رواية صرخات انثي كاملة جميع الفصول بقلم ايه محمد رفعت

رواية صرخات انثي كاملة جميع الفصول بقلم ايه محمد رفعت

رواية صرخات انثي كاملة جميع الفصول هى رواية من تأليف المؤلفة المميزة ايه محمد رفعت رواية صرخات انثي كاملة جميع الفصول صدرت لاول مرة على فيسبوك الشهير رواية صرخات انثي كاملة جميع الفصول حققت نجاحا كبيرا في موقع فيسبوك وايضا زاد البحث عنها في محرك البحث جوجل لذلك سنعرض لكم رواية صرخات انثي كاملة جميع الفصول

رواية صرخات انثي كاملة جميع الفصول بقلم ايه محمد رفعت

رواية صرخات انثي كاملة جميع الفصول

(إهداء الفصل للقارئات الغاليات “بشيرة محمود”،”رباب فوزي”،”ندى الشناوي”،”إسراء سليمان”،”فاطمة جابر”،”روان محمد”،”نجوى أحمد”،”آسيل آسر”،”حبيبة عفت”،”بسملة جمال”،”إيمي الرفاعي”،”نورهان محمد” ، شكرًا جزيلًا على دعمكم المتواصل لي، وبتمنى أكون دائمًا عند حسن ظنكم..بحبكم في الله…قراءة ممتعة 💙)
وقفت سيارة من نوعية (رولز رويس بوت تيل، Rolls-Royce Boat Tail) أمام أحد المنازل الفخمة الشبيهة للقصور على الطراز الغربي، فانهدل نافذتها القاتمة السوداء، ليبرز من خلفها ذراعًا صلبًا يضغط بقوةٍ على الريموت المتحكم بالبوابة الرئيسية، فاستجابت وتحررت عن مخضعها، فقاد سيارته للداخل، ثم تركها للخادم الذي أسرع باستقبال سيده الصغير.
ترنح بمشيته وبصعوبةٍ بالغة تفادى سقوطه، فهم الخادم ليساعده، أوقفه صائحًا:
_هل جُننت أيها المعتوه، أبعد ذراعيك اللعينة عني!
ابتعد الخادم للخلف، فوضع جاكيته على ذراعه واستكمل طريقه للداخل، قاصدًا باحة المنزل الفخم، وبالأخص تلك الأريكة البيضاء المريحة، فجلس عليها بإنهاكٍ وهو يتفحص ساعة يده التي تشير له بأنها الخامسة صباحًا، فردد بضيقٍ:
_بتمنى متكنش فريدة هانم مستنياني فوق زي كل يوم حقيقي مش ناقص!
ابتسم بخبث وعينيه الماكرة تراقب باب الغرفة الماسد بالطابق الأول، فجذب جاكيته وصعد للأول بخطواتٍ غير منتظمة، تفادى سقوطه على الدرج الرخامي أكثر من مرةٍ، حتى وصل للغرفة، ولج للداخل وألقى جاكيته على المقعد الموضوع جانبًا، وعينيه تراقب الغافلة على الفراش بتقززٍ، وبالرغم من انقباض ملامحه الا أنه حرر قميصه وتمدد جوارها.
كانت تغفو بعمقٍ حينما شعرت بيدٍ تمتد على خصرها بتملكٍ، انقبض قلبها وانتفضت بمنامتها بفزعٍ، فصعقت حينما وجدته يرمقها برومادية عينيه ببرودٍ، فرددت برعشة اعتلت لسانها الثقيل:
_عمران!
منحها نظرة جافة، وذراعه تمتد لتجذبها لاحضانه مجددًا، حاولت الابتعاد عنه خاصة بعد أن طالتها رائحته المنفرة، فقالت باستنكارٍ:
_إنت شارب! فريدة هانم لو عرفت هتعاقبك تاني.
أظلمت عينيه وقيد حركة يدها خلف خصرها، فتأوهت ألمًا، وترجته بهدوءٍ زائف:
_عمران إنت مش في وعيك، من فضلك إبعد والا وقسمًا بالله هصرخ وهلم عليك البيت كله.
ابتسم ساخرًا، وردد بخشونة:
_غريبة المفروض اللي بيحصل بينا دلوقتي يكون على مزاجك مش بردو كنتِ مقهورة وإنتِ بتشتكي لفريدة هانم إن من يوم ما اتجوزنا وأنا مقربتلكيش!
جحظت عينيها صدمة، وانسابت دمعاتها وهي تدافع عن نفسها:
_محصلش أنا مقولتش لخالتو حاجة!
ذم شفتيه بسخطٍ، وهو يشير لها:
_قولتلك قبل كده أنا مبتخدعش بوش التماسيح بتاعك ده يا بنت خالتي، وفري مجهودك بالكلام وركزي معايا، مع جوزك!
وأضاف وهو يمنحها نظرة منفرة:
_بصراحة ألكس زعلانه مني ورفضت تيجي معايا الاوتيل النهاردة، فأنتِ اللي هتشيلي الليلة.
صعقت مما استمعت إليه، تعلم جيدًا بأنه يرافق تلك الفتاة التي تدعو “ألكس”، يرافقها أمام الجميع وأولهم فريدة هانم العاجزة عن ردع ابنها الصغير عن لقاء تلك الشقراء، حتى بعد أن أجبرته على الزواج من ابنة شقيقتها التي تعتبرها ابنة لها، ومع ذلك رفض الاعتراف بها كزوجة فكانت ألكس وجهة ظهوره بكل مناسبة، وأحيانًا يصطحبها للمبيت بالمنزل دون حياء.
كم مرة انكسر قلبها وهي ترى زوجها يصعد لغرفته برفقة تلك الفتاة المبتذلة، كم مرة بكت خلسة وعلنًا أمام جميع الأسرة، كم مرة أهانها وقلل من شأنها كانثى قليلة الحيلة لا تملك ما قد يميل قلبه القاسٍ إليها، الا يكفيه ما فعله بها طوال أشهر زواجهما حتى يهينها الآن تلك الاهانة؟
تدفقت دمعاتها تباعًا، والغضب يثور داخلها فجعلها شرسة لا تغلب تحت ذراعيه الخبيرة، فركلته عنها حتى سقط أسفل الفراش وهي تصرخ بغضبٍ جعل من تنتظره بغرفته تعلم بمكان وجوده:
_أنت أيه معندكش دم يا أخي، أنا مش رخيصة عشان تقارني بالعاهرة اللي أنت ماشي معاها!
احتدت نظراته فنهض واتجه إليها ليجذبها من ذراعها وهو يصبح بانفعالٍ:
_لسانك ده لو نطق عليها حرف هقطعهولك يا***
_عمــران.
ابتلع ريقه بارتباكٍ قبل أن يستدير لمواجهة الصوت الصارم، ليجد والدته ذات الخمسة وأربعون عامًا، تربع يدها أمام صدرها وتحدجه بغضبٍ عارم، ترك عمران ذراعها ووقف قبالتها، ليجدها تدنو منه قائلة بعصبيةٍ بالغة:
_قولتلك ألف مرة صوتك ميعلاش على مايسان مراتك ولا تعاملها المعاملة المقرفة دي تاني وبالرغم من كده بتكسر كلامي.
تحكم بانفعالاته بصعوبة، وصاح بتريثٍ:
_هي اللي بتستفزني بكلامها.
منحته نظرة ساخطة قبل أن تجابهه بحدةٍ:
_بس هي مقالتش حاجة غلط، الحقيرة اللي أنت ماشي معاها ملهاش مسمى تاني.
قبض معصمه بغضبٍ جعل الدماء تفور بمقلتيه، فانخفضت نظراتها المتفحصة ليده ثم استرسلت بدون مبالاة لغضبه:
_بقالك سنين بتترجاها تتجوزك وهي رافضة، مش لانها متحررة يا حبيبي لا لإنها وقحة عايزة تعيش معاك في الحرام وتتمتع بفلوسك لحد ما تجيب نهايتك وبعدها هتدور على غيرك، بتلعبها صح ومش عايزة تدبس نفسها مع راجل واحد.
صرخ بتعصبٍ غاضب:
_ماماااا
_فريدة هانم.
رفضت منادته الصريحة، لتعيد له أصول تربيته، خشيت مايسان تدهور الأمور بينهما، فنهضت عن الفراش تجذب مئزرها الأبيض ثم دنت من خالتها تخبرها ببسمةٍ مصطنعة:
_فريدة هانم محصلش شيء لكل ده، عمران كان داخل يتكلم معايا بخصوص ملف الصفقة اللي بينا وبين “راكان المنذر” وكنت هديله الملف وهيخرج حالًا.
همهمت بتهكمٍ:
_ويخرج ليه المفروض يكون ده مكانه لكن هنقول أيه أخد إنه يأكل من الزبالة، وميبصش للنضافة.
كز على أسنانه حتى كاد باسقاطهما، وخاصة حينما قالت بحزنٍ:
_كنت فاكرة إني لما أجوزك بنت عثمان باشا هتفوق لنفسك وتقدر الجوهرة اللي معاك، بس للأسف إنت مفيش فايدة فيك.
وتطلعت لابنة شقيقتها، الابنة التي تقرب لقلبها كابنتها الصغيرة وقالت بنبرة مختنقة:
_حقك عليا، أنا اللي بليتك بابني.
احتضنتها مايسان وهي تردد ببكاءٍ:
_متقوليش كده يا خالتو أنا آ..
ابتلعت باقي كلماتها برعبٍ حينما استعادت فريدة ثباتها مرددة بغضب:
_فريدة هانم أيه خالتو دي!!
واشارت لها مسترسلة بضيق:
_ثم اني قولتلك ألف مرة بلاش تبكى، الدموع والحزن بيكرمشوا الوش!
كبتت مايسان ضحكاتها بصعوبةٍ، وهي تشير لها:
_حاضر، أنا أسفة يا فريدة هانم.
ابعدت عينيها عنها وعادت تجابه من يجذب قميصه وملابسه بمللٍ، ثم قالت بحزمٍ:
_دي أخر مرة ترجع فيها متأخر وسكران يا عمران والا تصرفي مش هيعجبك وسبق وجربت.
ابتلع ريقه بتوترٍ، فهز رأسه بهدوءٍ، ثم كاد بالمغادرة فأوقفته قائلة:
_قبل ما تخرج، اعتذر لمراتك على الكلام المتدني اللي قولته ليها.
ركل حافة الباب بقدميه بعصبيةٍ، وهو يجبر ذاته على نطق الكلمات دون أن يستدير لها:
_آسف.
وكاد بالخروج لغرفته، ولكنه توقف فور سماع صراخها الحازم:
_اعتذارك بالشكل ده مش مقبول، قرب من مراتك واعتذرلها باحترام.
رفع رأسه عاليًا وهو يسحب نفسًا مطولًا يزفره على مهلٍ، لينهي تلك المهزلة، فاستدار إليهما واتجه بخطواتٍ سريعة إليها، وقف قبالتها يرمقها بنظرة مشتعلة جعلتها تكاد تفر من أمامه لتختبئ خلف خالتها، فما أن رفع يده حتى احتوت وجهها بيدها، فوجدته يقرب رأسها إليه ليطبع قبلة مغتاظة كادت بتهشم جبينها وهو يهمس بأنفاسٍ لاهثة من فرط تعصبه:
_سامحيني يا حبيبتي أنا غلطت في حقك.
هزت رأسها وهي توزع نظراتها المرتبكة بينه وبين فريدة هانم، فرددت بخوفٍ:
_محصلش حاجة.
مال برأسه لوالدته مرددًا:
_أقدر أرجع أوضتي يا فريدة هانم ولا لسه في حاجة تانية؟
ابتسمت وهي تشير له بغرور:
_تقدر تروح، بس اعمل حسابك مايسان هتصحيك بدري عشان هتروح مع شمس الجامعة بكره، في مشكلة عندها وعايزاك تساعدها.
تفحص ساعته بصدمةٍ:
_بس صعب أنا مش هلحق أنام كده، خليها تأخد علي معاها.
أجابته بصرامةٍ:
_أنا قولت إنت اللي هتروح مع أختك، علي بره في المستشفى لسه مرجعش البيت.
واستطردت بسخريةٍ:
_وأهو بالمرة تروح معاها حفل افتتاح شركة راكان خطيبها ولا مش معزوم عليها!
منحها نظرة مغتاظة، قبل أن يهز رأسه وينسحب لغرفته، فتوقف بالخارج فجأة حينما استمع لزوجته تردد بفرحةٍ:
_براڤو يا فريدة هانم، عمران مكنش عمره هيروح حفل الافتتاح ده ومتتخيليش الحفلة دي مهمة لشركاتنا ازاي؟
أشارت لها بكبرياءٍ:
_أنا قولتلك هخليه يروح وكلمتي واحدة.
واسترسلت بحزمٍ:
_يالا هسيبك تريحي شوية وهروح أكلم علي أشوفه إتاخر ليه كده هو كمان وأول ما تصحي تفوقي شمس وتعالولي في الجناح، عشان تقيسوا الفساتين والكوليهات اللي اشتريتها ليكم.
وتابعت وهي تغادر للخارج:
_لازم تكونوا وجهة مشرفة لعيلة سالم عشان راكان المنذر يعرف هو ناسب مين!
******
ولج لغرفته بغضب من سماع خططتها الوضيعة، فألقى جاكيته على الفراش بعصبية، وجاب الغرفة ذهابًا وإيابًا وهو يهتف:
_كده ماشي يا مايسان أنا هعرفك.
وابتسم بمكر وهو يجذب هاتفه ليحرر زر الاتصال بعشيقته متابعًا:
_هتحضري معايا الحفلة بس أوعدك هيبقى يوم متنسهوش أبدًا عشان بعد كده تحرمي تتذاكي على عمران سالم!
********
بين غيمة الليل المظلم المغدف، كانت تخطو بفستانها الأبيض بخطواتٍ بطيئةٍ ومن خلفها طرفه الطويل يلامس الأزهار الذابلة الملقاة أرضًا بإهمالٍ، فتشابكت بأطرافه واتبعتها كالظل الملازم لها، كأنها تزف لها بشرى سيئة لما ستجده الآن من مصيرًا بائسًا ينتظرها، استدارت للخلف وخصلات شعرها الفحمي يتمرد على كتفيها كالشلال المحاط بجوهرتها الثمينة.
شعرت بحركة خافتة تتبعها، فاستدارت صاحبة الفستان الأبيض بإِرْتِيَاع لمصدر الصوت المزعج، انقبض قلبها الخافق بين ضلوعها حينما وجدت ثلاثة ذئاب تلهث بشراسةٍ وأعينهم لا تحيل عنها.
تراجعت للخلف بخوفٍ وهي تراقب اقترابهم الخطير منها، تراجعت حتى احتجز جسدها بين ثلاثة حوائط، عقدت مستطيل حولها وأربع أضلاعه موجه بالذئاب التي بدأت تنهش عظامها.
وفجأة انقلبت الثلاثة ذئاب لأجساد بشرية، ذكورية، متحجرة، تستباح جسدها دون رحمة منهم أو شففة لبكائها وتوسلاتها.
صرخات مكبوتة لإنثى جُردت من كبريائها، وكأنها سلعة رخيصة استباحها اللعناء لينتزعوا شرفها، عفتها، لوثوا طاهرتها البريئة وأدموا بعذريتها.
برزت عروقها بقوةٍ، ورأسها يدور على وسادتها التي تحمل دمعاتها على سطحها الرقيق، تمردت حركة جسدها بعنفٍ، وصوتها مكبوت، عاجز عن الصراخ، فانتبهت الممرضة الغافلة على المقعد المجاور لفراشها لحالتها الغريبة، فنهضت عن مقعدها وركضت خارج الغرفة الطبية التابعة لمشفى من أهم المستشفيات التابعة لدولة انجلترا، تصيح بجنونٍ:
_دكتور علــــي!
*******
بأحد غرف المشفى المخصص لعلاج الطب النفسي، التي تحمل لافتها اسم “د. علي سالم”
كان يجلس على مكتبه يتابع حاسوبه باهتمامٍ، وبين يده نوته الخاص، يدون به ملاحظاته الهامه لعلاج الحالة المطروح من أمامه التسجيل الأخير من مناقشاته معها، ينصب تركيزه التام على اشارات يدها ويتمعن بقوةٍ بكل حرفٍ نطقت به، ويقارنه بما دونه مسبقًا وقت جلوسه معها، زفر علي بمللٍ، نزع عنه نظاراته الطبية واستكان بجسده الممشوق لخلف مقعده، يفرك عينيه بارهاقٍ، وعقله شارد بتلك التي آسرت قلبه ويقف هو بمؤهلاته وشهادت وسامه عاجزًا عن معالجتها، مر أكثر من ثمانية شهور منذ تركهما لمصر وقدومهما لانجلترا ولم يحرز أي تقدم بحالتها، صامتة كزخات الموت البارد، يود بكل ذرة بداخله أن يستمع لصوتها ولو لمرةٍ.
يرى رغبة الموت تنعكس جبريًا داخل حدقتيها، ومع ذلك مازال يبذل أقصى ما بوسعه، خاصة بأنه ليس طبيبًا عاديًا، وسعت شهورته لتمكنه وبراعته من علاج أكثر من حالة كان يستحيل علاجها، وأغلبها تابع للعائلات الهامة من انجلترا وغيرها من الدول الأخرى.
كان يُطلب بالإسم لعلاج الشخصيات الهامة من المشاهير وغيرهم، ومع ذلك يقف عاجزًا أمام حالة فطيمة التي تجعله حائرًا عما يصيب قلبه تجاهها، يرغب دائمًا بالبقاء جوارها لساعاتٍ طويلة مع إنها لا تشعر بوجوده أبدًا.
نهض علي عن مقعده ودنى من شرفة مكتبه، ليحرر ستائره البيضاء وهو يلتقط نفسًا مطولاً ويده تمشط خصلات شعره البني المتناثر على جبينه، ملامسة عينيه الرمادية، ويده مربعة أمام صدره مخاطبًا ذاته
«وبعدين يا علي، بقالك ٨ شهور بتحاول بس إنك تخليها تتكلم!
معقولة يكون كلام الدكتور أبراهام صح، وحالتها ميؤوس منها وملهاش علاج!
لا مش معقول الكلام ده، أكيد حالتها ليها علاج، إنت عمرك ما استسلمت يا علي عشان تعملها دلوقتي، ابذل كل مجهودك معاها وأكيد هتلاقي تحسن»
وأغلق عينيه وهو يحاول تذكر أي تحسن بسيط قد حاز به بعد رحلة علاجه الشاقة، فتجعد جبينه حينما طاف إليه ملاحظته الطفيفة، فركض لمكتبه يجذب النوت الخاص بحالة “فطيمة” ودون
«بعد ثمانية أشهر من بدء جلسات العلاج لم أتمكن من ارغامها على الحديث، مازالت صامتة ترفض الحديث عن ماضيها ولكن ما تمكنت من فعله الأهم من دوري كطبيب.
الآمان.
بالبداية كانت تنزعج كليًا من وجودي لجوارها بمكان واحد، جسدها يتشنج وترفض سماع أي كلمة تنبثق على لساني، ولكن الآن تتقبل وجودي لجوارها، تستمع لمحاولاتي البائسة بحثها على الحديث باسترخاء حتى وإن لم تتحدث لي ولكن بالنهاية لم تنفر من وجودي مثلما تفعل مع أي طبيب يحمل لقب ذكر بهويته!»
ترك علي القلم عن يده حينما استمع لرنين هاتفه الذي يلمع بإسم “فريدة هانم”، ضم علي شفتيه معًا وسحب نفسًا مطولًا قبل أن يجيب بحماسٍ:
_فريدة هانم، موبيلي المتواضع بيرقص في حالة من عدم الاستيعاب.
وصلت ضحكاتها لمسمعه، وأجابته:
_دكتور علي البكاش اللي مش هيبطل يغلبني بكلامه.
وتابعت بضيق:
_وبعدهالك يا علي كل ليلة هتقضيها عندك بالمستشفى ولا أيه؟ وبعدين مش كان بينا وعد؟
رد عليها بحرجٍ:
_أنا عارف إني وعدت حضرتك بإني هرجع كل يوم بدري بس غصب عني حالة فطيمة اللي كلمت حضرتك عنها قبل كده صعبة ومازلت بحاول معاها، ابنك الدكتور المحترف عاجز عن علاجها.
صوتها الغاضب أتاه يحذره:
_هو إنت مبقاش على لسانك غير اللي إسمها فطيمة دي، ما قولتلك قبل كده سلم ملفها لأي دكتور تاني، أنا كنت واثقة إنك مبقتش ترجع البيت بسبب الحالة دي وهضطر أكلم دكتور” ألبرت” يشوف حل للموضوع ده.
ردد متلهفًا:
_لأ من فضلك بلاش تكلمي المدير يا ماما.. أأقصد يا فريدة هانم، هتضيعيلي خطة العلاج والمجهود اللي بذلته طول الشهور اللي فاتت من فضلك.
رق قلبها إليه، فقالت:
_تمام بس توعدني إنك مش هتبات بره البيت تاني، عمران أخوك مبقتش قادرة له لوحدي يا علي عايزاك جانبي تفوقه من اللي هو فيه.
اعتلى الضيق معالمه، وتساءل بضجرٍ:
_عمل أيه تاني الاستاذ؟
أجابته بضيقٍ:
_كل يوم بيرجع وش الفجر وهو سكران.
جحظت عينيه صدمة، فقال بعدم تصديق:
_حصلت أنه يشرب خمرة!
ردت بسخط:
_ومستني أيه منه طول مهو متلم على السنكوحة اللي إسمها ألكس هي والشلة الحقيرة اللي معاها، المشكلة إنه مش قادر يستوعب إنها لا تليق باسمه ولا تنفعه ومع ذلك لسه بيقابلها ومش مدي اهتمام خالص لبنت خالتك.
كان حذرًا باختيار رده:
_يا فريدة هانم حضرتك عارفه من البداية إن عمران مهووس بألكس حضرتك اللي صممتي تجوزيه مايسان وهو مش بيحبها فكل ده كان متوقع من البداية.
أجابته باعتراض:
_ده لمصلحته ولو أخر يوم في عمره مش هسمحله يدخل الحقيرة دي وسطينا.
ونهت حديثهما الغير مستحب لها حينما قالت:
_المهم، إرجع البيت عشان حفلة افتتاح الشركة الجديدة لراكان خطيب أختك.
وتابعت:
_أنا جبتلك بدلة فخمة، هتلاقيها متعلقة في أوضتك.
ضم منخاره بتأففٍ من عاداتها الغير مجدية للتغير،قائلًا:
_مكنش له داعي،أنا كنت هلبس أي بدلة رسمية من عندي.
اعترضت لما قال، وكأنه تفوه بحماقاتٍ، فصاحت:
_علي من فضلك حافظ على شكل العيلة، وسبق وإتكلمت معاك قبل كده.
ردد بعدم تصديق:
_وهي يعني البدالة اللي هترفع من مكانة العيلة!
واستطرد بيأسٍ:
_حاضر يا فريدة هانم، هكون في الحفل بالمعاد وبالبدالة اللي حضرتك اختارتيها.
أجابته بإعجابٍ:
_عفارم عليك يا دكتور.
أغلق الهاتف وهو يلقيه على مضضٍ، ليتفاجئ بالممرضة تقتحم غرفته وهي تردد بنبرتها الانجليزية:
_دكتور علي، على ما يبدو بأن المريضة فطيمة تواجه مشكلة ما، أرجو أن تسرع لغرفتها في الحال.
فور نطقها بإسمها حمل حقيبته الطبية وركض إلى غرفتها بهلعٍ، جعل المحاطين به يتأملونه وهو يتخلى عن مكانته ومظهره المعتاد ويركض كالأحمق، ولج علي لغرفتها سريعًا وإتجه للفراش، فتيقن إليه عودة تلك الاحلام المنفرة إليها.
سبق له العلم بمختصر ملفها الطبي بما خاضته مسبقًا، لذا كان يعلم ماذا يزورها بكوابيسها، فحاول أن يجعلها تسترد وعيها حينما ناداها بلهفةٍ:
_فطيمة، سامعاني؟
وهز جسدها وهو يردد:
_ده كابوس ولازم تفوقي منه.
وحينما لم يجد أي ردة فعل، جذب جسدها إلى صدرها ليرغمها على الجلوس وهو يناديها:
_فطيمــــــــــة.. افتحي عيـــــــــونك.
رفعت أهدابها بتثاقل عن بنيتها الدامعة، فتقوست معالم وجهها بشراسة وجسدها ينقبض بين ذراعيه دون توقف، ارتعب علي من حالتها الغير مبشرة بالمرة، فصاح بالممرضة التي تراقب الوضع من أمامها:
_أشلي احضري لي إبرة ال## في الحال.
أومأت برأسها واتجهت للحقيبة التي تركها، فملأت الأبرة الطبية بمحتويات العُلبة التي أخبرها بها، وناولتها له، فقيد علي حركة جسدها المنفعلة بحرافيةٍ، وزرع الأبرة داخل عرق رقبتها المنتفض، وبسهولة تمكن من بث محتويات الأبرة الطبية داخلها، فاستكانت حركة جسدها في نفس لحظة خروج المحقن من جلد رقبتها.
مالت فطيمة برأسها على ذراعه، وعينيها الباكية تتأمل عينيه القريبة منه بسكونٍ رغم اندمال دمعاتها دون توقف، وكأنها تشكو إليه بنظراتها الصامتة قسوة ما تتعرض له، تألم قلبه وذُبح فؤاده، لا يعلم ما يصيبه حقًا وهو لجوارها!
ظل يتأملها لدقيقةٍ ونظرات الممرضة لا تفارقهما بدهشة اعتادتها تجاه علاقته الغريبة بتلك المريضة المغربية.
تهدل ذراع علي الحامل لرأسها على الوسادة وظل لجوارها يبعد عنها خصلات شعرها المتمردة على عينيها وهو يهز رأسه مرددًا وعينيه لا تفارق نظراتها المستكينة عليه:
_ده كابوس وانتهى يا فطيمة، إنتِ بخير ومفيش حد يقدر يمسك بسوء تاني.
اهتزت الصورة من أمامها، وأغلقت جفنيها الثقيل استسلامًا لفعل المنوم السريع لتهدئة أعصابها، ومازال علي لجوارها، نظراته منصوبة عليها بتأثرٍ، وكأن نظراتها نفذت داخل أضلعه مستهدفة قلبه المسكين، ضعيف القوة أمام وجهها الملائكي، ومشاعره التي حملها لها منذ لقائهما الأول بمشفى القاهرة!
******
تململت بنومتها بانزعاجٍ حينما قبضت ذراع مايسان على ذراعها وهي تحاول افاقتها مرددة:
_يوه بقى يا شمس، كل يوم تطلعي عيوني لما تقومي!
واسترسلت بمكرٍ وهي تتجه للباب:
_أنا كده هروح أنادي فريدة هانم تيجي هي تقومك بنفسها.
فتحت بنيتها بصدمةٍ، وتخلت عن غطاءها وعروستها اللعبة التي لا تتركها، وهي تصيح برعبٍ:
_لا تفعليها مايا، انظري لقد استيقظت.
ضحكت وهي تراقبها تركض لحمام الغرفة، فلحقت بها تقف على باب الحمام، فرأتها تغسل وجهها بسرعةٍ، هزت رأسها باعجابٍ:
_شكلي كده عرفت كلمة السر اللي هستخدمها معاكِ كل يوم.
وأشارت لها قبل أن تبتعد:
_متلبسيش هدومك، فريدة هانم بنفسها جابتلك فستان وشوية والخدم هيوصلوهولك.
تهدلت معالمها بضيقٍ ملحوظ:
_بس مامي ذوقها مش بيعجبني يا مايسان.
وقفت أمام المرآة تعدل من حجابها الفضي، وكنزتها السوداء لتجيبها ومازالت ترتب حجابها:
_لو عندك الجرأة روحي وبلغي فريدة هانم بكلامك غير كده فأنا مش هقدر.
ازاحت شمس عن شعرها الأسود المنشفة، وهي تجيبها بسخرية:
_لن أفعلها بالتأكيد، على أي حال سأرتديه مرغمة مثل ذهابي للحفل الممل الذي لا أرغب بالذهاب إليه.
واسترسلت ببعض الألم الذي تسلل لزوجة أخيها:
_ومثل الزوج المثالي الذي إختارته لي فريدة هانم، كل شيء هنا يحدث دون رغبة مني.
تحركت مايسان بعيدة عن المرآة، فجلست جوارها واضعة يدها على ساقيها وبحنان قالت:
_شمس حبيبتي، عايزة أقولك حاجة وإفهميها كويس، فريدة هانم مش أنانية هي بتختارلك الأصلح والأفضل ليكي راكان شخص محترم وبيحبك ولو عايزة رأيي هقولك إنتِ كده كده مفيش حد في حياتك فخلاص اديله فرصة وأكيد هتحبيه.
زفرت بضيقٍ وقالت:
_هحاول أديله فرصة مع إني مش طايقاه!
*********
انتهى علي من عمله، فوضع الحاسوب الصغير بحقيبته السوداء ثم جمع دفتره والأوراق، نزع عنه البلطو الطبي واستعد للمغادرة فإتجه للدرج، وتوقف فجأة والبسمة تطوف به، أراد أن يودعها قبل مغادرته المشفى، لقائه المستمر بها لا يشبع عينيه التي ترغب بالتطلع لوجهها الهادئ، برائتها الطاغية عليها.
طرق علي الباب فانتبهت الممرضة التي تهم للمغادرة إليه، هز رأسه بتحية مختصرة إليها وهو يستكمل طريقه للمقعد المقابل لفطيمة الجالسة على الفراش وعينيها تهيم بالفراغ بشرودٍ، أوقف علي الممرضة قبل خروجها حينما قال بعصبية وهو يجذب الحجاب الملقي جوارها بإهمالٍ:
_أخبرتك كثيرًا بإن فطيمة مسلمة، من فضلك لا تتركيها دون حجابًا مجددًا.
زمت الطبيبة الانجليزية فمها بسخطٍ، ومع ذلك ردت ببسمة سخيفة:
_حسنًا.
قالتها باقتضابٍ وغادرت، فجلس علي مجددًا وعلى وجهه ابتسامة ساحرة، يراقب تلك التي تهيم بالفراغ بجمال عينيها وانتظام أنفاسها، فقال وقلبه يخقق إليها:
_تعبتيني معاكي يا فطيمة، بقالي ٨شهور بحاول معاكِ وبردو مفيش أي نتيجة.
زوى حاجبيه باستغراب لحق نبرته:
_أنا كنت فاكر إنك لما تيجي هنا هتتحسني، اللي مستغربه بجد إني وأنا في مصر سمعتك بتغني قبل كده في المستشفى، وكنتي بتتكلمي مع الدكتورة يارا وحالتك كانت بتستجيب ليها.
واسترسل وهو يتساءل بحزنٍ:
_معقول حالتك اتدهورت لما أنا اللي مسكت ملفك!
لم يرمش لها جفنًا وكأنها لم تسمعه من الأساس، فابتسم وهو يقول بصوته الرخيم المحبب لها:
_متقلقيش أنا مش جايلك دلوقتي عشان نبدأ جلستنا أنا كنت راجع البيت وحبيت أعدي عليكي.
وتابع وعينيه لا تتركها:
_أقولك سر.
خطف نظرة متفحصة حوله قبل أن يقترب بمقعده لها وهو يتابع بهمس:
_أنا برتاح أوي لما بشوفك، بحب الهدوء والسكينة اللي بحس بيهم وأنا جانبك.
وردد بمرحٍ:
_مش عارف مين فينا الدكتور المعالج هنا أنا ولا إنتِ!
ضحك بصوته الرجولي الجذاب، ورفع يده يتابع ساعة يده، فأسرع بالنهوض وهو يشير لها:
_يا خبر إتاخرت جدًا، فريدة هانم هتعلقني على سور البيت، ده لو بوابته اتفتحت ليا أساسًا.
واسترسل بمزحٍ:
_فريدة هانم دي تبقى والدتي.
واتجه للخروج ثم عاد يميل للفراش وهو يغمز لها:
_سر تاني هقولهولك فريدة هانم مبتحبش حد يقولها ماما لازم فريدة هانم عشان حياتنا تستمر مع إن إسمها مكتوب في شهادة الميلاد إنها أمي بس هي مش مقتنعة بده.
وغادر على الفور، ليته انتظر دقيقة واحدة ليرى البسمة التي تركها على وجه تلك البائسة التي مازالت تحارب الذئاب التي تنهش لحمها المهتري!
********
فور خروجهما من الجامعة، تحرك بهما عمران للحفل وهو يراقب هاتفه ببسمة ماكرة، أقسم على رد الصاع إليها، وجودها بالشركات لجواره لا يرغب به لإنه يعلم بأنها تصل كل شاردة وواردة لوالدته، عدل عمران المرآة ليتمكن من رؤيتها جيدًا، فوجدها تتحدث مع شقيقته شمس الجالسة لجوارها، فاستكمل طريقه حتى وصل بهما لمقر الحفل الصباحي، هبط برفقتهما، جاذبًا بوكيه الورد من صندوق السيارة، ثم أشار لشقيقته:
_يلا يا شمس، ادخلي.
هزت رأسها وتركتهما وولجت للداخل تبحث عن راكان لتكن لجواره بمناسبته، بينما انتظرته مايسان لتدخل معه فوجدته مازال يقف بالخارج، تساءلت بدهشة:
_مش هندخل ولا أيه يا عمران؟
منحها نظرة كراهية، قبل أن يُحقر من شأنها:
_إنتِ فاكرة إني هدخل الحفلة معاكي إنتِ!
جحظت عينيها بصدمةٍ وهي تحاول تحليل حديثه المبطن، فدنت منه وهي تردد بذهولٍ:
_أوعى تقولي إنك هتجيب الحيوانة دي وتظهرها قدام الصحافة والتلفيزيون، دي كانت خالتي راحت فيها!
وضع يده بجيب جاكيته وجذب العلبة الزرقاء القطيفة وهو يجيبها:
_ومش بس كده، جايبلها خاتم ألماظ تمنه فوق ال٣٠مليون دولار.
غرس سهمًا قاتل بصدرها، فكادت دمعاتها بالانسدال على وجهها، ومع ذلك قالت بثبات:
_عمران الحفلة كلها رجال أعمال مينفعش تبان قدامهم بالشكل ده، صدقني أنا خايفة عليك وعلى مكانتك وسطهم أ..
أعاد العُلبة بجيب جاكيته، وقال ساخرًا:
_والله مكانة شركاتي دي تخصني لوحدي، ولا تكونيش فاكرة إن العشرة في المية اللي كاتبتهملك فريدة هانم بعد الجواز هيدوكي الحق إنك تشوفي نفسك من ملاك الشركات.
قبضت على حقيبتها الفضية بقوةٍ، ومازالت تحاول التحكم بانفعالاتها، فقالت:
_سبق وقولتلك ألف مرة إني مش عايزة حاجة، ومستعدة أتنازلك عنهم حالًا.
وتابعت بقسوة لتسترد حق كرامتها المهانة:
_إنت الظاهر اللي بتنسى ونسيت أنا أبقى مين وبنت مين؟
دنى منها فتراجعت للخلف حتى اصطدم جسدها بالسيارة فباتت محاصرة به، تطلعت لعينيه الرمادية بارتباكٍ وحبًا تجاهد بدفنه داخلها، واتجهت لشفتيه التي تردد بحنقٍ:
_فلقتيني بابوكي وبنسبك العظيم يا بنت الأكابر.
ومال لرقبتها يهمس باستحقارٍ:
_ما كنتِ اتجوزتي واحد من شركاء أبوكي ورحمتيني من البلاء ده.
تهاوت دمعتها رغمًا عنها، فابعدتها عن وجهها، وهي تردد بثبات:
_عمران لما نرجع بيتنا هني براحتك، دلوقتي خلينا ندخل قدام الصحافة وبلاش تنفذ اللي في دماغك، فريدة هانم ممكن تعاقبك لو اتسربلك خبر مع البنت دي.
وتابعت وهي تبتلع خصتها المؤلمة:
_جوه إبقى أقف مع الهانم بتاعتك براحتك.
راقب ثباتها الغريب بدهشةٍ، ومع ذلك ردد بسخرية:
_خايفة عليا من عقاب فريدة هانم ولا خايفة الصور توصل لعثمان بيه أبوكي!
منحته نظرة شملت الألم بين طياتها، فتجاهلته واستقامت بوقفتها متجهة للداخل، لحق بها عمران ومازال يحاول العثور على عشيقته.
*****
وجدته يقف برفقة رجال الأعمال، فتصنعت بسمتها الرقيقة ودنت منه تناديه على استحياءٍ:
_راكان.
استدار لها بقامته الطويلة، وهو يعدل من جاكيت بذلته الزرقاء، ليردد ببسمةٍ هادئة:
_أووه بيبي!
وضمها إليه وهو يشير للرجال المحاطين به:
_أحب أعرفكم، شمس هانم خطيبتي.
قابلتهم ببسمةٍ مجاملة وايماءة رأسها، مرت الدقائق عليها ومازالت تقف جواره، تجده مشغول بالحديث برفقة رجال الاعمال عن المشروعات والصفقات القادمة، مثلما اعتادت منه حينما يزور قصرهم، يقضي الوقت برمته برفقة أخيها عمران بالحديث عن الأعمال، شعرت شمس بالملل، فمررت أعينها على مراسم الحفل بنفورٍ، فلمحت سلم رفيعًا جذب انتباهها، لاحت على شفتيه ابتسامة تسلية، فتسللت للبوفيه الموضوع، ثم جذبت منه طبقًا به خبز التوست، والتقطت النوتيلا الصغير الموضوعة جانبًا، وتسللت للدرج الصغير المؤدي للأعلى، لا تعلم بأنه يسوقها لقدرها المحتوم!
******
ترك راكان الجمع فور رؤيته لعمران وزوجته، فاتجه إليهما يرحب باحترامٍ:
_عمران باشا منور الحفلة.
احتضنه عمران وهو يهنئه قائلًا:
_مبارك يا وحش السوق.
رفع حاجبيه باستنكارٍ:
_هنيجي فين جانبك.
وتابع بمزحٍ:
_بنحاول نتعلم منك احنا لسه بنبتدي على الهادي.
تعالت ضحكاتهما، ليقطعها صوت مايسان الرقيق:
_ألف مبروك يا استاذ راكان وأن شاء الله تكون فتحة الخير لحضرتك.
منحها ابتسامة واسعة، وهو يشير لها بامتنانٍ:
_مايسان هانم أشكرك، حقيقي تشريفك هنا النهاردة ده شرف ليا.
رد على استحياء:
_الشرف ليا أنا.
وتساءلت باستغراب وهي تتفحص القاعة:
_أمال فين شمس؟
استدار حوله وقد تذكر أمرها:
_كانت هنا من شوية.
بزغت عينيها صدمة، حينما أحاطت تلك الأفعى بزوجها، تضع القبلات الجريئة على خده وعنقه وهي تردد بمياعةٍ:
_افتقدتك عزيزي.
لف ذراعه حولها بفرحةٍ وهو يردد:
_كنت واثق أنكِ ستأتين.
رمش راكان بعينيه بدهشةٍ، من رؤيته لتلك الفتاة تحتضن عمران بتلك الطريقة الفاضحة أمام زوجته، وعلى ما يبدو له ادراكها للأمر مسبقًا، لم يعنيه الأمر كثيرًا فتلك الامور المعتادة بين طبقة رجال الأعمال، فانسحب من بينهما حينما وجد علي يدلف من باب القاعة، أسرع إليه يرحب به:
_دكتور علي مش معقول إنك أخيرًا خرجت من قوقعتك الطبية وجاي تحضر معانا الحفلة!
ضحك وهو يضمه ليهمس له بحنق:
_مجبور والله يا ابو نسب، دي أوامر فريدة هانم ولازم تتنفذ ما أنت عارف.
تعالت ضحكاته بعدم تصديق لما تفوه به، فتابع علي وهو يتفحص الجمع:
_أمال فين عمران وشمس؟
أشار له على الطاولة التي جمعت أسرته، فتركه وولج للداخل ليتفاجئ بمايسان تجلس على الطاولة بمفردها وعينيها تجوب من يقف بالبعد عنها يحتضن عشيقته ويضمها لجسده بطريقة مخجلة، دنى منها فما أن رأته حتى أزاحت دموعها وهي ترسم بسمة صغيرة مرددة:
_علي!
جلس قبالتها يتأملها بحزنٍ، فقال وهو يقدم لها علبة من المناديل:
_امسحي دموعك يا مايسان، الكلب ده ميستهلكيش.
وردد وهو يتابع أخيه:
_بس متقلقيش أنا هعرف ازاي أوقفه عند حده هو والزبالة اللي معاه دي!
*******
بأعلى سطح الشركة.
جلست على السور الخارجي، تضع النوتيلا على الخيز وتتناولها بتلذذٍ، قدميها ترفرف بحرية واستمتاع، خصلات شعرها المموج تتطاير من خلفها وضحكاتها تتناثر دون توقف وهي تقص موقفها المضحك لرفيقتها، فقالت وهي تقضم قطعه من الخبز:
_اهدائي قليلًا جومانه، ماذا عساني أفعل بالأسفل، راكان الأحمق لا يجيد سوى الحديث بما يخص الشركات، ليته يعلم بأنني لا أطيق رؤية وجهه الساذج.
انكمشت تعابيرها بغضب لحق نبرتها:
_بربكِ يا فتاة، تعودين لاسطوانة رجل الاعمال الناجح الوسيم أنا لا أراه وسيمًا!!
وأغلقت الهاتف وألقته جوارها وهي تردد:
_هحجزلك كرسي جنب فريدة هانم، عشان تحكوا طول النهار عن الطبقة الآرستقراطية!
_أيه ده إنتي بتتكلمي عربي!
صعقت حينما اقتحم صوتًا ذكوريًا عالمها المثالي، فاستدارت للخلف تراقب من يقف خلفها، لتجده شابًا جذابًا يرتدي حلى سوداء اللون، شعره بني غزير مصفوف بحرافيةٍ وكأنه قضى نهاره بتصفيفه، عينيه سوداء قاتمة كسواد الليل المخيف، اقترب منها وهو يحاول منع ضحكاته بالوصول إليها، وخاصة وهو يتفحص ما بيدها، فقال وهو يشير بعينيه:
_في نوتيلا على وشك!
حاولت ازاحتها بيدها فسقط الطبق منها، رفعت يدها الاخرى تزيح بها فسقطت عنها النوتيلا، انفجر ضاحكًا على هيئتها، فاقترب منها وهو يشير:
_خليني أساعدك.
وانحنى يجمع ما سقط عنها ومازالت تراقبه عن كثبٍ، فقالت بارتباك:
_أنت سمعت كلامي كله؟
رفع عينيه إليها وهز رأسه مبتسمًا، ابتلعت ريقها بتوتر وتساءلت بحماقة :
_هتقول لحد؟
قدم لها النوتيلا وصمته يطول به ويقلقها، إلى أن قال بثبات:
_إنتِ عندك حق الجو تحت ممل، خليكي هنا مع النوتيلا.
وتركها وكاد بالمغادرة، فاوقفته قائلة:
_استنى عندك، مقولتليش إنت مين؟
استدار إليها ليطوفها ببسمةٍ هادئة، قبل أن ينطق:
_أنا آدهم الحارس الخاص براكان باشا ودراعه اللمين.
انفلت فمها أرضًا، فتعالت ضحكاته مجددًا، فدنى إليها وهو يتفحص ملامحها الملائكية بنظرة خاطفة، قبل أن يهمس لها باحترامٍ:
_أنا مشوفتكيش ومسمعتش حاجة، متقلقيش يا شمس هانم.
منحته ابتسامة رقيقة، ورددت بتشتتٍ:
_أنا بشكرك.. بس أنا فعلا بشوف راكان ده شخص بارد ومعقد.
اصابته نوبة ضحك مجددًا، تخلى عنها فور سماعه رنين هاتفه، فرفعه وهو يحاول جاهدًا السيطرة على ضحكاته مرددًا:
_أيوه يا باشا، دقايق وهكون عندك.
وتركها وكاد بالمغادرة ولكنه استدار ليخبرها:
_أنا كمان نظرتي ليه شبه نظرتك.
وغادر تاركًا بسمة ساحرة مرسومة على شفتيها، فضمت النوتيلا إليها وهي تردد بعينين ترمشان دون تصديق:
_معقول أكون لقيت فارس أحلامي!
******
بالأسفل.
تعلقت عينيها بالخاتم الالماسي بعدم تصديق، فتعلقت برقبته وهي تردد بعدم تصديق:
_أووه حبيبي.. شكرًا لك.
ابتسم وهو يهمس لها بجراءة:
_لا.. اشكريني حينما نصبح بمفردنا بغرفتنا، أشتاق لكِ ألكس.
أمسكت يده وغمزت له:
_فلنذهب اذًا.
توقف عن تتبعها حينما أوقفه علي، ليصبح في مواجهته، لعق عمران شفتيه بارتباك وهو يردد:
_علي!
يتبع…..
وزع نظراته الغدافية بينه وبين تلك الفتاة التي ترتدي ثيابًا شبه عارية من أمامه، غض علي بصره عنه ليسلطها على أخيه، آمره بنبرة قطعية:
_عايزك.. تعالى معايا حالًا.
ابتلع ريقه الجاف بصعوبةٍ، وردد بصوتٍ منخفض:
_بس آآ…
قاطعه علي بحزمٍ:
_قدامي يا عمران، بدل ما صوتي يعلى قدام الناس.
دنت ألكس من عمران تتحسس صدره بطريقة تقزز منها علي للغاية، وقالت بدهشةٍ:
_ما الأمر عمران؟
حاول عمران إبعادها عنه وهو يتابع نظرات أخيه القاتلة، فهمس لها:
_انتظريني بالفندق ألكس، سألحق بكِ بعد قليل.
هزت رأسها على مضضٍ، وتركتهما وغادرت، فاحتل ثغرها ابتسامة تسلية فور رؤية زوجته تجلس على الطاولة القريبة منهم، فاتجهت وجذبت المقعد المقابل لها، تشنج جسد مايسان فور رؤيتها لها تجلس قبالتها، فصاحت بانفعالٍ:
_من سمح لكِ بالجلوس هنا.
دنت بجسدها من الطاولة وهي تخبرها بمياعةٍ:
_ستعتدين رؤيتي بأي مكانٍ يزوره عمران.
تهجمت معالم وجهها بصورةٍ ملحوظة، فوضعت ألكس ساقًا فوق الأخرى لتتعمد أن تريها ساقيها البيضاء العارية من أسفل الهوت شورت المقزز الذي ترتديه، مسترسلة:
_هيا مايسان عليكِ تقبل وجودي بحياة زوجك، استسلمي لتلك الحقيقة.
زوت حاجبيها بتهكمٍ:
_حقيقة إنكِ وقحة وعاهرة رخيصة.
تعالت ضحكاتها بشكلٍ صدم مايسان التي تأملتها بتقززٍ، وكأنها معتادة لسماع تلك الكلمات البذيئة، تعمدت ألكس أن تنهض وتجلس قبالتها على الطاولة لتستمع لما تقول جيدًا:
_لا، حقيقة إن عمران لن يقترب منك ما دمت أنا بحياته، بربك كيف سيراكِ وعينيه لا ترى سوى جمالي.
وجذبت سيجارًا تضعه بفمها وهي تستكمل بتحدٍ:
_اقترب اليوم الذي سيجردك به عمران من زواجك أعدك بذلك.
ونهضت من على الطاولة وهي تسحب به حقيبتها لتغادر، فتفاجئت بها تجذبها لتقف أمام عينيها، لتخبرها مايسان بتحدٍ وقوة لم تغادر شخصها القوي أبدًا:
_وأنا أعدك بأنني لن أترك زوجي لعاهرة وضيعة مثلك، لا تنتظري هذا اليوم عزيزتي، لآنه إن أتى ستكونين إنتِ المجردة ولست أنا.
وتركتها مايسان وغادرت تحت نظرات ألكس المشتعلة، فرددت بحقد:
_لنرى من منا سينتصر بالنهاية.
*******
بالقرب من مقر شركة “راكان المنذر”
وقف قبالته يصيح بغضب جعل عروفه بارزة للغاية:
_خلاص مش لاقي حد يوقفك عند حدك يا عمران!
رفع رأسه إليه وقال بهدوءٍ:
_أنا معملتش حاجه يا علي، فريدة هانم اللي أجبرتني أتجوز مايسان بنت خالتك وأنا مبحبهاش هعمل أيه يعني؟
رمقه بنظرةٍ ساخرة، اتبعها رفع يده يشير له:
_تزني وتشرب خمرة ده اللي تعمله!!
لعق شفتيه بتوترٍ وقال بتلعثمٍ:
_ألكس رافضة ترتبط بيا، إنت عارف إن ديانتنا مختلفة وآآ.
جذبه من تلباب جاكيت بذلته وهو يصيح بانفعالٍ:
_أنت جنس ملتك أيـــــــــه! واقف قدامي بكل بجاحه تبرر وساختك، إنت عارف مصيرك أيه!
وتابع وهو يحتد من مسكته:
_أنت نسيت هنا دينك يا عمران ونهايتك هتبقى أبشع مما تتخيل، إبعد.. إبعد عنها وعن الشياطين اللي حوليها.
وابتعد عنها وهو يحاول التماسك عن عصبيته، زفر بغضبٍ مما يفعل وعاد يقف قبالة أخيه الصغير، يربت بحنان على صدره ويعدل من جاكيته الغير مهندم بفعله، وقال بهدوءٍ:
_يا عمران إفهم مفيش حد في الكون كله يستاهل إنك تعصي ربنا وترتكب كبائر زي دي، بص حوليك وشوف ربنا كارمك بأيه وأنت غافل عنه، شوف نجاحك في شغلك، والزوجة الصالحة اللي ربنا رزقك بيها، امسك فيها بايدك وسنانك وخليها تطلعك بعيد عن القرف اللي إنت بقيت عايش فيه ده.
رفع رماديته الشبيهة لاخيه إليه ليرى دمعته المستكانة داخله، وكأنه يخبره شيئًا تفهمه علي، وقال:
_أنا مش هفرض عليك تعيش معاها زي فريدة هانم، بس أنا مش عايزك تظلمها معاك لو مبتحبهاش طلقها وسبها تعيش حياتها مع شخص تاني يديها اللي إنت مقدرتش تدهولها.
أجابه بحزنٍ:
_وتفتكر إني محاولتش أعمل كده يا علي، حاولت بس فريدة هانم هددتني إني لو طلقت مايسان هتحرمني من الورث ومن كل حاجة.
وتابع وهو يتجه للشجرة القريبة منه، يتكأ عليها بتعبٍ يضربه نفسيًا، فالتقط نفسًا ثقيل واستدار يخبر أخيه:
_لما أنت كنت في مصر أنا أصريت أطلقها عشان أنهي العذاب اللي معيشها فيه ده، بس ماما عاقبتني وأخدت مني الكريدت كارت وسحبت مني العربية وكل حاجه بمتلكها.
واسترسل بقلة حيلة:
_مكنش في قدامي حل تاني، بضغط على مايسان بكل قوتي عشان هي اللي تقف قدامها وتطلب الطلاق.
ضحك ساخرًا وهو يشير له باستحقارٍ:
_قصدك بتهنها وبتدوس على كرامتها، كرامة مراتك اللي هي المفروض كرامتك.
حاول تبرير ما يفعله حينما قال:
_عايزني أعمل أيه يعني!
صاح بعصبية بالغة:
_تخليك راجل ولو لمرة واحدة في حياتك، تقف قدام ماما وترفض الجوازة دي، ولو حرمتك من الفلوس والأملاك في داهية المهم بلاش تعصي ربنا بعلاقتك القذرة دي وبظلمك الكبير لانسانة بريئة ملهاش ذنب غير إنها بتحبك من وإنتوا عيال صغيرين وأنت أعمى عن حبها ليك.
واسترسل وهو يمنحه نظرة أخيرة:
_إنت ماشي في طريق كلها معاصي بداية من الخمرة للبنت اللي انت ماشي معاها.. صدقني يا عمران إنت مش أد غضب ربنا عليك.
وتركه وغادر على الفور، تاركه يعيد حساباته التي تنتهي جميعًا فور رؤيته لتلك الملعونة.
******
خرجت مايسان تنتظره جوار سيارته والدموع مازالت تختم على وجهها، لا تعلم لماذا تحمل الحب له بالرغم من الكراهية الواضحة بعينيه لها، مازالت تفتقده.. تفتقد تلك الليالي التي كانت تقضيها بانتظار هبوطه لمصر برفقة والدته كل عامٍ، كيف كان يبتسم فور رؤيتها ويقضي أغلب الأوقات برفقتها، كان لا يفترق عنها أبدًا، تاركًا الجميع يظنون بأن بينهما قصة حب عظيمة نهايتها الزواج المتوقع، وحينما حدث ذلك تفاجئت بوجود تلك الفتاة بحياته، وكأنه شخصًا أخر غير ذاك الذي كانت تلتقي به كل عامٍ، ترسخ داخلها بأنه كان يستغلها بالفترة التي يقضيها بمصر، ولكنه لم يسبق له بأن تعدى عليها مرةٍ، كان يعاملها برفقٍ وحبًا ينبع داخل عينيه، أزاحت دمعاتها حينما وجدت علي يدنو منها ليشير لها:
_ يلا نرجع البيت يا مايسان، شمس راكان قال هيوصلها.
رفضت الانصياع إليه مرددة بتصميم:
_أنا جيت مع جوزي وهرجع معاه .
أغلق باب سيارته وعاد يقف قبالتها، قائلًا بعدم تصديق:
_بعد اللي عمله جوه ولسه عايزة تركبي معاه!
تدفقت دمعاتها على وجنتها، فابعدتها عنها وهي تخبره بصوتٍ منكسر:
_أحسن ما أسيبه يروحلها.
رمش باهدابه تأثرًا بها، فهمس بصوتٍ حزين:
_غبي ومش مقدر الجوهرة اللي معاه.
ورفع من صوته يخبرها وهو يعتلي سيارته:
_لو حصل حاجة كلميني.
اكتفت بهزة بسيطة من رأسها، وتوجهت لتقف جوار سيارة عمران حتى خرج فوجدها تنتظره، وضع يده بجيب بنطاله وتساءل بضيقٍ:
_مركبتيش مع علي ليه؟
ردت عليه بثباتٍ قاتلٍ:
_أنا مجتش معاه عشان أرجع معاه!
سحب نفسًا مرهقًا وأشار لها بالصعود باستسلامٍ، تحركت بآليةٍ تامة لتجلس جواره، فخيم السكون عليهما طوال الطريق، تكبت هي بكائها بحرافيةٍ اعتادت عليها ويفكر هو بحديث أخيه، حتى توقف بها أمام المنزل، انتظرته يهبط ولكنه بقى بمقعده فعلمت بأنه يوصلها وسيغادر على الفور، لم تتمكن مايسان اخفاء دمعاتها طويلًا، فتحركت يدها المرتشعة تقبض على معصمه المتعلق بالقيادة، انتبه لها عمران فلف وجهه إليها، فاندهش حينما وجدها تتطلع له بعينان باكيتان، وصوته الشاحب يردد:
_بلاش تروحلها يا عمران، بلاش تكسرني بالشكل ده كل يوم، أنا لسه عندي أمل إنك هتسيب كل ده وترجعلي.
تألم قلبه القافز بين ضلوعه، لا ينكر بأنه كان يكن لها حبًا في وقتٍ مضى من حياته، ولكن فور ظهور ألكس بحياته منذ ثلاث سنواتٍ وهو لا يرى سواها، وكأن مايسان لم تزور قلبه في يومٍ مضى، طال صمته ووصلت لها إجابته، فسحبت يدها عنه وخرجت من السيارة على الفور.
انهال عمران بجسده للامام وهو يواجه كل ما يعتريه من ألمٍ مبالغ به، سئم من حياته ومما يواجهه بمفرده، فحسم أموره بإنهاء عذابه وخوفه الشديد من الله عز وجل، حرك المفتاح ليقود سيارته من جديد متوجهًا للفندق، تاركها تراقبه من الشرفة بانهيارٍ تام، جعلها تجلس أرضًا متعلقة بالستائر التي تكبت بها صراخاتها.. صرخات أنثى تعافر لاسترداد حبيب طفولتها الغائب خلف فترة مراهقة لا تود تركه أبدًا.
*****
صعود مايسان لغرفتها ومغادرة عمران زرع الشكوك داخلها، فصعدت لغرفة ابنها تطرق بابه وحينما استمعت لآذنه ولجت للداخل، فوجدته يبدل ملابسه، منحته فريدة نظرة متفحصة قبل أن تتساءل بحدةٍ:
_إنت راجع تاني المستشفى يا علي؟
منحها ابتسامة جذابة، ودنى منها يطبع قبلة على جبينها ويدها مرددًا بحبٍ:
_مساء الجمال كله على أجمل قمر بالكون كله.
كعادته ينجح بنثر السعادة على وجهها، ابتسمت وهي تردد بنفاذ صبر:
_دكتور علي البكاش إنت لحقت تقعد معايا عشان تلبس وترجع تاني.
اتحه لخزانته يجذب حذائه الأسود، فجلس على حاملة الأحذية يرتديه وهو يجيبها:
_هعمل أيه بس يا فريدة هانم لازم أرجع عشان عندي كام كشف مهم النهاردة، مقدرش أعتذر للأسف، بس وعدي مازال مستمر هرجع بدري.
هزت رأسها وهي تشير له:
_عفارم عليك.
اخفى بسمته على كلمتها المعتادة، التابعة لعهد مضى ومع ذلك تمعن بنظرته المحبة لها، شعرها القصير المرتب حول وجهها، فستانها الآنيق، وحذائها ذو الكعب العالي الذي إعتاد رؤيتها ترتديه أينما كانت، حتى ولو بالمنزل، عينيها العسلية المزينة بالكحل الأسود وبشرتها البيضاء الصافية.
أحيانًا يشعر وكأنها شقيقتها الكبرى وليست والدته بالمرةٍ، مازال حتى تلك اللحظة يتقدم إليه عدد من الرجال لخطبتها، فضحك رغمًا عنه حينما تذكر كيف كانت تغضب وتثور وخاصة حينما كان يخبرها علي بأنه ليس معترضًا آن أردت الارتباط.
كعادتها تعيد عليه حساباتها الدقيقة حول تضحيتها بالزواج في سنٍ مبكر، وبالأخص بعد وفاة والده كانت حينها تبلغ الثلاثون من عمرها.
أفاق من شروده على صوتها المنادي:
_روحت فين يا علي!
تنحنح بحرجٍ:
_مع حضرتك.
عادت تكرر ما قالته مجددًا:
_سألتك اللي إسمها ألكس حضرت الحفلة؟
سحب عينيه عنها بارتباكٍ، وادعى انشغاله بتصفيف شعره، مرددًا:
_مخدتش بالي.
احمرت عينيها، فنهضت عن الفراش وتوجهت للخروج قائلة:
_ردك وصلني.
******
انتهى الحفل أخيرًا وانتهى دورها المثالي بالوقوف مع خطيبها المزعوم بحفلٍ هامٍ هكذا، انتهت شمس من تناول طعامها، فجذبت منديلًا ورقيًا تجفف فمها قائلة بضجرٍ:
_راكان أنا كده أتاخرت، خلينا نمشي بقى.
ابتلع ما بفمه قائلًا وهو يلتقط مناديلًا ورقيًا:
_أوكي يا بيبي، هنتحرك حالًا.
انطلق رنين هاتفه الذي لا يكف عنه، فأشار لها بحرجٍ حينما وجدها تتأفف بغيظٍ:
_معلشي، ثواني وراجعالك.
وتركها تجلس على الأريكة التابعة لمكتبه السفلي، وابتعد يجيب على هاتفه، ابعدت شمس الطاولة القصيرة عنها ونهضت تتمشى بالخارج بضيقٍ شديد، فتحت الباب الزجاجي بالطابق الأرضي ووقفت تتنفس الهواء المنعش ببسمةٍ ساحرة، فتحت عينيها على مهلٍ لتتفاجئ بالحارس الشخصي يقف على بعدٍ منها، لاح على وجهها بسمة صغيرة، فخطفت نظرة سريعة على راكان الذي مازال يتابع حديثه الذي لا ينتهي،ثم تسللت للخارج بعدما خلعت حذائها حتى لا يستمع راكان لصوت خطواتها.
خطت على أطراف أصابعها حتى وصلت للحديقة الخلفية للشركة حيث كان يقف آدهم منشغلًا بتأمل هاتفه، ليفق على صوت صفيرًا منخفض وصوتًا انوثي رقيق:
_كابتن.
رفع عينيه إليها، فتفاجئ بها، ابتسم آدهم وهو يرد بتهذبٍ:
_شمس هانم.
رفعت طرف فستانها وتسللت بعيدًا عن المياه الرطبة المحاطة للأرض الخضراء، حتى وقفت جواره، رمش بدهشةٍ وهو يراقب قدميها دون حذاء، ولكنه لم يعلق وعاد يراقب ما ستقول.
اتسعت ابتسامتها وهى تربع يدها أمامه، وعلى ما يبدو تشتتها وحيرتها بما ستفوه، فقالت بعد صمتًا:
_أنا كنت عايزة أشكرك أنك مقولتش لراكان حاجة، وأكد عليك من تاني أنك مسبقش إنك شوفتني فوق.
تطلع لها بغموضٍ، ومازال يقف بثبات يزيد من جموده، ظنته سيتحدث بالأمر فقالت برجاء:
_بليـــــــز مش تقول لراكان حاجة، لحسن ممكن يقول لفريدة هانم وهتبهدلني.
اخفى بسمته وردد باتزانٍ قاتلٍ:
_أنا بعتذر بس مش فاهم تقصدي أيه، دي أول مرة أقابل حضرتك وش لوش يا شمس هانم.
بدت كالبلهاء تحاول فهم ما يقوله، فانفرجت شفتيها بضحكة واسعة ولفت اصبعها:
_آيوه آيوه فهمتك، إنت بتمثل من دلوقتي.
ضحك بصوته الرجولي وهو يهز رأسه:
_بالظبط كده.
رفعت إبهامها له:
_براڤو، استمر على كده.
اتجهت لتغادر ومن ثم استدارت لتخبره:
_شكل كده هيكون بينا أسرار كتير يا آآ.. آآ..
انقطعت كلمتها حينما تهاوت قدميها بالمياه الرطبة فكادت بالسقوط أرضًا، وكان ذراعه الصلب الأسرع لمساندة خصرها المرن، تعلقت شمس تلقائيًا برقبته، في نفس لحظة استكماله لجملتها:
_آدهم، إسمي آدهم.
قالها وعينيه هائمة بعينيها، وجهها الملائكي اختطفه وكأنها تملك تعويذة سحرية تشده بها، رفرفرت بجفنيها وهي تتأمل عينيه عن قربٍ، ذاك الغريب الذي اختطفها منذ أول نظرة وأول لقاء، انتبه آدهم لراكان الذي يتقدم منهما، فاستقام بوقفته جاذبها لتقف أمامه، وتراجع خطوتين للخلف واضعًا يده خلف خصره المستقيم
لعقت شمس شفتيها وهي تحاول تهدئة أنفاسها اللاهثة، وما زاد ريبتها وجود راكان الذي تساءل:
_في أيه؟
أجابه آدهم وعينيه الثاقبة تحيطه:
_شمس هانم كانت بتتمشى بالحديقة، واتكعبلت في طرف الفستان وكانت هتقع.
ابتسم راكان وربت على كتفه بفخرٍ:
_إنت مش بس منقذي المخلص يا آدهم، شكل هتكون المنقذ الرسمي لافراد عيلتي كلها.
طعنه آدهم بنظرة غامضة، يخفي من خلفها دوافعه الحقيقية، ومع ذلك اختطف بسمة ثابتة وهز رأسه بخفةٍ.
اخبره راكان:
_اتصل بالسواق يجيب العربية عشان نوصل شمس هانم.
رفع آدهم هاتفه ليردد باقتضاب لمن يجيبه:
_هات العربية قدام الشركة يا حامد.
استدار راكان تجاهها، فشملتها نظراته، فردد بدهشةٍ:
_شمس فين الشوذ بتاعك؟!
حكت جبينها بتوترٍ، فاحنى آدهم رأسه ضاحكًا خشية من أن يرأه أحدٌ، بينما تلعثمت بردها:
_آآ.. أنا بس كنت حابة أجرب النجيلة عندكم في الشركة ناعمة ولا خشنة.
برق راكان بدهشة، فتمادت بثقتها بالحديث:
_دي نقاط مهمة متخدش بالك إنت منها، الستات دقيقة جدًا.
أحمر وجه آدهم من فرط كبته للضحك، بينما رفع راكان يده لصدره ليشير لها:
_اسندي لما نوصل للشوذ بتاعك عشان نخرج.
وما أن طوفت ذراعه حتى تحرر رنين هاتفه للمرة الألف، راقب راكان الشاشة فابتعد وهو يشير للخلف:
_آدهم.
اقترب منه ليجده يهمس له:
_ساعد شمس هانم، معايا مكالمة مهمة.
احتل آدهم مكانه، فاحنى يده لصدره، ارتبكت شمس وهي تستند بيدها على ذراعه، ثم تحمل طرف فستانها باليد الاخرى لتتفادى الحشائش المبتلة، تلون وجهها بخجل، وقلبها ينبض تأثرًا لقرب ذاك الغريب منها، انتهت مسافتها القصيرة حينما وصلت للحاجز الرخامي، فحملت طرف فستانها وصعدت عليه، تركها آدهم وكاد بالتراجع، لتوقفه كلماتها:
_شكرًا يا كابتن آدهم.
ابتسم مجددًا، وقال دون أن يلتفت لها:
_العفو يا شمس هانم.
غادر من أمامها تاركًا قلبها يكاد يركض من خلفه، ولجت شمس للداخل ومازالت بسمتها لا تفارقها، فارتدت حذائها وخطت للخارج بفرحة لم تشعر بها يومًا، صعدت بالسيارة بالخلف جوار راكان الذي مازال يتابع حديثه بالهاتف طوال الطريق حتى لحظة هبوطها من السيارة، وذاك الأمر لم يزعجها تلك المرةٍ، كل ما يشغلها هو ذاك الحارس.. “آدهم”
******
صف علي سيارته أمام المشفى، فصعد للأعلى حاملًا باقة الزهور البيضاء ببسمةٍ بشوشة، كعادته كل يومٍ لم يتجه لمكتبه كانت غرفتها أول وجهة له، طرق الباب وحرر مقبضة على الفور، فتلاشت ضحكته تدريجيًا حينما وجد أمامه “آرثر”، أحد الأطباء الذين تم تعينهم منذ فترةٍ صغيرةٍ، وما لفت إنتباهه امتقاع ملامح فطيمة بشكلٍ ملحوظ.
دلف علي حتى بات قبالته، فتحرر من صمته بسؤالٍ تحرر بعصبيةٍ:
_ماذا تفعل هنا؟
تلبس رداء الثبات قبالته، ليجيبه ببرود:
_ماذا يتوجب على الطبيب فعله!
رده الفظ دفع علي ليردد بنفس وتيرته:
_أنا الطبيب المسؤول عن علاج فطيمة، لا يحق لك التواجد هنا.
ابتسم ساخرًا، مردفًا:
_سمعت إنك مسؤول عن حالتها منذ ثمانية أشهر ولم تتحسن حالتها، ربما أنا الأجدر بعلاجها دكتور علي.
وتركه وقبل أن يغادر من باب الغرفة قال:
_فكر جيدًا بالأمر.
منذ لحظة قدومه للمشفى وهو يضعه بخانة منافسته الرخيصة، وأخر ما توقعه علي أن يسخر منه بتلك الطريقة، وضع علي باقة الزهور على الكوماد المجاور لفطيمة، ثم جلس على المقعد المجاور لها باهمالٍ.
أزاح نظارته الطبية عنه وهو يفرك مقدمة أنفه بضيقٍ شديد، لأول مرة يعجز عن علاج أحد حالاته، وليكن صادقًا مع نفسه فطيمة تهمه كثيرًا ربما لذلك يرغب بشدةٍ أن تعود لحالتها الطبيعية.
استدارت بوجهها للكوماد تتأمل الزهرات ناصعة البياض ببسمةٍ رقيقة، اعتادت على شم تلك الرائحة العطرة كل صباحٍ فور ولوج علي لغرفتها، ممتنة لحمله كل يوم باقة زهور مميزة إليها، غامت معالمها فور أن سُلطت عليه، ليتها تعلم الحديث بالانجليزية لتعرف ماذا ضايقه هذا الطبيب؟
انتبهت له يستقيم بجلسته تجاهها وهو يجاهد لرسم بسمة صغيرة، وردد بصوته الرخيم:
_صباح الخير يا فطيمة.
وحرر غطاء قلمه، ثم جذب النوت ليبدأ قائلًا:
_النهاردة هنحاول نرجع مع بعض لذكرياتك، أكيد في طفولتك كان في موقف حلوة كتير يا فطيمة، والحلو إنك مش هتتكلمي عن حاجة تضايقك.
وتابع تعابيرتها باهتمامٍ، ولم يحصل على أي رد فعل إيجابي.
أغلق علي دفتره ثم اقترب بجلسته إليها يخبرها بانهاكٍ:
_فطيمة سكوتك ده هيضرك أكتر مش هيفيدك في شيء، أنا مازلت بحاول معاكِ وبتمنى تساعديني عشان أقدر أساعدك وأعالجك.
وتابع برجاءٍ غريب:
_من فضلك حاولي تساعديني، اتكلمي واحكيلي عن اللي مريتي بيه ده هيهون عليكي كتير.
تحررت دمعة على خديها جعلته زفر باختناقٍ، فاتجه للشرفة يحرر ستائرها، مستندًا بجسده على العمود المجاور للشرفةٍ، اطال بصمته ثم قال بعد سكونه:
_شكل دكتور آرثر صح، أنا فشلت أعالج حالتك وهو أولى بيكِ مني.
وغادر الغرفة وعلامات الحزن والاستسلام تغدو وجهه دون راجع.
فور نطقه لتلك الكلمات اعتدلت فطيمة بجلستها وعينيها تبرق بصدمة مما استمعته، فهزت رأسها بجنون وهي ترفض حقيقة ابتعاده عنها، ابتلعتها حالة من الصرع فتشنج جسدها من جديدٍ مما جعل الممرضات تهرول للداخل إليها.
******
وقف أمام غرفته القابعة بالطابق الثالث والأربعون بالفندق يلتقط أنفاسه بانتظامٍ، وكأنه يستعد لما سيخوضه بالداخل، يستند بيده على الحائط في محاولة لتقوية نفسه التي ستضعف فور رؤيتها.
ولج عمران للداخل باستخدام بطاقته، ليجدها تجلس على الفراش بقميصٍ مغري قصيرًا، وبيدها كأس من المحرمات التي كانت السبب بادمانه لها، وفور رؤيته نهضت عن الفراش تسرع إليها مرددة بصوتٍ مغري:
_حبيبي هل عدت!
انطوت داخل احضانه وهي تهمس له:
_اشتقت لك كثيرًا.
ابتلع ريقه بصعوبة بالغة وهو يقاوم رغبته التي بدأت بالتحرك لها فور رؤيتها، فرفع يده عنها وهو يحاول ابعادها مرددًا:
_ألكس، هناك أمرًا هامًا أود إخبارك به أولًا.
رفعت رأسها عن صدرها ويدها تعبث بذقنه الغير حليق:
_لا أريد سواك.
دفعها عنه برفقٍ مصرًا على طلبه:
_ألكس من فضلك.
ابتعدت عنه وهي تراقب ملامحه المهمومة باستغرابٍ:
_ما بك عمران، أخبرني.
جلس على الأريكة وهي من جواره، ضم شفتيه معًا قبل أن ينطق:
_لا أرغب في ارتكاب معصية أخرى، أريدك أن تقبلي عرض الزواج مني.
زمت شفتيها بسخطٍ لعودته لنفس الحديث الممل، فاتجهت لزجاجة الخمر تسكب منه بكأسها:
_بحقك يا عمران هل عدت لحديثك هذا مجددًا، أخبرتك سابقًا إني لا أريد الزواج، ولا أحبذ سماع تلك التفاهات المتعلقة بدينك المتسلط.
احمرت عينيه غضبًا فنهض عن الأريكة يصرخ بحدةٍ:
_تأدبي بالحديث ألكس والا اقتلعت عنقك.
خشيت أن تسوء الأمور بينهما، فهرولت إليه تردد بخداع نبرتها المغرية:
_أعتذر لك، لا أقصد اهانتك ولا إهانة ديانتك، ولكني سئمت من تكرار حديثي لك، أنا لا أريد أي قيود عمران، والزواج بالنسبة لي أكبر قيد.
وتلك المرة لم تترك له فرصة المناص منها، حيث حررت أزرر قميصه وبدأت تتقرب منه بطريقتها المقززة، هامسة باغراءٍ:
_أنا أرغب بك، دون أي قيد.. وأعلم بأنك تحبني مثلما أحبك.
وتابعت وأنفاسها تلفح رقبته:
_هيا عمران دعك من تلك الترهات.. أفتقدك حقًا.
أغلق عينيه بقوةٍ تأثرًا بها، فانساب خلف مشاعره الخائنة التي استسلمت لها للمرة الرابعة، كل مرةٍ يعترض وكانت تنجح بعد عدد من المحاولات بالحصول عليه، ويعود بعدها يؤنب نفسه ويبتعد أشهر عديدة حتى تنجح باغوائه مجددًا، ولكنها تثق بإن سقوطه وخضوعه لها سيكون مؤكدًا حتى وإن بقى عامًا دون لمسها!
*******
هرع علي لغرفتها ليجد عدد من الاطباء والممرضات يجتمعون داخل الغرفة لتعسر حالة فطيمة، ابعد من بطريقه ليصل للفراش فوجدها تتشنج بعنفٍ ونظراتها تحيط بمن حولها بذعرٍ، فردد بلباقةٍ:
_أعتذر منكم جميعًا، ولكن وجودكم هنا يثير ريبتها، من فضلكم.
خرج الجميع الا آرثر صمم البقاء ليتابع الحالة بفضول، أراد باصرار متابعة حالتها ولديه رغبة بتحقيق الانجاز الذي فشل به علي، يتخيل نجاحه الساحق بعد علاج حالة فطيمة.
سلط نظراته عليه فوجده يدنو منها وهو يشير لها بكلماتٍ عربية فشل آرثر بفهمها:
_فطيمة اهدي، مفيش حاجة.. كلهم خرجوا.
فور رؤيته بدأت في الاسترخاء، وعينيها لا تتخلى عنه، فالتقط اذنيها صوت هذا الدخيل التي بات منفرًا لها، حينما قال آرثر:
_أعتقد بأنها تحتاج لأبرة مهدئة.
أجابه علي بغيظٍ من بقائه رغم طلبه الصريح من الجميع بالخروج:
_لا تحتاج لها، بدأت بالاسترخاء بالفعل.
زم آرثر شفتيه وهو يخبره بلطفٍ مصطنع:
_دكتور علي أنت لا تجيد التعامل مع الحالة، أرجوك دعني أجرب أعتقد بأنها ستتحسن إن حاولت.
صمت علي وشرد قليلًا، نظراته العاجزة المسلطة على فطيمة جعلتها تسترجع حديثه الأخير، فخشيت أن يترك له أمرها مثلما خمنت، استقام علي بوقفته واستدار ليكون قبالة أعين آرثر، موليًا لها ظهره، فاحتقن وجهها وكأنه يغادر عنها ويتركها من خلفه، انقبض قلبها فتحرك جسدها بعنفوانٍ فلم تجد سوى وسيلتها الوحيدة للنجاة.
رفعت فطيمة يدها المرتشعة لتقربها من يد علي، فتمسكت بيده بقوةٍ جعلت جسده يتصلب صدمةٍ وببطءٍ استدار ليجدها تجلس على الفراش ويدها تتمسك به، وما زاده صدمة فوق صدمته حينما ناطحت آرثر بنظرة قاتلة ورددت بحروفٍ ثقيلة، وكأن صوتها كبت لألف سنة:
_دكتور علي هو المسؤول عن حالتي!
يتبع…
شعر وكأنه يتوهم سماع صوتها، التفت علي إليها ونظراته مصوبة عليها بعدم استيعاب، بينما انسحب آرثر وقد تسنى له مفهوم ما فعلته، حتى وإن كانت نبرتها العربية غريبة عليه، فتمسكها بيده جعله يفطن الأمر دون تفكير.
فور خروجه سحبت فطيمة يدها عن يد علي بخجلٍ شديد، ودمست وجهها أرضًا بحرجٍ لما فعلته، لجئت لصمتها مرة أخرى، ولكن تلك المرةٍ لم يسمح لها علي بذلك، فجذب المقعد وقربها منها وهو يردد بعدم تصديق:
_بقى أنا بقالي 8شهور طالع عيني معاكِ يا فطيمة عشان بس تتكلمي ويجي آرثر المغفل يخليكي تتكلمي في دقيقتين!!
اختطفت بسمة صغيرة على شفتيها تمكن من رؤيتها بوضوحٍ، فابتسم تلقائيًا وهو يراقبها، وردد مازحًا:
_بتضحكي! شكلك شايفاني أنا المغفل مش هو صح.. لإنك قدرتي تخدعيني طول الفترة دي.
رفعت عسليتها إليه لتمنحه نظرة حزينة، تسلل عمقها لنبرتها المرتجفة:
_سكاتي هاد المدة كاملة حيت ما بغيتش نتكلم على اللي داز عليا أ دكتور علي
(سكوتي طول المدة دي لإني مش حابة أتكلم عن الماضي يا دكتور علي).
حقق نقطة بسجله الطبي، وها هي تستجيب للحديث بعد رحلة عناء منه، لذا لن يفوت فرصته، فبدأ بالحديث بإحكامٍ وبحسن اختيار ألفاظه بعد معاناة لفهم نبرتها المغربية:
_بالعكس يا فطيمة الماضي عمره قصير وبيتنسي، بس قبل ما يتنسي لازم نداوي جرحه الأول عشان نقدر نكمل ونبدأ من جديد.
ضمت شفتيها معًا بقوةٍ جعلت أسنانها تنغرس فيهما، وقالت بلسانٍ ثقيل:
_داكشي اللي داز عليا ماشي قصة حزينة غنبكي عليها عامين و لا تلاتة و ننسى، اللي فات غيبقا معايا واجعني و ضارني لاخر حياتي.
ضيق عينيه بعدم فهم تلك المرة، فاستغنت عن نبرتها المغربية وقالت باللهجة المصرية المعتادة لسماعها من مراد ومن الطبيبة يارا المسؤولة عن حالتها سابقًا فقالت:
_اللي فات من حياتي مش قصة حزينة وهبكي عليها سنتين تلاته، اللي فات وجع هيدوم معايا لأخر عمري.
رد عليها بلهفةٍ:
_وأنا جاهز أشاركك الوجع ده يا فطيمة.
رفعت عينيها إليه بارتباكٍ، فتنحنح بحرجٍ وهو يعدل من نظارته الطبية موضحًا مقصده:
_فطيمة أنا الدكتور المسؤول عن حالتك، من فضلك سبيني أقوم بشغلي وأحاول أساعدك، بلاش تحكمي عليا بالفشل بدون محاولة.
وتابع ببسمةٍ هادئة:
_ولا عايزة الجوكر يزعل مني ويقول عليا دكتور فاشل وإن الدكتورة يارا أشطر مني.
ابتسمت فور سماعها عن مراد وقالت:
_مراد ده شخص عظيم، بالرغم من كل اللي اتعرض ليه بسببي ومازال جانبي وحابب يساعدني، بس مش قادر يستوعب إن اللي اندبح بسكينة تالمة مستحيل يرجع للحياة من تاني.
سكن الألم رماديته، ومع ذلك تساءل بهدوءٍ:
_قوليلي يا فطيمة، إنتي اتعرفتي على مراد زيدان ازاي؟
التقطت نفسًا مطولًا استسلامًا لرغبته المستميتة بالنبش حول ما يؤلمها، فبدأت بالحديث بوجعٍ يخترقها رغم تلك البسمة الزائفة على وجهها:
_في اليوم ده خرجت الصبح مع خطيبي، كنا بنحضر للجواز، ويومها طلبني نخرج ونتكلم شوية، لبست وروحت مع والدي عشان أقابله بس وإحنا في الطريق بابا عربية بابا عطلت.
انهمر الدمع على وجنتها وهي تحاول استرداد حديثها، فجذب علي دفتره سريعًا وفتح هاتفه يسجل به ما تقول لعدم استطاعته بالعودة لمكتبه ليحضر حاسوبه والمسجل الخاص بالمرضى، بالطبع لن يخسر تلك الفرصةٍ ليعود ليحضر ما يحتاجه.
كان بحاجة لسماعها تقص عن أي شيءٍ متعلق بماضيها، رغم أنه يعلم اختصارًا شاملًا لحالتها من ظابط المخابرات المصري “مراد زيدان”، المسؤول عن نفقة علاجها بشكلٍ كاملٍ، ويباشر كل فترة بالسؤال عنها(سلسلة الجوكر والاسطورة)، استرسلت فطيمة حديثها ودموعها بدأت تدمعان بحدقتيها، فقالت:
_بابا نزل وطلب مني أقعد في العربية لحد ما يدور على أي ميكانيكي أو شخص يساعده، بس بعد نص ساعه اتفاجئت بعربية بتقرب مني، ونزل منها شابين كان باين عليهم إن وراهم شيء مخيف، ولما قربوا واتاكدوا إن مفيش حد معايا في العربية هاجموني.
ورفعت عينيها إليه وهي تخبره بدموع:
_محستش غير بقماشة بيضة على وشي وبعدها فقدت الوعي ولما فوقت لقيت نفسي في مكان شبه صندوق كبير جوه طيارة، ومكنتش أنا البنت الوحيدة اللي جواه.
جحظت عين علي بصدمةٍ، لم يتوقع سماع هذا، هل يتم تهريب النساء على متن طائرة بكل تلك البساطة، هؤلاء ليسوا الا شياطين لعينة مثلما وصفهم مراد له، هدأت نيرانه قليلًا فبالفعل تم القضاء على تلك المافيا بواسطة الجوكر والاسطورة سابقًا، لذا حثها على الاسترسل وهو يسألها بنبرته الهادئة:
_وبعدين يا فطيمة، اتكلمي.
استكان ظهرها للوسادة من خلفها، فانسدل حجابها رغمًا عنها، عينيها لم تكن تعي سوى الشرود بالفراغ، وهي تكمل له:
_اخدونا مكان غريب، ريحته وشكله مقبض فوق ما تتخيل..
وابتسمت ساخرة رغم صراخ تعابيرها بألم:
_كان بيتقسموا الغنايم فيه، بيعينوا البنات وبيشوفوا مين فيهم اللي تنفع لشغلهم.
وابتلعت ريقها القاحل بمرارة ما واجهته، فقبضت بأصبعها على الغطاء المفرود على جلبابها الأبيض الخاص بالمشفى وهي تخبره بوحعٍ استشافه من حديثها:
_كلنا خضعنا للكشف العذري على إيد دكتورة شكلها مخيف، واللي كانت مننا لسه عذراء كانوا بياخدوهم في عربية لمكان روحت فيه من ضمنهم.
واستكملت ودموعها لا تتوقف:
_لإن بالنسبالهم ليهم تمن أعلى.
وانفجرت بالبكاء الحارق، تاركة دمعة رجلا عزيزا تلمع داخل مقلتيه تأثرًا بوجعها، لم يسبق له التأثر هكذا برفقة مرضاه، لا تلك الفتاة بالطبع ليست عادية بالنسبة له، ترك علي مقعده ونهض يحمل منديلًا ورقيًا، قدمه لها فتناولته عنه بامتنانٍ.
زاد من لطفه حينما سكب من زجاجة المياه كوبًا لها، تناولته فطيمة جرعة واحدة تسد به نيران صدرها المشتعلة، فعاد يجلس قبالتها وتلك المرةٍ رفض الضغط عليها، بل تساءل بلهفةٍ بعد دقائق فاصلة:
_أحسن دلوقتي؟
هزت رأسها على استحياءٍ من حديثها الحساس والمخجل له، بالنهاية هو رجل ولكنها لا تعلم لما تشعر بأنها تود سماع نصائحه وتلقي له ما خاضته من رحلة قاسية، عادت تستكمل له:
_البيت اللي روحناله بعد كده كان فيه جنسيات مختلفة من البنات، أنا من المغرب وكان في هناك بنات من العراق ومصر وبنات كتير أغلبهم من العرب، نسبة قليلة اللي كانت أجنبية.
وتابعت له:
_اللي عرفته بعد كده من مراد إن كل بنت ليها دخلتها، اللي منهم بيبتزوها بشريط فيديو مصورينه ليها، واللي بيغروها بالفلوس، واللي بيستخدموا عليها العنف عشان تكمل، واللي ببهددوها بخطف حد من أهلها، بالنهاية كلهم بياخدوا فترة لحد ما يتعودوا على الشغل المهين ده، وأنا كنت من البنات الجديدة اللي لسه داخلين المكان، وحظي وقعني مع مراد.
وأزاحت دمعاتها بمنديله الورقي وهي تخبره بانكسارٍ:
_كل يوم قضيته بالمكان ده كنت بموت فيه بالبطيء، عيني كانت على باب الأوضة ومستنيه لحظة دخول أول شخص هيدبحني، كنت بدعي ربنا كل يوم أن اليوم ده ميجيش غير وأنا ميتة.
وتمعنت بتطلعها إليه وهي تقول:
_حاولت انتحر معرفتش، كنت كل ما بحاول بلاقيهم فوق رأسي، لحد ما اتاكدت أن الاوضة دي فيها كاميرات مراقبة.
استدار عنها يزيح بإصبعه دمعة كادت بأن تفضحه أمامها، لا يود أن تصل شفقته وحزنه لها، ذاك الطريق مرفوض لأطباء الطب النفسي، عاد يدون بمذكرته ملاحظة طفيفة تنبع عن ألمها الشديد عما خاضته ببداية رحلتها.
