابته بتوتر ملحوظ ، فيستكمل هو استجوابه المخيف لها :
_ كنت بتعملي إيه معاه تحت ؟!
يسر بابتسامة لطيفة تحاول تهدئة الأجواء المتوترة :
_ ولا حاجة ياحبيبي .. أنا شوفته وأنا داخلة الشركة وهو كان طالع ووقفت سلمت عليه وسألته عن خالتو .. وبس
تمتم مستنكرًا إجابتها :
_ وبس !!
رفعت كتفيها لأعلى تهمس برقة :
_ أه وبس
عادت نبرة صوته لترتفع من جديد وتاخذ عيناه اللون الأحمر مرة أخرى وهو يهتف محاولًا كتم غيظه :
_ ليكي ربع ساعة واقفة معاه وبتسأليه عن خالتك !! .. ليه كان بيحكيلك يوميات أمه ولا إيه !
ضحكت بتكلف لتلطيف الجو وضربته على أعلى صدره بخفة هاتفة بمزاح :
_ دمك خفيف يابيبي والله
انتفضت واقفة على أثر صرخته بها منفعلًا من تعاملها مع الموقف ببساطة :
_ أنا مش بهزر يايـــســـر !
لوت فمها بتذمر وتفادت النظر إليه لتقول بامتعاض :
_ حاضر ياحسن هقطع علاقتي بابن خالتي خالص عشان ترتاح .. حلو كدا !!
ثم همت بالاندفاع إلى خارج المكتب لولا يديه التي قبضت على ذراعيها وقال بلهجة صارمة :
_ خدي هنا رايحة فين ؟
_ رايحة مكتبي !!
_ مش هتروحي مكان .. اقعدي هنا على الكنبة وأنا هخلص شغلي وهاخدك ونروح البيت
همت بأن تعترض على أوامره فباغتها هو برده الأسرع منها وهو يحدجها بنظرات محذرة وقوية :
_ سمعتي قولت إيه ولا لا ؟!
جذبت ذراعها من بين قبضتيه بعنف وهي تتأفف بحنق ثم اتجهت إلى الأريكة وجلست عليها كما أمرها ، فالقى هو عليها نظرة مشتعلة قبل أن يستدير ويعود ليجلس على مقعد مكتبه الخاص ويباشر أعماله من جديد ، فتقول ببرود كنوع من إيجاد أي حجة حتى تخرج :
_ طيب أنا عاوزة اروح الحمام
حسن بعدم اكتراث بها وهو يشير بسبابته على وجهة الحمام :
_ الحمام عندك اهو ادخلي
نظرت إلى الحمام الملحق بغرفته الذي يقصده فقالت بتمرد وضيق :
_ لا انا مبحبش ادخل الحمام بتاع مكتبك
رمقها بنظرة نارية ثم استقام واتجه إلى باب المكتب ليغلقه بالمفتاح ويقول باستياء :
_ مش هتتحركي من الأوضة ياهانم .. ورجلك مش هتعتب الشركة هنا نهائي طول ما ابن خالتك الملزق ده موجود .. فاهمة ولا لا
حدجته بنظرات متقرفة تدل على عدم إعجابها بتلك التعليمات الصارمة ، ولكن بمجرد ما أن اعطاها ظهره وعاد لمكتبه ، ابتسمت على سخافة الموقف الذي وضعت فيه وعلى غيرته المفرطة وتصرفاته الغريبة التي بقدر انزعاجها منها إلا أنها تضحكها وتسعدها !! …..
***
عيناها عالقة على السقف وحوائط الغرفة المطلية جميعها باللون الأبيض ، كل شيء في الغرفة لونه أبيض .. كأنهم يؤكدون للمريض بمجرد ما أن يفتح عيناه أنه بغرفة مستشفى !! .
رأت الباب ينفتح ويظهر من خلفه زوجها ، اغلق الباب خلفه واقترب منها ليجلس بجوارها على حافة الفراش هامسة بنظرات حانية :
_ عاملة إيه دلوقتي ياحبيبتي
_ كويسة الحمدلله ياعلاء .. قولي الدكتور قالك إيه ؟
غمغم بخفوت وبابتسامة شبه خفيفة :
_ قال إنك حامل وكان هيحصل إجهاض بسبب إنك مكنتيش بتهتمي بنفسك بس الحمدلله ربنا ستر
وثبت جالسة بفرحة غامرة وهي تجيبه بعدم أستيعاب :
_ أنا حامل بجد ياعلاء !!
اجابها وهو يسخر من ردها بمزاح :
_ آه معلش أصل اثناء ما كنا بنلعب لعبة عريس وعروسة خدتنا الجلالة وحصل حمل
ضربته بخفة على ذراعه وهي تضحك وتقول :
_ بلاش قلة أدب وغلاسة
_ ماهو إنتي اللي غريبة .. هو اللي حامل بجد ، أمال بهزار يعني !
رفعت حاجبها وقالت بترقب ونظرة مدهوشة بعدما احست بعدم سعادته بهذا الخبر :
_ علاء أنت مفرحتش إني حامل ؟!!
هرب بنظراته منها وقال بخوف مزيف وتوتر :
_ اقولك الحقيقة ومتزعليش .. الصراحة لا !!
جحظت عيناها وفغرت فمها بصدمة من رده ليستكمل هو مغتاظًا :
_ أصل أنا مش فاهم العيل ده مستعجل على الدنيا كدا ليه !! .. مش كان صبر شوية ، ده انا حتى ملحقتش اشبع منك ياميار ، كدا ظلم والله !!
ضحكت بقوة على آخر جملة وقالت بارتياح مداعبة إياه :
_ اوووف حضتني ياخي وأنا اللي افتكرتك مش فرحان بجد ومش عايز طفل مني
قال بقرف كانت ستظنه حقيقيًا لولا أنها تعرف أنه يمزح :
_ ما أنا مش فرحان بجد !
اكملت مزاحها لتجيبه وهي تضحك بخفة :
_ لا متخفش هتفرح بعدين ، هي صدمة البدايات كدا بتكون قوية شوية معلش ياحبيبي .. بعدين متزعلش نفسك هنعوض الأيام دي كلها إن شاء الله بعد ما اولد
لوح بيده لها في استهزاء وخنق مجيبًا عليها مستنكرًا :
_ ده على اساس إنك هتكوني فضيالي أصلًا !
ظهرت علامات الدهشة على محياها بعدما فكرت في هذا الشيء ، وقالت وهي تضحك بصدمة :
_ علاء إنت بتغير من ابنك ومن قبل ما ياجي حتى !!!!
قهقه بصوته الرجولي بعدما سمع منها هذه الجملة وضمها لصدره يقبل رأسها برقة متمتمًا بعاطفة جيَّاشة :
_ لا مش للدرجة ! ، هو آه أنا متغاظ بسبب إني ملحقتش اتهني زي البني آدمين بمراتي والباشا هينطلنا في النص بدري أوي ، بس ده ميمنعش إني فرحت أوي بالخبر ده واول ما قالي الدكتور الفرحة مكنتش سيعاني
تشبثت به أكثر وهي تهمهم بحب وصوت ناعم :
_ ربنا يخليك لينا ياحبيبي
اكتفي بالرد على جملتها بأنه عاد يلثم رأسها بعمق ويمسك بكفها يرفعه لشفتيه ليلثم باطنه أيضًا ……
***
في تمام الساعة الحادية عشر قبل منتصف الليل …
كامنة في مضجعها مستندة بمرفقها على الوسادة وكفها أسفل وجنتها ، عقلها لا يتوقف عن التفكير به .. ماذا حدث له ؟ ، لماذا لا يتصل ؟ ، هل هو مريض أم أنه مزعوج منها في شيء ؟! ، ألا يعرف أنها ستكون قلقة عليه ؟!! .. على الأقل يتصل ويطمئنها بأنه بخير ! .
ربما تكون هي منزعجة منه بالفعل ولكن هذا لا يعني أن تتغاضي عن غيابه عنها طوال هذه المدة ، وبإهماله وعدم اهتمامه بخوفها عليه ، مما جعل غضبها منه يتفاقم للضعفين وعندما يعود ستحاسبه على أفعاله حسابًا عسيرًا ، وبدلًا من استجوابها له على خطأ واحد سيكونوا أثنين ! .
رفعت أناملها تمسح دموعها المنهمرة على وجنتيها بغزارة ، فقلبها يؤلمها وتحزن على الوضع الذي وصلوا إليه .. هي هنا تتحرق خوفًا وشوقًا له وهو ليس مهتمًا بشيء ، ومن جهة أخرى انزعاجها منه بسبب ما اخفاه عنها بينما هو هناك يتخبط وحده بسبب أخطاء الماضي التي تلاحقه ولا تتركه ينعم بحياة مسالمة !! .
جذبها من قوقعة أحزانها صوت رنين الهاتف ، تجاهلته في باديء الأمر ولم تهتم له ، فهي ليست في الوضع الذي يسمح لها بالتحدث مع أحد ، لكن الرنين لم يتوقف والمتصل مُصرّ على أزعاج صاحب الهاتف ، فانتابها الفضول حول معرفة هوية ذلك المتصل المزعج لتلتقط الهاتف وتجيب بعصبية :
_ الو مين معايا ؟!!
حبس أنفاسه لثلاث ثواني بالضبط وأخرجهم في زفيرًا طويلًا سمعته هي في الهاتف ثم تحدث بخفوت :
_ عاملة إيه ياحبيبتي ؟
تجمدت ملامحها للحظة فور سماعها لصوته ، لتصبيها مشاعر متضاربة مابين السعادة والغضب والقلق .. لكن الغضب كان سيد الموقف حيث هتفت تجيبه عليه ساخرة وبانفعال :
_ حبيبتك !! ، ليك تلات أيام قافل تلفونك ومنعرفش حاجة عنك ومش هامك أي حد .. حتى مهنش عليك تكلمني تطمني عليك يازين ، أنا كنت هتجن من خوفي عليك
زين بشجن وأسف :
_ أنا آسف !
عادت دموعها لتناسب على وجهها من جديد فتسأله هي بصوت يغلبه البكاء :
_ كنت بتعمل إيه يازين هناك وقافل تلفونك ليه !!
غمغم بنبرة خاشعة تنسدل كالحرير ناعمة :
_ لما اجي هفهمك كل حاجة والله متقلقيش
_ وإنت سيادتك جاي إمتى بقى ؟!
_ بكرا على العصر إن شاء الله .. ابقى روحي البيت من الصبح واستنيني عشان هنتكلم مع بعض في كام حاجة
ملاذ بنبرة عادية وامتثال لأوامره :
_ حاضر يازين .. توصل بالسلامة إن شاء الله
_ في حفظ الله
رددت نفس الجملة التي قالها قبل أن تنزل الهاتف من على أذنها وتنهي الأتصال وهي تضم حاجبيها بحيرة .. فهي الآن تأكدت أن به هم ، صوته ليس طبيعيًا أبدًا ، كان مهمومًا وحزينًا وبه لمسة الإنطفاء التي لم تشهدها أبدًا فيه منذ زواجهم !!! ….
***
كان كرم جالسًا على المقعد في غرفته ويعطي ظهره للباب وبيده كتابًا يقرأه ، بينما هي فتسللت دون إن يشعر وأغلقت الباب بحرص شديد حتى لا يشعر بها ، ثم سارت على أطراف أصابعها إلى كبس الكهرباء واطفأت الضوء ، فاظلمت الغرفة بأكملها إلى ظلام دامس !! .
ترك الكتاب من يده وعقد حاجبيه وهو يهتف باستغراب :
_ هي الكهرباء قطعت ولا إيه !