فراقبها وهي تخبره باهتمامٍ عن أصل سؤاله المبدئي عن علاقتها بالجوكر مراد زيدان فقالت:
_وفي اليوم اللي الباب اتفتح فيه كان مراد أول شخص يدخله، حسيت إن الدنيا بتضيق عليا، وخاصة لما لقيته بيقرب مني، بس كان بيعمل كده عشان الكاميرات، وقدر إنه يخدعهم أنه بيقربلي، وبعد كده اتفاجئت بيه بيقولي انه ظابط من المخابرات وإنه جاي المكان ده هو وظابط معاه عشان يقبضوا على شبكة الدعارة الدولية دي، وطلب مني أني أساعده عن أي معلومات تقدر تفيده.
واسترسلت بحماس لاخباره:
_ساعتها حسيت ان ربنا سمع دعواتي وهيخلصني من الذل والمهانة اللي كنت هتعرض ليها، مترددتش وساعدته ووعدني إنه هيرجع وهيساعدني أخرج من المكان ده من غير ما حد يلمس شعرة مني، وفعلًا كان أد وعده ورجع من تاني بس المرة دي كانوا كشفوني وعرفوا ان أنا اللي ساعدته فحبوا يكافئوني على الخيانة دي.
وتابعت ببسمةٍ ساخرة:
_لفوا حزام ناسف حواليا عشان يبدوا المكان اللي ممكن يكون دليل عليهم، وبالرغم من كده مراد رفض إنه يخرج من غيري، وساعدني أخوه رحيم زيدان وقدرت اخرج من المكان ده من غير ما حد يمسني.
سحبت نفسًا مطولًا تستعيد به قوة تكمل له الجزء الاخر من رحلتها القاسية فقالت:
_مساعدات مراد منتهش معايا لهنا، رجعني المغرب لاهلي وكان ليا أخ بكل ما تحمله الكلمة، حسيت إني بأخد فرصة من تاني بوجود مراد، رجعت لخطيبي ولحياتي وكان مراد على تواصل مستمر معايا ومع أهلي، ووعدني انه هيحضر فرحي وهيزفني لعريسي..
وانهمرت دمعاتها وهي تردد ببسمة:
_كان بيعتبرني زي أخته وحسيت منه بده فعلًا.
ابتسم علي وهو يجد نقطة هامة قد تعاونه برحلته الشاقة، فدون بنوته “مراد زيدان البداية لتماثل فطيمة الشفاء” ، رفع علي عينيه لها بانتظارها أن تستكمل، ولكنه تفاجئ بها صامتة تبكي تأثرًا، فسألها بريبة:
_وبعدين؟
امتعضت ملامحها بألمٍ برز حينما قالت بحشرجة تلاحق نبرتها المبحوحة:
_ابتدينا نجهز لفرحي بأسرع وقت، لإن طبعًا الفترة اللي اختفتها خلت الناس تتكلم عني، فكان الحل أني اتجوز بأقرب وقت.
وبسخريةٍ أضافت:
_كنت فاكرة إن ده كمان رغبة خطيبي، مع إنه كان فرحان برجوعي الا أنه طلب مني طلب بشع رجعني لكل اللي عشته من تاني.
سألها باستغرابٍ:
_طلب منك أيه؟
تساقطت دموعها وهي تردد بتلعثمٍ:
_طلب مني أروح معاه لدكتورة تأكدله أني لسه شريفة بحجة إن والدته وأهله اللي حابين يطمنوا، رجع يوجعني زي ما اتوجعت ومريت بتجربة أبشع من اللي قبلها.
وأغلقت عينيها وهي تردد بشهقاتٍ قاتلة:
_حتى أهلي اجبروني أروح معاه لان للاسف دي فرصتي الوحيدة اني اثبت للناس إني رجعت من المكان ده نضيفة ومحدش لوثني.
وتشنج جسدها وهي تصرخ بوجع:
_جبروني أرجع اتهان من تاني عشان حاجة كانت خارجة عن ارادتي، وكإني لو كنت خسرت شرفي ورجعت ليهم كانوا هيرفضوني! .
وجد علي بإن الجلسة الاولى تندرج لمسمى خطيرًا بتشنج جسدها الملحوظ، فأغلق النوت، ونهض يخبرها:
_خلاص يا فطيمة كفايا كده النهاردة وبكره نكمل.
اكتفت بهزة بسيطة من رأسها ولم تترك له مجال الحديث، تمددت على الفراش بأنهاكٍ نفسي وجسدي، أسرع علي بحقنها بورديها لتهدأ قليلًا من انفعالاتها، فتقبلت الأمر وغابت بنومها سريعًا.
ترك جسده يخضع لجلوس مقعده القريب منها، لينزع عنه نظاراته الطبية وهو يزيل الدمعات العالقة بأهدابه هامسًا بعصبيةٍ تطيح بخطيبها السابق:
_حقير!
*******
غادرت الشمس ساحة السماء تاركة للقمر البزوغ في ليله القاتم، ومازال غائبًا عن المنزل منذ أمس، جابت فريدة الردهة ذهابًا وإيابًا وبيدها الهاتف تحاول الوصول إليه للمرة العاشرة ولكن دون جدوى، تابعتها شمس الجالسة على الأريكة تتابع دروس جامعتها على حاسوبها الوردي، فتركته جوارها ونهضت تقترب منها مرددة بقلقٍ:
_مامي بليز اهدي، عمران دايمًا كده بيتأخر بره ومش بيرجع غير بمزاجه وحضرتك عارفة كده.
ألقت فريدة الهاتف عن يدها ثم جلست على المقعد تبعد خصلاتها القصيرة عن عينيها، وقد تمكن منها الارهاق:
_أعمل أيه بس معاه عشان أغيره، مفيش أي شيء جايب نتيجة معاه.
واستندت بيدها على ساقيها متكئة بجلستها للأمام:
_أنا ادتيه حتة من قلبي مايسان.. كنت فاكرة إن الحب الطفولي اللي بينهم هيقدر يبعده عن الطريق ده بس للأسف أنا مجنتش حاجة من اللي عملته.
حزنت وهي تستمع لوالدتها، فجلست جوارها وهي تربت بحنان على ظهرها وتخبرها بارتباكٍ:
_متزعليش عشان خاطري.
ابتسمت فريدة وهي تتطلع لابنتها الصغيرة، فقالت بنبرةٍ لم تعتاد منها سماعها:
_أبوكِ سابني وأنا في عز شبابي، وساب وراه ثروة كبيرة الكل كان طمعان فيها، اتحدف عليا رجالة العيلة عشان يتجوزوني بحجة إنهم يحموا المال اللي مش هتصونه واحدة ست.
واسترسلت بألمٍ قاتل يذبح فؤادها:
_رفضت.. رفضت أرتبط بأي حد واعتمدت على نفسي، اشتغلت وتعبت لحد ما كبرتكم، نسيت نفسي ودفنت حياتي.
وتابعت وهي تتعمق بعينيها الواسعتان:
_كنت أوقات بحتاج لوجود حد جنبي، بس حتى أختي الوحيدة ماتت بعد وفاة جوزي بسنتين، وسابتلي بنتها أمانة في رقبتي.
وشددت بحبٍ أمومي:
_مايسان بنتي أنا يا شمس أنا اللي ربتها وكنت جنبها لحظة بلحظة.
ونهضت وهي تتطلع لقصرها الفخم من حولها لتردد بغضبٍ مخيف:
_البيت ده بيتها، ومستحيل هسمح للحقيرة دي إنها تأخد مكانها..
واستدارت تجاهها تؤكد لها:
_أنا اللي يقرب لأولادي أنهش لحمه، ومايسان دي ضي عيوني.
وتابعت بقهرٍ:
_أنا بتوجع وأنا واقفة بالنص بينها وبين ابني ومش عارفة أجبلها حقها.. بس عندي أمل كبير أنها هتغيره!
******
عاد علي للمنزل مثلما وعد والدته، فصعد لغرفته وجذب ثيابه ثم دلف لحمامه، ترك علي المياه تنسدل على جسده دون راجع، وحديثها يقتحمه فيثير غضبًا داخله، وعاطفة تدفعه للعودة وضمها داخل أحضانه، ترك الدُوش يفرد مياهه على خصره ومال يستند على الحائط، ومازال يجابه عقله بتبرير حقيقة شعوره تجاه تلك الفتاة!
لمع عقله بفكرةٍ خطرت له، فجذب المنشفة ولفها من حوله، ثم خرج يبحث عن هاتفه، أخذ ما يقرب الخمسة دقائق حتى عثر على رقمه، فرفع الهاتف وهو يترقب سماع صوته الرزين الذي أتاه بعد ثواني:
_دكتور علي.
ابتسم وهو يردد بوقارٍ:
_مراد باشا.
انتفضت نبرتها قلقًا فليس معتادًا على إتصاله الغريب:
_فطيمة كويسة؟
أسرع يطمنه:
_بخير متقلقش، أنا بس كنت محتاج مساعدتك.
أتاه صوت الجوكر الهاتف باهتمامٍ:
_أعتبر موضوعك منهي لو في إيدي.
إعجب بثقته برده الصارم، وقال بوضوحٍ:
_فطيمة أخيرًا وبعد الشهور دي كلها اتكلمت، والنهاردة كان أول جلسة علاج ليها، وفي الحقيقة يا مراد من خلال كلامي معاها قدرت ألمس مدى احترامها وحبها الكبير ليك، يعني لو في وسيلة تواصل بينك وبينها أظن هيسهل الموضوع جدًا.
أجابه بترحابٍ:
_أنا أعمل أي حاجة عشان فطيمة ترجع لطبيعتها ولو اتطالب الأمر هسافرلك انجلترا من بكره لو تحب.
رفض موضحًا له وجهة نظره كطبيب متخصص:
_لا، أنا حابب في البداية يكون في اتصالات بينكم لإني مش ضامن هيكون رد فعلها أيه لو شافتك وش لوش خصوصًا إنها لسه في البداية.
تفهم الجوكر وجهة نظره، وأبدى تضامنه الكامل معه:
_زي ما تحب، المهم إنها تتحسن وترجع زي الأول.
استغل علي مكالمته الهامة مع مراد زيدان، فبدأ بطرح سؤاله قائلًا:
_طيب كنت حابب أسالك عن شيء.
_اتفضل.
جلس على الفراش وأسند هاتفه إليه وهو يجذب نوته ليردد:
_تاني مرة فطيمة اتخطفت فيها وتم الاعتداء عليها فعليًا، الفترة اللي قضتوها انتوا الاتنين مع العصابة دي كان في أي حوار ما بينكم يعني فطيمة كانت بتتكلم؟
مجرد تذكره تلك الفترة العصيبة التي مر بها بحياته، أظلمت حدقتيه وود لو عاد بحياته ليقتص منهم بدلًا من أخيه رحيم زيدان، ولكنهم بالنهاية لاقوا حتفهم بما يستحقوه، فسحب نفسًا مطولًا قبل أن يجيب:
_أيوه كانت بتكلمني، وقتها الكلاب دول كانوا بيحقنوني بالمخدرات وهي كانت حاسة بالذنب لانهم ضغطوا عليها وكانت سبب لرجوعي للمكان ده من تاني.
دون علي ملحوظة هامة، وعاد يسأل من جديدٍ:
_طيب بعد خروجكم؟
أتاه صوته الذكوري المتعصب رغم هدوئه:
_للأسف كنت تحت تأثير المخدرات ومقدرتش أكون جنبها في الوقت ده، رحيم أخويا اللي كان جنبها، لحد ما استرديت صحتي وفوقت من تاني.
_قابلتها؟
_مرة واحدة وكانت حالتها متدهورة ومبتتكلمش نهائي.
أكد عليه علي بعدما استوعب نقطة كان يشك بها:
_مراد بعدك عن فطيمة بعد خروجكم من الحبس ده كان سبب من الاسباب اللي خلها تفقد الأمان، على ما أعتقد بعد أول جلسة مكنش ليها تعارف كامل بأخوك يعني بالنسبالها شخص غريب، يمكن ده كان بداية إنها بقت كارهة تشوف أي راجل خاصة بعد الاعتداء اللي تم عليها.
_يمكن..
وبرجاءٍ قال:
_من فضلك يا علي اهتم بفطيمة، بتمنى في اليوم اللي تسمحلي فيه بزيارتها تكون واقفة على رجليها واستعادت صحتها.
أجابه وهو يمنحه وعدًا قاطعًا:
_هيحصل إن شاء الله متقلقش..
وبلطفٍ قال:
_بعتذر إني أزعجتك في وقت متأخر زي ده، تصبح على خير.
رد بإيجازٍ ووداعة:
_أنا تحت أمرك في أي وقت يا علي.
أغلق الهاتف فور انتهاء مكالمته، ونهض لخزانته يرتدي ثيابه ليغفو بعمقٍ بعد عناء شهور النوم المتقطع.
******
اتخذت قرارها بعد أن قضت ليلها بأكمله تفتكر فيما ستفعله، باكية تحتضن جسدها، ضعيفة في خلوتها بينها وبين ذاتها، قوية فور خروجها من باب غرفتها، تبدو كالحديد القوي الذي لا يهاب شيئًا كاسر، وهي بالحقيقة هاشة، خاوية.
حملت مايسان الحقيبة الفارغة ووضعتها على الفراش، ثم جذبت الملابس من الخزانة ووضعتها داخلها ودموعها لا تتركها، وضعت حدًا لمعاناتها تاركة من خلفها حساباتها المعقدة حول حزن خالتها لقرارها هذا، يكفيها تحمله طوال الخمسة أشهر الماضية من زواجهما.
قلبها يئن.. كفى ألمًا، كفى قهرًا، كفى إهانة ولوعة، كفى تحمل الهجر والكراهية.. كفى!
أغلقت حقيبتها وهي تزيح دموعها، واتجهت للسراحة تضع حجابها فوق فستانها الأسود وهي تتفحص ساعة الحائط لتتأكد بأن الوقت متأخرًا، لتضمن المغادرة ليلًا دون وداع أحدًا، لا تريد لخالتها أن تلين قلبها مجددًا.
جذبت حقيبتها وجمعت جواز سفرها وما يخصها، فقاطعها رنين هاتفها الموضوع على الكوماد، أسبلت عينيها بدهشة بالمتصل بتلك الساعة المتأخرة من الليل، فما أن رفعت الهاتف حتى همست بعدم تصديق:
_عمران!
بقيت ساكنة بوقفتها، لا تعلم هل تجيبه أم لا، ولكن الغريب بالأمر أنه يتصل بها، والأغرب ذاك الوقت المتأخر، كادت مايسان باجابته ولكن ما فعله جعلها تلقي الهاتف على الفراش وتعود لتستكمل استعدادها للرحيل، فتوترت حركتها وعينيها لا تترك الهاتف المتروك على الفراش، فرددت لذاتها:
_لا يكون في حاجة، عمره ما اتصل بيا بوقت زي ده!
انتصر قلبها عليها، فرفعت الهاتف إليها وبقيت صامتة تتلصص لما سيقوله هو، فارتجف جسدها فور سماع صوته الواهن يردد:
_مايسان.
نبرته كان مقلقة للغاية، وبالرغم من ذلك ادعت برودها:
_خير يا عمران نسيت حاجة حابب تقولها.
ابتلعه الصمت قليلًا ثم قال بإنهاكٍ شديد:
_أنا تعبان أوي يا مايا، مش قادر أسوق خايف.. آآ… خايف أعمل حادثة وأقابل ربنا وأنا سكران وكلي ذنوب.. خايف من مقابلته.
واسترسل دون توقف:
_خوفت أكلم علي هيتنرفز لو شافني بالحالة دي، وأكيد فريدة هانم هتعاقبني لو لجئت ليها، ملقتش غيرك.
رددت بلهفةٍ ضربت خفقات قلبها المتسارعة:
_أنت فين أنا جيالك حالًا.
ابتسم وهو يجيبها بتعبٍ ومازال جسده ملقى على الجزء الأمامي للسيارة:
_مش عارف أنا فين!
جذبت حقيبتها وهرولت للخارج وهي تردد لاهثة:
_ابعتلي اللوكيشن وأنا دقايق وهكون عندك، أرجوك خليك في العربية متنزلش.. آآ… أنا مش هسيبك.
ارتعش جسده فور سماع تلك الكلمة التي أبقيته أمانًا قليلًا، فأرسل لها موقعه قبل أن يغلق عينيه مستسلمًا للنومٍ المؤقت.
*****
وقفت تراقب سواد الليل الكحيل برهبةٍ، ومع ذلك تغلبت على خوفها الغريزي واندفعت تجاه سيارتها، حبه القابع بقلبها كالظل الساكن للجسد مدها بالقوةٍ جعلتها غير واعية لمخاوفها تلك، فصعدت لسيارتها وحررت بريموتها حاجز البوابة الخلفي لتنطلق بسرعة البرق وهي تتفحص الهاتف من أمامه، تتبع الاشارة، يكاد قلبها يتوقف أكثر من مرةٍ وهي تتخيله يخالف ما قالت ويقود بذاته فيصطدم بأحد الحافلات، فرددت بانهيارٍ:
_يا رب قصر طريقي ووصلني ليه!
كادت بأن تنقلب السيارة بها أكثر من مرةٍ، تفادت أكثر من حادثٍ حتى وصلت للإشارة المتبعة، ظهرت سيارة عمران من أمامها، وجدتها معاكسة للطريق لا يفصله عن الجسر الفاصل بين الرصيف والمياه سوى خطوات معدودة، وكأنه تفادى سقوطه فعليًا.
تلبدتها الغيوم فور تخيلها بأن السوء قد أصابه بالفعل، فخلعت حزام أمان السيارة وهرولت تناديه بصراخٍ متلهفًا:
_عمـــــــــران.
طرقت على باب السيارة في محاولة لتفحصه من عبر النافذة القاتمة، وجدته يتحرك بصعوبة، ففتح الباب مرددًا وهو يرفع جفنيه بتثاقل:
_مايا.. جيتي لوحدك في الوقت ده!
مالت بجسدها تجاه السيارة تستند على حافتها العلوية، وهي تجاهد ألا تفقد وعيها من فرط حالة الذعر التي خاضتها منذ قليلٍ.
تابع عمران انقباض صدرها وصوت أنفاسها المسموعة، فمال بجسده على التابلو متفوهًا بارهاقٍ :
_أنا شرحلك حالتي قبل ما تخرجي من البيت، مالوش داعي العياط على حالتي البائسة، روحيني أنا تعبان ومش قادر.
استمدت قوتها وانحنت إليه تعاونه على الخروج من السيارة، أخفضت ساقيه أولًا بعيدًا عن المقعد، ثم لفت ذراعه حول رقبتها، فخرج صوتها يهمس من فرط الحركة:
_اتحمل عليا يا عمران لحد عربيتي.
أتكأ عمران على باب السيارة حتى نجح بالوقوف، فاختل توازنه من أثر الدوار، كاد بالسقوط لولا يدها التي تركزت على صدره بقوة.
وزع نظراته بين يدها اللامسة لقلبه ويدها الاخرى التي تحيطه، ليرفعهما لعينيها، زوت حاجبيها بدهشةٍ حينما وجدت عينيه متورمة ومازالت تحتفظ بأثر بكائه، تمزق نياط قلبها فور تخيلها إنه كان يبكي منذ قليلٍ، أرغمت قدميها على التحرك به لسيارتها، وبصعوبةٍ نجحت بفتح باب السيارة، فارتمى باهمال على مقعدها.
حاول رفع قدميه ولكنها لم تستجب إليه، الا حينما رفعتهما إلى السيارة، وقالت قبل أن تنحني:
_هجيب مفاتيح العربية وحاجتك وجاية.
هز رأسه دون اكتثار، فأغلقت باب السيارة ثم أسرعت لسيارته، جلست محله تجذب مفاتيح السيارة، ومن ثم جذبت هاتفه ومحفظته الملاقاة بالمقعد المجاور له، وكادت بالخروج لولا أن لفت انتباهها تلك الزجاجة الملقاة أرضًا بالسيارة تحمل بقايا الخمر، ألقتها مايسان من النافذة بغضب، وغادرت سريعًا بعد أن أغلقت الباب.
اتجهت مايسان للسيارة فتوقفت حينما وجدت عمران يجذب المناديل المبللة الموضوعة بسيارتها ويمسح شفتيه ورقبته بتقزز واضحًا، اندهشت من فعلته،فتوقف حينما وجدها تصعد لمقعد سيارتها واستعدت للمغادرة.
لزم الصمت بينهما جلبابه حتى مزقه عمران الذي يرتكن بجسده على نافذة السيارة:
_هترجعيني البيت لفريدة هانم تعاقبني.
أسبلت بعينيها الباكية تأثرًا برائحة البرفيوم النسائي الذي يفور منه، وقالت وهي تدعي انشغالها بالطريق:
_هنروح شقة بابا اللي هنا، مفتاحها معايا.
أغلق عينيه باستسلامٍ لنومه المرهق، ولم يفق الا على هزات يدها وصوتها المنادي:
_عمران وصلنا.
هبطت مايسان واتجهت إليه فعاد يحتمل عليها حتى وصلت به للمصعد، فوضع رأسه على كتفها وهو يشعر بأنه على وشك فقدان الوعي بأي لحظة، أمسكته مايسان بألمٍ، جسدها الرفيع لا يحتمل جسده الممشوق ومع ذلك حرصت بالا تتركه، تفحصت المصعد حتى صدح بالطابق الثالث عشر، فخرجت برفقته حتى وصلت للشقة، فشلت مايسان باستخراج مفتاحها، فقالت وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة:
_عمران المفتاح في الشنطة حاول تجيبه.
منحها نظرة مشوشة، فجذب حقيبتها المعلقة بذراعها وعبث بها بنصف عين، وجد ما يريد فقدمه لها، وعلق حقيبتها بذراعه بشكلٍ أضحكها رغمًا عنها، فانقطعت بسمتها فور أن همس:
_إنتِ واخده في الشنطة جواز سفرك ليه؟
تجاهلت سؤاله ودفعته للداخل، فأشار لها بتعبٍ على الأريكة:
_خليني هنا معتش قادر اتحرك.
رفضت معللة:
_أوضة النوم قريبة متقلقش.
انصاع لها حتى ولجت به لأحد الغرف الجانبية، عاونته ليجلس على الفراش، وجذبت الغطاء إليه فأبعده عنه وعاد ليجلس مجددًا وهو يردد بنفورٍ غريبٍ:
_هأخد شاور الأول.
تعجبت من أمره، فمنذ قليل أخبرها بأنه لا يحتمل والإن يرفض الراحة، ومع ذلك لم تعترض، عاونته مايسان بصعوبة تلك المرة بعد أن اشتد التعب به للغاية، فكان يئن وهو يردد بهمسٍ ساخرًا:
_أنا تعبتك معايا بس ده دين وبتردهولي.
حدجته من هذا القرب الخطر بنظرة استغراب، فقال:
_فاكرة واحنا صغيرين كنت دايمًا بشيلك على كتفي.
قست نظراتها تجاهه، فكاد أن يختل توازنه فرفع يديه معًا حولها، شعر بأنه سيسقط لا محاله ولكنه وجدها تسانده بكل قوتها، فاتبع خطاها لحمام الغرفة قائلًا بعاطفة غريبة تهاجمه:
_عمري ما كان ليا أصدقاء مصريين غيرك، كنت بستنى كل أجازة عشان أنزل مصر وأسمعك وانتي بتحكيلي عن دراستك وحياتك.
وابتلع ريقه بمرارةٍ تلثم لسانه ومازال نفوره يزداد:
_كان نفسي علاقتنا تفضل كويسة على طول يا مايا..
وتمعن بالتطلع لفيروزتها:
_يمكن لو كانت سابتني أختارك بارادتي مكنش شيطاني وزني إني مغصوب عليكي وإنك مش اختياري.
انهى حديثه بسعالٍ قوي جعلها تنتفض برعبٍ من حالته الغريبة، وبرعبٍ قالت:
_عمران مالك؟!
احتمل ليصل للمرحاض، فدفعها للخلف وسقط يتقيء بتعبٍ شديد، وكأنه يصارع الموت، بكت مايسان وهي تتأمله عاجزة عن مساعدته لا تعلم ماذا ستفعل؟
تركته وركضت للخارج ثم عادت بالهاتف تشير له:
_أنا هتصل بعلي.
جلس أرضًا على السجادة القريبة من حوض الاغتسال، يصرخ بصرامةٍ آمرة:
_أووعي تعمليها.
وجذب المنشفة يجفف فمه ورأسه يستند على الحائط بارهاقٍ:
_أنا بس تقلت في الشرب.
خرجت عن طور هدوئها بانفعالٍ:
_وبتشرب ليه مدام بتتعب منه!
فتح رماديته يسلطها بنظرةٍ إليها، وبسمة ساخرة تعج بما يخفيه:
_كنت بحاول أنسى قذارتي بس للأسف منستنيش.
وتابع بفتورٍ:
_كل مرة بخرج فيها من عندها بكون كاره حياتي، قربها في البداية بيكون مغري وبعد كده بقرف من نفسي وجسمي، بقرف من كل شيء وبكرهها هي شخصيًا.. بعاند وببعد وبرجع تاني أضعف وأقرب.
برقت بعينيها الباكية إليه، زوجها المصون يقص لها عن لياليه مع عشيقته بجراءة، ودت لو صفعته ليفق من مستنفع قذارته ولكن ما يهدأ اتفعالاتها حالته المزرية واعترافاته الغريبة بأنه ينفر من فعلها.
شرودها، صمتها، جعله ينتبه لما تفوه به، فرفع ذراعه يقبض على يدها لتفق محنية رأسها له لتراه يردد ورأسه تترنح ليدها:
_متبعديش.. خليكِ جنبي يا مايا.. ارجعيلي الصديقة اللي كانت بتهون عليا كل شيء، متكونليش الزوجة اللي بتعاتب وبتجلد أخطائي.
وضم يده حول ساقيها مستكملًا بصوت مختنق بالعبارات:
_متسبنيش، أنا محتاجلك.
تهاوى الدمع فوق وجنتها فرفعت يدها بآلية تامة تمررها بين خصلات شعره الفحمي، وكأنها تؤكد له وجودها، أزاحت دموعها قائلة بجمودٍ:
_لو مش قادر تعالى ريح وبكره إبقى خد الشاور.
رفض الخروج ونهض بصعوبة ليتجه للجزء المخصص للدوش، فنزع عنه جاكيته وقميصه المتسخ وحرر المياه لتندفع فوق جسده تمتزج بدموعه بعد ارتكابه لذاك الذنب الفاضح.
جلست مايسان على الفراش ليتحرر صوتها المكبوت ببكاءٍ عالي، لا تعلم ماذا تفعل لتتحرر من علاقته السامة، كلما حاولت اتخاذ موقف حازمًا يردعها شيئًا أقوى مما سبقه، ازاحت عنها دموعها فور رؤيته يخرج من الحمام ومازال يتمايل بمشيته، أسندت ذراعه حتى وصل للفراش، فجذبت الغطاء عليه وكادت بالابتعاد فوجدته يتشبث بذراعها وهو يردد بإلحاح:
_خليكِ جنبي.
قبضت على فستانها بتوترٍ، ولكنها رضخت له بالنهاية، تمددت مايسان لجواره لتجده يغفو بعمقٍ والانهاك يبدو عليه، فحدثت ذاتها وعينيها لا تفارقه:
_حيرتني معاك يا عمران!
********
دق رنين هاتفه المجاور لفراشه، فرفع ذراعه يتحسس الكومود حتى وصل لهاتفه، فحرر زر الرد ووضعه على أذنيه وهو يردد بنومٍ:
_أيوه.
أتاه صوتًا يجيبه:
_جمعتلك كل المعلومات عن شمس سالم يا آدهم باشا!
اعتدل بنومته وبسمة خبيثة تحيط بيه، ليمنحه الآذن مرددًا:
_سامعك… اتكلم.
*******
حملت الأغراض من بواب العمارة، وعادت للمطبخ تضع الأغراض على الصينية المستديرة، وكوب القهوة الذي انتهت المكينة من صنعه ثم توجهت للغرفة بارتباكٍ، لا تعلم ماذا سيكون رد فعله بعد افاقته. وتذكر ما قاله بالأمس، توقفت مايسان أمام باب الغرفة حينما وجدته يجذب هاتفه الذي لم يكف بالرن منذ الصباح ومازال يتجاهل الرد على المكالمات، والآن يلقيه على الفراش بغضب، انتبه عمران لها تدنو منه، فوضعت الصينية على الطاولة القريبة منه قائلة بنبرة تحاول جعلها جافة:
_افطر واشرب قهوتك عشان تنزل الشركة قبل ما فريدة هانم توصل هناك.
وكادت بالمغادرة فأوقفها حينما ناداها:
_مايا.
وقفت محلها تبتلع ريقها بتوترٍ، وخاصة حينما وجدته يدنو منها مرددًا بحرج:
_أنا أسف، بسببي خليتك تخرجي من البيت في وقت متأخر ومن ورا ماما وتقلت عليكي امبارح أنا بجد بعتذر.
أبعدت عينيها عنه وقالت دون النظر إليه:
_محصلش حاجة.. بس ياريت مترجعش للقرف ده تاني.
قال باصرار:
_مستحيل.. بعد اللي عشته امبارح مستحيل هشرب الزفت ده وآ.
قاطعه رنين الهاتف مجددًا، فزفر بغضبٍ وهو يتأمل المتصل، فألقاه مجددًا وتلك المرةٍ تسنى لها رؤية إسمها على الشاشة “ألكس”.
خشيت أن يمسك بها وهي تلقط ما بيده فتوجهت للخروج وهي تخبره:
_أنا غسلتلك القميص والجاكت، هجبهملك تلبسهم.
فور أن تأكد من ابتعادها قليلًا، جذب الهاتف يسجل رسالة صوتية سمعتها من تقف بالخارج
«ألكس علاقتنا انتهت هنا، إن كنتِ تحبيني مثلما تدعين ستقبلين الزواج بي، ما حدث بالأمس لن يعاد مجددًا، استهزائك على ديني، تقربك مني بتلك الطريقة لن يحدث الا بالزواج، أعدك تلك المرة إن رفضتي الزواج مني سأطردك خارج حياتي للأبد.»
قال كلمته الأخيرة وهو يلقي الهاتف على الفراش، مرددًا بندمٍ:
_مش هرتكب الذنب البشع ده تاني لو أخر يوم في عمري..
انتبه عمران لها تقف قبالته حاملة القميص والجاكت، دنى منها عمران وهو يحاول قراءة ملامحها إن كانت استمعت لمكالمته، ارتدى عمران القميص ومن ثم الجاكيت قائلًا:
_تسلم ايدك.
وحمل القهوة يرتشفها مرة واحدة، ثم قال:
_مش يالا ننزل الشركة قبل ما ماما تروح تفتش عننا هناك.
هزت رأسها بآلية تامة واتجهت للسراحة، جذبت حجابها وارتدته ثم حملت الحقيبة واتبعته للاسفل، فقادت سيارتها وهو لجوارها شاردًا بما حدث بالأمس وبالأخص بمساعدتها له بالرغم مما يفعله.
******
كانت بطريقها للجامعة حينما صدح صوت عجلات السيارة لتتوقف من بعده عن الحركة، مما جعل من تقودها تهبط وهي تتأمل ما يحدث بصدمةٍ، فركلتها وهي تصيح بضيق:
_مش وقتك خالص، أنا كده هتأخر على المحاضرة.
بحثت شمس بعينيها في محاولة للبحث عن سيارة أجرة، فلفت انتباهها سيارة سوداء تدنو منها، حتى توقفت قبالتها، ليهبط منه بقامته الطويلة قائلًا ببسمة هادئة:
_محتاجة مساعدة يا شمس هانم.
ارتسمت ابتسامة تلقائية على وجهها، ورددت بتذكرٍ:
_آدهم… كابتن آدهم!
يتبع…
اليوم خاص باحتماع رؤساء مجلس الادارة، وبالرغم من أهمية الإجتماع الا أنه كان شاردًا، عينيه مسلطة على المهندس الذي يتابع شرحه باستفاضة على شاشة الانجازات المطروحة من أمامهم، بينما يستكين عمران على ذراعه الساند على حافة المقعد المتحرك، يسحب عينيه تارة عن المهندس الذي يشير له بإعجاب لما يبديه بالمشروع القادم وفي الحقيقة لم يستمع لأي حرفًا قاله من الأساس، وتارة أخرى يسحب عينيه لمن تجلس على يمينه تتابع العمل بجديةٍ تامةٍ.
خيمتها نظرة عميقة من رماديته، لم تنتبه لها مايسان لانشغالها بتدوين بعض الملاحظات الهامة المتعلقة بالمشروع الجديد التابع للشركة، انتبهت لصوت المهندس المنادي:
_عمران باشا حضرتك معايا؟
انتبه الجميع لعمران وكذلك مايسان، استدارت إليه فاندهشت حينما وجدته يتطلع لها بشرودٍ، لعقت شفتيها بارتباكٍ من نظرات الموظفين حولها، وضحكات الموظفات الحالمة بتفاصيل قصة حب نابعة بينهما، على عكس ما يحدث، فنادته على استحياءٍ وهي تعدل حجابها:
_عمران!
لم ينتبه إليه، فمررت قدميها من أسفل الطاولة لتلكزه بقوةٍ، جعلته يرتد بجلسته متأوهًا بألمًا ليس كإفاقته على ما يحدث حوله، اعتدل بجلسته وتنحنح بخشونة، اتبعت أوامره الصارمة:
_كمل يا بشمهندس سامعك.
ابتسم وهو يخبره مازحًا:
_أنا خلصت يا فندم!
التقطت عينيه الهمسات الجانبية بين موظفينه، فنهض عن مقعده الرئيسي وهو يشير لهم بحزمٍ:
_ولما أنت خلصت لسه قاعدين هنا ليه، كل واحد يروح يشوف شغله!
جمعوا أوراقهم وغادر الجميع والابتسامة تشق الوجوه، فحك عمران لحيته بحرجٍ مما فعل، وخاصة حينما وجدها مازالت تجلس محلها وتطالعه بدهشةٍ، سحب جاكيته عن مقدمة المقعد وغادر من الباب الجانبي لمكتبه، فجلس على مقعده وهو يمرر يده على جبينه هامسًا بضيقٍ:
_ناقصة هي!
وجذب أحد الملفات الموضوعة جواره ليجبر ذاته على التركيز بالعمل دون التفكير بليلة أمس، فاستقبل هاتفه رسالة نصية جعلته ينصب اهتمامه فور رؤيتها تخص ألكس، فتح الرسالة ليجدها تدون له
«ألم تمل من الحديث عن زواجنا! حسنًا عمران سأثبت لك حبي الشديد لك، أنا موافقة على الزواج بك ولكن شرطي الوحيد أن تتخلص من زواجك الأول، فإن كنت تحترم دينك أنا أيضًا أحترم ديني، وديني يمنعني بالزواج من شخص متزوج، ولأعلمك بالأمر لا ينبغي لك الزواج إن قبلت أنا زواجك».
استفزته رسالتها، فعبث بأزرر هاتفه يجيب
«بربك ألكس، ألا تريني أحاول فعل ذلك منذ أشهر! فريدة هانم ترفض طلاقي من مايسان، والإ حينها سأخسر المال وكل ما أملك!»
ليته كان لجوارها ليتمكن من رؤية فزعها وخوفها على المال السبب الوحيد لتعلقها به، فوصلت رسالتها إليه بعد خمسة عشر دقيقة، بعد تفكيرها الميمون بالأمر
«إترك لي الأمر، أعدك بأنني سأجعل والدتك تتوسل لك لتطلقها.»
تجعد جبينه بدهشةٍ وراح يتساءل
«كيف ذلك؟!»
وصلته رسالتها ففتحها بلهفة
«لا تهتم عزيزي، أريدك أن تترك لي أمر تلك المعتوهة سأهتم بها..»
اغتظم غيظه لسماع لفظها البذيء، فترك هاتفه ورفع يديه لوجهه بتعبٍ من تلك الحلقة الدائرية التي يدور بها، انطلق رنين هاتف مكتبه، فتفحصه وهو يردد بسخطٍ:
_مش وقتك يا فريدة هانم!
ولكنه اضطر يحمل السماعة ليجيب بامتعاضٍ:
_صباح الخير.
أتاه صوتها مفزوعًا، مقبضًا، يستمع له عمران للمرة الأولى:
_عمران.
انتفضت حواسه فتساءل بقلقٍ:
_ماما إنتِ كويسة؟
رددت بارتباكٍ وتخبط بكلماتها الغير مرتبة والغير مسبق لها :
_مايسان مش في أوضتها، في شنطة على سريرها لمة فيها هدومها.. باينها سابت البيت..مايسان سابتني، مش عارفة هتكون راحت فين، دور عليها وشوفها فين أنا عايزة بنتي يا عمران!
أجابها سريعًا وملامح الخوف مرسومة على معالمه تأثرًا بسماع والدته بتلك الحالة:
_متقلقيش يا حبيبتي مايا هنا معايا في الشركة.
وصل إليه أنفاسها التي عادت تنتظم بعد عناءٍ، وبصوتٍ مهزوز قالت:
_بجد يا عمران ولا بتضحك عليا.. طيب سمعني صوتها.
شفق عليها، يعلم جيدًا ماذا تعنى مايسان لوالدته، فحمل سماعة الهاتف اللاسلكي، وأجابه بهدوءٍ:
_حاضر خليكِ معايا.
ودلف من الباب الجانبي لغرفة الاجتماعات، فوجدها مازالت تجلس محلها تراجع أوراقها، قدم لها عمران الهاتف قائلًا بثباتٍ:
_فريدة هانم.
التقطت منه الهاتف تجيب ببسمة ساحرة:
_صباح الخير يا ديدا.
انكمشت تعابيرها وهي تستمع إليها، وخاصة من مراقبة عمران لها، وكأنه يحاول تحليل تلك الاحداث، فقالت بتلعثم:
_لأ، أنا بس كنت بجمع الهدوم اللي مش محتاجاها وزاحمة الدولاب عندي، لكن أنا هسيبك وأروح فين، ده أنا حتى كنت هرجع بدري النهاردة عشان أروح معاكِ الجمعية.
أتاها صوتها المتلهف يخبرها:
_سيبي اللي في إيدك وتعالي حالًا، أنا من الخضة مش قادرة أتلم على أعصابي وشكلي كده هعاقبك على اللي عملتيه ده.
رددت بمزحٍ رغم تجمع الدمعات بمقلتيها:
_عقاب أيه بس، لا أنا جاية مسافة الطريق بإذن الله.
وأغلقت الهاتف ثم قدمته لعمران، وانحنت تجمع متعلقاتها تحت نظراته المتفرسة، فقطع صمته حينما قال:
_إمبارح كان معاكِ جواز سفرك وفريدة هانم بتقول إنك كنتِ محضرة شنطتك.
رتبت الأوراق بمجلد واحد قائلة ببرود:
_وده يخصك في أيه؟
مال بجسده ليستند على جسد الطاولة الزجاجية:
_يعني أيه يخصني في أيه؟ انتي ناسية إنك مراتي؟
ضحكت ساخرةٍ وتجاهلت التطلع إليه:
_لا مش ناسية، بس اللي فاكراه إنك مش معترف بجوازنا وبتحاول بكافة الطرق تنهي العلاقة دي.
ابتلع ريقه بارتباكٍ وبقى يتابعها بجمودٍ مصطنع، حملت مايسان حقيبتها واستدارت لتكون قبالته، فقالت بألمٍ:
_أنا حياتي مش هتتوقف على العلاقة السامة دي يا عمران، أنا عايزة أكمل حياتي مع الشخص اللي يقدرني ويحبني من قلبه.
وفتحت الباب الزجاجي وقبل أن تغادر منحته ابتسامة رقيقة وهي تخبره:
_متقلقش لما أرتبط بانسان تاني مش هنسى إنك كنت صديق طفولتي وهكونلك الصديقة دايمًا حتى لو أنت كنت رافض الاعتراف بده.
واستكملت بتسليةٍ:
_المواقف اللي بنتعرضلها في حياتنا هي اللي بتورينا احتياجنا بيكون لمين؟
وودعته بنفس البسمة الواثقة:
_مع السلامة يا عمران .
وتركته مقيدًا محله، يتطلع للباب الذي يتراقص من خلفها لشدة دفعها له، شعر بالاختناق يجوبه من حديثها الذي أيقظ غضبه وحنقه الشديد، مجرد تخيله أنها برفقة رجلًا أخرًا غيره جعلت الدماء تتصاعد بأوردته بشراسةٍ.
حرر عمران جرفاته باختناقٍ، فعاد لمكتبه يجذب مفتاح سيارته، وغادر وهو لا يعلم لأي وجهة سينطلق!
*******
منحها ابتسامة صغيرة رغم ثبات نظراته، ليخطفها لعجلة القيادة المركونة على الرصيف، رفع حاجبه بتمعنٍ اتبع نبرته:
_الظاهر إنك كالعادة محتاجة مساعدة.
رفعت كتفيها بقلةٍ حيلة:
_الظروف اللي بتعمل فيا كده، لكن أنا بسكوتة وقلبي أبيض والله متحملش كل اللي بيحصلي في حياتي ده.
قهقه ضاحكًا وهو ينزع عنه جاكيته الأسود، وأشمر عن ساعديه ليجذب من صندوق سيارته المعدات اللازمة ليبدل عجلة سيارتها، رفع آدهم السيارة باستخدام الحامل ومن ثم شرع بتبديلها بأخرى كان يحملها بسيارته.
راقبته شمس باهتمامٍ وهو يعيد ربطها، وقالت بحرجٍ حينما وجدته ينظف يده المتسخة بالمناديل بصعوبةٍ:
_كان نفسي أساعد بس للأسف مينفعش فستاني هيتوسخ.
ابتسم وهو يراقبها تشير لفستانها، وكأنه جوهرة ثمينة وتنحنح وهو يلقي منديله:
_ولا يهمك، أنا خلاص خلصت، هلم الحاجة بس.
رددت بامتنانٍ لما فعله:
_شكرًا يا كابتن.
ضحك بصوتٍ مسموع، وقال وهو ينحني يجمع أغراضه:
_العفو يا شمس هانم.
على رنين هاتفه فوضع الأغراض عن يده ثم رفع شاشته إليه، فأجاب بخشونة اعتلته:
_أيوه يا باشا.
تجهمت معالمه تدريجيًا بصورة لفتت انتباه شمس التي راقبته باهتمامٍ لمعرفة ماذا هناك؟
أسرع آدهم لسيارته، ففتح بابها الخلفي وهو يبحث عن شيئًا كان مبهمًا لشمس، فجحظت عينيه صدمة مما رأه، وقبل أن تستوعب ماذا أصابه، وجدته يجذب يدها مرغمًا إياها على اتباع خطاه، فهرول بها بعيدًا عن السيارتين، والاخيرة تتساءل بدهشةٍ:
_في أيه؟
دفعها أدهم لمقاعد الانتظار المصفوفة على طرف الطريق، فأرغمها على الجلوس أرضًا، ليحني جسده من فوقها ويديه من أعلاهما في تأهبٍ صريحٍ لمواجهة ما سيحدث، رفعت شمس وجهها إليه تتساءل برعبٍ من هيئتها:
_آدهم في أيه!
أتاها دوي الأنفجار الخاص بسيارته، ضاربًا سيارتها المجاورة للأخرى، فصرخت برهبةٍ وتمسكت بقميصه وهي تصرخ:
_أيه اللي بيحصل جاوبني!
رفع رأسه من خلف حافة المقعد يراقب الطريق بتمعنٍ، فتفاجئ بسيارتين تقترب من سيارته المتفحمة، عاد يختبئ من جديدٍ، وما يهاجمه بتلك اللحظة اكتشافهم بقائه على قيد الحياة.
المعركة الآن غير متكافئة بوجود شمس برفقته، لا يرغب في إيذائها بسبب عمله المفروض عليه، إن كان بمفرده كان ليقف شامخًا بساحة الحرب متباهيًا بقوته بالقتال، ولكنه من المؤكد لن يحتمل خسارة حياة أحدٌ بسببه، ماذا وإن كانت تلك الفتاة التي بدأت تعرف طريقها لقلبه!
جابت عينيه ذاك الطريق المنجرف خلف أعواد الخضرة الضخمة التي تسد الطريق عن المياه، فأخرج سكينًا صغيرًا مما جعلها تردد بذعرٍ:
_أنت هتعمل أيه؟
وتابعت وعينيها تراقب السيارات التي خرجت منها رجالًا مسلحين:
_ومين دول!
أشار لها بأن تخفض صوتها، ليهمس لها بحذرٍ:
_اهدي يا شمس، خليني أعرف أتصرف قبل ما يلاحظوا مكانا لإنهم لو وصلوا لينا أوعدك هيكون يومنا الأخير.
صعقت مما استمعت إليه، وابدت اعتراضها الفوري:
_وأنا مالي، إنت شكلك اللي مزعلهم بالجامد ذنبي أنا أيه؟
ضحك وهو يراقب ملامحها المذعورة بتسليةٍ، فصاحت بعصبيةٍ:
_وطي صوتك مش بتقول هيعرفوا مكانا!! وبعدين أنت ليه دايمًا منشكح كده حتى في المواقف اللي مينفعش حد يبتسم فيها!
رد عليها وهو يغمز لها بمشاغبةٍ:
_بستقبل موتي بنفس بشوشة.
ردت باجتياجٍ:
_استقبله انت براحتك أنا لسه صغيرة وفي بداية حياتي.
أشار بالسكين خلفه:
_حاولي تقنعيهم بده، يمكن وقتها يفكروا يمشوا ويسبوا وراهم شاهدة لطيفة على جريمتهم البشعة اللي هيرتكبوها مع الشخص اللي علم على قفاهم مرتين.
ابتلعت ريقها بارتباكٍ، فحاولت ادعاء قوتها الزائفة:
_وأنت بتتنيل تديهم بالقفا ليه يا عم إنت!
تمردت ضحكاته الرجولية بشدةٍ ومازالت تشير له بخوفٍ، فقال:
_آسف بس إنتِ جاية تنكتي وإحنا بنموت حضرتك!!
وتابع بخبث وهو يحاول نزع الغاب عن طريقهما:
_يعني ده جزاتي بدل ما تشكريني إني حميت حياة راكان باشا خطيبك من الكلاب دول زعلانه إني علمت عليهم!
زوت حاجبيها بدهشةٍ:
_يعني الناس دي عايزة تقتلك عشان كنت بتحمى راكان منهم؟
هز رأسه بتأكيدٍ وهو ينزع أخر الغاب المصفوف، لوت شفتيها وهي تهمهم بتريثٍ:
_يا أخي كنت سبتهم يخلصوا عليه وخلصتني من بروده وتقل دمه.
تطلع لها بعدم تصديق وخار ضاحكًا، فرفعت كفها تكبت ضحكاته وهي تردد برهبةٍ:
_اطلع اضحك بره قدامهم وسبني أعيش!
غادرته ضحكاته وهامت عينيه بقربها الشديد منه، يدها التي تلامس شفتيه ونظراتها المرتعبة، ارتبكت شمس من نظراته الجذابة تجاهها، فسحبت كفها بارتباكٍ لمسه آدهم فابتسم وهو يتابع عمله ببراعةٍ، وما أن انتهى حتى أشار لها:
_يلا.
هزت رأسها وانحنت على يدها تزحف حتى وصلت إليه، فمدت رأسها داخل الفجوة التي صنعها، ثم عادت إليه سريعًا تخبره بذعرٍ:
_ده طريق للبحر!
أكد بإشارة رأسه، وردد وهو يطالعها بتسليةٍ:
_عندك حل تاني؟
لعقت شفتيها وهي تخبره بتوترٍ:
_بس أنا مش بعرف أعوم!
ابتسم وهو يخبرها:
_متقلقيش يا شمس أنا معاكِ.
زادتها كلماته ارتباكًا فوق ارتباكها، فرددت بتشتتٍ:
_كلمة متقلقيش دي بتقلق أساسًا، ثم أنك ما صدقت ونازل من الصبح شمس شمس، أمال فين هانم اللي كنت بتقولها!
وأشارت باصبعها تعترض:
_لا أوعى الموقف ده ينسيك إني خطيبة راكان البارد اللي بتشتغل عنده أنا مسمحلكش.
سيطر على ضحكاته بصعوبةٍ وهو يشير بيديه كأنه يرحب بالملكة:
_آسف شمس هانم، ممكن لو سمحتي تدخلي بسرعة قبل ما الحيوانات اللي بره دول يعرفوا مكانا ووقتها هنتزف في شوال واحد لراكان باشا خطيبك!!
لعقت شفتيها برعبٍ:
_بتخوفني ليه يا عم!
ومرت لداخل الفجوة التي تحيطها الحشائش مرددة بضجرٍ:
_كان يوم مالوش ملامح لما وافقت ارتبط باللي اسمه راكان ده.
زحف من خلفها مبتسمًا، فأحاط الفجوة بالحشائش لتخفي محلهما، تفادت شمس فستانها الذي كاد بأن يسقطها بالمياه، فتمسك بها آدهم بقوةٍ جعلتها تعود لطريقها من جديد حتى وصلوا لنهاية الطريق المؤدي على الرصيف الأخر، هبط آدهم أولًا فمد ذراعه مشيرًا لها:
_هاتي ايدك.
تفحصت المسافة بينها وبين الرصيف بتمعنٍ، وليده الممدودة فعادت تختبيء خلفه الحشائش وهي تخبره:
_هستنى هنا لحد ما يمشوا وهطلع.
أجابها بنفاذ صبر:
_متبقيش جبانة يا شمس إطلعي!
فتحت الحشائش لتطل عليه من جديدٍ، قائلة بغضب:
_أنت بتتخطى حدودك يا كابتن، مش كفايا العربية اللي اتفحمت على الطريق!
واسترسلت بغيظٍ:
_لأ وأنا اللي كنت فرحانة إنك موجود وبتساعدني عشان ألحق المحاضرة، لا لحقت محاضرة ولا العربية سلمت!!
مرر يدها على وجهه بغضبٍ، مازال مكانهما غير آمنًا بالمرة، وهي غير مدركة لخطورة الموقف، وكأنه يحاول أن يلين رأس إبنة شقيقته البالغة من العمر اثنا عشر عامًا، فقال من بين اصطكاك أسنانه:
_شمس الموضوع خطير من فضلك خلينا نمشي من هنا وفورًا، وإن كان على عربيتك فأنا هعوضك صدقيني.
عادت تطل له من خلف الحشائش تخبره بغضب:
_أنا مش بقبل عوض يا كابتن، ثم أنك متعرفش أنا بنت مين ولا أيه؟
أدنى شفتيه بأسنانه وصاح بها:
_مش وقته الكلام ده بقولك الناس اللي بره دي لو وصلولنا هيصفونا!
اعترضت محتجة:
_يصفوك أنت أنا مالي بالليلة دي!
ضيق عينيه بنظرةٍ مستهزئة فأشار لها بخبث:
_أوكي أنتِ صح، عشان كده ههرب أنا وهسيبك تداري ببوكيه الورد اللي أنتِ قاعدة جواه ده، مع السلامة يا شمس هانم.
جحظت عينيها في صدمةٍ حينما وجدته يشرف على الابتعاد عنها، فصاحت بهلعٍ:
_أنت سايبني ورايح فين، يا آدهم… كابتن آدهم استنى، طيب مش خايف من راكان البارد يعاقبك انك سبتني ليهم..
لم يعيرها انتباهًا، فصاحت بصوتٍ أعلى:
_طيب استنى تنتاقش طيب.
صعقت شمس حينما استمعت لصوت طلقات نارية تجوب مياه البحر، بعد أن اكتشف الرجال أمر السيارة فارغة، فظنوا بأنه هرب للمياه، أمرهم كبيرهم باطلاق الرصاص الحي على المياه حتى يصبوه في مقتلٍ.
كادت بأن تلقي ذاتها من خلفه غير مبالية بما سيصيبها لبعد المسافة، فوجدته يسرع ليتلقفها بين ذراعيه، ارتجفت شفتيها وهي تردد بخوفٍ:
_بيضربوا نار، شكلهم فعلًا ناس خطيرة
لوى شفتيه بتهكمٍ:
_والله؟!
********
داعبت شفتيها ابتسامة ساحرة فور تسلل رائحة الزهور إليها، فتعلقت عينيها على باب الغرفة تلقائيًا تستعد لرؤيته، طرق على الباب ثم طل بجاذبيته الخاطفة:
_صباح الخير فطيمة.
ابتسمت فور رؤيته يتقدم لينزع زهور الأمس، ومن ثم وضع الزهور الجديدة بالڤازة القريبة منها، فجلس على المقعد المقابل لها قائلًا:
_يا رب تكوني النهاردة أحسن؟
بقيت صامتة كحالها وابتسامتها لا تفارقها، فتقوست معالمه هاتفًا بضيق:
_لا احنا اتخطينا مرحلة الصمت من إمبارح تقريبًا ومش مستعد إنك ترجعيلها تاني.
وعبث بحدقتيه مرددًا:
_هنعيد من تاني.
ضيقت عينيها بعدم فهم، فوجدته يخرج من غرفته ويعود بالطرق مرة أخرى، مكررًا:
_صباح الخير يا فطيمة.
صاحبتها ضحكة رقيقة:
_صباح النور دكتور علي.
تهللت أساريره واتجه ليقف قبالتها يكشف عن ساعديه وكأنه على وشك الاستعداد لشيءٍ هامٍ، فقال:
_بصي أنا جاي النهاردة وعندي نية تامة إني هنزلك الحديقة، ترفضي بقى تقبلي قراري صدر وأمره نافذ.
منذ ثمانية أشهر تجلس بتلك الغرفة، ولم تحبذ يومًا مغادرتها، بداخلها رفضًا تامًا للاحتكاك بأي رجلًا، مجرد تواجد أي طبيب بغرفتها كان يثير اشمئزازها، لولا وجود علي لجوارها، فقالت بإصرارٍ:
_مابغيت نشوف حتى واحد،انا كنخاف فاش كنكون وسط ناس كتيرة، عافاك خليني هنايا احسن.
(مش جاهزة أشوف حد، أنا بخاف لما بكون وسط ناس كتير، من فضلك خليني هنا أحسن)
فاقت رغبته اصرارها فقال:
_لازم تخرجي يا فطيمة، وجوك هنا طول الوقت هيضرك مش في صالحك.
وقال بهدوءٍ:
_متخافيش هكون جانبك وجاهز لأي رد فعل.
زوت حاجبيها بعدم فهم، فوجدته يخرج إبرة طبية من جيب بنطاله، فأشارت له بهلعٍ:
_لاا مابغيتش نضرب ليبرة.
(لأ مش عايزة أخد حقن!)
أعادها علي لجيبه بابتسامةٍ ماكرة:
_يبقى تسمعي الكلام.
هزت رأسها بطاعةٍ، ونهضت عن فراشها تبحث عن حذائها، ارتدته فطيمة ولفت طرف حجابها من حولها ووقفت قبالته قائلة بحرجٍ:
_أنا جاهزة.
فتح باب غرفتها وخرج وهي تتبعه بخطواتٍ مترددة، لفت انتباهها الطابق القابع به غرفتها، يغمره اللون الأبيض النابع عن صفاء العين، وبالرغم من الهدوء الشامل للمكان الا إنه لم يخلو من المارة، سواء من الاطباء أو المرضى، وكأنه هي بمفردها التي تحبس ذاتها بغرفتها.
ابتسم علي وهو يراقبها من طرف عينيه تتابع المكان باهتمامٍ، هكذا ما أراد أن تختلط سريعًا بالبيئة المحاطة بها.
استدارت فطيمة تتفحص المكان ولم تنتبه لتوقف علي عن الحركة، فارتطمت به وكادت بالسقوط لولا يده التي تشبثت بها وصوته الدافئ يصل لها:
_خلي بالك يا فطيمة، بصي قدامك.
ارتجف جسدها الهزيل، وتلقائيًا دفعته بعيدًا عنها، وأنفاسها تعلو بعنفٍ، منحها علي ابتسامة هادئة لم تغادره وقال مازحًا وهو يشير على المصعد:
_آسف إني وقفت فجأة، بس مش هينفع ننزل كل المسافة دي.
انفتح باب المصعد، فأشار لها بالدخول، وزعت نظراتها المرتبكة بينه وبين المصعد، صحيح أنها تراه أمانها ولكن بخروجها معه تختبر شيئًا لم تختبره من قبل، والآن أعليها البقاء معه بمفردها داخل المصعد!!
استمدت فطيمة قوتها الزائفة حينما وجدته يناديها بدهشةٍ:
_فطيمة إنتِ كويسة؟
أومأت برأسها وهي تلحق به، ففور انغلاق الباب حتى اهتز جسدها وتسلله البرودة، اضطربت أنفاسها رويدًا رويدًا وهي تراقب مكان وقوفه، فابتعدت لأخر زوايا المصعد.
تفهم علي حالتها لذا بقى ثابتًا، لم يعير ما يحدث أي اهتمامًا قد يضايقها، هو بالنهاية ليس شخصًا عاديًا، هو طبيبٍ نفسي يحلل تصرفاتها ويعلم بماذا تفكر؟ ولماذا تشعر؟.
كان احترافيًا بالتعامل معها، فلم يبدي أي اهتمام لوقوفها بعيدًا عنه ولم يتساءل عما يصيبها ليقلل من تنفسها هكذا، توقف المصعد فخرج أولًا وهو يقول دون النظر إليها:
_وصلنا.
لحقت به للخارج، فوقفت تتطلع للحديقة بنظرةٍ انبهار، طافت حدقتيها كل ركنٍ بها، لم تكن كبيرة ولكنها منسقة بزهور ترآها لأول مرة، تملأها عدد من الطاولات، وعدد من المرضي المرتدون لنفس لون جلبابها، أشار لها على على الطاولة القريبة منهما متسائلًا بلباقةٍ:
_تحبي نقعد هنا؟
اكتفت بإيماءة من رأسها، فاتجه للطاولةٍ ثم جذب المقعد ليشير لها بالجلوس، فجلست وهي تردد على استحياءٍ:
_شكرًا.
جلس علي قبالتها، مستندًا على الطاولةٍ بجسده العلوي عليها، ليسحبها من دوامة تشتتها:
_شوفتي بقا إنك سايبة الجمال كله تحت وقاعدة حبسة نفسك فوق.
تكلفت بسمة على شفتيها، وعادت تتطلع من حولها بفضولٍ، متجاهلة حديثه عن مداخل الحديقة ووصفه الدقيق عن كل مكانٍ بها، ابتسم علي حينما تأكد بأنها لا تصغي لحرفٍ واحدٍ مما يقول، فردد بصوته الرخيم:
_فطيمة!
عادت برأسها إليه، ورددت بحرجٍ:
_بتقول حاجة يا دكتور؟
استند على يده وتابع بنفس بسمته:
_كنت بقول حاجات بس الظاهر إن جمال الحديقة خطفك مني.
ابتسمت وهي تخبره:
_المكان فعلًا جميل أوي.
بداخله يهمس دون توقف “مفيش في جمالك!”
وتنحنح قائلًا:
_شوفي بقى، عشان سمعتي الكلام هكافئك بالرغم من إنك غلبتيني.
تساءلت باستغرابٍ:
_مكافأة أيه!
أخرج علي هاتفه ثم حرر زر الاتصال بعدما فعل السماعة الخارجية، فتابعته باهتمامٍ لمعرفة مقصده، زف إليها صوتًا رجوليًا مألوفًا لمسمعها:
_دكتور علي،إزيك.
ابتهجت للغاية، ورددت بلهفةٍ:
_مراد!
_فطيمة، أخيرًا سمعت صوتك!
وتابع بحماسٍ:
_طمنيني عاملة أيه؟
اتسعت بسمتها وهي تجيبه:
_أنا كويسة الحمد لله، أخبارك إنت أيه؟
_بخير بفضل الله.. المهم إنتِ عايزك تفوقي كده وتستردي صحتك،والأهم إنك تسمعي كلام دكتور علي.
ابتسم علي وأشار باصبعيه للهاتف:
_سمعتي.
أجابته بلطفٍ:
_حاضر.. أنا بجد مبسوطة أوي أني اتكلمت معاك.
_وقريب هاجي بنفسي أزورك بس عشان ده يحصل لازم تخفي وتكوني أحسن عشان أخدك في إيدي على مصر وأعرفك على حنين وبناتي مرين ومارال هيتجننوا عشان يشوفوكي.
ببسمة مشرقة قالت:
_ما شاء الله، ربنا يباركلك فيهم وتفرح بيهم يا رب.
اتاها صوت ضحكاته ومن بعدها سخريته بالحديث:
_بتدعي عليا أني أكبر ، ماشي يا فطيمة مكنش العشم!
شاركته الضحك وتحدثت بصعوبةٍ:
_قولي الدعوة اللي تحبني أدعهالك وأنا أدعي.
رد عليها بجديةٍ تامة:
_مفيش عندي شيء أتمناه غير إنك تقومي بالسلامة.
تمعنت ببسمتها وهي تردد بهمسٍ:
_يا رب.
تبادلا الحديث حتى أغلق مراد معها على وعد بأنها ستجاهد لتلقي خلفها الماضي بما يحمله من آهات قاتلة، كانت مكالمة الجوكر لها في الصميم مثلما توقع علي، فقد تبدلت فطيمة من حالٍ للأخر، فجلس يراقبها خلسة وكلما أمسكت به عينيها ادعى انشغاله بمراقبة هاتفه، حتى أخرج لها دفترًا صغيرًا وقلمًا مرددًا:
_أنا هسيبك تقعدي لوحدك شوية في الجمال ده، وعايزك تدوني بالدفتر ده ذكريات جميلة لسه فاكراها لحد النهاردة عن طفولتك.
جذبت الدفتر منه ببسمةٍ هادئة، ففتحت أول صفحاته لتتفاجئ بأنه يدون “فاطيما” بأول صفحاتها، فرفعت عينيها إليه وقالت:
_انا اسمي فاطمة بالالف و لكن في المغرب كنقولوا فاطما و لا فطيمة
و انا انا دارنا كيقولو لي فطيمة.
برق بدهشةٍ، فجذب الدفتر يمحي إسم فطيمة ويكتب “فاطمة” ،وأعاده لها وهو يسألها:
_يعني أناديكي فاطمة ولا فطيمة؟
أجابته ببسمة صغيرة:
_ الاسم اللي يعجبك و تبغيه عيطلي بيه
ردد بتيهةٍ:
_ما تكلميني مصري ينوبك ثواب!
تعالت ضحكاتها وهي تعيد ما قالته:
_الاسم اللي يعجبك ناديلي بيه.
هز رأسه باقتناعٍ:
_اتفقنا.
_علي!
صوتًا ذكوريًا اقتحم جلستهما، فرفعت فطيمة رأسها تجاه هذا الشاب الذي يملك ملامح مشابهة لعلي، ابعد مقعده ونهض يردد بدهشةٍ:
_عمران!
جابت عينيه الفتاة التي يجلس برفقتها، وقال دون أن يحيل عينيه عنها:
_روحتلك مكتبك قالولي إني أكيد هلاقيك مع فطيمة!
وتابع بمرحٍ:
_وكل ما أسأل حد يقولي نفس الجملة لدرجة إني بقى عندي فضول أشوفها.
وتابع وهو يشير بعينيه إليها:
_هي دي بقى فطيمة؟
بدى الارتباك يجوب ملامحها، فأجبر علي رسم بسمة متكلفة على وجهه وهو يسحب عمران بعيدًا عن مقعدها مرددًا:
_ده عمران أخويا الصغير يا فطيمة، هو بس مشاكس حبيتين وداخل على هزار على طول.
صحح له مفهومه الخاطئ:
_ أنا بني آدم عشري وقلبي أبيض والله.
سحبه علي مشيرًا بيده للممرضة التي جلست محله، بينما اتجه بعمران للطاولة القريبة من فطيمة، جلس قبالته يتساءل بقلقٍ:
_خير يا عمران.
لفظ أنفاسه بصوتٍ مسموع، واستكان على سطح الطاولة بنصف العلوي، مجاهدًا لخروج كلماته:
_علي إمبارح كنت سخيف أوي معاك فأنا… آآ… آسف على اللي حصل إمبارح مش عايزك تزعل مني إنت أخويا الكبير وآ.
قاطعه علي ببسمته الهادئة:
_عمران مفيش داعي إنك تكمل كلامك، أنا مزعلتش منك ولا عمري هزعل، أنا زعلي كله عليك وعلى الحالة اللي أنت حاطط نفسك فيها.
مرر يده بين خصلات شعره التي تناثرت بفعل الهواء العليل، ثم قال بفتورٍ:
_علي، إمبارح قولتلي أطلق مايسان وأسيبها لغيري يعوضها ظلمي.
هز رأسه بتأكيدٍ لتذكره ما قال، فلعق عمران شفتيه مضيفًا بارتباك:
_وقتها حسيت إني شوية كمان وهضربك.
احتدت نظراته بغضبٍ، فأسرع يبرر له:
_مايسان النهاردة قالتلي نفس جملتك حسيت اني هقتلها بردو.
وتابع بضجرٍ ينتابه:
_علي أنا مبقتش عارف أنا عايز أيه، فجيتلك تعالجني من الحالة النفسية اللي أنا فيها دي.
ذم شفتيه بضجرٍ، ثم قال:
_إنت اللي حاطط نفسك في الحالة المرضية دي يا عمران.
بجديةٍ تامة أجابه:
_أنا عقلي مشتت ومش قادر أشوف شيء، بس اللي أنا قررته إني مستحيل هغضب ربنا تاني يا علي، وقولت لألكس الكلام ده مستحيل هسمح لنفسي أعيش حالة الخوف والرعب والاشمئزاز اللي بكون فيها.
ضم يده بمقدمة أنفه يحاول تهدئة إنفعالاته، لا يرغب أبدًا بالاندفاع بحديثٍ متهور قد يفقده أخيه، فقال باتزانٍ:
_عمران أنا عايز أسألك سؤال وتجاوبني عليه بصراحة.
هز رأسه وتابعه باهتمامٍ، فاقترب علي من الطاولة ثم قال وعينيه تقابل عينه:
_لما حصل بينك وبينها علاقة كانت مرتها الأولى؟
مسح بيده وجهه، وكأنه لا يود اجابته لمعرفته ما سيقول أخيه ومع ذلك ردد باقتضابٍ:
_لأ.
ألقى الكرة بملعبه، فقال بثبات:
_وهتأمن تديها إسمك يا عمران؟
سيطر على غضبه القاتل، وقال بتعصبٍ واضح:
_ألكس اتغيرت من وقت دخولي لحياتها يا علي، وبعدين الحب مش اختيار، ولو كان بإيدي كنت أكيد اختارت مايسان.
زفر بمللٍ من الوصول لحل ينهي معضلة أخيه، فصاح بتريث:
_يعني إنت عايز أيه دلوقتي ألكس ولا مايسان؟!
تنحنح وهو يجلي أحباله الصوتية:
_الاتنين.. عايزهم الاتنين.
جذبه من تلباب قميصه بعنفٍ:
_وحياة أمك!
تلفت حوله وهو يحاول تحرير ذاته مرددًا:
_علي عيب الناس حولينا، وبعدين لو فريدة هانم سمعتك بتقول الكلام ده هيجيلها سكتة قلبية!
تفحص الأوجه من حوله، وحينما وجد الجميع يراقبون ما يحدث بينهما تركه متمتًا:
_قوم امشي من هنا يا عمران، بدل اللي ما عملتهوش امبارح هعمله النهاردة وقدام الناس.
حمل مفاتيح سيارته وهو يشير له:
_طيب يا حبيبي همشي أنا دلوقتي ولما تهدى وتعقل كده بالتعامل مع المرضى بتوعك أبقى أجيلك.
واستدار عمران يشير له بمزحٍ:
_بنصحك تشوف دكتور نفساني هينفعك أوي في شدة الاعصاب اللي أنت فيها، سلام.
أوقف عمران رنين هاتفه، فوقف على مسافة من أخيه يجيب ومازالت الابتسامة على وجهه:
_أيوه أنا عمران سالم.. خير؟
اكفهرت معالمه وهو يصيح بصوتٍ مرتفع:
_عربية أيه وإنفجار أيه، أنت بتتكلم عن مين؟!
هرول علي إليه يتساءل بقلقٍ:
_في أيه يا عمران؟
وجده يهمس بصدمةٍ وهو يبعد هاتفه عنه:
_شمس!
جذبه علي ليقف قبالته يصيح:
_مالها شمس؟!
*******
وضع النادل العصير على الطاولةٍ، فشكره من يتابع مسح قميصه الأبيض المتسخ بالمناديل المبللة، بينما تراقبه الاخيرة بصمتٍ، فجذبت كوبها بعدما انهت رسالتها بارسال إسم المطعم المتواجدة به لعلي، وارتشفت الكوب عله يزيح مرارة حلقها، ومازالت تخطف النظرات إليه، فتحررت عقدة لسانها السليط قائلة باستهزاءٍ:
_بقالك ساعة بتمسح قميصك وبيحاول يقنعك أنه مش هينضف وإنت مازلت مصر!
ابتسم آدهم واستمر بتجفيف صدره المتسخ بسواد السيارة، قائلًا بخبث:
_ده طبعي مش بمل بسهولة.
رمشت باهدابها وهي تتابعه، وقالت ضاحكة:
_خليه كده على الأقل تبقى محتفظة بالبقايا الأخيرة من عربيتي المرحومة.
تعمق بالتطلع لعينيها وقال ببسمة واثقة:
_على فكرة عجلة عربيتك عطلت بفعل فاعل.
ابتلعت ريقها بارتباك، ودنت منه تتساءل بخوف:
_قصدك أيه؟ هما اللي عملوا كده عشان يقتلوني!
تمردت ضحكاته الرجولية، فنفى ذلك مرددًا:
_لأ مش للدرجادي.
التقطت أنفاسها براحة غادرتها حينما استطرد:
_أنا اللي عملت كده.
برقت بعينيها بصدمة:
_إنت! طب ليه؟
ترك آدهم المنديل عن يده ثم مال برأسه إليها يهمس:
_كانت نيتي أشوفك على الطريق وأقف أصالحلك العربية وبعديها تعزميني في مكان على قهوة، أو على الأقل تخدي رقمي وتشكريني حاجة شبه الأفلام كده بس صدقيني مكنتش أعرف إن الكلاب دول مش هيلاقوا غير الوقت اللي هقابلك فيه ويهاجموني.
توقف عقلها عن استيعاب ما يخبرها به، فتساءلت بعدم تصديق:
_مش خايف أقول لراكان أنك بتحاول توقعني؟
اتسعت بسمته وهو يجيبها دون مبالاة:
_أنا مبخافش من حد يا شمس.
وبجديةٍ تامة تناقض نبرته قال:
_إنتي نقية وتتحبي بجد عشان كده هقولك إبعدي عن راكان يا شمس، ميستهلكيش.
كادت بسؤاله لماذا يخبرها تلك الكلمات؟ ولماذا يحاول التقرب منها، فقطعها صوت أخيها المنادي بلهفة:
_شمس.
التفتت تجاه مصدر الصوت، فوجدت أشقائها، ضمها علي إليه بلهفةٍ وأبعدها وهو يتفحص جسدها بنظرةٍ متفحصة:
_طمنيني حصلك حاجة؟
هزت رأسها نافية وقالت وعينيها تجوب آدهم:
_خرجت من المكان بفضله.
تركزت نظراتهما عليه، فتعرف عليه عمران فقد رأه أكثر من مرةٍ برفقة راكان، فقال:
_مش إنت آدهم الحارس الشخصي لراكان.
نهض عن مقعده يشير له بهدوءٍ، فصافحه عمران بامتنان:
_مش عارفين نشكرك ازاي حقيقي جميلك ده مش هننساه أبدًا.
أجابه وهو يسحب جاكيته الموضوع على المقعد:
_مفيش داعي للشكر يا باشا ده واجبي.
رد عليه علي ومازال يحتضن شقيقته:
_ربنا بعتك بالمكان ده بالوقت المناسب.
وتساءل بفضول:
_بس ازاي ده حصل، فهمني.
خطف آدهم نظرة سريعة لشمس قبل أن يجيبه بذكاءٍ:
_في الحقيقة أنا السبب في اللي حصل، عربيتي سخنت ودخنت بشكل مخيف، وقفتها ونزلت أشوف في أيه فلقيت الامور ساءت وعلى وشك إنها تنفجر.. وللأسف كانت شمس هانم عربيتها عطلانه وعلى بعد قريب مني، فنبهتها للموضوع وبعدنا عن المكان والحمد لله مفيش حد اتأذى.
ردد علي وهو يطبع قبلة على جبينها:
_الحمد لله، أنا روحي راحت لما جت المكالمة دي لعمران لو كانوا اتصالوا بالبيت كانت فريدة هانم جرالها حاجه.
ربت عمران على ظهر شمس بحنانٍ:
_جت سليمة الحمد لله.
ابتسمت شمس وهي تنصاع لذراعه التي تتلقفها بعيدًا عن علي لاحضانه هو، فهمس لها عمران بتسليةٍ:
_فريدة هانم هتعاقبك بحرمان دائم من العربيات طول حياتك.
منحته نظرة ماكرة:
_مين اللي هيقولها؟!
رفع يده ببراءةٍ:
_أنا مش هتكلم في سبيل أنك متفتحيش بوقك ولا تفتني عليا في أي كارثة جاية هرتكبها، علوى اللي جنبك ده اللي لسانه فالت أمني عليه بس للأسف مالوش لوية دراع ولا حاجة تساوميه عليها.
راقب آدهم حديثهما ببسمةٍ هادئة وخاصة حينما صاح علي بحزمٍ:
_أنا مش جبان زيكم.. عمومًا لينا بيت نتساوم فيه.
واستدار يقف قبالة آدهم، يصافحه من جديد وتلك المرة عينيه تقابله وجهًا لوجه، فقال وهو يضيق نظراته تجاهه:
_هو أنا ليه حاسس إني شوفتك قبل كده، على ما أعتقد بمصر!
لم تتلاشى بسمة آدهم وأجابه بثبات:
_جايز، أنا نزلت مصر أكتر من مرة يمكن حالفني الحظ إني قابلتك ولو حصل واتقابلنا تاني هنكون عارفين بعض.
ابتسم لرتابة حديثه وقال بوداعةٍ:
_إن شاء الله.. بشكرك لتاني مرة.
ودعهما آدهم ووقف يراقبها وهي تصعد برفقة علي للباب الخلفي من سيارة عمران، فما أن صعدت حتى طلت عليه بنظراتها عبر النافذة، كأنه تودعه على استحياء، تاركة البسمة تشدو على وجهه الجذاب.
*********
وضعت المال على الطاولة، فتلقفه الشابين الجالسان من أمامها، لتؤكد عليهما وهي تنفث دخان سيجارها:
_ستفعلان ما طلبته منكما غدًا بحفل ليام وإميلي.
وعادت تكرر تنبيها الحازم:
_واحرصا على أن تنجزان مهمتكما والا لن أدفع لكم دولار واحد بعد الآن.
ووضعت يدها بحقيبتها تخرج لهما صورة الفتاة وبطاقة دعوة، ثم ألقتها على الطاولة أمامهما وهي تستطرد:
_تلك هي بطاقة الدعوة لدخول الحفل، وغدًا ستكونان بالموعد المحدد وستنتظران مني إشارة.
هز رؤسهما وغادروا معًا، بينما نفثت هي دخانها وهي تردد ببسمةٍ استمتاع:
_حسنًا مايسان فلنري من منا ستنتصر بتلك المعركة، أنا أم أنتِ!
يتبع…
اندهش حينما لم يجده يتابعهما للداخل ، فبحث عنه حتى وجده يسرع لسيارته مجددًا، تعجب علي من خروج عمران بهذا الوقت، فترك شمس تستكمل طريقها للخارج ثم عاد أدراجًا ينادي:
_عمــران.
كاد باجتياز البوابة الخارجية للمنزل حينما استمع لصوت أخيه، اقبل إليه يتساءل:
_مش طالع ولا أيه؟
أحكم غلق جاكيت بذلته الآنيقة حينما داهمه التيار البارد وقال:
_بقالي فترة مشوفتش الشباب هروح الشقة يمكن أشوف حد فيهم.
دث يده بجيب بنطاله وهو يشمله بنظرةٍ متفحصة:
_الشقة عند أصحابك يا عمران، مش الفندق.
أكد له سريعًا:
_علي أنا وعدتك مش هرجع للقرف ده تاني صدقني.
قال وهو يعود للداخل:
_أتمنى..بلغهم سلامي لحد ما أقابلهم.
رفع جسده عن الأرض ليحتل سيارته المكشوفة:
_يوصل يا مان.
قاد عمران سيارته ليصل بعد أقل من ثلاثون دقيقة للعمارة السكنية الراقية، صفها بمحاذاة الطريق وصعد للأعلى يلهو بمفاتيحها وهو يدندن بصفارته الهادئة، حتى وصل للطابق الخامس من المبنى، دث مفتاحه وولج للداخل مبتسمًا، متلهفًا للقاء أصدقائه المقربون، بحث بالغرف أولًا وهو يتمنى لقاء أحدهما، فانتبه للنور المضاء بالردهة، أسرع إليها فتهللت أساريره وردد:
_جمال!
استدار بمقعده القابل للحركة، فمنحه نظرة خاطفة ثم عاد لجلسته يرتشف كوبه لأخره بجموحٍ، صعق عمران مما رآه فاجبر ساقيه على تتبعه رغمًا عن تثاقلها، أصبح الآن قبالته لا يفصلهما سوى طاولة البار المطل على كورن مشروبات القهوة وغيرها، فحمل الزجاجة الموضوعة أمامه بعدم استيعاب:
_إنت جبت دي منين؟
ابتسم من يحتضن رأسه الثائرة بصداعٍ قاسٍ، وقال:
_أكيد يعني كنت هلاقي جوه أوضتك.
جذبه عمران بقوةٍ كادت باسقاط جسده المترنح:
_من أمته يا جمال وإنت بتشرب القرف ده، ده إنت كنت بتعنفني لو بتشوفه معايا، أيه جرالك؟
أزاح ذراعه عن قميصه وعاد يستند على البار ساكبًا كوبًا ويلتهمه غير عابئًا بنظراته ولا بقميصه المبتل، وكأنه ينتقم من نفسه هنا، كز عمران على أسنانه بغضبٍ، فأبعد الزجاجة لأخر البار وصاح بعنفوانٍ:
_كلمني هنا، من أمته وإنت بتشرب القرف ده؟
ابتسم وهو يجيبه:
_من النهاردة، ولو نساني اللي بواجهه هدوام عليه زي ما إنت بتداوم عليه عشان تنسى مشاكلك.
مرت يده بخصلات شعره بتعصبٍ شديد، فسحب مقعد مجاور له وجلس يخبره بهدوءٍ:
_كنت بضحك على نفسي يا جمال، السُكر مش حل للي بنواجهه، كفايا التقزز وكره النفس اللي هتحس بيه بعد ما تفوق ومفيش حاجه هتتسنى.
ابتلع ما بكوبه وقال ببسمةٍ صغيره رسمت على وجهه الحنطية مستنكرًا:
_مش مصدق انك اللي بتتكلم، ما ياما بذلنا أنا وأخوك مجهود كبير معاك عشان تبطل، جاي دلوقتي توعظني!
اتجهت نظراته البنية لهاتفه الجانبي الذي يعاد للرنين مجددًا، فجذبه جمال وأغلقه نهائيًا، ثم عاد يرتشف الكوب ببرودٍ، وزع عمران نظراته بين حالة رفيقه والهاتف، ثم تساءل:
_إنت اتخانقت مع صبا تاني؟
ضحك وهو يجيبه ساخرًا:
_قصدك عاشر ومليون!
استمر بحديثه ليعلم ما به، فقال:
_ليه حصل أيه؟
لف المقعد ليكون مقابل إليه:
_الست هانم من الفضى اللي بقى عندها هنا بقت بتشك فيا، مفكرة إني بعرف واحدة عليها، وكل يوم بتفتش في موبيلي.
وتابع ببسمةٍ حملت حزنًا وألمًا رغم تعمده الاستهزاء:
_ده غير اسطوانة كل يوم عن تضحيتها العظيمة إنها سابت أهلها ومصر وجت عاشت معايا هنا في انجلترا، شايفة نفسها بطلة ولازم أقدر انجازاتها!
وتجرع ما بكوبه وهو يشير له:
_متعرفش إن لولا وجودي هنا وتعبي ليل نهار في الشغل مكنتش قدرت أحقق كل اللي وصلتله ولا كان باباها قبل بالجوازة دي من الأساس.
وتابع بغدافية جعلت دمعاته تبرز بحدقتيه:
_متعرفش أنا موجوع أد أيه وأنا عايش هنا بقالي سبع سنين متغرب عن أهلي عشان أقدر أكونلها الزوج المناسب والابن اللي يقدر يتحمل مسؤولية أبوه وأمه، متعرفش إني بموت ألف مرة وأنا بعيد عن عيلتي ونفسي أكون معاهم بس السنة اللي هفكر فيها أنزل مصر هي اللي هقرر أخوض رحلة العجز قدام مصاريف علاج والدتي ودراسة أخويا الصغير، وجهاز أختي، وأكون عاجز عن طلبات بيتي، وأنا مش جاهز أتحمل كل ده يا عمران.
تدفقت دمعة خانت صموده المزيف وهو يبتسم بتهكمٍ:
_لما خلصت أوراقها من سنة كنت فاكرها جاية تشيل عني وتشاركني وحدتي، فرحت وأنا بتخيل حياتي معاها، وكنت متحمس أرجع شقتي ألقى حد مستنيني، متحمس أرجع لحياة مريحة ألقى فيها أكل بيتي واهتمام بلبسي مقفش أنا أعمل أكلي لنفسي وأكل لوحدي.
واستدار برأسه إليه يخبره بضحكةٍ مهزومة:
_مكنتش أعرف إني هفتح وجع جديد ليا فوق أوجاعي، وإني هتمنى ساعات الشغل تطول عشان مرجعش البيت لنكدها.
تفحص كوبه الفارغ بضجرٍ واستمر بحديثه:
_طلعت معاك حق يا عمران لما سبت مراتك وبصيت على واحدة تشوف مزاجك من غير ما تقلب حياتك نكد.
وناوله الكوب يشير إليه:
_فرغلي كأس.
جذب عنه عمران الكوب وألقاه أرضًا بكل قوته، ثم رفعه من تلباب قميصه صارخًا بعصبية:
_فوق يا جمال، القرف ده لو دخل حياتك هيدمرك، أنا غلط وحياتي كلها غلط، مش عايزك تكون زيي خليك نضيف زي ما أنت.
ترنح جسده بتعبٍ، فتمسك به عمران دون الافلات عن حديثه:
_مشاكلك مع مراتك تافهة وتتحل، شاركها وجعك هتحس بيك.
ومنحه نظرة ساخطة وهو يتابع:
_ثم أنك اللي بتديها الفرصة لده، أيه اللي مقعدك هنا لحد دلوقتي، سيف قالي إنك بتبات هنا بقالك فترة ما طبيعي إنها تشك فيك!
مال برأسه على كتف عمران، مغلق عينيه بارهاقٍ:
_أنا تعبان أوي يا عمران.
ضمه عمران بحزنٍ شديد، لا يستوعب إن صديقه المثالي يترك طريقه المستقيم وينجرف للمحرمات فجأة، بعدما كان يقضي يومه ينصحه بالابتعاد عن المشروب وعن ألكس اللعينة، كان ينفر من حديثه تارة ويحاول الاستماع له تارة أخرى.
يشعر دائمًا بأنه النسخة الشبيهة بأخيه علي، لذا كان سببًا منطقيًا لحب علي لجمال، ودوام صدقاتهما طوال تلك السنواتٍ.
تحرر باب الشقة من جديدٍ، فاستمع عمران لخطوات تقترب منهما، ألقى المفتاح جانبًا ونزع عنه جاكيته وهو يتفحصهما بنظرة ساخطة اتبعت نبرته المرحة:
_جمال في حضن عمران، لأ قلبي الكبير مرحب بالأفكار المنحرفة.
وإتجه بقامته الممشقة للأريكة، مضيفًا:
_في البلد دي نتوقع أي حاجة حقيرة!
دفع عمران جسد جمال للمقعد مجددًا، ثم اتجه ليجلس جواره مرددًا باستغرابٍ:
_أيه جابك إنت كمان دلوقتي يا يوسف؟
سحب نفسًا طويلًا ورفع ساقيه ليستند بهما على الطاولة الزجاجية:
_مفيش رجعت البيت متأخر كالعادة، فالمدام قالتلي هتلاقيك كنت عند صحابك المقاطيع، ومن هنا لهنا قالتلي روح بات عندهم يا دكتور يا محترم.
حل وثاق قميصه وهو يتابع:
_بس كده فاتصلت بسيف أخويا أعرف منه مين من المقاطيع فيكم موجود عنده، قالي إنه بره الشقة بيجيب شوية طلبات وميعرفش مين فثكم مشرف عنده النهاردة، فجيت أبص وبيني وبينك زهقت من الخلقة اللي متعود أشوفها كل يوم.
قال كلماته وهو يشير على جمال الملقي رأسه على الطاولة.
رد عليه عمران بضيق:
_البيه سايب بيته بقاله فترة ومقضيها هنا.
هز رأسه قائلًا:
_عارف عارف يا حبيبي، ما أنا بجبله الأكل كل يوم وبتعاقب بتتضيف الشقة من سيف، بيقولي ورايا امتحانات ومش فاضي لهلس صحابك.
اختنق عمران فحرر جرفاته ونظراته لا تغادر جمال بحزنٍ، بينما تركزت نظرات يوسف المتفحصة له، فسأله:
_هو نام هنا ليه ما يقوم يدخل أوضته.
التقطت عينيه زجاجة الخمر الموضوعة جانبًا، فزفر بسخطٍ:
_خمرة تاني يا عمران، إنت مبتحرمش!
سدده بنظرةٍ حادة، فابتسم ساخرًا:
_أنا لسه داخل قدامك من شوية، واتفاجأت بالبيه أخد مكاني.
جحظت عينيه في صدمة حقيقية، فاعتدل بجلسته المريحة وهو يردد بعدم تصديق:
_إنت تقصد مين؟
انتصب واقفًا بدهشةٍ:
_لأ.. جمال مستحيل يعمل كده!!
وأسرع إليه فأبعده عن الطاولة بعصبيةٍ بالغة:
_قوووم فوقلي.