كان على وشك أن يقف ولكن صك سمعه صوت موسيقة عربية قديمة .. إلا وأنه الموشح الاندلسي الشهير ( لما بدا يتثني ) ، استدار بمقعده للخلف فإذا بضوء الغرفة يعود ويراها تقف توليه ظهرها وترتدي بذلة رقص من اللون الأسود وبقطعتين ، تنورة طويلة بها نقشات ذهبية عند منطقة الخصر وتنسدل لأسفل باتساع لتعطي منظر انوثي مثير ، وشعرها الأسود الحريري ينسدل على ظهرها ليغطي نصفه ، وكانت هي ترفع كلتا ذراعيها لأعلى تلوي رسغيها وكفيها بشكل احترافي على الحان الموسيقى وخصرها يميل يمينًا ويسارًا برقة .
انعقد لسانه وبقى محملقًا بها في ذهول حتى وجدها تنزل ذراعيها تدريجيًا وتستدير له بجسدها كاملًا فور البدء في كلمات الأغنية وهي تبتسم بساحرية وكان على وجهها شيء يبدأ من أنفها ويتدلي من اليسار إلى اليمين بخيوط أشبه بالأسوار المطرزة بحبات من اللون الفضي تغطي نصف وجهها ، وعيناها رسمتها بمساحيق الجمال الخاصة بالنساء في شكل مذهل .
في تلك اللحظة رأت فمه ينفتح بحركه تلقائية وتنزل شفته السفلي قليلًا للأسفل ، وقرأت في عيناه نظرات الإعجاب والرغبة فكتمت ضحكتها واكملت تمايلها على الحان الموسيقى برقة وأنوثة أكثر لتزيد من جرعة الإغراء ، بينما هو فاغلق فمه وازدرد ريقه متمتمًا بنظرات جريئة :
_ صحيح أنا اللي طلبت وقولت نفسي ترقصي ، بس احنا متفقناش على كدا !!
تلاعبت بحاجبيها وهي تضحك بدلال ، ليضيق هو عيناه بنظرات وقحة ويهمس بوعيد ماكر مبتسمًا :
_ كملي كملي .. ليلتنا فل إن شاء الله !
انطلقت منها ضحكة انوثية متأججة تمكنت من إثارته أكثر بها ، لكنه رغم كل هذا يتحكم في شهواته بصعوبة ، رجع بظهره على المقعد للخلف يجلس بإريحية أكثر يتابعها وهي تتمايل أمامه وابتسامته المعجبة واللئيمة تزين شفتيه حتى سمعته يدندن مع الأغنية كالآتي وعيناه ثابتة عليها لا تتحرك :
_ وعدي وياحيرتي ، وعدي وياحيرتي ، من لي رحيم شكوتي في الحب من لوعتي ، إلا مَليكُ الجمال .. إلا مَليكُ الجمال
استمرت في تمايلها وهي تسير بتجاهه حتى ولته ظهرهها ومالت للخلف عليه بشعرها وتهز كتفيها برقة وعلى شفتيها ابتسامة تأثر أقوى وأعتى الرجال ، لكنه كان يمتلك بثبات بثبات انفعالي رهيب أمام كتلة الجمال الصارخ المتجسدة أمامه ، ويكتفي بالمشاهدة والابتسام في نظرات ليست بريئة أبدًا ، كأنه ينتظر اللحظة ليعلن انقضاضه .. أما هي كلما ترى نظراته تضحك بقوة وبالاخير توقفت بأرضها وهي تخفي ضحكها بكفها ، فتسمعه يهمس بغمزة خبيثة :
_ كملي لسا مخلصتش الأغنية !
نزعت ذلك الشيء الذي يخفي نصف وجهها وقالت مبتسمة بحياء بسيط ، فلا تنكر أن نظراته اخجلتها بعض الشيء :
_ لا كفاية كدا .. إنت أحمد ربك إني عملتها ورقصت أصلًا ، دي في حد ذاتها معجزة ، وأعمل حسابك هي اول مرة وآخر مرة
استقام واقفًا وسار إليها في بطء بسبب قدمه حتى لف ذراعه حول خصرها وجذبها إليه هامسًا بابتسامة عريضة :
_ لـــيـــه ، ده أنا بحب آمان آمان دي أوي !! ، بقى عندك المواهب الجامدة دي ومخبياها عني كله ده يامفترية ، دي ولا اجدعها صافينار
تهجمت ملامحها واظهرت عن انياب الأنثى الشرسة وهي تقول بغضب :
_ وإنت تعرف صافينار منين ياكرم !!
اختفت ابتسامته فورًا وأجابها بتوتر بعدما أدرك كم الحماقة والسخافة الذي تفوه بها للتو :
_ مين قال إني اعرفها ياحبيبتي .. ده أنا بس من كام سنة كدا ، ومرة يتيمة حصلت واتفرجت بالصدفة على فيلم من افلامهم الهابطة دي وبعدها حرمت
طالعته بغيظ وهي تقول بقرف وضجر :
_ امممم فيلم صح !! .. اخص .. قال وكان عاملي فيها محترم وبيتكسف وهو ماية من تحت تبن
دفعها بخفة وهو يقول بغضب مزيف مضيفًا نوع من المرح على حديثهم :
_ إنت بتبصيلي بقرف كدا ليه يابت !
دفعته هي الأخرى في كتفه وهي تهتف بغيظ :
_ طاب متزقش !!
نظر لكتفه محل دفعها له ثم عاد بنظره لها وقال بوعيد لئيم :
_ يعني هي بقت كدا .. تمام إنتي اللي جبتيه لنفسك
وجدته يدفعها بقوة لتسقط فوق الفراش ثم مد يده يطفأ الضوء وبمجرد ما اظلمت الغرفة صاحت هي بطفولية :
_ لا بخاف من الضلمة ياكرم افتح النور
احست به ينحنى عليه يهمس ساخرًا وهو يضحك :
_ وهي آمان آمان بس اللي حلوة في الضلمة يعني
قهقهت بقوة رغمًا عنها ليمد هو انامله ويضيء المصباح الآخر الذي يعطي لونًا بنيًا هادئًا واضاءة رومانسية لطيفة ، ثم همس لها بحب :
_ حلو كدا !!
هزت رأسها بالإيجاب وهي تبتسم باستحياء جميل فانحنى عليها وهو يبادلها نفس الابتسامة ولكن بمشاعر كلها شوق وعشق ، لينغمسوا معًا في لحظاتهم الخاصة …
***
في تمام الثالثة عصرًا من اليوم التالي .. كانت هي تقف أمام النافذة المطلة على الشارع تراقب الطريق منتظرة قدومه مثلما أخبرها أنه سيعود عصرًا ، عادت منزلها صباحًا ورتبت ملابسها في خزانتها وكذلك فعلت القليل من أعمال المنزل دون أن تضغط على نفسها خوفًا على طفلها .
اشرق وجهها ببريق لامع عندما رأته يترجل من سيارة أجرة ثم فتح المقعد الخلفي وأخذ حقيبة سفره ، واخرج محفظته ليخرج أجرة السائق ويعطيها له ثم استدار وحمل حقيبته يسير للداخل نحو المنزل .. ابتعدت هي عن النافذة وهرولت راكضة باتجاه الباب ووضعت أذنها على الباب منتظرة سماع صوت خطواته على السلم ، وبمجرد ما استمعت لخطواته فتحت الباب على أخره بينما هو فوقف بمكانه يطالعها لثواني وهو مبتسم بدفء ثم اكمل صعوده لآخر درجات السلم حتى وصل للباب فرجعت هي خطوة الخلف حتى يتمكن من العبور ، دخل واغلق الباب ثم اسند الحقيبة على الأرض بجواره ووقف يحملق بها في نظرات تراها للوهلة الأولى منه .. كانت كلها اعتذار وشوق وعشق واحتياج ! .
فقدت سيطرتها على نفسها فادمعت عيناها وهي تراه يقف أمام سالمًا ، بعدما كان الرعب يمزقها لأربًا خوفًا من أن يكون أصابه مكروه ! ، وهاهو الآن أمامها بعد غياب طال لما يقارب الأسبوعين .. ارتمت عليه تعانقه بقوة تبث كل شوقها له في هذا العناق الحميمي ، فيلف هو كلتا ذراعيه حولها يضمها إليه أكثر ويدفن وجهه بين ثنايا رقبتها يشم رائحتها ورائحة شعرها التي طالما يعشقهم .
مجرد اسبوعين جعلت منهم بهذا الشوق ، ربما هذا بسبب ما عاشوه في هذه الأيام وهما مبتعدين عن بعضهم ! .. كلاهما احس لوهلة أن سيخسر الثاني ! ، لذلك لقائهم كان يحمل كل ضروب الشوق والعشق في ثناياه .
سمع صوت شهقاتها وبكائها وهي متعلقة برقبته فرفع وجهه قليلًا وقبَّل ما لحقه من شعرها ورأسها كاعتذار منه عن غيابه عنها دون أي خبر ، ابتعدت عنه وضربته على صدره بجفاء وهي تصيح به باكية :
_ طبعًا حضرتك مش عارف أنا قضيت التلات أيام دول إزاي ، ومش مسمحاك وزعلانة أوي منك على اللي عملته ده يازين
احتضن وجهها بين كفيها وانحنى عليها يخطف قبلة من وجنتها هامسًا بحزن ورجاء :
_ أنا آسف ياحبيبتي .. والله ما كان قصدي اقلقكم عليا ومتوقعتش إنكم هتقلقوا أوي كدا
ملاذ بغضب :
_ منقلقش إزاي يعني وإنت قافل تلفونك طول المدة دي ومحدش يعرف حاجة عنك .. ثم إنك من إمتى بتكذب يازين ، ده إنت عمرك ما عملتها !!
_ أنا كذبت !!
_ ايوة شغل إيه ده اللي معاك في بلجيكا .. كنت بتعمل إيه هناك يازين ؟!!
لمس في نبرتها الشك المعتاد في فطرة النساء والسخط الممزوج بالغيرة ، فابتسم وقال ببساطة ونظرة حانية :
_ متخافيش متجوزتش عليكي يعني أكيد ، بعدين أنا مكنتش بكذب ، أنا كان معايا شغل فعلًا
عقدت ذراعيها في خصرها واجابته مستهزئه من رده :
_ ياسلام شغل إيه ده بقى ؟!
احنى شفتيه على جبهتها وطبعا قبلة مطولة عليها ثم همس بلطف :
_ هقولك شغل إيه وهنتكلم كتير ، بس ادخل أغير هدومي الأول واخد دش وبعدين هنقعد وهحكيلك كل حاجة من الألف للياء
بقت مكانها تتابعه وهو يبتعد عنها ، متنهدة بعمق وعبوس ، مايريد أن يسرده لها هي تعرفه جيدًا ولكنها ربما تحتاج أكثر للتفاصيل حقًا لعلها تشفع له عندها وتجعل انزعاجها من هذا الأمر يخف قليلًا !! .
***
وقفت أمام باب الحمام واستندت بكتفها على الحائط منتظرة خروجه وهي تجهز وجهها بابتسامة عريضة لتستقبله بها عندما يخرج .
توقف صوت اندفاع المياه فعرفت أنه انهى حمامه وسيخرج ، وبالفعل ماهي إلا دقيقة بالضبط وفتح الباب .. كان يلف المنشفة حول نصفه السفلي كالعادة وبيده منشفة أخرى صغيرة يجفف بها شعره ، ارتد بجسده للخلف مزعورًا عندما اصطدم بها حين فتح الباب ، استغرق ثلاث ثواني وهو يقف يحملق بها بريبة من ابتسامتها السخيفة ! ، ثم تأفف بقوة وخنق وابعدها من أمامه ليمر وهو يردد بنفاذ صبر :
_ استغفر الله العظيم
اتبعت خطواته تمامًا تسير على نفس خطاه خلفه في الغرفة ، يشعر بها خلفه ولكنه يتصنع عدم المبالاة .. توقف في منتصف الغرفة ونفض رأسه يمينًا ويسارًا حيث ينثر عنه قطرات الماء وعاد يضع المنشفة ويحركها على شعره بعنف بسيط ، وأخيرًا القى بها على الفراش والتفت برأسه للخلف فوجدها في ظهره تمامًا ليعود برأسه إلى وضعها الطبيعي وهو يتأفف بخنق هامسًا :
_ لا إله إلا الله !!