دفعه جمال وعاد يلقي برأسه على الطاولة من جديد، مرددًا:
_بعدين يا يوسف، سبني.
اشتعل الغضب بمقلتيه، فبحث عما يعاونه بافاقته، فسحب الاناء الممتليء بالثلج، ودفعه إليه بأكمله، انتفض جمال بجلسته وصاح:
_إنت غبي يالا، بقولك تعبان وجسمي كله مكسر تحدفني بالتلج!
طرق على صدره وجذبه ليقف أمام عينيه الملتهبة:
_أقسم بالله يا جمال لو متعدلت لادفنك هنا، سيف كان بيشتكيلي منك بس أنا متوقعتش إن أمورك توصل لهنا.
فتح عينيه وهو يجيبه بمزحٍ:
_ليه يا دكتور كنت فاكر حالتي هتكون أخرها أيه يعني، ما أنا سبق وحكيلك.
تماسك الأ يطيح به، وقال برزانةٍ:
_يا جمال أي اتنين متجوزين طبيعي إن يكون بينهم مشاكل في بداية حياتهم، دورك هنا إنك متهربش، تواجه وتبرر مش تزيد الامور طين وتسبها لعقلها وشيطنها يأكدلها ظنونها.
وأشار للزجاجة بتقززٍ:
_وفوق كل ده تسكر، بتغضب ربنا عشان بتواجه مشاكل سستم طييعي ودائم في حياة كل البشر يا جمال، جاوبني ساكت ليه؟
وضع عينيه أرضًا حرجًا منه، فأشار باصبعه بتحذيرٍ:
_دي أول وأخر مرة تعملها، سامعني؟
هز رأسه بتعبٍ جعل جسده يترنح بوقفته غير واعيًا لما يصيب معدته من ألمًا لا يطاق، فاستتد على صدر يوسف:
_أنا تعبان أوي يا يوسف، بطني بتتقطع.
أجابه ساخرًا:
_من القرف اللي بلبعته.
وأشار لمن يراقبهما:
_اسنده معايا ندخله أوضته، لما أشوف أخرتها معاكم أيه؟
أحاطه عمران من جانبه الأيمن، خاطفًا نظرة سريعة إليه، وقال:
_فوق يا جمال، لازم ترجع بيتك عشان مشاكلك مع صبا متزدش.
مال بجسده على الفراش، فجذب يوسف الغطاء وداثره جيدًا، وعدل من ملابسه الغير مهندمة، ليحك أنفه وصوت أنفاسه اللاهثة تعلو:
_مرمطة في العيادة وهنا.
ضحك عمران على مظهره المضحك، وصاح:
_ورايا يا دكتور الحالات المتعثرة.
حرك كتفيه يعدل من قميصه بغرور:
_دكتور يوسف أيوب من أكبر دكاترة النسا والتوليد، وبتنازل وبتواضع وبعرف اشكالكم المعتوهه، وبتعاقب من حرمي دكتورة ليلى أيوب بالطرد لشقة المقاطيع وعادي وزي الفل.
جذبه عمران من تلباب قميصه بعنف:
_إنت هتحكيلي قصة حياتك لخص في إم الليلة دي.
تعالت ضحكاته الرجولية بقوةٍ، ولحق به للخارج، فجلس كلا منهما على الأريكة، لاحظ يوسف تسلل الحزن لمعالم عمران، فقال وهو يهم لصنع القهوة:
_مالك قالب وشك ليه إنت التاني؟
توترت معالمه، فنهض واتبعه ليستند على البار وبتلعثمٍ قال:
_يوسف أنا آ….. آآ…
ضيق عينيه الثاقبة إليه، فرفع الكوب الفارغ وملعقة السكر إليه:
_ولآ.. أنا بخاف من الداخلة دي، أقسم بالله لو قولتلي حاجة تنكد لاقتلك إنت والحيوان اللي جوه ده، أنا لسه خارج من ولادة طبيعية متعسرة وخلقي في مناخيري.. فانجز وإرمي المصيبة اللي بتحاول تلقيها في وشي من ساعة ما شوفت خلقتي.
وجذب هاتفه وهو يهدده:
_اتصل بدكتور علي أقرره ولا هتتكلم.
خشاه عمران فجلس على المقعد بارتباكٍ، طرق على كتفه ليجذبه نصفه العلوي فوق الطاولة الرخامية الفاصلة بينهما:
_انطق ياض هببت أيه إنت التاني؟
رفع رماديته بتوتر إليه، وردد:
_أنا غلطت مع ألكس.
فلته ببطءٍ وعينيه المغتظمة بغضبه لا تتركه، فتحرك لمكينة القهوة بصمتٍ كان قاتلًا لمن يتابعه بترقبٍ لسماع ما سيقول، فاتبعه والحرج يشكل على معالمه، فحاول تبرير أخطائه:
_يوسف أنا آآ…
قاطعه حينما استدار بحركته الشرسة ليصرخ بعصبية:
_إنت حقير ومبتحبش غير الوساخة زي العاهرة الرخيصة اللي غلطت معاها.
رسم وجهه أرضًا تأثرًا بكلماته، فشدد يوسف على شعره بقوة كادت باقتلاعه، ثم سحب كوبه وجلس على مقعد البار مرددًا بعدم مبالاة:
_خسارة فيك النصايح اللي في النهاية مش هتعمل بيها، إعمل ما بدالك يا عمران، إسكر وازني وإغضب ربنا بكل الكبائر واقعد ابكي واندب واستنى لحظة عقابك وإنت عارف وواثق إنها جاية.
اتبعه للمقعد المجاور له، فجذبه ليجلس قبالته، يراقبه وهو يرتشف قهوته بجمودٍ، فحاول استعطافه:
_يوسف أنا حاولت والله، بس صدقني أنا لما بشوفها قدامي بضعف ومبقدرش أتحكم في نفسي.
طعنه بنظرة قاتلة:
_حيوان تقصد… ما هو الحيوانات هي اللي مبيكنش عندها دارية بالامور ولا التحكم بالذات.
ولعق بلسانه شفتيه يخفي ابتسامته الخبيثة التي تحررت من خلفها مكيدته:
_بقولك أيه يا عمران، ما دام إنت كده كده هتطلق مايسان، فأنا شايفها مناسبة لدكتور سيف أخويا، إنت عارف بقى إننا هنا في انجلترا صعب نلاقي عروسة عربية أدب وأخلاق وجمال وآ…
كممت لكمته كلماته فاسقطته عن المقعد، نهض يوسف وهو يزيح الدماء النازف عن شفتيه ببسمة راضية، بينما انتصب الاخير بوقفته وصرخ بعنفوان:
_متحاولش يا يوسف صدقني هنسى الصحوبية والعيش والملح اللي بينا وهدفنك حي هنا.
منحه ابتسامة ساخرة، وجلس يستكمل قهوته ببرودٍ، وحينما انتهى من الكوب لف رأسه تجاه ذاك الثائر فجأة وقال:
_لما شتمت ألكس وقولتلك أنها عاهرة ورخيصة متعصبتش ولا اتحمقت عليها كده، ولما كلمتك بالحلال وبالاصول على بنت خالتك اللي مش طايقها عرق الرجولة نقح عليك أوي، مش غريبة؟
ابتلع ريقه وهو يترنح جراء تمعن كلماته المصوبة لكل ذرة داخله، فتراجع للخلف بتأثرٍ، جعله يرتبك:
_آآ… أنا… الوقت إتاخر لازم أرجع..
أشار بيده وهو يعود للتطلع أمامه بكل هيبة ورزانة:
_اهرب يا عمران، اهرب من حقيقة مشاعرك واجري ورا شيطانك اللي هيدمرك.
فتح عمران الباب ومازالت نظراته منصوبة على رفيقه، وحينما استدار ليغادر وجد سيف قبالته، يخلع حقيبة ظهره وهو يوزع نظرات متفحصة بينه وبين أخيه الجالس على بعدٍ منهما وشفتيه تنزف الدماء فتساءل بشكٍ:
_اتخانقتوا تاني ولا أيه؟!
أتاه رد أخيه يوسف يجيبه:
_حمدلله على سلامتك يا دوك، تعالى اشجيني إنت كمان بمصايبك مانا خلاص هقلب تخصصي لطب نفسي ومحلل هنا..
وأضاف وهو يشير لعمران الشارد على باب الشقة كالتمثال:
_استضيف دكتور علي يومين هنا للمقاطيع دول يا عمران، يمكن يحل مشاكلهم ومشكلتك.
ودعه بنظرة حارقة قبل أن يصفق الباب، هاربًا، مبتعدًا، نازحًا عن اختراق تلك الكلمات لقلبه المشتعل، قاد سيارته بجنون ومازالت كل الاحاديث تختلط إليه تجعله يبدو كالأبله.
توقف فجأة عن القيادة، وارح جسده للمقعد وهو يفكر جديًا منح زوجته فرصة، عسى بقربها يصل لباب الخروج من المتاهةٍ اللعينة.
******
دق هاتفه للمرة التي تجاوزت الثامنة، ففتحه وهو يجيب:
_أيوه يا فؤاد، محتاج حاجة!
استمع للطرف الأخر بعنايةٍ، فلم يكن سوى السائق الخاص براكان، اوقف آدهم السيارة بقوةٍ جعلت عجلاتها تحتك بالرصيف بصوتٍ مقبض:
_لأ… أوعى تعملها يا فؤاد.
ولف عجلة قيادته ليعود أرداجًا وهو يكرر لمسمعه:
_متتصرفش نهائي، أنا راجع.
وأكد بحزمٍ:
_اسمع كلامي ونفذه، أنا كلها دقايق وأكون عندك متتصرفش من دماغك فااااهم.
وألقى هاتفه يساره وضغط بسرعته حتى وصل لڤيلا راكان بعد خمسة عشر دقيقة، فأسرع للجانب الخلفي حيث كان يقف السائق فؤاد بانتظاره، فما أن دنى منه حتى جذبه بعيدًا عن نطاق الحرس، فقال الأخير وقد برز الغضب بعروقه المتصلبة:
_البت معاه جوه يا باشا، أنا مش هقدر أسيبه يعملها حاجه وأقف أتفرج.
كز آدهم على أسنانه وردد بنظرة تحذيرية قاتلة:
_إنت اتجننت عايز تضيع تعبنا طول الشهور دي في لمح البصر.
ردد باستنكارٍ لما يقوله:
_يعني أيه يا باشا هنقف كده ونسيبه يعمل عملته الوس***
تقابل حاجبيه المنزوي غضبًا، وبصوتٍ حازم صاريح:
_سيطر على أعصابك واتحكم بعقلك.
جابهه بعندٍ:
_أنا آسف يا باشا مش هقدر.
وأخرج سلاحه وهو يسحب زناده للاستعداد، فجذبه آدهم ليقف قبالة شرارته متفوهًا بصرامة:
_ده أمر مباشر مني يا حضرة الظابط.
أدى تحيته العسكرية وهو يردد بوقارٍ:
_الأمر نافذ.
وتركه وغادر وعينيه تلمع بالدمع، استعطف قلب آدهم، فجذبه وهمس له:
_متقلقش أنا هخلص البنت دي بدون ما ننكشف.
وتابع وهو يشير:
_هانت وهنجيبه راكع تحت رجلينا.
وتركه وأسرع بالتواجه للداخل، متعمدًا الطرق أكثر من مرةٍ على الباب حتى لا يطرق له فرصة افتعال أي شيءٍ، وبالفعل فتح راكان باب غرفته وبيده زجاجة الكحول، رفع آدهم نظراته المتقززة ليصل لوجهه، ورسم بصعوبة بسمة خاطفة وهو يردد:
_اللي حسبته لقيته عثمان الحقير حطيلي قنبلة بعربيتي، كان عايز يخلص مني عشان يوصلك.
برق بعينيه بدهشةٍ:
_قنبلة!!
هز رأسه مؤكدًا، وتابع بقص التفاصيل إليه، خاصة بما تخص شمس، فأسرع متلهفًا:
_طب وشمس جرالها حاجة؟
أجابه ويده مضمومة على الأخرى:
_اطمن يا باشا شمس هانم بأمان، أنا مستحيل كنت هسيبها تتأذى.
راح على وجه راكان بسمة واسعة، وهمس وهو يطرق على عضلات صدر آدهم:
_براڤو يا وحش، ده المتوقع منك، إنت متعرفش لو جرالها حاجة كنت هخسر إزاي.
وتابع وهو يرتشف كحوله اللعين:
_البت دي من عيلة كبيرة أوي، مركز ونسب يليق باسمي ويخلينيا نتابع شغلنا من غير ما نلفت النظر لينا، وبالأخص كمان عمران أخوها، شركاته وعلاقاته تقدر تفيدنا لو جرينا رجله معانا.
وعاد من أرض أحلامه يبتسم لمن يطعنه بثبات قاتل:
_أنا مش عارف أشكرك ازاي، من يوم ما ظهرتلي وانت ملاكي الحارس اللي في دهري وقدام كل شر أتعرضه.
همس آدهم بصوتٍ خبيث منخفض:
_أنا ملاك موتك اللي هقبض روحك وأرجعها لقفصها.
انتبه آدهم من شروده على كلمات راكان:
_أطلب مني اللي تحبه وفورًا هلبيهولك.
اتسعت بسمة مكره، فغامت عينيه على المقيدة على فراشه البارز من خلفه، فضحك راكان وهو يلتفت لما يتطلع إليه، وعاد يرتشف من الزجاجة ببسمة دنيئة، فأشار له:
_اعتبرها ملكك، أنا مجتش جانبها بقالي ساعة بحاول معاها بس بنت ال** مستقوية عليا عشان سكران.
وخرج من الغرفة وهو يغمز له:
_عارف إنها مش هتأخد معاك غلوة، أكلم أنا واحدة من البنات إياهم.
راقبه آدهم بنظرة مستحقرة، فما أن اختفى من الرواق حتى بصق خلفه مرددًا:
_كلب.
ثم ولج للداخل، فصعق حينما وجدها طفلة لا تتعدى عمرها السابعة عشر، مقيدة على الفراش بشكل يمزق القلب، وجهها متورم من فرط الكدمات التي تلقتها، أبعد جاكيته ليجذب خنجره، فأشارت بعينيها الباكية وهي تترجاه:
_لا تفعل أرجوك.
أغلقت عينيها بقوةٍ ظنًا من إن نصل السكين سيصل لعنقها، فصعقت حينما وجدته يحرر الحبال المقيدة لها، فعاونها على الوقوف وإتجه بها للباب الخلفي هامسًا بشفقةٍ:
_إركضي سريعًا إن رغبتي بالنجاة.
فور إنتهاء كلماته هرعت وكأنها تهرب من شبح موتها، بعدما حررها ذاك الملاك الذي يبدو مخيفًا من نظراته الثاقبة وخطاه الواثق، ولكنه فجأها بأنه لا يريد أن يكون سجانها العتي بل أراها جانبًا أخرًا لشهامة رجلًا يجابه دناءة الأخر في الوقت ذاته.
*****
استند بجسده على أحد فروع الشجرة بالحديقة، بعدما فشل بالنوم، فهبط يتمشى بحديقة المنزل، زفر علي بمللٍ وكاد بالتراجع، فلفت انتباهه تلك الجالسة على الأريكة هائمة بضوء القمر بسكونٍ، اقترب منها ببسمته الجذابة، واقتحم صوته الرجولي عالمها الهادئ:
_لسه صاحية؟
انتبهت له مايسان، فمنحته ابتسامة هادئة:
_مجاليش نوم قولت أنزل اشم الهوا النقي ده.
مال بجسده يستند على حافة الاريكة الخشبية، متسائلًا بتهذبٍ:
_تتضايقي لو شاركتك القعدة اللطيفة دي.
ربعت قدميها وتنحت لأخر الأريكة:
_يا خبر يا علي، هتضايق منك إنت!
وأشارت بيدها:
_اتفضل يا دكتور.
ابتسم وجلس قبالتها يرفع عينيه للقمر الصافي بتلك الليلة الهادئة، واركن رأسه لحافتها، قائلًا بهيامٍ:
_منظر رائع، ينقصه بس فنجان قهوة وموسيقى هادية.
ضحكت وهي تخبره بمزحٍ:
_جيت في جمل! اديني ثواني.
وتركته وعادت بعد قليل حاملة للقهوة، التقطتها منها بحرجٍ:
_تعبتك معايا، حقيقي شكرًا.
ومالت بجسدها تجذب حاسوبها وتشغل أغنية هادئة “لام كلثوم”:
_وادي الاغاني، مش حرمينك من حاجة يا دكتور.
ارتشف من قهوته، وأشار بتلذذٍ:
_الله… تسلم إيدك يا مايا بجد حاجة تعدل المزاج.
واسترسل مازحًا:
_يا بخت عمران الغبي بيكِ.
احتلاها الحزن، فزمت شفتيها بسخطٍ من ذكره، ولكنه أتاح له الفرصة للحديث عنها،فقالت :
_علي أنا عايزة أطلق من عمران، ومش عارفة أقول أفاتح خالتي ازاي بالموضوع ده، إنت عارف أد أيه بيعصبها.
مال بجسده واضعًا الكوب على الطاولة، ثم قال بجدية تامة:
_عارف.. مشكلة ماما إنها متعلقة بيكِ جدًا يا مايسان، شايفاكِ بنتها وصديقتها اللي مقدرتش تكون في حياتها في يوم من الأيام.
هزت رأسها وخانتها تلك الدمعة:
_أيوه بس أنا موجوعة أوي يا علي، إنت مش عارف أنا بحس بأيه وأنا شايفة حياتي كده معاه.
برر لها نظرته الغير منصفة:
_لا عارف وحاسس بيكِ يا مايا، بس صدقيني إنتِ اللي محتاجة يكون عندك قوة لمواجهة أي حد قدام قرارك، متسمعيش لخوفك يقصر عليكي، ودافعي عن قراراتك بكل قوة.
واستطرد مازحًا:
_أجلي موضوع طلاقك ده لبعد مشكلتي يمكن الثورة اللي هعملها مع فريدة هانم تديكي دروس تقوية في اللي جاي.
اكتفت برسم بسمة صغيرة، وتساءلت باهتمامٍ:
_ثورة! ليه خير يا دكتور؟
خطف نظرة متفحصة من خلفه، وكأن لصًا كمش به:
_أصل أنا وقعت.. والواقعة كانت مع بنت بعيدة عن الطبقة الآرستقراطية اللي فريدة هانم مش بتناسب غير منهم.
جحظت عينيها دهشة، وتساءلت بفضول:
_بجد، مين دي إحكيلي!
ربع قدميه والتفت إليها، وكأنه كان يود الحديث عن أمرها مع احداهما، زارته تلك البسمة بافتتاحية حديثه عنه، وعينيه تلمع بعشقٍ صاريح تغلغل داخلها، اعتلاها الحزن فور ذكر علي لقصة فاطيما المؤلمة، وترقبت فور انتهائه.
انتظر علي حديثها، الا أنها إلتزمت الصمت لدقيقة، وكأنه تواجه صدمة كبيرة، وعادت تتطلع إليه من جديد بعدما اعتدلت بجلسته:
_علي إنت مش بس هتقوم ثورة إنت هتشعل نار هتأكلنا كلنا.
ولعقت شفتيها بخوفٍ قاتل:
_دي فريدة هانم هتقوم الدنيا متقعدهاش لو اكتشفت قصة حبك دي.
وبارتباكٍ استكملت:
_أصل الموضوع مش موضوع نسب العيلة وبس لا ده يخص اللي أتعرضت له وده طبعًا مالهاش تتحاسب عليه لإنه خارج عن ارادتها يبقى إنت اللي لازم تخاف منها يا علي!.
أجابها بحدةٍ وثقة:
_ميفرقش معايا، أنا مش بتجبر على شيء يا مايا، ومازلت مصمم علة رأيي ومنتظر لما فطيمة تتعالج وتتقبل وجود حد في حياتها ساعتها هكونلها الحد ده.
جاهدت برسم بسمة صغيرة على وجهه، وبنقاء قلبها دعت له رغم احتراق روحها على نفسها التي تعافر جوار رجلًا لا يشعر بعاطفتها تجاهه وبين أخيه الذي يود تحدي العالم بأكمله لأجل تلك الفتاة:
_ربنا يجمعها بيك في الخير يا علي.
وأكدت عليه:
_لازم تعرفني عليها، عندي فضول أشوفها أوي.
ابتسم وهو يميل إليها هامسًا:
_أوعدك هعرفك عليها بأقرب وقت.
هزت رأسها بسعادةٍ:
_مع إني خايفة عليك من اللي جاي،بس اختك جانبك وهتساندك وتحارب معاك يا علي.
ابتسامة ممتنة تمردت على شفتيه:
_طول عمرك بتأدي واجبك تجاهنا كلنا على أكمل وجه يا مايا.
تهربت منه عساه لا يرى دمعاتها، فعادت تدندن مع الاغنية بشرودٍ، وذراعها يفرك بالأخر برعشة سرت لجسدها لسوء الجو، لاحظها علي فأشار لها جادًا:
_شكلك بردانة، خلينا ندخل عند الدفاية.
هزت رأسها نافيًا، وباصرارٍ قالت:
_أنا عايزة أقعد هنا شوية.
لم يفكر مرتين، نزع عنه جاكيت بذلته وأحاطها به جيدًا، وكأن من أمامه هي شمس شقيقته الصغيرة، ابتسمت مايسان لحنانه المعتاد، فرفعت عينيها لتقابل وجهه القريب المنحني بجسده لها وقالت:
_شكرًا يا علي.
لم ترى أعين ذاك المتسمر بالوقوف بالقرب منهما، يراقبهما منذ دقائق، فاستشاط غضبًا وهو يجدهما يتبادلان الحديث منذ فترة وابتسامتها التي لم يراها برفقته يومًا تزدهر بوجود شقيقه.
والآن يشق صدره ويبتلع ما بداخله النيران وهو يراه يلف جاكيته من حولها، وجوده جوارها بهذا القرب بحد ذاته جعله على وشك الانفجار حيثما يقف.
انتصب علي بوقفته وعينيه تجوب الهواء الذي يكاد يلتهم اجسادهما، فقال برعشة شفتيه:
_إنتِ شكلك متأثرة بإم كلثوم وعايزة تقضي الليل وسماه في الجو اللي مالوش ملامح ده، وأنا بصراحة ورايا شغل ومعنديش استعداد اخد لطشة برد، فخليكي هنا مع أم كلثوم، وتصبحي على خير.
انفجرت ضاحكة حتى أدمعت عينيها، فراقبته وهو يسرع للداخل، رافعة صوتها الضاحك:
_وإنت من أهله يا جبان.
وما أن تأكدت من رحيله حتى حررت حجابها، ويدها تغوص بخصلات شعرها الطويل، وتمددت على الأريكة واضعة رأسها على كتفها المرتدي لجاكيته، خصلاتها تستجاب للهواء فترفرف من حولها مثلما أردت.
أغلقت مايسان عينيها ومالت برأسها ومازالت شفتيها تدندن باستمتاعٍ، ولم ترى ذاك المحترق الماسد أمامها، كز عمران على شفتيه فلف يده حول معصمها وأجبرها على الوقوف قبالته.
انتفضت مايسان فزعًا، وبدأت ملامحها بالاسترخاء وهي تشاهد من يجرأ على لمسها، هدأت حدة انفاسها ورددت بصوتٍ هامس مغري له:
_عمران! خضتني!
ردد من بين اصطكاك اسنانه الهائلة للسقوط:
_تحبي أناديلك دكتور علي ياخدك في أحضانه عشان الخضة.
برقت بعينيها بعدم استيعاب لما يقول:
_إنت بتقول أيه؟!
رفع يده يحيط بذراعيها، متعمدًا إيلامها وهو يصرخ بعنفٍ:
_الا أخويا يا مايا بلاش، عشان أقسم بالله هقتلك لو فكرتي تكرهينا في بعض ويكون هو اختيارك التاني الرابح هنا.
شعرت وكأنها صماء لا تستمع إليه، عينيها تراقب شفتيه وهي تصرخ بنطق اسم “علي” وآذنيها تصرخ بسماعها الصريح له، بدت كالصنم بين يده، وأخر ما التقطته:
_لو دي لعبتك فأنا طلاق مش هطلق، هسيبك كده زي البيت الواقف لا تطولي ناري ولا، جنة غيري.
ورفع اصبعه يشدد بنظرات قاتمة:
_بحذرك لأخر مرة الا أخويا، سامعــة.
لم تشعر بذاتها الا وكفها يصفعه بنفس قوة غضبها، وصوتها العاجز يتحرر:
_اخرس يا حيوان، علي ده أخويا!
واسترسلت بوجعٍ يخترق أضلاعها:
_يا ريته كان اختياري وكنت إختياره مكنتش اتعذبت العذاب اللي شايفاه معاك ولا عشت كل يوم في كسرة ومهانة.
وبقسوةٍ صرخت:
_يلعن أبو القلب اللي حبك يا أخي.
مازال رأسه مائلًا انصياعًا لصفعتها والصدمة تحاط به، لم تجرأ أي أنثى طعن رجولته مثلما فعلت تلك الفتاة، كور يده بقوةٍ جعلتها بيضاء كاللوح الثليج القارس، راقبته مايسان بخوفٍ خاصة بعلمها بأن عمران شرس صعب المراس، عمران ليس بالمتهاون بحقه أبدًا.
ابتلعت حلقها المرير بازدراء فور أن أتجهت رماديته القاتمة إليها، فتراجعت خطواتها للخلف بهلعٍ تربص بمعالمها فور تعثر قدميها بحافة حمام السباحة.
استعدت لمصيرين كلاهما أبشع من الأخر، الأول مواجهة ذاك الأسد الجامح وثانيه سقوطها بتلك المياه التي تحاطها طبقة من الثليج استجابة مرحبة لتلك الاجواء القارصة.
تراقص جسدها بالهواءٍ، ففصلتها مسافة قليلة عن ملامسته للمياه، رفعت مايسان عينيها لتجده يمسك يدها بتحكمٍ، وقوة غضبه مازالت ساكنة حدقتيه، خشيت أن ينتقم لجرحها الصريح لرجولته فيسقطها أرضًا.
وزعت نظراتها بتيهةٍ برماديته المقتادة بالنيران وبالمياه الباردة، فتحررت كلماتها بتثاقلٍ عزيزٍ:
_متسبش إيدي يا عمران.
كلماتها الواضحة له أثارت مشاعره بريبة بددت غضبه تدريجيًا، ألمه رؤية الخوف القابع بعينيها منه ومن مصيرها المنتظر، جذب عمران يده المتمسكة بها بقوةٍ جعلت جسدها كالورقة المترنحة بالهواء العتي، فسقطت على الأريكة من خلفها، وقبل أن تستوعب ما فعله للتو وجدته يدنو منها، ينحني إليها بجسدها.
سال لعابها ذعرًا فزحفت للخلف حتى وصلت لأخر الأريكة، ومازال يلاحقها بخطاه البطيئة الواثقة، وجدته ينزع عنها جاكيت علي بعنفٍ كاد أن يهشمها، فلعب عقلها لما يحاول فعله بعد أن أذاقته من فنون الغيرة رغمًا عنها، فصرخت به:
_عمران إنت بتعمل أيه؟
أزاح ذراعها والآخر، فخشيت ما تردد لها، لتعود لصراخها المهدد:
_أقسم بالله لو قربتلي لأصرخ ولا هيهمني فريدة هانم هتعاقبك بأيه المرادي، إبعد عني أحسنلك!
زاد ذُعرها حينما سدد لها نظرة قاتلة، وانتصب بوقفته يزيح عنه جاكيت بذلته بعصبية كادت بتمزق أزراره وانتزعها، ليلقيه بوجهها جاذبًا جاكيت علي ومتوجهًا للداخل بصمتٍ مميتٍ.
هدأت أنفاسها رويدًا رويدًا، وهي تجده يدلف داخل المنزل، وضعت يدها على صدرها تتلامس فرط نبضات قلبها الثائر، واشتعال وجنتها من قربه القاتل، ويدها الاخرى ترفع جاكيته الموضوع على جسدها بإهمالٍ.
رغمًا عنها استجابت شفتيها لبسمة صغيرة، غيرته كانت بادية كسطوع الشمس في ليلٍ مخيف، مجرد رؤيتها ترتدي شيئًا يخص رجلًا غيره تمرد طابعه الشرقي دون ارادة منه، ومع ذلك خشي تركها بالثليج دون غطاء يداثرها، عساها تمرض بعد ازاحة الجاكيت عنها.
ضمت مايسان جاكيته وهي تستنشق رائحة البرفيوم الخاصة بها تطوف بما تركه من خلفه، وحملت بين ذراعيها بعنايةٍ وكأنها تحمل قطعة من المجوهرات، وتمددت على الأريكة بهيامٍ.
*******
كان يقرأ بكتابه باستمتاعٍ حينما انفتح باب غرفته، ليظهر من أمامه أخيه وبيده جاكيته الخاص، ولج عمران للداخل واضعًا الجاكت على المقعد وبآلية تامة تحرك للفراش، رفع الغطاء وتمدد جواره،ثم استكان برأسه على ساق أخيه المندهش مما يراه، فترك كتابه ومرر يده على ظهر أخيه بقلقٍ:
_عمران إنت كويس؟
تمسك به أكثر وعينيه تلتمع بالدمع آبية السقوط، صمته زاد من قلقه فقال:
_عمران مالك؟
أتاه صوتًا محتقنًا يجيبه:
_خايف أخسرك في يوم من الأيام يا علي.
رفع رأسه إليه، فاعتدل عمران بجلسته مواجهًا أخيه وجهًا لوجه، فتماسك وهو يردد:
_أنا عايز مايسان يا علي.
رمش بعدم استيعاب لما يحدث عنه، فضربه بخفة على جبينه مرددًا بضحك:
_إنت توهت في الأوضة ولا أيه يالا، داخلي أنا وبتقولي الكلام ده ليه ما تروح لمراتك!
ولف وجهه بين يده بنظرة متفحصة:
_أوعى تكون شربت تاني، هعلقك من رقبتك المرادي أنا مطمن إنك كنت مع جمال ويوسف.
واعتدل علي بجلسته يتساءل:
_إنت كنت فين يا عمران إنطق!
تعجب من بروده بالحديث، وعدم تطرقه لما يخص زوجته وكأنه لم يستمع لحديثه من الأساس، ما يشغله عودته للخمر ولتلك اللعينة، فاندث بأحضانه والآخر يضمه باستغرابٍ لحالته الغامضة، فردد بخوفٍ:
_عمران مالك متقلقنيش عليك!
ردد إليه بندمٍ:
_أنا حقير فعلًا زي ما يوسف وصفني.
ضمه علي مازحًا:
_قول كده بقى الدكتور يوسف اداك الطريحة اللي هي، وجاي أصالحكم على بعض، خلصانة يا حبيبي أنا لما أشوفه هحلك الأمور.
صمت ولم يبرر له، تركه يظن الأمر خاص برفيقه، فكيف سيواجهه إن علم ظنونه التي تلاشت لحظة تمعنه بحدقتيه الصادقة، انحنى عمران ليعود بوضع رأسه على ساق علي من جديد، فمرر علي يده بخصلات شعره البني بحنانٍ، وردد بمرحٍ:
_خدلك يومين دلع بعد كده حضن أخوك هيبقى ملك لزوجته المصون.
رمش عمران بعينيه باستغرابٍ، فاستدار بجسده ليقابله متسائلًا:
_تقصد أيه؟
وخمن ببسمة هادئة:
_إنت رجعت ليارا يا علي؟
ضحك وهو يجيبه ساخرًا:
_دكتورة يارا خطيبتي السابقة اتجوزت وزمانها على وش ولادة يا عمران!
اعتدل عمران بجلسته وهو يستفهم بلهفة:
_يبقى حب جديد صح؟
هز رأسه مؤكدًا، فاتسعت بسمة عمران بحماسٍ:
_طيب احكيلي بتخبي عني!
نفى ذلك موضحًا:
_عمري ما خبيت عنك حاجة، الموضوع وما فيه إني مكنتش متأكد من مشاعري وكمان علاقتنا هتبقى شبه محال.
رفرف باهدابه بعدم فهم:
_ليه؟
التقط علي نفسًا مطولًا قبل أن يجيبه:
_عمران أنا بحب فطيمة.
جحظت عينيه صدمة وهو يحاول تذكار الاسم المردد لولا أنه رآها بنفس اليوم، ومع ذلك تمنى أن يكون مخطئ ففاه:
_فطيمة اللي أنا شوفتك قاعد معاها واللي المستشفى كلها جايبك سيرتها وسيرتك! يعني مكنوش بيبالغوا!
لم يترك له عمران فرصة الحديث، واستكمل بهمسه المنخفض:
_مش دي البنت اللي كنت دايمًا بتتكلم عنها طول الشهور اللي فاتت هي اللي تم الاعتداء عليها.
هز رأسه مؤكدًا له بحزنٍ، فصاح عمران به بعد فترة صمته:
_لأ يا علي، فريدة هانم مش هتسكت دي… دي ممكن تقوم قيامتك!
تمدد جواره مستندًا بيده أسفل رأسه، عينيه شاردة بسقف غرفته:
_مستعد أتحاسب وأتحداها بكل قوتي، بس فطيمة تتقبل حبي وده صعب يا عمران.
واستكمل وعين عمران المندهشة لا تفارقه:
_لأول مرة أحس بالوجع ده، المفروض إني كطبيب متأثرش بالكلام اللي أسمعه من المريض وأكون مركز لكل حرف بحيث أقدر أساعده، لكني وأنا جنبها عاجز.. عاجز وبتمنى أساعدها بدون ما أسمع عن اللي اتعرضتله لإني بحس بخنجر بيقطع لحمي وبتمنى أرجع الماضي وأقتل أي حقير جرحها ومسها.
وبصوتٍ مختنق استطرد:
_بتمنى أكون أول راجل ظهر في حياتها، وقتها مكنتش هسبب كلب يمس شعرة منها، يا ريت لو أقدر أخدها بين ضلوعي وأخبيها عن كل اللي اتعرضتله يا ريت!
رمش بعينيه وهو يستمع إليه بعدم تصديق، فصاح:
_إنت مش بتحب ده أنت عاشقان وواقع من الدور الفوق المية!!
ابتسم وهو يشير له بهيامٍ:
_عنيها فيها حاجة غريبة، بتشدني لدرجة مببقاش عايز أفارقها، مجرد ما عيوني بتلمح غيرها بشيل نفسي ذنب كبير، مع إني نظراتي ليها أكبر ذنب، غصب عني مجبور أبعد لإني أكتر حد عارف حالتها..
وسُلط رماديته لاخيه وهو يخبره بألمٍ:
_عمران أنا الدكتور الخاص بفطيمة وعارف ومتأكد إني مش هواجه حرب مع فريدة هانم بس، الحرب هو فوزي بقلب فطيمة الأول قبل كل شيء.
وتابع بعين شاردة:
_فطيمة شايفة فيا الآمان والسكينة وده طبيعي لإني جنبها بصفتي الدكتور علي، مش قادر أخد أي خطوة تخليني أجزم إنها حابة الأمان مع علي نفسه.
ارتسمت بسمة خافتة على وجه عمران، فتمدد جوار أخيه وردد بحبٍ:
_بتمنى تقدر تحصل على حبك وتعيش حياة مثالية لإنك تستاهل يا علي.
لف رأسه للوسادة ليكون قبالته:
_وإنت كمان الحياة المثالية مع الزوجة اللي تستاهلك على بعد منك خطوات وإنت من غبائك بتضيع كل شيء منك.
لف عمران رأسه لأخيه وأجابه:
_بحاول يا علي، بس المرادي عندي ارادة قوية مرجعش للقرف ده تاني.
واستقام بوجهه مربعًا يده أسفل رأسه مثلما يفعل أخيه، وردد بعزمٍ:
_مش جاهز أرجع أعيش نفس التجربة البشعة، احساس كره النفس والتقزز والخوف من الموت وأنا شايل ذنوب كبيرة زي دي مش هقدر أعيشه من تاني.
أغلق علي عينيه باستسلامٍ لنومه وهو يهمس:
_نام يا عمران، ومتقلقش أنا جانبك ومش هتخلى عنك أبدًا.
مال برأسه إليه مبتسمًا وسرعان ما لحق به هو الأخير.
******
أشرقت الشمس بردائها الذهبي لتعتلي عرشها بيومها الجديد.
أفاقت سيدة المنزل ترتدي ترنجها الرياضي لتمارس رياضتها المعتادة كل صباحٍ، فجلست على السجادة الصغيرة الخاصة بها تتأمل ولاديها، هبط علي برفقة عمران والضحكات لا تفارق الأوجه، ومن خلفهما لحقت بهما شمس تردد بضجرٍ:
_طبعًا عاملين تحبوا في بعض ونسيتوا إن آ..
ابتلعت كلماتها حينما وجدت والدتها تراقبهم من الأسفل وهي تتمرن، فدنت منهما تضع يدها على كتف كلا منهما وهي تهمس:
_نسيتوا أن حد فيكم لازم يوصلني الجامعة معيش عربية أنا، اتفحمت والله.
ضحك علي وهو يهمس بنفس مستوى صوتها:
_معلش تتعوض، عمران أخوكي هيوصلك، صح يا عموري.
جز على أسنانه وهو يؤمي برأسه باستسلامٍ، فتابع علي بخبثٍ:
_بالمناسبة لو فريدة هانم شمت خبر هتحرمك من الجامعة.
وتركهما وهبط للأسفل، مرددًا ببسمته البشوشة:
_صباح الجمال على سيدة الرشاقة والجمال كله.
اعتدلت بانحنائها وهي تجيبه ببسمةٍ هادئة:
_أهلًا بالدكتور البكاش اللي مش محافظ على صحته وبطل يلعب رياضة معايا زي كل يوم.
حك أنفه بضجرٍ، فابتسم عمران ساخرًا وهو يشير له:
_هاتلك سجادة واقعد جنب مامي اتدرب ونشط الدورة الدموية يا دكتور.
_مامي في عينك قليل الأدب ومنحط.
قالتها فريدة بغضبٍ جعل علي يقهقه ضاحكًا، وعاد يجيبها:
_آسف يا حبيبتي اليومين دول بس مشغول مع كام حالة كده، لكن وعد في يوم الاجازة هتلقيني مستنيكِ تحت من الفجر.
واقتبس قبلة على خدها مستأذنًا بالمغادرة لتأخره، وكذلك فعل عمران وشمس ولحقوا به.
تعجب عمران حينما وجد علي الذي يتحدث عن تأخره يقف بحرجٍ بداخل زواية المنزل، فسأله باستغرابٍ:
_رجعت ليه مش بتقول متأخر؟!
تنحنح وهو يردد وعينيه أرضًا:
_الظاهر كده إن مايا نامت بره وشكلها مش لابسه الحجاب، اطلع ظبط الدنيا بحيث متتحرجش لو عديت.
تصلب جسده وهو يستمع لأخيه الذي يرفض مجرد لمح طيفها في حين إنه من فرط غيرته كان ليطعن به بالأمس، أفاق على هزة يده المتعصبة:
_بقولك متأخر هتخرج ولا أنادي شمس اللي اختفت دي!
هز رأسه بخفةٍ، وخرج بخطاه المتثاقل للخارج، اقترب من الأريكة فازدرد لعابه تأثرًا برؤيتها غافية كالملاك، وفوق كل ذلك تحتضن جاكيته بقوةٍ، للحظة ود لو كان هو بدلًا من جاكيته، ود لو يطول قربها منه، ينتابه فضول عن شعوره إذا كانت معه زوجة شرعًا، يود القرب بشكلٍ مستميت وخطيرًا لمشاعره التي باتت تخنقه بتلك اللحظة.
زاد عمران من نخفيف حدة جرفاته على عنقه، وبصوتٍ هادئ رقيق ناداها:
_مايا.
فتحت عينيها تدريجيًا لتبدو صورته غير واضحة، فبدت تتحرك بنومتها وكأنها على فراشها الوثير، كادت بالسقوط أرضًا أسفل قدميه لولا ذراعيه المتملكة لخصرها.
فتحت عينيها على وسعيها، ورددت بخوفٍ:
_عمران! أيه اللي جابك أوضتي!
ابتسم بسخطٍ، وعاونها على الوقوف ثم وضع يده بجيب بنطاله:
_إحنا في الحديقة حضرتك وجنب الpool تحديدًا.
وتابع وعينيه تجوبها:
_إنتِ ازاي تنامي في البرد ده؟
أجابته وهي تلف رقبتها بتعبٍ:
_معرفش نمت ازاي.
انحنى عمران يلتقط حجابها المتساقط ومده لها يشير:
_إلبسي، علي عايز يخرج.
تناولته منه بارتباكٍ وارتدته بإحكامٍ أسفل نظراته، كاد بالتحرك من أمامها ولكنه عاد يخبرها:
_هروح الشركة أخلص حاجة مهمة وهقابلك في حفلة عيد زواج ليام وإميلي، متنسيش تاخدي كادو مميز لإن الصفقة الجاية مع شركاتهم مهمة.
هزت رأسها بتفهمٍ:
_عارفة وبالفعل اختارت عقد ألماظ شيك لإميلي.
لطالما لم تفوتها أي تفاصيل خاصة بالعمل، منحها بسمة صغيرة وحمل حقيبته السوداء بيده وتحرك ليغادر فأوقفته وهي تدنو منه:
_عمران.
استدار لها فوجدها ترفع يدها على استحياء:
_الجاكت بتاعك.
رفع عينيه ببطءٍ لها، ليغمز بمشاكسة:
_خليه في حضنك يدفيكِ.
وتركها تصطبع بحمرةٍ خجلها واتجه للداخل ينادي بضجرٍ:
_شمــس كل ده بتعملي أيه، صدقيني همشي!
خرجت تهرول من الداخل وهي تجر اذيال الخيبة، لتقف قبالتهما، فتساءلت مايسان باستغراب:
_في أيه، اتخانقتي مع فريدة هانم؟
ردت بحزنٍ وعينيها تتوزع إليهما:
_رفضت تديني فلوس عشان قولتلها إن عربيتي في التصليح.
ومالت لاخيها تهمس له:
_أمال لو عرفت إن مفضلش للعربية بقايا هتعمل فيا أيه!
تعالت ضحكاته الرجولية، فحاوطها بذراعه وهو يضمها إليه:
_ولا يهمك يا حبيبتي، الكاريدت كارد بتاعي تحت أمرك.
وقدمه لها، فصرخت بحماس وهي تلاقي ذاتها باحضانه فارتد درجات الدرج حتى كاد بالسقوط بها وهي يردد من وسط ضحكاته الساحرة لمن تراقبه:
_يا مجنونة هغير رأيي ومش هوصلك للجامعة.
ابتعدت وهي تستوعب كلماته، فرددت بذعر:
_الجااااامعة محضرتش ولا محاضرة امبارح.
وركضت لسيارته تشير له:
_يالا يا عمرااااااان.
منحها نظرة أخيرة والابتسامة مازالت على شفتيه، ثم غادر خلف شقيقته ليتحرك بسيارته للجامعة أولًا.
****
طرق على باب غرفتها، فقالت والابتسامة تحلق على وجهها:
_ادخل يا دكتور علي.
طل بوجهه متسائلًا:
_عرفتي منين إني علي!
أجابته فطيمة ببسمةٍ هادئة:
_من ريحة الورد!
وضعه على بالمزهرية وهو يردد بغرور:
_على حد بقى أنا بقيت مميز وسهل تعرفي قربي!
احمر وجهها خجلًا، فسحب علي المقعد المقابل لفراشها، ثم جذب دفتره ليبدأ متسائلًا بخفةٍ:
_تحب نبدأ منين؟
*****
ولج عمران لمكتبه الخاص بعدما أكد على السكرتير الخاص باحضار ما يلزم الصفقة الأخيرة لآن لديه حفل صباحي هام بعد ساعتين من الآن، ورفع سماعته يؤكد له:
_متحوليش أي اتصالات أو مقابلات النهاردة.
وأغلق الهاتف مجددًا، ليعمل جاهدًا حتى ينتهي مما يفعله، فتفاجئ بباب مكتبه يُدفع لتظهر من أمامه بملابسها القصيرة المغرية، نهض عمران عن مقعده ليجد سكرتيره يشير لها بغضب:
_من فضلك سيدتي آ..
قاطعه عمران باشارة يده فخرج على الفور، لتبقى تلك التي تقترب من مكتبه مرددة بدلال:
_عمران اتصلت بك مرارًا ولم تجيبني، هل أنت بخير عزيزي؟
ابتلع ريقه واستمد نفسًا كأنه يبتلعه بخوفه، وأشار لها:
_اجلسي ألكس.
تعمدت اثارته بحركاتها الخليعة وبالرغم من ذلك سحب نظراته عنها وجلس على مقعده ساندًا بيديه على الطاولة بهدوءٍ جعلها تتساءل:
_ما بك عمران، لقد تحدثنا وانتهى الأمر ومع ذلك تتجاهل مكالماتي، ظننتك ستهاتفني للذهاب معك حفل إميلي وليام أنت تعلم بأنها صديقتي ولكنك لم تفعل ما الأمر؟
طرق بقلمه على مكتبه بهدوءٍ اتبع رزانة نبرته:
_ألكس أنا لا أتخلى عن كلمتي كوني رجلًا شرقيًا كلمته عهدًا، أريد الزواج بكِ لما حدث بيننا مسبقًا ولكنتي لن أتخلى عن زوجتي المصرية.
رمشت بعدم فهم لحديثه الغامض فبدى واضحًا:
_لن أطلق مايسان.
عبثت بعينيها بغضب قادح ورددت وهي تلعق شفتيها:
_والدتك تريد ذلك أليس كذلك؟
هز رأسه نافيـًا:
_تلك المرة أنا الذي يريد التمسك بزوجتي ألكس، لقد فعلت الكثير لأجلي وأنا أرغب برد دينها.
نهضت بعصبية بالغه لحقت طرقها العنيف على مكتبه:
_حسنًا عمران من اليوم فصاعد لا أريد رؤيتك، أنا أعلم أنك كالعادة تقول تلك الكلمات وتعود لي سأدعك الآن وأنا واثقة بإن عودتك قريبة.
جلس على مكتبه ببرودٍ التمسته تلك التي كادت بالخروج من المكتب، فخشيت بأنها على وشك فقدانه تلك المرة، فما أن ولجت للمصعد حتى دونت رسالة لرجليها
«لا تنسى سنلتقى بعد ساعة بالحفل، أريدك أنا تفعلها بنفسك أنت ورفيقك وأعدك بإنني سأدفع لك 20000ألف دولارًا مقابل ذلك!»
يتبع…
انتهت من محاضراتها وخرجت تحمل حقيبتها بملامح منزعجة، لا تبدو سعيدة بفكرة صعودها لسيارة أجرة للعودة لمنزلها، اعتادت على قيادة سيارتها الحبيبة وعدم مفارقتها لها.
خرجت شمس وعينيها تبحث عن ضالتها لتستدعي سيارة، فتخللها صوتًا ذكوريًا مألوفًا يناديها:
_آنسة شمس.
خفق قلبها بشراسةٍ، وبسمتها الرقيقة ترسم قبل أن تستدير لصاحب الصوت، فبللت شفتيها واستعادت اتزان أنفاسها قبل أن تستدير له، فوجدته يقف قبالتها بثباته الجذاب، يتطلع لها بعينيه التي تخيم على ضوضاء الصباح، لتسحبها لهدوء الليل الساكن من حولها.
بدى مختلفًا بزيه الغير رسمي، لم يكن يرتدى بذلته كالمعتاد، تآلق ببطال من الجينس وقميصًا أسود اللون، يبرز تفننه بالقتال للحصول على جسدٍ منحوت كذلك، لطالما كانت تراقب عمران وهو ينازع برياضته العنيفة ليحافظ على قوامه الممشق، على عكس علي الذي يمقت الرياضة ومشتاقتها، فكان يميل لقراءة الكتب بأغلب الأحيان، ومع ذلك حفاظه على أكله الصحي منحه جسدًا رفيعًا ولكنه لا يمتلك جاذبية عمران والتي تمنتها شمس بفارس أحلامها الذي يفصل من أمامها الآن.
دنى آدهم منها، فاكشفت شفتيه عن بسمة هادئة:
_عاملة أيه بعد ليلة إمبارح؟
وتابع بمرحٍ وهو يراقب تجهم معالمها كمن ذكرها بذكرة تبغضها عمرًا بأكمله:
_أعصابك تمام ولا خلاص مبقتيش تفكري في الخروج من البيت بعربيات تاني!
علقت حقيبتها على كتفها بعدما مدت ذراعها داخلها لتنحدر على خصرها، وهدرت بانفعالٍ:
_إنت جاي تقلب عليا المواجع يا كابتن!
وطوفته بنظرة شملته باستخفافٍ:
_بدل ما أنت جاي تهزر على الصبح روح شوف الباشا بتاعك ليعرض لاغتيال تاني ويبقى ريح وإرتاح.
ضحك بصوتٍ جعلها تراقب المارة من حولها بترددٍ، بالرغم من وجودهما ببلدًا متحررة لا يعني أشخاصها ماذا يحدث بالطريق العام الا أنها قالت بتوترٍ:
_مينفعش أقف معاك كده، عن إذنك.
لحق بها بخطواتٍ متأهبة لتتباعها إينما ذهب، فتوقفت فجأة وهي تنفخ بضيقٍ، وواجهته:
_إنت جاي ليه يا كابتن آدهم.
وحذرت باصبعها الممدود:
_ومتقوليش صدفة والكلام الأهبل اللي ميدخلش عقل عيل صغير ده.
أشمر آدهم عن ساعده وحرر ساعته وهو يراقب الوقت بمكرٍ:
_لأ طبعًا أنا عارف إنك بتخرجي 11وربع.
ارتبكت عينيها أمام هالته الواثقة، ورددت وهي تبتلع لعابها:
_إنت بترقبني!
هز رأسه موكدًا ببسمةٍ هادئة، ودث يده بجيب بنطاله ليخرج مفتاح وقدمه لها، وزعت نظراتها بينه وبين ما يحمله متسائلة:
_ده أيه؟
أجابها بنبرته الرخيمة:
_مفتاح عربيتك.
وأشار بعينيه على السيارة التي تقف على بعدٍ منهما، رفعت شمس نظارتها الشمسية عن عينيها، وبرقت بصدمةٍ جعلت فاهها يتدلى للأسفل بعدم تصديق، وأسرعت تتأكد مما تراه إن كانت لم تراها تشتعل وتنفجر بالهواء لظنتها سيارتها بالفعل، خطفت نظرة لأرقام لائحتها لتؤكد لذاتها إنها ليس هي رغم تجمد عينيها، وقالت وهي تستحضر كلماتها الهاربة:
_إنت ازاي قدرت تآآ..
قاطعها بحزمٍ مرن:
_مش مهم المهم إنها شبهها بالظبط وده مش هيعرضك لعقاب فريدة هانم.
سحبت نظراتها إليه بصعوبة، وبتردد قالت:
_مش هقدر أقبلها، علي أخويا قالي هيشتريلي عربية والموضوع شبه محلول.
أكد لها وهو يقطع المسافة القصيرة بينهما:
_أنا كنت السبب في اللي حصل لعربيتك ومن حقي أعوضك.
ومد يده بمفتاحها مجددًا إليها، فوجدت ذاتها تتناوله منه دون وعي، وفجأة تمردت تعابيرها المشاكس وصاحت:
_بص بقى أنا مش مرتاحالك يا كابتن، امبارح تعترفلي إنك اللي اتعمدت تنيم عجل عربيتي وتقولي ابعدي عن راكان، والنهاردة ظاهرلي بعربية وخايف عليا من عقاب والدتي إنت أيه حكايتك بالظبط؟
كبت بسمته الخبيثة ورفع يده للأعلى باستسلام بريء:
_أنا! ماليش أي حكاية.
احتدت نظراتها إليه وهددته بشراسةٍ:
_طب على فكرة بقى أنا هتصل حالًا براكان وهقوله على اللي بتعمله ده.
وفتحت حقيبتها تبحث عن هاتفها، لتجد يده ممدودة لها بهاتفه الذي تحرر منه صوت راكان:
_أيوه يا آدهم.
ابتلعت ريقها بارتباكٍ، وهي تعود للقاء عينيه الواثقة من جديدٍ، ومازال يقف بشموخٍ يقدم هاتفه لها، غير عابئًا بمن يصيح باسمه ويردد للمرة العاشرة:
_آدهم… ألـووو.. سامعني!
رفع الهاتف نصب عينيها وهو يكتم المكالمة ليخبرها:
_الفون يا شمس هانم.
تحرر صوتها الخافت بحرجٍ:
_مش خايف؟
اتسعت بسمته فأغلق المكالمة وهو يجيبها:
_مبخافش الا من اللي خلقني.
وضع هاتفه بجيب بنطاله وهو يمنحها بسمةٍ تجعل قلبها يقرع كالطبول، وخاصة حينما همس لها بصوتٍ منخفض بعض الشيء:
_أنا آسف مكنش قصدي أزعجك بكلامي، بس صدقيني مش هرتاح غير لما تقبلي العربية وقتها هحس بالراحة إني على الأقل متسببتلكيش بأي مشكلة، كفايا عليا عذاب ضميري لما بفتكر حالة الخوف اللي عرضتك ليها آمبارح بسببي.
منحته ابتسامة ترسم بعفوية، وعلى استحياءٍ قالت:
_شكرًا يا آدهم.
راقب عينيها بتمعنٍ، واختصر بسمته وهو يلتفت من حوله بتوترٍ يهاجمه للمرة الأولى بحضرة تلك الفتاة التي بات يعتني بها فوق مهامه، فقال:
_هسيبك عشان متتاخريش على البيت وأشوفك مرة تانية.
ولاها ظهره وكاد بالمغادرة، فرفعت يدها وهي تهمهم بتيهةٍ:
_آآآ… آآ..
سحبت كلماتها وهي تحمد الله بأنه لم يراها، فلا تعلم أي كلمات كانت ستردد، هي بالتأكيد لا تحمل أي كلمات تجذب به طرف الحديث المنهي بينهم، تفاجآت به شمس يقف عن طريقه ويستدير برأسه لها مبتسمًا:
_أنا كمان مش عايز أمشي بس للأسف ورايا مشوار مهم.. أشوفك بعدين يا شمس هانم.
جحظت عينيها صدمة من فهم مشاعرها وما يدور بداخلها دون رؤيتها أو سماع كلمات صريحة منها، اصطبغ وجهها حرجًا وهي تجده يمر من جوارها بسيارته، فأسرعت لسيارتها وكأنها تتهرب منه وهي تعنف ذاتها:
_هيقول أيه عليا دلوقتي!!
قادت شمس السيارة، لتتفاجئ بسيارته تتبع نفس طريقها، ولو لم يكن أمامها لظنته يتبعها، رآها آدهم بمرآة السيارة الأمامية، فخفف من سرعته حتى بات يقود على محاذاتها، فمال بجسده يفتح نافذة السيارة رافعًا صوته:
_مين بقى اللي بيلاحق مين دلوقتي؟
أخفضت نافذتها وأجابته وعينيها لا تفارق الطريق:
_هو إنت كاتب الأسفلت باسمك ولا أيه يا كابتن؟
قهقه عاليًا:
_لا بس على ما أعتقد مش ده طريق البيت!
خطفت نظرة سريعة له وبررت ببسمة هادئة:
_الباشا اللي بتشتغل معاه مأكد عليا أروح حفلة عيد زواج ناس أنا معرفهمش.
رفع حاجبه بدهشةٍ:
_تقصدي حفلة ليام وإميلي؟
هزت رأسها مؤكدة له، فغمز لها ومازال يتفادى السيارات ليبقى على محاذاتها:
_يبقى طريقنا واحد وونس طول الطريق!
*****
بدأ الحفل وازدادت أعداد المدعوون بالحضور، نخبة من أهم رواد الصناعة والتصدير، أغلبهم من جنسيات غير عربية ونادرًا بتواجد عدد من العرب، ساد الحفل عددًا ضخمًا من الفتيات المرتديات لثياب عارية، والكؤؤس محملة بعدد مهول من الخمور قلة من لعصائر لبعض الناس الممتنعة عن شرب المحرمات بين هؤلاء، ومن بينهم كانت تقف ألكس بفستانها الأزرق القصير، وشعرها القصير المصبوغ بالبرتقالي بعد أن انتهت اليوم من صنعه استعدادًا للحفل، تلتهم كوبها وعينيها تبحث عن بين الوجوه عن أبطال قصتها المدموجة داخل عقلها المريض المحدد لطوائف خطتها المدبرة.
وكانت أول أفرادها صديقتها إميلي بعد أن اتفقت معها مسبقًا، ووافقتها على الفور لعنصريتها المندثة داخلها تجاه أي عربي، ولكنها مرغمة على تواجد عدد منهم لمراكزهم الهامة التي تخضعهم لهم مزللين.
اقتربت منها ألكس تميل على آذنيها هامسة وعينيها لا تفارق بوابة المنزل البيضاء:
_أصابني الخوف من تأخرهما الملحوظ، أخشى أن لا يحضران وتنتزع خطتي بأكملها.
خطفت تلك السيدة الثلاثينية بصرها إليها، ورسمت ابتسامة واسعة وهي تشير لها بمكرٍ:
_خاطئة ألكس لقد وصلت عائلة السيد عمران بالفعل.
اتجهت عينيها تلقائيًا للبوابة بلهفةٍ، فاعتلتها بسمة شيطانية مخيفة فور رؤيتها لمايسان تدلف برفقة عمران بفستانها الأبيض الطويل المحتشم، وحجابها المتدلي من خلفها، وكأنها عروس تزف لعريسها!
راقبتهما جيدًا فوجدته يستأذن منها ويغادر ليقابل رفيقه جمال الذي استقبله بالاحضان، بينما استكملت مايسان طريقها باحثة عن آميلي، فما أن رآتها حتى دنت منها تقدم هديتها باحترامٍ وبسمة بشوشة:
_عيد زواج سعيد إميلي.
اغتصبت بسمة فاترة على شفتيها وهي تجيبها:
_أشكركِ عزيزتي.
وأشارت بيدها على الطاولة القريبة منهم:
_تفضلي بالجلوس.
انتبهت مايسان لمن تجاورها بوقفتها، فاغتظمت معالمها غضبًا، ظنًا منها إن عمران كعادته لا يستغني عنها بحفلاته الهامة، فلحقت إشارة إميلي بالجلوس، وجلست تترقب انضمام شمس لها بصبرًا لا يطاق.
*********
جلس عمران برفقة جمال الذي يتهرب من التطلع بعينيه بحرجٍ، فابتسم لمعرفته ذاك الشعور جيدًا، فربت على يده الممدودة على الطاولة وهو يخبره:
_مفيش داعي يا جمال، أنا عارف إنك مش هتعملها تاني، ولا عمرك هتشرب القرف ده.
تنحنح بجلسته وهو يؤكد له:
_أنا مكسوف من نفسي يا عمران، مش قادر أوري وشي ليوسيف، إنت عارف إنه بيخاف على سيف أخوه أوي هيكون وضعه أيه وهو شايفني بسكر قدامه، الولد صغير ومينفعش يشوفني كده.
تلبسه الألم، فزاغت عينيه بالفراغ وهو يردد بندم:
_أنا السبب، أنا اللي دخلت القذارة دي بيت يوسف، بس مش هتتكرر تاني.
اتسعت بسمة جمال وبفخرٍ قال:
_لو عملتها تبقى راجل بصحيح.
أكد له:
_هيحصل بإذن الله.
وتابع بسؤاله وهو يتابع تلاشيه لهاتفه مجددًا:
_إنت لسه مصالحتش صبا بردو؟
ألقى الهاتف جانبًا وارتشف عصيره بهدوءٍ:
_لأ وشكلنا كده مش هنتصالح أبدًا.
ووضع الكوب وهو يسحب جسده للطاولة هامسًا:
_ولولا الصفقة المهمة اللي بيني وبين ليام مكنتش جيت الحفلة المملة دي من أساسها، بس مش هطول شوية وهخلع عند سيف، النهاردة يوسف قايل إن الدكتورة ليلى محضرلنا محاشي وكفتة من اللي قلبك يحبها.
ضحك بصوتٍ مسموع، وأكد عليه:
_معاك وش، شوية وهخلع معاك نفس الخلعة.
التفت جمال لطاولة مايسان البعيدة عنهما، وربت على يد عمران:
_طيب روح إقعد مع مراتك متسبهاش لوحدها ميصحش كده.
ود بالنهوض ولكنه فضل البقاء برفقة جمال حينما وجد ألكس تحاول الاشارة له كل دقيقة، ففضل البقاء بعيدًا عنها، لا يريد أي شيء ينزع حالة السكينة المؤقتة بينه وبين زوجته.
تناول عمران المقبلات من أمامه وهو يتفرس ملامح جمال الذي يقرأ رسالة وصلت لهاتفه، فأغلقه من الزر الجانبي وهو يردد من بين اصطكاك أسنانه:
_وأدي أم التليفون هددي نفسك بقى!
أبعد طبق المقبلات عنه، وسحب مقعده ليدنو من رفيقه مرددًا بجدية:
_جمال إنت كده بتدمر حياتك، مش كده اهدى وإرجع بيتك اقعد مع مراتك واتناقش معاها بهدوء.
سحب جمال المقبلات بكمية يدس بها غيظه وغضبه الشديد:
_قولتلك دي فاضية ودماغها رايقة بالبلدي كده مورهاش حاجة غيري، فتعمل أيه تتفنن في إنها كل يوم تطلعلي عيب شكل.
انفجر عمران ضاحكًا، وقال بصعوبة بالحديث:
_بسيطة شوفلها شغل، إنت مش بتقول إنها معاها كلية حاسبات ومعلومات يبقى سهل تشتغل!
وتابع حينما تآلقت فكرته:
_شغلها عندك في الشركة هتفيدك وهتنشغل عنك إسالني أنا!
خطف بسمة ساخرة:
_مجنون أنا عشان أجيب النكد لنفسي لحد الشغل كمان، أهو ده اللي ناقص!!
تحلى بصمته لدقيقةٍ ثم قال:
_خلاص خليها تشتغل مع مايسان بشركاتي، أنا كده كده محتاج لناس عندهم خبرة في الحاسبات، وفوق كل ده هتسحب مع مايسان اللي طالع عينها وسط الموظفات الأجانب.
ضم شفتيه بحيرةٍ من اتخاذ أمرًا كذلك، ففاه بارتباكٍ:
_بس آآ..
قاطعه بحزمٍ بعدما وجد الحل الأمثل لمشكلته:
_صدقني ده الحل، اختلاطها مع الناس اللي هنا هيفيدها جدًا، ومش هيخليها تحس بالوحدة، وهتحل عنك بردو يا سيدي أنا عارفك مبتحبش الرغي ولا الاسئلة الكتير فالليلة دي مقاسك.
هز رأسه باقتناعٍ:
_خلاص لما أرجع بليل هكلمها في الحوار ده وأشوف.
ورفع يده لكتفيه بامتنانٍ:
_مش عارف أشكرك ازاي يا عمران، بجد نجدتني من قنبلة الاكتئاب دي!
تمردت ضحكاته مجددًا، وبات مازحًا:
_يا ابني مش دي صبا اللي حفيت عشان تتجوزها، حبك راح فين؟
لوى شفتيه بتهكمٍ وكأنه يذكره بما مضي ولم يعاد إليه، فسحب رشفة من كوب عصيره، قائلًا:
_كانت كريزة بعد الجواز بقت كئيبة!!
*******
تفحص علي النوت الصغير ببسمةٍ هادئة، يقرأ الآن مواقفها الايجابية بحياتها، يدفعها لرؤية ما تحتفظ به داخل ذكرياتها، يدفعها تلامس حقيقة أنها تحوي الذكرى القاسية واللطيفة بآنٍ واحدٍ، وحينما انتهى من القراءة قال وعينيه منصوبتان عليها:
_شوفتي إن جوانا حاجات كتيرة حلوة حتى لو فيها الوحش!
ابتسمت بمرارة تجرعتها بكلماتها:
_أنا الوحش عندي أكتر من الذكريات الحلوة اللي تتعد على الأيد يا دكتور.
خلع نظارته الطبية وتطلع لها يخبرها:
_حتى لو الحلو قليل يا فطيمة اتمسكي بيه ومتسوفيش غيره.
انهمرت دمعتها الصريحة على خديها، فازاحتها وتمعنت بالتطلع له قائلة بجراءة وقوة لم يراها منها قط:
_دكتور علي أنا ادبحت من تلات كلاب أكثر من مرة، قتلوني بالحيا وسابوني أنازع وعقلي مش مستوعب اللي حصلي، سابوني بدور زي المجنونة على أي حاجة أقتل نفسي بيها بس مكنش في حاجة حوليا غير الضلمة وعذاب الضمير على مراد.
وجده طريقًا سلسًا للخوص داخل رحلتها من جديد، وبالرغم من أن النيران تلتهمه هو أولًا قبل أن تصل له، الا أنه استكان بجلسته وهو يحافظ على أنفاسه الهادرة داخل قفصه بانفعالٍ وكأنه يركض لمسافاتٍ وداخله يهمس:
_اهدى يا علي، إنت في الأوضة دي كدكتور وهتقوم بواجبك على أكمل وجه، مشاعرك ووجعك ارميهم على جنب.
تنحنح وهو يجلي حلقه:
_أخر مرة اتكلمنا فيها كان عن خطيبك.
وابتلع غصته المؤلمة وردد بحروفٍ طاعنة:
_بعد ما خضعتي لكشف العذرية أيه اللي حصل بعد كده يا فطيمة؟
أغلقت جفنيها بقوةٍ جعلت دمعها يتدفق بصمتٍ، وكأن أحدًا يتنزع قدميها المثبتة على الدرج الخشبي ويجذبها للقاع من جديد، فقالت وهي تسترد انفاسها الثقيلة:
_عديت الموقف وكل حاجة عشان أهلي، وابتدينا نحضر للجواز، بالرغم الألم اللي كان جوايا الا إني حاولت أتخطاه وأركنه جنب اللي مريت بيه في سبيل اني كويسة ومحدش مسني وده هو وأهله اتاكدوا منه، بس اللي مكنتش أعرفه إني اتحررت من سجن صغير لسجن أكبر ولجلادين أبشع.
وازاحت دموعها بقهرٍ وهي تردد:
_خطفوني تاني بس المرادي كانت مختلفة، كانوا عايزين الملاك اللي ساعدنا وهربنا من المكان القذر اللي كنا فيه.
وسلطت عينيه له وهي توضح له:
_كانوا عايزين مراد، عشان بنتقموا منه ومن اللي عمله بالشبكة الدولية اللي محدش قدر يكتشفها.
واستطردت بصوتٍ مرتعش:
_عذبوني وهدودني بأختي لو مطاوعتهمش هيقتلوها هي وعيلتي، مكنش قدامي أي حلول تانية اضطريت أخضعلهم واتصلت بمراد وطلبت منه يجيلي على العنوان اللي بعتهوله، كان نفسي أصرخ في نفس المكالمة وأحذره إنه يسمع كلامي وفي نفس الوقت كان جوايا أمل إنه يقدر يخرجني المرة دي كمان من غير ما حد يمسني، بس أحلامي اتدمرت في كل مرة اتعدوا فيها عليا، والبشع إنهم مرحموش مراد، كانوا بيحقنوه بالمخدرات لحد ما بقى مدمن.
وتابعت وهي تزيح عنها دموعها:
_احساس الذنب كان هيقتلني وأنا شايفاه بالحالة دي، مراد شخص قوي وعزيز كان صعب عليه المهانة اللي عاشها ونظرات عينه كانت كلها غضب لعجزه إنه يدافع عني، لدرجة خلتني أتاكد إن خروجي أنا وهو شبه مستحيل، فهربت من المواجهة، سكوتي كان هرب ليا من كل شيء، من الوجع والقهرة وكسرة النفس، كل يوم بشوفهم في حلمي وهما بينهشوا لحمي، وأنا عاجزة عن إني حتى أصرخ وأتوجع.
واسترسلت وجسدها ينتفض من فرط البكاء:
_الأيام اللي فضلتها هناك كانت بالنسبالي 100000سنة، كل يوم كنت بتجلد لما أسمع صوت الباب بيتفتح وبدعي إن روحي تفارقني.
وضمت ساقيها لها وهي تستند برأسها عليهما:
_كنت بتوسل ليهم كل يوم عشان يقتلوني بس دموعي وصراخي كان بيخليهم مبسوطين أكتر، أنا ناري مبردتش وأنا شايفة رحيم أخو مراد بيتقم منهم وبيقتلهم قدامي، نار لسه مبردتش لحد اللحظة دي، أنا أوقات بكره نفسي وبحملها ذنب اللي حصل، بحملها ذنب عجزي.
أغلق عينيه بقوةٍ أدمت تلك الدمعة التي انسدلت على خديه لأول مرة، وصوته المختنق بالعبرات يهاتفها برجاءٍ:
_كفايا.. كفايا يا فطيمة!
رفعت عينيها إليه بصدمةٍ، لم تستوعب مدى تأثره الشديد بحديثها، دمعة الرجال عزيزة وها هو يضعها متخبطة أمامه، لا تعي لماذا تأثر لتلك الدرجة التي جعلته يترك نوته، هاتفه، سماعته، كل شيءٍ ويهرول لخارج الغرفة بانفاسٍ متحشرجة، راقبته بشرود وصدمة مازالت تبتلعها.
******
نهض عمران ليستقبل راكان الذي يسرع إليه برسميةٍ تتلقفها أعين الصحافة، بعد أن انتشر خبر ارتباط شقيقة عمران سالم براكان مثلما أراد، فمال عليه يهمس وابتسامته المصطنعة تغزو وجهه المرتفع بكبرياءٍ:
_فين شمس؟
منحه نظرة ساخرة لعنجهيته التي لم تتركه بعد، وقال:
_أكيد على الطريق متنساش إن المكان بعيد.
هز رأسه متفهمًا، واتبعه للداخل والنقاش المتبادل يخص تجارة عمران وإلقاء راكان أول حبال خطته الدانيئة بعرضه الشراكة الصريحة بالصفقة القادمة بينه وبين عمران الذي أجابه بمهنيةٍ:
_شرفني مكتبي في أي وقت نتكلم أفضل في التفاصيل.
هز رأسه بانتصارٍ وابتسامته الشيطانية تغادره رويدًا رويدًا لتنقلب للدهشة حينما وجد شمس تقترب منه بملابس عادية لا تليق بحفلٍ كذلك، ضرمت مخططاته بالظهور برفقتها أمام الصحافة، لتنتشر اخبار نسبة المشرف بين زيجات رجال الأعمال، أسرع إليها بخطواتٍ سريعة يمنعها من التواجد لعرضة الصحافة، وعنفها بعصبية استمع لها آدهم الذي يهم بالاقتراب:
_أيه اللبس ده؟ بتهزري صح!
رمشت بعدم فهم، وادعت برائتها:
_ماله لبسي، مريح ورقيق جدًا.
كز على أسنانه بحنقٍ:
_يعني إنتِ مش عارفة إنك جاية حفلة زي دي يا شمس، هتظهري إزاي كده جنبي قدام الصحافة.
أجابته ببرودٍ ونظرات مستشاطة من طريقته بالحديث:
_والله أنا رفضت أحضر الحفلة دي من البداية إنت اللي صممت آني أحضرها ده أولًا، ثانيًا بقى ودي الأهم أنا كان عندي محاضرات مهمة ومكنش عندي الوقت اللي أرجع فيه البيت وأغير هدومي.
اقترب منهما عمران يتساءل باستغراب وعينيه تجوب وجوهمها:
_في أيه؟
التفت له راكان بجسده وصاح بانفعالٍ:
_بذمتك يا عمران ده لبس تظهر بيه خطيبتي قدام الصحافة ورجال الأعمال جوه!
وضع يده بجيب بنطاله ليبجبه بجمودٍ وصرامة مخيفة:
_خد بالك من كلامك كويس يا راكان، واعرف إنت بتتكلم بإنهي طريقة بدل ما أفهمها تقليل من إختي وأرمي خاتمك في وشك وقدام الصحافة اللي عاملين ليك هوس دول عشان بعد كده تعرف حدودك وأخرك في الكلام.
ارتعب راكان من نبرته وخشي أن تضرم مخططاته هباءًا فقال بلطفٍ:
_مقصدتش حاجة يا عمران أنا عارف كويس أنا مختار بنت مين، بس الحفلة ليها فساتين ولبس معين ما أنت عارف، ثم إني بعتبرها مراتي ومسؤولة مني وشكلها أكيد من شكلي.
واستدار لشمس التي ترمقه بغيظٍ وقال:
_أنا آسف يا حبيبتي مقصدتش شيء، ولو عمران باشا يسمحلي أخدك لأي أتليه نشتري فستان سريع ونرجع عشان لازم أعرفك على كذه حد مهمين.
رفعت عينيها لأخيها فوجدته يهز رأسه بخفوتٍ لتتبعه، فما أن استدار راكان ووجد آدهم حتى ردت روحه وانتشت ابتسامته، فأشار له:
_آدهم.
أنهى آدهم اتصاله ودنى منهما يتساءل:
_خير يا باشا.
ابتعد به راكان عن نظراتها المحتقنة، ومال عليه يهمس بغضبٍ:
_خد شمس لأي أتليه شيك اشتريلها فستان قيم وكوليه غالي من الآخر عايزك مترجعهاش ناقصها حاجة إنت عارف الحفلة دي مهمة لينا أد أيه، ليام وإميلي معارفهم مهمين لينا خصوصًا الفترة الجاية.
حك أرنفة أنفه يخفي تعصبه وصاح:
_أنا ماليش في أمور الحريم دي يا باشا، فستان أيه اللي أجابه!
أكد عليه ومازال يرسم بسمته الساذجة لتلك التي تحاول الاستماع لحديثهما:
_اتصرف يا آدهم، وشوفلها حد يحطلها ميكب إنت مبتغلبش.
زوى شفتيه تهكمًا:
_حد قالك إني ساحر!
وأضاف بتحفزٍ:
_اللي بتطلبه ده أساسًا لا يمت للاسلحة والقتل والحراسة والاكشن ده بشيء، صدقني لو حاجة تانية هقدر أفيدك لكن آآ….
أوقفه حينما أخرج الفيزا إليه:
_اتصرف يا آدهم قبل ما نتفضح باللبس اللي هي لابساه ده!
وتركه وغادر ومازال آدهم يقف محله، يضم ذراعيه لخصره بانهاكٍ، هامسًا:
_المهمة دي جابت أجلي، أقتله وأقصر وقتي ولا أصبر لما أوقع اللي وراه وأهو كل بثوابه!
رفع آدهم هاتفه يستدعي فؤاد واتجه يقف قبالة شمس، فما أن تأملها حتى هرولت عنه كل طاقة غضب سكنته، فابتسم وهو يشير لها على السيارة التي وقفت قبالتهما:
_شمس هانم.. اتفضلي.
منحته نظرة غاضبة ومازالت يدها تضم صدرها وقدميها تهتز بعصبية واشيكة على قتل من يقابلها، فصعدت للخلف وهي تبرطم:
_كان ناقصني راكان الاهبل ده كمان!
كبت ضحكاته فأغلق باب السيارة الخلفي وأتجه ليستقر جوار فؤاد الذي تلقى تعليماته بالتحرك، بينما يتابعها آدهم من مرآة السيارة الأمامية، يبتسم وهو يرآها تكاد تشتعل من الغيظ والغضب، لا يعلم لما تألم لأجلها.
رغم تفاهة الموقف الا أنه كان يتابعها باهتمامٍ، يود بأي طريقة يتحدث إليها ليخرجها عن صمتها الذي بات مقلقًا له، ولكن وجود فؤاد يعيقه عن فعل أي شيءٍ سيجعله يخسر هيبته السرية المعتادة بين فريق عمله السري المحاطين به بكل جانب، التزم الصمت حتى هبط معها لأحد المحلات الفخمة المعروفة، فولجت برفقته للداخل ووقفت تربع يدها ومازال الغضب يحاط بها.
دنى منها آدهم فابتسم وهو يمازحها:
_أنا عارف إن البنات بتاخد أربع خمس ساعات على ما تجهز فمتوقع بقى عما تنقي اللي إنتِ عايزاه وتلبسي هيكون تقريبًا الليل ليل والحفلة انتهت.
استدارت إليه لتتفجر عما كانت تحتسبه طوال الطريق:
_أأنا لا عايزة ألبس فساتين ولا أحضر حفله ولا أشوف خلقة الباشا بتاعك من الاساس أنا عايزة أروح.
لم يخسر حكمته بحل تلك المواقف أبدًا، إن تمكن من تفكك القنبلة المؤقتة بالظلام،واستخدام اسلحة مدمرة كتلك التي يتدرب عليها بالجهاز الأمني،الا يستطيع تحقيق الانصاف لتلك الانثى، قلص مسافته منها ورفع الفيزا إليها وهو يشير بمكرٍ:
_أنا بقول نسمع كلام الباشا أفضل،ونختار الفستان الشيك الغالي عشان نشرفه حتى لو هنصرف نص رصيده ونقهر قلبه المهم نتألق زي ما هو عايز ولا أيه؟
ارتسمت بسمة شيطانية على شفتيها، فاستدارت له بسعادة غريبة:
_عندك حق أنا هخليه يقول حقي برقبتي ويجري على فريدة هانم يبوس رجليها إني أرمي دبلته في وشه.
تعالت ضحكاته لسماعه أحلامها البعيدة على البعد عن محاربة ذاك الشيطان فقال:
_راكان مش هيتنازل عنك بسهولة، إساليني أنا.
رمشت بتوترٍ، وازدردت لعابها بارتباك:
_يعني أيه؟
تعمد تجاهل سؤالها، واتجه لاحد الفساتين الموضوعة بزواية مخصصة، وأشار:
_أيه رأيك في ده؟
تفحصته جيدًا فوجدت قصته تليق بها، كان يضيق بالاعلى ويهبط باتساعٍ بعدة طبقات تحوي الفراشات الفضية، تحيط به جوهرة بدت ثمينة للغاية، عادت خطوتان للخلف لتكن جواره بالتحديد:
_بس ده شكله غالي جدًا جدًا يا آدهم، إنت مالي إيدك من غضب راكان ده ليقتلني.
قهقه ضاحكًا وهو يجيبها:
_هحميكي متقلقيش.
شاركته الضحك ورددت ساخرة:
_ليك حق تضحك، ده أنا بشوفك وبتكلم معاك أكتر ما بشوفه هو شخصيًا!
قالت كلماتها غير واعية لمن يتمعن بها بشرودٍ، خفق القلب وتمرد من لجامه ليتبعها دون ارادة منه، تنحنح بحرجٍ حينما انتبه لشروده وتحرك للعاملة يقدم لها الفيزا ويخبرها بحمل الفستان للأعلى لتتمكن شمس من ارتدائه، وبقى هو بالأسفل ينتظرها.
لف ظهره يتأمل المارة من خلف الزجاج الشفاف المحاط بالمحل، ينتظرها تهبط للاسفل، مرت ثلاثون دقيقة ومازال يقف محله حتى إنتبه لصوتها اللاهث القادم من الدرج القابع بمسافة منه:
_آدهم.
استدار وليته لم يفعل، سقط أخر حصن امتلكه، وأوشك الأمر لخطورة يعلمها جيدًا، يكاد بفقدان أكثر ما تمرن عليه، التحكم بالنفس أمام أي أنثى تحاول اغرائه، وفعلتها تلك دون عناء منها.
تحكم بذاته وهو يدنو منها، فوجدها تهبط للاسفل بتعبٍ شديد، لتشكو له:
_الفستان ده تقيل أوي!
ضحك وهو يغمز ماكرًا:
_طبعًا مش مدفوع فيه نص مليون دولار.
جحظت عينيها صدمةٍ، ورددت وهي تستند على درابزين الدرج المعدني:
_ده كتير أوي يا آدهم، لأ خليني أشوف حاجة تانية بدل ما آ.
قاطعها بخبث:
_يعني مش عايزة تنتقمي من راكان المتغطرس ده اللي طول الطريق بتهري وبتنكتي في نفسك بسبب كلامه.
لاح لها ما فعله، فقبضت على معصمها وهي تستكمل طريقها للأسفل قائلة:
_ادفع يا آدهم وميهمكش.
انتظر مرورها ولحق بها، فتمكن رؤية فتحة ظهر الفستان وإن كانت صغيرة، فتنحنح وهو يشير لها:
_شمس.
توقفت وهي تتفحص ما قدمته العاملة لها من أدوات تجميل باهظة للغاية، فاستدارت إليه تتساءل:
_ده أيه ده كمان؟
زوى شفتيه وكأنه على وشك بترهما:
_هو اللي طلب إنك تحطي.
اعادتهم ليد العاملة وهي تخبره بغضب:
_مش هحط حاجة ولحد كده وكفايا هو مش واخدني فرجة للناس سعاته!
ابتسم وهو يردد بنبرة حنونة:
_اهدي وبلاش تعصبي نفسك، ولا يهمك اللي إنتي عايزاه إعمليه.
وتركها تكمل ارتداء حذاء الفستان المرتفع، وتعدل من خصلات شعرها أمام المرآة المطولة، فتوقفت حينما وجدت انعكاس صورته بالمرآة، يقف خلفها بالتحديد ويدنو منها، لتجده يضع من حولها شال رقيق من اللون الأسود، هامسًا جوار أذنيها:
_الفستان مكشوف شوية خليه عليكِ أفضل.
وتراجع وهو يشير لها بالتقدم، سحبت قدميها بتوترٍ مما فعله، حتى فتح باب السيارة.
خطفت شمس نظرة أخيرة إليه قبل أن تعتلي المقعد الخلفي، بينما صعد آدهم جوار فؤاد مبتسمًا كلما وجدها تراقبه بالمرآة، وعينيها لم تتركه أبدًا.
*******
كانت تتمعن بهاتفها وهي تراقب رسالة شمس التي توضح لها ما فعله راكان، وأخبرتها بأنها ستستغرق وقتًا لتصل للحفل، أعادت مايسان الهاتف لحقيبتها بمللٍ من الحفل الذي تجلس به بمفردها، فبحثت عنه بعينيها وسط رجال الأعمال، ولكن خاب أملها حينما لم تتمكن من رؤيته.
_لا يقف هنا، عمران بالخارج..
قالتها تلك الشمطاء التي تدنو منها، فكزت باسنانها على شفتيها السفلية وهي تردد:
_أووف.
ثم قالت بعصبية بالغة:
_ماذا تريدين مني ألم أحذرك من الاقتراب مني!!
تعمدت اثارت غضبها بصوت ضحكاتها، وانحنت لجلستها تهمس لها بفحيح أفعى قاتلة:
_اعتادي وجودي مايا، لقد وافقت اليوم على زواجي من عمران بشرط أن يطلقكِ، ووعدني بأنه سيجد حلًا يرغم والدته على الموافقة.
وتجرعت النبيذ وهي تشير لها بحقد:
_أخبرتك بأنني من سينتصر هنا.
وقبلتها بالهواء وغادرت تاركة من خلفها عينيان غائرتين لا تستوعبان ما استمعت إليه، وما يعاد لها الآن ما الذي سيفعله عمران ليجبر خالتها على الموافقة، ماذا تقصد بالتحديد؟
لم تحتمل مايسان البقاء بعد سماعها ذلك، فجذبت حقيبتها وهمت بالرحيل في نفس لحظة اقتراب إميلي تبعًا لخطتها، اصطدمت بها عن عمدٍ ليسقط عصير الفراولة على فستان مايسان الأبيض فاتنزع لونها بنجاح، متعمدة أن يصل العصير لنصفها السفلي بانحناءة جسدها الهايل لسقوطها الزائف.
إدعت إميلي فزعها الشديد، وجذبت المناديل الورقية القريبة من الطاولةٍ وهي تردد:
_أعتذر منكِ مايا، نهضتي عن مقعدك فجأة ولم أنتبه لكِ.
التقطت منديلًا تحاول به ازاحة الاتساخ العميق عنها وهي تشير لها باحترامٍ:
_لا عليكِ، أنا التي كان ينبغي عليها الحذر.
مالت إميلي عليها تخبرها بصوتٍ منخفض وكأنه يعنيها أمرها كثيرًا:
_اصعدي معي للأعلى، اغتسلي وسأحضر لكِ فستانًا من ملابسي
اعترضت على ذلك بتهذبٍ:
_لا بأس، سأغادر على الفور.
أبدت موضحة رأيها وهي تشير بيدها للخارج:
_لا ينبغي لكِ المغادرة هكذا أمام أعين الصحافة، وفوق كل ذلك لن أسمح لكِ بالمغادرة، الحفل لم يبدأ بعد.
وحينما لمست توترها، مدتها بأمانها الزائف:
_لا تقلقي سأختار لكِ فستانًا واسعًا ليس عاريًا مثلما ترغبين.
أومأت باستسلامٍ فبالنهاية لن تتمكن من المغادرة بفستانها الذي طغاها اللون الأحمر من تجاه ساقيها فباتت أمورها أكثر حرجًا.
صعدت معها لأحد غرف الطابق العلوي بخجلٍ، لتجدها تفتح باب الحمام مشيرة لها:
_اغتسلي وسأحضر لكِ فستانًا أخر.
شكرتها مايسان على استحياءٍ:
_لا أعلم كيف أشكرك على هذا المعروف إميلي،الأمر مخجل برمته.
ردت عليها ببسمتها الشيطانية:
_أووه مايا أنتِ لا تعلمين ماذا تعنين لي، والآن اعطيني فستانك سأقدمه للخادمة تنظفه لكِ إن وددتي العودة به مجددًا.
قالتها بمكرٍ وهي تفتح يدها لها، وبالرغم من الحرج الشديد الا أنها ولجت للحمام ونزعته عنها لتقدمه لمن تلقفته وابتسامة الشر تنبع على وجهها، لتغادر الغرفة قائلة لمن بداخل الحمام:
_سأعود بالفستان حالًا.
وحينما أغلقت باب الغرفة أرسلت رسالتها لألكس، وبدورها أرسلت للرجلين وحثتهما على بدء تنفيذ مخططها.
******
أرهقتها قدميها من فرط البحث عن زوجة أخيها بين المدعوون، أكد لها عمران منذ وصولها برفقة آدهم بأنها بالداخل، بحثت عنها كثيرًا ولم تجدها على أي من الطاولات بالداخل، تخشى أن يعثر عليها راكان مجددًا فيجذبها لتقف برفقة رجال الطبقة المخملية المملة.
رفعت شمس هاتفها في محاولة للاتصال بها، فاستمعت لصوت هاتفها قادم من مكانٍ مجاور لها، اتبعته حتى وصلت لطاولةٍ فارغة تضم حقيبة مايسان، فاعادت الاتصال بعمران الذي أجابها ممازحًا:
_لحقت أوحشك.
اتاه صوت شمس المرتبك:
_عمران أن قلبت الحفلة كلها على مايسان ملقتهاش، حتى شنطتها لقيتها على التربيزة!
رد عليها بهدوءٍ:
_يمكن واقفة مع حد من صديقاتها أو بالحمام يا شمس.
اجابته بقلق وهي تجلس على الطاولة:
_ممكن، عمومًا هستناها هنا.
أغلق عمران هاتفه وأعاده لجيب بنطاله لينتبه لتلك التي تحاوط رقبته وهي تهمس بصوتٍ مغري:
_مرحبًا أيها الوسيم.
أبعدها عمران وعينيه تتلصص على من حوله بخوفٍ، ازداد حينما رمقه جمال الواقف بصحبة احد رجال الأعمال بنظرة حازمة، فصاح بها:
_بربك ألكس ماذا تفعلين؟!
حاولت أن تجعل شفتيها المصطبغة بطلاءٍ باللون الأحمر تلامسه الا أنه شدد على معصمها بغضبٍ، ليخبرها من بين اصطكاك اسنانه:
_اكثرتي بالشراب ألكس.
وضعت رأسها على صدره، ويدها تتحسس صدره، فأزاحها بنفورٍ:
_ الناس يرقبون ما تفعلينه، كفى!
أجابته وهي تحاول البقاء بأحضانه:
_وإن يكن، دعهم يراقبون غرامنا عمران، اليوم سأحررك من تلك العلاقة اللعينة، سأقدم لك خلاصك الأخير من تلك الساذجة المصرية.
جحظت عينيه صدمة مما يستمع، وقد بدأ عقله بالعمل على الخيوط المدروسة من أمامه.. حديثها بالأمس عن خطة سترغم والدته على أن يطلق مايسان، شمس التي أخبرته بعدم وجود زوجته بالحفل، وحديثها الآن!
أبعدها عمران عنه بقسوةٍ جعلت ذراعيها تلتهب من فرط تمسكه العصبي ليدها، وبنبرة كالجحيم تساءل:
_ماذا فعلتي بحق الجحيم!! أخبريني ماذا فعلتي؟؟؟ أين مايسان؟ أين زوجتي؟!
تخبطت وتشتت بمن يقف أمامها، وكأنه شخصًا أخر، سال لعابها من فرط الرعب، فابتلعت ريقها وهي تردد:
_إهدأ حبيبي، ألم كنت تعاني من وجودها بحياتك!
أنا سأحررك الآن، سيلتقط لها بعض الرجال المتسأجرون صورًا وهي برفقتهم وحينها ستجبرك والدتك على تركها.
دارت الأرض به، فشعر بأنه سيسقط لا محالة، رمش في محاولةٍ لاستيعاب ما تقوله، فخرج صوته هادئًا يعاكس نيرانها المقتادة داخل صدره:
_تبًا لكِ، سأقتلك ألكس..
وركض للداخل بسرعةٍ، حتى تفادى اسقاط الخادم الحامل لصينية الكؤؤس، ركضت ألكس حوله، جذبته وهي تصرخ بعصبيةٍ:
_ما بك عمران، هل جُننت؟
رفع يده ليهوى على وجهها بصفعة اسقطتها أرضًا وهو يفوقها بصوتٍ عنيف:
_سأعود لمحاسبتك لاحقًا، أعدك بأنني سأعود.
وهرول للداخل مقتحمًا المنزل، في محاولة للعثور عليها، صعد عمران للطابق العلوي فجحظت عينيه حينما وجد فستانها ملقي بسلة القمامة القريبة من الدرج وعلى ما بدى له من بعيدٍ بأنه يحمل الدماء!
********
انتظرتها مايسان لأكثر من ثلاثون دقيقة ولم تعد حتى الآن، بقيت محتبسة بالداخل بقميصها القصير بخوفٍ هاجمها في كل مرةٍ فتحت الباب ولم تجدها بالغرفة، نادتها كثيرًا ولم يجيبها أحدٌ، فهمست برعبٍ:
_هي نسيتني هنا ولا أيه!
وزفت بغضبٍ شديد:
_حتى موبيلي مش معايا!
زارتها سعادتها المهاجرة فور سماعها لصوت أقدام تقترب بالخارج ففتحت الباب تتفحص عودة إميلي، تلاشت ابتسامتها ذعرًا حينما وجدت رجلين يتتسلان لداخل الغرفة، واحداهما يحمل كاميرا بيده ويشير للأخر بالتقدم مردفًا بصوتًا شبه هامس:
_إبحث بالداخل لم تخبرنا هي بأي غرفة، تأكد من تلك الغرفة وسأبحث بالغرفة المجاورة لها .
أشار له وهو يخرج محقنًا من جيبه:
_ملأتها بالمخدر حتى لا يستمع لصوتها أحدٌ.
تراجعت مايسان للخلف بصدمةٍ، ويدها تكمم فمها الواشك على الصراخ، فأغلقت ضوء الحمام بحذرٍ وتسللت للكايبنه الخاصة بالدُوش، تجلس أرضًا محررة باب الحمام من الداخل وتاركة باب الكابينه مفتوحًا حتى لا يشك بوجودها.
ارتعبت وحافظت على أنفاسها بصعوبة حينما تحرر باب الحمام ومن بعده الضوء، فولج للداخل يلقي نظرة متفحصة، وخرج بعدها يصيح لرفيقه:
_ليست هنا.
فور انغلاق باب الغرفة هرولت راكضًا لتغلق باب الحمام من الداخل وسقطت من خلفه تبكي بقهرًا وكل ما يحاوطها بتلك اللحظة جملتها
«عمران وعدني بأنه سيتخلص منكِ؛»
هل قصدت بأن زوجها الحبيب أراد أن يلوث شرفها؟!
أليس شرفها هذا هو شرفه هو الآخر؟!
كيف يسلمها بيده لهؤلاء الرعناء؟ أيفعل ذلك لأجل أن يحصل على سببٍ مقنعٍ للطلاق دون أن يخسر المال والممتلكات!
تحلياتها مزقت نياط قلبها، فتحولت يدها لتضرب فمها بقوةٍ ألمت أسنانها وجعلت شفتيها تنزف بقوةٍ، لا تعلم أتضرب ذاتها لتكف عن البكاء حتى لا يستمع إليها أحدٌ، أم من شدة القهر والمهانة التي تخوضها الآن وبالأخص بخطته التي حرصت على تجرديها من كبريائها بلا رحمة!
******
حمل عمران فستانها وهرع للغرف كالمجنون وهو يناديها بصوتٍ جريح مذبوح:
_مايـــــــــــــا.
تمزقت احشائه كلما بعدت مسافته بينه وبينها، فحرر الباب المقابل له بعنفٍ جعل الرجلين المستمرين بالبحث يرتعبون من نظرات ذاك الراجل.
هبطت نظرات عمران تدريجيًا الكاميرا المحمولة ولهيئتهما فاستكشف أمرهما دون عناءٍ، فلم يدري بذاته الا وهو ينقض عليهما كالأسد الذي طعن بمخالب صغيرة أصابته بوجعٍ جعله يخرج زمام غضب على نملة تمر من جواره مرور الكرام.
انبصق الدماء من فم هذا المقيد أسفل جسد عمران القوي، فاستغل الاخير انشغاله به وتأوه على ذراعه المكسور وهرول للأسفل سريعًا، فدفعه الاخير وهرول من خلف صديقه.
اتكأ عمران على يده وهرول من خلفهما، متبعًا الشرفة الخارجية، وقد صدق حدثه حينما وجدهما يخرجون من الباب الرئيسي، فانتبه لمن يقف على بعدٍ منه، فصرخ آمرًا:
_آدهم، إمسك الكلبين دول متخلهمش يهروبوا.
أحاطهم آدهم ورجاله بمهارةٍ وقيدوهما أرضًا جوار سيارات حراسة راكان، وانتظر آدهم هبوط عمران ليعلم ماذا فعلوا هؤلاء ليجن هكذا، لم يسبق له التعرف عليه عن قربٍ ولكنه يعلم بأنه مسالمًا لا يخوض حياة تعج بالشر مثلما يفعل راكان فيحتمي بالحرس طيلة الوقت!
******
ركض عمران بالطابق الثاني في محاولة لايجادها، وصراخه باسمها لا يهديء، يكاد أن يسقط بنوبة قلبية من فرط حالة الهلع التي يخوضها الآن، لا يود تخيل السوء وأن أيدهما القذرة أحاطت زوجته.
مال على الحائط يلكم ما تتلقفه يده وهو يتذكر رؤيته لفستانها الملقي بالخارج فانهال عليه ألمًا جعله يلقي جرفاته أرضًا وهو يردد برعشةٍ:
_لأ، مستحيل يكون حد لمسها.. لأ..
وهرع للخارج يبحث بأخر غرف الطابق، فلفت انتباهه ضوء الحمام المفتوح، والظل القادم من أسفل بابه، كان واضحًا لعينيه بأنها تجلس من خلفه، شهقاتها المكبوتة تصل إليه، ارتعبت نظراته، فجاب الغرفة ذهابًا وإيابًا في محاولة للسيطرة على ذاته أولًا.
واتجه ليطرق على الباب مرددًا برعبًا يسبقه:
_مايسان، افتحي الباب.
لم يأتيه أي ردًا منها، فقال وهو يعصر قبضته:
_افتحي من فضلك خليني اتطمن عليكِ..
واسترسل بحدة:
_أنا ضربتهم ومش هخلي حد يقربلك، افتحي الباب ده.
شهقاتها هي التي تزف إليه فتستهدف ما تبقى منه، مال عمران بجبهته على الباب يحاول باستمتاتة ترويض شيطانه الذي يدفعه لتحطيم الباب، فقال بحزنٍ مقهر:
_طب حد قربلك؟
تحرر صوتها أخيرًا، ببحته المؤلمة:
_مكنتش أعرف أنك بالحقارة دي، ازاي تعمل فيا كده وأنا عرضك وشرفك وكل ده ليه عشان فريدة هانم متحرمكش من الميراث والثروة، أنت أحقر إنسان أنا شوفته في حياتي يا عمران.
لكم الباب بقوةٍ جعلتها ترتد ألمًا، وصرخ بجنونٍ نافيًا تهمتها التي تبيد رجولته:
_انتي مجنونة بتقولي أيه!!! أنا مكنتش أعرف حاجة يا مايا، وأول ما عرفت جتلك جري، أنا مش حقير للدرجادي إنتِ مراتي واللي يمسك أكله بسناني مهما كان اللي بينا وفوق كل ده بنت خالتي.
وارتكن بجسده على الباب وهو يتوسلها:
_أرجوكِ افتحي الباب خليني أطمن عليكِ، مش عايز أكسره هتتأذي وأنتِ وراه!
تعالى بكائها بانكسارٍ، شعور عدم الأمان والثقة يجابهان قلبها الضعيف، تخشى أن تسلمه ثقتها فيطعنها بمنتصف قلبها، فاستدارت متكأة على الباب وهي تهمس له بضعف:
_عمران.
أجابها بلهفة وهو يود أن يخلع ذاك الباب الفاصل بينهما:
_معاكِ يا مايا ومش هسيبك يا حبيبتي، ولا هخلي حد يلمس شعرة منك أوعدك بس افتحي طمنيني عليكي.
نكزته بقسوة حينما قالت:
_مشيهم عشان خاطري بلاش تسلمني ليهم يا عمران وأنا هخلي خالتو تقبل بطلاقنا من غير ما تحرمك من ميراثك، أرجوك يا عمران متعملش فيا كده أنا مستحقش منك كده.
رفع يده يححب وجع صدره القافز بين أضلعه تأثرًا من حديثها، يحق لها ظن السوء به، لم يمنحها السعادة يومًا لم يقربها منه لتكتشف شخصيته وتعلم ماذا يفعل وما الذي لا ينطبق لشخصيته.
أزاح عمران دمعة خائنة فرت من عينيه، أزاحها وهو يجيبها بصوتٍ زرع صدق العالم بأكمله به:
_مش أنا اللي عملت كده يا مايا، أقسملك بالله ما أنا الراجل اللي يسمح لمخلوق يبص لمراته بعين!
وتابع بصوت محتقن بالدموع:
_أنا مش وحش أوي كده، والله ما أنا، أنا هجبلك حقك من الكلاب دول، كرامتك من كرامتي يا مايا، افتحي الباب ده.
نهضت عن الأرض تقدم يدها المرتشعة للباب بترددٍ، فمالت برأسها فوق الباب بجبينه المقابل لجبينه من الخارج، تخشى أن تفقد أخر أملها بالنجاة.
التقطت نفسًا مطولًا قبل أن تحرر المزلاج، وتبتعد بخطواتٍ مرتعبة للخلف، تضم جسدها العاري ليدها، ولج عمران للداخل فأسرع إليها يتفحصها بأعين تجوبها بلهفةٍ، انهمرت دمعة منه وهو يراها تراقب الباب برعبٍ من دخول أحدًا، رعبًا من أن يكون خائنًا غير موثوق به.
ضمها إليه بقوةٍ، يخبأها بين ضلوعه مرددًا بوجعٍ:
_أنا لوحدي يا مايا متخافيش.
زال جليدها، فتعلقت بجاكيته وانهمرت باكية، وكأنها تزيل أوجاع تراكمت منذ زمنٍ بعيد، بكت حتى جلس بها على السجادة المفروشة من أسفل قدميهما، يحتوي جسدها بجاكيته، وهمس لها:
_أنا آسف.. أوعدك اني هطربق الدنيا فوق دماغهم ودماغ أي حد كان له علاقة بالموضوع ده.
ورفع ذقنها إليه وهو يسألها:
_أيه اللي حصل؟ وفستانك فين؟
أجابته وهي تتحاشى التطلع إليه خجلًا من قميصها القصير التي تجلس قبالته به، فقالت:
_إميلي اتخبطت فيا ووقعت العصير على فستاني، وصممت أغير هدومي ولما طلعت هنا أخدت فستاني تنضفه وقالتلي هتجبلي حاجة ألبسها ومن وقتها مرجعتش.
غامت عينيه القاتمة بقسوةٍ، فاحتضن خديها يضمه لصدره وعينيه تتطلع للفراغ، وصاح بعنفوان:
_يا ولاد ال***
نهض بها عمران لتقف من أمامه، فنزع عنه جاكيته وهو يشير لها:
_خليكي هنا، هجبلك فستانك وراجع.
وتركها وكاد بالرحيل فتمسكت بمعصمه تردد بخوفٍ:
_متسبنيش لوحدي يا عمران هيرجعوا تاني.
حاوط وجهها بذراعيه قائلًا بحزن:
_محدش هيرجع تاني، الكلاب دول تحت مع آدهم وحرس راكان لسه حسابهم معايا تقيل بس أحاسب اللي جوه الأول، هوريهم مقامهم اللي نسوه .
وتركها وغادر ليعود بعد قليل بفستانها المتسخ، واتصل بشمس بخبرها بالصعود، عاون عمران مايسان المرتشعة بارتداء فستانها وجذب الجاكيت ليلفه من حولها ليحجب بقعة العصير عن الأعين.
كاد جسدها بالتراجع للخلف من فرط ما خاضته منذ قليلٍ، أسندها عمران وخرج بها ليجد شمس قبالتهما، تتطلع لمايسان بصدمة، فهرعت اليها تتساءل:
_مايا أيه اللي عمل فيكي كده؟!
سلم يدها لشمس وتحرك وهو يخبرها:
_هاتيها وتعالي ورايا يا شمس.
استندت على يدها حتى هبطت للأسفل، ليجد حالة من الهرج والمرج بعدما لاحظ الجميع ما يحدث بين حرس راكان والرجالين، وانتهى بهبوط عمران للأسفل ليقف قبالة ليام وعيونه تخترق بسهامها زوجته، ومن بعدها صاح بصوته الرعدي:
_جمـال حالًا تلغي كل تعاقداتك مع الكلب ده وأنا هعوضك عن الخساير مهما كان التمن.
أسرع إليه جمال يراقب حالته الغير مهندمة بدهشة ازدادت حينما خرجت مايسان بحالتها تلك، فغلت عروقه لمجرد تخمينه الأمر.
تابعهم الجميع بدهشة وعدم فهم لنبرتهم العربية، ليصبح جمال لمن يراقبه:
_عذرًا سيد وليام أسحب اتفاقي المسبق بشركتك، فلتعد كل اتفاقنا لم تحدث من الأساس.
ردد بفزعٍ:
_ماذا حدث سيد جمال؟
تحرر صوت عمران وعينيه تمر بين الحضور:
_السيدة إميلي أرادت أن تهين زوجتي بمنزلها بالاتفاق مع عاهرة رخيصة وعلى الأحرى ظنت بأنني لن أكشف أمرها.
واستكمل وراكان وآدهم يقتربان منه لمحاولة فهم ما يحدث بالتحديد:
_ظنت بأنني سأسمح لها بأن تهين زوجتي.. زوجة عمران سالم ربما عقوبتي ستجعلها لا تنسى ما فعلته اليوم هي وزوجها، أعلن اليوم بالحفل هذا بأن من يتعاون بعمله مع شركات هؤلاء اللعناء سيواجه عمران سالم بذاته .
جذبته ألكس لتجابه غضبه بحقد:
_هل جننت عمران أتفعل كل ذلك لأجل تلك الفتاة ال…
بترت كلماتها حينما هوى مجددًا بصفعة جعلتها تسقط بالمسبح القريب منه والجميع من حوله يراقبون ما يحدث بصدمة، وخاصة حينما انحنى يحمل مايسان وهو يشير لراكان غير عابئًا بتوسلات اميلي واعتذاراتها:
_هات شمس وتعالى ورايا.
عاونها راكان على الهبوط من خلف أخيها، لينسحب آدهم وجمال من خلفه، ليجتمعون بالخارج بعدما وضعها جوار شمس بالسيارة، فقال جمال باستغرابٍ:
_ما تفهمنا يا عمران أيه اللي حصل خلاك تشن الحرب على وليام ومراته؟!
يتبع…
رؤيته لها تنتفض بين أحضان شقيقته داخل السيارة أججت نيرانه ، فلم يبالي بمن يلتفون به في محاولةٍ لمعرفة سبب غضبه الجحيمي هذا، تركهم وإندفع تجاه سيارة آدهم المصفوفة جانبًا، ويتجمع من حولها رجاله، فتح عمران باب السيارة الخلفي واندفع يكيل اللكمات القاتلة للرجلين وصرخاتهما تغدو مقبضة لمواجهةٍ هذا الجريح.
جذبه جمال وهو يصرخ به:
_كفايا يا عمران هيموتوا في إيدك! بلاش تودي نفسك في داهية إنت عارف القوانين هنا.
دفعه عمران بركلته للخلف، وبعدائيةٍ شديدة صاح:
_إبعد يا جمال، هقتلهم واللي يحصل يحصل.
جذبه راكان وهو يحاول أن يهدئه، متسائلًا بفضولٍ:
_طب فهمنا بس أيه اللي حصل وحقك هيرجعلك!
لم يكترث لحديثهما، وكأنهما نسمة هواء عابرة لا تلامس جبهة الوحش العتي الذي يهاجم بشراسه فريسته، فتدخل آدهم على الفور حينما وجد الأمور تزداد سوءًا، فنجح بضخامة جسده بإبعاده عنهما متفوهًا باحترامٍ رغم موقفه:
_يا باشا اهدى دول ميستاهلوش، أنا هخلي واحد من رجالتي يربيهم وبدون ما يكون لحضرتك علاقة بالموضوع، متنساش إنك ليك إسمك وتصرفاتك دي متنفعش.
خدمهما آدهم حينما أبعده عن السيارة، فاستغل جمال الفرصة ووضع يده على كتف عمران يسترسل ما بداه آدهم:
_إسمع الكلام يا عمران، وأهم أخدوا جزاتهم واللي يستاهلوه.
وأشار برفقٍ وهو يتابع اتقباض صدر عمران المختلج أنفاسه بعصبيةٍ بالغة:
_ارجع البيت عشان مدام مايسان شكلها تعبانه، وقابلني عند سيف، يوسف متصل بيا ومأكد عليا نروحله، أنا هفوت على الشركة ونص ساعة وهحصلكم.
هز رأسه بهدوءٍ، وتطلع لراكان ببعض الحدة:
_فريدة هانم متعرفش بحاجة من اللي حصلت هنا يا راكان من فضلك.
أجابه باستغرابٍ من طريقة حديثه،وكأنه طفلًا صغيرًت سيهرول ليقص ما رآه:
_أنا بشوفها فين أصلًا.
سحب نظراته عنه لآدهم مرددًا بامتنانٍ:
_شكرًا يا آدهم، لولاك كانوا الكلاب دول هربوا.
أحنى رأسه قليلًا وأجابه:
_معملتش غير الواجب، المهم إنك تهدي نفسك وتتصرف بحذر الحفلة مليانة صحافة.
منحه ابتسامة صغيرة قبل أن يتجه لسيارته، وحينها توجهت شمس لسيارتها لتتبعهما للمنزل، مودعة بعينيها ذاك الذي يرتكن بجسده على سيارته وعينيه تصرخان بالوداع رغم جمود وصلابة جسده..
*******
اهتز مقعده استجابة لحركة جسده المتعصبة، ويده تضغط على الجزء المتحكم بسن القلم مرات متكررة، وكأن صوته المزعج يريح عصبيته التي تكاد تقتل كل هدوء منحه لذاته بفضل عمله الشاق، أطبق بشفاه على الأخرى في محاولاتٍ بائسة للسيطرة على أعصابه، لم يبقى بالغرفة ضوء يرشده لضالته بعدما أغلقه لرغبته بالبقاء بالظلام.
لم يمل ببقائه هكذا منذ ساعتين، عاجزًا عن تخطي تلك الأحاسيس والعاطفة التي تدفعه للتوجه لغرفتها وضمها إليه، يعتصرها بقوة بين ضلوعه، يزيح كل وجعٍ خاضته يومًا، وإن كان عاجزًا مكتف الأيدي أمام استماعه لتلك المأساة فيخوض نفس المعانأة في محاولته ليتوقف عن فعل ما يرغب به.
انطلقت دقات خافتة على باب مكتبه جعلته يردد ومازال يستكين بجلسته:
_تفضل بالدخول.
فتحت باب غرفته، وولجت للداخل بخطواتٍ مرتبكة، متوترة، لم تصل لحركة جسدها فحسب بل لحقت صوتها الرقيق:
_دكتور علي.
فتح عينيه لهفةٍ وعدم استيعاب من سماع صوتها ووجودها بغرفة مكتبه، ابتسامة مرحبة تحررت على شفتيه فانحنى يحرر ضوء الغرفة بالريموت ليتأكد من أنه لا يتوهم.
نهض علي عن مقعده مرددًا ببسمة ساحرة:
_فطيمة! مش معقول أنك نزلتي وجيتيلي مكتبي.
وتابع مازحًا على حالته المريضة التي تستدعي الاهتمام الطبي:
_شكلي من كتر ما بقيت بفكر فيكِ بقيت بتوهم وجودك في كل مكان أروحه حتى مكتبي!
تلألأت جوهرتها الباسمة، ودنت منه ترفع ما بيدها:
_نسيت موبيلك ومش مبطل رن.
رمش بعينيه بحرجٍ، بالفعل لم يتوهم وجودها، تناوله منها علي ثم وضعه دون اكتثار على الطاولة، ليوقفها قبل أن تعود:
_فطيمة استني أنا عايز أتكلم معاكي.
التفتت إليه بحزنٍ ظنًا من أنه يود النبش بما حدث:
_مش قادرة أتكلم تاني في الموضوع ده يا دكتور علي من فضلك.
منحها ابتسامة جذابة وهو يبرر:
_متقلقيش مش ده موضوعي.
وإتجه للطاولة البلاستكية البيضاء، فجذب مقعدًا وجلس وهو يشير لما يقابله:
_اتفضلي.
ابتلعت فطيمة ريقها بارتباكٍ، ومع ذلك اتجهت لتعتليه بخفوتٍ، لتجده صامتًا يتطلع لمعصمه ويده تلهو بالساعة التي يرتديها، تمكنت من الشعور بربكته وتردده الصريح بما يود قوله، لذا انتظرته حتى يجد وقته المناسب للحديث،ولم تقاطع صمتهما المطول.
رفع عينيه لها ثم قال بصوتٍ محتقن يخفي وجعًا عظيمًا:
_أنا عارف إن اللي عشتيه وفات من حياتك ده صعب وميتنساش بس أنا مش عايزك تفكري فيه وتحاولي تخرجيه من حياتك.
كادت بأن تزجره بغضبٍ، أكدت عليه مسبقًا بأنها لا تود الحديث على الأقل بالوقت الحالي، ولكنها صمتت حينما استرسل ونظراته الغريبة تحيطها:
_من أول يوم شوفتك فيه حسيتك مختلفة عن الكل، كنت كل ما بقربلك قلبي بيتعلق بيكِ وبيتألم عليكِ، عيونك فيها وجع بيجلد روحي، لدرجة إني اتمنيت أقابلك وأكونلك أول راجل في حياتك.. اتمنيت أغيرلك الفكرة البشعة اللي اترسخت جواكِ بسبب الكلاب دول بما فيهم خطيبك.
لعقت شفتيها بارتباكٍ، فقدت قدرتها على جسدها، على لسانها، على مشاعرها المنساقة من خلفه، لم تتفاجئ من حديثه، لطالما كانت تستمع له طوال الثمانية أشهر يتحدث معها عنه وعن عائلته، بالرغم من صمتها الا أنها كانت تتمنى الحديث إليه، تبتهج بلقائه كل يوم وتترقب لحظة دلوفه كل صباحٍ غرفتها حاملًا باقة الورد بين يده التي تزف رائحتها من قبل دخوله لها، كانت تسمعه وهو يلمح لها عن مشاعره.
ولكن ما يعجز عقلها تقبله لها وتصريحاته الجريئة بحبها بالرغم ما تعرضت له، كيف يسمح لذاته بفعلها وهو طبيبًا من عائلة مرموقة يستحق التفكير بأنثى عذراء يكون هو رجلها الأول، كيف تقنعه بذلك وهو الأحق بعلمه كونه طبيبها!
أكثر الناس دارية بحالتها هو، بداية بما تعرضت له وإلى ما وصلت إليه، صممت آذنيها عن سماع أي شيئًا فأفاقت على صوته العذب المنادي:
_فطيمة سمعاني.
رفعت عينيها الغارقة بالدمع إليه، فتركزت على شفتيه التي تعيد كلماته الغير مسموعة مجددًا:
_أنا بأحبك وعايزك زوجة ليا.
أيمنحها الأمل وقد غادرت عنها الحياة مولية لها ظهرها؟!
من بين نساء العالم الجميلات ألم يختار سواها؟!
ليته حلمًا، ليته وهمًا، ليته مجرد تخيل يزينها قلم بدفترها الذي قدمه لها!
تمعن علي بملامحها ولأول مرة يعجز عن فهم ما يدور برأسها، اعتاد فهم المريض من أمامه بنظرةٍ، والآن يعجز عن فهمها، ويخشى أن تنفلت الأمور عكس توقعاته، فقال بارتباكٍ:
_أنا عارف أن الوقت مش مناسب لكلامي، وإني كان المفروض انتظر الوقت المناسب لده بس صدقيني مش قادر… مش قادر أكون بعيد وأشوفك بتعاني وأنا مقيد على الكرسي بمارس شغلي.
ومال بجسده يستند على الطاولة حتى بات قريبًا، مسموعًا:
_فطيمة أنا عايز أخدك في حضني وأدوي كل جرح جوه قلبك، أنا شايف نفسي عاجز في اللبس ده لكني واثق لما أقرب منك مش هفشل.
صامتة عن الحديث، تصغى جيدًا إليه، ويترقب هو سماع أي كلمة منها، فقال بحزنٍ:
_ساكتة ليه يا فطيمة، إتكلمي!
تحررت شفتيها المطبقة على بعضها لتحرر كلماتها المتحشرجة:
_مش عارفة هقول أيه، أنا مش لاقية كلام أقوله لإن كل اللي هيتقال أنت تعرفه وكويس جدًا لانك دكتوري.
وتابعت وهي تفرك أصابعها تخفي تأثرها بما ستقول:
_لكن هقولك إنك تستاهل إنسانة تانية تكونلها الراجل الأول في حياتها، لكن أنا حياتي كلها معاناة سواء بالماضي أو بالمستقبل، يعني اللي فات مش هيسبني هفضل أعاني منه دايمًا.
_وأنا جاهز ومتقبل يا فطيمة.
قالها باصرارٍ عجيب، واسترسل:
_أنا بحبك ومستحيل هتخلى عنك .
وقرب مقعده منها قليلًا، ليخبرها بتوسلٍ:
_وافقي يا فطيمة وأنا أوعدك إني هعوضك عن كل شيء عيشتيه.
نهضت عن المقعد وتراجعت بظهرها للخلف تلتقط أنفاسها المرتبكة، فتمكنت بالسيطرة على ذاتها أخيرًا وهدرت من بين انفعالاتها:
_حرام أني أدمرك بالماضي اللي يخصني.
وتراجعت للخلف حتى وصلت لباب الغرفة، وقبل أن تغادر ضغطت على ذاتها بألمٍ وكأنها تخطو فوق زجاج مهشم:
_لو سمحت يا دكتور علي تسيب ملف حالتي لدكتور تاني، أفضل ليك وليا.
وتركته وغادرت، فضم يديه على وجهه بضيقٍ شديد لما حدث، فألقى الطاولة بعصبيةٍ بالغة:
_ غبي….اتسرعت!
*******
طوال الطريق حاول جاهدًا حثها على الحديث، ولكنها كانت صامتة لا ترغب بتلبية قلقه الشديد عليها، فما أن توقفت سيارته قبالة باب المنزل، تحركت كالدمية المتحركة لتخطو للداخل بعدم اتزانًا، لحق بها عمران، فأمسك بمعصمها يمنعها بصعود الدرج وهو يناديها:
_مايا!
رفعت عينيها المتورمة بالبكاء إليه، ترمق رماديته بنظرةٍ قوية رغم انكسارها الأذلي، وبنبرة مرتجفة كحال جسدها المرتعش رددت:
_طلقني يا عمران.. من فضلك طلقني.
وتركته مندهشًا يحاول استيعاب ما قالته للتو وصعدت للأعلى بآلية تامة، تابعها بعينيه وتمنى لو استدارت إليه ليعاتبها عما فعله لتطالبه بذاك الأمر، ولكنها لم تستدير إليه، وكأنه غير موجود بالمرةٍ.
أغلقت باب غرفتها وتركت قدميها تستكين أرضًا ببكاءٍ حارق، بينما الأخير مازال يقبع بالأسفل، يده تشدد على الدرابزين، يود الصعود إليها ولكنه يعلم جيدًا بأنها ترغب البقاء بمفردها حينما تخونها دمعاتها، هكذا حفظها منذ الصغر.
لم يفوته تفاصيلها، كانت تلك الفتاة قوية بالماضي والآن يعهدها أكثر قوة، تطعن حبها وتطالبه بالطلاق والتحرر، يعلم بأنه سيعاني فزوجته صعبة المراس، ولكنه يستحق لما فعله بها طيلة الخمسة أشهر.
اعتاد رؤيتها كل عامٍ بأعين مفعمة بالحب، ولكنه امتنع عن رؤيتها منذ ثلاث سنواتٍ، وبالأخص منذ دلوف تلك اللعينة ألكس لحياته، كان يعترض على الهبوط بزيارته السنوية لمصر خشية بأن يحاربه حبها، اقتناعًا بأن ألكس قد خطفت قلبه الذي كان لها بيومٍ ما، ورهن حبها بالمراهقة الغير متزنة، ولكنه الآن رجلًا يختار ألكس بعقلانية!!!!
والآن يكتشف الحقيقة، والحقيقة تتكمن بكونه رجلًا أحمقًا لم يكن يمتلك عقلًا من الأساس، هو الآن بحاجة فرصة ولا يعلم إذ كانت ستمنحه إياها أم لا.
أفاق عمران على كف شمس الموضوع على كتفه، استدار فوجدها تتطلع له بحزنٍ وخوف لما تعرض له هو وزوجته، ضمها عمران لأحضانه وهو يبدد خوفها:
_امسحي دموعك مايا كويسة وأنا كمان بخير يا شمس.
وأبعدها عنه وهو يضم وجهها بحنان:
_اطلعي غيري هدومك وخليكي معاها متسبهاش.
أومأت برأسها تؤكد له وهي تمسح دموعها وترفع طرف ثوبها لتلحق بها للاعلى، بينما ترنح هو على الأريكة بتعبٍ جعله يسترخي ساندًا رأسه للخلف بإرهاقٍ تام، فرن هاتفه ليعيد صحوته الغير مريحة.
رفعه عمران مرددًا بإنهاكٍ بعدما تحقق من كناية المتصل:
_أيوه يا يوسف.
اندفع صوته المتعصب:
_إنت فين يا مقطوع أنت والمقطوع التاني، مش اتفقنا نتجمع بالشقة يا ابني دي دكتورة ليلى صاحية من النجمة تحضر الأكل انت نسيت العزومة ولا أيه؟
أجابه وهو يفرك جبينه بارهاق:
_لا منستش أنا شوية وكنت هتحرك عليكم على طول، وجمال بيخلص حاجة في مكتبه وزمانه جايلك بالطريق.
رد محذرًا:
_طب تعالى بسرعة قبل ما الأكل يبرد، وخليك فاكر الجمال أنا لسه متجوز من شهرين ومغرقكم خير وأكلات مصرية شوف بقى إنت والحيوان جمال متجوزين بقالكم زمن ومحدش فيكم كلف مراته تعملنا أكلة مصرية ترم العضم بدل العكعكة دي.
ابتسم وهو يردد ساخرًا:
_جمال بيروح بيته أصلًا عشان يخلي مراته تطبخ!
طعنه بالرد القاطع:
_طب وسيادتك نظامك أيه؟
اعتدل عمران بجلسته وهو يجيبه بجدية مضحكة:
_تصدق إني إلى الآن معرفش إذا كانت مايا بتعرف تطبخ ولا لأ.
ضحك مستهزئًا:
_إنت أيه اللي تعرفه عن مراتك أساسًا يا معتوه، أخبرتك سابقًا أنت حقيرًا أرعن!
دمج حديثه بالانجليزية، فشن هجومه باكرًا على من تفاده مرددًا:
_سخن الأكل أنا جاي.. وكلم جمال يجبلنا حلويات.
ضحك بصوته الرجولي المسموع:
_أنت نفسك مفتوحة على كده.
جذب مفاتيح سيارته واتجه للسيارة، رفع جسده برشاقة واعتلاها وهو يخبرها بهيامٍ:
_تقدر تقول إني تقريبًا فوقت ومبقتش الغبي اللي يتضحك عليه، لقيت اجابة لاسئلتي ونهايتها إني كنت غلط يا صديقي.
تلهف باخباره:
_لأ ده إنت تيجي بسرعة نشوف حكايتك أيه؟
أغلق عمران هاتفه وألقاه جواره وهو يصفر بهيامٍ بما توصل إليه بعد معاناة، فعاد يدق من جديد، وما أن إضأت شاشته بإسم ألكس حتى جذبه ليلقيه بالمياه المجاورة لسيارته وهو يردد:
_خلاص الأهبل مسح ريالته، مش هيكونلك وجود بحياتي تاني لا بالرخيص ولا بعقد جواز!
******
حاولت شمس أن تستميل مايسان لحديثها، ولكنها كانت صافنة على فراشها، تضم جسدها بحزنٍ تام، ومع ذلك تابعت شمس حديثها الحزين مرددة في محاولة لجذب انتباهها:
_اتصدمت منه لما لقيته بيتكلم على لبسي بالشكل ده ولما رجعت لابسه الفستان اتصدمت أكتر لما لقيته كل شوية يقولي إقلعي الشال، الاستاذ كان عايز البروچ الغالي يبان للناس عشان يتأكدوا إن الفستان غالي!
وزفرت بغضب:
_بني آدم حقير وحقيقي يا مايا مش قادرة أتحمله أنا بكره الصبح هروح لعلي المستشفى وهكلمه يقول لفريدة هانم تفسخ الخطوبة دي.
وحانت منها نظرة إليها، فوجدتها لم يرف لها جفنًا، فأمسكت ذراعها تحركها بحزنٍ:
_مايا إنتِ مش معايا خالص، مالك بس يا حبيبتي المفروض إن اللي حصل يفرحك، الحمد لله إنتِ سليمة محصلكيش حاجة وعمران أخدلك حقك وهان الكلبة دي، أيه بقى اللي مزعلك؟
رفعت عينيها إليها، باسمة بتهكمٍ:
_عمران عمل كده عشان رجولته وشكله قدام الناس يا شمس، مش لإنه واقع في غرامي.
واسترسلت بوجعٍ تجمع بهالته:
_بكره ترجع وتتقربله وكالعادة هيستسلم ليها.
وبحقدٍ مندفع استرسلت:
_اللي يضعف مرة قدام واحدة ست هيضعف مليون مرة ليها ولغيرها.
وتابعت وعينيها تحرر دموعها:
_عمران ضعيف يا شمس، مش هيقدر يحارب شيطانه، كان متوقع إني هفرح وهجري عليه بعد ما يكسر ألكس أو يسيبها خالص، ميعرفش أني بحاول أحافظ على نفسي.
أنا لو سلمتله يا شمس وخاني بعدها هموت ومش هقدر أحارب علشان حبي وكبريائي تاني، الخساير مش هتكون كسرة قلبي وبس يا شمس الخساير هتكون كسرتي ونهاية حياتي!
وانهارت باكية فضمتها شمس إليها بتأثرٍ، شاركتها البكاء وبشهقاتٍ مختنقة قالت:
_اهدي عشان خاطري، أنا فهماكِ ومقدرة والله، بس أنا حاسة إن عمران لو أخد فرصة تانية منك هيتمسك بيها ومستحيل هيضيعها من إيده.
ابتعدت مايسان عنها، وأزاحت دموعها بقوةٍ امتدت لها فجأة، فقالت وهي ترسم بسمة هادئة:
_قومي نامي علشان جامعتك، أنا تعبانه وعايزة أرتاح.
وتمددت مايسان على الفراش، فاحترمت شمس رغبتها بالبقاء بمفردها، ففردت الغطاء عليها وخرجت لغرفتها.
*******
ما أن ولج للداخل حتى ألقى جاكيته على المقعد، وحرر قميصه ليتركه مفتوحًا، ألقى عمران بجسده على الأريكة المقابلة ليوسف الذي يلقيه بنظرة ساخرة:
_إلبس هدومك بدل ما تاخد لطشة برد، أنا جاي أكل وأنبسط معنديش استعداد أجري بحد.
استند بيده أسفل رأسه وهو يخبره:
_متقرفناش بقى يا عم يوسف، قوم هات الأكل خلينا نأكل ونغور.
ضحك سيف الذي يتابع دراسته على الحاسوب، فأشار له يوسف بضيق:
_شوفت بيتكلم ازاي معايا يا سيف!
هز رأسه مؤكدًا، ثم قال مازحًا:
_صحابك عنيفين أوي يا جو، بالأخص جمال تحسه إتولد روحه على طرف مناخيره.
رد عليه عمران بتحذير مبطن:
_مالك بينا يا دكتور سيف، ركز في دراستك أحسن من المقاطيع اللي تودي ورا الشمس دول.
رفع يوسف يده بمكر:
_بيتكلم صح، قوم يا سيفو سخن الأكل عما جمال يجيب الحلويات ويجي.
ضيق عينيه بغضب:
_ورايا Test ومش فاضي، قوم اخدم اصحابك بنفسك والا هتصل بماما وأقولها إنك معطلني عن المذاكرة وشوف بقا هآآ…
قاطعه حينما ألقى الوسادة المطولة لوجهه بعنفٍ:
_خلاص خلاص ما صدقت!
ونهض وهو يعدل من ملابسه الغير مرتبة:
_هقوم أنا، ما خلاص بقيت دكتور نسا وتوليد طول اليوم وبليل الخدامة الفلبنية اللي جابهالك أبوك كنس وطبخ وغسيل هدومك المعفنة يا معفن!
انفجر عمران ضاحكًا وهو يتابع المشاجرة اليومية المعتادة بين يوسف وأخيه الصغير، فقاطعهم صوا غلق الباب ليطل جمال من خلفهم يضع أكياس الحلوى وهو يردد ببسمةٍ خبيثة:
_إوعوا تكونوا كلتوا من غيري أزعل!
أجابه سيف ومازال نظراته متركزة على الحاسوب:
_يوسف لسه داخل يسخن الأكل، اديني أحلي عما يخلص.
رمقه يوسف بازدراء:
_طفس!
وتركهم وغادر للمطبخ، بينما جلس جمال جوار عمران ينشب تحقيقه حول ما حدث اليوم بالحفلة، مستفسرًا عن علاقة ألكس بالرجلين.
انتهى يوسف من تسخين الطعام، فوضعه على الطاولة واتجه ليجلب المياه ولكنه توقف حينما صدح جرس الباب يدق بطريقة أفزعته، ظن وكأن الشرطة هي التي تدق الباب.
فتح يوسف ليتفاجئ بفتاة أمامه تتطلع إليه بغضب شديد، تلاشى حينما رأته يقف أمامه، كانت ترتدي فستانًا أزرق اللون وحجابًا من اللون الأبيض، بدت عربية بملامحها الهادئة، ارتباكها وعرفها النازح فوق جبينها وكأنه كانت تواجه شيئًا قاتل بالخارج جعله يتساءل:
_كيف أساعدك؟
ابتلعت ريقها بتوترٍ شديد، وفجأة تحركت آذنيها تجاه صوت الضحكات المسموع من الداخل، فلم يكن سوى ضحكات عمران وجمال من وسط مزاحهما والأخير يحاول لكمه بمرحٍ.
تعجب يوسف من تلك الفتاة، وخاصة حينما دفعته وهرعت للداخل، فاتبعها وهو يصيح:
_هيي.. توقفي وأخبريني من أنتِ؟
انصاعت خلف صوت الضحكات حتى وصلت للغرفة المقابلة لها، لتستقبل ما ستراه بقتامةٍ حارقة، تلاشى عنها الغضب تدريجيًا حينما وجدت شابًا يدرس على حاسوبه، وأخر ممددًا على الأريكة وما أن رآها حتى نهض يغلق أزرر قميصه المفتوح، وبالمنتصف الطعام الموضوع ولجواره أكياس الحلوى الذي راقبته وهو يشتريها أثناء هبوطه من مكتبه.
كانت بموقف لا تحسد عليه، خاصة حينما انتصب بوقفته وهو يرمقها بعدم تصديق، بينما تساءل عمران بدهشة:
_في أيه يا يوسف؟ ومين دي؟
أجابه بحيرةٍ من أمرها:
_معرفش بس هي تقريبًا تايهة بالعنوان.
أتاهما ردًا حارقًا ينبع من ذاك الغائم:
_لا مش صح الهانم المحترمة نازلة في نصاص الليالي تراقبني وطالعة لحد هنا بنفسها تدور على الست اللي واخدني من حضنها زي ما هي رسمت.
بدت حقيقتها للجميع بأنها صبا، زوجة جمال التي لم يسبق لاحدٌ منهم رؤيتها، توترت الأجواء وخاصة حينما جذبها جمال من ذراعها هادرًا وهو يهزها بعنفٍ:
_ادخلي، ادخلي دوري جوه في الأوض يمكن نكون خبينا الستات في الدولاب ولا تحت السرير.
تدخل عمران على الفور فجذبه بعيدًا عنها مرددًا بهدوءٍ:
_جمال ميصحش كده، من فضلك اهدى.
صرخ بعصبيةٍ جعلتها تنتفض بوقفتها وتتراجع بخوف:
_اهدى!! مراتي بتراقبني وطالعالي في وسط صحابي وخرجت بدون إذن مني عايزني أكون هادي ازاي يا عمران؟!
واستدار يقابلها بغضبه القاتل، فدفعها للخارج مرددًا بتوعدٍ:
_قدامي يا هانم حسابنا في البيت، أنا غلطان اني خليتك تسيبي مصر وتيجي تعيشي معايا هنا، كنت مغفل بس هصلح غلطتي دي وحالًا هحجزلك على أول طيارة راجعة مصر.
بكت وهي تحاول تحرير ذراعها بألمٍ اتبع نبرتها المتوسلة:
_جمال إيدي!
أبعده يوسف عنها ليعترض طريقه فاوقفه عن هبوط الدرج قبالة باب الشقة:
_جمال احنا على السلم مينفعش اللي بتعمله ده، ادخل جوه واقعدوا اتكلموا بهدوء أفضل من عصبيتك دي.
أشار له بتحذيرٍ:
_إبعد عن طريقي يا يوسف أنا مش طايق الهوا اللي قدامي.
كعادة عمران حينما تشتد الامور سوءًا، منحه لكمة جعلت جسده بترنح للخلف، فدفعه مستكملًا بقامته لداخل الشقة، بينما بقى يوسف برفقة صبا بالخارج مشيرًا لها:
_حاولي تهدي، متخافيش عمران هيعقله.
إلتف العالم بها، فلم يكن بأوسع مخيلاتها أن تمر بما تمر به الآن، تواجه الكثير من العقبات بمفردها رغم وجود زوجها الذي تركها للهواجس تخبرها بأنه يعرف أخرى عليه، وخاصة بعد رؤيتها النساء المتحررات هنا، وباليوم الذي قررت فيه تتبعه تضع ذاتها بهذا الموقف المحرج.
ترنح جسدها للخلف فاستندت على باب المصعد، صدرها يختلج ويهرب عنه الهواء تدريجيًا، شعر بها يوسف فألقى نظرة متفحصة عليها، قائلًا بقلق:
_مدام صبا إنتِ كويسة؟
ارتمى جسدها أرضًا مستسلمًا للدوار القاتل الذي يضمها إليه، فهرع يوسف لداخل الشقة يهتف بغضب:
_ مراتك وقعت من طولها بره، مش عاملي فيها دراكولا!
فور سماعه ما قال، هرع جمال للخارج فانحنى يحمل جسدها إليه وهو يحرك وجهها بفزعٍ:
_صبا… صبا سامعاني… ردي عليا… صبــا.
خرج الشباب من خلفه، فانحنى يوسف يتفحص نبضها، ومن ثم استقام بوقفته وهو يشير لجمال:
_هاتها جوه بسرعة.
إنصاع إليه فحملها وولج لغرفته، وضعها على الفراش وانزوى جانبها يحركها برعبٍ.
بينما وقف عمران بالخارج حتى يترك لهما مساحة لا ينبغي له تحطميها، فلفت انتباهه يوسف المستند على الحائط جواره، رمش بعدم تصديق وصاح:
_إنت بتهبب أيه هنا؟
برق ساخرًا:
_هكون بعمل أيه يعني واقف مستني لما يفوقها.
ضرب كفًا بالأخر وهزه بغضب:
_إنت مش دكتور يا بجم متخش تتصرف.
رد مستنكرًا:
_عايزني أدخل لجمال الطايش ده علشان يديني لكمية يجبني الأرض، ترضاهالي يا صاحبي؟
جز بأسنانه على شفتيه:
_يا مثبت العقل والدين، هتتنيل تدخل ولا أكيفك أنا بدل جمال!
تنحنح وهو يعدل قميصه المتسخ بالزيوت جراء تسخينه للطعام:
_لا هدخل وهطرقلك جمال تتصرف معاه إنت.
أجابه بضجرٍ:
_مفيش مشكلة.
ولج يوسف للداخل، فدنى منها بعدما جذب حقيبة صغيرة من غرفة سيف، وبدأ بتفحصها ويقاس ضغطها، تكون لديها فكرة عما يصيبها، ولكنه ترقب لحظة افاقتها.
بدأت صبا تحرك رأسها يمينًا ويسارًا، حتى استردت وعيها، فوجدته يجلس جوارها يسألها بلهفة:
_حاسة بأيه؟
انهمرت دمعة على خدها ولفت رأسها عنه للجهة الأخرى، كز على أسنانه وردد من بين اصطكاكها:
_إنتي كمان ليكي عين تزعلي مني.. ماشي يا صبا.
ونهض وهو يشير لها بينما يتابع يوسف تدوين الادوية دون أن يعبئ به :
_قوومي بينا نرجع شقتنا.
لكزه يوسف ببسمة واسعة:
_لا مهو المدام هتركب محلول، وشكلكم هتناموا هنا النهاردة.
صاح متعصبًا:
_أيه اللي بتقوله ده يا يوسف نبات فين؟
أجابه وهو يقدم له الورقة:
_متقلقش هأخد سيف يبات عندي النهاردة، المهم ادي لعمران يجيب المحلول ده وخليك بره شوية، محتاج أتكلم مع مدام صبا عشان أقدر احدد سبب الاغماء.
_لوحديكم ليه إن شاء الله؟!
رددها بعصبية بالغة، فنهض يوسف عن المقعد وأشار له وهو يغادر:
_طب بالسلامة أنا عريس جديد ومش فاضي للعب العيال ده، إبقى شوفلك دكتور تثق فيه غيري.
جز على شفتيه السفلية بغيظٍ، فجذبه من تلباب قميصه بشراسةٍ:
_بتهددني يا يوسف؟!
أزاح يديه عنه وهو يصيح بغضب:
_أنا بشوف شغلي يا محترم، واتفضل بقى هوينا بسحنتك اللي تصد النفس دي.
منحه نظرة مغتاظة قبل أن يتركه مغادرًا للخارج، وعاد يعيد فتح باب الغرفة على مصراعيها مما جعله يضحك بعدم استيعاب لجنون أصدقائه على زوجاتهم بالرغم من معاملاتهم الغير منطقية لغيرتهم المجنونة.
لفت انتباه صبا الغرفة، وجدت بها الكثير من الصور لجمال زوجها وهو بسنًا أصغر برفقة يوسف وذاك الشاب الذي رأته بالخارج منذ قليلٍ وعلى ما تتذكر عمران كان إسمه.
عادت تسلط نظرها على يوسف الذي بدأ بحديثه الجادي:
_مدام صبا حضرتك عارفة أنك حامل صح؟
زفرت بحزنٍ وهي تشير برأسها بعلمها بذلك، فقال بهدوءٍ:
_في الشهر الكام؟
أجابته وقد بلغ الحزن بصوتها:
_أول التالت.
تابع بعقلانية:
_معنى كده إنك مخبية على جمال كل ده؟!
لعقت شفتيها الجافة عسى أن ترحل مرارة فمها عنها وهي تجيبه:
_مكنتش جاهزة أقوله وأنا جوايا احساس قوي أنه بيخوني.
ابتسم وهو يستمع لها، وقال:
_أنا طبعًا مش هبررلك غلطه لإن تصرفاته كانت في قمة الغباء، بس عايز أقولك أني أعرف جمال من لما كنا لسه بندرس، أنا وهو وعمران نعرف بعض من سنين من أول ما سكنا بالشقة دي واحنا مش بنفارق بعض، وحاليًا بعد ما كل واحد بقى له بيت والشقة بقت لاخويا سيف الا أننا بنتجمع هنا ومش بنقدر نبعد كتير.
اللي عايز أقولهولك جمال الوحيد فينا الا عمره ما بص لواحدة ست ولا كان له تجارب سابقة، جمال شخص نضيف فبأكدلك إن شكوكك كلها مش صحيحة.
بكت وهي تستمع إليه، وقالت باحتقانٍ:
_طيب ليه مقاليش هو بيجي فين وريحني من العذاب ده؟
أجابها بحزنٍ وهو يراقب بكائها:
_لانه كالعادة بيعاند وهتلاقيه كان عايز يشوف هتتهميه بأيه تاني، واللي زاد بقى لو اكتشف أنك كنتي مخبيه عنه حملك هيتضايق جدا.
ابتلعت ريقها بخوفٍ شديد، فابتسم يوسف وهو يطمنها:
_متقلقيش أنا هلف الموضوع وهشيله الجمل بما حمل.
لم تفهم ما قاله، الا حينما ناداه فولج للداخل حاملًا الأكياس:
_عمران جاب الادوية أهي.
جذبها منه يوسف وبدأ بتجهيزها، بينما دنى جمال من الفراش يتفحصها بنظرة مهتمة وبارتباك قال:
_أحسن ولا لسه تعبانه.
هزت رأسها بخفوتٍ، بينما اتجه إليها يوسف يدث إبرة المحلول بيدها واليد الاخرى تشدد على يد حمال المتمسكة بها، فتساءل بفضول:
_عرفت عندها أيه؟
أجابه وهو يضع الحقن بالمحلول المعلق:
_مدام صبا كانت شادة العيارين عليك بسبب الهرمونات يا جيمس.
ضيق عينيه بعدم فهم، فقال:
_مراتك حامل في الشهر الثالث، وشكلها كده من الزعل اللي إنت عامله فيها مخدتش بالها.
برق بعينيه بعدم استيعاب. فوضع يده على بطنها تلقائيًا وهو يردد:
_حامل!
****
استأذن عمران بالانصراف خاصة بعد تأخر الوقت، فكاد بالتوجه لغرفته ولكنه عكس إتجاهه لغرفتها، فتح بابها لتتفاجئ بوجوده ومع ذلك لم يعنيها أمره فاستمرت بمتابعة ما تفعله.
اتجهت للخزانة تجذب باقي الملابس لتضعها بالحقيبة لتضمن هروبها دون أن تراها خالتها، ولج عمران بخطواته المنتظمة حتى وصل للفراش فجلس وهو يردد بألمٍ:
_كنت واثق إنك هتعملي كده.
تجاهلته وهي تضع أغراضها بالحقيبة وكأنه نسمة هواء عابرة، ألقى عمران الحقيبة حينما وجدها تحمل باقي متعلقاتها، ونهض ليقف قبالتها مرددًا:
_مش هتطلعي من هنا يا مايا.. لو مهما عملتي.
رفعت عينيها المدعية للقوة له، قائلة:
_أنت ليك عين تتكلم!
ناطحها بعنفٍ:
_مايا صدقيني أنا ماليش علاقة باللي حصل ده.
تركته وهي تعيد حمل الحقيبة لاستكمال وضع أغراصها، فجذبها لتقف قبالته:
_من فضلك إبعد عني وسبني في حالي يا عمران، ولو خايف إن فريدة هانم تعرف فأنا مش هتكلم.
ضربته في مقتلٍ، وهو يراها رافضة لوجوده جوارها، فاستظردرت مولية ظهرها:
_أنا خلاص يا عمران فاض بيا ومبقتش قادرة أتحمل، فل. باقي على رابط الدم اللي بينا هتطلقني وحالًا.
قالتها بقسوة ومازالت توليه ظهرها، وفجأة استمعت لصوت من خلفها بدى قوية، استدارت لتجده ينحني بكبريائه وهيبته أمامها، واضعًا رأسه بالأسفل وهو بكافح ليتحرر صوته:
_مايا دي فرصتي الأخيرة من فضلك متحرمنيش منها ولا منك، أنا بحترمك فوق ما تتخيلي وعايز أقضي عمري معاكي.
رؤيته يجلس على قدميه هكذا جعلتها تندفع إليه لتنحني على قدميها أمامه، ابتسم عمران ورفع رأسه إليها فوجدها تغفو على صدره، فضمها إليه بقوة جعلتها تتألم من وجع ذراعيها، وهمساته لا تفارقها، فرغمًا عنه انصاع خلف عاطفته التي تحركت لها، فمنحها من بتلات العشق وعينيه لا تتركها فدنى يقتبس من رحيقها ولكنها تراجعت للخلف وتركته برفضًا تامًا لمشاعره، فمنعها من الابتعاد حينما حاوط وجهها بيديه بحبٍ، ليسحبها مستندًا بجبينه على جبينها وأنفاسه المحترقة تلفح وجهها:
_مايا أنا عايزك… أنا بأحبك!
تحررت من يديه ونهضت عن الأرض توليها ظهرها، فنهض يلحق بها وهو يضمها إليه، ابعدته مايسان وهي تشير بغضبٍ:
_لأ يا عمران… مش هسمحلك تقربلي الا لما تستحقني.
وبقسوةٍ قالت:
_طول ما أنت ضعيف وبتجري ورا نزواتك هبقى بالنسبالك أبعد من السما للأرض!
يتبع…
غادر سيف برفقة يوسف، ولم يتبقى سواهما، نزع جمال عنه جاكيته وتمدد جوارها ومازالت رأسها مستدير عنه، مد ذراعه يلف وجهها إليه حتى باتت قبالة وجهه المستكين بنومته قبالتها، فابتلع ريقه بجموحٍ تأثرًا برؤية الاحمرار يبتلع بشرتها جراء بكائها، عينيها الباكية تتمعن به والصمت يبتلعهما بجوفه، حتى مزقته نبرته الهادئة:
_عجبك اللي وصلناله ده؟
تشكلت سخرية بسمتها على شفتيها، فسحبت نفسًا مختنق وعادت لتتطلع إليه:
_أكيد هتقول إني السبب في كل اللي حصل ده، زي ما اتعودت أكونلك شماعة تعلق عليها أخطائك.
تجعد جبينه مستنكرًا تهمتها:
_أخطائي! طيب يا هانم يا محترمة يا اللي نازلة تراقبي جوزك ونازلة وراه في نصاص الليالي عرفيني أخطائي وأنا جاهز أسمعها.
ارتبكت نظراتها المصوبة إليه، طوال تلك الأشهر لم تكن الحياة مستقرة بينهما، وكلما واجهته يسألها نفس السؤال ماذا فعل؟
حينها تكمم لسانها المتحفظ بكون ما ستخبره به لا يصح لأي أنثى البوح عنه!!!!
مثلما اعتادت أن تلتحف المرأة برداء الحياء، ولكنه يتمادى! يتمادى بخطئه، يتمادى باهانتها، وكل ما يملكه ماذا فعلت؟
أشاحت صبا بوجهها عنه ودموعها تنهمر ببطءٍ لتسلخ جلدها الرقيق، فاعتدل جمال بنومته حتى استقام على الفراش، متمتمًا بغضب:
_كالعادة هتسكت وهتسبني أولع في نفسي، أنا خلاص مبقاش عندي صبر على العيشة الخنقة دي، بكره الصبح هنروح ليوسف العيادة ونشوف وضعك أيه لو كده هحجزلك وتنزلي مصر وسط أهلك عشان عيشتي المملة مبقتش تنفعك أنتِ واللي في بطنك.
واستند بجذعيه حتى انتصب بوقفته تاركًا الغرفة بأكملها، فتحرر صوت عويلها المكبوت، تفرغ ما خاضته معه طوال تلك المدةٍ، وفجأة تحجر الدمع بعينيها وتساءلت ماذا ستجني بصمتها؟!
بداخلها حبًا له يكفيها حد الارتواء، عشقًا خلد لمحبوبها منذ الوهلة التي وضع خاتمه بإصبعها، ولكنها رغمًا عنها تثور وتخرج ما بداخلها وهي تدور حول مكنون جرحها الحقيقي.
نزعت صبا الأبرة عن وريدها وأغلقته جيدًا، ثم نهضت عن الفراش واتجهت للخارج بخطواتٍ مرهقة، وأعين متفحصة للشقة الصغيرة، بحثت عنه حتى وجدته يقف بالردهة أمام باب الشرفة يوليها ظهره ولم يشعر بوجودها من الأساس.
لعقت شفتيها بارتباكٍ حتى كادت بالعودة للغرفة مجددًا، ولكنها تعلم بأن بعودتها ستخوص رحلة صمتًا أطول من ذي قبل وسيزداد بعد المسافات بينهما من جديدٍ.
وجدت المجازفة بجزء من كرامتها وحيائها ربما سيريحه لمعرفة ما بها بالتحديد، فاستكملت طريقها حتى باتت تقف خلفه، مدت ذراعيها بتوترٍ حتى حاوطت صدره، ومالت على كتفه تحرر دمعاتها التي أحاطت كتفه، والأخر تعلو أنفاسه بعدم تصديق لقربها الذي لم يعتاد بها.
أغلق جمال عينيه بقوة وهو يجابه تلك الأحاسيس القاتلة، وفجأة تصلب جسده حينما قالت من وسط شهقات بكائها:
_متقساش عليا يا جمال، متسبنيش لشيطاني من فضلك.
كلماتها كانت مبهمة للغاية، وما تحمله ببطانها أثار فضوله لمعرفة ما بها بالتحديد، فلف جسده إليها ليجدها تتراجع خطوة للخلف ورأسها أرضًا، تتحاشى التطلع إلى عينيه وكأنها بمجرد أن تراها ستجردها مما تختبئ به، تماسك جمال محاربًا مشاعره التي تحركت إليها فور لمساتها المفاجئة، فابتلع ريقه وهو يسأله بصوتٍ هامس:
_قصدك أيه يا صبا؟
عادت لصمتها ويديها تفركان ببعضها البعض، أدمى شفتيه السفلية بغضب من عودتها لمخيم صمتها من جديدٍ، فسحب نفسًا وأخرجه بيأسٍ، ويده تعيد خصلاته المتمردة للخلف، فكاد بالابتعاد عنها مجددًا الا أن صوتها منعه:
_هو أنت فين من حياتي يا جمال؟
تمعن بها، في محاولةٍ لفهم لغزها الثاني، الأ يكفيه محاولته لفك الأول! ، فرفعت عينيها المتورمة إليه وقالت:
_أنا لولا إني واثقة إن أنا اختيارك كنت فكرت إن في حد غصبك تتجوزني.
ورفعت اصبعها إليه تشير له:
_من يوم ما حطيت خاتمك في إيدي وأنا بصونك وبحافظ عليك بس إنت مصمم تكسرني وتخليني أحس بالنقص.
جحظت عينيه في صدمةٍ ازدادت وتيرتها مع بوحها بما يقتلها:
_كنت مقدرة ظروفك وعارفة بيها، اتجوزتني وفضلت معايا اسبوعين وبعدها سافرت وسبتني في مصر، كنت بموت وبتوجع وإنت بعيد عني بس بصبر نفسي إنك في يوم راجع، كفايا اني بسمع صوتك بس حتى دي حرمتني منها بقيت بتكلمني كل فين وفين تتطمن بس ان فلوسك وصلتني وإن والدتك وأهلك بخير!
وازاحت دمعاتها وقالت وعينيها تواجهه بجرءة:
_أنا كنت بموت وأنا لوحدي، وبخاف من كل شيء حواليا، بخاف من مسكة موبيلي بخاف من خروجي من البيت، بخاف من نظرات أي راجل ليا، بخاف أسمع اخواتي البنات واحنا متجمعين عندنا وبيتكلموا عن قرب أزواجهم ليهم، بخاف على مشاعري وإنت بعيد عني..بخاف يا جمال!
واستطردت بوجع نازح يخنق رقبتها وأضلعها:
_أنا مسبتش الشغل في مصر عشان الشركة قفلت زي ما أنا قولتلك، سبتها عشان كان في شخص هناك بيحاول يتقرب مني وأنا كل مرة كنت بصده بس كان جوايا رعب وخوف من ربنا طول ما أنا بفتكر كلامه ومغازلته ليا، أنا كنت بخاف أضعف يا جمال!!
ازدادت صدماته ويده تعتصف بقوةٍ جعلت الدماء على وشك الانفجار من وريده المتعصب ومع ذلك بقى يستمع لها، فقالت والبكاء يؤنسها:
_لما قولتلي إنك هتخلص أوراقي وهتبعت تاخدني فرحت إني هكون جنبك وهشاركك حياتي، بس اكتشفت إنك وإنت في مصر غايب عني وهنا بردو غايب عني، في الحالتين بتقتل! وفوق كل ده مش عايزني أفكر إنت بعيد عني ليه، أنا شكوكي بإنك تخوني كانت أخر شيء فكرت فيه، أنا فقدت الثقة في نفسي، بقيت بحس إني في شيء غلط، إني مبقتش عجباك عشان كده مبقتش عايز تشوفني ولا تقضي وقت في بيتك.
وصرخت بانهيارٍ يعصب به:
_إنت فاكر يعني لما جيت هنا ولقيتك مع صحابك ده شيء هيريحني وينسيني شكوكي، ده قتلني قتلني أكتر من الأول.
واستدارت تضم ذراعيها وهي تبكي بقهرٍ، وكلماتها الاخيرة تتحرر بصعوبةٍ:
_ولسه واقف تهددني أنك هتسافرني مصر! يا جبروتك يا أخي!
وتركته وهرعت للغرفة، فحملت حقيبة يدها ثم أسرعت لباب الشقة، أعاق جمال طريقها،مشددًا على ذراعيها يشير لها:
_مينفعش تنزلي دلوقتي.
دفعته بكل قوتها وصرخت بعنفٍ:
_مش هفضل معاك هنا ثانية واحدة، هرجع بيتي اللي إنت معتبره لوكاندا بتغير وتنزل.
واسترسلت وعينيها تجرب الشقة بسخريةٍ:
_أنا بنفسي هجبلك هدومك عشان توفر على نفسك مشوار كل يوم.
وتركته وغادرت فجذب جاكيته ومفاتيح سيارته، ثم هرع من خلفها.
ركضت صبا خارج المبنى تزيح دموعها بأصابعها، وجسدها يرتجف من فرط كبتها لصرخاتها، جرحت كرامتها حينما عبرت عن احتياجها إليه وامتناعه عنها! ، كل خطوة تخطيها على رصيف الشارع تشعر وكأنها تدعس بها على ذاتها وقلبها الضعيف.
احتضنت ذاتها تربت على نفسها وهي وحيدة في تلك الدولة الاجنبية، لا تعلم إلى أي طريق ستتجه بعد خروجها من المنزل برفقة سيارة أجرة تتبع سيارة زوجها للشركةٍ حتى وصلت خلفه لذاك المبنى.
تناست أمر جنينها فأخفضت يدها تحتضنه وتمسد على بطنها وهي تردد ببكاءٍ حارقٍ:
_أنا عارفة إنك مالكش ذنب تشاركني وجعي وحزني بس أنا دلوقتي ماليش غيرك يا حبيبي.
وطوفت الطريق من حولها بنظرةٍ متفحصة، فارتعب قلبها حينما لم تجد أحدٌ سواها، فتطلعت لمقاعد الانتظار المصفوفة على طرفي الطريق، واتجهت إليها، فجلست على المقعد ومازالت يدها تحتضن جنينها بخوفٍ، وعينيها تدور على الطريق برعبٍ!
*****
نهض عن الأرض وهو يتابعها بنظرةٍ صلبة، تحاول تحمل اهانتها الصريحة لحبه، ومع ذلك منحها كل العذر، هل يستحق ما فعلته وستفعله، اقترب منها عمران حتى بات يقف خلفها، فلفحتها نسمة هواء عابرة جعلت شعرها يتطير ليلامس وجهه.
أغلق عينيه تاركًا رائحتها تغزو أنفه، أرادها أن تبدد كل ما سبق له الاعتياد عليه، أراد أن ينعم بها وتظل رائحتها هي مبتغاه الوحيد، فتح عينيه على مهلًا، وأدارها إليه فوجدها تتهرب من لقاء عينيه!
استغنت عن قوتها وقوة نبرتها الطاعنة لرجولته، رافضة أي قرب صريح منه، فدنى يطبع قبلة على جبينها وهمس لها:
_أنا عارف إني أستحق، وجاهز لعقابك حتى لو كان غير محتمل، بس اللي مش هقبل بيه البعد!
فتحت عينيها إليه، فتاهت داخل رماديته الجذابة، خفق قلبها بعنفٍ وكأنها تلامس طبول تصيح دون توقف، فأبعدت يديه عن كتفيها وتراجعت خطوات آمنة وهي تتمسك برداء قوتها الذي أوشك على السقوط أمامه:
_إنت لسه مصدق نفسك، إنت شكلك وإنت بتتخانق معاهم ضربوك على دماغك وجالك فقدان ذاكرة!
وابتسمت ساخرة رغم دموعها المتدفقة على خديها:
_أنا مايسان بنت خالتك اللي فريدة هانم أجبرتك تتجوزني وإنت مضيعتش فرصة تهني فيها وكنت بتتمنى إني تخلص مني! فاكرني ولا إنت بتشبه عليا؟
واقتربت تهمس جوار آذنيه بنفس لهجته الدانيئة المتعلقة بذكرياتها التي ترفض تركها:
_شكلك مفتقد العاهرة بتاعتك وجاي هنا عشان تتسلى!
وتراجعت وهي تحدجه بسخطٍ، ويدها تتجه اشارتها لباب غرفتها:
_اطلع بره يا عمران ومتتخطاش حدودك مرة تانية معايا، أنا صبري نفذ معتش عندي اللي يخليني أنجبر أخضعلك، كنت فاكرة إني برد جزء بسيط من جمايل خالتي عليا بموافقتي بجوازي منك واستمراري فيه.
وبحزنٍ شديد استطردت بما يؤلمها:
_كنت شايفها عاجزة وأملها كله فيا إني أقدر أغيرك، بس للأسف أنت عمرك ما هتتغير ولا أنا ولا غيري هيقدر يفوقك.
قست نظراته تجاهها، أتمحي حبها إليه الآن وتنسب بقائها لهذا السبب، وخر قلبه بوهنٍ، فكسر تعليماتها ودنى حتى بات قريبًا حد هلاكها، فأحاط وجهها بيديه وهو يستهدف عينيها:
_بصي في عنيا وقوليلي أنك مبتحبنيش!
مالت برأسها اعتراضًا للقائه الاجباري، فتمسك برأسها مستقيمًا من أمامه وهو يتابع بتعصبٍ:
_بصيلي وقوليلي إنك متمنتيش في يوم قربي!
تصلبت نظراتها وردد لسانها:
_لأ يا عمران متمنتش، أتمناك ازاي وأنا شامة فيك ريحة الخيانة والزنا! أنا حتى لو بحبك مش هقدر أديك الفرصة دي لأن لو خنتني بعدها هموت.
ابتلع ريقه الجاف بصعوبةٍ وبديه تتحرر عنها، فاخفضت عينيها تبكي أمامه، دارت عينيه بالغرفة، فسقطت على مصحفها الوردي الموضوع على الكومود المجاور لفراشها، تركها واتجه إليه فحمله بين يديه وعينيه لا تفارقه، ثم هم إليها ليضع يده عليه وعينه مسلطة بها:
_أقسم بالله عمري ما هرتكب الذنب ده تاني ولا هيكون في حياتي ست غيرك.
التقطت منه القرآن الكريم وهي تبعده بغضب:
_حرام اللي بتعمله ده، أنت فقدت عقلك!
كان عاجزًا لا يعلم ما يفعله ليجعلها تثق به، ففرك جبينه بألمٍ وقد خرت قواه تدريجيًا، تسرب له فكرة جعلته يجذب حقيبة يدها، ليجذب منها جواز سفرها، أسرعت مايسان إليه تراقب ما يفعله باستغراب:
_إنت بتعمل أيه؟
وضعه بجيب بنطاله ثم حملها بين ذراعيه ليتجه بها لغرفته وساقيها تندفع بعصبية بالغة:
_نزلني واخدني فين؟ بقولك نزلني!
وضعها على فراشه برفقٍ وقبل أن تصب عليه غضبها قال:
_هتسمعيني وبدون ما أتعصب، سفر وخروج من هنا وطلاق انسي مش هيحصل، وإنتِ أكتر واحدة فهماني وعارفة أني عنيد وطايش وممكن أعمل اللي ميخطرش في بالك، أنا هسيبك تتخطي اللي حصلك النهاردة والضغوطات اللي أنا كنت السبب فيها، هديكي كل الوقت بس وأنتي معايا وقدام عيوني.
زحفت للخلف حتى وصلت للوسادة ولحافة الفراش ومازالت نظراتها تتوزع عليه بارتباكٍ، فتركها واتجه للاريكة الموضوعة بنهاية الغرفة، ربعها لتصبح فراشًا صغيرًا وتمدد عليه وهو يخبرها:
_نامي واطمني أنا مستحيل هعمل شيء إنتي رافضاه، أنا مش حيوان!
راقبته مايسان باستغرابٍ، بالرغم من الغضب المشتعل داخلها الا أن الأمر يروق لها، تمسكه بها حرصه على بقائها برفقته حتى لا تهرب بعيدًا عنه، قسمه بأنه لا يقترب من أنثى غيرها بالرغم من ارتكابه ذنبًا الا أنه هدأ من ثورتها.
راقبته مايسان حتى غفلت عينيه، فتمددت على فراشه وعينيها لا تفارفه، تراقبه ببسمةٍ هادئة حتى غفاها النوم هي الاخرى.
****
أخرج جمال سيارته من الچراچ الخاص بالمبنى، وقادها باحثًا عنها كالمجنون، اختفى أثرها من أمامه وكأنها لم تتركه منذ خمسةٍ دقائق فقط، ترك سيارته بمنتصف الطريق وهبط يبحث بالجانبين من الطريق، وحينما لم بجدها صعد للسيارة متوجهًا لشقته وقلبه يكاد يتوقف من الخوف عليها.
فتح بمفتاحه الخاص وولج للداخل فقابلته عتمة حالكة أكدت لها عدم وجودها ومع ذلك هرع للغرف يناديها بفزعٍ:
_صبــــــــــا!
كل غرفة ولجها ولم يجدها بها كان يزداد دوار رأسه، هي غريبة هنا بالمعنى الأوضح ليس لديها سواه هو، شدد على خصلات شعره بعصبية وهو يهمس بخوفٍ جنوني:
_روحتي فين يا صبا؟!
وجذب هاتفه يحاول الوصول إليها وهاتفها يرفض استقبال مكالماته كأنه يعاقبه عما فعله بها هو الآخر، جذب مفاتيحه وغادر صافقًا الباب من خلفه بقوةٍ كادت باسقاطه، عاد لنفس الطريق وتلك المرةٍ يبحث بعناية وعينيها تدمعان بالدمع الساخن، كلماتها لا تتركه لتسفح جسده المرتعش فأصبح لا يسيطر على مقود سيارته من فرط ارتباكه.
هبط جمال من السيارة وجلس أرضًا على الرصيف مستندًا برأسه على يديه وهو يحارب تخمينه بأن سوءًا قد مسها هي وجنينها، ربما أقدمت على الانتحارها فما استمع إليه منها يؤكد المعاناة التي خضتها بسببه.
ارتفع رنين هاتفه الملقي على تابلو سيارته، فنهض إليه سريعًا، جلس جمال على مقعده باهمال فور رؤيته اسمها، فحرر زر الاجابة يردد لها بلهفة رغم تباطئ نبرتها التي تشق التقاط أنفاسه المهتاجة:
_صبا انتي فيــــــــــــن؟
أتاه صوت بكائها ورعشتها التي نقلت إليه:
_جمال بالله عليك تعالى أنا خايفة أوي، أنا مش عارفة أنا فين آآ… أنا هموت من الخوف، متسبنيش هنا لوحدي وحياة أغلى حاجة عندك أنا ماليش حد هنا غيرك.
تحررت دمعته واستكان رأسه خلف مقعده بطعنة مريرة، فابعدها عن وجهه وقال بثباتٍ مخادع:
_إشرحيلي مكانك ومتخافيش هجيلك على طول.
ردت عليه وهي تتلفت حولها:
_أنا مشيت من الشارع اللي جنب العمارة اللي كنا فيها، آآ… أنا في مكان شبه الاستراحة وفي جنبي مكان شبه الماركت وجنب بنزيمة.
تمكن من التعرف للمكان، شغل سيارته وقادها بسرعة ومازال يده تقبض على الهاتف وعينيه مرتكزة على الطريق، صامتًا لا يتحدث وكأنه يجاهد لإن يظل ثابتًا حتى يصل إليها.
صوت أنفاسه المضطربة تصل إليها فتمنحها الأمان بأنه لم يغلق الهاتف بعد، فنادته وهي تستكين على العمود الحديدي المجاور لها:
_جمال متتأخرش عليا.. آآ.. أنا بردانه!
أغلق عينيه بقوةٍ ومازال يلتحف بالصلابة والثبات، وصل جمال للمبنى التابع لشقته المشتركة مع يوسف، وانجرف للشارع الجانبي مثلما أخبرته، قاد لدقائقٍ حتى وصل للمكان الذي وصفته، فترك الهاتف وهبط من السيارة يبحث عنها باستراحات الحافلات.
سقطت عينيه عليها، فوجدها تستكين وهاتفها لآذنيها ومازالت تتحدث إليه، تضم جسدها المرتعش بضعفٍ، هدأ من انفعالاته فهو حقًا لا يريد أن يؤذيها يكفيه ما أخبرته به، فاستكمل طريقه حتى وقف أمامها.
نهضت صبا إليه باسمة وهي لا تصدق وجوده، عينيه الحمراء تصلب جسده جعلتها ترتبك، وخاصة حينما تركها واتجه لسيارته يقودها ليصبح من أمامها بصمتٍ جعلها تنخضع للمقعد المجاور له بهدوءٍ، فأعاد القيادة متجهًا لشقتها، وطوال الطريق الصمت يحجرهما، وقفت سيارته فهبطت منها أولًا وصف هو سيارته ولحق بها، فما أن ولج للداخل حتى وجدها تغفو على الفراش بثيابها وتلف الاغطية من حولها.
نزع عنها الغطاء ثم جذب راسخها يجبرها على النهوض، خشيت أن يصفعها لما فعلته ولكنها وجدته يضمها إليه بقوةٍ لم يفعلها يومًا، تخشبت ذراعيها ولم تعلم كيفية التعامل مع وضعه؟
وبصعوبة بالغة أرغمت يديها على وضعهما على ظهره، فزاد تمسكًا بها، تحررت دمعاتها فأفرغت ما منعته عليها وبكت بصرخات أوجعته، انهارت ببكائها داخله ولم يمنعها بذلك، بل شدد من ضمه لها وكأنه يود أن يمزق كل عائق وضعه بينهما يومًا، تشبثت به يدها وكأنه أخر أمل لنجاتها، ودموعها تنهمر على رقبته وكتفه، فجلس بها على طرف الفراش.
مرت نصف ساعة ولم تهدأ انتفاضة جسدها بين ذراعيه، ولم يحاول أن يهدءها، تركها تخرج ما بها خشية من أن لا يصيبها السوء، يكفيها كبت ما يزعجها طوال تلك الاشهر، فما أن شعر بها تستكين أخيرًا على صدره، فمسد على ظهرها وهو يجاهد لخروج صوته، فقال بتلعثمٍ:
_حقك عليا يا صبا أنا غلطت وغلطي كبير، متعودتش أشيل حد معايا في همي وغصب عني خليتك جزء منه.
رفعت عينيها إليه بدهشةٍ من حديثه، زوجها غامضًا للغاية، لم يسبق لها سماعه يقص لها عن حياته، حتى أصدقائه وعمله، طالعته باهتمام وجده بحدقتيها، فرفع إبهامه يزيح عنها دموعها وهو يخبرها بحزنٍ يتعمق داخله:
_الدنيا مضيقة عليا أوي يا صبا، ماما محتاجة عملية في أسرع وقت والدكتور اللي ماسك حالتها مازال بيأكد عليا بيها كل ما بتروح تتابع عنده، وأنا عاجز يا صبا العملية مكلفة جدًا، لو دفعتها مش هيكون عندي رأس مال للشركة ولا هقدر أكمل في مصاريف تعليم أخويا ولا جهاز مها أختي فرحها متحدد على أخر السنة، أنا عاجز بين اختيارات كلها أبشع من بعض، لو الشركة وقعت مش هقدر ابعتلهم فلوس كل أول شهر ولا هقدر أكمل مصاريف الادوية، فكرت إني أستلف المبلغ من يوسف أو عمران بس مقدرتش أنا متعودتش أطلب حاجة من حد ولا أستغل صداقتي بيهم!
برقت له بصدمةٍ من تحمله كل تلك الأعباء بمفرده، أين كانت مما يواجهه، رفع جمال عينه إليها يستطرد بندمٍ:
_مهما كان اللي بواجهه صعب مكنش ينفع أعاملك بالشكل ده وأنسى واجباتي تجاهك.
وتابع وهو يحاوط يديه بوجهها وابتسامته الجذابة تنير وجهه الحزين:
_بس والله بحبك وفضلتك عن مسؤولياتي، خوفت تضيعي مني عشان كده اتقدمتلك على طول ومقبلتش استنى لما أعدي بكل اللي بمر بيه ده، مكنتش أعرف أنك هتتأثري بمشاكلي، حتى لو مكنتش بتكلم… أنا آسف يا حبيبتي.
هزت رأسها ترفض سماعها لاعتذره، وقالت ببكاءٍ وصدمة:
_كل ده مخبيه جواك وبتواجهه لوحدك يا جمال، أنا اللي آسفة أنا اللي أنانية.
جذبها لاحضانه مجددًا وهو يهمس بصوته الخافت:
_لأ يا صبا أنا اللي غلطت ولازم تسامحيني.
وطبع قبلة على جبينها وهو يخبرها بصدقٍ:
_أوعدك إني هعوضك عن كل ده ومش هفارق بيتي تاني.
ورفع وجهها إليه مقتربًا منها بمشاعره المتمردة على عاطفته، فضمته بشوقٍ برحيقها ليغردهما عش غرامهما معًا بعد أن سقط السد المحاط بهما أخيرًا.
********
قاربت الساعة على الثالثة صباحًا ولم تتمكن من النوم بعد، مازالت جالسة على فراشها تسند ظهرها للوسادة وعينيها هائمة بالفراغ، تتذكر ما حدث معها بمقارنة تذبحها..
##
وجدته يدنو منها ويده موضوعة على خصرها بجراءةٍ لم تحبذها شمس مطلقًا، فكانت ترسم بسمة مصطنعة بوجوه من أمامها وتلتفت إليه بين الحين والأخر مرددة:
_راكان إبعد لو سمحت مينفعش اللي بتعمله ده.
منحها بسمة صغيرة ودنى يهمس لاذنيها بانفاسه التي اشمئزت منها:
_أيه اللي عملته يا بيبي، أمال لو مكناش عايشين في انجلترا!
وتابع وهو يجذب الشال الأبيض المغطي لجسدها العلوي، بضيقٍ:
_ثم أيه القرف اللي أنتِ لابساه ده، عايزة تداري على جوهرة من الالماس بشال رخيص زي ده!
جحظت مما فعله، فتطلعت للشال الملقي أرضًا بصدمةٍ، ومنحته نظرة صارمة اتبعها حديثها المستنكر:
_أيه اللي عملته ده الفستان دهره مكشوف!
نفث دخان سيجاره الثمين، قاصدًا أن يطولها:
_وماله يا بيبي، هو حد هيسيب الجوهرة وشكل الفستان اللي هياكل منك حتة وهيبص على دهرك!
غامت الاجواء من حولها فبدت ترى ذاتها وسط سحابات تحوم بها، تطلعت له وهو يتبادل حديثه مع اصدقائه وكأنه لم يقترف شيئًا بها، فألمها قلبها لما هو قادم إليها، ترنح لها موقف آدهم حينما أحاطها بالشال الأبيض ليخفي ظهرها في حين أن ما يسمى خطيبها يريدها عارية أمام رجال الطبقة المخملية!
تلقائيًا بحثت عينيها عنه بعيدًا وسط رجال راكان، وجدته يستند على السيارة ويتحدث لهاتفه، وفجأة رآها تتطلع له بأعين باكية!
أخفض آدهم هاتفه عن آذنيه بدهشةٍ من أمرها، لهفته واهتمامه كانت تنبع بحدقتيه التي تتابعها، انسحبت شمس عن طاولة راكان مبتعدة لركن متواري عن الأعين، فجذبت المقعد وجلست تحتضن وجهها على الطاولة.
لفحتها نسمة هواء عابرة جعلت جسده يرتجف مفتقدًا للشال الذي تركه راكان أسفل الأقدام، ترقرقت عينيها بالدمع وفاضت بما يزعجها، وفجأة احتضنها الشال من حولها، وحينما استدارت كان أملها بأن نخوته أيقظته فعاد إليها، ولكن عادت لتتفاجئ بآدهم يقف قبالتها، فتحرك ليجلس على المقعد المقابل لها متنحنحًا بحرجٍ لاقتحامه جلستها المنفردة:
_تقريبًا وقع منك.
ورددت بمرحٍ وابتسامته لا تفارقه:
_وتقريبًا بردو إنك بتهربي من الحفلات المملة يا أما فوق السطوح يا بره!
حدجته بنظرة جامدة لا توحي بالنيران المشتعلة داخلها، فترقبها آدهم بقلقٍ فشل باخفاءه، فسألها بشكلٍ مباشر:
_مالك يا شمس حصل حاجة؟
أجلت أحبالها المبحوحة من فرط البكاء:
_الباشا بتاعك شاف إنه ماليش داعي أبقى محبكاها بالشال، الظاهر إنه عايزني أكون فرجة لصحابه.
تجهم تعابيره بغضبٍ إلتمسته حتى وإن بدى هادئ، رزينًا، فأعاد ظهره لخلف المقعد قائلًا:
_متزعليش هتلاقيه متقل حبتين بالمشروب.
وتابع بهيامٍ بها وبكلمات دقيقة:
_مفيش حد يستاهل دمعة من عيونك يا شمس حتى لو كان راكان، متسمحيش إنه يفرض عليكي شيء حتى لو مش حابة تكوني هنا، خدي عربيتك وإرجعي البيت متخلهوش يفرض وجودك بمكان ولبس مش حباه.
عادت من شرودها بدمعاتٍ لم تتركها، وبسمة صغيرة مدونة على شفتيها، خلفها فارس أحلامها وجوارها شخص مفصل بمقاس خاص صنعته فريدة هانم!
*********
رفض العودة للمنزل وفضل البقاء بمكتبه، يكاد رأسه ينفجر من شدة الصداع الذي يهاجمه، يحاول جاهدًا الاسترخاء حتى وإن رفض جسده لنصائحه الهامة.