كتمت ضحكتها بصعوبة التي كانت سنتطلق بقوة بعد ردة فعله ، واستمرت في متابعته حيث سار باتجاه الخزانة حتى يخرج ملابسه منها وهي تتعبه على نفس خطاه ، وقف فوقفت خلفة مباشرة شبه ملتصقة بظهره ، حاول تجاهلها قدر الإمكان متأملًا أنها ستحل من فوق رأسه .
اخرج ملابسه والقاها على الفراش ثم التفت بجسده كاملًا لها وهز رأسه في ابتسامة سمجة بمعنى ” إيه !! ” ، قلدت نفس حركته وفعلت نفس الشيء وهي تبادله ابتسامة لكنها بلهاء ، فعض شفاه السفلية وقال متمالكًا اعصابه :
_ هلبس هدومي يايسر .. إيه هتقفي تتفرجي عليا !
هزت رأسها بنفور متصنعة الصدمة مما تفوه به وقالت بحزم مزيف :
_ لا لا استغفر الله اتفرج إيه .. أنا هقعد بس هغمض عيني واديك ضهري
رفع حاجبه وقال ساخرًا بوقاحة :
_ متأكدة من القرار ده يعني ؟!!
ارتبكت بعد اللهجة الوقحة التي لمستها في صوته وقالت متزمرة بغيظ :
_ خلاص طالعة
ابتسم باتساع وهو يراها تغادر الغرفة ليقول بسعادة :
_ وياريت متدخليش تاني عشان انا هنام هااا
وقفت والتفتت له برأسها ترمقه في ابتسامة خبيثة ونظرة نارية مهمهة :
_ من عنيا ياحبيبي
رحلت واغلقت الباب خلفها فأصدر هو زفيرًا حارًا بارتياح وبدأ في ارتداء ملابسه ثم تمدد على الفراش وتدثر بالغطاء مغمضًا عيناه .. وماهي إلا دقائق معدودة وسمع صوت الباب ينفتح فخرج من بين شفتيه تأففًا قويًا سمعته هي لتقول بشراسة :
_ من غير أفأفة ياحبيبي
اقتربت وانضمت بجواره على الفراش متمددة نصف تمديدة وتلتصق بظهره من الخلف ، متطفلة عليه برأسها وتهتف بمشاكسة :
_ هتفضل مكشر في وشي كدا لغاية إمتي بقى ؟!
حسن بصوت خشن :
_ أنا عايز أنام يايسر .. ممكن ؟!!
دفعته في كتفه بخفة متشدقة بانفعال بسيط وقسمات وجه مغتاظة :
_ جرا إيه يا ابو على متزودهاش بقى يا راجل ، مكنوش كلمتين اللي اتكلمتهم معاه دول !!
باغتها بنظرة مميتة منه اربكتها ثم اعتدل جالسًا وقال بغلظة صوته الرجولي :
_ قومي من جنبي عشان متغباش عليكي
صاحت به في عصبية مزيفة وكأنها تخفي خوفها واضطرابها من تحوله بصوتها المرتفع وطريقتها الهمجية التي اشبه بنساء الحواري :
_ ما أنت اللي عامل حوار على مفيش ياحسن .. ما قولنا مش هنتكلم معاه تاني ومش هنروح الزفت الشركة تاني ، إيه نعمل أكتر من كدا .. ننزل نبوس رجليك !!
جز على أسنانه بشكل مخيف واطبق اصابعه على خصلات شعرها بلطف بعض الشيء يجذبها منهم إليه وهو يهتف مغتاظًا منها :
_ يعني غلطانة وبتعلي صوتك عليا كمان .. ده إنتي ليلتك طين النهردا
كان رأسها يميل للخلف بسبب شده لخصلاتها للخلف ، ووجها مقابل لوجهه تمامًا فرسمت الابتسامة الساحرة على شفتيها وغمزت بعيناها وهي تضم شفتيها لبعضهم وترسل له قبلة في الهواء ، بينما هو فبعد أن كان وجهه مقوس بقسمات الغضب الحقيقية ، لانت ملامحه بالتدريج وارتخت قبضته على شعرها .. كأنها ارسلت تعويذة سحرته بها وليست مجرد قبلة ، ثبت نظره على شفتيها فمال عليها لينل مبتغاه لكنها اسرعت وانتصبت جالسة قبل أن ينل منها ، ثم اقتربت منه تطبع قبلة رقيقة على وجنته هامسة :
_ وهو أنا برضوا اقدر على زعل سنسونتي
مال برأسه للجانب الآخر يحسها على طبع القبلة التالية على وجنته الأخرى ففعلت برقة أشد وهي تكمل همسها المغري :
_ مكنش في نيتي أبدًا إني اعمل كدا عشان اعصبك ، ونسيت خالص موضوع إنك مبتحبش راسل والله ، صدقني لو كنت افتكرت مكنتش هروح أبدًا ، بس اوعدك مش هتتكرر تاني
همس بهيام وهو ذائب بالكامل أمام قبلاتها :
_ حصل خير .. أنا نسيت إني كنت متعصب منك أصلًا ، وتعالي بقى نفتح صفحة جديدة
اطلقت ضحكة انوثية متأججة وهي تضربه على صدره وتهب واقفة من الفراش تهدر وهي مغادرة :
_ أنا هروح اخلص اللي ورايا ونام إنت بقى طالما خلاص اتصالحنا
بقى متسمرًا مكانه يحدق على أثرها ، فلوهلة احس أنه منغمس في نعيم الجنة ولكنها سلبته إياها في نفس اللحظة دون أن تمهله الوقت ليتمتع بها حتى !! .. فرك ذقنه وهو يقول بوعيد واغتياظ :
_ اهربي اهربي .. كلها كام شهر وتولدي ومحدش هيحوشك مني وقتها
***
ترجلت رفيف من السيارة أمام المطعم ثم قادت خطواتها نحو الداخل ، وهي تتلفت حولها باستغراب ، لما الطاولات الخارجية فارغة وليس هناك زبائن .. اسرعت قليلًا في خطاها حتى وصلت عند باب المطعم الرئيسي لتجده مغلق ، ضيفت عيناها بريبة حقيقية وأشد ، ثم وضعت يدها في حقيبة يدها وكانت علي وشك إخراج المفتاح وهي تستشيط سخطًا من تأخر الموظفين وأنه إلى الآن لم يُفتح المطعم ، لكن أصابها الذهول الذي سمرها بأرضها حينما انتبهت إلى الطاولة الكبيرة المتوسطة في وسط المطعم وفوقها كعكة صغيرة الحجم نسبيًا ومن حولها بقية الطاولة مزينة ، دارت بنظرها في تدقيق أكثر لتلاحظ بقية المكان الذي كان كله مزين ! .. لم تكن دهشتها بمنظر المطعم وتزيننه تساوي شيء أمام صدمتها وفرحتها عندما رأته يخرج من الغرفة الداخلية الخاصة بها ويسير باتجاه الباب ، لا يمسك في يده عكازه الذي اعتادت أنه تراه به ، بل يسير كأي شخص طبيعي على قدماه بسهولة .. ظلت كما هي تستحوذ عليها الصدمة حتى وصل إلى الباب وفتحه من الداخل يستقبلها بابتسامة مشرقة ويفسح لها الطريق لتمر .
لم تتحرك وبقت على وضعها تحدق به في دهشة ليضحك هو بخفة ويقول :
_ ادخلي يارفيف !!
انتبهت على نفسها ونفضت برأسها تنفر الأفكار التي راودتها الآن ، ودخلت على استحياء وهي تتجول بعيناها في كل أرجاء المكان ، ثم أخير استقرت عيناها على قالب الكيك لتقول بابتسامة بسيطة شبه ساخرة :
_ والتورتة دي ليه بقى .. اعتقد إنت عارف إن عيد ميلادي عدي من بدري
عقد كفيه في جيبي بنطاله ووقف بثبات يجيبها في نظرات كلها ثقة :
_ تقتدري تعتبريها رشوة صغيرة
بعد شجارهم منذ يومين على الهاتف بالتأكيد يحاول تصليح الأمر ، أجابته بغطرسة :
_ بس أنا مش بقبل الرشوة !!
ضيق عيناه مبتسمًا باستمتاع ثم همس في خفوت ومشاكسة مدروسة :
_ خلاص اعتبريه تثبيت عادي برضوا ، طالما مش بتحبي الرشوة !
اشاحت بوجهها للجانب الآخر وهي تضحك بصوت مكتوم ثم انتصبت في وقفتها وقالت بجدية امتزجت بالخجل :
_ طيب على العموم شكرًا جدًا على المفاجأة غير المتوقعة دي وبجد عجبتني أوي وفرحت بيها ، وثانيًا وده الأهم واللي فرحني اكتر من أي حاجة إني شيفاك قدامي واقف على رجلك ورجعت لحياتك الطبيعية من تاني الحمدلله ، وده شيء شيء كفيل يسعدني وهو المفاجأة الحقيقية بالنسبالي
لاحت الابتسامة المغرمة على شفتيه ليجيبها بأعين تتحدث أكثر من شفتيه التي همست بلهجة مرحة :
_ افهم إن بعد الكلام الحلو ده خلاص صافي يالبن ومفيش زعل تاني
اضطربت من نظرته وكلامه فزاغت عيناها عنه وسارت باتجاه الطاولة التي فوقها الكعكة متهربة منه لتقول بمداعبة لطيفة :
_ ادوق التورتة الأول وبعدين افــــكـــر أذا كان صافي يالبن ولا لسا !!
انطلقت منه ضحكة رجولية رنت في أذنها لتجعلها تبتسم تلقائيًا ، فهدر هو بنبرة لينة :
_ وماله فكري براحتك
***
تخرج ملابسه من الحقيبة وتطويها بطريقة معينة خاصة بها ثم ترتبها في خزانته وهي شاردة الذهن .. وأذا بها تشعر به من خلفها يطبع قبلة على شعرها هامسًا بحنو :
_ تعالي ياملاذ هنتكلم شوية
التفتت له بجسدها كاملًا وقالت بعبوس واستهزاء مع نبرة جافة :
_ متتعبش نفسك أنا عارفة كل حاجة
تجمد واتخذت معالمه قسمات الصدمة من ردها ، فبقي يحملق بها لبرهة وجيزة من الزمن وعيناه تكشف عن الصدمة وكم الاضطراب المهيمنان عليه ، حتى شفتيه المنفرجة تتحدث وتخبرها بين صمته عنه حالته ! .
خرج صوته أخيرًا وهو يسألها بتأكيد :
_ عارفة إيه ؟!
ملاذ بنبرة قوية ونظرة ثاقبة :
_ اللي إنت كنت مخبيه عني يازين ، عرفته وكنت اتمنى إني اسمعه منك مش من حد غيرك
اجفل نظره لأسفل في خزي يجيبها بأسف وشجن :
_ صدقيني مكنش عندي الشجاعة إني اواجهك ياملاذ .. كنت خايف من ردة فعلك
_ إنت خبيت عني شيء مينفعش يتخبي يازين .. أنا كان من حقي اعرف كل ده ومنك إنت كمان
أجابها بضيق من نفسه :
_ عندك حق أنا آسف سامحيني
ملاذ بلهجة حازمة :
_ عايزة اعرف كل حاجة بالتفصيل ومن البداية
اماء لها بالإيجاب وتمتم في نبرة عادية :
_ طيب هحكيلك تعالي اقعدي
اقتربت وجلست بجواره على الفراش ثم بدأ هو يسرد لها كافة التفاصيل دون أي نقص وهي تستمع بإذآن صاغية ، إلى أن انتهي وتوقف عن الكلام فرأى في عيناها دموع سابحة وهتفت في دهشة وعتاب :
_ كل ده ومتحكليش حاجة .. مش على اساس إننا مش هنخبي على بعض حاجة نهائي وهنرجع نبني الثقة بينا من تاني ، كذا مرة اسألك واقولك احكيلي يازين إيه اللي مضايقك وإنت كنت بتتهرب مني
_ مكنتش بتهرب .. كنت منتظر الوقت المناسب اللي اكون جاهز فيه عشان احكيلك واقولك كل حاجة .. وموضوع اسلام أنا والله العظيم ما كنت اعرف إن هو اللي خبطته ، عرفت لما كنا في الرياض واعتقد إنتي فاكرة إني اخدت يومين بعيد عنك ومش بتكلم ومهموم وكان بسبب كدا ، بس متجرأتش اقولك في وقتها
انهمرت دموعها على وجنتيها وهي تحدجه بأسى ولوم ، ثم استقامت واقفة وقالت بصوت مبحوح :
_ في إسلام يمكن كان عندك حق تتردد ومتقوليش لأنه صعب فعلًا و حتى أنا مصدقتش لما عرفت ، بس موضوع إنك دخلت مصحة وكنت مدمن فمعندكش حق يازين كان لازم تقولي وتشاركني
استدارت وهمت بالرحيل لكنه وقف وقبض على ذراعها لتقف هي وتلتفت له بجسدها ، بينما هو فهمس بنظرة بائسة ومنطفئة :
_ ليكي الحق تزعلي مني أني خبيت عنك ومقدرش الومك ، وكمان مقدر أنك ممكن تكوني مضايقة على إسلام وإني كنت السبب في اللي حصل معاه بس إنتي فهمتي كل حاجة أهو وإني ندمان إزاي على كل حاجة عملتها وإني مكنتش في وعي لحظتها
تمتمت بحزن وأعين تهيمان بالعبارات :
_ أنت اخترت متشاركنيش همومك وتبعدني عنك وتشيل الهم وحدك يازين ، مع إنك لو كنت قولتلي من البداية وحكتلي كل حاجة كنت هتفهم الوضع وهقف في ضهرك ، بس هيفيد بإيه اللي حصل حصل خلاص
ضيق عيناه ببعض الدهشة والألم ثم أجابها بلهجة تحمل التعجب :
_ وهو دلوقتي مش هتقفي جنبي يعني في أشد وقت أنا محتاجك فيه معايا وتقوليلي أنا في ضهرك ولا إيه ؟!
_ الخاتمة _
ضيق عيناه ببعض الدهشة والألم ثم أجابها بلهجة تحمل التعجب :
_ وهو دلوقتي مش هتقفي جنبي يعني مع إني في أشد وقت أنا محتاجك فيه جنبي وتقوليلي أنا معاك ولا إيه ؟!
بقت تحملق به للحظات وجيزة ، ترغب بالرد عليه ولكن نفسها الساخطة تمنعها ، لا تزال منزعجة وتحتاج لبعض الوقت لتترك عقلها وقلبها يتخذوا القرار الصحيح دون تسرع .
سحبت ذراعها من بين قبضته وغادرت الغرفة لتتركه يقف ووجهه يعطي علامات استفهام وتعجب ، لا يدري أهذا يعتبر ردًا على سؤاله بالإيجاب ؟ .. أم أن هذا لا يعني شيء سوى أنها رفضت الإجابة ؟! .
***
في مساء ذلك اليوم …
انتهت من تحضير كأس الشاي له وسارت به باتجاه الصالون حيث يجلس أمام التلفاز يشاهد أحد برامج كرة القدم ، وقفت أمامه ومدت يدها له بالكأس فتناوله منها وهمس بابتسامة صافية :
_ شكرًا
ثم عاد بنظره للتلفاز مرة أخرى ، لتتنهد هي بعمق وعبوس وتجلس بجواره على الأريكة متمتمة بصوت رقيق :
_ حسن
أجاب عليها باختصار دون أن يبعد نظره عن شاشة التلفاز :
_ نعم
يسر بصوت مختنق :
_ هو إنت اتكلمت مع علاء وبابا تاني ؟!
استعجب سؤالها والأكثر من السؤال هو نبرتها ، فالتقط جهاز التحكم واخفض الصوت تمامًا ثم وضع الكأس على سطح الطاولة الصغيرة والقصيرة أمامه ، ليتلفت لها برأسه ويقول بحيرة :
_ لا يايسر .. اتكلمت مع عمي يوم لما حكيتلك وبعدها كلمت علاء وإنتي عارفة اللي حصل ، وهحاول تاني اصلح اللي حصل .. بس اصلًا كان متوقع إنهم ميسامحونيش من أول مرة وهما عندهم حق من الأرض للسما لو رفضوا اعتذاري وصدقوا ندمي ، لأن أنا لو مكانهم كنت هعمل كدا
اقتربت منه في جلستها ورفعت كفها لوجنته تملس بإبهامها في رقة على جانب ثغره هامسة في أعين حزينة وراجية :
_ خليني أنا اكلمهم ياحبيبي وافهمهم يمكن الوضع يتحسن بينكم ، مش حابة اشوفكم كدا وبسببي أنا
أبعد يدها عن وجهه في غضب وهتف بصوت أجشَّ وصارم :
_ لا يايسر ملكيش دعوة ومتتدخليش في حاجة ، ثم أني قولتلك قبل كدا إنتي ملكيش ذنب أنا اللي غلطان من البداية
يسر بانفعال بسيط وعينان تهيمان بالدموع :
_ إنت غلطان فعلًا .. بس أنا السبب في كل ده من البداية ، أنا اللي كنت بحبك وكنت عايز اوصلك بأي طريقة ومفكرتش في النتائج هتكون إزاي واتصرفت بغباء ، لو مكنتش هددتك بصورك وتسجيلاتك مكنتش هتعمل كل ده ومكنتش هتتجوزني ، ودلوقتي أنت بتتحمل غلطك وغلطي
انحنى عليها واحتضن وجهها بين كفيه يجيبها بنظرات ثابتة في عيناها :
_ يعني إنتي ندمانه على اللي عملتيه عشاني !!
انهمرت دموعها وانزلت كفيه من على وجهها لتبتعد عنه قليلًا في جلستها وتشيح بنظرها عنه مغمغمة بصوت مبحوح ونادم :
_ مش عشانك يا حسن ، أنا ندمانة على اللي عملته في نفسي وفيك .. كنت متوقعة إني لما أعمل كدا هجذب انتباهك ويمكن تحبني بس كانت النتيجة اسوء مما توقعت ، بداية بكذبتنا على اهلي وأهلك ومن بعدها جوازنا وإن أنا اللي كنت بعاني كله ده ، واللي حصل بينا من بداية الليلة إياها حتى طلاقنا واللي اتعرضناله .. كل ده أنا كنت السبب فيه ، كنت عايزاك تحبني بالغصب ومبصيتش على أي حاجة تاني مفكرتش فيك أو في بابا وعلاء وماما لما يعرفوا أو حتى مرات عمي واخواتك ..
الحقيقة هي إنك مكنتش أناني وحدك ، أنا كنت أنانية أكتر منك ومكنتش بفكر غير في نفسي !
ابتسم بساحرية وعشق وهو يتألمها ، يقسم بينه وبين نفسه أنه لم يكن هناك أغبي منه في هذه الحكاية ، هو الأحمق الوحيد لأنه لم يدرك قيمة الألماسة التي اهديت إليه إلا بعدما كان على وشك فقدها !! .
اختلس المسافة التي صنعتها بينهم وقرب شفتيه منها يطبع قبلة على جبهتها هامسًا بغرام شبه مداعبًا بعدما استند بجبهته على خاصتها :
_ بس إنتي طلعتي بفايدة في الآخر وقدرتي توصلي لهدفك السامي وهو قلبي ، وللأسف مقدرش أنكر إني معاكي بحس أن مفيش ست في الوجود كله ، تقدر تملى عيني ولا تسعدني غيرك
اجهشت باكية تجيبه بأسي :
_ إنت حبيتني فعلًا بس بعد إيه ياحسن ، كان نفسي نجتمع مع بعض في ظروف أفضل من كدا ، نبدأ حياتنا كأي أتنين طبيعين بيتجوزا من غير كذب وخداع ، مش عايزاك تخسر عمك بسببي
تراجع برأسه للخلف يرمقها بأعين تحمل الريبة والحيرة من كلامها ، ثم قال باسمًا بنفاذ صبر :
_ لا بجد أنا ربنا يعيني على هرموناتك دي لغاية ما تولدي والله .. أصل إنتي مش طبيعية
يسر بعصبية :
_ متفضلش كل شوية تقولي هرموناتي ، أنا بتكلم بجد !!
_ لا إنتي جاية تنكدي عليا يايسر .. معرفش إيه اللي جاب موضوع ابوكي واخوكي لموضوعنا احنا، لا وفتحتي في العياط زي الحنفية .. في إيه أنا بني آدم وبيتنكد عليا والله العظيم يايسر زي بقية الرجالة ، ليه النكد ده ياحبيبتي !! ، وعمل اقولك في كلام حلو وابوس فيكي وإني بحبك وشوية وهبوسك من بوقك عشان تفرفشي وإنتي أبدًا ولو لازم انكد علي اهلك ياحسن ، مكنش عيل ده اللي منكد على اللي جابونا من قبل ما ياجي !
تمكن بالأخير من اضحاكها حيث اطلقت ضحكة أنوثية مرتفعة وجففت دموعها بأناملها ثم التصقت به وهمست بعبث :
_ أنا مش عارفة مالي ياسنسن والله ، بتجيلي لحظات كدا وبفضل اعيط من غير سبب استحملني ياحبيبي معلش
لوى فمه باختناق وهدر مغلوب على أمره :
_ ما أنا مستحملك أهو .. هنعمل إيه بقى نصيبنا ، يلا ربنا يقوينا
عادت تفتح الموضوع من جديد وقالت بإلحاح :
_ طيب مش هتخليني اتكلم معاهم برضوا واقولهم كل حاجة .. أنا حتى لو زعلوا مني هفضل بنتهم ياحسن ومش هيفضلوا زعلانين مني كتير يعني ، لكن إنت غير
مسح على وجهه متأففًا بسخط حقيقي هذه المرة ، ثم زغرها بنظرة مميتة وهو يشير بسبابته في عصبية :
_ تاني !!!
اعتدلت في جلستها وقالت بتذمر وخنق بعدما ابدى لها عن بشائر انفجاره :
_ خلاص أهو مش هتكلم نهائي
اطلق زفيرًا حارًا بعدم حيلة ثم التقط جهاز التحكم الخاص بالتلفاز ورفع مستوى الصوت من جديد ليعود ويستكمل برنامجه وكذلك كوب الشاي !! .
***
دقت الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل ، قد أتم التاسع والعشرون من عمره ، لكنه ليس معها ليحتفلوا كما أعتادوا ، غاب ولم يعد وفي لحظة فارقهم ومن بعده أمها لحقت به ، لم تحتمل فراق وحيدها فذهبت له وتركتها هي تتخبط بين طيات الألم والفراق ، فبقت بلا حيلة وتبعثرت شتاتها .. ولولا أن رحمة ربها عليها عظيمة لكانت الآن بين حبات التراب أسفل الأرض ، أو أنها تسير بلا مأوي كالطائر الذي فقد عشه .
انقذها من ظلمات الحزن وضمها لكنفه ، ليصبح الأخ والأب والزوج والحبيب ، تكفل بجميع أدوار العائلة .. حين يستدعي الموقف أن يكون الأخ الحنون يجسد الدور بمهارة ، وعندما يتوجب عليه أن يكون بحب الأب لابنته لا يقصر في أفعاله ، أيضًا لا شك في أنه الزوج المثالي ، يعرف جيدًا متى يغضب ومتى يكون السند والحصن التي تحتمي خلفه ، وفوق كل هذا هو أجمل عاشق رأته في حياتها ! .