نهض علي وإتجه لغرفتها، لا يعلم ما الذي ساقه إليها بذاك الوقت، فقد اقتربت الشمس بموعد اشراقها ومازال النوم يخاصمه، فتح علي باب غرفتها واستند بجسده على بابها يتأملها بحزنٍ، كان يريد فرصة واحدة يخفف بها آلامها ولكنها رفضت حتى التفكير بالأمر، نفث ما بداخله وهو يهم بالمغادرة، فأوقفه تأوهاتها المرددة بنومتها، اتجه علي لفراشها فوجدها تحارب كوابيسها والعرق يتصبب على جبينها بغزارة.
دمعاتها لا تفارق وسادتها وأصابعها منغرسة بغطاء الفراش بعشوائيةٍ، هرع علي للكومود الطبي المجاور لها، فجذب الأبرة يحقنها بالمهدأ وتوقف فجأة حينما تذكر حالة الفزع التي تنتابها فور رؤيتها لها، فجذب الأقراص البديلة وسكبها بكوب ملئ نصفه بالمياه، ثم هزها برفقٍ وهو يناديها:
_فطيمة… فوقي.
لم تستجيب له ببداية الأمر، فهزها مرة أخرى حتى استجابت له، فوجدتن يقدم لها الكوب وهو يحثها برفقٍ:
_اشربي.
تناولت ما بيده باستسلامٍ تام، حتى شعرت بارتخاء عضلاتها المنقبضة، فوضع علي وسادة من خلفها وتركها تهدأ من انفعالاتها رويدًا رويدًا، حتى سكنت تمامًا، فقال ببسمةٍ هادئة:
_مرضتش أديكي الحقنة واستبدلتها بأقراص عشان بس تعرفي غلاوتك عندي.
ابتسمت رغمًا عنها على كلماته، ولزمت الصمت حتى وجدته يعتدل بجلسته قائلًا:
_لسه مصرة على دكتور غيري؟
وتابع بمزحٍ:
_مكنتش أعرف أني رزل وتقيل عليكي أوي كده.
تملكها الخجل وهربت منها الكلمات، فكيف ستخبره بأنها لا تجيد الأمان الا في حضرته، كيف تخبره بأنها تنتظره كل صباح بلهفةٍ، كيف تخبره بأنها تغار على الزهرات التي يحضرها لها كل صباحٍ فتود أن لا تلامسها أيد الممرضات ولا أحدٌ سواها.
ربع يديه وهو يتراجع بظهره للمقعد، مستندًا برأسه على طرفه، وقدميه مسنود على أخر الفراش، قائلًا بشرود:
_كان نفسي تديني فرصة أثبتلك فيها حبي يا فطيمة.
وعاد يتطلع إليها فوجدها بدأت تستجيب للمهدأ فتحارب جفنيها الثقيل باستماتةٍ، مال علي بجسده على الكومود، ومازال يردد بهمسٍ خافت:
_أنا عارف إن الموضوع صعب عليكي بس دي الحقيقة أنا بحبك وجاهز أخوض معاكي الحرب اللي بتهربي منها.
وتابع وعينيه بدأت باستجابتها للنوم بارهاقٍ:
_وحتى لو رفضتي حبي هفضل جانبك.
واستسلم للنوم الدافئ الذي هاجمه على الطاولة فأغلق عينيه باسترخاءٍ تامٍ.
********
مع اشراقة صباح يومًا جديدًا، انتفضت بنومتها حينما استمعت لصوت والدتها المتعصب تناديها:
_شمس قومي كلميني.
استقامت بجلستها وهي تفرك عينيها بنومٍ يداعب حدقتيها الناعسة:
_خير يا مامي في أيه؟
جلست فريدة بكنزتها السوداء المنسقة على بلوزة بيضاء وحزامًا من الجلد يطوق خصرها، رافعة شعرها المصبوغ للأعلى، لتحدجها بنظرة مشككة قبل أن تطرح سؤالها:
_أيه اللي حصل إمبارح في حفلة إميلي؟
انقشع لون بشرتها الصافي، وتلعثمت حروفها:
_مآآ… آآ.. محصلش حاجة، حضرتك بتسألي ليه؟!
أظلمت حدقتيها وطرقت على الكومود بغضبٍ:
_متكذبيش عليا يا شمس، تالا هانم كانت في الحفلة مع جوزها ولسه قافلة معايا حالًا وقالتلي على اللي عمران عمله في إميلي وألكس الحقيرة، وقالتلي كمان أن مايسان كانت طالعة معيطة وأنا واثقة إنها مستحيل هتتكلم وهتحكيلي شيء، فانطقي وقوليلي أيه اللي حصل إمبارح بالظبط وبدون لف ودوران!
*******
انكمشت بانزعاجٍ حينما تناثرت قطرات من المياه الباردة على وجهها، فتحت مايسان عينيها بانزعاجٍ، فوجدته يبتسم متعمدًا أن تتساقط المياه من شعره عليها، انتفضت بمنامتها وتراجعت للخلف وهي تصيح به:
_إنت بتعمل أيه؟
ابتسم وهو يجفف شعره بالمنشفة المحاطة برقبته قائلًا ببرود:
_خوفت تروح عليكي نومة والنهاردة ورانا اجتماع مهم ولا نسيتي؟
ابتلعت ريقها بارتباك، فابعدت نظراتها عنه محذرة إياه:
_متقفش قدامي كده تاني احترم نفسك.
قهقه ضاحكًا وهو يغادر لخزانته فارتدى بنطاله وخرج يزرر قميصه الأسود مشيرًا لها بحاجب مرفوع:
_إنتِ لسه هنا؟!
ذمت شفتيها بغضبٍ:
_ما أنت جبتني هنا بالبيجامة هخرج لاوضتي ازاي وعلي بره؟!
عقد جرفاته مرددًا بغمزة مشاكسة:
_علي في المستشفى خدي راحتك.
أزاحت الغطاء عنها ونهضت على استحياء، فاتجهت لغرفتها سريعًا وأبدلت ثيابها لفستانٍ باللون الأسود، وحجابًا مطرز بفراشات من اللون الوردي، انتهت وهبطت للأسفل فوجدت خالتها بانتظارها وعلى ما يبدو من وجه شمس الواقفة خلف مقعدها بأن هناك أمرًا مخيفًا.
نهضت فريدة عن المقعد وأسرعت إليها تتساءل وعينيها تفترسها:
_مايا حبيبتي، إنتِ كويسة؟
وتفحصت جسدها بأعين تسعى لاخفاء دمعاتها:
_حصلك حاجة؟!
ارتعبت فور تخمينها معرفة خالتها بما حدث لها، وخوفها الأكبر على عمران، الذي وصلت خطوات حذائه للأسفل، فأصبح أمامهم يردد ببسمة هادئة:
_صباح الخير يا فريدة هانم.
تركت فريدة يد مايسان واتجهت لتقف قبالته، تضم ذراعيها لصدرها وعينيها تشتعلان بغضب جعله يسحب أنظاره لشمس التي تترقب ما يحدث ببكاء جعله يتأكد من ظنونه، فقال بخشونة:
_أنا أخدت حقها من الكلاب دول وأولهم ألكس.
خرج صوتها هادئ غير المعتاد:
_حق!! الزبالة اللي إنت كنت بتتحداني عشانها كانت عايزة تدمر بنتي ووقف تقولي حق!
وقطعت مسافتهما حتى باتت قبالته:
_تعرف يا عمران أنا كنت فاكرة إن كل اللي بعمله ده هيجيب فايدة وهتتغير بس الظاهر كده إني جيت على بنتي بزيادة أوي عشان بني آدم حقير زيك ودلوقتي حالًا هتطلقها أنا مش هسمحلك تضيع مايسان يا عمران مش هسمحلك.
وصرخت بعصبية هزت أرجاء المنزل:
_ارمي عليها يمين الطلاق وحالًا.
ارتعش جسدها بعنفٍ وكأن ساقها مرنة لا تصلح لتحملها، لحظة قاسية خاضتها ولكنها تلبست بالصمت لرغبتها بمعرفة اجابته الصريحة، ها هي خالتها تحرره من العلاقة التي ود الخلاص منها، نقلت نظراتها إليه وبداخلها رعبًا من سماع اجابته.
انتقل عمران ليجابه والدته ورماديته لا تحيل عنها، صمته الطويل جعل فريدة تتطلع له بدهشةٍ وخاصة حينما مد يده بجيب جاكيته ليخرج منها عدد من الكريدت كارت ومفاتيح، فتح عمران كف والدته ليضعهم بها قائلًا بثبات:
_أنا مش عيل صغير عشان تجوزيني وتطلقيني بمزاجك، المرادي مش محتاجة تهدديني بشيء، أنا صحيح تعبت في الاسهم الخاصة بشركات بابا الله يرحمه بس هقدر بشركتي أحقق اللي حققته من تاني…
واخفض عينيه وهو يخبرها جملته الاخيرة:
_أنا مش هطلق مراتي لو انطبقت السما على الأرض، عن إذنك يا فريدة هانم.
وتركها وغادر على الفور، فاستدارت مايسان تراقبه ببسمة ارتسمت على شفتيها رغم الدموع التي خانتها، حتى فريدة اعتلى وجهها ابتسامة مريحة زارتها بعد عناء، والآن باتت مطمئنة بأن هنالك أملًا باكتمال علاقة ابنتها مايسان بابنها العنيد المشاكس.
*********
عادت الذئاب تحيط بها من جديدٍ، تمزق فستان زفافها الأبيض لتعري جسدها للأعين، توسلت لهم بتركها ويدها الهزيلة تحاول ستر جسدها عن أعينهم، ولكنها لا تمتلك القوة لمحاربة تلك القوة الذكورية، نهضت فطيمة وهي تصرخ بفزعٍ:
_لأ.
انتفض علي بنومته الغير مريحة، فهرع إليها مرددًا بقلقٍ:
_فطيمة، متخافيش ده كابوس.
استدارت برأسها إليه، لم تصدق أنه ظل لجوارها من الأمس حتى الآن، فأمسكت بيده دون وعي منها ووضعت وجهها الباكي على باطنها، ورددت بلهاثٍ مقبضٍ:
_علي!
رقص قلبه طربًا لسماع إسمه دون ألقاب حاملة منها، ازدرد ريقها الجاف وهو يجاهد توتر حركة جسده الذي يرفض التفاعل معها لخطيئة الموقف، لا يود أن يبعدها عنه يود ضمها ولكن لا يجوز له فعل ذلك، بالرغم من عشقه وفرحته العارمة الا أنه كان قويًا فسحب يده منها وجلس محله من جديدٍ وهو يشير لها:
_اهدي يا فطيمة كل ده كوابيس ملهاش وجود غير في دماغك أنتِ بس.
بدأت أنفاسها تهدأ رويدًا رويدًا، فاعتدلت بجلستها وهي تراقبه على استحياء، ضم ساقيه لبعضهما وهو يتفحص ساعته، ثم قال بمكرٍ:
_ها يا فطيمة لسه عايزة تغيري الدكتور؟
أخفت عينيها عنه، وهزت رأسها نافية دون أن تريه حدقتيها، فابتسم وهو يهمس:
_يعني هتديلي فرصة؟
تطلعت له تلك المرة بعجزٍ تام:
_بس آآ..
قاطعها بحدةٍ فجأتها:
_لو موفقتيش عليا هتجوزك غصب عنك كفايا بقى شهرين تعارف في مصر و8شهور بانجلترا لسه عايزة عشرة أطول من كده.
لعقت شفتيها وتوترت حركة جسدها وهي تخبره بحياء:
_خايفة تندم على قرارك ده.
ردد مستنكرًا:
_أندم!! فطيمة إنتِ مش فاهمه أنتي بالنسبالي أيه عشان كده أنا عذرك.
تهربت منه مجددًا وهى تسترسل:
_هيحصلك مشاكل مع عيلتك بسببي.
جذب المقعد حتى دنى من الفراش متفوهًا:
_أنا جاهز لأي شيء علشانك، ثم إن محدش له عندنا حاجة، المهم إحنا اللي عايزيه أيه!
*******
ولج عمران لمكتبه بغيظٍ يعتليه لما تفعله والدته، ألا يكفيه ما يمر به حتى يجدها بوجهه كالبركان الثائر، استعاد تنظيم أنفاسه وجذب الملفات الموضوعة من أمامه يحاول العمل بتركيزٍ، صب غضبه القاتل على عمله فظل طوال اليوم يعمل بمكتبه حتى غادر الجميع ولم يتبقى سوى السكرتير الخاص به ومايسان التي مازالت بمكتبها، فجلس يعمل على أخر ملف بعدما أبلغ العامل بصنع كوبًا من القهوة إليه، فتسلل لمسمع عمران أصواتًا مزعجة أمام مكتبه، فنهض عن مقعده وفتح بابه ليتفاجئ بوجودها بالخارج تود الدخول والسكرتير الخاص به يحاول إيقافها، تقوس حاجبيه بغضبٍ وانطلق صوته الرعدي:
_ما الذي أتى بكِ إلى هنا؟!
تركت ألكس السكرتير واتجهت إليه تخبره بقناع دموعها الزائف:
_عمران هناك شيئًا هامًا أريد الحديث معك به.
أغلق عينيه بقوة وهو يهدأ الوحش القابع بداخله، لا يرغب باثارة اللغط حوله بمكان عمله، لذا قال بهدوء مصطنع:
_تفضلي للداخل.
ولجت ألكس للداخل ببسمة انتصار وكأنها على وشك السيطرة عليه من جديدٍ، بينما أشار عمران للسكرتير :
_غادر أنت جاك.
انصاع إليه وجمع أغراضه وتوجه للمغادرة لتخلوا القاعة من أمامه فتسنى له رؤية مايسان التي تقف على الباب الخارجي بصدمة من وجود ألكس، بعدما كانت تستعد للرحيل، فمنحته نظرة منكسرة قبل أن تتجه مكتبها.
نفخ بضيق وولج للداخل ليكن بمواجهتها، فهدر بانفعالٍ:
_يا لكِ من وقحة، كيف امتلكتي الجرءة للقدوم هنا بعد ما فعلتك؟!
رمشت باهدابها ليتساقط عنها دموع الأفاعى، فأمسكت معصمه الصلب وهي تتحدث ببكاء:
_عمران حبيبي لقد أخطأت بحقك، أعتذر لك حقًا، لا أعلم ماذا أصابني كنت أريد أن تتخلص منها حتى يتسنى لنا الزواج.
سحب ذراعه منها وأنفضه وكأن مسه قذارة جعلته مشمئزًا، فغام بعينيه بمكرٍ ساخر:
_هل سبق لي الحديث عن أمر زواجنا لا أتذكر ذلك؟
جحظت عينيها صدمة، فرددت بصعوبة بالحديث:
_ماذا دهاك عمران؟ أولست أنت الذي تريد الزواج بي؟
وضع يده بجيب بنطاله ليجيبها ببرود:
_كنت ذاك الأبله والآن انتهى كل شيء وأوله لقائنا، لا أريد رؤية وجهك القبيح مرة أخرى.
وحدجها بنظرةٍ ثاقبة وهو يقول بانتشاءٍ:
_بشأن الليالي المقززة التي قضتيها برفقتك سبق لكِ أن تقضيتي حقها.
واستدار مولياها ظهره في نفس لحظة دخول العامل بالقهوة، فانتظر حتى وضعها على سطح مكتبه ثم قال وعينيه تبعد الستائر عن الشرفة الزجاجية:
_والآن غادري، ولا أريد رؤية وجهك مرة أخرى.
اشتعلت غيظًا لما استمعت له، فملأها الحقد والكره الشديد وحسرة فقدان المال، نقلت نظراتها لقهوته الموضوعة على مكتبه بنظرة شيطانية، وفتحت حقيبتها مستغلة أنه مازال يولياها ظهره، فجذبت القنطر الصغير بحقيبتها، ووضعت بضعة قطرات ثم غادرت على الفور وهي تردد بهمس شيطاني:
_إن لم تكن لي لن تكون لغيري عمران!
******
جابت غرفة مكتبها ذهابًا وإيابًا، لقد أقسم لها بأنه لن يرتكب تلك الفاحشة مرة أخرى، إذًا لما سمح لها بالدخول لمكتبه، قضمت أظافرها بغضب، واتجهت سريعًا لمكتبه حينما لم تعد تتمالك أعصابها، دفعت مايسان مكتب عمران فوضع قهوته التي ارتشف منها القليل، ليبتسم مرددًا باستغراب:
_مايا إنتِ لسه هنا!
طافت عينيها المكتب بنظراتها المحتقنة بالغيرة والغضب، فأعاد ظهره للمقعد وهو يجيبها مبتسمًا بتسلية:
_طردتها متقلقيش.
ارتبكت من حديثه وجلست قبالته على المقعد الجانبي مرددة وهي تعدل من طرف حجابها دون اكتراث:
_وأنا يهمني في أيه موجودة ولا لأ، أنا كنت آآ..
راقبها وهي تبحث عن حجة لبقائها حتى تلك الساعة المتأخرة باستمتاعٍ، فنهضت وهي تجذب حقيبتها:
_أنا فعلًا اتاخرت ولازم أمشي عن اذنك.
وقف وهو يشير لها ببسمته الجذابة:
_مايا استني أنا كنت بآآ..
ابتلع كلمته متأوهًا بألمٍ فجأه بحدته:
_آآه.
التفتت مايسان إليه بلهفةٍ، فوجدته يرتد لمقعد مكتبه ويده تتمسك بجبهته بألمٍ، هرعت إليه تناديه بهلعٍ:
_عمران مالك؟!
رد عليه وهو يرسم بسمة صغيرة:
_الظاهر إني ضغطت على نفسي في الشغل النهاردة.
على رنين هاتف مكتبه، فضغط على الزر الاوسط وهو يجيب دون رفع السماعه:
_ألو.
أتاهما صوتها الشامت تجيب:
_أرى أنك مازلت على قيد الحياة، أوه بيبي كم كنت أشتاق أن أضمك لصدري قبل أن ترحل عني.
جحظت عين مايسان بصدمة جعلتها ترتد للخلف لتستند على الحائط ويدها تكبت فمها الواشك على الصراخ، بينما راقب عمران الهاتف وما يحدث معه باستغرابٍ، وبصعوبة تحدث:
_ماذا تقصدين؟
أخبرتها بضحكاتها الساخطة:
_هل أعجبتك القهوة؟ كانت لذيذة أليس كذلك؟
وأغلقت الهاتف وصوت ضحكاتها تغدو أعلى من سابقتها، تحرر صوت مايسان بصعوبة وهي تردد من بين بكائها الحارق:
_عمران… لأ.
اجتاحه ألمًا عظيمًا يحتل بطنه، حرارة تطوف ببشرته، فنزع عنه جرفاته وفتح أزرر قميصه وهو ينهج كمن كان بسباقٍ، أصعب ما يؤلمه أن يلقى حتفه أمامها، وكأنه كتب عليه العذاب عليها بمحياه ومماته.
تلبس بسمة صغيرة مخادعة وهو يشير بيده لها:
_أنا مشربتش القهوة كلها.
استجابت لاشارة يده فدنت منه وهو يستكمل:
_أنا كويس متقلقيش.
أمسكت يدها المرتشعة بكف يده، وهي تردد بارتباك:
_آآ… أنت شربت منها… آإ… أنت لازم تروح المستشفى بسرعة… آآ.. أنا…. آآنا.. آسفة أنا…. أنا.
حاوط وجهها بيده وقد احمر وجهه من فرط حرارته، حتى عينيه اصبحت بلون الدماء، جاهد عمران لخروج كلماته الثقيلة:
_كان نفسي أعوضك عن كل أذى اتسببتلك فيه، سامحيني يا مايا، سامحيني أنا كنت مغفل ومستحقش حبك ده.
صرخت به وهي تبتعد عنه كليًا:
_لأ… لأ… إنت مش هتسبني، مش هتسبني يا عمران لأ.
حاول النهوض عن مقعده وهو يراها تتراجع للخلف وتصرخ بجنون، خطى إليها بخطواتٍ غير متزنة ويده تحيط ببطنها المشتعلة، هامسًا بتعبٍ:
_مايا.
سقط عمران أرضًا بعدما قطع نصف المسافة بينها وبين مكتبه، رؤيتها لعزيزها المغرور متمدد أرضًا جعلها تعود لارض الواقع، فهرعت إليه تسند رأسه إلى ساقيها، تشبث بها عمران حتى استقام بجلسته قبالتها فعاد يهمس لها بوجعٍ:
_مايا.. سامحيني يا حبيبتي سامحيني.
هزت رأسها نافية وهي تصرخ مجددًا ببكاء منفطر:
_مش هيجرالك حاجة، هموت يا عمران.. آآآ… أنا بحبك.
اغلق عينيه وهو يستند على كتفها هاتفًا بهمسٍ ضعيف:
_عارف… ومستحقش حبك ده.
وأغلق عينيه وهو يتأوه كلما ازداد به الألم، فاسندت جسده للاريكة، وأسرعت لهاتفه الموضوع على المكتب وهي تردد بانهيار:
_علي… هكلم علي.
وبصعوبة بالغة حررت زر الاتصال به ويدها تكبت شهقاتها محاولة عدم التطلع له حتى لا تتوتر بما تبقى لديها لانقاذه، اتاها صوت علي الذي يظن أخيه المتصل:
_عمران أخبارك؟
_علي.. إلحقني يا علي، عمران… عمران شرب سم كانت في القهوة، علي أرجوك عمران بيموت.
_مايا إهدي وفهميني عمران ماله؟!
ببكاء قالت:
_عمران شرب سم يا علي، وحالته صعبة مش عارفة أتصرف ازاي أنا لوحدي معاه في الشركة، أرجوك.
بالرغم من صدمته الطاحنة ولكنه اجابها سريعًا:
_حاولي تخليه يرجع اللي شربه يا مايسان وأنا دقايق وهكون عندك متقلقيش.
وأغلق الهاتف سريعًا ليهرع إليهما بعدما طلب الاسعاف لتكن بطريقها لاخيه وقلبه يكاد يتوقف من فرط الرعب.
******
صنعت مايسان محلول من الملح، وأسرعت تجاه عمران الجالس أرضًا، تضع الكوب على فمه وترجته ببكاء:
_عمران إشرب ده عشان خاطري.
فتح عينيه بصعوبة وهو يتطلع لما تحمله، فحاول ابتلاعه وما أن ارتشفه حتى أفرغ ما بمعدته، واستلقى أرضًا ينازع بضعف، ومازالت تتمسك به باكية متوسلة:
_عمران حاسس بأيه؟
فتح رماديته الداكنة وهو يجاهد لالتقاط أنفاسه، فلم يستطيع اجابتها تلك المرةٍ ودفن رأسه بعنقها، مغلق العينين بإرهاقٍ، رفعت مايسان رأسه إليها ونادته بفزع حينما وجدته ساكنًا:
_عمــــــــــــــــــران…. لأ متسبنيش يا عمران.
استند بجسده على الاريكة وصوته المتقطع يصل لمسمعها بصعوبة:
_غصب عني يا مايا.. غصب عني يا حبيبتي… أنا آسف.
إسود العالم من حولها، فراقبته بصدمة وهو يغلق عينيه وإتكأت على معصمها على وقفت.
دنت مايسان من مكتبه وعينيها مسلطة على نصف القهوة الموضوعة بالفنجان، دموعها تموج على وجهها دون توقف، فخطفت نظرة سريعة لعمران المستند برأسه على طول ذراعه الممدود على جسد الاريكة الجلدية، ورفعت الكوب إليها تبكي بصوت ازداد عن مستواه فجعل عمران يجاهد لفتح عينيه باحثًا عنها جواره حتى وجدها قريبة من مكتبه تحمل هلاك موتها بين يدها.
ارتعبت نظراته وهو يحلل ما تفعله أمام عينيه، فجاهد ليخرج صوته الهزيل:
_مايا.. لأ… أوعي تعمليها.
عادت لتتطلع إليه لتخبره ببكاء:
_مقدرش أعيش من غيرك.
حاول النهوض ليمنعها فاختل توازنه وسقط أرضًا ومع ذلك لم ييأس زحف حتى وصل إليها ليترجاها بخفوتٍ:
_أنا كويس سيبي الكوباية عشان خاطري، بلاش أنا محتاجك جنبي.
وامسك بيدها يجذبها حتى جلست على قدمه فأمسك عنها الكوب وأسقطه أرضًا واحتضنها بقوةٍ وهو ينازع للرمق الأخير، ذراعيه تعتصرها، يجاهد حتى لا يفقد وعيه فتفعل شيئًا جنونيًا بنفسها.
كان يعلم بحبها مسبقًا، ولكنه لم يعلم بأنها تعشقه لتلك الدرجة التي تجعلها تضحي بذاتها لأجله، شدد عمران من ضمها حتى استكان على رأسها فثقل جسده عليها، لدرجة بدت هي التي تحمله وليس هو، تنفست مايسان ببطءٍ وتحاول أن تجبر ذاتها على التطلع إليه، فرفعت وجهها إليه فوجدته يسقط أرضًا فاقدًا للوعي، فتحررت صرخاتها التي رجت جسد علي المندفع للداخل:
_عمــــــــــــــــــران!
يتبع…
سكن جسده بين يدها، بعدما فشل بمحاربة الأغماء الذى أحاطه بقوةٍ، فاستسلم بين يدها وأخر ما يسكن أذنه صوت صراخها ولوعة قلبها بإسمه، احتضن مايسان وجهه بيدها، فلطمه برفقٍ وهى تصرخ ببكاءٍ حارق:
_عمــــــــــــران… لأ متسبنيش يا عمران من فضلك.
رفع علي يده بصعوبة يحرك باب مكتب أخيه الزجاجي، فكسر تصنم جسده وركض إلى أخيه يتفحص نبضه، فعاون الممرض على حمله على السرير المنتقل، فأسرعوا به للمصعد.
استدار علي إليها فوجدها مازالت تجلس أرضًا والصدمة تجعلها لا تشعر بأحدٍ، لسانها لا يكف عن ترديد نفس الجملة:
_عمران متسبنيش!
انحنى علي إليها بشفقةٍ، فقال:
_مايا قومي معايا.
رفضت الانصياع إليه وأبعدت يده عن ذراعها، وعادت تكرر نفس كلماتها وكأن عقلها مغيبًا عن الواقع تمامًا، جذبها علي بقوةٍ جعلتها تنصاع إليه، فوقفت ترتجف من أمامه ودموعها لا تكف عن الزوال.
كونه طبيبًا يعلم بأنها على بوادر إنهيارها، حالتها لا تطمن بالمرةٍ، انشطر قلب علي خوفًا على أخيه وزوجته التي ترنح جسدها فاقدة الوعي بين ذراعيه، فحملها وهرع للأسفل، قاصدًا سيارته ليتبع سيارة الإسعاق للمشفى، ولسانه لا يغفل عن ذكر الله والدعاء لاخيه بالنجاة.
******
لم يفارق منزله منذ الأمس، قضى يومه بالكامل برفقتها، في محاولةٍ لتعويضها عما فعله دون قصدًا منه، فمقت ذاته بعد أن تبادلا الحديث طوال اليوم ولحظات جمعتهما أثناء تحضير الغداء، حرم ذاته من نعيمٍ مقدر له فلم يشعر بأنه تزواج الا اليوم، وها هما الآن يشاهدان فيلمًا ويتناولان الذرة سريعة التحضير (فشار)، ويضمها لصدره بمرحٍ لخوفها من أحداث الفيلم الرعب، فترجته بدلالٍ:
_إقلب يا جمال عشان خاطري أنا بترعب من الأفلام دي.
ضحك وهو يجيبها ساخرًا:
_هتفهمي إنتي الدماغ دي ازاي البنات ملهمش في العنف أخركم مسلسل تركي حلقة طبيخ أو مسلسل هندي من اللي ميدخلش عقل عيل في كيجي وان!
لكزته بغضب فتفادها وهو يضمها بتملكٍ وصوت ضحكاته الجذابة تزرع بسمتها دون تردد، فتوقف وهو يقربها إليه هائمًا بعينيها التي قبض عليها تتأمله بنظرةٍ سحرته، اختطف بضعة لحظات خاصة بهما ليقاطعهما صوت هاتفه الموضوع على الطاولة من أمامه.
ضيق عينيه باستغرابٍ وهو يتفحص الوقت، مرددًا بدهشة:
_غريبة إن يوسف بيتصل بالوقت ده!
وجذب الريموت يخفض مستوى التلفاز، ثم رفع الهاتف يجيبه:
_أيوه يا يوسف خير في حاجة؟
راقبته صبا باهتمامٍ وخوف حينما تحولت ملامحه الهادئة لأقرب لصدمة جعلتها تهمس له بقلقٍ:
_في أيه يا جمال؟
انتفض بجلسته وهو يصيح بهلعٍ:
_أمته حصل الكلام ده؟
انتظر لسماع ما يقول بعنايةٍ، وأجابه وهو يركض للغرفة:
_ابعتلي عنوان المستشفى أنا جاي حالًا.
أسرعت صبا من خلفه، فوجدته يجذب ملابسه من الخزانة ويرتديها على عجلةٍ من أمره، حتى كاد بالتعثر وهو يرتدى بنطاله، فسألته بتوترٍ:
_جمال في أيه؟
رد عليها بحزنٍ جعلها تلتمس حبه الشديد لاصدقائه:
_عمران نقلوه على المستشفى، بيقلوا حالة تسمم.
وزرر قميصه بعشوائية ثم جذب مفتاح سيارته ومتعلقاته ليتجه للمغادرة وهو يلقنها بتعليماته:
_اقفلي الباب عليكي كويس، وأنا هبقى أكلمك على الفون.
وقفت خلف الباب تراقبه وهو يتجه للمصعد، فرفعت صوتها إليه قبل أن ينغلق باب المصعد:
_ابقى طمني يا جمال.
هز رأسه لها وهو يكمل ارتداء جاكيته بالمصعد، فركض لسيارته ليتبع عنوان المشفى المرسل إليه من قبل يوسف.
*******
ركض به فريق التمريض لغرفة الجراحه، فأسرعت ليلى التي وصلت للتو بعد اتصال يوسف بها، فوجدته يقف خارج غرفة العمليات جوار علي، فما أن رآها حتى ركض إليها يخبرها بخوفٍ:
_عمران يا ليلى عشان خاطري إبذلي أقصى ما بوسعك عشان تنقذيه.
ربتت على يده بحنانٍ وحزنٌ يتغلبها:
_متقلقش يا يوسف، خير إن شاء الله.
ولجت لداخل الغرفة راكضة فاتبعها علي الذي استعد بالتعقيم ليتبعها هاتفًا:
_من فضلك يا دكتورة ليلى أنا مش هسيب أخويا.
اكتفت بإشارة صغيرة له ثم هرعت للداخل لتبدأ بتفحص نبضه وتهييء عمران للتدخل الجراحي إن لزم الأمر.
بينما بالخارج يجلس يوسف على المقعد ورأسه ساكنًا بين يديه، فتفاجئ بجمال يرنو إليه بأنفاسه اللاهثة:
_يوسف طمني على عمران .
أشار إليه ورأسه يعود للأسفل بحزنٍ:
_لسه محدش خرج من جوه.
جلس جواره هامسًا باختناقٍ:
_مش هيجراله حاجة، هيقوم إن شاء الله.
رفع عينيه للأعلى وهو يردد بصوته المحتقن:
_يا رب.
*********
_إنت بتقول أيـــــــــه، لأ مستحيل ده يحصل أكيد في حاجة غلط أتاكد؟
قالها راكان بصدمة استحوذت على معالمه فجعلته أقرب للاصابة بذبحة صدرية، ومن حوله رجاله عاجزون عن التدخل بأمره، فما أنا وضع راكان سماعة الهاتف حتى سأله رافاييل شريكه الخفي:
_ما الأمر راكان، ماذا حدث؟
مال بجسده ليستند على المكتب من أمامه باهمالٍ، وهو يحرر كلماته الثقيلة:
_حجزت الحكومة المصرية على شحنة الأدوية بالميناء قبل دخولها.
جحظت عين الأخير، فصرخ بعدم استيعاب:
_اللعنة! إن علم الرؤساء بما حدث سنهلك جميعًا، لا تنسى راكان هذة الشحنة الثالثة التي يتم تصديرها خلال هذا العام، لن يقبلوا بخسارة تلك المبالغ الطائلة عبثًا.
وتابع مستنكرًا لما يحدث:
_وأين رجالك الذين يعملون داخل الميناء ما لي لا آراهم، ولماذا تدفع لهم إن لم يقومون بمهامهم؟
جذب الكوب الفارغ وأشار لأحد رجاله فسكب له من الخمر، ليتجرعه مرة واحدة ثم ازاح العالق بشفتيه وهو يردد بحقدٍ:
_رجل من رجالي أكد لي بأن هناك ظابط مصري هو المسؤول عن كل ما يحدث.
رفع حاجبيه باستغرابٍ:
_من هذا؟
أجابه باحباطٍ وهو يسند يديه لجبينه:
_لا أعلم ولكنه ليس سهلًا بالمرة، يحارب أي شخصًا يورد أدوية فاسدة داخل مصر، حاولت أن أصل لأي معلومة إليه ولكني فشلت حتى بمعرفة إسمه الحقيقي!
امتعضت معالم رافاييل حتى بدى، وكأنه على وشك قتله:
_هل تخبرني بأنك عاجز بالكشف عن شرطي حقير يدمر ما فعلناه بعد تلك السنوات! إن كنت عاجز فلتترك لنا مهمة البحث عن رجلٍ أخر يكون منفذنا داخل مصر غيرك!
ابتلع ريقه بتوترٍ من ازعام الآخر لضعفه وعدم قدرته على التصدي لذاك الشرطي، فقال:
_سأكتشف من يكون وأعدك بأنني سأقتله بيدي!
رُسمت بسمة ساخرة على وجه من يراقبهما من الخارج، فتسلل للخارج قبل أن يكشف وجوده أحدًا، ومضى بطريقه لغرفته القابعة بالطابق الأول من المنزل الخارجي بفيلا راكان، فألقى بثقل جسده على الفراش مرددًا بمكرٍ:
_وريني هتكشفني إزاي وأنا جنبك وسابقك بعشر خطوات!
واستند آدهم برأسه على ذراعه مطلقًا صفيرًا باستمتاعٍ لما يدور من حوله، وهمس بوعيدٍ جعل حدقتيه السوداء أشد قتامة:
_هانت ورقبتك هتبقى تحت رجليا إنت واللي وراك!
******
الساعات تمضي ومازال قلبها عاجزًا عن الخفق، عينيها المتورمة معلقة على باب الغرفة، بانتظار أي بصيص أملًا يمنحها السكينة، قدميها تؤلمها بشدة وعلى وشك أن تفقد قدرتها على حمل جسدها المترنح، ومع ذلك صمدت قدر المستطاع، اقترب منها جمال وأشار برفق على الأريكة المعدنية القريبة من باب الغرفة:
_ مايسان مينفعش اللي بتعمليه بنفسك ده، ريحي رجلك شوية على الأقل لحد ما يخرج وتطمني عليه.
هزت رأسها بنفيٍ، وباصرارٍ قالت:
_مش عايزة أقعد، أنا كويسة.
انضم يوسف إليه في محاولةٍ لاقناعها:
_اللي بتعمليه ده غلط وهيضرك، اهدي عشان صحتك، وبعدين علي لسه مطمنا من شوية المفروض تكوني اهدى من كده.
رضخت إليهما بقلة حيلة، فتحركت لتجلس على طرف الأريكة ومازالت عينيها تراقب الباب بدموع تغرق وجهها، فما أن انفتح حتى هرولت إليه.
نزعت ليلى الكمامة عن فمها ثم قالت ببسمة هادئة:
_الحمد لله حالته مستقرة، وشوية وهيتنقل في أوضة عادية.
ضمت مايسان صدرها وكأنه تربت على قلبها النازف، وسألتها بلهفةٍ:
_طب ممكن أدخله؟
لفت يدها من حولها وهي تحاول أن تطمنها:
_مفيش داعي،دكتور علي جوه معاه وشوية وخارج.
وأحاطتها ليلى وهي تشير لها على غرفتها:
_ادخلي انتي بس يا مايا ريحي شوية عشان حالة الإغماء اللي عندك متتكررش تاني.
وأشارت ليلى للممرضة التي أتت إليها، فأخبرتها برسمية:
_اذهبي بالسيدة مايسان لغرفتها،اجعليها تتناول طعامها ودوائها.
أومأت الممرضة في طاعة، واسندتها لغرفتها القريبة من ردهة المشفى، وحينما تأكد يوسف من رحيلها سأل زوجته بشكلٍ صريح:
_طمنيني يا ليلى، عمران كويس فعلًا؟
ارتسم الحزن على معالمها فهي تعلم ماذا يعني عمران له، فاستمدت نفسًا مطولًا وهي توزع نظراتها بينه وبين جمال المترقب لسماع ما ستقول،ثم قالت :
_مخبيش عليك يا يوسف السم اللي أخده خطير بيوقف خلايا المخ والجسم كله في أقل من نص ساعة، حظه الكويس إنه مشربش غير كمية قليلة، وكمان مساعدة مايا له بأنه يطرد اللي شربه قلل من الخطورة ، بس أنا مقدرش أجزم إنه متضررش غير لما يسترد وعيه، ولو لقدر الله حصل شيء فهيكون بشكل مؤقت لإن الكمية مكنتش كبيرة.
وتابعت برزانة وهي تتابع الدمعات اللامعة بعين زوجها:
_خلينا منسبقش الاحداث ونستنى لما يفوق.
رفع جمال يده على كتف يوسف وردد:
_متقلقش عمران قوي وهيعدي منها.
هز يوسف رأسه بخفةٍ، وعاد يتساءل باهتمامٍ:
_علي عرف الكلام ده؟
أجابته بتأكيدٍ:
_مقدرتش أخبي عنه شيء خصوصًا إنه كان معانا جوه لحظة بلحظة.
وتابعت ببسمة هادئة رسمت على وجهها الأبيض:
_دكتور علي شخص متفهم ودكتور شاطر وعارف إزاي يسيطر على مشاعره.
قاطعهم صوت الباب مجددًا، ليجدوا علي يدفع السرير المتحرك برفقة الممرض، فأسرع يوسف وجمال إليه، عاونوه حتى نقلوه معًا لغرفته، فأسرعت ليلى والاطباء بغرس الأبر والأجهزة لجسده المرتخي بين أيدهم باستسلامٍ.
تحرك علي لأقرب مقعد قابله بالغرفة، فألقى بثقل جسده وعينيه الباكية لا تفارق وجه أخيه الصغير، ابنه الذي لم ينجبه بعد، علي الصامد القوي ليس كذلك إن مس الأذى أفراد عائلته، لا يعلم ماذا سيفعل إن علمت والدته بالأمر.
دنى جمال من السرير، فما أن رأى صديقه هكذا حتى انهمرت دمعاته وصاح بشراسةٍ:
_أكيد الزبالة دي ورا اللي حصل خصوصًا بعد اللي عمران عمله فيها يوم الحفلة.
انتبه علي لحديثه، فنهض عن مقعده وأسرع إليه متسائلًا:
_تقصد أيه يا جمال؟
استدار إليه يخبره بحزنٍ:
_ألكس يوم الحفلة كانت عايزة تدمر العلاقة بين مايسان وعمران، فاتفقت مع اتنين رجالة يعتدوا على مايسان وتصورهم، وعمران عرف باللي كانت ناوية تعمله بهدلها قدام الناس وقالها تبعد عنه، أكيد هي اللي سممته.
احتدت معالمه غضبًا، فردد من بين انفاسه المختنقة:
_حق أخويا مش هسيبه حتى لو كنت في قبري.
وجذب هاتفه ثم خرج يتصل بمسؤول الأمن داخل الشركة، وطالبه بفض تسجيلات الكاميرات وبالأخص مكتب عمران، بينما قام بابلاغ الشرطة التي أتت على وجه السرعة لتحقق بالأمر، استنادًا على شهادة جمال والاطباء وأخرهم بالتسجيلات المطروحة من أمامهم والتي ظهرت به ألكس وهي تضع السم بقهوة عمران، وعلى الفور تحركت الشرطة للقبض عليها.
*******
الليل يجوب بسواده الأفق ومازالت بغرفتها يغادرها النوم تاركها تعاني بمفردها، عينيها الزرقاء تجوب خزانتها بنظرة تحمل الحنين لما يخترق قلبها، حاولة جاهدة البقاء والابتعاد عما بوسوس لها قلبها ولكنه بالنهاية انتصر بمعركتها الخاسرة، فنهضت بآلية تامة تغلق باب غرفتها جيدًا، ثم فتحت خزانتها لتجذب صندوقها الذهبي العتيق.
لامسته فريدة بأصابعها المرتجفة، ويدها تمر على تفاصيله بعنايةٍ وكأنه تحفر داخلها ألف ذكرى، حتى تحرر رافعته، تطلعت لما بداخله بأعينٍ لامعة بالدموع، ومع محاولاتها بعدم البكاء الا أنها فشلت كعادتها بحجبها، يكفيها ارتداء قناع جمودها الزائف بالخارج، هي الآن ضعيفة أمام ما تحمله من أوجاع ممسدة بذكرياتها القابعة بيدها.
حملت تلك الزهرة التي أحاطها الزمان فجعلها جافة كجفاء قلبها، مررت يدها عليها وهي تتذكره، رسمت صورة إليه في نفس لحظة لامسها للزهرة، وفجأة انتفض جسدها بعنفٍ حينما ضربتها كلماته التي لا تتركها.
«قصتنا نهايتها كانت في اللحظة اللي طالبك فيها أخويا سالم يا فريدة، إنتِ دلوقتي محرمة عليا حتى لو رفضتيه مستحيل هيكون في شيء بيجمعني بيكِ»
ذكرى أخرى هاجمتها وكل ما يتردد لها سماع جملته بصوته الغائب
«فوقي من الوهم ده، لا أنا ولا إنتِ هنقدر نواجه العيلة، متنسيش إن جدك ممكن يقتلك لو شك بس إنك ممكن تسببيله العار.»
مالت على الفراش وهي تكبت آذنيها وخاصة حينما رأت أخر مشهد جمعهما، تذكرت كيف كانت تتوسل إليه وهي تردد ببكاءٍ:
_أحمد إنت كده بتقتلني، أرجوك متتخلاش عني، حارب علشاني أنا مش هقدر أقف قصاد بابا وجدي لوحدي، أنا محتاجة إنك تكون معايا وجنبي.
منحها نظرة أخيرة من عينيه الدامعة قبل أن يوليها ظهره بكل كبرياء:
_الست اللي عين أخويا تيجي عليها تبقى محرمة عليا.
جلدتها كلماته واخترقت سهام قلبها النازف، استمدت قوتها من العدم ولحقت به حيث محل وقوفه، لترسم بسمة باهتة وبسخرية قالت:
_هو فين أخوك ده، يعرف أيه عنك وعني!!
وتابعت بصراخ أنثى ذُبحت على يد من عشقته من طفولتها:
_أخوك طول عمره عايش في انجلترا ميعرفش عني حاجة، وأول ما افتكر إنه له أهل نازل وعينه عليا وبدل ما تعمي عينه اللي جت عليا بتتنازل عني بمنتهى البساطة كده يا أحمد، فين رجولتك وفين حبك وغيرتك عليا!
أغلق عينيه بغضب عصف داخله قبل أن تتشربه بشرته، فقال من بين اصطكاك أسنانه دون أن يستدير لها:
_امشي من هنا يا فريدة، أنا مش عايز أذيكي بايدي!
هزت رأسها وهي تجيبه بحقد:
_ماشي يا أحمد، همشي وهوافق على أخوك.
وتابعت بكرهٍ شديد:
_بس أقسم بالله لأكسرك وهخليك تتمنى الموت كل ثانية هكون فيها جنب أخوك، هدفعك تمن السنين اللي قضتها كلها في حبك، هدفعك تمن انتظاري للحظة اعلانك لحبنا قدام جدك والعيلة، هدفعك تمن ضعفك وهروبك… تمن استسلامك وتخليك عني وبكره تشوف.
وغادرت تاركته من خلفها يبكي حتى سقط أرضًا يلتاع من فرط ألمه، ليته أخبرها الحقيقة وترجاها بأن تتزوج أخيه ربما حينها لن تموت باليوم ألف موتة، ربما ظل قلبها على قيد الحياة.
تدفق الدمع على وجنتها ويدها تكبت شهقاتها خشية من أن يستمع إليها أحدًا، ذكرياتها قاتلة حد النخاع، لدرجة لا تستطيع بها تذكر ما مضى، كل ذكرى تذبح فؤادها وبالأخص بتلك الايام التي قضتها بعد خطبتها من سالم، كانت تحاول بكل طاقتها أن تثير غيرة حبيبها، عله يعود لرشده ولكنها كانت تعود بنتيجة معاكسة لما تنتظره، كانت هي من تتألم وليس هو، وما زاد الأمر الا تعلق سالم بها وتحديد يوم زفافهما على وجه السرعة، بعد أن قرر أن تنتقل للعيش معه ومع باقي أفراد العائلة بانجلترا.
حملت فريدة بأصابعها المرتعشة ساعة رجالية موضوعة بين أغراض الصندوق، وزجاجة من البرفيوم رفعتها نصب عينيها الباكية لتجوبها لذكرى أسوء يوم بحياتها بأكملها، نثرت البرفيوم على يدها، وقربته لانفها بتأثرٍ، أخر مرة قامت باستخراج محتويات الصندوق منذ خمسة عشر عامًا، وكل فترة تقوم بشمه يكون على فترات متباعدة بعد عدة معارك تخوضها مع ذاتها فتبتعد أعوام وحينما تنتصر تعود للصندوق الذي قذفها الآن لتلك اللحظة، لحظة انتهائها من زينتها وارتدائها فستانها الأبيض، لحظة ركضها لغرفته فولجت خفية من الشرفة بعد أن طالبت الجميع بدقائق تنعزل بها مع ذاتها.
ولجت تبحث عنه بلهفة، فوجدته يقف بشرفته يتكئ على الاريكة المقابلة له وعلى ما يبدو كان يبكي!
صوت أنفاسها العالية جراء ركضها جعله يستقيم بوقفته، لا يريد أن يستدير، يخشى أن يصدق حدسه وتكون أمامه، فتحرر صوتها ليحطم مرآة حقيقته حينما نادته باكية:
_أحمد.
استدار للخلف ببطء لينغز قلبه دون رحمة وهو يرأها من أمامه بفستانها الأبيض الذي حلم رؤيتها به يومًا تزف إليه، ابتلع ريقه الجاف بمرارةٍ وادعى الجمود لمرته الاخيرة، هاتفًا بخشونة:
_أيه اللي جابك هنا؟!
الجفاء كان طريق التعامل معهما منذ أخر لقاء وأخر قسم منحته إياه، كانت كل مرة تتصنع سعادتها برفقة أخيه وهو يعلم بأنها تقتص منه، وبين قرارة نفسه يتمنى أن تظل تدعي سعادتها لتحاول قمع وجعه.
دنت منه فريدة قاتلة بداخلها كل ذرة كبرياء داخلها، وسقطت أرضًا تتمسك بساقه وتردد بانهيارٍ زلزله:
_متعملش فيا كده يا أحمد، أنا مقدرش أكون لراجل غيرك، أنا حبيتك إنت وأتمنيتك إنت، أبوس إيدك أتكلم ودافع عن حبنا، أحمد أنا لو حد تاني قربلي غيرك هموت نفسي، أرجوك إتكلم.
كور يده بقوةٍ واستمد عون أنفاسه، فانحنى يجذبها لتقف أمام رمادية عينيه، ثم قال بصوتٍ شبيه للباكي:
_فات الأوان يا فريدة، اتقبلي الأمر الواقع إنتِ دلوقتي بقيتي مرات أخويا.
تمسكت بذراعيه القابضة عليها ورددت ببكاء:
_لا يا أحمد لسه معانا وقت، تعالى نهرب عشان خاطري.
جحظت عينيه صدمة مما استمع إليه، فنهرها بشدة:
_انتي مجنونة يا فريدة نهرب فين، مكنتش أعرف انك انانية ميهمكيش غير نفسك وبس، مفتكريش في سمعة العيلة بعد اللي بتفكري فيه ده، مفكرتيش في أختك! مفكرتيش في اخواتي!
وتركها وهو يشير لها بالخروج:
_اطلعي من أوضتي ومن حياتي كلها وانسيني، انسي إن ليكِ ابن عم اسمه أحمد، إنسيني يا فريدة.
تفادت سقوطها أرضًا ونهضت تتأمله بنظرة محطمة، فقالت بصوتها الخافت:
_إنت كده حكمت عليا بالموت يا أحمد، والله العظيم لو خرجت من الباب ده هموت.
زاح عنه قناع جموده، فتهاوت دمعاته على وجهه فرأتها لأول مرة وتمعنت بتطلعها إليه عساه يتراجع عن قراره، دنى منها بخطواته البطيئة حتى أصبح قبالتها، فقال بصوته المحتقن من الدموع:
_ارحميني يا فريدة، كفايا عليا كل ده كفايا أرجوكِ، عشان خاطري اخرجي من هنا ومتبصيش وراكِ، انسيني وانسي أي وعد كان بينا، متزرعيش الكره بيني وبين أخويا من فضلك.
وتابع وقد انهمرت دمعاته على خديه:
_إنتِ أكتر واحدة عارفة الحساسية اللي بينا لاننا مش من نفس الأم أي قرار هتحصل دلوقتي هيتقال إني بأخد حق أمي منهم، من فضلك بلاش أنا ما صدقت إن اخواتي مصطفى وإيمان يعيشوا عيشة طبيعية مش هحرمهم من حقوقهم عشان انانيتي.
تحجرت دمعاتها بعينيها وهي تتطلع إليه مهزومًا، ضعيفًا، يترجاها بأن تنساه وتمضي برفقة أحضان رجلًا غيرها!
جابهته وهي تصيح بقوة جعلته يتابعها بدهشة:
_موافقة أطلع من هنا واتجوز أخوك وأعيش حياتي بس عندي شرط واحد يوم ما تخلى بيه أنا هخلى بوعدي ليك.
بالرغم من مرارة ألمه الا أنه تساءل بفضول:
_شرط أيه؟
تابعت رماديته بنظرة محبة لكل تفاصيله واجلت صوتها مرددة:
_هتعاقب وهتحمل مقابل أنك تعيش حياتك كلها لوحدك من غير جواز، موافق؟
ترقبته بصبرًا واهتمامًا، توقعت رفضه التام لشرطها المحال، وحينها ستملي شروطها الاخرى، ولكن خاب أملها حينما ابتسم وهو يجيبها:
_أنا مستحيل هخليكي تعيشي الوجع اللي أنا بعيشه دلوقتي يا فريدة، فاطمني مش هرتبط بأي ست على وجه الأرض.
انزلقت دمعاتها تدريجيًا لسماع كلماته، أيعشقها بتلك الدرجة التي تجعله يخشى أن تخوض وجعًا بزواجه بأخرى ويحتمل وجعه الآن وهي تفارقه!
انسحبت الكلمات عن لسانها واستدارت عنه واقفة تتطلع لباب الغرفة وكأنه باب مصيرها الأسود، وقبل أن تخطو للخارج عادت إليه راكضة لاحضانه، فبقى متخشبًا أمامها لا يقوى على رفع ذراعيه بالرغم من حاجته لعناقها.
فهمست إليه بدموع:
_احضني لأخر مرة يا أحمد.
انصاع إليها فرفع ذراعيه يحاوطها باكيًا بتأثرٍ، وفجأة ابعدها بخوف،من طفولتهما يخشى أن يلمس يدها، يحافظ عليها أكثر من حياته، والآن ينجرف خلف شيطانه!!
ابتعدت عنه واتجهت لمغادرة غرفته وقبل أن تخرج اتجهت للسراحة، فمدت يدها وهو يراقبها، فوجدها تجذب ساعته والبرفيوم الخاص به ثم هرولت من أمامه وكلما ابتعدت سحبت روحه من خلفها، فسقط على المقعد يبكي وهو يصرخ بوجعٍ:
_يا رررب!
أغلقت فريدة صندوقها وعينيها يملأها الكره، فاعادته لمحله وكأنها تحمل شيئًا منفرًا، ثم عادت لفراشها وهي تبعد هاتفها الذي يحمل رسائله المعتاد لمراسلتها كل فترة، وهي تردد بجحود:
_اتعذب وإتألم يا أحمد بحق وجعي وقهري عمري ما هسلملك ولا هريح قلبك.
وتابعت ويدها تجذب الصورة الموضوعة على الكومود التي تحمل مايسان وشمس، فقالت وعينيها تراقب مايسان بشفقة:
_مكنتش عايزاكي تعيشي اللي عيشته يا مايا، بس الحمد لله النهاردة حسيت بالأمل عمران فعلًا بيحبك زي ما توقعت، وبكره هيشوف ده بنفسه وهيندم على معاملته ليكي بس وهو معاه فرصة يقدر يصلح بيها أخطاءه وهتقدري تتقبلي ده، المهم انكم بالنهاية مع بعض!
*******
النهار على مشارفه ومازال يجلس على مقعده جوار أخيه، ينتظر أن يستعيد وعيه بلهفةٍ وخوف، لم يمل من مراقبته ولم يغفو له عين، يخطف إليه نظرة ويعود لزوجة أخيه الغافلة على المقعد المجاور إليه بعدما رفضت رفض قاطع تركه، كان يخشى أن يحدث لها سوءًا فحينما يجدها تتنفس بصورةٍ طبيعية يجلس باستقامةٍ، فتلصص له صوت همهمة تصدر من عمران، فنهض وإتجاه إليه، ينحني على شفتيه ليستمع ما سيقول، فناداه بصوت واهن:
_علي.
أجابه بحماسٍ لاستعادته وعيه:
_أنا جانبك يا عمران سامعني!
هز رأسه وحاول فتح عينيه الثقيلة، راسمًا ابتسامة صافية:
_حاسس بيك من لما كنت بالعمليات.
طبع قبلة على جبينه ويده المتشابكة بالأبر مرددًا بصوته المتقطع من فرط كبته للبكاء:
_كده تعمل في أخوك كده، أنا كان هيجرالي حاجة، ربنا اللي عالم أنا واقف على رجلي ازاي؟
أعاد غلق عينيه بتعبٍ، ولسانه يردد:
_حقك عليا، أنا اللي عملت كده في نفسي لما سمحت لواحدة آآ..
قاطعه بحزمٍ:
_بلاش تتعب نفسك بالكلام عن الرخيصة دي، الشرطة مسكتها وبيحققوا معاها، مستحيل هتخرج منها بسبب التسجيلات اللي قدمناها.
منحه ابتسامة متشفية وقال:
_تستاهل.
ربت على كتفه وهو يجذب الغطاء لصدره العاري:
_ارتاح وبكره هنتكلم.
وكاد بالتراجع لمقعده، ولكنه عاد يخبره بحزنٍ:
_عمران إنت لو حاسس نفسك كويس هصحي مايا تطمنها عليك لإن حالتها صعبة أوي ورافضة تروح أو ترتاح، نايمة على الكرسي هنا ومش راضية تتحرك.
حاول رفع رأسه ليراها ولكنه لم يتمكن، فرفع علي السرير بالقابض المتحكم به، فتمكن من رؤيتها جيدًا، راقب معالمها بنظرة حزينة طعنها الألم بنبرته:
_كانت عايزة تشرب السم ورايا، كل مدى بكتشف إني كنت حيوان ومغفل.
ابتسم علي ومازحه باشمئزاز:
_قولنالك وأنت مصدقتش.
وأشار وهو يتجه إليها بلهفة:
_هصحيها.. هتفرح أوي.
وإتجه إليها علي، فناداها عن قرب:
_مايسان… مايا.
حركت رأسها بإنزعاجٍ، حتى بدأ عقلها بالاستيقاظ لمكان وجودها، فانتفضت بجلستها وهي تردد بهلعٍ:
_أيه يا علي، عمران جراله حاجة؟
ابتعد عن مرمى بصرها لتتمكن من رؤية زوجها وهو بجيب:
_مهو زي القرد أهو يا بنتي استهدي بالله.
اتجهت نظراتها إليه، فابتسمت رغم الدمعات المتدفقة من حدقتيها مرددة بفرحةٍ:
_عمران!
وهرعت إليه تحتضنه وقد تحرر بكائها، ضمها بذراعه الأيمن، فحاول جاهدًا رفع ذراعه الأخر ولكنه لم يستجيب لحركته رغم حركته الخافتة تحت مراقبة علي إليه وقد تسنى له معرفة ما سيواجه أخيه بالبداية، فانسحب بهدوءٍ تاركًا لهما مساحتهما الخاصة.
تنهيداتها كانت تضرب صدره بعنفٍ وشراسة، فهمس لها بتعبٍ:
_مايا بصيلي.
استجابت له فرفعت وجهها إليه، فوجدته يبتسم لها وقال بأنفاسٍ ثقيلة:
_أنا كويس فبلاش تتعبيني بدموعك دي عشان مش خاطري.
وحذرها بصرامة جاهد لها من وسط سعاله:
_والا هنادي علي يروحك.
هزت رأسها بخوفٍ:
_لأ خلاص.
وأزاحت دمعاتها، فرفع عمران الغطاء وهو يشير لها:
_اطلعي هنا جنبي.
تلفتت حولها بتوترٍ:
_بس علي آآ..
قاطعها وهو يجاهد نومه المستجيب للمسكنات:
_متقلقيش علي مش هيدخل علينا.
انصاعت إليه لحاجتها بالبقاء جواره، فوجدته يضمها لصدره فاحتضنته بقوةٍ ألمت جسده الذي استجاب للنوم سريعًا.
******
سطعت شمس يومًا جديد، فتسلل ما حدث لعمران لفريدة وشمس والجميع، فأسرعوا للمشفى ومن خلفهم راكان الذي يصطحب آدهم بأي مكان يذهب إليه خشية من أن يتعرض له أحد من منافسيه بعد أن سبق له الدفاع عنه كثيرًا، فاجتمعوا بغرفته جميعًا بحضور يوسف وجمال وسيف.
جلست فريدة على المقعد القريب من فراش ابنها تهدر بغضب:
_ازاي ده كله يحصل لابني ومحدش فيكم يكلمني، جاوبني يا علي؟!
رد عليها بهدوءٍ:
_كنت خايف على حضرتك، فاستنيت لما اطمنت عليه وأهو الحمد لله بخير وربنا لطف بينا.
انفلتت أعصابها بصراخ:
_ده مش مبرر، أنا مش هعدهالك يا علي سامعني!
ومسدت على يد عمران وهي تتساءل بثباتٍ زائف:
_عمران يا حبيبي طمني حاسس بأيه؟
أجابها ببسمة هادئة:
_أنا كويس يا حبيبتي متقلقيش.
ربت جمال على ساقه بحنان:
_شد حيلك كده، مش واخد عليك بالوضع ده.
أضاف يوسف ممازحًا ليخف حدة الاجواء بين علي ووالدته:
_عمران شكله كده زهق من خلقنا فقالك أجي أريح هنا يومين تلاته فكره إننا هنسيبه، لمينالك الشلة وهنقضيها هنا لحد ما تقول روحني أنا بقيت زي الحصان.
ضحك وهو يشير له:
_ماشي يا يوسف بكره تشوف.
دنى راكان منه فوضع باقة الزهور على الكومود مرددًا برسمية متعجرفة:
_سلامتك يا عمران.
منحه ابتسامة صغيرة مجاملة، بينما تعلقت عينيه بآدهم الذي قال ببسمة بشوشة:
_حمدلله على سلامتك يا عمران باشا.
ابتسم له بامتنان:
_الله يسلمك يا آدهم تسلم.
أمسكتها عينيه وهي تتهرب من نظرات راكان إليها، فتسللت للخارج بخفةٍ ظنًا من أن لا أحدًا يراها، فتسلل من خلفها فوجدها تتجه للكافيه الخاص بالمشفى، فجلست على المقعد بحزنٍ تام، نظراته أصبحت تسبب لها اشمئزاز، كانت تود إخبار علي بأن عليها الانفصال عنه سريعًا، ولكن ما حدث لعمران غير مخططاتها.
فاقت شمس على صوت احتكاك المقعد المقابل لها، تطلعت أمامها فوجدت آدهم يجلس قبالتها ببسمته الهادئة مرددًا بنظرة ماكرة:
_حسيتك هتنسحبي من جوه وفعلًا شكي كان بمحله.
تعمقت بنظرتها المشتتة إليه، ورددت بحيرةٍ:
_إنت عايز مني أيه يا آدهم؟
زوى حاجبيه باستغراب:
_أنا!
استندت بذراعيها على الطاولة وهي تجابهه بقوةٍ:
_متحاولش تتهرب من اجابة سؤالي.
ونهضت وهي تجذب حقيبتها لتخبره قبل مغادرتها:
_خليك بعيد عني يا آدهم أنا بسببك بقيت بكره خطيبي ومش شايفاه أساسًا.
نهض قبالتها مربعًا يديه أمام صدره يرد ساخرًا على اتهامها:
_ملقتيش شمعة لغضبك وكرهك ليه غيري!
ودنى منها ومازالت تقف قبالته مندهشة من حديثه:
_بالنسبة لسؤالك فاجابته مش محتاج أتهرب منها يا شمس، سبق وقولتلك إني مبخافش من مخلوق على وجه الأرض.
وانحنى يهمس لاذنيها:
_إجابة سؤالك هي أني من أول ما عيني وقعت عليكي وجوايا مشاعر مشلتهاش في قلبي لواحدة ست قبل كده.
لعقت شفتيها بارتباكٍ، فمنحها ابتسامة هادئة متابعًا بحديثه:
_وواثق إن في مشاعر ليا جوه قلبك بتحاولي تداريها كل مرة بقابلك فيها بس عيونك فضحاكِ يا شمس!
وتركها شاردة بكلماته وبمصرحته الجريئة وغادر على الفور.
*****
نهضت عن فراشها وأسرعت لنافذة غرفتها تترقب البوابة الرئيسية الخاصة بالمشفى بلهفةٍ وخوفٍ، لأول مرة يغيب عن رؤيتها هكذا، المساء قد شارف على قدومه ولم يأتي حاملًا للزهور ككل صباح، ارتعبت فطيمة وبدى عقلها يصور لها أشياءًا كثيرة، كتركه لها وتخليه عن دوام علاجها مثلما طلبت منه.
تهدلت دموعها دون توقف، كانت تطالبه بالبعد وهي الآن تلوم نفسها وتكاد بصفعها لما فعلته، طوال تلك الشهور كان قبالتها، صباحًا مساءًا، لم يغيب عن عينيها كل تلك المدة.
انتبهت للممرضة التي تنظف الغرفة من حولها، فاتجهت إليها تسألها بلهفةٍ:
_عذرًا، كنت أود سؤالك أين الدكتور علي لم آراه منذ الصباح؟
أجابتها الممرضة بنزقٍ:
_لا أعلم ربما مشغول مع حالات أخرى.
واستكملت عملها متجاهلة وجودها تمامًا، فجذبت مقعدها قرب الشرفة وجلست تراقب الطريق بلهفة انتظار الصغير لعودة والده!
*******
استجابت مايسان لفريدة وشمس وعادت برفقتهما للمنزل لتغير ملابسها المتسخة، فما أن ولجوا للمنزل حتى صعدت الفتيات للأعلى، بينما اتجهت فريدة للخادمة التي تشير لها على الصالون باشارة أن هناك ضيوف بانتظارها، فاتجهت إليها متسائلة باستغراب:
_مين؟
أتاها صوت كان محبب لقلبها بيومٍ ما يجيبها:
_أنا يا فريدة.
التفتت خلفها، فبرقت بعينيها بدهشةٍ ولسانها يهمس بعدم تصديق:
_أحمد!
يتبع…
من قال إن الفراق يقتل حب أحاطته الذكريات بالكراهية، حتى وإن شاب الجسد بقى القلب صبيًا مرهفًا، بالرغم من بعد المسافات ورغبتها بالابتعاد، ولكنها والله ضعيفة لا تتمكن من محاربة لقائه!
وإن تغير وجهه قليلًا فمازال يحتفظ برمادية عينيه التي تقتلها رويدًا رويدًا، وبالرغم من جمود ملامحها باستقباله المعتاد بحياتها بالسنوات الأخيرة ولكن داخلها قلبها يقرع كدفزف حربًا تنشب عليها!
ترك كوب قهوته على الطاولة الرخامية من أمامه، ثم نهض يقترب إليها ببسمةٍ شوقٍ تذبح فؤاده، عينيه وآه من عينيه تكاد تناشدها بعتاب لا يزيدها الا وجعًا!
وبكل خطوة دنى بها إليها كان يقذف لها ذكرى تلو الاخرى لدرجة جعلتها لا تتمناه يقترب أكثر من ذلك، ملامحه الهادئة الجذابة، شعره البني المحاط ببعض الخصلات البيضاء، هالته التي مازالت تحيطه بعد ذلك العمر، قبضت على قلبها بنيران عاصفة وقالت بجمودٍ:
_أيه سر الزيارة الغريبة دي ومن غير ما تسيب خبر إنك نازل انجلترا!
مازالت كما هي، حادة اللسان رقيقة الشكل، تغرد نظراتها وجعًا يذكره بالماضي ما دام حيًا، تنحنح وهو يجيبها بخشونةٍ:
_مش محتاج إذن عشان أجي بيت أخويا يا فريدة هانم.
علمت بأن الحديث يتجه لمسارًا حاد بينهما، فأشارت للخادمة وهي تمنحها حقيبتها:
_اذهبي إنتِ الآن.
وما أن رحلت حتى استدارت إليه مدققة بمعالمه، مثقلة نطقها للكلمات:
_لا محتاج تستأذن لإن ده مبقاش بيت أخوك خلاص، أخوك دلوقتي عند اللي خلقه واللي عايش في بيته مراته وأولاده.
سحب نفسًا مرهقًا، بالرغم من اعتياده على معاملتها الباردة الا أنه قد سئم بالفعل، فقال بصوته الهادئ المتعب:
_وبعدهالك يا فريدة، هتفضلي كده لحد أمته؟
تعلم جيدًا ما يقصده بحديثه، وبالرغم من ذلك ضمت يديها لصدرها ورددت بفتورٍ:
_كده اللي هو ازاي يعني؟
تمرد عن رزانته حينما صاح بها غاضبًا:
_فريدة احنا مبقناش صغيرين لعنادك ده، فوقي العمر بيجري وأنا لسه جنبك بواجه عاقبك!
وزفر بضجرٍ مشيرًا بيده في محاولةٍ لاعتذاره عن صراخه الحاد مستطردًا بهدوءٍ:
_أنا اتحرمت من إني ارتبط ويكونلي أولاد ومازلت محافظ على وعدي ليكي يا فريدة، بس خلاص مبقتش عارف مطلوب مني استحمل أد أيه، أنا بقى عندي 45سنة مبقتش صغير لكل ده.
استدارت تخفي عينيها عنه، لتجيبه بجحود وهو تعدل جاكيته الرمادي الشبيه للتنّورَة الطويلة التي ترتديها بأناقةٍ:
_سبق وقولتلك قبل كده أن من اللحظة اللي سالم مات فيها إني حليتك من وعدك.
واستدارت توجهه بقوةٍ شرسة:
_يعني من 15سنة كنت تقدر ترتبط وتعيش حياتك، أنا مضربتكش على ايدك وطلبت منك تستناني!
قبض قبضة يده بشكلٍ مخيف ومع ذلك لم يرف لها جفن، فمرر يده بين خصلاته بانتظام قاتل، ثم دنى ليصبح قبالتها فقال وعينيه تجوه الفراغ لا تقوى على التطلع لها عن قربٍ:
_مبحبش أشوفك بتكدبي ولما ببصلك مبشوفش بعيونك غير الكدب.
واسترسل وتلك المدة يحدجها بقوة تناهز قوتها ويده تشير للمنزل :
_من 15سنة جيت المكان ده ووقفت قصاد العيلة كلها وطلبتك للجواز وانتِ رفضتيني بدل المرة ألف مرة، وكل ده ليه؟ … ليه يا فريدة جاوبيني ليه قلبك بقى بالقسوة دي! مكفكيش السنين دي كلها بتعاقبيني مكفكيش وجع في قلبي، لسه عايزة تموتي جوايا أيه تاني؟
تحررت عن رداء ثباتها المخادع، فصرخت بجنون أنثى مجروح قلبها، لا يعرف طريق شفاءه منذ أعوامٍ:
_وجعك ميجيش نقطة في وجعي، لسه لحد النهاردة مش قادرة أنسى وأنا بتوسلك توقف جوازتي، لسه فاكراك وإنت بتقدمني بإيدك لأخوك، قلبي موجوع منك بشكل عمري ما هقدر أوصفهولك، كل ليلة قضتها في البيت ده كانت عذاب ونار بتحرقني.
ورفعت اصبعها تشير للدرج المؤدي لغرف النوم:
_كل يوم كان بيتقفل عليا باب واحد معاه كنت بتكوي وبتمنى الموت كل ما كنت بشوفه هو اللي جنبي على سريري مش إنت!
تلألأت عينيها لتنفجر بدموعها المتحجرة، مشيرة برأسها باعتراض متعصب:
_لا يا أحمد مستحيل هسامحك، ولا هسمح انك تدخل حياتي وتدمرني تاني.
وبسخرية اعتلت بسمتها قالت:
_مش بعيد لما أديك فرصة تانية أعجب حد من أصحابك المرادي وألقيك بتسلمني زي ما عملتها قبل كده.
_فريـــــــــدة.
طعنت رجولته بكل ما تحمله معنى الكلمة، جعلته يرمقها بعصبيةٍ بالغة، كل لقاء بينهما يجمعهما نفس العتاب، لا تمل من ذكر الماضي له على مدار تلك السنواتٍ، فخرج عن طور هدوئه حينما صاح بانفعالٍ:
_إنتي ليه متخيلة إنك الوحيدة اللي كنتي بتعاني! فاكرة إني كان عندي رفاهية الاختيار! أنا كل ثانية كنت بفكر فيها إنك معاه كنت بتقتل، كل لحظة كانت بتجمعنا مناسبة عائلية كنت بتمنى أتعمي ومشوفكيش معاه، انتي موتي مرة أنا موت ألف مرة وخصوصًا لما كان بيجيني خبر حملك.
برقت بحدقتيها غاضبة تجاهه، ظنًا من أنه سيخوض بكرهه أولادها، فوجدته يخبرها بأعين دامعة:
_متقلقيش أنا كنت فاكر زيك كده إني هكرههم، بس لما شلت علي بين ايديا مكنش في عيوني غير الحب والحنان ليه، كنت بضمه ليا وبحاول أشم ريحتك فيه، كنت بتمنى إنه يكون مني وإسمي هو اللي ورا اسمه.
واستدار يوليها ظهره يذيح دمعة كادت بفضح ضعفه أمامها، فوجدها تصفق بيدها وهي تدنو لتصبح هي بمقابلته لتشير له ببسمة ساخرة:
_براڤو ابتديت اقتنع إنك الضحية فعلًا، ده أنا شكيت إن أنا اللي دوست على قلبك وروحت اتجوزت أخوك غصب عنك!
واسترسلت باستهزاء:
_ما كله كان بالاتفاق يا أحمد باشا ولا نسيت؟
ابتسم بجابهه برأسه المصلوب وجسده الممشق، واضعًا يده خلف ظهره وهو يجيبه برتابةٍ:
_لا منستش يا فريدة، بس إنتِ اللي شكلك نسيتي إن أحمد اللي حبتيه عمره ما كان أناني، أحمد اللي اختارتيه حبيب من طفولتك كان جواه شرخ كبير ووجع بيطارده كل ما بيشوف أخواته بيعانوا لمجرد إن أبوه كان بيتسلى في فترة اجازته اللي بيقضيها بمصر فقرر يتجوز واحدة يقعدها مع والده عشان تسليه وقت ما يسيب انجلترا، أحمد اللي حبتيه كان بيدفع تمن إنه ابن الزوجة التانية وعاش عمره كله يدفع التمن ده، حتى بعد ما مرات أبوه اكتشفت بجوازه، فقررت تعيشه هو واخواته في معاناة أكبر ولولا وجود جدي كان زماني أنا واخواتي في الشارع، وبعد السنين دي كلها يحسن سالم العلاقة دي ويبتدي اخواتي يعيشوا عيشة طبيعية أجي بانانيتي وأقف واتحداه!
تدفق الدمع على وجنتها لتجيبه بقسوة:
_لا تسلمه حبيبتك!
دفنت وجهها بين يديها تذيح دموعها، والتقطت أنفاسها وهي تخبره بجمود:
_مبقاش له لزمة الكلام دلوقتي، خلاص اللي فات مستحيل هيرجع، وسالم دلوقتي بين إيدين ربنا.
ورفعت عينيها إليه تخبره بألمٍ:
_متجنيش على روحك بالانتظار يا أحمد، أنا معملتهاش وأولادي صغيرين معنديش الجرءة أعملها وهما رجالة وعلى وش جواز، اخرج من هنا اتجوز وخلف وعيش حياتك، إنت مش كبير أوي وألف ست تتمناك.
رنا إليها بانفاسه اللاهثة من فرط غضبه المكبوت:
_مش عايز غيرك، إنتِ عندي بكل ستات الدنيا كلها يا فريدة! قلبي رافض ينبض لغيرك! كل حتة جوايا عايزاك إنتِ!
وبرجاء مرهق قال:
_من فضلك إرحميني من الأثم اللي عايش فيه بسببك!
وتابع في محاولته البائسة:
_علي وعمران بيحبوني وبيحترموني هيتفهموا الموضوع ومحدش هيعارض الجواز ده صدقيني.
انهمرت دمعاتها وهزت رأسها مجبرة لسانها على الحديث ببكاء:
_إنت ليه مش عايز تفهمني، أنا مش عارفة أثق فيك تاني يا أحمد؟
وإتجهت لأقرب مقعد تجلس عليه حينما انهارت قوتها، فبكت بانكسارٍ جعله يتابعها بصدمة من سماع كلماتها، ليته مات قبل أن تطعنه بكلماتها القاتلة.
تزيد من وجعه مجددًا وقد سئم منه الألم وفاق حد تحمله، أغلق عينيه بقوة يحاول محاربة ما يعتريه بتلك اللحظة من أن لا يندفع تجاهها ويضمها إليه، ولكنه ليس بحاجة لارتكاب هذا الذنب يكفيه أثمه الأعظم بالتفكير بها!
انحنى على الطاولة يجذب علبة المناديل الورقية، ثم اقترب يضعها جوارها، فسحبت منه تجفف دموعها، بينما اتجه للاريكة المقابلة لها، يجلس بهدوء رزين وكأنه لم يحاورها بما يؤلمه منذ قليلٍ، فحرر زر جاكيته بذلته وإتكأ على ساقيه ناظرًا للأسفل وهو يسألها بجمود ارتدى قناعه:
_أخبار الاولاد أيه؟ هما فين من ساعة ما جيت مشفتش حد منهم؟
وضعت ساقًا فوق الأخرى، واستعادت جلستها تجيبه:
_عمران في المستشفى وعلي معاه، وشمس فوق في أوضتها.
برق بعينيه بدهشة مما استمع إليه، فقال:
_في المستشفى ليه، أيه اللي حصل؟ وليه مبلغتنيش!
أجابته وهي تتحاشى التطلع إليه:
_ألكس حاولت تسمه بعد ما حاول يبعد عنها.
واستكملت وعينيها تشرد بالفراغ:
_هو كويس دلوقتي الحمدلله.
استقام بوقفته يغلق زر جاكيته متلهفًا:
_في مستشفى أيه أنا هروحله.
_عمي!
صوتًا غامضًا اقتحم مجلسهما، فاتجهت نظرات أحمد إليه، مرددًا ببسمته الجذابة وهو يفتح ذراعيه إليه:
_علي حبيبي وحشني أوي.
مال علي برأسه على كتفه يحجر نظراته الساهمة، وحينما أخرجه أحمد من احضانه منحه ابتسامة رسمها بالكد وهو يجاهد ما يعتريه الآن، فأجلى صوته بصعوبةٍ:
_وإنت كمان وحشتني أوي، بتمنى السفرية المرادي تكون طويلة لإن الوقت اللي بنقضيه مع حضرتك ميتشبعش منه.
ربت على كتفه بحنان وهو يخبره:
_اطمن عندي شغل هنا مش هيخلص الا بعد كام شهر، لإني هفتتح فرع لشركتي مع مؤسسة كبيرة هنا.
كانت نظرات علي مبهمة تجوب والدته تارة وعمه تارة أخرى، لدرجة جعلته بتساءل بقلقٍ من صمته الغريب:
_علي إنت كويس؟
ضم مقدمة أنفه وهو يخرج زفيره:
_أنا بس منمتش كويس، هطلع أخد شاور وهرجع لعمران الدكتورة كتبتله على خروج بليل.
هز رأسه بتفهمٍ، وقال:
_اطلع خد شاور وفوق وأنا هرجع الاوتيل هغير وهحصلك.
اعتلاه الضيق وفاض به:
_المرادي مش هسمحلك تنزل بأوتيل يا عمي، وسبق ونبهت على حضرتك أكتر من مرة ومعرفش سبب اصرار حضرتك إنك تفضل باوتيل وبيتك موجود.
اتجهت عينيه لفريدة التي انقشعت معالمها غاضبًا، فخشى أن تعود للشجار بينها وبين علي كالمعتاد حينما يصر بجلوسه هنا، فقال برزانةٍ:
_معلش يا علي سبني براحتي، أنا برتاح في الاوتيل.
تلك المرة كان مصر اصرارًا غريبًا، فقال وهو يدنو من الدرج:
_مش هيحصل، هطلع حالًا أغير وأجي مع حضرتك تجيب الشنط قبل ما نروح المستشفى.
وتركه بتطلع لأثره وصعد للأعلى، فدمت فريدة شفتيها بغيظٍ مما يحدث لها، ولكنها لم تكن تحمل طاقة الشجار والحديث يكفيها كل تمر به بداية من يومها العصيب.
وجدها أحمد صامتة مستكينة على غير عادتها، فدنى يجلس جوارها وهو يهمس بصوته المنخفض:
_متقلقيش هقنعه واحنا في الطريق ومش هخليه يعمل كده.
رفعت عينيها إليه بارتباكٍ إلتمسه برفرفة جفونها، فجاهدت لخروج كلماتها الثقيلة:
_ل… لأ.. تعالى اقعد هنا… آآآ… أنا محتاجة لوجودك الفترة دي.
وسرعان ما بررت حديثها وهي تنهض من جواره:
_عمران مشاكله كترت وأنا وعلي مبقناش قدرين نحل معاه، هو بيحترمك وأكيد هيسمع منك.
نهض ليقف على محاذاتها، مرددًا بفرحة وكلمات تنبع من صمام قلبه:
_أنا جنبك ومستحيل أتخلى عنك لأخر نفس خارج مني، وقولتلك قبل كده يوم ما تحتاجيني هتخلى عن دنيتي كلها عشانك يا فريدة.
ابتلعت ريقها بتوتر، جعلها تتهرب من أمامه مرددة بتلعثمٍ وهي تتجه للمصعد:
_عن إذنك.. هطلع أشوف شمس.
ابتسم وهو يراقب دلوفها للمصعد، فمنحها نظرة أخيرة قبل أن ينغلق الباب بينهما، فصعدت عينيه عليه وهو يصعد بها للطابق الثالث، فابتسم هامسًا:
_اهربي على قد ما تقدري أنا مش بمل ونفسي أطول مما تتخيلي!
*******
ألقى بجسده أسفل الدوش مستخدمًا المياه الباردة عوضًا عن الساخنة بمثل هذا الطقس، عل تلك البرودة تشل عصبة تفكيره.
فتح علي عينيه على مصرعيها وهو ينهج بصعوبة أسفل المياه، ليردد بصدمة مازالت تستحوذ عليه:
_معقول عمي وماما!!!
أغلق عينيه بقوة تحرر تلك الدمعة التي أججت حدقتيه، يتذكر كيف جلدته سماع حديثهما دون قصدًا منه، بعدما استأذن بالانصراف من المشفى ليبدل ملابسه ويخبر مايسان بأن تحمل ملابس نظيفة لعمران بعد أن أكدت الدكتورة ليلى خروجه، فما أن ولج الداخل حتى سمع صراخ والدته القادم من غرفة الصالون، وكلما خطى لمعرفة ما أصابها كانت تتوقف قدميه غير قادرًا على استكمال طريقه صدمة مما يستمع إليه، وخاصة حينما فاض عمه بما كبت داخله.
كان يشك بأن هناك شيئًا يخفيه عمه وراء نظرات حنانه له ولوالدته، وظل سبب عذوبيته لتلك السنوات السر الأعظم بين طوائف العائلة، والجميع يجزم بأن هناك سيدة تحتل قلب عمه الغالي، وها هو الآن يعلم عن تلك السيدة ما يجعله يئن وجعًا!
لم يرفض قط أن ترتبط والدته مجددًا خاصة بأن أبيه توفى وتركها صغيرة للغاية تحتمل مسؤولية ثلاث أطفال بمفردها، تذكر كيف تقدم لخطبتها أبناء عم أبيه حتى أخوه الشقيق القابع هنا بانجلترا ولكنها رفضت الجميع، وبالرغم من انزعاجه صغيرًا الا أنه تمنى من كل قلبه أن تقبل عرض زواج عمه أحمد حينما طالبها بذلك.
الوحيد الذي تمناه أبًا له، ولكن مع رفض والدته تيقن بأنها لا تود الارتباط مجددًا، ومع ذلك كلما تقدم أحدٌ لخطبتها كان يحاول اقناعها بذلك معللًا بأن لا تشعر نفسها بذنب مسؤوليتهم فلم يعدوا أطفالًا صغارًا.
خرج علي من الحمام متجهًا لخزانته بآلية تامة، فجذب الملابس يرتديها شاردًا فإن كان لا يحتمل لوعة حب فطيمة لعامٍ واحد كيف تحمل عمه كل تلك الأعوام!!
بالطبع إنه لعاشق وقد فاق عشقه ما استشهدته قصص العشق بالاساطير، يعلم بأن ثمة وجعًا داخله تجاه أبيه الذي عاش مع امرأة كان قلبها لاخيه ولكن ما فائدة العتاب والافتراضات لقصة انتهت منذ أعوام.
أغلق جاكيته الجلد الأسود، ومشط شعره وهو يردد باصرار:
_أنا اللي هجمع بينكم من تاني، وعد!
******
وضعت هاتفها جانبًا بعدما قامت بوضعه صامتًا أمام نظرات والدتها المتفحصة لها، والاخيرة تمرر عينيها ببطءٍ عليها في محاولةٍ لفهم ما يحدث مع ابنتها الصغرى، فعاد الهاتف يضيء من جديد حتى وإن كان صامتًا، فلمحت فريدة اسم المتصل والاخيرة تنهي الاتصال، فقالت بشكٍ:
_إنتِ اتخانقتي مع راكان؟
هزت رأسها نافية، فعادت فريدة لسؤالها من جديدٍ:
_طيب ليه مش بتردي على مكالماته؟
ابعدت شمس غطاء الفراش عنها، ثم زحفت حتى وصلت لاخر الفراش تخبرها بتوتر:
_مامي أنا مش مرتاحة لراكان ولا قادرة أحبه ولا أتقبله في حياتي، حساه مختلف عني ومفيش بينا حاجة مشتركة وآ..
قاطعتها فريدة بصرامةٍ:
_كل ده قدرتي تحدديه من شهر خطوبة!
ونهضت عن الفراش تصيح بها بعصبية كانت تشتعل داخلها قبل الصعود لها:
_بلاش دلع وكلام ماسخ، إنتِ مش هتحكمي عليه من 30يوم! أنا فاهمه وواعية أكتر منك ومتأكدة من اختياري، راكان شخص لبق ومناسب جدًا ليكي.
وجذبت هاتفها الموضوع على الكومود تعيد فتحه، ثم قدمتها لها بغضب:
_دلوقتي حالًا هتكلميه وهتعتذري عن عدم تقديرك لمكالمته ومش عايزة أسمعك بتقولي الكلام العبيط ده تاني، سامعة؟
هزت رأسها وهي تكبت دمعاتها بصعوبة، ففتحت الهاتف تجيب على رسائله تحت نظراتها المراقبة، لتخبرها بعد دقائق من محادثته:
_عايزني أتغدى معاه بره.
هزت رأسها تخبرها وهي تتجه للخزانة:
_ردي عليه إنك موافقة، وتعالي أختارلك لبسك اللي هتروحي بيه ما أنا عارفاكي ذوقك بقى في النازل!
تحررت تلك الدمعة عن عينيها وراقبتها وهي تتفحص الملابس بخزانتها بنظرة مقهورة، فنهضت بصعوبة تلتقط ما وضعته والدتها على الفراش ودلفت للمرحاض تبدل ثيابها بجمود اعتادت عليه كلما أمرتها بشيء!
*****
_كده أحسن؟
سأله جمال وهو يحاول أن يعدل السرير الطبي لعمران الذي أشار له بخفة، بينما جذب يوسف الطاولة البيضاء يضع الطعام من أمامه قائلًا:
_يلا اتغدى عشان معاد الأدوية، مش عايزين دكتورة ليلى تتضايق مننا الله يباركلك العملية مش ناقصة.
أضاف جمال بفزع:
_كله كوم وغضب دكتور علي كوم، هيحبسنا في العباسية، كل ياض خلص كل الأكل مش عايزين مشاكل مع دكاترة الوسط.
ابتسم وهو يراقبه يقرب ملعقة شوربة الخضار منه، فمال برأسه جانبًا بتقزز:
_مبحبش الأكل ده قولتلكم كذه مرة، اقتلوني ومتأكلونيش خصار ني!
دفع يوسف الملعقة بطبق الشوربة حتى وقعت محتوياتها على الصينية واضعًا يديه بمنتصف خصره بنفاذ صبر:
_وبعدين بقى، ده ناقص ارقصلك عشان تأكل؟!
أبعده جمال للخلف وهو يتحكم بضحكاته بصعوبة:
_طب وسع كده إنت يا جو وسبني أحاول معاه.
وزع عمران نظراته الساخطة بينهما، مرددًا:
_تحاول معايا! انتوا ليه محسسني إني عيل صغير خفوا عليا وارجعوا شغلكم أحسن!
جذب يوسف جاكيت بذلته ليضعه على ذراعه وهو يشير بشراسة:
_تصدق إني غلطان، ده أنا سايب حالة ولادة قيصرية وجاي أبص عليك يا حقير.
ضحك بصوته الرجولي، ونظراته تحيط بجمال المبتسم متسائلًا:
_وإنت سايب أيه إنت كمان؟
استند بذراعيه على جسد الاريكة باسترخاء:
_لا أنا مخلص شغلي وفاضيلك.
انتهى يوسف من ارتداء جاكيته، ودنى من عمران يتساءل بجدية:
_ساعتين وراجعالك، مش عايز حاجة أجبهالك وأنا جاي؟
هز رأسه ببسمة صغيرة:
_خيرك سابق يا حبيبي، تسلم.
ربت على ذراعه بحبٍ وكاد بالمغادرة حينما وجد زوجته تدلف للداخل بردائها الطبي، وحجابها الأبيض الذي زاد من جمال بشرتها النقية، فتراجع للخلف وهو يغمز بمكر:
_أنا بقول أقعد معاك النهاردة يا عمران شكلك تعبان ومحتاج لوجودي جنبك.
قهقه ضاحكًا وهو يتابع بسمة ليلى التي اتجهت لتفحص عمران متجاهلة إياه، ووجهت حديثها لعمران:
_خلي صاحبك يروح يشوف شغله يا بشمهندس احنا موجودين ومش محتاجين لخدمات دكتور النسا والتوليد!
ردد جمال مازحًا:
_يا رب تتحرج وتمشي شكلك مبقاش له ملامح!
ذم شفتيه ويده تمر على لحيته الكثيفة موجهًا حديثه لجمال بينما عينه تقصدها:
_ماشي يا جيمس مصيرك تقع في إيدي ويجمعنا بيت واحد بعد الدوام.
ردد عمران بحزمٍ ضاحك:
_بره يا متحرش بدل ما أطلبك الآمن.
تعالت ضحكاتهم جميعًا، فأشار لهم يوسف وغادر على الفور، وما أن تأكد عمران من مغادرته حتى تطلع لها قائلًا بثباتٍ:
_صارحيني يا ليلى أنا متقبل كل شيء متقلقيش.
ارتبكت أمامه وكذلك فعل جمال، فتابع ببسمته الهادئة وعينيه لا تفارق ذراعه الأيسر:
_أنا مش حاسس بايدي ورجلي من امبارح ومازلتي بتقنعيني إن ده بسبب تأثير المخدر، وأنا بحاول أصدقكم كلكم بس آ..
قاطعته ليلى حينما قالت:
_مسألة وقت يا عمران لحد ما السم ينطرد من جسمك بشكل نهائي، يعني ممكن بعد مداومة الجلسات ايدك ورجلك الشمال تتحرك بعد اسبوعين وممكن أقل إن شاء الله، فمتقلقش.
هز رأسه بتقبل، وهو يخبرها ببسمة صغيرة:
_شكرًا ليكِ يا دكتورة، تعبتك معايا.
أجابته بحزن:
_تعب أيه بس، ده انت زي أخويا، كفايا معزتك عند دكتور يوسف إنت وجمال.
رد عليه وقد استكان بعينيه على جمال الذي يضع الوسادة من خلفه:
_ربنا يديم الود بينا.
*******
وقفت سيارة علي أمام المنزل، فهبط لصندوق السيارة يجذب الحقائب بعدما عاد برفقة أحمد مجددًا للمنزل، هبط أحمد خلفه يعاونه بحمل الحقائب فاعترض علي باحترامٍ:
_أنا هطلعهم لوحدي يا عمي، اتفضل حضرتك بالعربية وأنا دقايق وراجعلك.
منحه ابتسامة لطيفة واتجه للسيارة مثلما طلب منه، لينطلق علي به للمشفى.
شعر أحمد بأن هناك أمرًا ما به، صمته كان غير طبيعيًا بالمرة، فاستدار بجسده تجاهه ثم قال بريبة:
_مالك يا علي؟ من ساعة ما ركبنا العربية وإنت ساكت طول الوقت، طمني إنت كويس؟
منحه بسمة صغيرة، ليكبت داخله هذا الوجع الغير مبرر، فقال وعينيه مصوبة على الطريق:
_أنا بخير والله، بس اللي حصل لعمران ملخبط دنيتي شوية.
هز رأسه بتفهمٍ، وابتسم وهو يسأله باهتمامٍ:
_طيب وفاطيما أخبارها أيه؟
ذكره لاسمها استرده شوقه الهائم بها، لم يراها منذ الأمس وها هو الآن يمتنع عن الذهاب للمشفى لحاجة أخيه إليه، خرج من شروده وهو يخبر صديقه الجيد بسماع مشاعره دون كللًا أو ملل:
_صارحتها بحبي وعرضت عليها الجواز.
زوى حاجبيه بدهشةٍ:
_مش حاسس إنك أخدت الخطوة دي بدري شوية؟!
تفادى الطريق لينحدر للجانب الأخر، فتوقف عن القيادة محررًا حزام الآمان من حوله:
_حسيت إني مقيد يا عمي، محتاج أكون موجود جنبها أكتر من كده، أنا عايزها جنبي.. عايز أعوضها عن كل اللي شافته ومش قادر غير لما تكون مراتي.
ابتسم وهو يراقب العشق يظلل بجناحيه على ابن أخيه، فتغاضى عن تلك النقطة بنقطة أخرى:
_طب وردها كان أيه؟
التفت إليه بحزن جعله يقود سيارته مرة أخرى مرددًا بنزقٍ:
_عايزة تغير الدكتور.
تمعن أحمد به قليلًا ثم انفجر ضاحكًا بشكلٍ جعل الاخير يضحك، ليشاكسه من بين ضحكاته:
_الحب عذاب ولوعة وحيرة يا أبو حميد.
اسند رأسه للنافذة ليثيره ساخرًا:
_وأيه كمان يا عبد الحليم يا حافظ!
لعق شفتيه يخبره بمكرٍ:
_مش ناوي تقولي بقى مين الصاروخ الجوي اللي مكلبشك طول السنين دي كلها ومخلية الصحافة مالهاش سيرة غير أحمد غانم الاربعيني الأعزب!
احتدت نظراته إليه، ليردد بصرامةٍ:
_ولد!
ضحك وهو يشير له بإبهامه، فصاح الاخير:
_نسيت اني عمك وليا احترامي ولا أيه! شكلك كده يا دكتور هتقلب على عمران المشاكس وده مش معتاد منك.
أجابه على الفور مدعي البراءة:
_بتشبهني بعمران!!! ظلمتني يا عمي، ده أنا عفيف ومحترم وصاين نفسي لبنت الحلال!
_على كده بقى أنا سلطان العفة والعفاف!
رمش بعينيه بصدمة، فعاد يتطلع إليه وفجأة انفجر كلاهما من الضحك.
*******
بالمشفى.
طرقت الباب وحينما استمعت لصوته يأمرها بالدخول ولجت مايسان للداخل، استقبلها ببسمته الجذابة فارتبكت وهي ترفع الحقيبة إليه:
_جبتلك الهدوم زي ما طلبت من علي.
ودنت تضعها على الفراش، ثم اشارت بخجل:
_تحب أساعدك تخش تغير بالحمام ولا أخرج وتغير هنا.
ذم شفتيه بمكرٍ:
_مش عارف، بس أنا مش قادر أحرك ايدي ورجلي الشمال بحركهم حركة بسيطة.
وصمت بخبث يفكر في حلٍ لتلك المعضلة:
_خلاص اخرجي ناديلي واحدة من الممرضات تيجي تساعدني.
وأضاف ببسمة واسعة تفنن بجعلها عاطفية:
_في ممرضة اسمها آشيلي برتاحلها ايدها خفيفة فيفضل تكون هي.
احتدت عينيها بنظرة لو كانت حية لكان في عداد موتاه الآن، فاتجهت للحقيبة تجذب بنطاله والتشرت الصوف للفراش، ثم جذبت الجاكت تعلقه على ظهر المقعد.
أزاحت عنه الغطاء وعاونته على الاستقامة بجلسته ممددًا قدمه خارجه، ورفعت يدها تحاول فك زر قميصه، ارتجفت يدها أمامه وكأنها تحاول ارغام ذاتها على السرقة وإرتكاب المحرمات.
ابتسم عمران وهو يراقبها باستمتاعٍ، احداهن خلعت توب الحياء فكانت تتقرب منه بطريقة مخجلة، والأخرى زوجته حلاله تخشى أمامه وكلما تعلقت عينيه بها يصطبغ وجهها كالحمرة!
وللأمانة يروق له حيائها فيشعر بأنها ثمينة غالية، غير تلك الرخيصة التي جعلته يكره ذاته بعد كل خطيئة جمعتهما.
رفع عمران يده يثبتها على أصابعها المرتجفة وعينيه تعانق خاصتها مردفًا بشفقةٍ على ارتباكها الظاهر:
_خلينا نستنى علي أفضل.
تنفست الصعداء وغادرها تورد بشرتها، فحملت الملابس للمشجب القريب من الباب، وعادت تسأله بحدة وهي تدعي انشغالها بترتيب ملابسه:
_هتستنى علي فعلًا ولا أناديلك آشيلي؟
اعتدل بجلسته بعناءٍ، فمنحها نظرة ماكرة قبل أن يضحك بصخبٍ، فازدادت غضبًا وهي تراقبه يستهزأ بها، فاستغل قربها منه ليجذب يدها، ارتبكت مايسان للغاية، وحاولت سحبها منه فوجدته ينحني طابعًا قبلة رقيقة على أصابعها هامسًا ورماديته لا تحيل عنها:
_أنا أقسمتلك بكتاب الله يا مايا!
سحبت كف يدها منه بارتباكٍ، فتراجعت للخلف وهي تردد بتوترٍ:
_آآ… أنا… آ..
استدارت وهي تحاول إيجاد ما ستقوله لتتهرب مما فعله، فراقبها بانتشاء صدح بهمسه الساخر:
_مفيش داعي أنا مقدر حالتك ووعد مش هعمل شيء يكسفك تاني.
هزت رأسها، فقال باستغراب:
_طب خلاص بصيلي بقى.
التفتت إليه بخجل فاتسعت بسمته وتمدد يتطلع لها بهدوء جعل قلبها لا يهدأ، فتمنت لو اخبرته أن يكف عن كل شيءٍ يفعله حتى نظراته تلك!
طرق الباب ومن ثم دفعه علي ليطل من خلفه أحمد الذي أسرع لعمران المتفاجئ بوجوده وبفرحة يستقبله:
_عمي!
ضمه أحمد إليه مربتًا بحنان على ظهره:
_ألف سلامة عليك يا حبيبي.
ومال لأذنيه يهمس بصوت غير مسموع الا له:
_شوفت أخرة الشمال!
كبت ضحكاته وهو يؤكد له ساخرًا:
_شوفت واتعلمت درس مش هيتنسى.
ابتسم وهو بنتصب بوقفته موجهًا حديثه لمايسان:
_إزيك يا بنتي عاملة أيه؟
أجابته ببسمة واسعة:
_أنا الحمد لله بخير يا عمو… حمدلله على سلامة حضرتك.
اكتفى بإيماءة بسيطة بينما قال علي وهو يتفحص ملابسه:
_إنت لسه مغيرتش!
تلقائيًا تطلع إليها فوجدها تفرك أصابعها خجلًا من سؤاله، فأخبره بمزحٍ:
_مبتكشفش على حد غير أخويا أنا حر يا جدع.
تعالت ضحكات أحمد، ففتح ذراعه لمايسان وهو يشير لها:
_طب تعالي نخرج احنا يا مايا ونسيب علي يستر أخوه آآ.. أقصد يلبسه.
اتبعته مايسان للخارج، فجذب علي البنطال والتيشرت إليه، ثم شرع بتبديل ملابسه ببسمة خبيثة:
_مدخلش عليا حوارك ده، إنت وقح وما بتصدق تستغل الفرص.
رفع ساقه بالبنطال استجابة ليد أخيه وأجابه:
_محبتش أكسفها، دي شوية كمان وكان هيغمى عليها من الكسوف!
وضحك وهو يستطرد بمزحٍ:
_عجبني إنها مصرة متخلنيش أنادي مزة من المزز الاجانب وصممت تساعدني وبالنهاية انت اللي لبستها.
رفع ذراعه بحذر والحزن يعتلي معالمه، فحاول الا يبدي له شيئًا حتى انتهى، فجذب الجاكيت يحاوطه به، ثم منحه فرشاة الشعر والمرآة والبرفيو الخاص به.
حاول عمران جذبها بيده اليسري وحينما رفعها بثقل جعله ينهج بصعوبه جذبها بيده الاخرى قائلًا بوجوم:
_تفتكر كلام دكتورة ليلى صحيح والمسألة فعلًا هتكون كام يوم!
استمد ثباته ليقف قبالته مؤكدًا:
_عمران بلاش تشغل دماغك بالتفكير باللي حصل، فكر إن ربنا نجاك من الموت وإنك حي، دكتورة ليلى كلامها مظبوط الجرعة اللي اخدتها نسبتها بسيطة وده اللي نجدك.
أراد أن يغير مجرى الحديث، فأشار له وهو يهم بالنهوض:
_طب إسند خلينا نمشي من هنا.
أمسكه علي جيدًا فخطى لجواره للخارج فأسنده أحمد من الجهة الاخرى، بينما فتحت لهم مايسان باب المصعد ومن ثم باب السيارة الخلفي لتستقر جواره بالاخير.
******
وقفت خارج المطعم بترددٍ، تود أن تهرب لمكانٍ تبقى به بمفردها، لا تعلم ماذا يصيب قلبها؟
كل الذي تعلمه بأنها لا تحبذ التواجد مع هذا السمج، سحبت شمس نفسًا مطولًا قبل أن ترفع طرف فستانها وتصعد الدرجات المتبقية برشاقة تتناسب مع جسدها، فولجت لداخل المطعم تبحث عنه بعينيها، فتفاجئت بالمكان لا يحوي سواه، فعلمت بأنه حجز المطعم بأكمله لغدائهما وبالرغم من انزعاجها الشديد الا أنها استعادت ثباتها، وجدته يجلس على أحد الطاولات الفخمة كعادته يعبث بهاتفه، زفرت بمللٍ واستكملت طريقها إليه، فما أن رآها حتى نهض يجذب لها المقعد مدعيًا لابقته بالتعامل معها.
جلست شمس بهدوء مستندة على يدها وعينيها تجوب المكان من حولها، تبحث عنه وسط أوجه الحراس، تجهمت معالمها حينما لم تجده من بينهم، وكأنها فقدت ضالتها فجأة، ظهوره يهون لها تواجدها جوار ذاك المستبد.
أفاقت على صوته المتساءل للمرة الثانية:
_شمس إنتي معايا؟
تنحنحت بحرجٍ:
_معلش سرحت شوية، كنت بتقول أيه؟
قدم لها القائمة ببسمة خببثة:
_بسألك تحبي تأكلي أيه، بس شكلك مش معايا خالص.
التقطت منه القائمة، وتفحصتها بأعين شاردة لا ترى ما أمامها، ودت لو سألته بشكل واضح أين آدهم؟
فقالت وهي تدعي عدم مبالاتها:
_هو مفيش حد هنا غيرنا ولا أيه؟
رد عليها ببسمة زرعت القلق إليها:
_وده أفضل شيء عشان نتكلم براحتنا.
وتابع بنظرة شك أحاطته:
_من ساعة حفلة إيملي وأنا حاسس إنك متغيرة ومبقتيش تردي على مكالماتي، فهميني في أيه يا شمس؟
جذبت كوب العصير من أمامها ترتشفها بتوترٍ، واندفعت تخبره:
_أيوه زعلانه منك ومش متقبلة اللي عملته.
_أيه اللي عملته؟!
ردت بقوة وجراءة:
_راكان أنا مبحبش الخنقة اللي إنت مصمم تحطني فيها، ماليش في الحفلات دي ولا في قاعدتهم.
وتابعت ومازالت ترمقه بغضب:
_زائد إنك لازم تتقبلني زي ما أنا، مش فرض عليا ألبس اللي تحبه وتختاره، أنا مش هطلع من تحكمات فريدة هانم لتحكماتك.
تفاجئ بما قالته وخصوصًا بحديثها عن الحفلات وغيرها مما تعد روتين أساسي بحياته، فلعق شفتيه بمكرٍ وداخله يأجج مقولة أن يستدرجها حتى تصبح زوجته وحينها سيعلمها ما يجب فعله، فتنحنح بخشونة:
_أنا مكنتش أعرف إنك زعلانه أوي كده بس أوعدك مش هعمل اللي يزعلك تاني.
اكتفت برسم بسمة صغيرة، وابتعدت عن الطاولة بجسدها لتسمح للنادل بوضع الطعام، وشرعت بتناوله لتتهرب من حديثه خاصة بعد أن أغلق هاتفه وتفرغ لها حينما تأكد ان هناك ما يضيق صدرها منه.
وحينما فرغوا من طعامهما، وضع راكان مبلغًا طائلًا من المال واتجه بها للخارج، فخفق قلبها سريعًا فرحة حينما وجدت آدهم يقف بالخارج جوار احد سيارات الحرس، يتبادل الحديث برفقة فؤاد السائق الخاص لراكان.
هبطت خلفه ففتح لها راكان الباب الخلفي ومازالت تقف مقيدة، تنتظر أن يستدير ليمنحها بسمة الهادئة وترحابه المعتاد بينهما، ولكن ما صدمها بأنه صعد جوار فؤاد بالامام غير عابئ بجلوسها برفقة راكان بالخلف.
وجدها تتطلع إليه بالمرآة الامامية فابتسم بخبث وهو يتابع بروده، فاشغل ذاته بتأمل الطريق وحركة سيارات الحرس من أمامهم وخلفهم، وفجأة ضربت السيارة الامامية لصفهم بالنيران فاشتعلت مصدرة انفجار دوى المكان بأكمله وقبل أن يستوعب ما يحدث احاطهما سيارات يملأها الرجال المسلحين من كل مكان، صرخت شمس بفزع بينما صاح راكان وقد هبط عن مقعده لاسفل السيارة:
_في أيه يا آدهم؟
جذب سلاحه من تابلو السيارة يجيبه وهو يقفز خارجها:
_أكيد النمساوي حابب يواجب بعد اللي حصل لرجالته.
ورفع سماعته يصيح برجاله:
_أمنوا عربية الباشا.
وفور انتهائه اجتمع حولهم عدد من الرجال الخاصين بآدهم يردون ضرب النيران بحرافية، بينما أسرع آدهم يفتح الباب الخلفي يعاونها للهبوط مرددًا:
_متقلقيش يا شمس هانم هنخرجك من هنا حالًا.
تلقائيًا تمسكت بيده وهي تترجاه برعب:
_أنا مش عايزة أموت من فضلك روحني.
أشار لها برفقٍ وهو يتجه بها لزقاق جانبي، وحينما ضمن إنها تختبئ خلف أحد الأعمدة السكانية عاد يجذب راكان ويتحرك به وسلاحه مسلط على المسلحون، فأوصله لها وعاد لينضم لرجاله، فتابعته شمس بصدمة وخوف عليه، وفجأة شعرت بيد تكمم فمها وتحرر سلاح حاد على رقبتها لتنفلت صرخاتها دون توقف، مما دفع آدهم يركض صوبها صارخًا:
_شمــس!
*******
الساعات تمضي دونك كالأعوام، وعقرب الوقت لا يتوقف عن افتعال ثورته وكأنه يحسب البعد بالمسافات، والهواء أصبح كالثليج وكأنك سحبت خلفك الدفء والأمان، وقلبي يا حبيبي يصرخ طالبًا ضمة عينيك وعاطفة هواك!
جفاها النوم دونه، لم يفعلها يومًا وتخلى عنها، انقبض قلب فطيمة، فلجأت للصلاة كلما احتد بها الألم، فرددت بصوت محتقن وبكائها ينسدل على سجادة صلاتها:
_يا رب متبعدهوش عني أنا ماليش غيره!
ونهضت تلقي التحيات وسلمت جالسة على سجادة صلاتها تبكي دون توقف، فبرقت بعينيها بصدمة حينما تسلل لها صوته الرجولي العميق:
_عمري ما أبعد عنك يا فطيمة، مش هيفارقنا غير الموت وهيكون يومي قبل يومك.
بلعت ريقها بصعوبة وهي تستدير للخلف ببطء فوجدته يجلس على المقعد القريب منها، خرج صوتها هامس بخفوتٍ:
_علي!
يتبع…
تواجدهم بذلك المكان هدفهم هو راكان والذي كان يعلم هوايتهم الحقيقية بعدما تسرب إليهم خبر القبض على شحنة الأدوية الفاسدة، خشية من أن يكون تم كشفه للحكومة المصرية، الخلاص منه الآن هو الحل الأمثل، وخاصة بعد رفضه مقابلة الرجل الذي يعلوه، توقع آدهم ذلك ولكنه افترض بأن ما يحدث من الممكن أن يكون تابع لرجل الأعمال “النمساوي” بعد أن ناطحه راكان بسوق التجارة، هكذا ما يخبره به راكان، فكان يرفض الحديث عن أموره المشبوهة أمام آدهم فلم يصل لمرحلة الثقة الكاملة به.
أمن آدهم ابتعاد راكان وشمس عن تبادل الرصاص الحي، وعاد ينضم لرجاله، فتفاجئ بعدد من السيارات يحاوطونهم من جميع الاتجاهات، فخرج كبيرهم على ما بدى وقال وهو يشير لرجاله بخفض الاسلحة:
_لا نريد سفك الدماء هنا، جئنا لنصطحب السيد راكان لمقابلة رئيسه، وإن لم يخضع لمطلبنا ستسفك الدماء هنا إن أراد.
تأكدت ظنون آدهم كليًا، لم يخص الأمر مخضع رجال الأعمال بل رد فعل للشحنة التي تم تصديرها بالميناء، لاحت على شفتيه بسمة ماكرة، فإن أراد راكان اخفاء عمله القذر عنه حتى بعد تقربه الشديد إليه في محاولة لدفعه بالوثوق به والحديث عن عمله المتخفي الا أنه كان حريصًا للغاية، وقد أتته فرصته على طبقٍ من ذهب.
أشار لمن يترقب رد فعله وقال:
_انتظر هنا سأعود.
وترك الرصيف وانجرف لليابسة تجاه مكان اختباء راكان، فأشار رئيس الحرس الاجنبي لرجلين من رجاله بتتبع آدهم بحرصٍ لا يجعله يشعر بهما.
وقف آدهم قبالة راكان المتخفي خلف أحد الأعمدة السكنية، فما أن رآه حتى خرج يسأله برعبٍ:
_عملت أيه يا آدهم، خلصت عليهم؟
ادعى برائته خلف قناع خبثه اللئيم:
_عددهم أكبر مننا يا باشا منقدرش نشتبك معاهم.
رد بعصبية قبضت عروق رقبته:
_يعني أيه الكلام ده هتسبهم يقتلوني!
وضع سلاحه خلف ظهره، ثم اقترب يخبره بمكرٍ مستلذًا برؤية الخوف ينهش معالمه:
_كبيرهم أكدلي إنهم مش هيأذوك بيقول أن في رئيسه عايز يقابلك، وفعلًا شكلهم مش جايين وناويين شر.
وضيق جبينه ببراءة وخوف:
_هو إنت تعرف الناس دي مين يا باشا، أنا افتكرتهم تبع النمساوي بس الظاهر إنهم تبع حد تقيل، لو تعرفهم قولي يمكن أساعدك!
ابتلع ريقه بتوتر شديد، فأزاح رباطة عنقه وبدأ يزيح حبات العرق المتصلب على جبينه، هامسًا بهلعٍ:
_دي خدعة عايزين يتخلصوا مني بعد ما اللي حصل.
تساءل بهدوءٍ وقد وصل لعتبة مبتغاه:
_حصل أيه؟
_آدهـــــم!
صوتها الانوثي تحرر مستغيثًا بمن يقف على بعدٍ منها، استدار آدهم وراكان للخلف فتفاجئوا بأحد الرجال يحمل سكين مصوبًا على رقبتها، وكان هو أول من استنجدت به بالرغم من وجود خطيبها المزعوم!!
ارتعب راكان حينما رأى مكانه قد كُشف لهؤلاء، فتراجع للخلف مستغلًا انشغال آدهم بما يحدث وهرول للاعمدة من جديد، بينما تقدم آدهم مشيرًا بيديه للرجل وبهدوء قال:
_دعها في الحال، سبق وأخبرت كبيركم بأنني سأعود بالسيد راكان، لذا من فضلك دعها ولا تؤذيها.
رفض الانصياع إليه وأشار للرجل القابع من جواره، فهرول للرصيف يستدعي كبير الحرس الذي عاد برفقة مجموعة من رجاله يراقب ما يحدث، فقال بضجر:
_أجدك تضيع وقتك في محاولاتك انقاذ تلك السيدة، وللعجب لم تعني للسيد راكان تركها واختبئ دون أن يهتم بها!
تمردت عين آدهم غضبًا، وكلما راقب نظراتها المذعورة وتوسلاتها إليه بإنقاذها رغم صمتها الشديد كان يكور قبضتيه بقوةٍ على وشك أن تفشل مخططاته للكشف عمن يفوق راكان قوة ومكانة داخل تلك المافيا اللعينة، ولكن حينما يتعلق الأمر بها فليذهب كل شيئًا للجحيم!
صوب إليه نظرة قوية، وبتحدٍ لم يكن حاضرًا من البداية قال:
_اخرس واسمعني جيدًا، إن أردت النجاة أنت ورجالك فأمره بتركها في الحال والا سأعد باقي جثمانك لرئيسك محمولًا بأكياس بلاستكية.
انفجر الرجل ضاحكًا وهو يتابع تجمهر رجاله حول ذاك الشجاع بأسلحتهم من جميع الاتجاهات، ومع ذلك يتفنن بالحديث، وقبل أن تنتهي ضحكته الساخرة وجد رجاله الخمس يقعون أرضًا حينما انحنى آدهم ممررًا ساقه بشكل دائري يلامس الارض فاصيب اقدامهم، وبلحظة أخرى جذب الاسلحة الملقاة أرضًا، ونهض يحدج من أمامه بنظرة واثقة ويده تتحرر على الزناد بشكل دائري مستهدفًا اقدامهم ليحول الصمت لصرخات مقبصة جعلت شمس تغلق عينيها صدمة ورعب من ذاك الذي تستنجد به!
تلاشت ضحكاته وتراجع خطوات أقرب للسقوط بهلعٍ حينما عاد السلاح يسلط على ضوءه الأحمر على جبينه، فاجلى آدهم صوته قائلًا:
_والآن ستستمع لي جيدًا، ستأمر ذاك الأرعن بتركها وإن لم تفعل ستعرف رصاصتي طريقها إليك.
ازدرد ريقه بصعوبة بالغة، فرفع اصبعيه يشير للاخر بترك السكين عن عنقها، وما أن فعل حتى هرولت شمس تختبئ خلف ظهر آدهم ويدها تشدد على جاكيته برعبٍ.
رفع كبير الحرس يده للاعلى استسلامًا للسلاح المنصوب أمامه، فترك رجاله الرصيف وهرولوا لبقعتهم فور سماع صوت الرصاص الحي، فأمرهم بذعر:
_تراجعوا سيقتلني!
وعاد يتطلع لنظرات تلك الشرس ثم قال ببسمة يرسمها بالكد:
_أرى أن تلك السيدة تعني لك أكثر من السيد راكان نفسه لذا هاك عرضي، ستغادر برفقتها بأمان ولتتركه لنا.
عند سماعه لتلك الكلمات تحرر الجرذ من مخبأه فخرج يشير لآدهم بخوف لا يعتلي سوى النساء:
_لا يا آدهم اوعى تسلمني ليهم، دول هيموتوني.
وزع آدهم نظراته الصامتة بينهما، يقع على عاتقه خيران كلاهما أبشع من الاخر، ما بين فشل مهمته المكلف بها منذ أشهر وذاك ليس بقاموس ملفه الثري بانجازه أي مهمة عمل بها، وما بين تلك الهزيلة التي تتشبث بجاكيته فتسري رعشتها لقلبه وكأنها تزلزل كل ذرة تمردت على الاعتراف بحبها داخله!
وفوق كل ذلك رأى قسمه الصريح بالا تتدخل عواطفه ومشاعره تجاه عملًا سيخدم الشعب المؤكل بحمايتهم، مازال يتذكر أخر شحنة من أدوية السكر والضغط كم خلفت عدد من الضحايا بسبب هؤلاء اللعناء فجعلته يتراجع عن منصبه السري بالجهاز ويختار السفر والعمل بذاته دون زرع رجالًا، والآن عليه الاختيار.
التقط نفسًا مطولًا وزفره على مهلٍ وهو يستعيد ثقته وشراسته بالحديث، فإن إلتمسوا ضعفه من المؤكد سينتهي الامر بثلاثتهم هنا، فقال:
_أنا من سيصدر الأمر هنا لذا إليك ما سيحدث، شمس هانم ستغادر الآن وسنذهب أنا والسيد راكان برفقتك وإن أرادت أن نخوض تلك الحرب لا مانع لدي ولكن قبل أن يخطو رجالك خطوة واحدة سأنتزع رأسك برصاصتي.
صرخ به راكان بصدمة:
_إنت بتقول أيه يا آدهم!
تجاهله وتابع وعينيه تشير لمكان الرصيف العلوي:
_فلنتظر خلفك… رجالي يحاوطون الجزء العلوي يترقبون اشارتي حينها ستصبح أنت ورجالك بعداد الموتى.
صمت الرجل قليلًا يفكر بالأمر من جميع الاتجاهات، فقال بهدوءٍ:
_حسنًا لك ذلك.
هز رأسه باستحسان وأمره:
_فلتخبر رجالك باخفاض أسلاحتهم.
أشار لهم بالفعل، فترك الجميع أسلحتهم وفي تلك اللحظة استدار آدهم لمن تتمسك به، فمنحها مفتاح سيارته وهو يشير لها بحزمٍ:
_خدي عربيتي وامشي من هنا حالًا يا شمس.
تناولت منه المفتاح بيد مرتجفه وعينيها الباكية لا تفارقه، فقالت بارتباكٍ:
_طب وإنت… وآآ إنتم!
صرخ بها بحدة وصرامة خشية من أن يطولها الأذى:
_امشي حالًا يا شمس ومترجعيش هنا، حالًا.
هزت رأسها وهي تهرول لخارج بقعتهم راكضًا حتى وصلت لسيارة آدهم، صعدت إليها وتحركت بها بعيدًا عن طريقهم تحت مرمى الانظار المتبادلة عليها، فما أن ابتعدت حتى تحدث كبيرهم:
_ها قد نفذنا ما أرادت، هيا لنذهب الآن.
استدار آدهم تجاه راكان الذي يحدجه بنظرات قاتلة، فصرخ بعصبية بالغة:
_إنت أكيد مجنون يا آدهم ازاي تعمل كده وكل ده ليه! ما تغور شمس في داهية إنت ناسي ان العلاقة دي كانت لشكلي العام بالطبقة المخملية، مش على حساب رقبتي يا آدهم!
أجابه بحكمة تجاهد لعدم اثارة ريبته:
_يا باشا افهمني، الناس دي شكلها مبتهزرش وبعدين أنا قولتلك اني قاريهم وقاري دماغهم، هما مش عايزين الأذية ليك، وبعدين ما أنا هكون معاك ومش هسيبك ولسه عند وعدي أفديك بروحي!
ابتلع ريقه بتوتر وهو يتطلع للسيارة التي بانتظارهما للصعود، وعاد يتطلع إليه ليخبره بخوف:
_الناس دي مبتهزرش يا آدهم وأكيد ممكن يتخلصوا مني خصوصًا بعد اللي حصل.
سأله مجددًا وهو يصعد جواره بالسيارة التي تحركت بهما على الفور:
_هو أيه اللي حصل، وأيه طبيعة الشغل اللي بينك وبين ناس خطيرة زي دي صارحني يا باشا علشان أقدر اساعدك؟
أجابه بتوترٍ:
_أنا هحكيلك على كل حاجة.
*****
دعواتها لم تكل أبدًا، يومين كانوا بمثابة عامين بالنسبة لها، تضرعت لربها طالبة برجاء الا يبتعد عنها، رغمًا عنها تجده الأمان والسكينة لها، رغمًا عنها تحتاج لدفء وجوده، والآن هل تتخيل وجوده لجوارها بهذا الوقت المتأخر!
نهضت فطيمة تحمل سجادتها، فاستدارت تجاه الصوت المحيط بها، فوجدته يجلس على المقعد يراقبها ببسمة هادئة، عاد لسانها يردد دون دارية منها:
_علي!
لأول مرة يستمع إسمه دون نسب أي ألقاب قبله، شعر بأن عاطفته تقذفه بمنطقة ستعد الاخطر لمشاعره على الاطلاق، فاستقام بوقفته قبالتها وببسمته الجذابة قال:
_علي المحظوظ اللي ربنا بعته في الوقت ده عشان يسمع بودنه دعواتك وحزنك على غيابي.
رمشت بارتباكٍ، فاتجهت لفراشها تضع السجادة على طرفه:
_آآ… أنا آآ..
لحق بها حتى بات خلفها، فاستدارت لتكن بمواجهته قائلة بحزن متعصب:
_جاي ليه يا دكتور، مش حضرتك سلمت حالتي لدكتور تاني؟
لم تزيح كلماتها ابتسامته، بل فاض بنبرته الحنونة:
_ولا عمري أقدر أعملها، أنا بقالي يومين مبجيش المستشفى.
أحمر وجهها حرجًا، فازدادت ربكتها وتهربت من لقائه مجددًا فاتجهت للشرفة تحيط عينيها الحديقة السفلية.
لحق بها علي، فاختار الوقوف على بعد مسافة آمنة منها وهو يحاول استكشاف معالمها حينما يقول:
_جيت من شوية أستأذن من المدير لاني مش هعرف أجي الفترة الجاية.
فور نطقه بما قال إلتفتت إليه سريعًا بلهفةٍ جعلت عينيها تلمع، فرددت بصوتٍ متحشرج:
_ليه؟
يعلم بأنها مازالت تحارب ذاتها، مازالت تكابر مانعة أن تفرض عليه معاناة قد اختصت هي بها، ولكن الأمر لن يزيده الا اصرارًا، فقال:
_أخويا تعبان ومحتاجني جنبه.
واتجه للاريكة القريبة، يحتلها وعينيه لا تفارقها:
_فقولت أعدي عليكي قبل ما أرجع البيت.
هزت رأسها بتفهمٍ رغم دموعها المتدفقة والتي تحاول جاهدة إخفاءها، فتحرر صوتها يفضح بكائها:
_يعني حضرتك مش راجع المستشفى تاني؟
صمت قليلًا يفكر بما قدمه له أخيه دون أن يعلم، فأخفى ابتسامته الخبيثة وهو يجيبها:
_لا مش هرجع غير لما يرجع يقف على رجله من تاني والله أعلم ده هيحصل أمته!
اهتز صوتها الذي يجاهد بخروجه كخروج روحها:
_ربنا يشفيه ويطمنك عليه.
انحنى يجذب المقعد القريب منه ليضعه مقابله، ثم أشار لها:
_اقعدي يا فطيمة.
عبثت بحجاب اسدالها الطويل بارتباكٍ، ومع ذلك مضت لتجلس قبالته، لتجده يتطلع لها بصمتٍ ثم قال:
_ليه بتكابري يا فاطيما، قلبك ملان بالحب وعيونك فضحاكِ، ليه مصرة تلوثي أفكارك بكلام مالوش أي منطق، أنا اللي اختارتك وأنا اللي طلبتك للجواز وأكيد مخدتش القرار ده في يوم وليلة… أنا عارف أنا عايز أيه كويس واللي عايزه هو إنتِ.
كادت بالحديث فعارضها حينما احتدت نبرة صوته:
_مفيش حد أدرى بحالتك أكتر مني يا فاطيما فأنا عارف كويس اللي حصل واللي بيحصلك، عارف وراضي ومستعد أحارب معاكِ لحد ما تستعيدي نفسك من تاني.
أخفضت عينيها عنه فبكت بصوت وصل لمسمعه فمزقه بنجاح لم تتعمده هي، فهمست بخفوت:
_مالكش ذنب تخوض معايا الرحلة دي، صدقني هتندم، أنت تستحق بنت كويسة وتكون آ..
انتصب بوقفته يصرخ بوجهها بعصبية جعلتها ترتد للخلف بخوف:
_مش أنت اللي هتكرري المناسب ليا يا فاطيما، أنا مش عيل صغير وواعي لاختياري، أنا مستني منك كلمة واحدة وصدقيني عمري ما هندم ولا هديكي فرصة إنك تندمي.
واستكمل بوجعٍ قاطع:
_فاطيما أنا بحبك وعايزك ومتقبلك زي ما أنتِ حتى من قبل ما أعالجك.
جز على أسنانه بغيظٍ من صراخه، فعاد يتحدث بهدوءٍ وعقلانية:
_أنا مش عايز أضغط عليكي عشان كده اعتبري فترة غيابي عن المستشفى هدنة كويسة للتفكير.
ومنحها بسمة صغيرة تكبت الآلآم البادية برمادية عينيه:
_تصبحي على خير يا فطيمة.
وإتجه ليغادر المشفى بانكسار يحتل معالمه حينما فشل مرة أخرى بأن تتقبله، فاتجه لباب غرفتها حرره ووقف على عتبته يراقبها على أمل أن تستدير إليه وتخبره موافقتها، ولكن ازداد ألمه حينما وجدها مازالت تجلس على المقعد ساهمة بالفراغ من أمامها، فقال برجاءٍ إلتمسته بنبرته الحزينة:
_خلي بالك من نفسك.
وغادر للمصعد على الفور، فاستند على المرآة الداخلية للمصعد وضرب بقبضته الجانب المعدني مرددًا بغيظٍ:
_ليه!!
ابتعد وهو ينظم تنفسه تدريجيًا، لم يعتاد رؤية انهياره، اعتاد بأن يلتحف بالقوة والثبات، فجذب نظارته الطبية يرتديها مرة أخرى بعدما فرك عينيه المتألمة، وفور توقف المصعد خرج ليجد الطقس قد ازداد سوءًا، فبدءت الأمطار تهبط بقوتها المعتادة، أسرع علي تجاه الچراچ يستقل سيارته، فخرج بها متفاديًا رزاز الامطار بمساحة السيارة الأمامية.
وقف قبالة مبنى المشفى يترقب أن تخف حدة الأمطار ليتمكن من القيادة، فمال بجسده على الدريكسون بتعبٍ.
فزاحمه ببقعة أحزانه صوتًا خافتًا على نافذته الزجاجية، اعتدل علي بجلسته يحاول رؤية من بالخارج، فلم يستطيع من تزاحم مياه الأمطار، فأخفض النافذة الزجاجية حتى تسنى له رؤية من بالخارج.
_فاطيما!
تراقص لسانه بنطق حروف إسمها، فابتسم حتى أدمعت عينيه تأثرًا برؤيتها باكية من أمامه، وعلى ما بدى من اهتزاز صدرها وإلتقاط أنفاسها بأنها ركضت للأسفل بسرعة أرهقتها.
فتح باب سيارته وهبط يقف قبالتها والامطار تعصف بأجسادهما، وعينيه لا تحيد عن المياه التي تتسلل على عينيها فامتزجت بدمعاتها، فقدت قدرتها على الحديث، فلا تعلم بماذا ستخبره لذا أثرت الصمت ودموعها لا تتوقف.
توقف الزمان من حولهما ولم يبقى سواهما، الجميع يختبئ من غضب المياه عداهما، الحب يمنح أجسادهما طاقة غريبة لتواجهه بعسليتها والآخر برماديته الداكنة، وفجأة وجدته يبتسم وهو يرنو لها وصوته الرخيم يرفرف فرحة:
_أوعدك إنك عمرك ما هتندمي على قرارك ده يا فاطيما، هحطك جوه عيوني وهعوضك عن كل ثانية اتوجعتي فيها، مش هعاملك كزوجة هعاملك زي الملكة طلباتك مجابة وأوامر، دموعك دي مش هتكونلها مكان على وشك من النهاردة.. أوعدك!
ورفع اصبعه للسماء مسترسلًا:
_السما مفتوحة ووعدي ليكِ دين في رقبتي لأخر العمر.
خفق قلبها بقوةٍ وكأن انذار خطر مشاعرها وصل بها لأبعد نقطة، فأخفضت عينيها على استحياءٍ، وخاصة حينما نزع عنه جاكيته ودنى ليرفعه على حجابها ليحجب عنها المياه التي أغرقت اسدال صلاتها الرقيق، فتحرك بها حتى وصل لمقعد السيارة الجانبي إليه.
لعقت شفتيها وهي توزع نظراتها بينه وبين السيارة بتوتر، لا تعلم ماذا ستفعل؟
مازالت تشعر بالريبة من البقاء برفقة أي بشر يحمل جنس “ذكر”، وبالرغم من الأمان الذي يتسرب لها بوجود علي ولكن لم يتخطى تلك الدرجة التي تهيأها للصعود برفقته بالسيارة والذهاب لمكان سيجمعهما بالتأكيد!
طالت بوقفتها ومازالت تحاول اخفاء ما يعتلي أفكارها، لا تعلم بأنه كطبيب يدرس حالتها بشكل أكبر احتمالية بزواجها من شخصٍ عادي، فقال ببسمة هادئة:
_متخافيش احنا هنخرج من هنا على أقرب مطعم، هنتكلم وهناك هتقابلي حد من العيلة كان نفسها تشوفك أوي.
بالرغم من الفضول الذي انتباها لمعرفة هذا الشخص الا أنها اكتفت بهزة رأسها وصعدت للمقعد، يكفيها عشرتها الطويلة له، علي لن يغدر بها أبدًا، ليس كباقي الرجال المستذئبون، هكذا طمنت ذاتها حتى هدأت تمامًا.
أغلق علي باب السيارة واستكان بالبعد عنها، رأته فطيمة يتحدث عبر الهاتف والسعادة تتقاذف من وجهه وعلى ما بدى لها بأنه يقص موافقتها لنفس الشخص الذي ستلقاه بعد قليل!
*****
سعدت للغاية لسماعها هذا الخبر المفرح، فقالت بسعادة:
_ربنا يفرح قلبك يا علي انت طيب وتستاهل كل خير، أنا هلبس وهجيلك حالًا وهجبلك مفتاح شقة بابا تقعد فيه لحد ما تشوف هتعمل أيه مع فريدة هانم.
وتابعت بصدق نابع من داخلها:
_والله أنا لولا حالة عمران كنت جيت قعدت معاها بنفسي..
استمعت لما قال وأغلقت مايسان الهاتف بسعادة، فاستدارت لتجده مازال غافلًا، فخرجت لغرفتها واتجهت للخزانة تجذب ملابسها وترتديها مسرعة، وقبل أن تهبط للأسفل اتجهت بحرج لاحد الغرف، فطرقت على بابها وترقبت أن يُفتح بابها.
فتح أحمد الباب وهو يجاهد لفتح عينيه بنومٍ، فردد بلهفة:
_مايا! عمران كويس؟!
أشارت له تطمنه:
_كويس الحمد لله، أنا بعتذر أني أزعجت حضرتك بس جالي مشوار مهم ولازم أنزل وقلقانه أسيبه لوحده، لو ممكن حضرتك تبقى تبص عليه.
أغلق مئزره جيدًا وخرج يغلق باب غرفته مرددًا بقلقٍ:
_مشوار في الوقت المتأخر ده!
أجابته سريعًا وهي تتفحص ساعة يدها:
_الساعة 11 مش متأخر أوي.
وتابعت بتوضيح:
_أنا مش هتأخر، وهرجع مع علي.
هز رأسه بهدوء فلم يريد أن يتطفل لمشوارها الذي لم تخبره عنه، وتوجه لغرفة عمران قائلًا ببسمته الهادئة:
_روحي مشوارك وأنا هنام جنبه النهاردة.
منحته بسمة مشرقة وهي ترد عليه:
_شكرًا يا عمي.. عن إذنك.
أشار لها بنفس ابتسامته وولج لغرفة عمران ليتمدد جوار بتعب ينتابه لعدم راحته بعد رحلة سفره المرهقة من مصر لانجلترا.
بينما بالغرفة القريبة منه.
مازالت تحاول الوصول لابنتها، فالوقت تأخر للغاية ولم تعد بعد، ألقت فريدة الهاتف من يدها بغضبٍ، وصفقت يد بالأخرى وهي تردد بغيظٍ:
_أتاخرت ليه لحد دلوقتي!
وزفرت بضيقٍ وهي تحاول تخمين سبب تأخيرها الغريب، فاتجهت لغرفة علي عساه يتمكن من الاتصال بها أو براكان، فتفاجئت بالظلام يبتلع الغرفة، حتى فراشه كان مرتبًا بطريقة أوحت لها بأنه مازال بالخارج، فلم تجد السبيل سوى اللجوء لابنه الاصغر.
اتجهت فريدة لغرفة ابنها، فولجت للداخل بعدما فعلت أنارة الغرفة، كادت بايقاظه ولكنه توقفت محلها بصدمةٍ حينما وجدته يتمدد جوار إبنها، ارتبكت بوقفتها وتراجعت بضعة خطوات للخلف، كأنها تود الهروب للخارج لتحجب عينيها عن التطلع لملامحه الوسيمة، انتظام أنفاسه وهدوئه الشديد، تود أن تكتم صدى صوت قلبها الذي يود القفز عن أضلعها.
لوهلة تخيلته زوجها ومن جوار ابنهما! ، ولكن الحقيقة حتمًا موجعة، وأكثر ما ألمها طوال تلك السنوات وراثة ابنائها الشباب لون العين الرمادي بالرغم من أن زوجها لم يكن كذلك، فكلما ردد أحدٌ أمامها بأنهم يحملون نفس لون عين عمهم كانت تشتعل غضبًا، كانت أحيانًا لا ترغب بتأمل علي وعمران فكلما رأتهم تذكرته قبالتها!
ابتلعت فريدة ريقها واستعادت ثباتها، فوقفت أمام المرآة تتأكد من انهدام مئزرها الذي يخفي بيجامة نومها الخفيفة جيدًا حتى إن استيقظ جراء ايقاظها لعمران تكون محتشمة أمامه.
واتجهت تهز صدر ابنها منادية بخفة:
_عمران.
تململ بمنامته على هزة يدها الخافتة، همهم بانزعاجٍ:
_ممم…
رفعت من صوتها قليلًا:
_فوق يا عمران.
فتح أحمد عينيه ليتفاجئ بها تحاول إيقاظ عمران، فجلس باستقامة قائلًا بنومٍ:
_فريدة! في حاجة ولا أيه؟
تحاشت التطلع إليه وقالت بنبرة واجمة:
_مفيش شمس كانت مع خطيبها واتاخرت بالرجوع، هخلي عمران يتصل بيه ويشوف اتاخروا ليه؟
راقب برودتها بالتعامل معه بهدوء، وقال بضيق وهو يراقب عودتها لتحريك عمران:
_طيب براحة على الولد، أنا هصحيه.
وبالفعل ناداه أحمد برفقٍ حتى استجاب إليه فعاونه على الجلوس بوضع وسادة خلفه، فردد باستغراب:
_عمي حضرتك كنت جنبي!! أمال فين مايا أنا قبل ما أنام كانت جنبي هنا!
بدى مرتبكًا لا يعلم ماذا يخبره، فقال بتلعثم:
_هتلاقيها في أوضتها!
ردت فريدة بقلق:
_لا مش في أوضتها أنا لسه جاية من عندها.
انتفض عمران بفزعٍ:
_مش معقول تكون سابتني كده وهربت على مصر زي ما كانت عايزة تعمل قبل كده!!
حينما تطور الأمر، قال نافيًا:
_لا يا عمران هي آآ…
تطلعت إليه لتهاتفه بحدة:
_مخبي أيه يا أحمد!
زفر بضيق لحق نبرته:
_بصراحة مايا جتلي وقالتلي أخد بالي من عمران لانها عندها مشوار مهم.
نهضت عن الفراش تصيح بغضب:
_مشوار مهم فين بالوقت ده!
أجابها بهدوء:
_معرفش بس قالتلي هرجع مع علي!
ضمت يدها لرأسها وصرخت بانفعال:
_هو في أيه بالبيت ده، شمس لسه مرجعتش لغاية دلوقتي ومايا محدش عارف راحت فين وازاي هترجع مع علي وعلي مرجعش البيت لحد دلوقتي!!
اعتدل عمران بجلسته بصعوبة وهو يتساءل بدهشة:
_شمس مرجعتش لسه!
أكدت له وهي تستعيد مطلبها الرئيسي:
_اتصل براكان واساله، لانه مش بيرد عليا وتليفون شمس مقفول.
والتقطت أنفاسها بعنف وهي تستطرد:
_أنا هيجرالي حاجة.
نهض أحمد واتجه أليها بخوف:
_طيب اهدي بس مفيش حاجة هتتحل بشدة أعصابك دي.
وأشار لعمران قائلًا:
_اتصل الأول براكان وبعد كده نشوف مايا.
هز رأسه وجذب هاتفه يحاول الوصول لراكان، وبالرغم من رنين هاتفه الا أنه لم يجيبه من الاساس، فأعاد الاتصال به وحينما لم يجيبه اتصل بآدهم ولكن دون جدوى، فألقى الهاتف جواره وهو يردد بغضب:
_مبيردش لا هو ولا الحارس بتاعه.
تجرد عنها ثباتها الصارم وصاحت برعب:
_يعني أيه، بنتي راحت فين؟!!
رد عليها أحمد وهو يجذب مئزره الشتوي على الفراش يرتديه:
_أنا هروح لراكان البيت أشوف في أيه وهبقى أبلغكم.
وتركهما وهرول للخارج فلحقت به فريدة تجيبه بتوتر شملها:
_أنا كمان هغير هدومي وهجي معاك.
أجابها بعدما وصل لغرفته:
_مفيش داعي يا فريدة خليكي انتي جنب عمران وأنا لو وصلت لشيء هبلغك.
هزت رأسها بهدوء وقالت برجاء:
_بسرعة يا أحمد من فضلك، قلبي هيقف من الخوف عليها.
إلتفت إليها وقد ألمته كلماتها فقال تلقائيًا:
_سلامة قلبك.
ارتبكت للغاية، فتنحنحت وهي تشير على باب غرفة ابنها:
_آآ… هشوف عمران.
أومأ برأسه ببسمة جذابة، فأغلق الباب من خلفها وشرع بتبديل ملابسه ليغادر سريعًا.
*****
انتابها عذاب من جحيم، فأجج لها ضميرها صورًا مقبضة لما سيحدث، وخاصة بعد تضحية آدهم ليفديها من موتة كانت واشيكة في حين ذاك الاحمق كان يختبئ خوفًا على ذاته، ولتكن صادقة لم يعنيها أمره كثيرًا بل كانت تتمنى لو تخلصوا منه.
خوفها كان ينبع تجاه ذاك الحارس، بطل أحداث قصتها التي يسترسلها القلم كلما تلاقت به، منذ بداية ظهوره بحياتها وهو ملاكها الحارس، كل موقف احتاجت المساعدة كان هو أول من قدم لها العون لدرجة جعلتها تتمناه أن يكون خطيبها عوضًا عن ذاك الجبان، لذا أعادت اتجاه السيارة لتلحق بهم بحذرٍ، وها هي الآن تقف على بعد قريب من المكان الذي دلف إليه راكان وآدهم وهؤلاء الرجال، ولا تعلم ما الذي ينبغي عليها فعله بالتحديد، فجذبت هاتفها لتبلغ الشرطة بالأمر، ولكنها تفاجئت بهاتفها نفذ شحنه وأصبح دون جدوى!
*******
قيدوه على المقعد البعيد عن مرمى اجتماعهم، بينما جلس راكان على أحد المقاعد المقابلة لذاك الذي يرتشف من النبيذ الأحمر بتلذذ وكأنه لا يعنيه ارتكاب مثل تلك المحرمات، فنفث دخانه غليونه باستمتاعٍ يجوبه بنظراته تجاه ذاك الذي على وشك البكاء من فرط الخوف، فقال بسخرية:
_إن كانت تخشاني لتلك الدرجة لما قمت بتجاهل طلبي بلقائك بوقاحة!
ابتلع راكان ريقه بصعوبة وهو يجاهد لخروج كلماته:
_سامحني سيدي، خشيت أن تعاقبني على ما حدث بمصر.
وأخذ يبرر لنفسه سريعًا:
_أنا لا ذنب لي بما حدث، هناك ظابط مصري يعبث خلفنا وينصب شباكه لنا.
منحه نظرة قاتلة قبل أن يهدر بانفعال:
_هل نسيت ما وكلتك به، أنت مسؤول عن توصيل تلك البضاعة من الميناء، وبدالًا من القيام بعملك تجلس وتخبرني ترهات ستجعلني أقتلك بيدي بأي لحظة.
ارتعب لمجرد سماعه تهديده، فهرع لمقعده يجلس على قدمه وهو يقبل يده بذل جعل آدهم يمقته بنظرة مستحقرة:
_لا سيدي أرجوك لا تفعلها، أعدك بأنها لن تتكرر مجددًا.
تابعه بنظرة انتشاء، فنفث دخانه بوجهه وهو يشير له ببرودة:
_حسنًا سأمهلك فرصة أخيرة، وإن فشلت سأنحر عنقك بنفسي!
هز رأسه بعشوائية وكأنه لا يصدق بأنه وجد فرصة صريحة للبقاء على قيد الحياة، فنهض “ماريو” عن مقعده تاركه مازال ينحني إليه، ثم خطى لأخر القاعة ليقف قبالة آدهم المقيد على المقعد، فابتسم بتسلية وهو يشير باستهانة:
_هل هذا الذي وُكلته بحمايتك! أراه عاجزًا عن حماية نفسه حتى!
ضحك آدهم بصوته الرجولي مما جعل ابتسامة ماريو تتلاشى باستغراب، وخاصة حينما قال:
_أنا الآن أحترم النقاش المتبادل بين رئيسي وبينك لذا أجلس هنا بهدوء، وإن منحني الآذن حينها لن يروق لك الأمر!
احتدت نظراته تجاهه وخاصة حينما قال باستهزاء:
_لست من النوعية التي تنحني لأحدٌ بحياتها قط.
تحرر صوته المتعصب مناديًا:
_راكان.
هرع إليه مرددًت ورأسه ينحني في طاعة:
_سيدي.
قال ساخرًا ومازالت عينيه تراقب ذاك الشرس:
_امنحه الآذن لنرى ما لديه وهو مقيدًا هكذا!
سحب نظرة محذرة تجاه آدهم الذي لم يراه من الاساس فمازال يناطح ذاك الواقف قبالته، تاركًا زر جاكيته يسجل بكاميرته الخفية وجهه جيدًا للسلطات.
طال الصمت فصرخ ماريو بتعصب:
_هيا أمره بذلك الآن.
تحرر صوته المرتجف قائلًا لآدهم:
_ لك ذلك.
اتسعت ابتسامته الماكرة، فرفع جسده للأعلى بعنفٍ جعله يترنح للخلف فانخلعت مقدمة المقعد، فأخفض الحبل من أسفل ليفك وثاقه بشكلٍ فاجئ من يقف أمامه.
أخرج رجاله أسلحتهم وأحاطوا آدهم الواقف بثقة يتابع من أمامه، بينما ردد كبير حرس ماريو بتوتر:
_احترس سيدي هذا الرجل خطيرًا للغاية، أسقط أربعة من رجالنا وكاد باستكمال فعلته وكأنه لم يفعل شيئًا!
ابتسم آدهم وردد باستهزاء:
_ايوه زي ما سمعت من أختك كده احترس عشان محزمش وسطك بطرحة!
ضيق حاجبيه بعدم فهم:
_ماذا قال للتو؟
ازداد توتر راكان وصاح به:
_آدهم هيقتلونا مكانا اهدى!
تجاهله للمرة الثانية وقام بترجمة ما قال:
_أخبرتك بأن تنتبه لنصيحة رجلك الشهم وتحترس غضبي،وأنا أعدك الا أتركك وحيدًا بقبرك الذي سأصنعه لك، سأضع رجالك معك ليكونوا ونسًا لك، وحينها ستتذكر شهامة المصريين وكرمهم!
ابتسم ماريو وهو يتابعه بإعجاب انقلب إليه بعدما كان متعصبًا، فدنى منه وهو يقف بنظرة ذات مغزى:
_اسمع يا فتى، سأعقد معك صفقة لن تكرر مطلقًا، إن قتلت رجالي ستصبح الرجل الأقرب لي، سأحيطك بالمال وكل ما تريد.
جحظت أعين رجاله بصدمة، مما يستمعون إليه حتى راكان نفسه.
اقترب آدهم المسافة المتبقية بينهما ليردد بنظرة تحدي:
_لست فتى، أنا رجلًا سيحرص أن يلقنك أنت ورجالك دروسًا عن رجولة وشهامة العرب.
واسترسل ببسمة ماكرة:
_أما عن عرضك السخي فأنا أقبل نصفه الأول، لم أكن عبدًا لصبيك حتى أصبح عبدًا لك.
وفور انتهائه من حديثه اشتبك معهم على الفور، تاركًا راكان يفتح فاهه صدمة بينما يراقبه ماريو ببسمة تسلية، فدنى الاخير منه يهمس له:
_سيدي أرجوك أوقفه سيقتل رجالك!
قال بعدم مبالاة وهو يشعل غليونه:
_لا أريد رجالًا ضعفاء أمثالهم.
واستدار بوجهه إليه يخبره ببسمته:
_عليا الاعتراف إنك قمت باختيار الرجل الصحيح لحمايتك أيها الوغد!
******
كانت تحيط الناس من حولها بنظرة مرتبكة، بالرغم من أن المكان لم يكن بالمزدحم، فحاولت اخفاء توترها بتناول الشاي الساخن الموضوع من أمامها تهربًا من نظرات علي المبتسم إليها، وفجأة تسلل لمسمعها صوت أنثوي يردد بحماسٍ:
_علي.
كانت فتاة على ما بدى لها بأوائل العشرين من عمرها، ترتدي فستانًا بسيطًا من اللون الأسود فضفاض، على حجابًا من اللون الأزرق، وجهها بشوش بقدر جعلها تبتسم وهي تراقبها.
اتجهت نظرات مايسان لها، فتساءلت باهتمامٍ:
_دي فاطمة صح؟
أجابها علي ببسمة حب لمن تقف قبالتهما:
_ناديها فطيمة.
قدمت يدها في دعوة ترحاب لها:
_كان نفسي أتعرف عليكي من زمان يا فاطيما، أنا مايسان.
هزت رأسها وهي لا تجيد اجابتها من شدة ارتباكها، فأشار لها علي:
_مايسان تبقى بنت خالتي ومرات أخويا الصغير يا فطيمة.
تحرر صوتها أخيرًا:
_أهلًا بيكِ.
سحبت المقعد المجاور لها وجلست جوارها، تخبرها بلطفٍ:
_ما شاء الله قمر، أنا قولت كده بردو إن مش أي بنت توقع دكتور علي.
تعالت ضحكاته الرجولية لتصل كلماته لها:
_أيوه ادخلي علينا بحواراتك، ده اللي بأخده منك.
واستطرد بجدية:
_قوليلي يا مايا ماما سألتك راحه فين؟
ردت عليه ببسمة فخر:
_محدش شافني وأنا جاية غير أنكل أحمد.
عبثت معالمه ضيقًا،متسائلًا:
_وعمران!
أكدت له باشارة رأسها، فقال بتذمر:
_مكنش ينفع تنزلي بالوقت ده من غير ما تستأذنيه يا مايا!
راقبت فطيمة حوارهما باهتمام، فاجابته مايسان:
_كان نايم يا علي وإنت عارف إنه مكنش بيعرف ينام بالمستشفى فمحبتش أقلقه لكن لما هرجع ان شاء الله هقوله .
أماء برأسه وسألها بجدية:
_جبتي المفتاح؟
أخرجته من حقيبة يدها قائلة:
_عيب يا دوك ودي حاجة تتنسي!
وقف علي يشير لهم وهو يضع مبلغًا من المال على الطاولة:
_طيب يلا نتحرك لإن الوقت أتاخر.
أمسكت مايسان يد فطيمة وخطت جوارها تتهامسان بصوتٍ منخفض، بينما صعد علي بمقعد القيادة يترقب صعودهم بالخلف، ليتحرك بهم للمبنى، بينما يهاتف مدير المشفى لأمر فطيمة حتى لا تحول المشفى للهلاك ظنًا من إنها هربت منها، فأخبره بأنه سيتزوج بها وسيقوم بعلاجها بنفسه، فلم يواجه صعوبات بذلك لتكفله أمرها كاملًا بأمرٍ من “مراد زيدان” شخصيًا.
*******
راقب رجاله الملقون أرضًا ببسمة شيطانية مخيفة، ورفع حدقتيه له يحاول استمالته للمرة الأخيرة:
_متأكدًا من رفضك للعمل معي.
رمقه بنظرة ساخطة قبل أن ينحني ليجذب جاكيته الملقي أرضـًا ثم اتجه لراكان يسأله بنفور:
_هتيجي معايا ولا هتخليك مع فرقع لوز ده.
رفع راكان عينيه لسيده، فسأله بتوتر:
_سأغادر يا سيدي، هل من أمرًا أخر؟
تركهما واتجه لمكتبه فجلس باسترخاء قائلًا:
_دعه يغادر بمفرده ولتبقى هنا أريدك بأمرٍ هام لا أريد لأحدٍ سماعه غيرك.
حدجهما آدهم بسخرية لحقت نبرته:
_وكأنني أهتم!!
وغادر وهو يستطرد لراكان:
_هبعتلك فؤاد ياخدك أو يمكن فرقع لوز اللي جنبك ده يوصلك لإن تقريبًا رجالته بح!
وغادر وابتسامة المكر تحيط به، تعلم أن يسبق عدوه بخطوة، فتوقع أن يطالبه ماريو بالمغادرة لينقاش أمر الشحنة القادمة مع راكان بمفردهما لذا كان الأسراع حينما تصنع انحناء جسده ليجذب جاكيته الملقي أرضًا وقام بزرعة جهاز التصنت بمعدن الطاولة القريبة منه.
أطلق صفيرًا مستمتعًا وهو يرتدي جاكيته ويحرك كتفيه بانتشاء، فخرج من المبنى يبحث بعينيه عن وسيلة مواصلات تعاونه على العودة لفيلا راكان حيث يقطن، وإذ فجأة يعلو صوتًا يناديه كان سهلًا بالتعارف عليه
_آدهــــــــــم.
استدار للخلف وهو يقنع ذاته بأنه يتوهم سماعه، برق بحدقتيه صدمة حينما هبطت شمس من سيارته وركضت تجاهه، فالتفت حوله يراقب أن رآها أحدًا، وهم إليها يصرخ بعصبية:
_شمس إنتِ بتعملي أيه هنا؟ أنا مش طلبت منك ترجعي البيت!
انهمرت دمعاتها المعاكسة للابتسامة الواسعة على شفتيها، فسألته بلهفة وكأنها لم تستمع لاسئلته:
_إنت كويس؟
راقبها بدهشةٍ، فتابعت بحيرة مما ستخبره به بتشتتٍ:
_أنا مقدرتش أمشي، فمشيت وراكم وفضلت هنا مش عارفة أعمل أيه؟
ورفعت هاتفها إليه كأنها تشكو له:
_حتى موبيلي فصل شحن معرفتش أكلم الشرطة ولا أعمل أي حاجة.
منحها ابتسامة تعمقت داخلها، وقال بصوته الرخيم:
_ممكن تهدي طيب.
وتابع وعينيه تشير على المبنى المجاور له:
_متقلقيش راكان كويس، كان سوء تفاهم وراح لحاله.
زوت حاجبها لتتمرد بعصبية شبيهة للجنون:
_ما يولع الجبان القذر.. مستخبي شبه الستات وسايبهم يخطفوني وهو مش همه غير نفسه وبس.
راق له تعصبها وبالرغم من قراءته لمشاعرها بوضوحٍ، الا أنه ادعى الفضيلة:
_طيب راجعه تاني ومعرضة نفسك للخطر ليه وهو مش فارق معاكي!
أزاحت دموعها بغيظٍ من طريقته، تعلم بأنه يود أن ترددها صريحة، ولكنها مشتتة لا تعلم ماذا تفعل، وبالرغم من أنه لا يربطها براكان سوى خطبة الا أنها أحيانًا تشعر بالذنب لمجرد تفكيرها بآدهم، فيزيد من أمورها هو الآن!
ألقت شمس مفاتيح السيارة إليه وقالت بغضب وهي تبتعد عنه:
_أنا غلطانه إني رجعت عشان خايفة عليك، خد مفاتيحك أهي أنا ماشية.
التقط المفاتيح وهرول خلفها يناديها ضاحكًا:
_طب استني طيب هوصلك، الحتة هنا غريبة عنك.
اكملت طريقها دون أن تستدير إليه:
_مالكش دعوة بيا ارجع للباشا بتاعك.
راقبها آدهم ببسمة جذابة، فصعد لسيارته وقادها حتى بات يقودها بنفس مستوى خطاها، فقال وهو يراقب الطريق بحذر:
_شمس بطلي جنان وإركبي.
لم تعيره انتباهًا واستكملت طريقها بخطوات سريعة، متعصبة، وكأنها ستتمكن من الفرار منه، فأسرع من قيادته قائلًا:
_خلينا نتكلم من فضلك.
رفضت الانصياع إليه فزفر بنفاذ صبر، وقاد السيارة ليكسر الطريق من أمامها، ففتح الباب المجاور لها مهددًا إياها بصرامة:
_هتركبي ولا أنزل أشيلك وأدخلك العربية بالعافية.
بللت شفتيها بلعابها وهي تتفحص الطريق المظلم من حولها بخوفٍ، وبالنهاية انصاعت إليه وولجت للسيارة تجلس جواره، فابتسم وعاد للقيادة بصمت.
كظمت غضبها بصعوبة، تود البقاء ساكنة أطول فترة ممكنة ومازال الأخير يراقبها ببسمة تسلية، فقال:
_اتكلمي باللي عايزة تقوليه بدل ما يجرالك حاجة من الغيظ اللي جواكِ ده!
اتجهت بجسدها إليه وقالت بتوتر:
_آدهم أنا بقيت متأكدة إن راكان ده شمال، وخصوصًا بعد اللي حصل النهاردة.
ترك مراقبة الطريق وتطلع إليها:
_أنا حذرتك قبل كده وقولتلك إبعدي عنه.
تجهمت معالمها، وفاهت:
_ماما مش مقتنعة غير إنه شخص مناسب ليا وأنا بحاول أقنعها بس أعتقد بعد اللي حصل النهاردة ده هتغير رأيها.
ترقب لوهلة قبل أن يخبرها:
_مفيش داعي يا شمس، متقوليش حاجة، قريب جدًا والدتك هتقتنع جدًا، لإن راكان هيكون انتهى خلاص.
زوت حاجبيها باستغرابٍ:
_تقصد أيه؟
وبدى عقلها يعمل سريعًا، فرددت:
_هتقتله!
قهقه ضاحكًا، وأضاف مازحًا:
_لو إنتِ بتكرهيه أوي كده عيوني هخلص عليه.
شملها الحزن والألم،فقالت باصرار وغضب ثائر:
_نزلني، وقف العربية.
وزع نظراته بينها وبين الطريق:
_أيه اللي حصل بس؟!
صرخت بعنف وكادت بفتح باب السيارة وهو ينطلق بسرعته القصوى:
_بقولك وقف العربية والا هحدف نفسي.
أمسك راسخها وثبته جيدًا ويده الاخرى تهدأ من سرعته قائلًا:
_طيب طيب اهدي، هركن على جنب.
وبالفعل هدأت سرعة السيارة حتى وقفت تمامًا، فاستدارت تجاهه تخبره قبل هبوطها:
_أنا هتوقع أيه منك، ما أنت بتشتغل معاه يعني أكيد إنت شبهه في كل شيء.
وهبطت لتجده يسرع خلفها فسد طريقها وهو يقول:
_أنا مش شبهه ولا عمري هكون شبهه يا شمس.
ارتبكت من قربه منها، فتراجعت للخلف وهي تردد بخفوت:
_من فضلك سبني أمشي، أنا مبقتش قادرة لكل ده، الظاهر إني كنت غلط لما قبلت بالخطوبة دي وغلطت لتاني مرة لما حبيتك.
ابتسم ومازال يدنو منها ليوقفها عن الهرب للطريق، فقال:
_غلطي فعلًا، بس حبك ليا مكنش غلطة.
ابتلعت ريقها بارتباك، فتراجعت بظهرها للخلف وهي تهز رأسها برفض:
_لا غلطة وغلطة كبيرة كمان، إنت مجرم زيك زيه يا آدهم.
وبتوتر قالت:
_آآ.. أنا شوفتك وإنت بتضربهم بالنار إنت انسان مش طبيعي… آآ.. أنت مجرم.
قالت كلماتها الاخيرة وكادت بالركض فجذبها بقوة جعلتها تصطدم بالسيارة من خلفها، لتنحول نظراتها إليه بهلعٍ جعلته يعيد خصلاته المتمردة للخلف بغضب، فسيطر بصعوبة على أعصابه وهو يراها تتأمله بخوف ويدها تحتضن حقيبتها، فهمس لها:
_شمس أنا ظابط مش مجرم.
برقت بعينيها بدهشة، فتابع قائلًا:
_أنا هنا عشان أقبض على راكان الكلب واللي وراه وإني أكشف هويتي الحقيقية لحد دي ليها عقوبة وبالرغم من كده ارتكبتها عشان مشوفش النظرة دي في عيونك.
وإتجه يفتح باب سيارته بهدوءٍ رغم سخرية نبرته؛
_هتركبي ولا أطلعلك جواز سفري عشان تتأكدي!
تطلعت له بصدمة، وتحركت بآلية تامة للمقعد مجددًا، فصعد جوارها يقود والغضب لخيانة مهام عمله يجوب على معالمه، من لم يستطيع كشفه أتت تلك الفتاة وفعلتها!!
شعرت شمس بأنه على وشك الانفجار بأي لحظة، وبالرغم من ذلك لم تتراجع عن سؤاله:
_هو راكان بيتأجر في أيه؟
منحها نظرة خاطفة قبل أن يعود لتأمل طريقه صامتًا من جديد، فعادت تسأله:
_سلاح ولا مخدرات؟
زفر بنفاذ صبر، فلكم المقبض وهو يصيح:
_يا بنتي اتقي الله متعودتش أسرب أسرار الشغل، دي كده خيانة!
منعت تلك الابتسامة من السطوع، وقالت ببراءةٍ مصطنعة:
_متخفش سرك جوه بير مدفون ملهوش قرار، أنا حتى مش هحكي لمامي على اللي حصل لحد ما تقبض عليه وتخلصني منه.
ابتسم رغمًا عنه ولزم صمته حتى منتصف الطريق، خطف نظرة إليها فوجدها تكتف ساعديها أمام صدرها بحزنٍ جعله يقول:
_راكان بيهرب لمصر أدوية فاسدة.
جحظت عينيها صدمة، فاستطرد بألم تشعر به بنبرته لأول مرة:
_أنا موجود هنا بانجلترا مخصوص عشان أقبض عليه وعلى اللي وراه مع إن ده مش تخصصي، بس زي ما تقولي كده له عندي تار ومش هيبرد غير وأنا شايفهم راكعين تحت رجليا.
انجرفت بجلستها تجاهه، وازدردت ريقها بصعوبة بالغة وهي تقول:
_أوعى تكون متجوز وقتلوا مراتك ولسه بتحبها وجاي تنتقم والجو ده، أقسم بالله هطلع على راكان أقوله حقيقتك ولا هيهمني!
انفجر ضاحكًا وهو ينفي تهمتها مردفًا:
_لا أنا مش مرتبط متقلقيش، انتي أول واحدة قلبي ارتبط بيها.
احمر وجهها خجلًا فحاولت أن تقلب مسار الحديث، فقالت بحيرة:
_طب تار أيه؟
سيطر الحزن على معالمه وبدى كأنه على وشك البكاء، ولكنه تماسك وهو يحرر جملته:
_أمي يا شمس…. ماتت بسبب جرعة الانسولين المغشوش اللي أخدته.
أدمعت عينيها تأثرًا، فبكت وهي تراقب تعصب يده على حركة مقود السيارة، وأنفاسه التي تصل لمسمعها، فقالت بحقد:
_طيب ومستني أيه ما تقبض عليه.
ابتسم ساخرًا:
_مش بالبساطة دي، راكان ما هو الا كلب بيتحرك باشارتهم، اللي وراه هما اللي تاري وتار بلدي معاهم..
واسترسل بوعيد:
_بس خلاص هانت وأمسك الاوراق اللي راكان مخبياها ووقتها هكشفهم كلهم.
رمشت بحيرة وتساءلت:
_يعني طول الفترة دي كلها معرفتش تاخد الاوراق دي.
أجابها وهو يبطيء من سرعة سيارته رويدًا رويدًا:
_دورت في خزنة مكتبه وبالبيت بتاعه ملقتش حاجة، بس مازلت بدور وأكيد هوصل للملف ده ووقتها هتكون نهايته.
ابتسمت وهي تراقبه بحب ينبع بعينيها، فرددت:
_هيحصل، ربنا أكيد مش هيضيع تعبك.
التفت إليها يمنحها بسمة جذابة وهو يشير لها:
_إن شاء الله يا حبيبتي، وساعتها هتلاقيني عند فريدة هانم بطلبك للجواز وواثق إنها مستحيل هترفضني.
تلاشت بسمتها باستحياء، فغمز بعينيه بمشاكسة:
_حمدلله على السلامة شمس هانم.
لم تستوعب كلماته الا حينما التفتت فوجدت ذاتها قبالة منزلها، ففتحت باب السيارة وهبطت، ثم انحنت على النافذة الخاصة بمقعده بعدما استدارت تخبره ببسمتها المشرقة:
_شكرًا على كل حاجة عملتها علشاني يا آدهم.
راقب ابتسامتها الرقيقة بحب نبع داخل حدقتيه، وهمس بصوت مغري:
_عمر… إسمي الحقيقي عمر!
استقامت بوقفتها وغادرت وهي تصيح بضحكة:
_هناديك آدهم لحد ما أتعود… باي.
راقبها حتى ولجت للباب الخارجي لمنزلها، مرددًا بابتسامة ساحرة:
_مع السلامة.
********
عاد علي برفقة مايسان للمنزل بعد أن أوصل فطيمة للشقة وتأكدت مايسان من أنها لا تحتاج لشيءٍ، فما أن ولجوا للداخل حتى وجدوا فريدة تجوب الردهة ذهابًا وإيابًا وعلامة الذعر تخطو على وجهها، وعلى المقعد يجلس أحمد يحاول تهدئتها وعلى ما يبدو من ملابسه أنه كان بالخارج، فما أن استدارت حتى وجدت علي ومايسان قبالتهما ومن خلفهما ولجت شمس، فصرخت بعصبية بالغة:
_أنا عايزة أعرف انتوا كنتم كلكم فين لحد دلوقتي!!
*******
تململ بنومته بانزعاجٍ، ففرد ذراعه يحتضن زوجته فتفاجئ بعدم وجودها لجواره، استقام جمال بنومته وجذب التيشرت الملقي أرضًا يرتديه وهو يناديها:
_صبا!
خرج من الغرفة يبحث عنها فوجدها تجلس بالشرفة وجسدها متكئ على السور الحديدي، بدت له شاردة حتى أنها لم تشعر بوجوده، انحنى جمال لمستواها فضمها طابعًا قبلة حنونة على خدها:
_حبيبي قاعد سرحان في أيه بنص الليل؟
ابعدت يدها عنه بخجلٍ، ورددت بتلعثم:
_مفيش آآ… أنا مكنش جايلي نوم بس آآ.. هدخل أنام حالًا.
منعها من النهوض، وجذب المقعد المجاور لها ليضعه قبالتها، وقال بحزنٍ:
_مالك يا صبا من يوم خناقتنا دي وإنتِ متغيرة مع إني معتش بنام بره البيت ولا بتأخر بالرجوع!
أخفت عينيها من لقاء عينيه، فرفع ذقنها يجبرها على التطلع إليه، متسائلًا بلهفة:
_أنا عملت حاجة زعلتك مني؟
رددت بزعل انتابها:
_مهو ده اللي مزعلني إنك بقيت مهتم بيا جدًا، فحاسة إني فرضت نفسي عليك لما صارحتك بمشاعري، لدرجة إنك بقيت بتجبر نفسك تكون معايا بشكل مستمر، ده مخليني أبقى مكسوفة من نفسي.
صعق مما استمع إليه ومع ذلك بقى هادئًا، واختار كلماته بعناية:
_ليه بتقولي كده يا صبا، كل الحكاية إني شلت الهموم اللي على كتافي، أنا ظلمت نفسي قبل ما أظلمك معايا يا صبا وفوقت!
واسترسل وهو يجذبها لتجلس على ساقه:
_ثم إن المفروض تكوني حاسة بحبي ليكي وفاهمه ده كويس!
منحته بسمة رقيقة، فضمها إليه وهو يهمس لها:
_بحبك ونفسي تفهميني بقا،أعملك أيه تاني ده أنا بطلت أشوف المقاطيع بالساعات بسببك وواخدني تريقة في الراحة والجاية ومستحمل علشان عيونك الجميلة دي.
ابتسمت مجددًا، وسألته بجدية:
_أخبار عمران صاحبك أيه؟
أجابها وهو يغمز لها بخبث:
_كويس أوي أنا اللي مش تمام.
وحملها ليدلف بها لغرفتهما وضحكاتها تعلو دون توقف، فما أن وضعها على الفراش وكاد بالتمدد جوارها حتى صدح هاتفه برقم يوسف، فحمله بسخط:
_شوفتي أديكي نقيتي فيها، يوسف ميرنش نص الليل الا لما يكون في بلوة!
كبتت ضحكاتها حينما حرر زر الاجابة، ليجد الاخير يخبره بغضب:
_تعالى حالًا، صاحبك اتطرد في الشارع في نصاص الليالي وعربيته عطلانة، استر هيبتي قدام الجيران سترك الله!!
يتبع…
ساد الصمت الأجواء، وكلاهما ينتظر سماع الرد القاطع للسؤال المطروح، فكانت شمس أول من تحدثت بثبات مصطنع تخفي به ما تعرضت له بيومها الغامض هذا، فقالت:
_أنا كنت مع راكان يا مامي والوقت سرقنا حتى موبيلي كان فاصل شحن، أنا أسفة مش هتتكرر تاني.
واستطردت ببسمة تصنعها بالكد:
_حمدلله على سلامتك يا أنكل، نورت الدنيا كلها.
واحتضنته شمس بشوقٍ، فربت على ظهرها وهو يعاتبها ببسمة هادئة:
_كده تخضينا عليكي الخصة دي، وخطيبك ده مكنش بيرد على مكالمتنا ليه ده أنا روحتلكم البيت والحرس قالولي إنه مرجعش من بره.
ابتلعت ريقها بتوتر، فخطفت نظرة مترددة لوالدتها المتجمدة محلها بملامح واجمة لا تنذر بخير، فقالت:
_موبيله كان صامت، لإنه محبش حد يزعجنا زي كل مرة، بعتذر على الازعاج اللي سببنهولكم مرة تانية.
مسد على شعرها الطويل بحنان:
_ولا يهمك يا حبيبتي..المهم إنك بخير.
تحرر صوت فريدة الحازم لتغزو مايسان وعلي:
_وحضراتكم كنتوا فين لحد دلوقتي، وإزاي يا مايا تنزلي بوقت زي ده من غير ما تأخدي اذني أو تعرفي جوزك على الأقل!
أخفضت عينيها خوفًا مما ستلاقاه الآن، فرددت بتلعثم:
_آآ… أنا.. آآ..
ناب عنها علي حينما قال بخشونةٍ:
_أنا اللي كلمت مايا وطلبت منها تقابلني في المطعم لإني كنت محتاج مفاتيح شقة والدها.
زوت حاجبيها باستغرابٍ:
_محتاج المفاتيح ليه؟
ها قد بدأت الدفوف لاعلان الحرب المترقبة، فسحب علي نفسًا مطولًا ليجيبها:
_كنت محتاجه لفطيمة هتقعد بالشقة لحد ما نكتب الكتاب وبعدها هتيجي تعيش معانا هنا لحد ما نحدد معاد الفرح.
سقطت الكلمات عليها كالصاعقة، فبدت بالبداية كالبلهاء لا تفقه فهم كلماته، “فطيمة” تتذكر جيدًا هذا الإسم فقد سبق عليها سماعه، مهلًا هل يقصد مريضته التي سبق وقص لها ما تعرضت له من اعتداءً!
تصلب جسدها جعل أحمد يمنحه نظرة معاتبة لتسرعه باخبارها، بينما خشيت مايسان تلك العاصفة التي سترج أركان المنزل، أما شمس فبدت متحيرة في فهم ما يقوله أخيها، كل ما تمكنت من فهمه بأن سيعقد قرانه على فتاة وسيحضرها هنا لحين تحديد حفل الزفاف.
تمكنت فريدة من تحرير لسانها الثقيل، لينطق:
_إنت بتقول أيه؟!
وتابعت وهي تعيد خصلات شعرها القصير للخلف:
_لا أكيد بتهزر، اللي فهمته أكيد غلط إنت متقصدش البنت المغتصبة اللي بقالك شهور بتعالجها، أكيد دي واحدة ليها نفس الإسم صح؟
اسند يديه لبعضها البعض خلف ظهره، وأكد بثقة:
_لا يا فريدة هانم، هي نفسها المريضة اللي بعالجها.
تحررت عن حالة جمودها، لتصرخ بصوت أخاف الفتيات:
_إنت اتجننت يا علي عايز تتجوز واحدة اتعرضت للاغتصاب أكتر من مرة، قبلتها على نفسك إزاي، إنت أكيد مش بعقلك!!
أجابها بتحدي وعينيه لا تفارق خاصتها:
_أنا طول عمري عاقل وعارف كويس أنا بقول أيه، وحضرتك نطقتي بلسانك إنها مغتصبة يعني اللي حصل ليها مكنش بارادتها!
تدخل أحمد سريعًا يحاول تلطيف الأجواء، فقال:
_اهدوا يا جماعة النقاش مش كده!
وتطلع لفريدة يخبرها بهدوء:
_فريدة، علي معاه حق البنت مالهاش ذنب في كل اللي حصلها، حرام تتعاقب على شيء اتفرض عليها.
رمشت بعينيها بعدم تصديق:
_ إنت كنت عارف يا أحمد؟
اكتفى بإيماءة رأسه مما جعلها تصفق كف بالأخر وهي تصيح:
_مش معقول أكيد ده حلم سخيف!
وتابعت بصوت محتقن:
_إنت مختارتش واحدة بره الطبقة الراقية اللي عايشين جواها يمكن كان الموضوع هيبقى صعب بس مش مستحيل، لكنك اختارت واحدة ملوثة متناسبش العيلة لا بالنسب ولا بأي شيء وواقف قدامي بكل جراءة وتقولي هتتجوزها!
واستكملت بعنف وقد تلون وجهها بحمرة مخيفة:
_لا يا علي مش هسمحلك تعمل كده، الجوازة دي مستحيل هتتم سامعني!
اقترب منها علي حتى بات يقف قبالتها، فردد بصوتٍ منخفض لا يهنيها بحدته:
_فريدة هانم أنا مش عمران هقبل بقراراتك وأنخضع ليها، أنا علي اللي لا يمكن مخلوق على وجه الأرض يمشي أوامره عليا وحضرتك عارفاني كويس.
وتابع وهو يتطلع لأحمد:
_الجوازة هتم يا عمي، بكره هكتب كتابي على فاطيما والاسبوع الجاي هنعمل الفرح هنا بالبيت.
وتركهم وكاد بالصعود ولكنه توقف فور أن صرخت فريدة بعصبية:
_القذرة دي مستحيل هتعتب خطوة واحدة جوه بيتي، ولو فاكر إني هسكت تبقى بتحلم يا علي.
أطبق يده على درابزين الدرج يبث عصبيته الكامنة بها، فهدأ من أعصابه قبل أن يستدير ويخبرها:
_يبقى أنا كمان من النهاردة ماليش مكان جوه البيت ده.
وهبط يتجه للخارج، فهرعت شمس من خلفه تردد ببكاءٍ:
_علي أنت رايح فين؟ أرجوك تهدأ وترجع.
لم يستمع أليها وأكمل طريقه، حتى صاح به أحمد بغضب:
_أيه اللي بتعمله ده يا علي، بطل جنان واطلع أوضتك وأنا هحاول أتكلم مع فريدة.
لا يريد أن يكون وقحًا مع عمه، فقال برزانة:
_من فضلك يا عمي أنا مش مستعد يكون في زعل بيني وبين حضرتك، أنا قولت اللي عندي وده النهاية.
قالها وهو يهم بالخروج، فأوقفه صوتها المنادي:
_علي.
توقف محله واستدار إليها، فاقتربت منه تردد بحزمٍ:
_بلاش تخسرني عشانها يا علي، إختار أي بنت حتى لو مكنتش من مستوانا وأنا بنفسي هروح أخطبهالك بس من فضلك تكون عذراء متكنش ملوثة.
برق بعينيه بصدمة من حديث والدته، فابتسم ساخرًا:
_أنا طول عمري بحترم حضرتك بس حقيقي أنا النهاردة مصدوم ومش قادر أتكلم، بتحسسيني بكلامك إنها هي السبب في اللي حصلها!!
وتابع وهو يشير باصبعيه:
_اللي حصلها ده كان ممكن يحصل لشمس أو لمايا وقتها كنتي هترميهم من حياتك!
_علـــــــــــــي!
تحرر صراخها يستوقف حديثه، فرددت بحدة:
_ازاي تجرأ تقارنها ببناتي، الظاهر كده إن عمران لوحده اللي مرتكبش معصية وسكر إنت كمان مش في وعيك.
ازدادت ابتسامته الساخطة:
_لا يا فريدة هانم أنا لا مجنون ولا سكران، أنا واعي كويس للي بقوله.