تجلس بغرفة مكتبه على الأريكة المقابلة للحائط الذي تملأه صورته هو وأخيها ، وعيناها ثابته على وجه أخيها تتأمله فقط دون أي ردة فعل ، فقط تنظر لصورته كالصنم الذي وضع في مكان وعيناه لا تتحرك عن الشيء الذي وضع أمامه .
فتح الباب ببطء شديد ووقف للحظات يحدج في وضعها الغريب ، في العادة عندما يجدها تجلس بهذه الغرفة تكون غارقة في بكائها بسبب الصورة ، لكن هذه المرة هي ساكنة بشكل عجيب !! .. تحرك نحوها وجلس بجوارها ثم مد يده يعبث بأنامله في خصلات شعرها ويهمس بحنو :
_ شفق !
تمتمت بصوت مريب دون أن تحرك نظرها سنتي واحد عن الصور :
_ النهردا عيد ميلاد سيف
توقف عن العبث بشعرها ونقل نظره إلى الحائط يحملق في الصورة بشجن لفترة وجيزة ثم عاد بنظره لها وهمهم بأسى :
_ ربنا يرحمه ياحبيبتي
استكملت حديثها بنفس وضعيتها ونفس لهجتها كأنها داخل عالم خاص بها :
_ زي دلوقتي كل سنة بنكون بنحتفل أنا وماما بعيد ميلاده .. مكنتش بعرف أعمل تورتة حلوة أوي فكانت ماما هي اللي بتعملها ليه ، وكنت أنا بزين البيت وكنا بنعملها ليه مفاجأة قبل ما يرجع من الشغل بليل ، وكل مرة بيتفاجيء بسبب إنه كان بينسي يوم عيد ميلاده أصلًا .. بس خلاص بقى مبقيش موجود لا هو ولا ماما ، معدتش هسمع صوتهم تاني ولا هشوفهم ، مفيش بهدلة ماما ليا وخناقنا أنا وهي على اتفه الأسباب ، أنا لغاية دلوقتي مش مصدقة إنهم سابوني وأحيانا كتير ببقى منتظرة إني اروح بيتنا والاقي ماما موجودة فيه وبليل يرجع سيف من الشغل ، أو بفضل أبص على التلفون مستنية رقمها يرن عليا عشان تتطمن عليا زي ما اتعودت
صمتت لثلاث ثواني بالضبط ثم استرسلت حديثها باسمة بألم :
_ كانت بتحبك بشكل مش معقول .. لدرجة إنها كانت بتدعيلي وتقولي ربنا يكرمك براجل زي كرم ، وأتضح أن مفيش من كرم أتنين فخدته هو ذات نفسه !! .. تعرف كانت هتفرح أوي بجوازنا لو كانت عايشة
استقرت في عيناه نظرة مشفقة وشجينة على أميرة قلبه ، يستطيع رؤية الوجع والمرار في عيناها ، ويلمس الضعف والانكسار في نبرتها .. لذلك فهم أن مهما قال من كلام لن يفيد بشيء ، هي فقط بحاجة للشعور بالدفء والحنان ، تحتاج دومًا للأحتواء ، هي في أمس الحاجة لعناق دافيء منه الآن .
لف ذراعه حول كتفيها وضمها لصدره وهو يلثم شعرها بقبلات متتالية ويهمس بالقرب من أذنها في صوت يملك سحرًا خاصًا :
_ عيطي ومتكتميش جواكي ياشفق
مالت شفتيها قليلًا معبرة عن إبتسامة منطفئة ، ثم ابتعدت عنه وهمست بثبات :
_ أنا كويسة متخفش .. هما وحشوني بس وكنت بسترجع الذكريات
كرم بنظرة شك وإهتمام :
_ أكـــيــد ؟!
هزت بالإيجاب ثم بسطت ذراعيها على الجانب وارتمت عليه تعانقه وتلف كلتا ذراعيها حول رقبته متمتمة برقة :
_ بس أنا محتاجة ده فعلًا .. إنت عيلتي اللي بلجأ ليها في كل أوقاتي
لف هو الآخر ذراعيه حولها يدمجها بين أضلعه أكثر ودفن وجهه بين تجويف رقبتها يلثمها بعمق وحميمية هامسًا :
_ وأنا بعشقك
***
أطفأت جميع الانوار الزائدة في المنزل وذهبت إلى غرفتهم ، فوجدت الفراش فارغ منه .. عقدت حاجبيها باستغراب ثم اسرعت إلى الحمام ووضعت أذنها على الباب تترقب لأي صوت يصدر من الداخل يدل على أنه بالحمام ولكن لا يوجد ! ، امسكت بالمقبض وأدراته لتدفع الباب للداخل وهي تدور بنظرها في أرجاء الحمام ، فيجول برأسها سؤال واحد في هذه اللحظة وهو ” أين ذهب ؟! ” .
اسرعت من الغرفة إلى الصالة وكانت على وشك أن تصيح منادية عليه لكنها تسمرت مكانها حين فتحت الضوء فرأته نائم على الأريكة ، بقت مكانها تمعن فيه النظر ، بأصبعه المسبحة الالكترونية وكتاب القرآن الكريم على المنضدة الصغيرة أمام الأريكة وعلى الجانب الآخر سجادة الصلاة لا تزال على الأرض ، يبدو أنه كان يقضى بعض الوقت في العبادة بعد أداة صلاته وبينما هو يُسبح ويذكر الله غلبه النوم ! .. فلمعت عيناها بوميض العشق النقي .
سبحان الذي يهدي عباده ويحول العبد العاصي إلى آخر صالح ، يعرف قواعد دينه ويحفظ شرائعه عن ظهر قلب ، سبحان الله .. الرحيم والغفور الذي أحن على العبد من أمه ، ويهدي من يشاء بغير حساب .
ابتسمت بحب ثم مدت أناملها إلى الضوء واغلقته من جديد ثم سارت في الظلام باتجاهه ووقفت أمامه للحظات تحدق به ، بالأخير جلست على حافة الأريكة وتمددت بجسدها بجانبه ، تدمج نفسها معه في هذه المساحة الصغيرة وتدفن وجهها بين ثنايا صدره وتلف ذراعها حول خصره معانقة إياه ، فتح عيناه شبه مزعورًا عندما احس بشيء التصق به .. لكن صابته الدهشة بعدما وجدها هي فظل يحملق بها مدهوشًا وهمس :
_ ملاذ !!
زادت من حميمية عناقها له ولم تجيب عليه إلا عندما وجدته سيستكمل كلامه فرفعت رأسها عن صدره وكتمت على شفتيه بسبابتها تمنعه من استرسال حديثه هامسة بعيناه تنضج بالعشق ورغم الظلام إلا أنه رأى القليل من هذه النظرات ولمسها في نبرتها :
_ أنا عايزاك بس تضمني لحضنك الليلة دي .. إنت وحشتني أوي !
وختمت كلامها بقبلتها الرقيقة على جانب ثغره ، كانت قبلة كنسائم الربيع الجميلة التي تمر بلحظة فتترك أثرًا في النفس والجسد يبعث الراحة والسعادة .
مالت شفتيه للجانب في ابتسامة مغرمة وفرحة ليميل بوجهه عليها ينل منها من القبلات ما استطاع ويتمتم :
_ وإنتي كمان وحشتيني أوي
ملاذ في رقة وثغر مبتسم :
_ بكرا هتحكيلي كل حاجة حصلت بالتفصيل .. قعدت ليه في بلجيكا ودبــلــتــك فين وحصل إيه بينك وبين إسلام لما قولتله ؟ ، كل ده عايزة أعرفه .. بس مش دلوقتي ؛ لأن دلوقتي أنا من عايزة أي حاجة تعكر جمال لحظتنا ولا جمال حضنك اللي اشتقتله
ضحك وقال مشاكسًا :
_ إنتي لحقتي تلاحظي أن الدبلة مش موجودة !!!
_ طبعًا لاحظت .. إنت أساسًا مكنتش بتقلعها من إيدك ومن ساعة ما رجعت من السفر وأنا مش شيفاها في إيدك ومش بتلبسها !!
حك ارنبة أنفه بأنفها هامسًا في حنو :
_ هفهمك كل حاجة بس زي ما قولتي الصبح مش دلوقتي
ابتسمت باستحياء من لمساته ونظراته واخفضت رأسها مرة أخرى إلى صدره ، فيهمس هو بضيق :
_ طيب إيه مش يلا بينا على سريرنا جوا .. مش معقول هننام على الكنبة اللي متر في متر دي يعني
_ لا لا أنا مرتاحة كدا ومبسوطة ، إنت مش مرتاح ولا إيه ؟!
_ لا مرتاح ، أنا قصدي عليكي إنتي !
وجدها تلتصق به أكثر وتهمهم بصوت يبدو عليه الراحة من هذا الوضع وكأن دفء جسدهم معًا بسبب التصاقهم يشعرها بالتلذذ :
_ أنا تمام متقلقش
اطلق قهقة رجولية شبه مرتفعة وقال مغلوبًا على أمره :
_ طيب تعالي ادخلي من جوا لتقعي ، احنا مش ناقصين
وقفت وخرج هو للحافة وترك لها النصف الداخلي فارغ فوثبت من فوقه وتمددت لتصبح محاصرة بين جسده الذي يضمها ويحتويها بكل حب وظهر الأريكة الدافيء أيضًا فتغمض عيناها باسترخاء وتترك نفسها لتغرق في النوم بأقل من دقيقتين !!! .
***
مع إشراقة شمس يوم جديد يحمل الكثير والكثير ……
داخل منزل طاهر العمايري ، فتح علاء باب الغرفة ودخل ليجد أمه تجلس مع زوجته وبيدها صينية الطعام ، ومعالم وجه كل منهم غرببة وتعطي طاقة سلبية .. فيسأل بحيرة :
_ في إيه ؟!
هتفت ميار بنفاذ صبر وقلة حيلة :
_ ياعلاء اتكلم معاها أبوس إيدك واقنعها مصممة تخليني اقعد معاها هنا شهور الحمل كلها ودي المرة التالتة اللي تجبلي الأكل من الصبح وبتغصبني أكل
كان يظن أن الأمر جادًا لكن بعد ما سمعه اطمأنت نفسه وضحك ليجيبها وهو ينزع وشاحه عنه :
_ في دي أنا مقدرش اساعدك ياحبيبتي والله .. أصلًا دي فرصة جات لماما عشان تخلينا قاعدين معاها يعني للأسف مش هنعرف نرجع بيتنا ، إنتي مشوفتهاش عملت إيه لما عرفت إمبارح إنك حامل ، حلفت عليا أجيبك وآجي فورًا
صاحت به أمه مغتاظة :
_ إنت اسكت خالص مسمعش صوتك ياواد
ضم كل من سبابته وأبهمامه على بعضهم وسحبهم على شفتيه مغلقًا فمه ممتثلًا لأوامرها الصارمة التي القتها عليه للتو ، واكتفي بالمشاهدة والابتسام وهو يقعد ذراعيه أمام صدره .. لتعود أمه بنظراتها المشتعلة إلى ميار وتهتف بغضب :
_ وبعدين فيها إيه يعني ماتقعدوا معانا ، ولا إنتي بقى مش عايزة تقعدي معايا ياست ميار !!
ميار بلطف ونعومة :
_ مين اللي قال كدا ياماما .. والله بالعكس عايزة أقعد معاكي بس أنا عارفة إني لو قعدت معاكي مش هترتاحي وهتفضلي بتلفي على رجلك وأنا مش عايزة اتعبك ، عشان كدا عايزة ارجع البيت
زمت شفتيها بحزن وقالت بوجه عابس تستخدم أسلوب خاص لتستعطفها وتؤثر به عليها :
_ اخص عليكي ياميار ، ده بدل ما تقوليلي هقعد معاكي واونسك ياماما بدل ما أنتي قاعدة وحدك ، ده حتى عمك بياخد اليوم كله في الشغل وأنا بفضل في البيت العريض ده كله وحدي زي قرد قطع !
اطالت ميار النظر فيها ثم خطفت نظرة سريعة على زوجها الذي يقف ويتابع بصمت لتعود وتقول بحب وحنو :
_ خلاص متزعليش هنقعد معاكي بس بالله عليكي متتعبي نفسك وتفضلي طالعة نازلة كل شوية ، مرة بأكل ومرة عصير ومرة فواكه ومرة معرفش إيه !
اختفي العبوس من على محياها وتهللت أساريرها لتهتف بحماس :
_ حاضر بس كلي الأكل اللي جبتهولك ده يلا
تأففت بصوت عالي ونظرت إلى علاء تهتف بتذمر وخنق :
_ اووووف بص ياعلاء ، عايزاني أكل بالغصب
صفعتها على ذراعها في عنف بسيط لتضم ميار بذراعها فورًا وتصدر تأوها متألمًا من أثر الصفعة التي تلقتها منها ، وتهتف زوجة عمها بضجر من عنادها :
_ بلاش عند يابت .. متبقيش هبلة هو الأكل ده ليا !! ، ماهو لازم تتغذي يا ناصحة
ميار بغيظ وتمرد على تعليماتها :
_ في فرق بين إني اتغذى وإني اتكبس .. إنتي من إمبارح بتكبسي فيا بالأكل حرام عليكي ياماما
لم تتمالك نفسها وانفجرت ضاحكة على كلماتها لكن سرعان ما تمالكت الموقف وعادت لحزمها وهي تقف وتقول بتحذير :
_ طيب أنا همشي ونص ساعة وهرجعلك لو لقيت الأكل زي ما هو إنتي حرة ياميار !
ثم اندفعت إلى الخارج وأثناء مرورها من جانب أبنها هتفت بحدة :
_ خليها تاكل
اشار بسبابته إلى عينيه وهو يبتسم وبمجرد رحيلها بدأ في فك ازرار قميصه عنه وقال وهو ينظر لها بشيء من الحزم المماثل لأمه محاولًا إخفاء ابتسامته :
_ كُلي يلا احسلك ، أظن سمعتي الأوامر عشان لو رجعت ولقتك مكلتيش مش هيحصل كويس صدقيني .. دي أمي وأنا حافظها ، طالما قالت إنتي حرة يبقى هتحصل كوراث لو معملتيش اللي هي عايزاه
اصدرت زفيرًا حارًا بعدم حيلة ورمقته بنظرة نارية قبل أن تُقبل على الطعام وتبدأ في الأكل ثم تهتف شبه راجية :
_ طيب ماتيجي تاكل معايا ياعلاء وتساعدني ابوس إيدك
خرجت منه ضحكة رجولية جلجلت الغرفة ثم أجابها برفض متعمد وبرود :
_ مش جعان ، ويلا كُلي من غير كلام كتير عشان وقتك بيمر والنص ساعة قربت تخلص
تنهدت بيأس واكملت طعامها بعدما لم تجد طريقة للهروب من تعليمات زوجة عمها الصارمة !! .
***
داخل غرفة المدير العام لشركة عائلة العمايري ( زين ) .. بينما كان جالسًا على مقعده أمام المكتب ويطّلع على بعض الأوراق الخاص بالعمل ، قطع تركيزه صوت طرق الباب ليجيب وعينه لا تزال على الورق يحاول لملمة شتات تركيزه :
_ ادخل
انفتح الباب وظهر من خلفه إسلام الذي دخل وأغلقه خلفه ، فيرفع زين نظره بعدم توقع أبدًا أن الطارق سيكون هو ، حيث بمجرد ما وقعت عيناه عليه هتف بدهشة :
_ إسلام !!
استقام واقفًا وهو يرحب به بابتسامة عذبة ولكن محرجة :
_ أهلا وسهلًا ، اتفضل اقعد
سار إسلام بتاجه مكتبه ثم جلس على المقعد المقابل له وتنهد بعمق قبل أن يهتف مبتسمًا :
_ أنا جاي اتكلم معاك شوية
ضيق زين عيناه بريبة وفضول بنفس اللحظة ، هو أساسًا مندهش من زيارته غير المتوقعة ، وكان ينوي أن يحاول التحدث معه مرة ثانية ويصلح الخلاف الذي حدث بينهم بسبب الحادث ، وكان يظنه غاضب منه حتى الآن ولا يريد رؤيته !! .
أنتصب إسلام في جلسته وأخرج زفيرًا حارًا وطويل ثم رسم الابتسامة الصافية والنقية على شفتيه قبل أن يستكمل حديثه كالآتي :
_ أنا جايلك عشان أقولك أن اطمن أنا مش شايل منك ولا مضايق ولا أي حاجة ، يمكن لما قولتلي في بلجيكا وقتها اتعصبت لأن كانت صدمة الصراحة ومتخيلتش أبدًا إنك تكون إنت صاحب العربية دي وأن إنت اللي كنت سايقها ، بس بعدين لما فكرت في كلامك واللي حكتهولي حسيت إن إنت كمان كنت ضحية في اللي حصلك واللي وصلك للحالة دي ، وفي الأول والأخير ده قضاء وقدر وكان مكتوبلي يحصل معايا كدا .. الحمدلله على كل شيء ، ومش هنسي كمان إنك زي ماكنت السبب في اللي حصل إنك كنت سبب بعد ربنا في ارجع امشي تاني على رجلي ، بس كان المفروض تقولي يازين من قبل العملية ومن أول ماعرفت
أجاب زين بيأس :
_ لو كنت قولتلك قبل ما تعمل العملية كنت هترفض مساعدتي ومش هتعملها ، عشان كدا استنيت بعد ماتمت الحمدلله وقولتلك
إسلام ضاحكًا بخفة :
_ أنا من الأساس كنت رافض مساعدتك أصلًا وقولتلك إن المبلغ اللي هتدفعه هسددهولك ، ومازالت عند كلامي
تمتم زين برزانة ووجه مهموم :
_ كنت ممكن اخدها منك لو مكنتش أنا السبب في وضعك ، بس صدقني مش هقدر أخدها .. اعتبرها جزء من واجبي اللي معملتهوش لما خبطتك بالعربية
فهم مقصده جيدًا فز رأسه بإماءة بسيطة متفهمًا شعوره بالذنب ، ليقول مداعبًا وهو يبتسم :
_ خلاص اللي فات مات وأنا هعتبر إني معرفتش حاجة وهنسي الموضوع نهائي وإنت كمان انساه وكأن محصلش حاجة
أجابه متنهدًا بعبوس وأسى :
_ هحاول انسي مع إن الموضوع مش بأيدي ولأني مش بحمل نفسي الذنب في اللي حصلك إنت بس ، لا ده في حجات كتير تاني غيرك .. كنت شبه سبب فيها للأسف
استقام إسلام واقفًا والتقط سماعة الهاتف الأرضي المتصل بالسكرتيرة خارجًا وهو يهدر بجدية واهتمام :
_ طيب بقولك إيه ما تسيب الشغل ده شوية وهنقعد نتكلم واحنا بنشرب كوبايتين قهوة وتحكيلي الحجات دي على رواق يامعلم
لم يجيبه واكتفى بالابتسام المرير مستسلمًا للأمر الواقع ، ليضع إسلام السماعة على أذنه ويطلب القهوة لكلاهما !!! …….
***
تجلس على الأريكة أمام شاشة التلفاز وبيدها صحن ممتليء بالفشار ، كلما تلقي بواحدة في فمها تضع يدها في الصحن وتلتقط بالأخرى لتلقيها خلفها أيضًا ، وعينيها تارة على التلفاز وتارة على ساعة الحائط التي فوقه تتفقد الساعة التي تجاوزت الحادية عشر قبل منتصف الليل ولم يُعد حتى الآن !! .
وأخيرًا وصل .. انفتح الباب ودخل ثم بدأ في نزع حذائه عنه رامقًا إياها بطرف نظره وهو يهمس :
_ السلام عليكم
تركت الصحن من يدها وهبت واقفة لتتحرك نحوهه وهي تسأله بحيرة :
_ عليكم السلام .. ليه اتأخرت كدا يازين ؟!
_ إسلام كان معايا الصبح وبعد ما مشي كملت الشغل اللي ورايا عشان كدا اتأخرت
رفعت حاجبيها بصدمة من رده لتهتف بقلق :
_ كان معاك ليه .. اقصد يعني قالك إيه ؟!!
انتهي من نزع حذائه وسار نحو غرفتهم وهي تلحق به مسرعة لتصغي إليه وهو يجيب عليها ببساطة :
_ ولا حاجة جه واتكلمنا شوية وقالي إنه مش مضايق مني وخلاص اللي فات عدي وخلص
انفرجت شفتاها لتكشف عن ضحكة صامتة وهي تجيبه بفرحة :
_ بجد !! ، والله مكنتش متوقعة أبدًا إنه إسلام هينسى بسهولة كدا ويصفالك تاني بالسرعة دي ، بس ده دليل إنك بيعزك فعلًا زي ما كان بيقولي
حدجها باستغراب وأعاد عليها آخر كلماتها بعدم فهم :
_ بيقولك ؟!!
_ أيوة كان دايمًا بيقولي إنه بيعتبرك أخ وصديق
ابتسم بعذوبة وقال بلطف وهو يفك أزار قميصه :
_ الشغل كان ليه الفضل في أنه يكوّن صداقة ما بينا ، الحمدلله أنا حسيت بأن هم وانزاح من على قلبي لما جه وقالي الكلام ده
رفعت كفها وملست على ذقنه بأناملها هامسة في حنو وسعادة :
_ الحمدلله ياحبيبي إنه مبقيش في زعل ولا خصام بينكم وربنا يبعد المشاكل عننا
_ آمــيـــن .. أنا هدخل أخد دش سريع
_ طيب تحب احضرلك العشا لغاية ما تطلع
غمغم وهو يسير باتجاه الحمام :
_ لا مش جعان
ظلت بالغرفة ساكنة على الفراش في انتظار خروجه حتى تطرح عليه نفس السؤال الذي يثير فضولها منذ عودته وبالأخص بعد الذي رأته في خزانته ! .
دقائق معدودة وخرج من الحمام فاستقامت واقفة واقتربت منه لتقف أمامه تعتري طريقه بوجه جامد وسرعان ماتحول للرقة وهي ترفع كلتا ذراعيها وتلفهم حول رقبته متمتمة بدلال :
_ مش هتقولي برضوا دبلتك فين ؟
زين ضاحكًا :
_ إنتي مش بتنسي خالص !!
هزت رأسها بالنفي مع ابتسامة عريضة وقالت بتصنع البراءة :
_ أصل أنا شوفت حاجة كدا في دولابك والفضول هيقتلني وأعرف جايبها ليه
اجابها بدهشة بسيطة ونظرة قوية :
_ إنتي بتفتشي في دولابي ياملاذ !!
هتفت فورًا تنفي إجابته بلطافة وعفوية مزيفين :
_ لا والله أبدًا .. ده أنا كنت برتب هدومك بس ولقيته بالصدفة
ازاحها من طريقه ليمر وهتف بضيق مصتنع :
_ واقولك ليه بقى ما خلاص سيادتك عرفتي وبوظتي المفاجأة !
زمت شفتيها للأمام وقالت بعبث طفولي :
_ لا مبظتش ولا حاجة أنا أصلًا معرفتش حاجة فقول وأنا هندهش متخفش يعني اطمن
سط سمعها صوت كركرته الرجولية لتبتسم بتلقائية على ضحكه ، ثم تراه يتجه نحو الخزانة ويفتحها ليمد يده بمكان معين أسفل الملابس ويخرج نفس العلبتين الصغيرتين .