وتابع قائلًا:
_أنا مأجرمتش بحبي ليها، قلبي هو اللي اختارها عن قناعة إنها انسانة متكاملة وزي كل البنات مش ناقصها حاجة.
وضم شفتيه معًا بقلة حيلة كونها والدته، ثم قال:
_بسبب وجود ناس تفكيرهم زي حضرتك في ألف بنت زي فاطيما بيعانوا ومش بس وصل بيهم الحال في أوضة بمستشفى للأمراض النفسية، وصل بيهم الحال للانتحار يا فريدة هانم.
تمردت عن ثباتها وتحرر صوتها المبحوح:
_علي هعملها لأول مرة وهمد إيدي عليك.
تدخل أحمد على الفور، فأشار إليه بصرامة:
_اطلع على أوضتك دلوقتي يا علي، واللي إنت عايزه هنعملهولك..
اعترض على أمره قائلًا باحترام:
_عمي من فضلك آ..
قاطعه بنظرة حازمة وصراخه الذي تمرد على هدوئه الرزين:
_أنا قولتلك اطلع أوضتك وسبني دلوقتي مع والدتك.
اقتربت شمس منه تترجاه برجفة يدها:
_علي بليز تعالى معايا.
رؤيته لدمعاتها ورجفة أصابعها المتمسكة بقميصه جعله ينصاع إليها برفقة مايسان للمصعد.
ما أن فرغت الردهة بها حتى جلست على أقرب مقعد تحتضن جبينها بتعبٍ شديد، وتردد بصوتٍ مرهقٍ خافت:
_أولادي بيضيعوا مني يا أحمد، لسه متجاوزتش اللي عمران عمله ودلوقتي طلعلي علي!
تطلع لها بحزنٍ شديد، فجذب أحد مقاعد السفرة ليجذبه قبالتها ثم جلس وقال بألمٍ:
_اهدي يا فريدة، الأمور متتحلش كده.
رفعت عينيها الباكية إليه تشير بقلة حيلة:
_أمال تتحل ازاي! أنا تعبت تعبت وحاسة إني خلاص مبقتش حمل المسؤولية دي.
وعادت تنحني دافنة رأسها بين ذراعيها هاتفة ببكاء:
_لأول مرة أحس إني عاجزة ومفتقدة لوجود سالم جنبي، خلاص بقالي 15سنة بحارب لوحدي!
طعنته بخنجر قاسٍ استهدف صدره دون راجع، اتشتاق لرجلٍ أخر سواه وترددها بوجهه!
نعم لم تخطئ فهو بالنهاية زوجها، ولكن الا تمنحه الرحمة لعذاب خاضه وأخيه حيًا لتلزمه به وهو ميتًا!! الا تشفق تلك المرأة على حاله؟!
أفاق من شروده حينما وجدها تنحرف بجلستها تجاهه، لتسأله بلهفة:
_قولي يا أحمد أعمل أيه؟ أنا مش قادرة أتخيل إن البنت دي تبقى مرات ابني! أنا ممكن يجرالي حاجة لو ده حصل.
وتابعت وهي تلتفت بجنون:
_هودي وشي فين من الناس لما يعرفوا اللي حصل معاها ولا لما يعرفوا هي بنت مين وأصلها أيه؟
واستطردت تجلب حجج من أمامه:
_إنت أكتر واحد عارف الطبقة اللي عايشين فيها عاملة إزاي.
تحرر عن صمته بنبرته الرجولية الصارمة:
_ما يغوروا في داهية يا فريدة، ناس أيه اللي بتتكلمي عنهم!
وتنفس بضيقٍ، ثم عاد يشير لها بهدوء:
_يا فريدة إفهمي علي غير عمران وإنتي عارفة كده كويس، مدام أخد القرار مستحيل هيتراجع فيه.
انفطرت ببكاء جعله يود أن يجلد ذاته، يتمنى من أن يضمها إليه، تبًا لتلك المسافات التي مازالت تضعها بينهما حتى تلك اللحظة، ليته يتمكن من الزواج بها رغمًا عنها ، ليته يقسو عليها ولو بمجرد الكذب عليها بشأن زواجه من أخرى ولكنه يخشى أن يحزنها، وكأن قلبها هذا هو النابض بجسده، لا يريد أن يسبب لها الألم يكفي ما فعله بها.
تنحنح أحمد وببحة صوته المميز قال:
_فريدة كفايا عشان خاطري، بتوجعيني بعياطك ده وأنا قلبي مش متحمل، اهدي من فضلك.
أزاحت دموعها وانتفضت محلها فجأة وكأنها لم تكن تعي ما فعلته، فقالت بعصبية:
_إنت رجعت ليه يا أحمد، رجعت عشان تشوفني ضعيفة ومهزومه صح، لا ده بعدك أنا شلت البيت ده وأولادي 15سنة، وكلمتي هي اللي هتمشي علي مش هيتجوز البني آدمة دي لو أخر بنت في الدنيا، هختارله البنت المناسبة ليه وبنفسي.
انتصب بوقفته يرمقها بنظرة غاضبة، وهاج بسخط:
_اعمليها مش جديدة عليكي، بس وقتها هتكوني خسرتي ابنك التاني هو كمان.
وتابع ورماديته تناطح زرقة عينيها دون تراجع:
_انتي كنت سبب دمار علاقة مايا بعمران، لإنك جبرتيه يتجوزها مع إن الولد كان بيحبها ويمكن مع الوقت كان هو اللي هيطلبها بنفسه للجواز، ومهما كان احساس إنه اتجبر على شيء غير مقبول لأي راجل اتخلق على وش الأرض وابنك راجل مش دلدول أمه يا فريدة هانم.
تراجعت للخلف خطوة وكأنها على وشك السقوط، فاستطرد بقسوة علها تعود لرشدها:
_حتى شمس فرضتي عليها راكان لإنه من وجهة نظرك رجل الاعمال ابن الحسب والنسب واللي يليق بالعيلة، لكن بنتك بتفكر في أيه وجاهزة للجواز دلوقتي ولا لأ ولا همك!
ابتلعت ريقها المتحجر بصعوبة، فاحتقنت حدقتيه وبوجعٍ أضاف:
_دمرتيني ودمرتي عمران ودمرتي شمس ودلوقتي جيه الدور على علي!!
لسه عايزة تعملي أيه تاني يا فريدة؟
تحررت عن صمتها لتحرر صراخ الأنثى الباكية داخلها فقالت:
_أنا مدمرتش حد، أنا كنت بحمي عمران من الحيوانة اللي كانت هتدمره، وكنت بحافظ على مايا بنتي اللي ربتها على ايدي يا أحمد!
وبكت وهي تخبره:
_خوفت إنها تعيش في النار اللي أنت رمتني فيها، خوفت أشوفها بتنهار لو اتجوزت شخص مبتحبهوش، احساس بشع متمنهوش لألد أعدائي عايزيني اتقبل إن بنتي تعيشه!
مسحت عبراتها وهي تستمد قوتها:
_على الأقل عمران كان بيحبها ودلوقتي ابتدى يقتنع بغلطه ويصلح علاقته بيها، أما شمس فأنا مستحيل هرميها أنا عارفة ومتأكدة إن مفيش حد في حياتها عشان كده اختارتلها المناسب ليها وطولت فترة الخطوبة بحيث إنها تعاشره وتقدر تتعرف عليه كويس، ولو إنها ذكرتلي سبب مقنع لفسخ الخطوبة مش هتردد ثانية واحدة.
وأشارت باصبعها باصرار:
_لكن علي لازم أقفله وأمنعه من اللي هيعمله ده مهما كان التمن.
ابتسامة موجوعة ارتسمت على شفتيه، وقال بانهاكٍ:
_حتى لو كان التمن خسارته!
جحظت عينيها صدمة، فتابع بهدوء غريب:
_فريدة أنا مش ضدك ولا عمري هكون، أنا في صفك ومش عايز غير مصلحتك، ومصلحتك إنك متخسريش علي، وافقي على جوازه منها لانه كده كده هيتجوزها وإنتِ عارفة ده.
هدأت قليلًا، وجلست على الاريكة باسترخاء، ليطول صمتها وكأنها توازن الأمور جيدًا، ورددت بهمس:
_بس أنا مش هقدر أتقبلها يا أحمد.
جلس على بعد معقول منها، وقال:
_مش مهم، المهم إنك متخليش علي يطلع من تحت طوعك ده لمصلحتك.
أغلقت عينيها بقوةٍ تحرر دمعتها، وهزت رأسها متفوهة بازدراء:
_سبني لبكره أفكر!
*******
هدأ من سرعة السيارة حينما اقترب من العمارة، ولكنه وللعجب لم يجد أحدًا، فرفع هاتفه يطلبه فإذا بذراعٍ يشير له من مدخل العمارة، يحثه على التحرك والوقوف قبالة الباب، فقاد جمال السيارة حتى بات قبالته، فركض يوسف ليفتح باب السيارة ولكنه لم يستجيب له، فصرخ بمن يتأمله بفمٍ بكاد يصل للأرض من فرط الصدمة:
_افتح الباب بسرعة هتفضح يالا!
فتح القفل الالكتروني، فصعد يوسف يلتقط أنفاسه وهو يشير له:
_اطلع بسرعة.
تمادى بالضحك وهو يردد بصعوبة:
_بالبيجامة الستان يا دكتور!!
رمقه بنظرة قاتلة، فكبت جمال ضحكاته وقاد بصمت، ومن ثم عاد يتطلع إليه فضحك مجددًا وهو يخبره:
_مش ممكن، لو حد من المرضى بتوعك شافوك كده هيركبوك التريند.
وقهقه ضاحكًا وهو يتابع بسؤال هام:
_ازاي دكتورة ليلى سمحتلك تنزل كده، لا أكيد في سوء تفاهم!
لزم الصمت ونظراته الحادة هي التي تخترق ذاك المتطفل، فعاد لنوبة ضحكه مجددًا وأشار له لاهمية الأمر:
_يعني دلوقتي هنخش على أخوك سيفو كده ازاي، هتكون قدوة ليه من أي جهة وإنت راجع الساعة 2وش الصبح بالبيچاما الستان المنيلة بسواد دي!
زفر بغضب، فتابع جمال بمشاكسة:
_لو عايز مفتاح مكتبي تتكوم فيه للصبح معنديش مانع أهو أهون من الفضايح دي.
تحرر يوسف عن جلباب صمته العتيق، فطوق عنقه بقبضته، صعق جمال مما فعل فحاول السيطرة على حركة السيارة وهو يصيح:
_يوسف بطل غباء هنعمل حادثة.
لم يزيح يده فقال بضحك:
_طب خلاص حقك عليا، أنا اللي مطرود بالبكيني يا عم.
تركه يوسف وجلس بهدوء جعله يتساءل:
_مالك يالا، ساكت من ساعة ما ركبت هي دكتورة ليلى كلت لسانك ولا أيه؟ لو تحب نطلع على المستشفى مفيش مانع!
صرخ بعصبية:
_أنا كرهت المستشفيات والدكاترة كلهم، جالي مكالمة شغل مريضة بتحكيلي على مشاكل عندها في الحمل فسألتها بمنتهى العملية إذا كان حدث علاقة مع زوجها بنفس اليوم ولا لأ مرات أخوك سمعت المكالمة جنونها طارت مسكتني من ياقة البيجامة الستان السودة وطردتني بره الشقة!
لم يستطيع السيطرة على ذاته، فأحمر وجهه من فرط الضحك والاخير يتطلع أمامه في محاولة للسيطرة على أعصابه بالنهاية يقدم له المساعدة.
رفع جمال يده له بحرج:
_أنا آسف يا جو النية مش شماتة أبدًا بس الموضوع مضحك!
وتابع بمزح:
_أنا كنت جايلك على أخري منك لإنك بتختار أوقات مش تمام وتكلمني فيها، بس بصراحة ناري بردت لما شوفت حالتك المذرية دي!
لكمه بشراسة وهاج به:
_ما تنزل تشحت عليا أحسن! مهو خلاص معتش غيرك إنت والوقح عمران اللي تتمسخروا بدكتور يوسف أحلى دكتور نسا وتوليد فيكي يا انجلترا.
هز رأسه مؤكدًا بسخرية:
_دكتور الحالات المتعثرة!
لكمه مجددًا فقهقه ضاحكًا وهو يوقف السيارة بقوةٍ جعل جسده يندفع بعنف للامام، ليشير له بتسلية:
_يلا يا جو اطلع لسيفو يكمل تحفيل عليك وأنا هبقى أجي أكمل بكره، أقصد هجبلك بدلة شيك وأجيلك بكرة بإذن الله عشان نروح لعمران.
هبط يغلق باب السيارة بعنف، وانحنى للنافذة يشير له:
_بكره هوريك مقامك يا حقير!
*******
ولجت لغرفتها أبدلت ثيابها وقبل أن تذهب للنوم اتجهت لتتفحص عمران قبل أن تغفو، فما أن وجدت الغرفة معتمة كادت بالعودة لغرفتها، فتفاجئت بالنور يضيئها، فتمكنت من رؤيته يجلس على الفراش والضيق يتسلل لمعالمه بوضوح، ابتلعت مايا ريقها بتوتر فبررت لما خمنت سبب غضبه:
_عمران أنا أسفة أني خرجت في الوقت ده بدون إذنك، بس والله كنت نايم ومحبتش أزعجك، علي بعتلي وكان عايز مفتاح الشقة لفطيمة.
رد عليها ونظراته تحيطها بثبات:
_مش زعلان عشان تبرريلي يا مايا، أنا متضايق من اللي بيحصل معانا بسبب عناد فريدة هانم.
وأضاف بغضب:
_الصوت كان عالي تحت وسمعت كل حاجة، وبصراحة علي معاه حق.
رفعت حاجبها بدهشة، فدنت تجلس أمامه على الفراش تردد:
_مش مصدقة إن عمران سالم اللي بيقول الكلام ده! أنت لسه تعبان ولا أيه؟
تمردت ضحكاته الرجولية، ليغمرها بنظرة مشاكسة:
_لا ده عمران اللي قلبه رجع يدق بحب مايا من تاني فبقى عاطفي ويقدر القلوب العاشقة زي قلب الدكتور علي كده.
أخفضت عينيها عنه بارتباك، فاقترب بوجهه يهمس بصوتٍ منخفض مغري:
_أيوه يعني هتهربي مني كده لحد أمته؟
وتابع بخبث:
_زي ما أنتِ شايفة بقيت عاجز عن الحركة وهحتاجك جنبي طول الوقت، وانتي من كلمتين بتفرفري قدامي، مينفعش كده هحب في مين طيب في علي أخويا ولا انكل أحمد مثلًا!
اشتعلت وجنتها فنهضت عن الفراش واتجهت للمغادرة وقبل أن تغلق بابها رددت بغضب:
_يوسف صاحبك معاه حق إنت وقح!
تمؤدت ضحكاته باستمتاعٍ لرؤيتها تهرول خجلًا منه، فراق الأمر له كثيرًا، سحب عمران جسده للأسفل ليتمدد باريحية لحقت نبرته:
_شكلنا كده هنتسلى كتير الفترة الجاية!
*******
طرق على الباب ويده على جرس المنزل لدقائق متتالية حتى استجاب أخيه لندائه المزعج، ففتح الباب يعبث بحدقتيه الناعسة:
_يوسف! أيه اللي جابك بالوقت ده!
ربع يديه أمام صدره بضيقٍ:
_مطرود ولو هتفتح تحقيق فالعملية مش ناقصك إنت كمان، وسع من قدامي خليني ألحق اتخمد قبل معاد المستشفى.
وكاد بالدخول فقاطعهما صوت أنوثي يردد بفزع:
_دكتور سيف ماذا هناك؟ ومن هذا المزعج الذي يدق بابك بتلك الطريقة!
استدار يوسف للخلف، فوجد باب الشقة المقابل لاخيه مفتوح ومن أمامه تقف بنت شقراء، ترتدي تنورة قصيرة وتوب قصير، فالتفت لأخيه يجذبه من تلباب ملابسه، ثم دفعه للداخل ليغلق الباب بقوة بوجهها، فلف يده حول رقبته وهو يصيح:
_مين دي يا وقح أنا شكلي هسحب الوقاحة من عمران وأديها لاخويا اللي مدورها بغيابي!
ابعد سيف يده عن رقبته باختناقٍ:
_يوسف أنت مجنون، أنا أبص على اللحم الرخيص ده!! دي جاسي واحدة لسه ساكنة جانبنا من أسبوع وسبق واتعرفنا بالاسانسير بس كده!
منحه نظرة قاتمة قبل أن يحرر يده كليًا، فجذب القميص يعدله على جسد أخيه وهو يشير له:
_يالا لو واقع قولي وأنا أروح اخطبهالك ونخلص.
جحظت عينيه صدمة:
_تخطبلي مين! أنا ساعات بحس إنك عايز تلقفني لأي عروسة عشان تتخلص مني.
أحنى رأسه ليسدد له صفعه على رقبته:
_يا حمار خايف عليك من الفتنة، إنت شايف البلد اللي احنا فيها عاملة ازاي!
تركه وولج للمطبخ يجذب كوبًا من المياه يرتشفه وهو يشير له:
_اطمن يا حبيبي أخوك راجل مش أي ست تجيب رجليه.
وأسترسل بغرور:
_أنا يوم ما أقرر اتجوز هتجوز بنت مسلمة ومحجبة يا يوسف، تخفي جمالها عن الرجالة كلها لحد ما يتقفل علينا باب واحد!
ابتسم وهو يستمع إليه، وقال بجدية:
_راجل يالا، تربية ايدي!
ضحك وهو يغمز له:
_طب فكك من حوار نونة الخاطبة دي وأرغي دكتورة ليلى طردتك ليه المرادي؟!
*******
تقلب بفراشه بانزعاجٍ، يحاول السيطرة على لهفته فالوقت قد شارف على الثالثة صباحًا، كيف سيتصل به بوقتٍ كذلك، ولكن النوم جفاه وعينيه لا تفارق ساعة الحائط، فاستقام بجلسته وهو يردد:
_أنا هتصل بيه دلوقتي واللي يحصل يحصل.
وعاد يجيب على ذاته:
_بس الوقت متأخر جدًا يا علي، هيقول أيه!
واقنع ذاته ببسمة واسعة:
_هي رنة واحدة رد رد مردش هكلمه بكره.
وبالفعل حرر زر الاتصال، ليتفاجئ بصوت الجوكر الناعس يجيبه:
_دكتور علي، خير؟!
سحب نفسًا طويلًا، ليجيبه ببسمة واسعة:
_النهاردة كتب كتابي على فطيمة!
******
تسللت الشمس بخيوطها لساحتها العتيقة، ففتحت فطيمة عينيها، ونهضت تتجه لحمام الغرفة، فاغتسلت وخرجت تؤدي صلاتها وهي تدعو الله مرارًا أن يقرب منها الخير ويبعد الشر عنها، تعلم بأن هناك حربًا سيخوضها علي برفقة والدته التي سبق له الحديث عنها لها بتلك الايام التي كانت تلجئ بها للصمت، فلم يكتفى بالحديث لها عن والدته فقط، كان يجلس جوارها كل يوم بعد انتهاء عمله بالمشفى يقص لها عن حياته وكأنها طبيبه النفسي!
أخبرها عن يارا خطيبته السابقة وحبها لمروان زيدان ابن عم مراد، وعن أخيه وزواجه من مايسان ابنة خالته حتى شمس كان يقص لها عن تلك الفتاة المدللة، وأيضًا لم ينسى ذكر فريدة هانم بسلطاتها القوية بالسيطرة على المنزل وأبنائها.
بداخلها خوفًا كبيرًا تجاه ما سيتعرض له علي بسببها ولكنها الآن كالغريقة التي تتمسك بقشة نجاتها، وعلي هو كل شيءٍ لها، الثمانية وأربعون ساعة التي قضتها دون رؤيته بالمشفى كانت على وشك الجنون، وكأنها تترقب جرعة المخدر الذي سيذهق عقلها عن آلآمه جميعها، وكأنه البلسم لكافة جروحها، لا تحتاجه كطبيب يكفي وجوده لجوارها حتى وإن كان صامتًا، الأمر يتعلق به.
خرجت من غرفة النوم واتجهت للمطبخ الفخم الموجود بطرفي الردهة، تحمل من الثلاجة بعض الفواكه واتجهت للطاولة القريبة من الحائط المشكل على هيئة من الزجاج الشفاف، فراقبت المارة بأعين ساهمة لا تدري ماذا سترى بالايام القادمة!
******
انتهى من ارتداء ملابسه وأخذ يصفف خصلات شعره حينما اتاه صوت طرقات باب غرفته ومن خلفها صوتها الرقيق يستأذن:
_ينفع أدخل؟
ابتسم وهو يشير لها:
_تعالى يا روح قلبي.
ولجت شمس للداخل بفستانها الأزرق الطويل، تهرول حتى أصبحت أمامه تخبره بحماس:
_أنا جاهزة.
عقد حاجبيه باستغراب، فأحاط رقبته بالجرفات متسائلًا:
_جاهزة لأيه، مش فاهم؟!
ذمت شفتيها بضيق:
_هو إنت عايز تروح تكتب كتابك من غير أختك يا علي!
استدار إليها يرمقها بنظرة متفحصة قبل أن يسألها بمكر:
_مش خايفة من فريدة هانم؟
هزت شمس رأسها نافية، وأضافت:
_أنا جاهزة أتعرف على البنوتة اللي سحرت قلب دكتور علي.
فتح ذراعيه لها ببسمة جذابة، فاحاطت رقبته ورأسها ممدد على صدره، فربت بحنان على خصرها وهو يهمس لها:
_حبيبتي منحرمش منك أبدًا، أكيد طبعًا هاخد شمس هانم بنفسي لهناك.
صاحت بحماس:
_هجيب شنطتي وهجي.
هز رأسه بتفهمٍ، وجذب جاكيته يرتديه على عجلة، ثم توجه لغرفة عمران يطرق بابه وما ان استمع لصوته يأذن له بالدخول، ولج ببسمته الواسعة:
_صباح الخير.
ابتسم ذاك المشاكس الذي يتناول طعام الافطار بيد مايسان التي تجاهد لاخفاء خجلها الشديد وخاصة مع دخول علي:
_صباحك ورد يا دوك، تعالى افطر.
غمز علي بخبث:
_مايا هانم بتأكلك بنفسها! الله يسهله يا عم.
ارتبكت مايسان، فطرقت الصينية من يدها على الكومود ورددت لعلي بحرج وخوف:
_والله ما أنا ،أخوك الوقح اللي أجبرني أكله بيقول مش عارف يأكل بإيد واحدة .
تعالت ضحكات علي حتى كاد بالسقوط أرضًا، بينما كز عمران على شفتيه وهو يصيح بانفعال:
_هو قافشنا في شقة مفروشة!! أنتِ مراتي يا غبية، تأكليني تحضنيني كل شيء وارد.
ابتلعت ريقها بصعوبة بالغة، فأشارت بارتباك:
_شوفت يا علي أخوك بيتكلم ازاي، آآ.. أنا غلطانه إني جيت أشوفك فطرت ولا لا.. أنا ماشية.
وكادت بالهروب كعادتها ولكن صوت علي أوقفها:
_مايا استني أنا عايزك.
عادت لتقف على مقربة منه ونظراتها الساخطة تحيط عمران الذي يغمز لها، ويمنحها قبلات بالهواء متعمدًا أن يثير غضبها، مستغلًا أن علي يستدير بوجهه عنه.
أخرج علي من جيبه الفيزا الخاصة به ثم قال:
_مايا أنا عايزك تاخدي فطيمة وتنزلي تشتريلها شوية هدوم وكمان تجبيلها فستان شيك كده عشان بليل هعدي عليكم وهنطلع على المحامي نكتب الكتاب.
هزت رأسها بترحاب:
_بس كده عيوني.
ابتسم وهو يشكرها بامتنان:
_الأخت الجدعة متتعوضش حقيقي بشكرك على كل حاجة يا مايا.
اعترضت بلباقة:
_متقولش كده يا علي انت أخويا.. المهم بس تنفد من فريدة هانم النهاردة ربنا معاك.
ضحك وهو يعدل من جرفاته بغرور:
_متقلقيش على أخوكي، جامد ومفيش حاجة تهزه.
ردد عمران ساخرًا:
_طيب يا جامد متنساش تاخدني معاك أبارك ولا هترميني على السرير كده شبه العانس وانت مدورها!
انطلقت ضحكاته وقال وهو يتفحص ساعة يده:
_متقلقش… على فكرة دكتورة ليلى هتبعتلك دكتورة علاج طبيعي هتساعدك بتمارين خفيفة كده من النهاردة… زمانها على وصول.
انشرح وجهه ومنح بسمة خبيثة لزوجته قبل أن يقول:
_والله دكتورة ليلى دي بتفهم.
انفجرت مايا بغيظها مرددة:
_مفيش غير دكتورة يا علي متشوق دكتور أحسن!
نهض عن الفراش يقف قبالتها:
_هشوف حاضر، بس الدكتورة دي كبيرة بالسن متقلقيش منها يعني.
لعقت شفتيها بارتباكٍ من كشف أمرها أمامهما، فقالت بارتباك:
_وأنا هقلق ليه يعني.
شهقت صدمة حينما جذبها عمران لاحضانه يتعمق بالتطلع لوجهها القريب ويهتف ساخرًا:
_كل اللي هنا عارفين إنك واقعة في غرامي، ما تحني بقى!
لكمته مايا بغضب وصرخت به:
_سبني انت اتجننت أخوك واقف!!
هز علي رأسه بسخطٍ، واتجه ليغادر مرددًا:
_أخوه عارف إنه وقح متقلقيش.
نجحت بالتحرر من قبضته وهرولت خلف علي تخبره باستحياء:
_هغير وهنزل حالًا يا علي.
أجابها دون أن يستدير:
_واستعجلي شمس معاكي.
_طب وأنا يا علي، مش هتأخدني معاك!
جحظت عينيه صدمة، فاستدار للخلف ليتفاجئ بها تقف مرتدية ثياب الخروج برفقة أحمد الذي غمز لها بمكرٍ، فردد بصدمة:
_فريدة هانم!
يتبع…
تجمعت الدهشة والريبة لتشكل على معالم علي بحرافيةٍ، وبالرغم من محاولات أحمد ببث الأطمئنان إليه الا أنه لم يكن بذلك أبدًا، فما أن توقفت سيارته قبالة العمارة حتى قال قبل هبوط الجميع:
_فريدة هانم من فضلك يا ريت تتعاملي مع فطيمة بحذر، فطيمة مريضة نفسيًا يعني ده هيدمر اللي وصلتله بحالتها.
حدجته من تجلس بالخلف جوار مايا وشمس بنظرة قاتلة، ورددت باستهزاء:
_والله؟ ولما هي مبقتش كويسة خرجتها من المستشفى ليه يا دكتور!
تنحنح أحمد الجالس بالأمام جوار علي:
_فريدة، وبعدين؟!
ادعت برودها ووداعة ملامحها وهي تجيب:
_أيه اللي قولته غلط يا أحمد! المكان الطبيعي للمرضى النفسين هو المستشفى!
أغلق علي عينيه بقوةٍ وهو يحاول التماسك، لا يريد نزع تلك الليلة، وخاصة بأنه لن يترك فطيمة تجلس بمفردها، سيصطحبها للمنزل حتى موعد الزفاف، فوجد شمس تمسد على كتفه وهي تمنحه رسالة مبطنه لقلقه بعدم تمكنه من الصعود برفقتهم الآن:
_متقلقش يا علي هنتعامل معاها بحرص، وأنا ومايا مش هسيبها خالص لحد ما ترجع بليل.
أكدت له مايا وهي تتابع نظرات فريدة المشتعلة على ابنتها:
_احنا أساسـًا يدوب ننزل عشان نشتري الفستان ونجهز فطيمة.
ضيقت عينيها بدهشة:
_تخرجوا فين؟
ردت شمس بتوتر:
_هناخد فطيمة نجبلها فستان لكتب الكتاب.
زوت شفتيها بسخرية:
_والله! طب تمام يلا عشان منتأخرش.
جحظت أعين مايا وتبادلت النظرات مع شمس وعلي وهي تتساءل:
_هو حضرتك هتيجي معانا؟
أغلقت زر جاكيتها الأسود الشبيهة للتنورة السوداء وقميصها الأسود الأنيق من أسفل الجاكيت الثمين، قائلة:
_عندك اعتراض يا مايا؟
هزت رأسها نافية وبالكد قالت:
_لا طبعًا أنا بسأل بس.
فتحت شمس باب السيارة وهبطت لتلحق بها فريدة ومايسان، بينما ظل أحمد جوار علي، ليشير له:
_يلا يا علي إطلع على المحامي نرتب معاه الأوراق عشان منتاخرش.
زادت صدمة علي، فصاح بعدم تصديق:
_عمي حضرتك جاي معايا؟
هز رأسه مؤكدًا، فقال الاخير:
_لا طبعًا، متقوليش إنك هتسيب فريدة هانم مع فطيمة لوحدها، محدش هيقدر عليها غيرك إنت!
ضحك أحمد بشدة وردد:
_إنت قاريني غلط يا علي، فريدة أمك مش بترضخ لحد هي ممكن تكون بتتفادى رغيي فبتعمل اللي بطلبه عشان أبطل أتكلم بالموضوع، لكن في حقيقة الأمر فريدة هانم مفيش شيء بيردعها عن اللي في دماغها.
وهمس بصوتٍ ظنه غير مسموع لعلي:
_لو كنت قدرت عليها يمكن ده مكنش حالي!
ابتسم بسخطٍ تمكن من إخفائه، وقال محاولًا تصنع جديته:
_عمي أنا مش هقدر أمشي من هنا وأنا قلقان عليها، وجودك على الأقل هيطمني.
وتابع بحزنٍ تغلب عليه:
_فطيمة أقل شيء بيخلي حالتها تسوء أكتر من فضلك حاول تمنع ماما إنها تضايقها.
شفق عليه وعلى القدر الذي وضعه باختبار سيكون من الصعب عليه تجاوزه، كان يعلم منذ أشهر بأنه علي قد سقط بداء العشق، فلم يكن بذاك الطبيب الذي يفشي أسرار عمله عن مرضاه أبدًا، ولكن من كثرة تفكيره بفطيمة وما يخصها كان يشعر تجاهها وإنها من أولويات حياته، وكأنها أحد أفراد عائلته، فكان يحاول باستماتة علاجها طوال تلك المدة التي تكمل العام بعد سفرهما من مصر لانجلترا، فنتج عن انشغاله تقصيرًا شمله تجاه العائلة، فاضطر أسفًا يبرر انشغاله لرفيقه الودود أحمد، ووالدته وأخيه ظنًا من أنهم سيتفهموا سبب غيابه بالأيام عن العودة.
ورغمًا عنه وجد الامور تخرج عن طور سيطرته، فإذا بقلبه المغدور يعلن حبها صريحًا له، جابه مشاعره كثيرًا ولكن قلبه بالنهاية انتصر.
تحركت يد أحمد تربت على ساقه وهو يخبره ببسمة هادئة:
_متقلقش يا علي، هكون موجود معاهم ومش هسمح لفريدة تعمل شيء.
وهبط يغلق باب السيارة وهو يشير إليه:
_روح إنت مشوارك ومتقلقش.
ابتسم براحة بعدما تفادى الخمسون بالمئة من المشاكل، فحتى إن كانت فطيمة ستواجه جزءًا من تسلط والدته ولكنها ربما تكون هينة أمام المئة بالمئة!
********
ارتدت حجابها حينما استمعت لرنين جرس الباب، واتجهت لتفتحه، فوجدت مايسان تقف ولجوارها فتاة وامرأة تسدد لها نظرة لو حملت الجمر لأشعلت فطيمة على الفور، بدى لها بأن تلك المرأة لم تكن سوى فريدة هانم والدة علي، وقد صدقت أحاسيسها حينما قالت مايسان:
_دي شمس إخت علي يا فطيمة، ودي فريدة هانم والدته.
ابتلعت ريقها بتوترٍ شديد، ورددت:
_أهلًا وسهلًا.. اتفضلوا.
ابتسمت فريدة ساخرة، وولجت للداخل متعمدة أن تحك كعب حذائها الأبيض العالي بالأرضية، مرددة:
_مش محتاجين عزومة إننا ندخل بيتنا يا حبيبتي.
كانت بدايتها معلنة للفتيات، بأن تتهييء للحرب منذ الآن، فخففت شمس وطأة الاحداث حينما أحاطت فطيمة بذراعيها وببسمة مشرقة قالت:
_أهلًا بعروستنا الجميلة اللي هتنور بيتنا.
استلطفتها فطيمة، فكانت بشوشة رقيقة مثل مايسان، فضمتها وأجابتها على استحياءٍ:
_تسلميلي يا حبيبتي.
مازحتها وهي تدعي بحيرة:
_قوليلي بقى أناديلك فطيمة ولا فاطمة ولا فاطيما.
ضحكت وهي تجيبها:
_براحتك الإسم اللي حاباه ناديني بيه.
أشارت لهما مايسان التي تقف بالردهة تراقب فريدة الجالسة على الأريكة تحدجهما بنظرة قاتلة، ثم قالت:
_يلا يا فطيمة ادخلي غيري هدومك عشان هننزل نشتري فستان لكتب الكتاب.
أخفضت عينيها أرضًا بحرجٍ، فدنت منها مايسان تهمس لها بضيق:
_هو انا مش وريتك امبارح أوضتي وقولتلك إلبسي اللي تحبيه يا فطيمة، لسه بالاسدال ليه؟
_يمكن مش مستنضفة تلبس مكانك يا مايا، ومستنية الجديد يوصلها!
قالتها فريدة وقد بدأت تلقي سهام حربها، فانقبضت معالم فطيمة خوفًا من القادم، خاصة بأن نظراتها كانت مقبضة، أجل هي تعلم بأنها لن تكون بداية سلسة بقرار زواجها، ليس من علي بالتحديد بل بأي رجلًا، من البديهي أن والدته لن ترضخ لطلبه الغير مقبول بالزواج من أنثى تم تجرديها مما تمتلك!
هي من البداية كانت تصر برفضها لعلمها ذلك، ولكنها بالنهاية لم تكن قاسية على قلبها مثلما قسى عليها الجميع.
خطفت فطيمة نظرة لفريدة التي تقتص بنظراتها التي شملتها من رأسها لأخمص قدميها،كأنها تقيمها بنظرة تحط من قدرها، فوجدت الكره والحقد يترأسان حدقتيها، اعتلاها الحزن وفضلت الصمت،فتركت فريدة حقيبة يدها البيضاء جانبًا واتجهت لتقف قبالتها، فمازالت تقف جوار شمس ومايسان جوار باب الشقة المفتوح، مربعة يدها حول صدرها بثقة:
_قوليلي يا فاطيما، عملتيها إزاي دي وقدرتي توقعي ابني الدكتور علي!!
واستكملت بسخرية:
_أصل بصراحه شايفة إنك بتمتلكي ذكاء وخبث ميلقش على وش البراءة اللي مصدرهولي من ساعة ما شوفتيني، واحدة زيك باللي حصل معاها كان ممكن يبقى طموحاتها توقع الفراش، حد من أمن المستشفى، صبي البوفيه، لكن الدكتور المعالج دي بصراحه تحسبلك!
صعقت مما استمعت، فشعرت وكأن قدميها تهتز عنفًا طالبة جلوسها قبل أن تسقط أرضًا، بينما اندفعت شمس تهتف بها:
_مامي بليز مينفعش اللي بتقوليه ده حضرتك عارفة إن آآ..
رفعت كفها توقعها عن الحديث ومازالت نظراتها تحيط بفطيمة التي تتشبث بجوانب اسدالها الفضفاض، تجاهد أنفاسها اللاهثة، فتدخلت مايسان بهدوء:
_فريدة هانم ميصحش اللي حضرتك بتقوليه ده، علي شرح لحضرتك قبل كده والموضوع انتهى!
أحالت بنظراتها عنها لتتجه لزوجة ابنها الأصغر وابنتها، لتردد باندفاع:
_مفيش شيء انتهى يا مايا، الحرباية دي عرفت تتلون على ابني عشان توقعه بس مش هتنجح تخدعني، ولو عندها ذرة كرامة هتاخد نفسها وتمشي من هنا فورًا.
وخطفت مسافتهما لتصبح قبالة عينيها:
_ولو بتحبه مع إني أشك في ده، هتحب الخير ليه وإنه يكون سعيد مع بنت يكون هو حظها الأول وميبقاش بسببها أضحوكة وسط الطبقة المخملية اللي مستحيل هتكون منها!
_فريـــــــدة!
صوت ذكوري قوي قطع حديثها، ليمر من بين الفتيات حتى أصبح قبالتها عوضًا عن فطيمة التي يرتجف جسدها، فأشار لمايسان وشمس:
_خدوها تغير هدومها عشان هنتحرك حالًا.
جذبتها شمس بفرحة لوجود أحمد هنا، فلا هي تمتلك جرءة محاربتها ولا حتى زوجة أخيها، ولجوا بها لغرفة مايسان الجانبية، وأغلقوا الباب ليدعوا الساحة لأحمد ليحارب بمفرده.
فما أن تأكد من ابتعادهما حتى صاح غاضبًا:
_إنت شكلك مش ناوية تجبيها لبر، سبق واتكلمنا وانتهينا، لسه بتحاولي تعملي أيه تاني؟
تركته واتجهت تقف أمام الشرفة الزجاجية الضخمة، مرددة بانفعال:
_لا مخلصناش يا أحمد، أنا مش هقف أتفرج عليها وهي بتدمر ابني قصاد عيني.
حرر زر جاكيته الرمادي، ودث يده بجيب بنطاله القماشي، فاستند بيده الاخرى على العمود المجاور له وهو يردد بارهاقٍ:
_وبعدهالك من العناد يا فريدة، تعبتيني وتعبتي اللي حواليكي!
واتجهت عينيه إليها يخبرها برزانة نبرته الجذابة:
_يا فريدة افهمي البنت مريضة حرام عليكي اللي بتعمليه ده هيدمرها.
ضحكت ساخرة واقتربت منه:
_والله أول مرة تخليني أشك في ذكائك يا أحمد، البنت دي سليمة وأحسن مني ومنك، عارفة هي عايزة أيه كويس وبتنفذ لعبتها من زمان، لدرجة أن علي مكنش بيتنقل من المستشفى نهائي بسببها والله أعلم هي عملت أيه تاني عشان تخليه يصمم عليها كده، مستبعدش أنها أغريته أو آآ..
صوته الجهوري خرج متعصبًا:
_حرام عليكِ تظلمي البنت وابنك بالشكل البشع ده، الظاهر إنك بعد اللي عمران عمله بقيتي تشوفي علي نسخة منه، علي يا فريدة العفيف اللي مبيسبش ولا فرد، علي اللي عاش عمره كله يطيعك رغم إنه عارف انك غلط، تفتكر إنه ممكن يرتكب ذنب زي ده!!
أخفضت وجهها للأسفل فانسدل شعرها القصير يخفي معالم وجهها عن عينيه، تراه لا يرغب برؤبة دمعاتها، مسح وجهه بقوة كادت باخفاء معالمه، ثم دنى يقول:
_حبيبتي سبيه يختار حياته ويعيشها زي ما هو حابب، والله أعلم بعد كده هيحصل أيه، ما يمكن ميتفقوش أو يحصل لا قدر الله عدم تفاهم بينهم ساعتها لو أخد قرار الانفصال يكون باختياره هو وبدون ما تفصري عليه بشيء.
رفعت وجهها إليه، واتجهت لتلامس النافذة الزجاجية، هامسة بخبث:
_ده اللي هيحصل.
صفق كف بالأخر مرددًا بنفاذ صبر:
_مفيش فايدة فيكِ هتفضلي زي ما أنتِ.
أسرعت إليه تتمسك ذراعه وبرجاء قالت:
_أحمد افهمني أنا آآ.
ابتلعت جملتها بصدمة حينما وجدته يستل ذراعه منها بانتفاضة غريبة، فراقبت معالمه باستغرابٍ، تنحنح بحرجٍ مصطنع:
_اعذريني يا فريدة، أنا مش حمل أشيل ذنوب، متنسيش إني بالنهاية أخو جوزك وعم وألادك.
واستكمل طريقه للمقعد واضعًا ساقًا فوق الاخرى بثقة، تاركها تتأمله بدهشةٍ وخوفٍ بدأ يحيطها من فكرة نفوره منها ومن مشاكلها التي لا تنتهي، فوخز قلبها بقوةٍ جعلتها تتجه لتجلس على الأريكة المجاورة له لتردد بصوت محتقن تقطع صداه:
_أحمد إنت عايز تبعد عني؟
رفع رماديته لها بعتاب شق صدرها:
_وأنا من أمته كنت قريب يا فريدة هانم!
كادت بالحديث إليه فقاطعتهما شمس حينما قالت:
_احنا جهزنا يا أنكل أحمد.
نهض يغلق زر جاكيته وهو يشير لهم ببسمة جذابة:
_يلا يا شمسي، السواق جاب العربية تحت وأنكل أحمد بنفسه اللي هيوصلكم مكان ما تحبوا، بس من اولها كده انا مش حمل بهداله البنات والجري على كل محلات المول، يعني تحددوا قائمة المحلات اللي هتدخلوها وياريت تكون محدودة، مفهوم؟
ضحكت مايا وأجابته بمرحٍ:
_علم وينفذ يا باشا.
ابتسم وهو يراقبهما، واتجهت عينيه على فطيمة التي تتطلع أرضًا بحزن، تتحاشى أن تتطلع تجاه مكان جلوس فريدة، فاقترب منها قائلًا بلباقة:
_أهلًا بعروسة ابني الغالي، وأكيد من النهاردة هتبقي بنتي إنتي كمان.
واسترسل مازحًا:
_ما شاء الله الواد طلع بيفهم ومختار قمراية ، مش كده ولا أيه يا شمس؟
أحابته الاخيرة وهي تضع قبلتها على خد فطيمة:
_الا كده، دي كريزة يا أنكل.
رددت بخفوتٍ شديد:
_شكرًا لحضرتك.
أشار لهم على المصعد قائلًا:
_طيب يلا بسرعة ورانا مشاوير كتير.
واستدار تجاه تلك الساهمة التي مازالت تتطلع لمقعده:
_هتيجي معانا ولا هتخليكِ هنا يا مرات أخويا؟
انتقلت نظراتها الغاضبة إليه، وحملت حقيبتها واتجهت خلفهن بخطوات متعصبة جعلته يبتسم وهو يهمس بخبث:
_مفيش مانع وأنا بحل مشكلة علي أحل مشكلتي بالمرة!
*******
ولج ثلاثتهم للمصعد، فوقف جمال قبالة يوسف يعدل من الجرفات، مطلقًا صفيرًا مضحكًا:
_لا البدالة هتأكل منك حتة يا جو، دي مبتخرجش الا للحبايب خد بالك.
نزع يده عن عنقه وهو يصيح بضيق:
_خلاص يا عم قرفتني بام البدلة بتاعتك!
منحهما سيف نظرة ساخطة وعاد يتابعه التاب في محاولة لمراجعة مذاكرته، فتوقف المصعد بأحد الطوابق، فولجت للداخل فتاة محجبة وضغطت على زر الهبوط للأسفل.
اتسعت بسمة واسعة على وجه يوسف وهو يراقب تلك الفتاة بأعين منبهرة، جعلت جمال يميل إليه هامسًا بصدمة:
_أوعى خناقتك مع دكتورة ليلى تأثر معاك وتتجوز عليها، اعقل يا جو!
لكمه بغضب جعلها تستدير للخلف بريبة، فقال يوسف ببسمة بلهاء:
_أعتذر عن الازعاج، صديقي لا يبدو أنه بخير.
منحته نظرة ساخطة وعادت تتطلع للأمام، بينما انجرف يوسف تجاه سيف المنعزل عنهم تمامًا بمذاكرة دروسه ليجد أخيه يلكزه بقوة، جعلته ينزع نظارته الطبية وهو يهدر بانفعال:
_في أيه تاني؟
أشار بغمزة عينيه:
_محجبة ولابسة واسع ومحتشمة، مالكش حجة.
وأشار لجمال المنصدم بقدر صدمة سيف:
_هعرف من أمن العمارة ساكنة في الدور الكام وهروح أنا وجيمس نخطبهالك، ها أيه رأيك؟
لطم جبهته بالتاب فاستغل خروجهم من المصعد ليصيح به وهو يسرع لسيارته المصفوفة بالخارج:
_أنا واكل ورثك بتحاول تتخلص مني بأي شكل! ما تنزلي اعلان على السوشيل ميديا أحسن!
وهمس بضيق وهو يصعد لسيارته:
_يا رب ارحمني منه ومن أصحابه لاني اتخنقت، أغير كالون الشقة ولا أطفش وأسبهاله!
غادرت سيارته وتبقى يوسف يلمح أثره بعدم رضا، فنزع يده المستندة على خصره ليشير لجمال:
_هات عربيتك يلا.
دنى منه يشاكسه:
_بدل ما أنت شايل هم أخوك كده شيل هم نفسك وفكر هتصالح دكتورة ليلى ازاي؟
وطرقع أصابعه بخبث:
_ولا أقولك إحنا في طريقنا للمعلم زير النساء، قاهر قلوب الأجانب استعين بمساعدته أياكش حظك النحس يتفك على إيده.
منحه نظرة غاضبة، ليصيح بوجهه:
_الزير الوقح مع كل النساء ومش عارف يتواقح مع مراته! غور هات العربية يا جمال وخلي يومك يعدي!
*****
انتقت مايسان أحد المحلات الراقية، وبمساعدة شمس اختاروا فستانًا بسيط من اللون الأبيض، تحيطه بطانة من الدنتل، وصف من الفراشات تحيط بكتفيه، لينتهي باتساع وكأنه فستان خاص لسندريلا عصرها، فجذبته العاملة بحرص حينما شددت صاحبة المحل بحزم:
_إحمليه بحرص، ليس لإنه غالي الثمن بل لإن والدتي قد صنعته بيدها خصيصًا لمن ستكون صاحبة النصيب.
واستدارت تجاههم مضيفة ببسمة عملية:
_ويبدو بأن تلك الجميلة هي صاحبة النصيب.
اكتفت فكيمة بمنحها بسمة بسيطة بينما كادت بالانصياع ليد شمس التي تجذبها للغرفة بحماسٍ، فأستوقفتها جملة فريدة:
_الفستان شكله قيم ويستاهله عروسة بجد، مش كده ولا أيه يا مدام فطيمة؟
رفعت عينيها الدامعة إليها، فوجدتها تمنحها بسمة متشفية لما خاضته الآن، فتدخل أحمد حينما قال ببسمة مستفزة لتلك التي تراقبه، متعمدًا الحديث بالانجليزية ليرضي فضول العاملات من حوله بمحاولة فهم جملة فريدة العربية :
_بل صنع لصاحبة القلب الأبيض والوجه الملائكي، صنع خصيصًا لكِ فطيمة.
بالرغم من خوفها الشديد من صنف الرجال ولكن هذا الأحمد يبدو بأن شعورها غريبًا تجاهه، لم تقابله سوى بضعة دقائق وبدأ شعور الألفة والأمان يجتاحها، منحته فطيمة بسمة ممتنة وولجت خلف الفتيات للداخل ساهمة بما سيحدث لها من فريدة، إن كانت كذلك بأول يوم جمعهما به ماذا ستفعل حينما تذهب للعيش برفقتهم؟!
تحركت برفقتهما وتركتهما يعاونها على ارتداء الفستان وهي شاردة بعالم أخر، لا تعلم ماذا يتوجب عليها فعله، هل تخبره برفضها مجددًا أما تهرب منه تاركة قلبه ينكسر من خلفها؟
والأهم من ذلك إن تركته إلى أين ستذهب، هي لا تعرف أحدًا هنا سواه هو ومراد الذي لم تمتلك له رقم هاتف حتى، لا تعلم لما حنت بتلك اللحظة لعائلتها، فافتقدت حضن والدتها الراحلة، بداخلها عذاب يقتلها لأنها تعلم بأن والدتها ماتت من حسرتها على ما حدث لها، حتى والدها وشقيقتها انقطعت عنها أخبارهم.
انسدل الدمع على وجه فطيمة وفجأة انتفضت باكية بشكلٍ قبض صدر مايا وشمس، فضمتها مايا إليها وهمست لها بحزن:
_متزعليش يا فاطيما خالتي والله طيبة وقلبها أبيض هي بس مش متقبلة إن حد من ولادها يأخد قرار بدون الرجوع ليها، وبكره لما تعاشريها هتعرفي الكلام ده بنفسك.
وطبطبت عليها وقد انسدلت دمعاتها تأثرًا بها، بينما قالت شمس بصوتها المحتقن:
_بليز فاطيما متبكيش، أنا عارفة إن مامي غلطت فيكي بس والله بكره هتحبك وهتتقبلك، لإنك حد كيوت ولطيف.
أبعدتها مايا عنها وأزاحت دموعها قائلة ببسمة:
_متزعليش بقى ده النهاردة كتب كتابك يا عروسة، عايزينك مفرفشة.
وتابعت بسخرية:
_وبعدين إنتِ عايزة أيه من فريدة هانم، ما أنا وشمس وأنكل أحمد ودكتور علي معاكي وبنحبك ده مش كفايا؟
رسمت بسمة رقيقة على محياها وهي تجيبها:
_كافي ليا يا مايا، أنا أساسًا حبتكم من اول ما شوفتكم والله.
ضمتها شمس بسعادة وهي تجيبها؛
_أنا كمان حبيتك جدًا جدًا.
وأشارت لها وهي تخرج من حقبيتها أدوات التجميل:
_خلصي لبس بقى عشان لسه هحطلك الميكب، لكن لفة الحجاب مش هعرف لإني مش محجبة فنخلي مايا تلفهالك.
قالت على استحياء وهي تراقب ما تضع على السراحة الجانبية للغرفة:
_أنا مش بحب أحط مكياج.
استدارت إليها تخبرها:
_متخافيش انا هحطلك حاجات سمبل كده.
هزت رأسها بخفة وإنصاعت لمايا التي تديرها لتغلق سحاب فستانها الأبيض.
******
أبلغتهما الخادمة بأن عمران برفقة الطبيبة بالصالة الرياضية القابعة بالطابق الثاني ، صعد جمال ويوسف للأعلى، فما أن رأتهم الطبيبة حتى تهللت أساريرها، وجعلتهما يعاوناها بعلاجه، فأمسك به جمال ليسنده على الحامل الخشبي، بينما يوسف يحرك قدمه مثلما أمرتهما الطبيبة، فعبث جمال ساخرًا:
_دي أخرتها خدامين لمعاليه!
رد عليه يوسف وهو يحرك قدم عمران بمهارة:
_الحقير ده مطلع عنينا وهو بصحته وهو راقد!!
أغلق عمران عينيه باسترخاءٍ مستفز:
_اشتغل وإنت ساكت منك له.. محدش قالكم تيجوا دلوقتي!
نغزه جمال ساخطًا:
_جاين نكفر عن ذنوبنا بمعرفتك السودة يا سيدي!
لف جسده بعنف جعل يوسف يرتد للخلف ساقطًا أرضًا ليسدد لكمة قوية اطاحت بفك جمال، ليصيح بغضب:
_احترم نفسك معايا، أنا دراعي لسه سليم فخدلك عازل مني بدل ما هلاكك يكون على يدي!
انتصب يوسف بوقفته فاحاط تلباب ملابسه بيده مرددًا من بين اصطكاك أسنانه:
_أقسم بالله يا عمران لو متلميت لكون كسرلك رجلك التانية، اعقل كده وسبنا نخلص التمرين المنيل ده خليني أغور من خلقتك أنت والحقير اللي جنبك ده.
برق جمال بدهشة لحقت نبرته المستنكرة:
_الحقير ده كنت بتترجاه إمبارح لجل ما يسترك يا دكتور.
أصاب عمران نفس الدهشة، فاستدار لجمال تاركًا يد يوسف تحيط رقبته:
_تستره من أيه؟ انت انحرفت من ورايا يا دكتور العفة والشرف!
تركه يوسف واتجه للمقعد يجذب جاكيته ويرتديه متمتمًا بعصبية:
_أنا غلطان إني سايب المستشفى والعيادة وجاي لانسان وقح زيك، أنا ماشي شوفلك حد يساعد الدكتورة.
لم يعبىء به وسأل جمال باهتمام:
_عمل أيه قولي؟
أجابه وهو يحيطه بقوة بعدما تخلى يوسف عن مساعدته:
_دكتورة ليلى طردته في نص الليل بالبيحامة الستان السودة، كان شكله مسخرة والله العظيم.
أدمى عمران شفتيه ساخطًا:
_اخص على دكتور الندامة، بقى تطردك بالبيجامة.. بالبيجامة يا يوسف!
هدر بانفعال:
_غنوا وردوا على بعض ما أنا عارفكم واحد وقح وواحد حقير هستنى منكم أيه؟!
تعالت ضحكاتهما عاليًا، فقال عمران وهو يستند على الحاملين الخشب:
_لخص الحكاية ببوكيه ورد وروحلها المستشفى بيه، الستات تحب اللافتات اللطيفة دي وبالذات لو كان بمكان متتوقعش أنك تعملها فيه.
وجلس بتعب على أقرب مقعد وهو يستطرد:
_نسبة كبيرة منهم بيحبوا الواد الروش اللي يبين حبه ليها قدام خلق الله وبالأخص بمكان شغلها، ويحبذا بقى لو شخص معتوه راح لمراته مكان شغلها واتخانق معاها هناك، دي بتكون نهاية للعلاقة يا صديقي!
أشار جمال بأصبعه ليوسف الشارد بحديث عمران:
_ركز يالا في الاختيار الأول، شيل ورد وروح بكرامتك.
وتابع بخوف:
_سكوتك قلقني إنت بتفكر في الحل التاني ولا أيه؟!
هز رأسه بنفاذ صبر:
_يا عم ارحمني انا لسه داخل الدنيا من كام شهر هنهيها من دلوقتي!!
ودث يده بجيب جاكيته يجذب الهاتف الذي يعود لرنينه للمرة الثالثة، فخرج من الغرفة الشاسعة بأجهزة رياضية حديثه، ثم ذهب بعيدًا ليتمكن من الحديث مع زميله بالمشفى.
انحنى جمال لعمران الذي يمرر يده على قدمه بتعبٍ، وعينيه شاردة بأجهزته المفضلة بشوقٍ لعودته لممارسة الرياضة من جديد، فقال بحزن:
_مع التمرين والعلاج هترجع أحسن من الأول.
ابتسم برضا تام وقال:
_لو ده عقوبة الكبائر اللي ارتكبتها فأنا راضي يا جمال.
وسحب نفسًا ثم مرره عبر أنفه مستكملًا بحزن:
_إنت متعرفش الخوف اللي جوايا مدمرني إزاي، خايف من عقاب ربنا ليا، خايف ميغفرليش أخطائي اللي ارتكبتها، بستنى بخوف العقوبة اللي هشوفها بالدنيا على جرايمي دي.
أدمعت عين جمال تأثرًا بحديثه، وقال بخشونة يخفي ضعفه خلفها:
_بطل الكلام الفارغ ده، إنت الظاهر كده السم اللي شربته دمرلك عقلك.
وتابع ببسمة هادئة:
_يا عمران ربنا غفور رحيم، وإنت مدام ندمت على أخطائك وبتعافر أنك ترجع لطريق الصلاح عمره ما يقفل بابه في وشك أبدًا.
وبصوتٍ عذبٍ فاجئ عمران، ردد جمال بخشوع… تام:
_قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿٥٣ الزمر﴾
أدمعت عين عمران تأثرًا من سماع صوته الدافئ، فقال:
_صدق الله العظيم.
وبلهفة أضاف:
_صوتك جميل أوي يا جمال، إزاي مسمعتوش قبل كده؟
ضحك وهو يشير لذاته بغرور مصطنع:
_صاحبك أحلى واحد يقيم الصلاة بالشركة.
وتلاشت بسمته حينما قال بحزنٍ:
_كلنا بنرتكب معاصي يا عمران، أنا مش قادر أنسى المرة اللي شربت فيها الزفت الخمرة، لحد الآن مش مسامح نفسي، بس بكمل حياتي وبستغفر ربنا على أمل إنه يغفرلي خطيئتي دي.
نزع عنه سترته الرياضية، وبتقزز شديد قال:
_البلد اللي احنا فيها دي السبب، المعاصي محاوطنا من كل جهة، خمرة وستات وكل شيء هنا مباح بدرجة مرعوبة، تعرف أنا بتمنى أسافر لمصر ونعيش في القصر بتاع جدي الله يرحمه مع عمي أحمد بس للأسف غصب عننا لازم نكون هنا، أملاك بابا وشغل علي ودراسة شمس حتى الجمعيات وشغل فريدة هانم كله هنا.
رد عليه جمال وعينيه لا تفارقه:
_دي حجة باطلة بنضحك بيها على نفسنا يا عمران، المسلم القوي إيمانه لو سافر لزمن الجاهلية والكفر مش هيتهز فيه شعرة، كل دي حجج يا صديقي!
هز رأسه باقتناعٍ، وبحرج أضعف حنجرته:
_عندك حق، إحنا محتاجين نقوي إيمانا بالله عز وجل.
منحه ابتسامة هادئة قبل أن يشير له:
_طب سند نعمل التمرين الأخير عشان يوسف ميتأخرش على شغله.
أومأ برأسه ونهض يحتمل على كتف رفيقه، فأحاطه بقوةٍ، بينما اقتحم. يوسف الغرفة يخبر جمال بحماسٍ وفرحة:
_جمال الدكتور الأمريكي اللي كنت بتسألني عنه عشان عملية القلب بتاعت والدتك جاي المستشفى عندنا كام يوم تبع المؤتمر اللي هيقام عندنا، دي فرصتك إنه يعمل لوالدتك العملية.
شحب وجه جمال تدريجيًا، فأجلى أحباله الصوتية:
_بعدين يا يوسف بعدين.
استغرب يوسف طريقته ومع ذلك أثر الصمت، فقال وهو يعيد هاتفه لجيبه:
_طيب لو خلصتم خلينا نتحرك اتأخرت.
أشار له جمال بارتباكٍ من نظرات عمران إليه، فقال وهو يسنده:
_هدخل عمران أوضته وجاي.
أشار له يوسف:
_طيب هات المفاتيح أدور العربية لما تنجز.
دفع له المفاتيح وخطى جوار عمران تجاه غرفته، فما أن تأكد عمران من هبوط يوسف حتى منع جمال من الفرار قائلًا :
_استنى عايزك.
كاد بالخروج من باب غرفته، فاستدار وهو يقبض قبضة يده بغضب لحق هو الاخير بنبرة عمران:
_سبق وسألتك قبل كده على عملية والدتك وقولتلي إنها لازم تتعمل بأقرب وقت، ودلوقتي بعد ما الفرصة جتلك بتتهرب منها، في أيه يا جمال؟
زفر في محاولة لاختيار كلماته:
_مفيش، أنا حاسس إنها بقيت كويسة وآآ..
قاطعه بسؤاله المباشر دون لف ودوران:
_إنت محتاج فلوس؟
احمرت حدقتيه غضبًا وصاح بعصبية:
_مالكش دعوة يا عمران، أنا أدرى أحل مشاكلي لوحدي.
جذب المزهرية المجاورة لفراشه ليسقطها فوق رأسه بتعصب، تفادها جمال بصعوبة وهو يهمس بعدم تصديق:
_مجنون!!
بحث عمران عما يود استخدامه ولكنه فشل بالوصول للمزهرية الاخرى، فصرخ بعنف:
_استنى أنا هوريك الجنان اللي على أصوله، عشان تبقى تعرف تتكلم معايا كويس يا حقير.
وتابع بعصبية بالغة:
_بقى بتداري عليا بعد كل اللي بينا، ده أنا لو حصلي حاجة إنت أول واحد بتجري بيا، للدرجادي أنا مصدوم ومش مصدق إنك تكون بتمر بحاجة زي دي وتخبي عننا يا جمال، بجد مصدوم ولو قادر أقف كنت قتلتك وخلصت.
أسرع يخبره بحزن:
_إنت عارف إني مش بحب أطلب مساعدة من حد حتى لو كنتوا اخواتي.
خرج عمران عن هدوئه، فجذب الوسادة من خلفه ليقذفها إليه، فالتقطها سريعًا ليعيدها إليه بحدة:
_اهدى بقى بهدلت الأوضة بجنانك ده، مش صالة رياضة هي!
أجابه من بين اصطكاك أسنانه:
_ما أنت معصبني خصوصًا إنك واقف بعيد ومش طايلك، تعالى لو راجل تعالى أقف هنا قدامي!
انحنى يجمع زجاج المزهرية لسلة المهملات، مردفًا:
_لا أجيلك ولا تجيني، خليك مستريح مكانك أنا أساسًا مش فاضيلك.
وانتهى من جمع الشظايا، ثم إتجه ليغادر، فقال عمران بحزم:
_جمال جهز أوراق سفر والدتك، وأنا هتكفل بفلوس العملية ولما تجمع المبلغ بعد المناقصة اللي داخلها ابقى سددلي جزء منه وبعد كل مناقصة هأخد جزء من فلوسي، وبكده تكون رضيت غرورك الغبي.
أشتعلت حدقتيه، فابتسم عمران بخبث:
_اتعصبت! حلو تعالى اقعد جنبي هنا ونتكلم ونتناقش.
استدار ليغادر فعاد يناديه مجددًا:
_جمال.
توقف محله، ليأتيه تهديدًا قطعي:
_أقسم بالله لو مبعت جبت والدتك الاسبوع ده لا أنت صاحبي ولا أعرفك، وإنت عارف كويس إني قد كلامي، كفايا زعلي من اللي عملته، المرادي هتبقى كبيرة.
ابتلع ريقه بتوترٍ، خسارة أحد أشقائه تعني الموت حتمًا فهز رأسه مرددًا:
_حاضر.. هحجزلها.
وغادر على الفور من أمامه، تاركًا ابتسامة الانتصار تحيط بوجه عمران، فتمدد على الفراش، ليغلق عينيه براحة وفتحها مجددًا حينما فُتح باب الغرفة مجددًا، فاعتدل بجلسته هاتفًا بسخرية:
_يا هلا يا هلا بالعريس، أيه لسه فاكر أنك نسيتني وراك!
حدجه علي بنظرة جامدة قبل أن يتجه للخزانة قائلًا ببرودٍ:
_نسيت ابن أختي ورايا ورجعت أخده.. قوم إلبس وخلصني.
منحه نظرة ساخرة قبل أن يشير بيده إليه، فجذبه علي ليستقيم بجلسته ومن ثم اتجه للخزانة ليجذب بذلة آنيقة من اللون الأسود، مررها لعمران وكاد أن يشرع بمعاونته ليوقفه الأخر بسخط:
_أيه الذوق المقرف ده، إنت بتكروتني!
جحظت عينيه بصدمة، لحقت نبرته:
_هو أنا جايبها من دولابي، ده ذوقك يا حبيبي!
ألقاها عمران جانبًا وأشار له:
_مش بلبس أنا كده، بختار البنطلون وبعد كده بطقم باستايل مختلف مش اللبس المعتاد ده، أنت تايه عني ولا أيه يا دكتور؟
كز على أسنانه بغيظٍ:
_هو ده وقت محاضراتك يا عمران، فطيمة سايبها مع فريدة هانم وحاسس إني هروح ألقيها نهشتها على سنانها.
ضحك بصخبٍ، وقال:
_تعملها مصدقك، بس في أمل عمك معاهم فمش هيسمحلها متقلقش.
على ذكر عمه، قال علي بجدية تامة:
_لما نرجع بليل محتاجين نتكلم شوية، في موضوع مهم لازم أقولك عليه يا عمران.
إلتحف بالجدية هو الأخر وسأله باهتمام:
_موضوع أيه ده؟
قال وهو يعود للخزانة في محاولةٍ إيجاد ما يناسبه:
_بخصوص عمك، بليل نتكلم أفضل، دلوقتي لازم نتحرك، فلخص وقولي أجبلك أيه؟
أشار على البنطال الداكن من خلفه، وإختار قميصًا أسود اللون، ثم أشار لعلي مرددًا:
_عندك درجات الكحلي نقيلي درجة متكنش داكنة أوي.
زوى حاجبيه بضجرٍ، كلما أمسك سترة أشار له بالنفي، فجذب أحدهن وألقاها بوجهه صارخًا:
_إنت بتستهبل! ده أنا العريس مخدتش الوقت ده كله باللبس!
أجابه بسخرية وهو ينزع التيشرت عن جسده:
_وإنت من أمته بتهتم باختيار لبسك! إنت دقة قديمة يا علي مش ماشي تبع العصر!
ورفع ذراعه يقبل عضلته البارزة، متفاخرًا:
_حتى الرياضة مالكش فيها لما بحس إنك شبه خلة السنان!
دنى منه علي بنظرة جعلت الاخير يرتعب وخاصة حينما هدر:
_تحب أوريلك دلوقتي أنا أقدر أعمل فيك أيه بجسمي اللي شبه خلة السنان ده!
عاد لذكرياته ما تلقاه من ضربًا مبرحًا على يده، فأشار لذراعه الأيسر:
_كان على عيني والله بس إنت شايف أهو بعينك عندي شلل نصفي رباعي حاد الزوايا، لما أخف إبقى تعالى خد حقك.
انحنى يعاونه على ارتداء البنطال بنفاذ صبر، ليأتيه الأخير بصاعقة تفوقه حينما ظل لنصف ساعة يختار الحزام الجلدي المناسب للبنطال، ونصف ساعة أخرى ليصفف شعره ويختار البرفيوم المناسب، فأضرم علي بأن اليوم هو موعظ زفاف أخيه وليس هو.
جذبه بغضب حتى وضعه بالسيارة، فأطلق صفيرًا كان مزعجًا لعلي الذي هاتفه مدعيًا ابتسامته:
_تعرف تقعد بهدوء بدل الازعاج اللي عامله ده.
أجابه ببسمة واسعة:
_فرحان يا أخي مش كتب كتاب أخويا!
رد ساخرًا:
_أخوك نفسه معندوش الاستعدادات والانشكاح ده!!
مازحه بمكر وهو يغمز له:
_حد منعك من الانشكاح، انشكح براحتك بس بهدوء عشان فريدة هانم متفزعكش!
*****
صف السيارة جانبًا وهبط بخطاه الواثق وإبتسامته الخبيثة تحيل على شفتيه، فدنى من فؤاد يتلقف منه ما بيده دون أن يصدر اي رد فعل تثير الشكوك إليه، فهمس إليه الاخير:
_هنوصلها لمصر المرادي إزاي يا باشا؟
أجابه آدهم وهو يتصنع أنه بعدل حذائه ليدس الفلاشة داخل جواربه، ثم انتصب بوقفته يهمس له:
_متقلقش هتوصل والمرادي بطريقة مختلفة.
وغمز له قبل أن يغادر لداخل قصر راكان، مستمتعًا بكل خطوة يخطوها للداخل بعدما حقق اول إنتصارًا بكشف من يعلو راكان وتفاصيل العملية القادمة التي حتمًا ستكون بمثابة دق أخر مسمار بنعشه.
اصطدم إدهم بالهاتف الخاص براكان ملقي أرضًا أسفل قدميه، فرفع بصره ببطء تجاهه، ليجده ينفث غليونه بغضب شديد، وما ان رأه حتى صاح:
_الحيوانة شمس مش بترد على مكالماتي، وأنا مش عارف هي قالت أيه لعمران ولا لفريدة هانم، كنت عايز أضحك عليها بكلمتين.
قبض يده بعنف تمنى لو تركها تطول فكه فتحطم صف أسنانه السفلية، ولكنه سيطر على انفعالاته ليبدو باردًا كلوح الثلج، وقال:
_وإنت كنت منتظر أيه منها بعد ما اتخليت عنها واستخبيت ورا العمود!
جذب كأسه يرتشفه بغدافية شديدة، وتلفظ:
_وأنا كنت هعمل أيه يعني، أفديها بروحي مثلًا! ما إنت عارف اللي فيها.
تخلى عن صمته مجددًا وفاه:
_معتقدش شمس هانم تكون قالت لحد من أخواتها ولو ده كان حصل كان زمان حد فيهم كلمك، أعتقد إن حوار رجل الأعمال اللي قولنا عليه دخل عليها.
تمعن بحديثه جيدًا، وقال بتردد:
_طب وهعرف إزاي، هحط افتراضات؟
وتابع بعد تفكيرٍ:
_لازم أقابلها.. هروحلها الجامعة بكرة!
*******
طرقات على باب غرفتها حررت صوتها الرقيق:
_اتفضل.
ولج للداخل فوجدها تتمعن بتلك الاوراق التي توقع عليها وقالت بعملية دون الاهتمام بالتطلع لمن القادم:
_استريح، ثواني وهكون مع حضرتك.
منحها نظرة مستنكرة لوقاحتها بالتعامل مع المرضي، فقال بامتعاضٍ:
_من الذوق والأظب أنك تستقبلي المرضى بابتسامة واهتمام أكتر من كده يا دكتورة!
رفعت عينيها عن الأوراق تزيح نظاراتها، ولسانها بردد بدهشة:
_يوسف!
ابتسم ووضع باقة الورد على الأوراق التي أمامها مرددًا:
_دكتورة ليلى قلب دكتور يوسف وفشته وكليته وكل الأمعاء.
ضحكت وهي تراقب باقة الورد بعدم تصديق، فقالت باستغراب:
_ده أيه؟ أكيد بحلم مش كده؟
ازدادت بسمته عشقًا:
_احلمي وأنا المارد اللي هيحققلك أحلامك كلها، ومتعشم فيكِ تحققيلي حلم واحد بس.
امتعضت معالمها غضبًا بعدما تسرب لها سبب وجوده هنا، فألقت باقة الورد بوجهه وهي تهدر بانفعال:
_آه قول كده بقى، إنت جاي عشان ترجع تفتح حوار الخلفة تاني.
أبعد الورد عن وجهه وأسنانه تكاد تنهش شفتيه، وبدأ يستعيد اتزانه كليًا، فابتسم وهو يحرر احتقان صوته الغاضب:
_حبيبتي أنا عارف إنك امبارح اتحججتي بحوار البنت الحامل اللي كلمتني امبارح علشان قبلها كنت بقولك تعدي عليا بالعيادة أكشف عليكي من باب الاطمئنان بحيث يكون عندنا بيبي بأقرب وقت.
طرقت على سطح المكتب بغضب:
_متفتحش الحوار ده تاني يا يوسف، من قبل ما نتجوز وأنا قايلالك إني نفسي أحقق طموحاتي وأبقى من أكبر الجراحين في انجلترا وإنت وعدتني إنك هتساعدني ومش هتقف بطريقي.
رد عليها بهدوءٍ رغم اشتعال روحه:
_وهي الخلفة اللي هتعطلك عن تحقيق ذاتك يا دكتورة؟!
منحته نظرة غريبة يراها ببنية عينيها لأول مرة، وألقت إليه تهمتها:
_يعني لو أنا طلبت منك تسيب شغلك ونجاحك اللي وصلتله هتقبل بده يا يوسف؟
رمش بعدم استيعاب:
_وده دخله أيه في موضوعنا؟
وبوضوحٍ شديد تساءل:
_ليلى إنتِ بتلمحي لايه؟
نهضت بوقفتها تطعنه لأول مرة بما جعله عاجزًا محله:
_قصدي إنك غيران من نجاحي يا دكتور يا محترم، ودلوقتي عايز تهد كل اللي أنا حققته عشان أقعد في البيت وعلى كتفي عيل!
برق بعينيه بصدمة جعلته يحاول النهوض ليقف قبالتها، فاجبر صوته على الاستيقاظ:
_أنا هعتبر نفسي مسمعتش الكلام اللي قولتيه ده لإني لو أخدته بعين الاعتبار فمش هخرج من الاوضة دي غير وأنا رامي عليكي يمين الطلاق.
نالها من الصدمة جانبًا بعدما أهانته وانتزعت قلبه من صدره، فحاولت الحديث عساها تمحي زلة اللسان الكريهة هذة ولكنه منعها حينما قال بألم جعل صوته جاف:
_انا عمري ما غيرت من زميل ليا في مجال تخصصي ما بالك بمراتي اللي بتمنالها الخير على حساب نفسي!
وتابع يدافع عن نفسه المجروحه:
_ثم من أمته وأنا بقف بطريقك! أنا أوقات بحتاج لزوجتي تشاركني أجازتي زي أي إنسان طبيعي ومش بلاقيكي جنبي وعمري ما فتحت بوقي لإني عارف شغلك ومقدر ده، عمري ما جبرتك تقعدي من شغلك ولو يوم واحد، ولما بترجعي وبتحاولي تعوضي النقص بترتيب البيت والطبيخ بزعل لاني عارف وقفة طول اليوم بالمستشفى عشان المرضى عاملة ازاي، فبحاول أساعدك على قد ما أقدر، برتب كل شيء ورايا وبعمل لنفسي بأغلب الوقت أكلي، ده مش معناه إني ضعيف ومش قادر أكسرك بأي وقت..
ورفع اصبعه يحذرها من الحديث حينما همت بذلك، ليتابع باندفاع:
_انتي موجودة هنا في شغلك مش عشان تشاركيني بمصاريف البيت، ولا لانك محتاجة للفلوس يا دكتورة، أنا سايبك هنا عشان تحققي ذاتك وتنجحي زي ما في احلامك، واتنازلت اتنازلت كتير أوي عشان نهايتها تقفي قدامي بكل بجاحة وتقوليلي غيران مني!!
وابتسم ساخرًا وهو يضيف:
_وكل ده ليه عشان نفسي أخلف منك ولد! عشان اديتك وعد وانتظرتك أنتِ اللي تاخدي أي خطوة وتوقفي المانع من نفسك! كل ده عشان مقدرتش استحمل الوجع لما بيتولد على ايدي كل يوم طفل وعندي رغبة أشيل ابني بين ايديا زي أي زوج عايش حياة طبيعية مع مراته!! قوليلي أنا غلطت في أيه؟!
واخفض ذراعه ليضيف بتهكمٍ:
_بتطالبيني أسيب شغلي على أي أساس! أنا اللي هحمل بدالك وهشيل المسؤولية دي!! ، وبعدين هو كل ست حملت وخلفت سابت شغلها واتخلت عن حلمها؟!
ومنحها نظرة أخيرة قبل أن يخبرها:
_بس عندك حق أنا أستاهل إنك تتمادي بكلامك وطريقتك بالكلام معايا..
وحمل باقة الورد ووضعها بسلة القمامة المجاورة لباب الخروج ثم غادر على الفور، فانهار جسدها على المقعد، لتضم وجهها لكف يدها وهي تردد بصدمة:
_أيه اللي قولته ده؟!
*****
وصلت سيارة علي أمام الباب الخارجي للمول، فاتصل هاتفيًا بعمه ليجده يشير له فقاد للامام قليلًا، ليتفاجئ بها تهبط الدرج بفستانها الأبيض وملامحها الملائكية التي زلزته وكأنه لم يرى فتاة من قبل، هبطت برفقة مايسان وشمس حتى باتت قبالته تتحاشى التطلع له بحرج، فكانت عينيه لا تحيل عنها، حتى أنه لم يستمع لحديث شمس ولا لمباركات مايسان، وبصعوبة بالغة قال:
_القمر نزل من سماه لأرضي معقول!
تعالت ضحكات عمران المتدلي نصفه من نافذة السيارة، فصاح بخبث:
_الله أكبر دكتور علي نبغة العلم والأدب نطق يا جدعان، بركاتك يا مرات أخويا شكلك كده وقعتيه واقعه مفهاش قومة.
استدار إليه علي، فدفعه للداخل بغضب، وأمر مايسان بحده:
_خدي جوزك لعربية عمي.
خرج من النافذة يرفض:
_ده بعدك يا أبو علي لزقالك.
منحه علي بسمة ساخرة، فأشار لعمه الواقف على بعد مسافة منهما، واتبعته فريدة تكتف ساعديها أمام صدرها بغضب، ففتح على الباب الخلفي لوالدته التي حدجته بنظرة غامضة ثم صعدت للخلف ومن بعدها مايا وشمس، فتساءل عمران باستغراب:
_والعروسة هتركب فين يا ابني!
اتجه علي يميل على أحمد هاتفًا:
_المفاتيح يا أبو حميد ومرددالك.
غمز له بمكر وصعد يقود السيارة، فخرج عمران من النافذة يشير له بمرح:
_مش هعدهالك اصبر بس.
بينما صعد علي سيارة أحمد وقادها قبالة فاطيما، فصعدت لجواره على استحياء ليتجه بها للمحامي لعقد قرانهما أمام أفراد العائلة، ليعودوا جميعًا للمنزل مرة أخرى، وما أن ولجت فطيمة للمنزل حتى أشارت فريدة لعلي قائلة بأعين لامعة بالدموع:
_عملت اللي في دماغك يا علي؟ اعتبر إن من النهاردة مالكش أم!
يتبع…
ألقت جملتها وصعدت لغرفتها بهدوءٍ مخادع، بينما ربت أحمد على كتف علي يواسيه على الحرب التي بطريقها للاشتعال، بينما ردد عمران بحزن يلامس نبرته الثابتة:
_متزعلش يا علي، إنت عارف فريدة هانم كويس.
أومأ برأسه بعدم اهتمام، وتطلع تجاه فطيمة التي تقف جوار مايسان وشمس بحزن وعينيها تلمعان بالدمع، فحاولت شمس أن تزيح عنها، فقالت:
_تعالي يا فاطيما هخدك أوضتك تريحي شوية.
أومأت برأسها بخفة، وقبل أن تتحرك خطوة واحدة أوقفهما صوت علي:
_شمس اطلعي إنتِ أوضتك أنا محتاج أتكلم مع فطيمة شوية.
هزت رأسها ببسمة متفهمة، ودنت من عمران تسانده برفقة مايسان ليتوجهوا معًا للمصعد ومن ثم لغرفته.
بينما أشار علي لفطيمة للخارج:
_تعالي نقعد بالحديقة، المنظر بره هيعجبك جدًا.
اتبعته للخارج وهي تحمل طرف فستانها الأبيض الطويل، فجذب علي المقعد لها وجلس قبالتها، يتابعها بنظرة ساكنة تحاول استكشاف ماذا يعتريها بعد سماع كلمات والدته، وحينما وجدها صامته، سألها بشكلٍ مباشر:
_لما كنا عند المحامي قولتيلي أراجع نفسي! أيه اللي خلاكِ تقولي كده يا فطيمة؟ هي فريدة هانم قالتلك حاجة؟
رفعت عينيها الباكية إليه، تحرر صوتها المكبوت بعجزٍ:
_أي حاجة هي هتقولها فمعاها حق يا علي، إنت تستاهل واحدة غيري.
زفر بضيقٍ جعله يستند على يديه المحاطة بالطاولة:
_وبعدين يا فطيمة هنرجع لنفس الحوار ده تاني!
ومال بجسده للأمام ليصبح أكثر قربًا، متعمدًا التباطؤ بنطقه:
_إنتِ دلوقتي بقيتي مراتي يا فطيمة، يا ريت ترمي كل اللي حصل وراكي وتعيشي حياتك معايا من جديد.
واستدار بوجهه ليعود إليه هاتفًا بضيق:
_أنا عارف إني غلطت من الأول لما صارحت فريدة هانم عن حالتك، أنا عمري ما فشيت سر مريض عندي لحد بس إنتِ كنتِ حالة خاصة يا فطيمة، كنت متعلق بيكِ بشكل مش طبيعي، كنت حاسس إنك حد قريب مني، لدرجة إن قصرت مع نفسي ومع كل اللي حواليا عشان أكون معاكي وجنبك طول الوقت!
رفعت عينيها إليه، وقالت ببسمة حملت ألمًا طفيفًا:
_بالعكس أنا ارتاحت أنها عارفة حكايتي، مكنش عندي استعداد أعيش في رعب وانتظار للحظة رد فعلها لما تعرف الحقيقة، كده أفضل ألف مرة.
وتابعت وهي تزيح دمعاتها سريعًا:
_يمكن مع الوقت تتقبلني ولو ده محصلش فأنا راضية ومش طماعة في إن الكل حواليا يكونوا متقبلين وجودي، كفايا عليا إنت ومايسان وشمس وإنكل أحمد.
بالرغم من الآلآم التي طعنته بحديثها، الا أنه بادلها بسمة أكثر جاذبيية، وأطال بنظراته لها ثم قال بتردد ملحوظ:
_فطيمة.. هو أنا ممكن أطلب منك طلب؟
ارتبكت وهي تخمن أي طلبًا هذا، فاكتفت بهزة رأسها إليه، لتجده يدنو بجسده من الطاولةٍ مجددًا وهو يهمس بصوتٍ خطيرٍ لمشاعرها:
_هو أنا ينفع أخدك في حضني؟
هرولت فطيمة من أمامه بهلعٍ، وكأنه استحضر شبحًا قبالتها فظنته ساحرًا شريرًا، كادت أن تتعثر أكثر من مرةٍ بطرف فستانها الطويل، فاحطته حول ذراعها ومازالت تركض بأقصى سرعتها للداخل، والأخر يكاد فمه يصل للأرض من فرط صدمته التي انتهت بسيل متواصل من الضحك، فهرع خلفها يناديها من وسط قهقهاته المتتالية:
_فاطيمـا، استني!!
لم تلتفت لندائه المتكرر، واتجهت للدرج وبعد أول طابق وقفت بحيرةٍ من أمرها، تناست أنها الآن بمنزل جديد عليها لا تعلم حتى غرف الساكنين به حتى تتعرف على غرفتها!
انقبض قلبها وشحب وجهها بصورة مضحكة حينما تخيلت ذاتها تقتحم أحد الغرف فتجدها غرفة حماتها المصون! حينها ستسقط بنوبة قلبية لا محالة!
اِلتقط علي أنفاسه بصعوبة وهو يشير لها ضاحكًا:
_هو أنا طلبت منك أيه لكل ده؟
واستند بجسده على تمثال الحصان الضخم من جواره ليشير بانهاك:
_بسحب طلبي البسيط ولو ممكن ترجعي نكمل كلامنا.
زوت حاجبها بنظرة مشككة، فرفع ذراعيه للاعلى كابتًا ضحكاته بتمكنٍ:
_مش هتتكرر أوعدك!
عادت تدنو منه مجددًا، لتردد بارتباك:
_فين أوضتي، عايزة أرتاح وبكره نبقى نتكلم يا دكتور.
ردد ببلاهةٍ:
_دكتور!!
عبست معالمها بحدة:
_عايزة أرتاح ممكن؟
هز رأسه بتفهمٍ واتجه للطابق الثاني وهي من خلفه تتفادى مرات سقوطها من طول الفستان بصعوبة، فاستمعت إليه يهمس بحنقٍ:
_يا شماتة عمران الوقح فيا!
توقفت فجأة حينما وجدته يفتح أحد أبواب الغرفة، مستديرًا ببسمته الهادئة ورزانة صوته المحبب لمسمعها:
_دي أوضتك يا فطيمة، والأوضة اللي جنبك على طول دي أوضة شمس، واللي بعدها أوضة مايا.
هزت رأسها ببسمة صغيرة، فتابع وهو يشير على الغرفة التي تجاورها من الجهة الاخرى قائلًا:
_ودي أوضتي، واللي جنبها أوضة عمران.
ضيقت حاجبيه باستغراب، لحق نبرتها الهاتفة:
_عمران؟!
قرأ ما يدور بعقلها بذات اللحظة، فابتسم وهو يردد:
_أيوه عمران ومايسان مش عايشين مع بعض في أوضة واحدة، زي حالتنا كده.
وتابع ساخرًا:
_نحن هنا نختلف عن الاخرون، وإن شاء الله لو حد من برة العيلة اكتشف اختراع الأوضتين ده، آل سالم هتبقى مهزلة السنين، وبما إنك فرد جديد بالعيلة فرجاءًا السر يبقى في بير!
ضحكت ومازال رأسها يشير له بتأكيد، فمنحها ابتسامة هادئة هامسًا:
_تصبحي على خير يا فطيمة.
كاد بالمغادرة فاستوقفته منادية:
_دكتور علي.
عاد إليها بملامح عابثة:
_دكتور!!!
وتفادى ذاك المأزق حينما تساءل ساخرًا:
_خير يا فطيمة، نسيتي تاخدي رشتة الدوا؟
كبتت ضحكاتها وتساءلت باهتمام كاد باضحكاه:
_أوضة والدتك فين أقصد فريدة هانم؟
مرر لسانه على شفتيه بتسليةٍ، فدنى منها والاخرى تتراجع للخلف حتى اصطدمت بالحائط، فتصنع أنه يهمس لها خشية من أن يستمع له أحدًا، فقال:
_في الدور اللي تحت وبالأخص بالمكان اللي جبتك منه، يعني رفضتي حضن علي البريء وجريتي تتحامي بالكتعة!
جحظت عينيها صدمة وكأنها مازالت محتبسة بالأسفل أمام تلك الغرفة، فمنع ضحكته وهو يهز رأسه متحليًا بملامح الاكشن:
_أنا أنقذتك المرادي المرة الجاية يا عالم أيه اللي هيحصل!
وتابع ويده تشير على احد الغرف المتطرفة للدرج:
_ده حتى عمي خاف يقعد معاها تحت في نفس الدور سابها وبينام جنبنا هنا.
رفعت يدها تضم قلبها المرتجف، ففور تحقق هدفه قال بمكرٍ:
_لو حصل أي حاجة اجري على أوضتي وأنا أوعدك اني أفديكي بروحي!
وأشار لصدره بدراما أوحت لها بأنها على وشك أن تلقي حتفها على يد مجرمًا دوليًا:
_حضني جاهز ومفتوحلك أقصد بابي مفتوحلك بأي وقت.
منحته نظرة مرتبكة، واكتفت بإبماءة رأسها، فابتعد ليفسح لها المجال، فما أن رأها تتجه لغرفتها، حتى استند على بابها يردد بهيام:
_مش هتجيبي بقى.
تساءلت بدهشة؛
_اجيب أيه؟
أجابها بمنتهى الجدية:
_حضن من تحت الحساب، عشان أقدر أحميكِ من الكتعة بضمير.
احتقن وجهها بشدة، فأغلقت الباب بوجهه، وأخر ما تردد لها صوت ضحكاته الرجولية التي زرعت على وجهها البسمة تلقائية، وخاصة حينما مال علي على الباب ليهمس بحبٍ:
_بكره حضني هيكون ملجأك الوحيد!