استدار لها بجسده كاملًا واقترب بخطواته منها حتى وقف مباشرة أمامها وتمتم بخفوت جميل :
_ الدبلة بتاعت جوازنا أنا حرقتها
رأى علامات الذهول على محياها التي امتزجت بعدم الاستيعاب والفهم ، ليستكمل كلامه في لهجة دافئة وعاطفية :
_ حرقتها ليه ! .. لأني عايز نبدأ بداية جديدة تمامًا من غير أي كذب أو أي أسرار ، والدبلة دي بدأنا بيها حياتنا وللأسف كل واحد فينا كان مخبي عن التاني أسرار ، لكن دلوقتي هنفتح صفحة جديدة تمامًا وإن شاء الله ربنا هيباركلنا في حياتنا وذريتنا ..
هاتي إيدك
مدت كفها له وهي تحدجه بعينان لامعة ووجه مشرق بالابتسامة الساحرة ، رأته يمسك بخاتم زواجهم الذي في أصبعها ويخرجه ثم يلقيه على الأرض ، ويفتح العلبة ليخرج منه خاتم رائع وراقي جدًا يليق بذوقه الفخم ، ثم وضعه في نفس الأصبع الذي أخرج منه الخاتم لتهتف هي بفرحة بما يفعله من أجلهم وأجلها :
_ جميل أوي يازينو .. ربنا يخليك ليا وميبعدناش عن بعض أبدًا
جذبها لأحضانه متمتمًا بحب :
_ اللهم امين ياقلب زينو
تعلقت برقبته وخرج همسها مستحي قليلًا حاملًا الحماس والسعادة الغامرة :
_ وإنت كمان ليك عندي مفاجأة هتفرحك أوي
ارتحت عضلات يده على ظهرها بعدما عقد حاجبيه بتساءل عن هذه المفاجأة ، ابتعدت قليلًا عنه واطالت النظر فيه وهي تبتسم باستحياء يذيب القلب ، فجعله يمعن النظر فيها وفي استحيائها متعجبًا .. وأخيرًا بعد تقريبٌا دقيقة من التحديق فيها فهم نظراتها ففغر فمه بصدمة واستطرد بعدم تصديق :
_ اوعي تقولي إنه اللي في بالي ؟!
هزت رأسها بالإيجاب تؤكد له شكوكه فسرعان ما ارتفعت الضحكة لشفتيه واضاءت عيناه ببريق مذهل ، تستحوذ عليه حالة من الفرحة الغامرة التي ايقظت بداخله طاقة حماسية رهيبة ، حيث عاد يجذبها إلى صدره من جديد ولكن بقوة أكثر من السابقة هاتفًا بسعادة :
_ تعالي ، إنتي بعدتي عني ليه ، اللهم لك الحمد والشكر يارب .. ربنا يجعله من ذريتنا الصالحة يارب ويتمم حملك على خير ياحبيبتي
_ امين يارب
ظلت بين ذراعيه للحظات طويلة وهي تستمتع بدفء صدره الذي يدخل السكينة والراحة على قلبها .. هو رفيق دربها ، رغم أنهم تخطوا العديد من العواقب التي هددت بهدم عشهم وإنهاء حبهم ولكنهم تمسكوا بضرب العشق المميز الذي جمعهم وهو ( الإخلاص ) .
***
بعد مرور ثلاثة أسابيع ……
مر حتى الآن خمس دقائق ولم تخرج من بالحمام بعد ، وكرم بالخارج يجلس على الأريكة ينتظرها على أحر من الجمر ويدعو الله بأن شكوكهم تكون صحيحة وأنه سيرزق بطفل قريبًا .
لحظات مرت والساعات وهو بانتظارها حتى خرجت أخيرًا فهب واقفًا وهرول نحوها يسألها بتلهف :
_ حمل مش كدا ؟!
بقت تحملق به في أعين عابسة وعلامات وجه جامدة لا تظهر أبدًا أنها تحمل له بشرى سارة ، مما تسببت بعبوسه هو أيضًا بعدما ظن أن النتيجة كانت سلبية ، لكنه قطب حاجبيه بتعجب حين وجدها تلقي نظرة على اختبار الحمل وتعود بعيناها له وتطلق على شفتيها الابتسامة العريضة وتهتف بفرحة تؤكد سؤاله :
_ أيوة حمل
لم يكن حاله أفضل منها بل وكأنه حلق في السماء عاليًا بعد هذا الخبر ، لطالما كان ينتظر الطفل ويتمني أن يرزق به في أقرب وقت وربه أستجاب لدعوته الآن .
أغار عليها يلثم كل أنش في وجهها ويلتقط كفيها ليطبع على ظاهرهم قبلات متعددة وعميقة ثم جذبها لصدره وهو مستمر في تقبيلها وكأنه لم يجد سبيل للتعبير عن فرحته سوى بتقبيلها ، أصدرت هي ضحكة أنوثية مرتفعة وقالت من بين ضحكها :
_ براحة ياكرم اهدى في إيه ! ، خلينا نتأكد من الدكتور الأول برضوا
تقوس وجهه بيأس وهتف متعجبًا :
_ ليه هو الاختبار ده مش بيدي نتيجة أكيدة يعني ولا إيه ؟!
زمن شفتيها وقالت بنبرة عابثة :
_ اعتقد أيوة .. بس في الغالب بيكون صح ، يعني استعد عشان قريب أوي هتكون أحلى وأحن بابا في الدنيا ياكوكو
_ لا أنا فرحان أوي بجد .. تعالي أما ابوسك تاني
أمسك بوجهها وانحنى عليها يقبل وجنتها بقوة أو بالمعنى الأدق يتلهمها ، فتهتف هي ضاحكة بصوت مرتفع :
_ كفاااااية ياكرم حرام عليك ، خدي ورم
أجابها وهو يبادلها الضحك :
_ لا عودي نفسك عشان من النهاردة هتاخديلك كل يوم عشرة عشرين بوسة زي دول
_ دي مكافأة نهاية الخدمة يعني ولا إيه ؟!
قالتها بضحك ليهتف هو بنظرات مستنكرة ردها ويجيبها بمكر :
_ نهاية إيه !! .. الخدمة دي مطولة أوي لسا ، معانا العمر كله يا أميرتي إن شاء الله !
رفعت نفسها لمستواه وطبعت قبلة رقيقة على وجنته وهي تحدجه بابتسامتها البريئة كوجهها تمامًا ! ، القدر جمعهم معًا وربطهم ببعضهم البعض لينشأ بينهم أفضل ضروب العشق بين العُشاق على الإطلاق .
***
في المساء ، بتمام الساعة السابعة مساءًا …..
كان يقف أمام المرآة ويجهز نفسه للخروج ، لم ينتبه لتلك التي تسربت ووقفت خلفه مباشرة وهمست بصوت يشبه فحيح الأفعى به لهجة غريبة :
_ رايح فين ياحسن دلوقتي ؟!
التفت لها برأسه وقال ساخرًا من سؤالها :
_ رايح اتجوز تحبي تاجي تحضري الفرح
ابتسمت على رده السخيف وقالت تستكمل مزحته :
_ وماله اروح ، مروحش ليه
ضحك بصمت في نفاذ صبر ثم عاد برأسه المرآة وأكمل تجهيزه بينما هي فتحدثت بجدية هذه المرة وفضول امتزج بالاستغراب :
_ لا بجد رايح فين ؟!!
_ رايح عند ماما .. هنتعشي معاها ونقعد شوية أنا وكرم وزين هناك
هزت رأسها بإماءة بسيطة بعدما عرفت سبب خروجه وقالت بحنو :
_ طيب متتأخرش عليا هااا
حسن بابتسامة محبة ودافئة :
_ حاضر مش متأخر إن شاء الله
استدارت وهمت بالانصراف لكن أحست بألم بسيط اجتاحها في بطنها ، فوقفت وانحنت بظهرها للأمام قليلًا مستندة على الحائط بكف والآخر تضعه على بطنها ، التفت ناحيتها بجسده كاملًا وامسك بها فورًا هاتفًا بخوف :
_ في إيه يايسر مالك ؟
تلاشت علامات الألم من على محياها تدريجيًا وظهرت على شفتيها ابتسامة سعيدة ، بعدما أدركت أنها حركة طفلها الأولى .. ضيق هو عيناه بحيرة لتنظر له بعينان لامعة ووجه مشرق ثم تلتقط كفه وتضعه على بطنها خصيصًا فوق المنطقة التي تشعر بحركته فيها .
شعوره بتلك اللحظة لا يمكن وصفه ، فقط أحس بأن قلبه ينبض بقوة .. والإبتسامة تعلو لشفتيه تدريجيًا دون أن يشعر بها ، فقد زاد احساس الأبوة في أعماقه وأصبح يتحرق شوقًا لرؤية طفله .
ظل واضعًا كفه وهو يحدق على بطنها بعين تطلق شعاع مبهج إلى أن توقف الطفل عن الحركة ، فرفع نظره ليثبته على زوجته التي كانت في عيناها لمعة أشبه بدموع ، انحنى عليها وخطف قبلة عميقة ثم جذبها إلى صدره متمتمًا بصوت مبحوح ونادم :
_ أنا لو فضلت اشكرك طول حياتي مش هيكفي ، شكرًا لأنك حافظتي على ابننا ولأنك معملتيش اللي طلبته ، قد أيه أنا كنت غبي ، وكنت عايز أحرم نفسي من أجمل شعور في الدنيا ، أنا دلوقتي بس حسيت قد إيه أنا مستني ابني عشان اشوفه واشيله في حضني واشم ريحته ، لو أنا دلوقتي مبسوط وابننا بخير فإنتي السبب في ده .. شكرًا يايسر ، شكرًا
انهمرت دموعها على وجنتيها وهمهمت بصوت يغلبه البكاء ونبرة عاشقة :
_ زي ما أنا مقدرتش أذيك رغم كل اللي حصل بينا واللي عملته معايا ، مقدرتش كمان أذي القطعة اللي جوايا منك ، حسيت إني لو أذيته كأني بأذيك أنت ، عشان كدا مقدرتش أنزله !
ابتعد خطوة للخلف عنها واحتضن وجهها بين كفيه ثم استند بجبهته عليها وخرج صوته به بحة متألمة وعيناه على وشك أن تذرف الدموع :
_ سامحيني يايسر
رفعت شفتيها إلى عيناه وقبلت جفونه هامسة بغرام :
_ مسمحاك ياحبيبي .. مسمحاك لأن بنسبالي كل ده ماضي وأهم شيء هو إنك معايا دلوقتي وأي حاجة تاني متهمنيش
ليس هناك كلمات ستتمكن من التعبير عن شعوره ، ومهما قال فهو قليل عليها ، فقط انصاع خلف قلبه ودوافعه ليأخذها معه في رحلة قصيرة جدًا من عشقهم ، مستخدمًا الفعل في الرد بدلًا من الكلام !! …….
***
داخل منزل محمد العمايري …..
كان كل من زين وكرم يجلسون بالصالون ويحتسون المشروب الدافئ الذي أعدته لهم والدتهم ويتبادلون الأحاديث ، انضمت إليهم هدى ومن بعدها رفيف التي سألت باستغراب :
_ هو حسن مش جاي ولا إيه ؟
أجابها زين بنبرة عادية :
_ اتصلنا بيه وقال جاي في الطريق
نهضت هدى من مقعدها وذهبت لتجلس بجوار زين خامسة بنبرة مهتمة :
_ طمني ملاذ عاملة إيه .. مش قولتي إنها تعبت أوي من يومين بسبب الحمل ؟
ابتسم لها بعذوبة وتمتم :
_كويسة الحمدلله ياماما ، روحنا للدكتور وطمنا وقال مفيش حاجة الحمدلله هو شوية إجهاد بس وقالها ترتاح في السرير .. ومن وقتها خليتها تروح تقعد عند مامتها لغاية ما الجنين يثبت وتبقى كويسة
_ وإنت قاعد وحدك في البيت
هز رأسها بالإيجاب في نظرات متهربة من ردها القادم والذي يتوقعه حيث بالفعل هتفت معاتبة إياه بغضب :
_ اخص عليك يازين يعني طالما مراتك مش قاعدة في البيت متجيش تقعد معانا ليه
غمغم محاولًا التبرير عن نفسه :
_ مش هتفرق ياماما هنا بيتي وهناك بيتي برضوا
هدى بغضب وضيق :
_ ما أنت عارف إنك واحشني إنت وأخواتك ومن وقت ما اتجوزتوا والبيت فضي عليا أنا وأختك .. وحتي هي كلها كام شهر وتمشي كمان
غمز لها كرم بخبث وهو يضحك بساحرية متمتمًا :
_ إيه رأيك أجي أنا وأقعد معاكي يادودو
اشرق وجهها بفرحة غامرة وهي تسأله بسعادة تتأكد مما قاله :
_ يعني هتجيب شفق وتاجوا تقعدوا معايا ؟!!
أماء بالإيجاب فلمعت عيناها بالفرحة ونظرت لزين لتضربه على كتفه وهي تلوى فمها بسخرية وتقول موجهة حديثها له وعيناها ثابتة على كرم :
_ ابني حبيبي اللي دائما جابر بخاطري ومفرحني مش زي ناس
فغر زين فمه منذهلًا لينقل نظره بينهم جميعًا ويهتف بضحكة مستنكرة ناظرًا لها :
_ إيه ده مرة واحدة كدا
ثم نقل عيناه إلى أخيه ليقول ضاحكًا وهو يهنئه :
_ حلال عليك ياعم
انطلقت منهم جميعًا ضحكة عالية ليقتحم عليهم جلستهم حسن الذي فتح الباب ودخل ثم قال باسمًا وهو يجول بنظره بينهم :
_ السلام عليكم
رد الجميع السلام ثم هتف زين مشاكسًا وهو يضحك :
_ تعالي تعالي ، فاتك نص عمرك كان في جدال بينا وبين الست الوالدة وكرم باشا كسب رضاها في الآخر
اغلق الباب وسار نحوهم يكمل مزاح أخيه الأكبر ضاحكًا :
_ وإيه الجديد يعني .. ماهو دايمًا كدا من صغرنا بيعرف يكسب رضاها بالحركات بتاعته المعروفة
هتف كرم وهو يضحك يشاركهم الضحك :
_ والله مش مشكلتي إذا كنتوا لغاية دلوقتي مش عارفين تفهموا امكم كويس
جلس حسن بجواره واستند يساعده على كتفه هامسًا بابتسامة عريضة :
_ طاب ماتفهمنا إنت يامعلم ، يمكن نعرف نعمل زيك
همس كرم لحسن بصوت غير مسموع وهو يضحك :
_ مش دلوقتي لتطردنا كلنا ، خلينا نمشي ليلتنا على خير ونتعشي بدل ما نروح جعانين
انفجر حسن ضاحكًا بقوة وهز سبابته مؤكدًا على ما قاله أخيه وتمتم بتأييد لرأيه :
_ لا في دي عندك حق .. ده أنا جاي مخصوص عشان العشا
هدى بعينان تحمل علامات الاستفهام وبلهجة حازمة :
_ بتتوشوشو في إيه ياواد إنت وهو ؟!
قال كرم مسرعًا مبتسمًا بلطافة :
_ ولا حاجة ياست الكل ده كان بيسألني هتعمليلنا إيه في العشا لأحسن أكلك وحشنا أوي ومن بدري مكلناش أكل حلو زي أكلك
_ ياسلام .. ما كل واحد فيكم معاه مراته وماشاء الله على أكل كل واحدة فيهم
_ إنتي الأصل ، وبعدين هو في أكل يُعلى على أكلك برضوا يادودو !!
حرك زين بسبابته في شكل دائري هادرًا بضحكة بسيطة :
_ أيوة استمر استمر عشان نتعشي عشوة حلوة كدا بسببك
تشدقت رفيف بضحكة عالية تشارك إخوتها في الضحك :
_ بيثبتوكي ياماما وإنتي سكتالهم
أجابت عليه هدى وهي تبتسم بلؤم :
_سبيهم سبيهم في الآخر هيتعشوا جبنة وبيض
صاح حسن مصدومًا :
_ نعم .. لا احنا متفقناش على كدا ياست الكل ، احنا جايين نتعشى عشا معتبر مش نواشف
هتفت هدى صائحة بغضب مزيف كاتمة ابتسامتها :
_ يعني إنتوا جايين عشان تتعشوا مش تقعدوا معايا .. طيب قوموا يلا كدا كل واحد يروح على بيته
تكزه كرم في كتفه بقوة هامسًا بعيظ :
_ يابني قولتلك هنطرد .. عاجبك كدا ،اسكت خالص متتكلمش إنت
تدخل زين ليهدر بنعومة وحب مستخدمًا أسلوبًا خاصًا وجديدًا عليه :
_ ونهون عليكي برضوا ! .. بعدين ملكيش دعوة بحسن هو مفجوع علطول كدا ، وأي حاجة هتعمليها هتبقى زي العسل يكفي إنها من إيدك
همس كرم لحسن ضاحكًا :
_ شوفت أهو طلع اذكي منك واتعلم بسرعة !
_ ياعم اسكت بقى بلا اتعلم بلا نيلة أنا جعان بجد !!
انفجر الجميع ضاحكًا بعد رده فيما عدا هو الذي كان ينقل نظره بينهم واحدًا واحدًا وهو يبتسم فقط …..
***
مع مرور الأيام والشهور التي تقريبًا وصلت لخمسة أشهر .. اليوم تحتفل العائلة بحفل زفافها ابنتها الصغرى ، تستحوذ على الجميع طاقة إيجابية وسعادة غامرة .
ملتفة العائلة بأكملها حول طاولة ضخمة وكبيرة داخل قاعة الزفاف ويتابعون الحفل تارة يتحدثون ويداعب كل منهم الآخر بمزحات فيتبادلوا الضحك .
أما رفيف فكانت تجلس بجوار زوجها وتجول بنظرها بين الكل ، مما زاد من توترها فالجميع يحدقون بهم وبالأخص هي ، سمعت همس إسلام في أذنها وهو يسألها بقلق بعدما رأى ملامح وجهها المنكمشة :
_ رفيف مالك ياحبيبتي ؟!
نظرت له وقالت بابتسامة مرتبكة وخجلة :
_ مفيش ..اتكسفت واتوترت شوية بس ، أصل الكل بيبص عليا وأنا مبحبش أكون محل أنظار الناس بتوتر
رأت في عيناه نظرة جريئة تراها لأول مرة وهو يغمز بلؤم متمتمًا :
_ تحبي نروح بيتنا ونسيبهم هما مع نفسهم
اتسع بؤبؤي عيناها ورمقته باضطراب أشد من السابق ، فكان ردها بهز رأسها بالنفي دون إن تتفوه ببنت شفة ، مما جعله يضحك بصوت عالٍ لكنه لم يسمعه أحد سواها بسبب الموسيقى الصاخبة ، انحنى على أذنها مرة أخرى وهدر بنبرة ملحة :
_ على فكرة أنا مش بهزر .. أنا فعلًا عايز نمشي زهقت ومش قادر استني اللحظة اللي نكون فيها وحدينا
أجفلت نظرها أرضًا وهي تبتسم باستحياء وتقول بارتباك :
_ عيب كدا والله يا إسلام واحنا قدام الكل !!
انتصب في جلسته وغمز لها بطرف عينه هامسًا بابتسامة اخجلتها أكثر :
_ لسا العيب جاي في الطريق
بينما على طاولة العائلة تمتمت هدى بعينان دامعة :
_ ماشاء الله عليهم .. ياحبيبتي ربنا يسعدهم يارب
ردت عليها ملاذ التي كانت بالقرب منها وسمعتها جيدًا :
_ آمــيــن ياطنط
مال زين على زوجته وهمس في أذنها بصوت غليظ وعيناه معلقة على إسلام :
_ أخوكي مش عايز يتلم قدامنا شكلي هقوم اظبطه كويس
كركرت بقوة وهمست في أذنه بدورها وهي تضحك :
_ إنت غيران على اختك ولا إيه !!
رمقها بنظرة ثاقبة ومريبة دون إن يجيب مما أكد لها كلامها فمدت يدها من أسفل الطاولة وامسكت بكفه وهي تتمتم بضحك :
_ شكلك بيبقى فظيع وإنت غيران
حدجها مستنكرًا ولكن سرعان ما ارتفعت الابتسامة لشفتيه .
على الناحية الأخرى من الطاولة هتفت يسر بخنق :
_ الدنيا حر أوى ياحسن
تمام بمداعبة ساخرًا منها :
_ لازم تحسي الدنيا حر ما إنتي بقيتي شبه الكورة الكفر
شهقت بصدمة وقرصته في ذراعه دون أن يلاحظ أحد وهتفت جازة على أسنانها متوعدة له :
_ ماشي ياحسن لما نروح البيت هوريك الكورة الكفر دي هتعمل إيه .. ده بدل ما تقولي ربنا يقويكي ياحبيبتي لغاية يوم الولادة بتتريق عليا !!
التقطت كفها ومال على أذنها يهمس بحب ودفء :
_ ربنا يقويكي ياروحي ويقومك بالسلامة ، وسيادة الباشا اللي تعبني أنا شخصيًا معاكي ياجي بصحة وسلامة هو كمان
تمكن من امتصاص غضبها في لحظة حيث اسعدتها الكلمات وجاهدت في إخفاء ابتسامتها مجيبة عليه بقسمات مستحية :
_ آمــيـــن
علقت شفق عيناها عليه وهي تتأمل وسامته بإعجاب ، لا تزال الذكرى عالقة بذهنها عندما رأته بهذه الملابس أول مرة ، كانت في حفل زفاف حسن ، وتتذكر جيدًا عندما بًهرت به وبوسامته في ذلك الوقت .. والآن هو يبهرها أكثر من السابق .
انتبه هو لها فانحرف بنظره ناحيته وغضن حاجبيها يسألها بحيرة :
_ في إيه ؟!
تمتمت في صوت خافت لم يسمعه سواه :
_ البالطو ده شكله جميل أوى عليك
_ يعني بتبصي عليا عشان كدا !!
هزت رأسها بالنفي ثم اقتربت من أذنه وهمست برقة وعاطفة جيٌَاشة :
_ تؤتؤ .. أصل أول مرة شوفتك بالطقم ده كان في فرح حسن ووقتها كنت ببصلك كدا برضوا وفي كل مرة بشوفك بيه بتبهرني ، يا إما إنت اللي بتحلو يإما أنا اللي بتحلو في عيني أكتر مع الأيام
قهقه بخفة وهمس بعشق جارف غامزًا بعيناه لها دون أن يلاحظهم أحد :
_ عيون حبيبتي اللي حلوة عشان كدا بتشوفني حلو
اقترب منهم المصور الخاص في الزفاف ووقف أمام طاولتهم يطلب منهم أن يأخذوا وضعية مناسبة حتى يلتقط لهم صورة عائلية للذكرى ، نهضوا جميعهم وجعلوا هدى تجلس في النص وحاوطها من الجانبين كل من كرم وزين وجلس بجوار كل واحد منهم زوجته بينما يسر وحسن فوقفوا خلف هدى ، ليلتقط لهم المصور صورة على هذا الوضع العائلي الدافيء .
ضروب العشق لا تنحصر فقط بين العُشاق ، هناك عشق الابن لأمه ، والأم لأبنها .. وعلاقة الأب وأبنه ، وحب الجار لجاره ، والعلاقة بين الأخوة التي كلها محبة ودفء ، والحب بين الأصدقاء ، الخ الخ ، فحياتنا كلها قائمة على الحب وبدونه لا نستطيع العيش ..وأخيرًا هناك أسمى علاقة وأسمى حب وهو علاقة العبد بربه .
_ تـمـت الحمدلله _
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-