********
حملت كوب المياه واقتربت من الفراش تقدم له الكوب وحبات الدواء، التقطهما منها عمران وتجرعهما بمرارة جعلته يغلق عينيه بتقززٍ:
_طعمهم مر زي نظراتك بالظبط.
منحته مايسان نظرة غاضبة، قبل أن تجذب الغطاء على جسده مرددة بجمودٍ:
_تصبح على خير.
وكادت بالرحيل فجذب معصمها إليه يبتسم وهو يخبرها:
_غيري رأيك وأنا هشوف كل شيء تقدميه ليا أجمل شيء أكلته في حياتي.
منحته نظرة شرسة قبل أن تجابهه بتحديها:
_اللي بتفكر فيه ده مستحيل يا عمران.
وجذبت يدها ثم استقامت بوقفتها، فقال بحزن مصطنع:
_يعني إنتِ يا مايا عجبك منظرنا كده قدام أنكل أحمد وفطيمة،هيقولوا أيه وكل واحد فينا بينام بأوضة؟
ردت بضحكة صاخبة:
_إنكل أحمد عارف بوضعنا من زمان، وإن كان على فطيمة بكره تتعود يا حبيبي.
ضم شفتيه معًا بقلة حيلة،هامسًا بسخطٍ:
_قاسية بس بموت فيكِ!
منحته بسمة ساخرة وجمعت الادوية تعيدها لمحلها وهو يتابعها بنظرة حب، فأجلى صوته الواجم ليصوبه فجأة لها:
_بطلتي تحبيني يا مايا؟
تصلبت يدها الممسكة بالكوب لدرجة جعلتها لا تشعر بانزلاقه من بين يدها، فأسرعت تجلس قبالته على الفراش وهي تتساءل بصدمة:
_بعد كل ده بتسألتي بطلت أحبك؟
بالرغم من أن قلبه يخفق ألمًا لنطق كلماته ولحالتها التي يراها الآن الا أنه باشر ماكرًا:
_طيب ليه البعد ده بينا يا مايا؟ ما خلاص اللي كنتي عايزاه عملتهولك! بعدت عن ألكس وآ
قاطعته حينما تحرر صوتها الباكي:
_فاضل إنك تكسب قلبي من جديد يا عمران
وتابعت وقد تركت العنان عن تلك الدمعات:
_مش معنى إنك قطعت علاقتك بألكس إني كده ارتاحت، الخوف لسه جوايا وبيكبر يوم ورا التاني.
اعتدل بجلسته وهو يتساءل بدهشةٍ:
_خوف مني أنا يا مايا؟
هزت رأسها نافية، وأخبرته موضحة:
_من شيطانك يا عمران، خوف من بكره يكون في ألكس جديدة في حياتك، خوف إنك تضعف من تاني قدام أي واحدة ست، أنا عايشة قلقانه ومش قادرة أديلك الثقة بالرغم من إني بحبك.
وأخفضت عسليتها عن رمادية عينيه المهلكة تترجاه ببكاء:
_من فضلك اديني الفرصة اللي أقدر بعدها أخد قرار القرب منك بدون خوف ولا قلق.
جذبها لاحضانه بقوة، وصوته يتحرر لآذنيها:
_أنا آسف يا مايا.. آسف على كل حاجة يا حبيبتي، أوعدك إن اللي جاي من حياتنا هيكون ملكنا إحنا وبس.
قبضت على قميصه بقوةٍ، تعلقت به وكأن أحدهم يحاول انتزاعها من أحضانه. مرر يده على خصرها بحنان، وجاهد بقوته رفع ذراعه الأيسر ليحاوطها به هو الأخر.
ارتعشت يده لدرجة جعلت اقترابه بطيء، وقبل أن تصل إليها انتفضوا معًا على صوت انفتاح باب الغرفة، ليطل من أمامهما علي مرددًا:
_عمران آ..
انقطعت جملته حرجًا، فاستدار سريعًا للخلف وهو يصيح:
_أنا آسف كنت فاكرك لوحدك.
دفعته مايسان للخلف بوجهًا مصطبغ بالحمرة، وهرعت للخروج وهي تردد على استحياء:
_أنا كنت خارجة.
وصفقت الباب من خلفها بعنف، فاستدار، علي لعمران الذي يكاد يهرول إليه بالسكين المجاور إليه، فاقترب علي يجلس على المقعد وهو يتابع بسخرية:
_أيه، بتبصلي كده ليه؟!
أجابه من بين اصطكاك أسنانه:
_عايز أقتلك هكون ببصلك ليه!
ضحك وهو يجيبه مشاكسًا:
_أنا نفسي أفهم أنت جايب شجاعة خوض المعارك دي منين، يا ابني مش كده اهدى حتى لحد ما تسترد صحتك!
هدر منفعلًا:
_وأنا كنت اشتكيتلك يا جدع!! أنا حر أعمل اللي أنا عايزه واللي أعرفه إن في ساعات محظورة، مينفعش تقتحم فيها اوضة راجل متجوز!
انفجر علي ضاحكًا، وصاح من بين سيل ضحكاته:
_من أمته ده!! الله يرحم لما كنت بتلمحها معدية من قدام أوضتك صدفة كنت بتقوم قيامتها!
واستكمل بخبث:
_بس تمام هديك وعدي ووعد الدكتور علي مبيترجعش فيه.
راقبه باهتمام لسماع وعده، فاخبره بغمزة تسلية:
_لما تجمعكم أوضة واحدة والنفوس تتصافى مش هتلمح طيفي في أوضتك تاني، ها كده مرضي؟
ذم شفتيه بسخط، وزفر بغضب:
_كنت جاي ليه، إخلص!
لكزه بقدمه بضيق:
_في واحد يكلم أخوه الكبير كده؟!
ركل قدمه بعيدًا عنه بعصبية:
_أنت جاي نص الليل تديني محاضرات، ما تنجز يا علي عايز أتخمد!
وضع قدمًا فوق الاخرى باسترخاء بارد:
_لا اهدى كده عشان تفهم اللي هقولهولك كويس.
هز رأسه وتابعه بنفاذ صبر وهو يجذب كوب المياه يرتشف ما به، فسحب علي نفسًا مطولًا قبل أن يقول:
_أنا شايف إن جيه الوقت اللي نجوز فيه فريدة هانم.
سكب ما بفمه بوجه علي هامسًا بصدمة:
_فريدة هانم اللي هي أمك!!!
أزاح بمنديله الورقي المياه بتقززٍ، وهدر بانفعال:
_أمال هتكون مين يعني!
جحظت أعين عمران وتساءل:
_علي إنت شارب حاجة؟ ولا اللي حصل تحت من شوية خلاك تفكر إزاي تتخلص من فريدة هانم!
زفر بغضب:
_لا ده ولا ده، كل الحكاية إنها صعبانه عليا، إنت دلوقتي متجوز وأنا فرحي بعد اسبوع وشمس هي كمان فرحها بعد الامتحانات يعني ماما هتكون لوحدها يا عمران، ضحت بعمرها وشبابها كله عشانا وجيه الوقت اللي تعيش فيه حياتها ومتكنش فيه لوحدها.
بالرغم من سخافة ما يستمع الا أنه لم يستمع عدم التأثر بحديثه، فقال بسخرية لازعة:
_طب ويا ترى بقى لقيتلها العريس المناسب؟
هز رأسه وأجابه:
_عمك… أحمد.
برق عمران صدمة تفوق صدمته، فجذب جسده تجاه مقعده وهو يردد بعدم استيعاب:
_ده إنت بتتكلم جد بقى!!
صرخ بعنفوان:
_أمال يعني جاي أهزر! ما تفوق وتتعدل!
قال وهو يحاول التحكم بهدوئه:
_أنا معنديش اعتراض طبعًا بس اللي بتقوله ده مستحيل فريدة هانم تقبله، سبق وعمك اتقدملها زمان وهي رفضت فأكيد هترفضه دلوقتي.
نهض عن المقعد وأسرع بالجلوس جواره:
_ودي مهمتنا بقى نقرب بينهم ونخليه تقبل الجواز بيه.
صمت يفكر بحديثه وهلة، ثم قال بضجر:
_أيه يعني اللي طلع الموضوع بدماغك واشمعنا عمك أحمد!
زفر بغضب فلم يكن يريد البوح عن ذاك السر ولكن لا طريق أمامه سوى مساعدة عمران وتقبله بالأمر، فقال بحزم:
_عمران، فريدة هانم وعمك بيحبوا بعض من قبل ما تتجوز بابا.
جحظت عينيه صدمة وصاح:
_أيه!!
*******
لأول مرة ينتابها احساس الهزيمة، اليوم تجرأ عليها أحد أبناءها وتحرر قاطعًا احدى الخيوط التي تحاوط معصمه، شعرت فريدة بتلك اللحظة بأنها تختنق، فخرجت للشرفة تشم الهواء ليسع لقصبتها التنفس، انحنت على السياج ساندة رأسها لذراعيها والهواء يحرك خصلاتها بقوة، ضغطت على ذراعيها بغلٍ ورددت من بين انهدار اتفاسها:
_استني عليا وشوفي هعمل فيكي أيه، الجوازة دي مش هتتم وقبل معاد الفرح هيكون كل شيء انتهى!
*******
انتهت فطيمة من أخذ حمامها الدافئ وارتدت منامة بنية من الخزانة التي وجدت بها ملابس رقيقة قد أحضرتها لها مايسان وشمس صباح هذا اليوم، ثم بدأت باستكشاف غرفتها بحماسٍ، فخرجت للشرفة ومن ثم ولجت لكل دكنًا بها، فأكثر ما أعجبها لونها الأبيض المريح والفراش الذهبي الذي يتوسط أرضيتها، بالاضافة لمكانٍ مخصص لتبديل ملابسها.
استقرت عينيها على ذاك الباب المصفوف بمنتصف الحائط الخاص بالفراش، فكانت تظنه باب الحمام الخاص بالغرفة ولكنها وجدته ينجرف على الجهة الاخرى، فاتجهت تحاول فتح الباب لاستكشاف ماذا يطل؟
فُتح الباب أمامها لتجده يصلها لغرفة قاتمة الظلام، أضاءت فطيمة الاضاءة لتتمكن جيدًا من رؤيتها، فتفاجآت بصور علي تمليء الغرفة، حتى الخزانة المحاطة بأحد زواياها كانت تخص ملابسه التي يصعب عليها نسيانها.
بالرغم من ارتجاف جسدها رهبة من تواجدها بمكانه الخاص الا أنها سمحت لذاتها بتفحص غرفته باهتمامٍ كبيرٍ، فجذب انتباهها مكتبته الصغيرة القابعة جوار النافذة، اتجهت إليها بتردد، فلفت انتباهها عناوين الكتب المختارة على الرفوف، وأغلبهم للعراب “أحمد خالد توفيق” ، الكاتب المصري الذي حصل على عشق فطيمة لرواياته وأعماله الأدبية، وبالرغم من صعوبتها بالحصول على أغلب رواياته ورقيًا الا أنها كانت تقرأهم على الانترنت وتمنت يومًا الحصول عليها، وها هو علي يغنتم تلك الغنيمة التي كانت أسمى طموحاتها يومًا.
وما جذب انتباهها وجود أكثر من عملٍ له، فجذبت الكتب تراقبها باهتمامٍ بالغ، وبسمة حماس جعلتها لا تتمنى عودة علي لغرفته الآن، بينما هو يستمتع بتأملها من خلف الباب المؤارب، بعدما كان بطريقه لغرفته حينما انتهى من قص قصة أحمد وفريدة لعمران، فصدم برؤيتها داخل غرفته لذا حرص الا يقلقها بظهوره بالداخل، فهو أكثر الاشخاص معرفة بحالتها.
تمنى لو قضى عمره بأكمله يراقبها هكذا، سعادتها بالكتب كانت تزرع بسمته على شفتيه دون ارادة منه، وأكثر ما لفت انتباهه تعلقها بكتب دكتور أحمد خالد توفيق، فعلى ما يبدو بأنهما يحصلان على نفس العشق الخاص لكاتبهما المفضل.
أعاد علي غلق باب غرفته وهبط لغرف الطابق الأول ليقضي ليلته بأحدهما حتى لا يفسد فرحتها واستقرارها النفسي، فتفاجئ بهاتفه يضيء برسالة معلنةٍ من الجوكر، فتحهل ليجد بها
«مبروك يا عريس، معرفتش أكون موجود بعقد القران لإنشغالي بمهمة تبع الشغل، لكني هكون موجود الاسبوع الجاي في الفرح وبالفترة دي بحضر لفطيمة مفاجآة هتساعدك في علاج حالتها، بلغها سلامي ليوم لقائنا..»
أغلق هاتفه وهمس باستغراب وهو يسند ظهره للفراش:
_مفاجأة أيه دي؟!
******
هرب الظلام مع ليل ذاك اليوم وطلت شمس يومًا جديد، ومازالت كما هي تجلس بانتظار عودته ولكنه لم يعود، فاقت ليلى على صوت منبه هاتفها الذي يوقظها كل صباحٍ للعمل، فوجدت ذاتها تغفو بالردهة على المقعد بملابسها، فأسرعت لغرفة نومهما عساها تجده فوجدت الفراش مرتب كما كان، تهدلت معالمها يأس وجذبت هاتفها تحاول الاتصال به ولكنه لم يجيبها، فلم تجد سوى اللجوء لسيف الذي أتاها صوته يجيب:
_صباح الخير يا دكتورة ليلى، في حاجة ولا أيه؟
ارتبكت ولم تعلم ماذا ستخبره، ولكنه استجمعت شتاتها قائلة:
_يوسف فين يا سيف؟
رد عليها وهو يتثاءب:
_يوسف نزل من ساعة كده على المستشفى.
أتاه صوت بكائها، ورددت من بين شهقاتها:
_يوسف سايب البيت يا سيف ومش بيرد على مكالماتي عشان آآ..
قاطعها سريعًا باسلوب متهذب:
_ليلى اهدي، أنا عارف إنك بتعتبريني زي أخوكي بس يوسف مش بيحب أي مخلوق يتدخل في خصوصيات بيته فمش هيكون مبسوط لو عرف إنك حكتيلي شيء، خلي اللي بينكم بينكم عشان الامور متزدش.
جلست بجسدها على الاريكة، تصيح باختناق:
_طيب أعمل أيه يا سيف!
أتاه صوته الهادئ يخبرها ببسمة صافية:
_يوسف مفيش في حنيته ولا طيبة قلبه أنا اللي هقولك يا دكتورة!
وتابع بمكر:
_أقولك روحيله المستشفى واتكلمي معاه وهو أكيد مش هيسيب الامور تسوء بينكم لانه بيحبك.
ازاحت دموعها وتسللت الابتسامة إليها، فقالت وهي تهم لخزانتها بلهفة:
_هعمل كده، لما هرجع هكلمك سلام.
أغلقت الهاتف وأبدلت ملابسها سريعًا، ثم هبطت تقود سيارتها للمشفى الذي يعمل به يوسف، فجلست تترقب دورها بعدما دفعت ثمن الكشف دون البوح عن هويتها للممرضة، حتى أتى دورها فتماسكت وهي تشدد على حقيبتها، تخطو بارتباك للداخل.
تفاجئ يوسف بها، فسحب نظراته عنها للحاسوب من أمامه وهو يحاول كظم غيظه، ابتلعت ليلى ريقها بصعوبة بالغة وجلست على المقعد المقابل إليه، فقال دون أن يتطلع لها:
_جاية ليه؟
أجلت أحبالها الصوتية مرددة:
_أنا قاطعة كشف زيي زي أي مريضة والوقت ده من حقي يا دكتور.
تابع عمله على الحاسوب متجاهلها تمامًا، فعبث بأظافرها الطويلة قليلًا قبل أن تردد بخجل:
_أنا آسفة على الكلام السخيف اللي قولته إمبارح أنا مكنتش أقصد.. حقك عليا.
جذب الأوراق يدون بها ما ينقله عبر الحاسوب، وكأنها هواء يترنح من أمامه، فمدت يدها تحجر يده التي تحرك القلم على الورق تناديه بقلبٍ مذبوح فؤاده:
_يوسف!
قبض صدره لهفة لسماعه اسمه بنبرتها الشبيهة بالباكية، فرفع وجهه لها ليجدها تعيد كلماتها ببكاءٍ تحرر فجأة:
_أرجوك متزعلش مني، إنت فعلًا عندك حق وأنا جيت النهاردة عشان أصحح غلطي.
وتابعت ببسمة صغيرة:
_وجاهزة إنك تكشف عليا.
وخز قلبه لسماعه كلماتها الاخيرة، فقال وهو يمنحها نظرة مطولة:
_مفيش له داعي، أنا مش عايز أولاد خلاص.
تحجرت أنفاسها جراء ما استمعت إليه، فازدردت ريقها بصعوبة بالغة وهي تتساءل بوجع:
_مش عايز أولاد مني يا يوسف؟
قال بجمود وعينيه لا تفارقها:
_لا منك ولا من غيرك.
نهضت ليلى عن مقعدها واتجهت إليه، فانحنت لتكون على نفس مستواه قائلة بابتسامة تعاكس دموعها المتدفقة:
_أنا اعتذرت على اللي قولته امبارح معقول مصمم توجعني بكلامك ده!
حرك مقعده الهزار ليكون قبالتها، وانحنى برأسه قبالة عينيها:
_المفروض تكوني طايرة من الفرحة ، لاني خلاص بحلك من الخلفة اللي هتضيع مستقبلك يا دكتورة!
تهاوى الدمع دون توقف وعينيها لا تفارق خاصته، فاتكأت على المكتب حتى استقامت بوقفتها، فجذبت حقيبة ذراعها وركضت باكية من أمامه، فحرر سماعته الطبية عن رقبته وهو يفرك جبينه بغضب جعله ينزع عنه البلطو الطبي ويخرج من خلفها.
وجدها تستقيل المصعد فهبط الدرج، وحينما انفتح بابه وجدته يقف أمامها بانفاسٍ لاهثة، فابتسمت من بين نوبة بكائها وهرعت لاحضانه تضمه بقوة جعلته يطوقها كأنه عناقهما الاخير.
فهمست من بين شهقاتها:
_أنا آسفة.
ربت على خصرها بحنان، بينما عادت لسؤاله وهي تبعده عنها:
_سامحتني؟
تبلد لسانه عن النطق، وجذبها لسيارته، فصعد بها وقادها وهو يخبرها:
_في مشوار لازم أخدك عليه الأول وبعدها هقرر أسامحك ولا لأ!
*******
غلبها النوم رغمًا عنها على الكتاب الذي جذبها كليًا، فلم تفق الا على صوت زقزقة العصافير المحاطة لشرفة غرفة علي، وبعدها استمعت لخطوات تخطو إليها، فبدت الصورة مشوشة لها ولكن الصوت تخلل لمسمعها جيدًا، لسهولة تميزه بعقلها الباطن، ففتحت عينيها على مصراعيها حينما وجدتها تقف أمامها تتساءل بغضب كالبركان:
_بتعملي أيه هنا في أوضة علي؟!
يتبع…
جحظت عينيها صدمة حينما وجدت فريدة تقف قبالتها، تكاد نظراتها تحرقها حية، ابتلعت فطيمة ريقها بارتباك لحق كلماتها الغير مرتبة:
_آآ… أنا.. ك.. كنت… بقرأ.. كتاب.. ونمت.. معرفش ازاي.
ضمت ذراعيها أمام صدرها تحدجها بنظرة ساخرة، ورددت باستهزاءٍ:
_مالقتيش حجة كويسة غير قراءة الكتاب!
وفكت حصار يديها لتصرخ بوجهها بغيظٍ:
_مفكرة إني ساذجة وهتخش عليا حججك، إسلوبك الرخيص اللي كنتي بتستخدميه على ابني بالمستشفى ده مينفعش هنا، لإنك في بيت محترم!
أخفضت عينيها أرضًا لا تجد ما يمكنها قوله بتلك اللحظة، فقدت قدرتها بالدفاع عن نفسها فهي مخطئة، لا تعلم كيف غلبها النوم هنا، على الأقل كانت استأذنت وأخذت الكتاب وغادرت لغرفتها!
تمعنت فريدة بمعالمها قبل أن تقول بحدةٍ:
_مش لقية حجة مقنعة مش كدة!
_وهتلاقي حجج ليه وهي موجودة بأوضة جوزها يا فريدة هانم!
أتاه ردًا حازمًا من ذاك الذي كان بطريقه لغرفته ليجد المواجهة غير عادلة بين زوجته ووالدته، فقرر التدخل عوضًا عنها، استدارت فريدة للخلف فوجد علي يدلف للغرفة ومازال مرتديًا بذلته، حاملًا جاكيته على ذراعيه وخصلاته مبعثرة بشكل فوضوي، يبدو بأنه قضى ليله خارج غرفته، تركتها فريدة ، واتجهت لتقف قبالته متسائلة بذهول:
_كنت فين؟
رد عليها وهو يلقي جاكيته للفراش:
_كنت نايم تحت عشان فاطيما تاخد راحتها.
خطفت نظرة سريعة إليه وعادت تتطلع أرضًا حينما وجدت فريدة تراقب ردة فعلها، فصاحت بانفعال:
_وتنام تحت وأوضتك موجودة ليه، مش ليها أوضة سيادتها ولا مش عجباها؟
ضم مقدمة أنفه بيده بتعب اتبع نبرته:
_فريدة هانم من فضلك كفايا، أنا أول مرة أشوف منك المعاملة دي وحقيقي مصدوم وحاسس إني معرفكيش.
وتابع وهو يتجه لخزانته ليجذب بذلة أخرى استعدادًا للذهاب لعمله، قائلًا دون تطلعه لها:
_لو حضرتك هتقضيها كده أنا ممكن أنسحب أنا ومراتي بمنتهى الهدوء، من غير ما نعمل لحضرتك مشاكل أو إزعاج.
تهديده بالرحيل كان أخر أمرًا تريده، فطالت بنظراتها إليه ومن ثم سددت نظرة أخير لفطيمة قائلة قبل أن تغادر:
_عرفها إن الفطار بيكون جاهز ١٠ الصبح، يا ريت تلتزم بالمواعيد وتكون تحت على المعاد.
وتركتهما وغادرت، فما أن أغلقت الباب من خلفها حتى عادت فطيمة تلتقط أنفاسها بصوت مسموع لعلي، فضحك وهو يتابعها بنظرة هائمة، فأسرعت إليه تردد بتلعثم:
_أنا آسفة مكنتش عايزة أعملك مشاكل مع والدتك.
وأشارت تجاه الباب وكأنها تلقي اللوم عليه:
_أنا لقيت الباب ده وأول ما فتحته لقيت نفسي هنا وبعدين لقيت آآ.
وأشارت على المكتبة في محاولة لاسترسال حديثها، ولكنها توقفت حينما وجدته يتطلع إليها بنظرة أهلكت جوارحها وجعلتها تعيش شعورًا غريبًا.
شعرها كان مفرود من حولها بعشوائية، ترتدي بيجامتها الستان الحريري فتزيد من جمال وجهها الناصع بعدما أزاحت مساحيق التجميل عنها، ابتلعت فطيمة ريقها بارتباك، ورددت بتوتر:
_الكتاب أخدني ومحستش بنفسي غير الصبح.
خرج عن صمته الغامض حينما قال بعدم مبالاة:
_وفيها أيه؟ دي أوضتك يا فاطيما زي ما هي أوضتي، وكل شيء فيها ملكك بما فيهم أنا.
حان موعد الفرار من أمام هذا العلي الذي يجاهد كل مرة لجعلها تخوض مرحلة العبث على مشاعرٍ تجتابها وللحق تروق لها، لذا أبعدت خصلات وجهها عن شعرها واتجهت لتغادر، فأوقفها ندائه:
_فطيمة.. اسنني.
توقفت محلها بعدم رغبة الاستدارة لرؤيته مجددًا، فوجدته يدنو منها ليقدم لها كتابًا غير الذي كانت تقرأ به قائلًا ببسمة سحرتها كليًا:
_بما إننا متشاركين بحبنا لنفس الكاتب فخليني أختارلك تبدأي بأيه؟
التقطت منه الكتاب ورفعته إليها تقرأ عنوانه «حب في أغسطس!»
عادت لتتطلع إليه فغمز لها بتسلية:
_مش هتجيبي حضن حق استعارة الكتاب؟
فتحت فمها ببلاهةٍ، وضمت الكتاب إليها لتهرول من أمامه صافقة الباب بوجهه، رمش بعدم تصديق ومن ثم انفجر ضاحكًا وهو يهمس بمرح:
_أيه حبها في رزع الأبواب!
******
فور أن توقفت حركة السيارة حتى تحركت برأسها تتأمل من النافذة المكان، فعادت تتطلع إليه متسائلة بدهشة:
_جايبنا عيادتك ليه يا يوسف؟
لم يجيبها، بل نزع حزام السيارة وهو يردد بثباتٍ:
_انزلي.
انصاعت عليه ففتحت الباب واتبعته للمصعد، فما أن أغلق بابه حتى قالت بتوترٍ:
_ممكن تفهمني احنا جاين هنا ليه، لسه ساعتين على معاد فتح عيادتك!
تمسك بصمته، وكأنه يبث به كل تفكيره فيما سيفعله، كرامة الرجل حينما تهان على يد إمرأة يسود وجهه ويخشى أن يلاحظ من حوله ذاك السواد العالق على جبينه نهيك إن كانت تلك المرأة زوجته!
توقف المصعد فخرجت من خلفه تتجه لعيادته القابعة بالطابق الثالث، وبطريق الرواق المتسع تسمرت قدميها صدمة حينما رأت إحدى شقق الطابق الثاني المجاورة لعيادته بالتحديد تحمل لافتة مضيئة بإسم «الدكتورة ليلى حسن» ، عادت بنظريها إليه وإصبعها يشير على اللافتة بعدما فقدت قدرتها على النطق، منحها يوسف نظرة جامدة وبهدوء تحرك ليحرر بابها بمفتاحه الخاص، وفتح ذراعه قائلًا بصوت يسخره الألم:
_فاضل على عيد ميلادك عشر أيام، كل سنة وإنتِ طيبة يا دكتورة.
عقلها كان هزيلًا لا يستوعب ما يقوله، أجبرت قدميها على الدخول فجابت عينيها على كل ركنٍ لمحه بصرها، ردهة الاستقبال الضخمة ومكتب السكرتيرة الذي مازال يحمل اللاصق والأكياس، فبدى إنه اشتراه منذ مدة قصيرة، حتى استقرت قدميها داخل غرفة الكشف الحاملة لاجهزة ومعدات تفوق المليون دولار، كونها طبيبة تعرف جيدًا أسعار الأجهزة الموضوعة أمامها.
تدفقت الدمعات حسرة من حدقتيها، فحاولت التقاط أنفاسها الثقيلة وهي تخرج من غرفة المكتب تركض تجاه يوسف الذي مازال يستند على الباب الخارجي للشقة وكأنه فقد روحه فأصبح لا يطيق التحرك عن محله، فقد مذاق الحياة فجأة بعد شهور قضاها بالكد والتعب ليجمع ثمن كل شيءٍ هنا وبالنهاية اتهمته بأنه يغار منها!
استقرت عينيه الشاردة عليها حينما انتهت من جولتها وخرجت إليه بعينين منتفخة من أثر البكاء، فبدت مرتبكة لا تعلم ماذا ستفعل بالتحديد، فاقتربت منه تمسك يده الحاملة لدبلته الفضية حول اصبعه، تغمس أصابعها بدبلتها الذهبية، ورددت بصوتٍ محتقن:
_أنا آسفة يا يوسف.. حقك عليا.
أغلق عينيه بقوةٍ، وفرد أصابعه لتتلاشى عن أصابعها، وقال ومازالت عينيه تتأمل الطرقة الفاصل بين عيادتها وعيادته:
_بالبساطة دي! أنا بقالي شهور بفكر أحققلك حلمك ازاي وبسعى وبتعب عشان أشوف ابتسامتك وبالنهاية أطلع حاقد على نجاحك!
أحاطت ذراعه حينما سحب كفه منها، فمالت برأسها على كتفه وببكاء قالت:
_عشان خاطري سامحني أنا كنت غبية، أنا عارفة إنك بتحبني ومستحيل أهون عليك.
بقى ثابتًا، لم يرف له جفنًا تأثرًا بها، وقال:
_عايزاني أسامحك؟
رفعت عينيها المتلهفة إليه وأومأت برأسها عدة مرات، فقال بجمود تام:
_تتخلي عن شغلك عشاني، موافقة؟
صعقت مما استمعت إليه، فظنت بأنها تتوهم، كيف يمنحها سعادة عظيمة بامتلاك مثل تلك العيادة التي تقدر بالملايين ويطالبها بترك العمل! ، بالتأكيد تتوهم سماع ذلك.
أسبلت ليلى بعينيها وهي تعود لسؤاله ببسمة تعكس مدى ارتباكها:
_إنت بتقول أيه؟
لم تلين نظراته تجاهها، فبقى صامدًا لا يعلم اللين طريقه لوجهته، ليردد بخشونةٍ:
_زي ما سمعتي، مستعدة تسيبي شغلك عشان جوزك وبيتك يا دكتورة؟
واستطرد وعينيه تتأمل العيادة الفخمة بنظرة ساخرة:
_عشر شهور قضيتهم بتجهيز المكان ده، وكل ده علشان أشوف الابتسامة على وشك.
وسحب عسليته إليها ليردد بتهكم:
_بالرغم من إن عيادتي محتاجة تجديدات وبالرغم من إني عارف إنك هتنشغلي أكتر بعد ما أفتحلك العيادة دي بس مفيش شيء همني أكتر، من نجاحك.
وابتسم متابعًا بسخرية:
_نجاحك اللي شايفاني بالنهاية بغير منه!
قطعت مسافتهما القصيرة بينهما، لتتمسك بيده قائلة بخفوت وتوسل:
_يوسف متعملش فيا كده عشان خاطري، إنت عارف أنا بحبك أد أيه وآآ..
انهى محاولتها الفاشلة لاستمالته حينما قال بصلابة:
_وفري محاولتك لإن مفيش شيء هيمنعني، ودلوقتي القرار ليكي يا دكتورة.
وأشار بأصبعه على اللافتة المضيئة بإسمها:
_يا الشغل، يا أنا!
وتركها تتأمله بصدمة وإتجه للشقة المجاورة لها القابع بداخلها عيادته الخاصة، وضع مفتاحه بالباب وكاد بأن يحرر قفله الموصود، ولكنه تفاجئ بها تحتضنه من الخلف وهي تردد ببكاء:
_متبعدش عني يا يوسف، أنا مش عايزة غيرك.
وما أن استدار إليها حتى قالت بانكسارٍ ودموعها لا تتراجع عنها:
_حاضر من بكره هقدم استقالتي ومش هنزل المستشفى تاني، بس خليك جنبي متسبنيش.
وأخفضت رأسها تبكي بضعف، جعله يتلقفها لأحضانه، فتشبثت به وهي تهمس بصوتها المحتقن:
_أنا بحبك.. بحبك أكتر من نفسي ومن شغلي ومن كل شيء، أنا كنت أنانية وظلمتك معايا أنا أسفة.
رفع يده على حجابها يقربها من صدره بقوة والابتسامة تتسلل لشفتيه براحة كسرت خوفه من سماع اختيارها، لا يعلم كيف كان سينتظر لسماع ردها، فكأنما علمت بمعانته وقررت البوح له بنفس ذات اللحظة عن قرارها، ضمها يوسف إليه بقوة ومازال يقف بها بالطرقة الفاصلة بين العيادتين، فوجدها تذوب بين ذراعيه طالبة وصاله بعد فترة الهجر بينهما وإن كانت قصيرة!
حملها وولج بها لعيادتها فأغلق بابها بقدميه وولج بها لاحد الغرف المجهزة لاستقبال الحالات بعد الخروج من الجراحة، فكانت تحوي فراش وكومود طبي وصالون وحمامًا خاص.
كل لحظة قضاها برفقتها كانت تعتذر له باكية ويزيح دموعها بحنانٍ، حتى غفت بين ذراعيه، فضم غطاء الفراش عليها وبقى شاردًا، يتأمل ملامحها بعشقٍ جارف، يختزل قلبه حزنًا كبيرًا وهو يتأمل وجهها المحتفظ بأثر البكاء، ويدها الموضوعة فوق صدره مستهدفة موضع قلبه.
رفع يدها إليه يقبلها وهو يهمس بوجعٍ:
_أنا أسف يا ليلى، كان لازم أعمل كده عشان متكررهاش تاني!
ووضع يدها أسفل الغطاء ثم حمل بنطاله وقميصه وإتجه لحمام الغرفة يغتسل، وحينما انتهى إتجه لغرفة مكتبها فبحث عن ورقة وقلم ودون لها رسالة ثم عاد لغرفتها، فجلس جوارها يمرر يده على خصلات شعرها المفرود بعشوائيةٍ وابتسامته لا تفارق وجهه، بينما عينيه تراقب ملامح وجهها بحبٍ.
نهض يوسف تاركًا الورقة على الوسادة المجاورة لها ثم غادر متوجهًا لعيادته الخاص ليبدأ باستقبال أول حالاته.
********
اجتمع الجميع حول مائدة الطعام، فخطفت فطيمة نظرة مرتبكة إليهم، كانت شمس تلتقط الجبن بشوكتها، وتقطعه بالسكين ثم تتناول القطعة الصغيرة بشوكتها وهكذا تفعل مايسان وأحمد الجالس على مقدمة الطاولة وتقابله فريدة بالجهة الأخرى، ارتبكت فطيمة وهي تتأمل طبقها بتوتر، هل يحتاج الأمر كل تلك المعاناة لتناول قطعًا من الجبن!
اعتادت تناول طعامها بالخبز، وما يحدث يثير ريبتها، تخشى أن تقلدهما فيسوء الأمر وتخشى ان تلتقط شطيرة التوست فتحصل على ازدراء الجميع!
راقب علي توترها وكان عاجزًا عن مساعدتها، لا يعلم ماذا يتوجب عليه فعله! ، بينما كان عمران الأسرع بتدارك الأمر عن أخيه وزوجته، فجذب الشطيرة ثم غمسها بالخبز، فنالته نظرة غاضبة من فريدة لتصيح به:
_عمران أيه الطريقة المقززة دي؟!
رسم بسمة واسعة وأجابها وهو يلوك طعامه بتلذذٍ:
_فريدة هانم إنتِ عارفة دراعي التاني مش قادر أحركه هعمل أيه يعني أموت من الجوع مثلًا؟!
منحته نظرة غاضبة وهي تعلم غرضه من فعل ذلك، بعدما كانت تستلذ بمراقبتها بشماتة، وتترقب أن تفعل أي شيئًا لتبدأ بمضايقتها.
ابتسم أحمد وهو يراقب ما فعله عمران، فترك شوكته وجذب طبق التوست يغمسه بالجبن ويتناوله بسعادة:
_تصدق يا عمران الفطار ميحلاش غير بالغموس!
ضحكت مايسات وأبعدت عنها الشوكة ثم جذبت العسل والشطيرة وتناولت طعامها مثلما يفعلون، فصاحت بها فريدة بعصبية:
_مايا أيه اللي بتعمليه ده، فين الاتكيت!!
هزت كتفيها بقلة حيلة، فتعالت ضحكات عمران بمشاكسة وكأنه حرر أول الفتيل وترك لهم الباقية، قرب علي من فطيمة طبق الخبز وجذب أحدهم ثم فرد بالسكين الجبن ليتناوله ببسمة مكبوتة على وجه والدته الأقرب للانفجار.
شعرت فطيمة بالألفة بينهم، فعلى تعلم بأن عمران وأحمد والجميع قد فعل ذلك لأجلها حتى لا تتعرض للاحراج بينهم، شعرت وكأن الله قد من عليها ليمنحها عائلة بين ليلة وضحاها، فجذبت الخبز من علي وتناولته على استحياء، متحاشية التطلع لفريدة التي تحاول التنفس بصورة طبيعية قبل أن تنفجر بمحلها وخاصة حينما وجدت شمس تبعد طبق السلطة عنها، ثم جذبت الخبز وبدأت تقلدهم ببسمة واسعة، فألقت فريدة منديلها الورقي على الطاولة ورددت بغيظٍ:
_أنا مستحيل هأكل معاكم على سفرة واحدة بعد النهاردة، بقيتوا مقززين!
وتركتهم وصعدت للدرج وقبل أن تنجرف لغرفتها تسلل إليها أصوات ضحكاتهم الصاخبة فور مغادرتها، فاتجهت للسور الحديدي لتراقبهم بنظرات مشتعلة وخاصة حينما استمعت لاحمد يقول بمرح:
_تحسوا الجو بقى نقي أكتر من الأول صح؟
ضحك علي وهو يشير له بحذر:
_لو سمعتك هتتعاقب يا باشا، الله يكرمك خلينا نكمل فطارنا على خير.
رد عمران بغمزة مشاكسة:
_عمك مش ببهمه حد، صح يا وحش؟
ضحك وهو يغمس العسل ويلتهمه مرددًا بمزح وهو يلعق أصبعه الحامل لبقايا العسل:
_ أمك لو شافتني بعمل كده هتطردني وهتطردكم ورايا!
ضحكت مايا وقالت:
_أنا مش متخيلة شكلها لو شافتك بتعمل كده يا أنكل.
أضافت شمس بتقزز:
_أنا قرفت بصراحة كل يوم سلطة وروتين أكل ممل، يا رتنا عملنا كده من زمان!
قال عمران وهو يتطلع لفطيمة التي تراقبهم ببسمة صغيرة:
_يا ريتك اتجوزت من زمان يا علي، لإن الظاهر كده إن جوازك بداية التغير هنا!
ارتشف قهوته وأجابه:
_حملك عليا يا عمران هتحدف كل حاجة عليا، أنا مش ناقص الله يكرمك.
وقف أحمد وردد ببسمة هادئة:
_أنا الحمد لله شبعت هستناكي بره يا مايا عشان منتاخرش على الشركة.
وتابع بسخرية:
_كنت فاكر إني هربت من مطحنة الشغل اللي في مصر جيت لقيت شركة عمران في انتظاري!
رد عليه ببسمة هادئة:
_هتتردلك يا عمي.
وتابع بخبث:
_الله أعلم يمكن تأخد اجازة كبيرة عشان تتجوز مثلًا وتقضيلك شهر كامل ساعتها مش هتلاقي غيري يشيل الليله.
زوى حاجبيه بدهشة :
_جواز أيه؟!
تنحنح علي وهو يسدد نظرة قاتمة لاخيه:
_متأخدش في بالك يا عمي إنت عارف إن عمران بيحب يهزر.
أزاح بالمنديل بقايا الطعام عن شفتيه وقال ببسمة ماكرة:
_أنا قصدي إن في الشركة عندنا مزز هتخليك تغير رأيك وهتفكر جديًا بالارتباط يا عمي، مش كده يا مايا؟
هزت رأسها بتأكيدٍ، فقال:
_ابقي عرفيه على مدام أنجلا، لسه متطلقة من شهرين بس أيه يا عمي مزة تحل من على باب المشنقة.
مسح علي وجهه بغيظ، بينما هز أحمد رأسه بمرح:
_وماله نتعرف منتعرفش ليه، يمكن على رأيك نفكر نرتبط!
قالها وعينيه مسلطة على ظلها الفاضح لوقوفها بالأعلى، فخدمه عمران خدمة يستحق لأجلها الكثير، لا يعلم بأنه يحاول الآن مساعدته بعدما فضح أمرهما!
جذبت مايسان حقيبتها واتجهت لعمران تخبره:
_أنا مش هتأخر، في شوية أوراق واقفين على توقيعك هجيبهم وأعرف أنكل أحمد على الموظفين وأقدمله ملفات أخر صفقات للشركة وهرجع على طول.
منحها ابتسامة جذابة وهمس لها بحبٍ:
_خلي بالك من نفسك، ومتتأخريش عليا عشان بتوحشيني.
رمشت بعدم تصديق وانجرفت بعينيها لفطيمة وشمس وعلي، ثم عادت تطعنه بنظرة خجلة من وقاحته، فحملت الحقيبة وغادرت على الفور، بينما ردد علي بضيق:
_متبقاش عمران أخويا الوقح لو محرجتش البنت قدامنا كلنا!
تعالت ضحكاته واستدار يغمز له بتسلية:
_أنا مش عارف إنت مركز معايا ليه، ما تركز مع مراتك يا دكتور.
اتجهت نظرات علي لفطيمة بخبث، فابتلعت الطعام بارتباك جعلها تسعل بقوةٍ، فجذب علي كوب المياه وقدمه لها، ارتشفته ومنحته بسمة شاكرة، أشار لها علي على شفتيها، فعلمت بأنه يقصد أن هناك بقايا الجبن، فحاولت ازاحتها بالمنديل الورقي، وحينما فشلت مد إبهامه يبعد الجبن عن شفتيها، فقدمت له فطيمة منديلًا ليزيل الجبن عن اصبعه، فتفاجئت به يضعه بفمه ويستلذ بتناوله، خفق قلبها بعنف وجهها يصطبغ بحمرته بدرجةٍ جعلتها تلتهي بتناول الطعام رغم أن معدتها قد امتلأت، فكبت علي ضحكاته وهو يراقبها باستمتاعٍ.
نهضت شمس تجذب كتبها، لتواعهم ببسمة رقيقة:
_يدوب الحق المحاضرة، أشوفكم بعدين.
ووجهت حديقها لفاطيما قائلة:
_مش هتأخر عليكي يا بطوط،كلها ساعتين تلاتة وهرجعلك هوا.
منحتها بسمة هادئة،قائلة:
_ربنا معاكِ يا حبيبتي.
غادرت شمس لسيارتها بينما أشار علي لعمران بتعصب وهو يتفحص هاتفه:
_انجز قبل ما الدكتورة توصل..ما أنا بقيت ممرض جنابك.
قال وهو يلوك ثمرة من التفاح باستمتاعٍ:
_مش عارف مالي حاسس بنفس مفتوحة كده، تفتكر ده تأثير الحرية ولا الهوا النقي؟!
كز على أسنانه بغيظٍ:
_إنت مش ناوي تجبها لبر أنا عارف!
*****
فتحت عينيها بتكاسلٍ ويدها تمر جوارها باحثة عنه، نهضت ليلى تبحث عنه بفزعٍ، فلم تجده بالفراش، تطلعت تجاه باب الحمام الموصود ونادته بقلقٍ:
_يوسف!
تأكدت بأنها بمفردها، فضمت ساقيها لجسدها وبكت بصدمة، كل ما يشغل عقلها بتلك اللحظة بأنه تخلى عنها ولم يقبل إعتذارها!
حانت منها نظرة جانبية لمكانه الدافئ فوجدت ورقة مطوية تحتل وسادته، جذبتها وفتحتها بلهفةٍ فوجدته كتب لها
« قومي يا دكتورة خديلك شاور وانزلي المستشفى، أنا كلمت المدير وإستأذنتلك في ساعتين ده اللي قدرت عليه، مقبلش أشوفك عايشة من غير روح يا ليلى، وشغلك ده روحك وحياتك، هحاول أخلص شغل العيادة النهاردة بدري عشان تخرج نتعشى بره مع بعض… بحبك.. يوسف»
ضمت الورقة لصدرها والابتسامة تعاكس دموعها التي لا تستطيع التوقف، بعد كل ذلك مازال يحرص على سعادتها حتى بعدما امتلك حق ابعادها عن حلمها عاد يمنحها أجنحة أكثر قوة ويطالبها بالتحليق مجددًا، رددت بهمسٍ مغرمٍ:
_حبيبي يا يوسف.
ووضعت قبلات متفرقة على الورقة الماسدة بين يدها وهي تتمنى رؤيته بذاك الوقت، فنهضت وإتجهت لحمام الغرفة وفور انتهائها من أخذ حمامًا دافئ خرجت تتجه لعيادته بارتباكٍ انتابها فور رؤية عدد النساء القابعات بالخارج، أخذت تفكر جديًا في الساعات الطويلة التي ستقضيها بالخارج بانتظار دورًا عادلًا لرؤيته، فلم تجد سوى اللجوء للوسطة للدخول.
دنت ليلى من مكتب الممرضة التي استقبلتها قائلة بعملية:
_مرحبًا سيدتي.
وفتحت أحد الدفاتر قائلة:
_أخبريني اسمك، سنك، عدد شهور حملك، وآ..
قاطعتها ليلى حينما قالت على استحياءٍ:
_أنا الدكتورة ليلى زوجة الدكتور يوسف، كنت أرغب لقائه وأعدك بأنني لن أتاخر بالداخل.
منحتها نظرة متفحصة قبل أن تنهض مرحبة بها بحفاوة:
_سيدة ليلى أهلًا بكِ، انتظري قليلًا حينما تخرج من بالداخل وسأدخلك بعدها.
أومأت برأسها ببسمة هادئة وإتجهت للمقعد المشار إليه، فأخذت تتفحص النساء الحوامل بنظرة غريبة، لا تعلم لما انتابتها رغبة غريبة بأن ترى ذاتها ببطنٍ منتفخٍ مثلهن.
إن روادها هذا الشعور لبضعة دقائق قضتهما بالجلوس هنا فيحق ليوسف رغبته العاجلة بالحصول على طفلٍ صغيرٍ، أفاقت ليلى من شرودها على صوت الممرضة التي تفتح باب الغرفة ببسمة واسعة:
_تفضلي سيدتي.
نهضت ليلى وولجت للداخل بارتباكٍ، فما أن رآها يوسف حتى نهض عن مكتبه يردد بذهول:
_ليلى إنتِ لسه هنا؟
أومأت برأسها ودنت من مكتبه تراقب الممرضة التي ما أن أغلقت الباب حتى إتجهت إليه تخفي ذاتها بأحضانه هامسة ببكاءٍ:
_يوسف!
وجد ورقته مازالت بيدها، فعلم ما تخوضه الآن، فرفع ذراعيه يحيطها بحنانٍ، ثم انحنى لمكتبه يجذب أحد المناديل وأبعد الحاسوب وأوراقه ليحملها بقوة ومن ثم جعلها تجلس على المكتب، وجلس على مقعده قبالتها يزيح دموعها برفقٍ، خطفت ليلى نظرة سريعة إليه ورفعت الورقة إليه تشير إليه:
_ليه؟ أنا مستهلش إنك تعمل كل ده علشاني يا يوسف!
ابتسم وهو يحرك المقعد ليحيط جسدها بذراعيه، فقرص ذقنها بخفة:
_لا تستاهلي، وتستاهلي أكتر من كده كمان.
وتابع ببسمة جذابة:
_مش معنى إن حصل بينا خلاف يخليني أنسى صفاتك الكويسة وحبك ليا يا ليلى.
وقال مازحًا:
_وبعدين ينفع اول مرة تخشي فيها مكتبي تخشيه مكشرة ومعيطة كده يا لوليتا؟
وأشار بيده على الفراش المجاور لعدد من الأجهزة السونار وغيره قائلًا:
_ايه رأيك بقى؟
أبعدت عينيها عن خاصته لتخطف نظرة متفحصة لمحتويات الغرفة التي يملأها صورًا كثيرة للأطفال، وعادت لتستقر عليه قائلة:
_جميلة.
واخفضت ساقيها للأرض ثم نهضت بحرجٍ:
_أنا همشي عشان الحالات اللي برة.. وهستناك بليل بس مش هنخرج هعملك أكل بيتي بايديا.
نهض إليها مبتسمًا، فرفع أصابع يدها يطبع قبلة رقيقة على باطنها، هامسًا بمرحٍ:
_يسلملي روح الشيف اللي ساكن جواكِ.
وأضاف بنهمٍ:
_يبقى تعمليلي سجق وكبدة اسكندراني.
سحبت كفها بخجلٍ وهو تخبره:
_عيوني..
وتركته ورحلت والابتسامة لا تفارق شفتيها، فأوقفت سيارة أجرة وإتجهت للمشفى أولًا قبل الذهاب للمنزل لتحضير سهرة مميزة لزوجها.
*******
انتهت شمس من المحاضرة وخرجت برفقة مجموعة من الفتيات، فتجهمت معالمها ضيقًا فور رؤيته يقف بانتظارها أمام السيارة المكتظه بالحرس، أطالت بوقفتها عن عمدٍ برفقتهم، قاصدة أن يختنق من الانتظار ويغادر، وكلما حاول ان يشير لها كانت تتصنع عدم رؤيته مما جعل ذاك الجالس باحدى السيارات يبتسم على حبيبته الخبيثة، راق له تصرفاتها تجاه ذاك الأرعن الذي صمم أن يحضر بذاته ليأمن الحماية له خوفًا من أن يعود أحدًا للتعرض له، فبات آدهم الحصان الأسود الحارس له من كل همسة تحيط به.
طالت وقفتها وبالنهاية غادرت الفتيات، واتجهت هي عابثة الملامح وبخطوات بطيئة تود الفرار من لقائه، فما ان وجدها تقترب حتى أسرع إليها يردد:
_شمس مبترديش ليه على مكالماتي؟
احتقنت نظرتها تجاهه وقالت بنفورٍ:
_وأرد عليك ليه، راكان من فضلك هيكون أفضل لو انفصلنا أنا ماليش بجو الاسلحة والخطف ده، فمن فضلك ياريت كل واحد يروح لحال سبيله.
ابتلع ريقه بارتباك وراح يبرر:
_أيه الكلام اللي بتقوليه ده يا شمس، يعني ده بدل ما تتطمني عليا بعد اللي حصل، بتقوليلي نسيب بعض!
واستطرد بمكر:
_وبعدين تجارتنا بتعرض حياتنا للخطر واللي حصل ده ممكن يحصل مع عمران نفسه هو عارف الكلام ده، والحمد لله إنها عدت!
زفرت بمللٍ ولزمت الصمت، فقال بنبرة جاهد لجعلها تعج بالمشاعر المصطنعة:
_شمس أنا بحبك وصدقيني مكنتش سعيد باللي حصل ده بس غصب عني الموضوع وما فيه إن في مناقصة أخدتها من رجل أعمال مشهور فحب ينتقم مني وخلاص الموضوع إتحل ولو مش مصدقاني إسألي آدهم وهو يقولك.
واستدار يشير إليه، فهبط من السيارة واتجه إليهما.
فور ذكره لإسمه رفعت رأسها بلهفة تستكشف وجوده، فما أن رأته يدنو منهما حتى ابتسمت بسعادة ورددت بهمس:
_آدهم!
وقف قبالتها يدعي جموده التام:
_أخبارك يا شمس هانم.
ببسمة واسعة قالت:
_الحمد لله يا آدهم إنت اللي أخبارك أيه؟
تنحنح ليوقظ أحلامها الوردية التي ستفضحهما أمام راكان الذي يراقب ابتسامتها وتبدل حالتها فور رؤية آدهم بذهولٍ، أجلي الأخر أحباله قائلًا:
_اللي حصل ده كان غصب عنه وهو اللي خلاني اتشرط عليهم إنهم يخرجوكي بره الموضوع ده، يعني حاول بكافة الطرق إنه يحميكي، وإن شاء الله اللي حصل ده مش هيتكرر تاني فاتمنى حضرتك متتضايقيش من الباشا.
هزت رأسها بخفة وببسمة كبيرة قالت:
_مش زعلانه.
وتطلعت لراكان قائلة وابتسامتها تهرب عنها اجباريًا:
_حصل خير يا راكان.
ابتسم بسعادة لاصلاح الامور بينهما وقال:
_يعني مش زعلانه؟
هزت رأسها إليه، فقال بحماس:
_خلاص نروح نتغدى بأي مكان عشان اضمن أنك مش زعلانه فعلًا.
اكفهرت معالمها وكأنه يدعوها للهلاك، فقالت بمكر:
_خليها بكره لإن النهاردة ورايا مذاكرة وكام حاجة مهمة..
وعادت تتطلع لادهم قائلة بابتسامتها الرقيقة:
_عن اذنكم.
وتركتهما وعينيها تختطف النظرات لآدهم الذي يجاهد بمنع ذاته من التطلع إليها ولكن نظراتها المحبة تلك كانت مغرية بدرجة لعينة، فصعد لسيارته وانطلق خلف راكان على الفور.
*******
داوم علي على تحريك ساق عمران المتعب من طولة مدة التمرين، فقال بإرهاق:
_خلاص يا علي معتش قادر.
اتجهت إليهما الطبيبة، تشير بالاستمرار:
_عليكما بمداومة التمرين لعشرة دقائق أخرى.
احنى عمران قامته مستندًا على أخيه، وصاح بتعصب:
_لست قادرًا على فعل ذلك بعد الآن أريد الاسترخاء قليلًا.
هزت رأسها بتفهمٍ، وتركت لعلي زمام الأمور، فأسنده للأريكة ثم جلس جواره يمسد على يده بحنانٍ اختزل صوته الهادئ:
_كل شيء بيبقى صعب بالبداية بعد كده الدنيا هتبقى لطيفة.
استدار برأسه تجاه أخيه، وقال بحزن:
_علي أنا مش هقدر أتحمل، احساس العجز ده بشع صدقني.
ترك الأريكة وانحنى أسفل قدم أخيه الصغير، يتعصب بقوله:
_متقولش عجز دي تاني، إنت مش عاجز يا عمران ايدك ورجلك بتتحرك بس هتحتاج وقت عشان تحركهم بقوة زي الأول.
وعاتبه بأعين دامعة رغم عن تحكمه بتعابيره:
_أنا عكازك وسندك اللي لا يمكن يميل يا عمران، الفترة اللي بتعشها دي مؤقتة وبعدها هترجع أحسن من الأول صدقني.
ابتسم له عمران وانحنى يهمس له وعينيه تجوب الطبيبة:
_لو انت مقطع أبواب حبي كده خلعني من باقي التمرين ينوبك ثواب.
احتل الضيق معالمه وجذبه سريعًا للحامل قائلًا:
_مش هينفع تخلع من أولها.
همس بضيق:
_ ماشي يا علي!
******
خرجت فطيمة للتراس الخارجي حينما شعرت بالفتور، اليوم الثاني لها وحيدة دون وجود شمس أو مايسان لجوارها، تخشى الخروج من الغرفة فأسوء كوابيسها رؤية فريدة، لا تحتاج لسماع كلماتها الشبيهة بالسم القاتل، قادها التراس لدرج خارجي هبطت منه للحديقة، فجلست على الأرجوحة، حركتها فطيمة ببسمة سعادة، فلف الهواء البارد وجهها وعينيها تنغلق استمتاعًا بما تلاقاه هنا، وفجأة تجمدت ساقيها حينما وجدتها تقترب منها حتى باتت تقف أمامها، فجلست جوارها تتأمل المنزل بنظرة عميقة انتهت بسؤالها:
_يا ترى ده كان من حساباتك ولا خارج توقعك؟
ازدرت ريقها القاحل وهي تحرر صوتها الهامس:
_مش فاهمه حضرتك تقصدي أيه؟
رسمت فريدة بسمة ساخرة وأشارت على المنزل:
_يعني بسألك كنتي تعرفي إن علي غني وقاعد بقصر زي ده ولا اتفاجئتي لما جيتي هنا؟
وقبل أن تستوعب ما تحاول قوله، قالت بنظرة محتقرة:
_مهو أكيد مش هترسمي الرسم ده كله الا لو كنتي عارفة ورا الجوازة دي أيه؟
انهمرت دمعاتها بقوة، ورددت بصعوبة بحديثها:
_أنا مش عارفة ليه حضرتك شايفاني بالشكل البشع ده، بس أنا مقدرة اللي آنتِ فيه، أنا نفسي حاولت أرفض وأوقف علي عن الجوازة دي بس مقدرتش.
ضحكت ساخرة:
_ومقدرتيش ليه ويا ريت تسيبك من جو سعاد حسني ده لإني زي ما قولتلك قارية دماغك.
رددت بصوتٍ واهن بعدما سيطر عليها بوادر نوبة تجتاح أضلعها:
_انا بحس معاه بالأمان وآ…
قاطعتها وهي تعتدل بجلستها قائلة:
_اسمعيني يا فطيمة وأوزني كلامي كويس، أنا مستعدة أشتريلك بيت بإسمك وأحولك 2مليون دولار في سبيل إنك تطلبي الطلاق وتخرجي من حياة علي للأبد.
جحظت عينيها صدمة فحاولت بشتى الطرق اجبار لسانها على الحديث، فأشارت لها فريدة:
_احسبيها كويس وإبقي بلغيني ردك.
وتركتها واتجهت للداخل تاركة من خلفها قلبًا يتمزق دون رحمة، اخترقت الآلآم رأسها بشكلٍ جعلها تئن وجعًا، فشعرت بأنها على وشك الاغماء بأي لحظة، لذا اردت الصعود لغرفتها قبل أن يرى أحدًا حالتها تلك.
صعدت فطيمة الدرج الجانبي حتى وصلت لشرفة غرفتها، فما أن ولجت للداخل حتى تفاحآت بعلي يبحث عنها بالغرفة بفزع اهتدى فور رؤيتها، فدنى منها متسائلًا:
_كنتي فين يا فطيمة، قلقتيني عنك!
رفعت يدها تحجب بها آلآم رأسها، وفجأة تلاشت محاولتها المستميته وسقط جسدها فاقدًا للوعي أمام عينيه، فهرع إليها صارخًا:
_فاطيمــــــــــــــا!
يتبع…
جسدها الهزيل لم يعد قويًا ليحتمل كل تلك الضغوطات، خرت قوتها وباتت ساقيها ضعيفة لحمل جسدها، تعلم بأنها ستخوض معركة ضد فريدة، ولكنها والله لا تمتلك النية من الأساس، ألا يكفيها ما تواجهه، ألا يكفيها ما يقلق منامتها ويكسرها كل يومٍ، بل كل لحظة، عساها تدرك بأنها أنثى محطمة تلاشت صرخاتها وتبخرت، فلم تعد تمتلك صوتًا ولا حياة.
جاهد علي ليجعلها تسترد وعيها، ولحظه لم يمتلك بمنزله أي من معداته الطبية، أو حتى الدواء الخاص بها، فأسرع لغرفته وجذب زجاجة الرفيوم الخاصة به ونثر على كفه، ثم حملها لصدره وهو يقرب يده من أنفها وصوته القالق يناديها:
_فاطيما… سامعني!
بدأت الرائحة النافذة تكسر حاجز ظلمتها، والأروع من ذلك بأنها تعلم تلك الرائحة جيدًا، فهمست إليه:
_علي.
ابتسم وهو يجيبها:
_جانبك وطوع أمرك يا قلبي!
فتحت عينيها لتجده يتأملها ببسمةٍ هادئة، يده تتمسك بيدها وذراعه يلتف من حولها، جلست باستقامة على الفراش وأبعدته عنها وهي تتساءل على استحياءٍ:
_هو… آآ.. أيه اللي حصل؟
مط شفتيه بسخطٍ وقال:
_المفروض مين فينا اللي يسأل، أنا ولا إنتِ؟
وتابع بنظرة شك أحاطت تلك التي تتهرب من لقاء رماديته:
_كنتِ فين يا فطيمة، وأيه اللي حصلك وخلاكي راجعة بالشكل ده؟
أخفضت عينيها تبكي بصمتٍ، مما جعله يشك بما حدث، ليس أحمقًا بالنهاية لن يمسها أحدًا هنا بالسوء الا والدته، جز على أسنانه بغضب، فانتفض عن الفراش مرددًا:
_أكيد فريدة هانم!
وأسرع للخروج من الغرفة ليواجهها تلك المرةٍ بشراسة تفوق هدوئه، الا أن جسده فقد قدرته على الانصياع لأوامره فور أن تمسكت فطيمة بيده وقالت باكية:
_لأ يا علي، بلاش تكبر المشاكل بينكم، أرجوك بلاش تخليها تكرهني أكتر من كده.. عشان خاطري.
استدار إليها بعدم تصديق، تترجاه لأجل والدته التي لم يعنيها حالة تلك المسكينة، كان يعلم بأنه سيواجه معاناة طاحنة معها ولكن كان بداخله شعورًا يعاكس الأخر بأنه ولربما تتعاطف مع حالتها الصحية.
هدأ من روعه أولًا قبل أن يحاوط وجهها الباكي، ليته يحيطها بأربع حوائط ويمنعها من أن تختلط بأحدٍ سواه، ليته يملك كل أسرار سعادة العالم بأكمله ليمنحها إليها عن طيب خاطر، أزاح علي دمعاتها وقال بحزنٍ:
_دموعك بتجلدني وبتتحسسني بالعجز، فلو مش عايزاني أنزل ليها حالًا بلاش تعيطي!
هزت رأسها بلهفة وأزاحتهما عن وجهها، فمنحها ابتسامة جذابة من بلسم شفتيه، ونادها:
_فطيمة.
الويل لقلبها الضعيف حينما يستمع لصوته المنادي، يطحن عضلاتها الهاشة من فرط دقاته العنيفة، أسبلت إليه بارتباكٍ فقال:
_لو حابة إننا نمشي من هنا ونشتري شقة نعيش فيها أنا معنديش مانع.
صمتت قليلًا تفكر بالأمر، نعم ستحصل على راحة مثالية بعيدًا عن فريدة، ولكنها ستخسر عائلة تحيطها بحنان مثل شمس ومايسان والعم أحمد وعمران التي لم يسبق لها التعامل معه خوفًا من أن تجتاحها التشنجات القاتلة لجسدها، ولكنها لمست حنانه واحترامه لها من الموقف الصباحي لهذا اليوم مما جعلها تتغمد بالراحة تجاهه، وبعيدًا عن ذلك إن أطاعت علي بما يريد حينها ستتأكد فريدة بأنها أخبرته بعرضها وأرادت أن تسوء الامور بينها وبين ابنها لذا ستزيد من كرهها واضطهادها إليها، فأجلت صوتها الرقيق:
_لا أنا مرتاحة هنا.
تنهد علي بضيقٍ، تلك الحمقاء لا تعلم بأنه يستطيع سماع صوت تفكيرها الطاحن بينه وبين ذاتها، ليس لكونه طبيبًا نفسيًا ماهرًا، لكونها تعد محور حياته الاساسية فبات يفهم كل حركة تصدرها حتى إشارات عينيها!
أراد أن يبدل الحديث الخانق بينهما، فسألها باهتمامٍ:
_خلصتي الكتاب؟
هزت رأسها نافية، وأجابته بحماس:
_لسه، بس ممكن على بليل أخلصه.
ابتسم وهو يتأمل ابتسامتها التي يفتقدها، ثم قال:
_خلصيه وادخلي المكتبة خدي غيره.. أنا هنزل الصيدلية أجيبلك أدويتك لأني نسيت خالص الموضوع.
أشارت إليه بهدوء فإتجه للمغادرة، وقبل أن يصفق باب غرفتها قال بمزحٍ وهو يغمز لها:
_جهزي نفسك علشان لما أرجع هنكمل جلساتنا، متفكريش إنك خلاص لما بقيتي مراتي هتنفدي من جلسات دكتور علي!
وجدها مطيعة تهز رأسها لكل أمرًا يخبرها به، فابتسم وهو يطالبها:
_هتحني وتديني حضن؟
جحظت عينيها صدمة وركضت تجاهه، فتهللت أساريره ظنًا من أنها ستمنحه ضمة تشفي صدره، فوجد ذاته يحتضن باب غرفتها المغلق بقسوة بوجهه عوضًا عنها، فتمردت ضحكاته عاليًا وردد بصعوبة:
_ماشي يا فطيمة، الأيام بيننا!
*******
بالأسفل.
استمرت مايسان بالعمل برفقة أحمد فور عودتهما من الشركة، فقدمت له عدد من الملفات الهامة، وحملت البعض منها ثم نهضت تخبره:
_دول الملفات اللي حضرتك طلبتهم يا أنكل، ودول اللي واقفين على توقيع عمران، هطلع أخليه يوقعهم وهتصل بحد من الشركة يجي يأخدهم.
هز رأسه بتفهم وعينيه مشغولة بقراءة الملف من أمامه، وحينما شعر بخطوات حذاء يعلم صاحبته جيدًا قال بمكرٍ:
_بقولك يا مايا.
تراجعت عن الدرج متسائلة:
_أيوه.
قال بحماس وأعين لامعة:
_اتصلي بمدام أنجلا خليها هي اللي تيجي تاخد الأوراق، متنسيش إنها ملفات مهمة ولازم نختار حد ثقة وآمين ولا أيه يا بنتي؟
تعالت ضحكاتها، وبالرغم من عدم معرفتها بقصته مع خالتها الا أنها قالت بترحاب لظنها بأنه على وشك السقوط بحب تلك الموظفة:
_حاضر، هخليهم يبعتوها هي، أي أوامر تانية يا أحمد باشا؟
منحها ابتسامة خبيثة ورد باستحسان:
_والله ما حد فاهمني بالبيت ده أدك.
منحته بسمة مشرقة قبل أن تكمل طريقها للأعلى، فاستوقفها صوت فريدة الحازم:
_رايحة فين؟
تلاشت ابتسامتها بشكلٍ ملحوظ، وبجفاء قالت:
_في أوراق عمران لازم يوقع عليها.
وكادت باستكمال الدرج للأعلى، ولكن يد فريدة كانت الاسرع أليها أوقفتها وهي تتساءل بذهول:
_مالك يا مايا؟ بقالك فترة بتعامليني بالشكل ده ليه؟
انخفضت درجتين لتصبح أمامها، فقالت بحزن لمع بدمعاتٍ بريئة:
_لإني مصدومة فيكِ يا فريدة هانم، طريقة معاملتك لفاطيما وجعاني أوي، ومخليني مش قادرة أستوعب إن اللي قدامي دي هي نفسها الست اللي ربتني وأخدتني في حضنها بعد وفاة أمي، ولا الحنان اللي عاملتيني بيه ده كان لإني بنت أختك، ويمكن لو كنت مرات ابنك بس كنت هلاقي نفس معاملة فاطيما.
صاحت بانفعال:
_أيه الهبل اللي بتقوليه ده!
_ده مش هبل يا أمي دي الحقيقة.
قالها علي بابتسامة ممتنة لزوجة أخيه التي بادلته نفس الابتسامة واستكملت طريقها للأعلى، بينما هبط علي ليقف على نفس الدرجة التي تحمل فريدة، منحها نظرة حزينة وقال:
_انا مش عارف إنتِ قولتي أيه لفطيمة خلاها تفقد الوعي بالشكل ده بس صدقيني لو حصلها حاجة هتكوني خسرتي علي ابنك للأبد.
وتابع بنفس نبرته المنكسرة:
_بالرغم من كل اللي بتعمليه معاها الا أنها رفضت تقولي اللي حصل بينكم، فاكرة إنها بكده مش هتكبر المشاكل بينا، بتمنى تقدري اللي عملته يا فريدة هانم.
وتركها محلها وغادر بصمت بعدما قابل عمه المنشغل بالعمل ببسمة صغيرة، بينما وقفت هي تتطلع لأعلى وتهمس بحقد:
_حرباية وعارفة تتلوني بمية لون.
مازالت تصر أن ما تفعله فاطيما ليس الا لتنال شفقة علي وتكسبه لصفها، مع أن الحقيقة تبرهن صلاح القول بأنه بالفعل يحبها وينحاذ إليها، ليست تلك المعركة التي ستجعل الكفة الاخرى الرابحة، مازالت تحارب لشيءٍ قد حدث بالفعل!
هبطت فريدة للأسفل، فجلست على المقعد واضعة ساقًا فوق الأخرى، تراقب أحمد بنظرة مشتعلة، جعلته يمنحها نظرة طعنها بالذهول الكاذب، وببراءة سألها:
_مالك يام علي؟ بتبصيلي كأني قاتلك قتيل على المسا ليه؟
استفزتها بمنادته الغريبة، فقالت بغضب:
_يا تناديني فريدة هانم يا متنادنيش من الاساس.
منحها بسمة باردة، وعاد يتطلع للملف من أمامه ببرود:
_أوكي، مالك يا فريدة هانم؟ حلو كده؟!
ازداد غيظها ورددت من بين اصطكاك أسنانها:
_متستفزنيش يا أحمد.
رفع رماديته لها وتنهد بيأسٍ:
_أنا مش فاهم إنتِ فيكِ أيه بالظبط؟
وانتصب بوقفته يجمع الاوراق وحاسوبه قائلًا:
_هطلع أكمل فوق أحسن، أنا مش حمل مناهدة كفايا فرهدة الشغل!
وقفت تحرر غيظها:
_استنى هنا رايح فين؟
وبغيرة تمردت رغمًا عنها قالت:
_ولا حابب تقابل مدام أنجلا فوق في أوضتك، مش لسه بدري على الخطوة دي؟
أخفى بسمته بتمكنٍ، واستدار إليها بعدما ارتدى قناع جموده بحرفية، ارتبكت فريدة أمامه وقالت توضح له ببعض التوتر:
_يعني لسه في خطوبة وبعد كده جواز.
هز رأسه وهو يشير لها جادًا:
_عندك حق، بس أنا قلقان لإن أنجلا لسه خارجة من علاقة فاشلة مش عارف بالوقت الحالي هتقدر تدي نفسها فرصة تانية ولا لا.
انقبض قلبها لسماع ما قال، ظنته سيعترض على حديثه، سيبرهن بأنها تخطئ ظنها، وللعجب لم تجد بعينيه أو بحديثه أي مجالًا للمزح، كان جادًا بتعابيره ونبرته مما دفعها لسؤاله:
_حبيتها يا أحمد؟
سؤالًا ألمها قبل أن يتحرر على لسانها، إن كانت تستعيد ثباتها لكانت منعته من الخروج فأي حبًا هذا الذي سيولد من لقاء عابر مضى منذ ساعات قليلة بشركة عمران، ولكن الغيرة تصيب العاشق بحماقة تجعله لا يرى قبالته سوى نيران تأكل قلبه دون رحمة.
احتقنت عينيه وقال بكبرياء يلملم به جرح كرامته المهدورة:
_ميخصكيش.
واستدار ليتجه للمصعد فتفاجئ بها تنحني للطاولة وتجذب السكين المدسوس وسط طبق الفاكهة، وإتجهت إليه تجذبه من جاكيت بذلته بقوةٍ جعلت الحاسوب والأوراق تسقط منه أرضًا فانصدم حينما وجدها توجه سكينها لعنقه ونظراتها تواجهه بشراسة وغضبٍ جعلها تصرخ:
_أقسم بالله أقتلك وأقتلها لو فكرت تعملها يا أحمد، أنا مش هبلة ولا عبيطة عشان أصدق إنك وهبت قلبك اللي مفيش حد قدر يدخله من سنين لواحدة لسه شايفها من كام ساعة، أنا عارفة أنت بتعمل ده كله ليه!
تعمق بالتطلع لعينيها اللامعة بالبكاء رغم ثباتهما عن الخروج عن مخضعها، غير مبالي بالسكين الموضوع على عنقه، قال بصلابةٍ:
_هعملها يا فريدة، أنا مش هعيش وأخرج من الدنيا دي وأنا لوحدي وبطولي، كفايا.
وتابع بنظرة احتلت كرهًا وغضبًا يجابه خاصتها، جعلها تسحب يدها عنه رويدًا رويدًا والصدمة تجعلها لا ترى أمامها:
_كفايا تكوني أنانية ومبتفكريش غير في نفسك، أيوه أنا مستحيل هيسكن قلبي ست غيرك، بس مستعد أعيش مع واحدة تملى حياتي وتحسسني إني راجل.
واستطرد ببسمة طعنتها بكل قوته:
_والله أعلم يمكن مع الوقت أحبها وأتعلق بيها.
واستمد أنفاسه وتابعها وهي تتراجع للخلف بصدمة، كلما ألقى إليها كلمات جديدة كأنها تركلها بعيدًا عنه:
_اللي واثق منه إني مستحيل هقبل بظلمك تاني،مستحيل هعيش لوحدي في قصر كبير بيخنقني بعد النهاردة، وإنتِ هنا عايشة وسط اولادك ومش حاسة بعذابي ولا بوجعي طول السنين دي كلها.
أخفضت عينيها أرضًا تكبت دموعها قدر الامكان، فوضعت سن السكين بيدها الاخرى تقبض عليه بكل قوتها حتى استجاب لحمها الرقيق لنصله الحاد فتناثرت الدماء بكثرة أسفل قدميها على أرضية الرخام الأبيض، وزع أحمد نظراته المندهشة عليها.
حالتها كانت غريبة له بشكلٍ استدعى قلقه، وخاصة حينما وجد الألم الجسدي والنفسي يسيطران على عينيها المنغلقة، فأخفض بصيرته ليدها فانتفض بمحله، هرع إليها يبعد السكين عن يدها وهو يصرخ بها:
_إنتِ مجنونة!
أبعد السكين عن يدها وجذب المناديل الورقية يحاول بها كتم الدماء المنسدلة، ومازالت تتابعه بنظرة خالية من الحياة، بينما هو يجاهد لوقف نزيفها، فقال وهو يكبت المناديل بيده:
_الدم مبيقفش، تعالي معايا نروح لأي دكتور.
جذبت يدها منه وقالت ببرود يناهز بروده:
_ميخصكش.
وتركته واتجهت للمصعد فلحق بها وهو يصرخ بانفعالٍ:
_بطلي عند يا فريدة ايدك بتنزف.
ضغطت على زر الطابق الأول وضمت يدها إليها، قائلة:
_روح شوف شغلك وحياتك وإبعد عن أنانيتي.
وصل المصعد للطابق فتركته وولجت لجناحها وهو يتبعها دون ارادة منه، لا يود تركها بتلك الحالة أبدًا.
ولج أحمد لجناح أخيه للمرة الأولى، فسبقته خطاها لحمام غرفة نومها تجذب عُلبة الاسعافات الأولية، بينما تبلدت خطواته فور أن لمح فراشها، صورتها برفقة أخيه الموزعة بأرجاء الغرفة وبالأخص تلك التي تقابله أعلى الفراش.
كانت تبتسم بها بسعادة جعلته يدقق النظر بوجعٍ، يقنع ذاته بتلك اللحظة بأنه فقط من كان يعاني، وتمكنت تلك الجالسة على الأريكة القريبة منه من فهم سبب شروده، فلفت على يدها شاش أبيض، وإتجهت لتكون قريبة منه، تتطلع للصورة برفقته وشق صوتها مسمع قاعته الصامتة:
_دلوقتي فاكر ان سر الابتسامة دي وراها حب وراحة وسعادة إنت اتحرمت منها صح؟
بالكد تمكن من سحب عينيه ليتطلع بها إليها، فوجدها تتطلع للصورة وهي تردد:
_الضحكة دي سببها الخيانة.
ضيق عينيه باستغرابٍ:
_خيانة أيه؟!
التفتت إليه وهي تخبره ببسمة ألم:
_كنت بعتبر نفسي عايشة معاك إنت.
وتابعت بحرجٍ تنطق بجريمتها التي تأنبها:
_أحمد أنا كنت عايشة مع أخوك وعقلي وقلبي معاك إنت، كنت كل هدية بجبهاله بختارله الحاجة اللي كنت إنت بتحبها، بطبخ نفس الأكل اللي بتحبه، حتى البرفيوم كنت بجبله نفس النوع اللي بتحطه عشان أحس إني عايشة معاك إنت.
وأخفضت عينيها أرضًا تردد ببكاءٍ:
_ كل لحظة كانت بينا كانت معاك إنت مش معاه! أنا كنت خاينة حتى في أحلامي!
وتابعت وهي تجلس على حافة فراشها:
_مستكترة على نفسي أعيش معاك بعد كل اللي عملته، أنا لازم أتعاقب.
انهمرت دمعة على خده وهو يتابعها، فمالت بجسدها للوسادة تجذب من أسفلها صورته ونزعت عنها سلسال ترتديه تخرج له صورته، وتلك المرة رفعت عينيها إليه تواجهه:
_إنت معايا في كل ثانية يا أحمد.
اقترب منها فتراجعت للخلف وهي تترجاه:
_لا أرجوك متقربش، كفايا الذنب اللي أنا شايلاه لحد النهاردة.
وتابعت وهي تضم السلسال إليها بوجع:
_عيش حياتك يا أحمد، أوعدك إني مش هقف في طريقك بالعكس أنا بنفسي اللي هخطبهالك بس من فضلك اختار الانسانة اللي تستاهلك متختارش أي واحدة بدافع الانتقام مني.
ابتسم من وسط سيل دمعاته، وردد ببحة صوته:
_مش كنتِ هتقتليني انا وهي من شوية!
صمتت قليلًا تفكر بالأمر، وقالت بحيرة:
_مش ضامنة ردة فعلي وقتها، بس سبها للوقت ومتشغلش بالك غير بالعروسة.
هز رأسه باقتناع، فدث يده بجيب بنطاله وهو يتطلع لباقي الجناح بصمتٍ قطعه حينما قال برزانته:
_أنا خلاص اختارت وقررت.
ودنى ليستند بقدمه على الاريكة المتطرفة بنهاية الفراش ليكون على محاذاة طولها:
_هتجوزك يا فريدة برضاكِ أو غصب عنك، وفرحنا أخر الشهر ده حضري نفسك.
وتركها وغادر ومازالت متصنمة محلها وفمها يكاد يصل للأرض من فرط صدمتها بجراءته الغير معتادة، فاغتصبت بسمة صغيرة على شفتيها وأزاحت دموعها بخجل أعاد صباها وجدد أفراحها المنتهية!
******
طرقت باب الغرفة مرتين وحينما لم تستمع لصوته يأذن لها بالدخول فتحت باب غرفته وولجت تناديه بقلقٍ:
_عمران!
بحثت عينيها عنه حتى وجدته يجلس بالشرفة الخارجية للغرفة، فعلمت بأنه لم يستمع لها، اقتربت حتى بقيت خلف مقعده تتأمله ببسمة هادئة انقلبت لتوتر فور نطقه دون الاستدارة لها:
_قربي، هتفضلي واقفة عندك كتير؟
دنت منه وهي تتطلع بدهشةٍ انتقلت لسؤالها:
_عرفت منين، أنا بقالي ساعة بخبط على الباب؟!
رفع عينيه لها وقال بنظرة تحوم عاطفته بها:
_قلبي بقى يحس بوجودك.
ابتسمت ساخرة ودنت منه تنحني، لتضع على قدمه الملفات، قائلة:
_الأوراق دي واقفة على توقيعك يا بشمهندس.
تمعن بعينيها طويلًا، وكأنه يبحث عن ضالته بعد غيابًا ونظراته غامضة لدرجة ألمت قلبها، فرددت بتوتر:
_مالك؟
انفلت ببسمة صغيرة تحمل تعاسته:
_مخدتش على قعدة البيت، أنا مكنتش بلمح أوضتي ولا سريري غير على وقت النوم يا مايا.
لم تتمكن من حجب دمعاتها المتأثرة به، فرفعت يدها تحيط جانب وجهه النابت بلحيته، لمستها جعلته يعيد النظر إليها ببسمة عاشقة، وخاصة حينما قالت بصوتها الرقيق:
_عمران اللي فات من عمرك كله كانت مرحلة سيئة، خدت فيها قرارات متهورة وبعدت فيها عن ربنا، لو فكرت كويس هتلاقي ربنا بيحبك عشان كده أدلك فرصة تانية والفرصة دي لازم تستغلها كويس.
واستكملت ببسمة حب:
_الوقت الفاضي اللي عندك ده المفروض تفكر باللي فات من حياتك واللي جاي، صلي واتقرب من ربنا، مش يمكن تعبك ده ابتلاء عشان ربنا وحشه صوتك وإنت بتدعيله على سجادة الصلاة وبتقوله يا رب!
وتابعت بحماس:
_ربنا بيعز عليه عباده وبيديهم أكتر من فرصة عشان يبعدوا عن المعاصي، لمس فيك ندمك وعزمك على البعد عن معصيته فمدلك إيده وإنت مينفعش ترجع عن عزيمتك يا عمران، صلي واتقرب من ربنا ولو حسيت إنك مخنوق طلع مصحفك اللي أراهنك مش بتفتحه غير كل رمضان.
وأخفضت يدها لموضوع قلبه تؤكد له:
_صدقني ده وقتها هيرتاح.
رفع يده يحيط بيدها الطابعة لموضع قلبه، فرفعها لفمه ملمسًا إياها بقبلته التي لامست أصابعها، تركت مايسان قدمها تستند أرضًا واحتضنته بحب جعله يغلق عينيه طاردًا كل احاسيس الاكتئاب والحزن خارجه، أحاطها بقوةٍ وهمس بما ينتاب أضلعه:
_بحبك.
ابتسمت وهي تردد على استحياء:
_وأنا كمان بحبك.
ابعدته ورتبت حجابها جيدًا، ثم رفعت القلم نصب عينيه لتخبره بارتباك وهي تلهي ذاتها بتفحص الملفات التي سقطت أرضًا منه:
_امضي على الملفات بسرعة أنكل أحمد هيترفز مني في أول يوم شغل معانا.
جذب الورقة ووقع الأوراق وعينيه تخطف النظرات إليها، فحملت الملفات وإتجهت للمغادرة ليوقفها سؤاله الغامض:
_بتعرفي تطبخي؟
رمشت باستغراب، واستدارت توجهه بحيرة:
_أيوه، ليه؟!
تطلع أمامه ببسمة هادئة جعلتها تعود أدراجًا، لتقف قبالته من جديدٍ:
_بتسأل ليه؟
وبمزحٍ قالت:
_عايز تجرب أكلي يا بشمهندس؟!
لعق شفتيه الجافة وقال ببعض الحرج:
_بصراحة بقالي فترة واعد جمال ويوسف إني هعزمهم على أكل بيتي، وإنتي عارفة طبعًا فريدة هانم ملهاش في نوعية الأكل دي، فبقول يعني هتبقى فكرة لطيفة لو عزمتهم هنا بكره، أهو يقضوا معايا اليوم بدل ما أنا قاعد كده.
أشارت له بفرحةٍ حملتها داخلها بأنه يطالبها بمسؤولية هكذا، وإن كانت ستفعل شيئًا بسيطًا مثل ذلك لاسعاده بالطبع لن تتأخر، فقالت بحماس:
_اتصل بيهم حالًا واعزمهم وأنا اوعدك إني هشرفك بكره قدامهم وهتشوف.
وضعت الملفات عن يدها وأخذت تردد وكأنها تتحدث مع ذاتها:
_أنا هنزل السوبر ماركت اجيب اللي هحتاجه بس الأول لازم أحضر القايمة باللي هطبخه وهحتاج ليه.
راقب حماسها ببسمة جذابة، لا يعلم إلى أي حد سيصل عشقها داخله، تحرر صوته أخيرًا فقال:
_بالنسبة للملفات والشكل وأنكل أحمد اللي هيتضايق؟
خطفت نظرة سريعة للملفات الموضوعة على المقعد بحزن ثم قالت ببسمة معاكسة:
_الشغل يستنى، أي شيء في الدنيا يستنى لو الموضوع فيه تحدي لقدرات الست بالمطبخ.
وأشارت له ومازال يتابعها ببسمة جذابة:
_عن أذنك بقى يدوب ألحق أرتب نفسي، بفكر أخد فطيمة معايا أهو انجدها ساعتين من فريدة هانم.
ضحك عاليًا وتطلع لها بعدم تصديق، فقال مستهزءًا:
_ده من أمته ده؟ مش معقول مايا معارضة لفريدة هانم عشان خاطر مرات أخويا اللي لسه داخلة البيت من يومين!
جذبت المقعد البعيد منهما وقربته منه، جلست مايسان واحتلت الجدية معالمها، فقالت بحزن:
_بصراحة يا عمران أنا مش مع خالتي بطريقة معاملتها مع فاطمة، البنت حرام اتعرضت لحاجات كتيرة مفيش مخلوق يستحملها على وجه الأرض، وكونها ك ست المفروض تقدر وجعها وتحتويها، أنا مندهشة من طريقتها الغير مفهومة معاها، إنت مشفتهاش وهي بتكلمها يوم كتب الكتاب والخوف الكبير هو يوم الفرح قلبي مش مطمن للي هيحصل.
لأول مرة يجمعهما حوار مماثل لما يحدث بين أي زوج وزوجته، ابتهج لمسار حياتهما الجديد، ويزداد تأكدًا كل مرة بأنه يحصل على فرصة تستحقها تلك الفتاة ليعوضها عما فعله، فرفع يده يربط على كفها بحنان:
_متخافيش على فطيمة يا مايا، علي راجل وقادر يحميها حتى من أمي نفسها.
هزت رأسها والابتسامة تتسع على وجهها، وانتفضت فجأة وهي تشير له بغضب:
_ورايا حاجات كتير لازم أعملها، عن إذنك.
وهرولت للخارج ثم عادت إليه تشير باصبعيها معًا بطريقة جعلته يتراجع برأسه للخلف وهو يتساءل بخوف مصطنع:
_أيه؟!
قالت وهي تشير مجددًا:
_عندي طلبين…
هز رأسه والابتسامة لا تتركه، فقالت:
_الأول تكلم علي تقوله إني هأخد فطيمة معايا..
مال بوجهه متسائلًا:
_والتاني؟
أضافت بحماسٍ وهي تشير على المقعد:
_إنك تتصل بنفس التليفون بردو تخلي أنكل أحمد يبعت حد من الخدم يأخدله الملفات لاني ورايا شوبنج وحاجات كتيرة جدًا، سلام.
وهرولت من أمامه بسرعة كبيرة جعلته يراقبها وصوت ضحكاته تصل الغرفة بأكمله، فصاح إليها بحذر:
_على مهلك يا مجنونة مش هتلحقي توصلي لتحت هتتقلبي على السلم ومش هقدر أشيل وأنا بالوضع ده.
واعتدل بجلسته يهمس بمكر:
_مع إنها كانت هتبقى فرصة تشجع على الانحراف!
********
اقتحمت مايسان غرفة فطيمة وبحثت عنها، فاندهشت حينما وجدت الغرفة فارغة، فنادتها:
_فاطمة!
تفاجئت بها تزحف من خلف مقعد الصالون الجانبي بابتسامة واسعة، جعلت الاخيرة تردد بصدمة:
_أيه اللي مقعدك كده؟
منحتها نظرة مرتبكة قبل ان تجيبها:
_بصراحه افتكرتك فريدة هانم.
تطلعت لها بعدم استيعاب وتشاركا الضحك، فغمزت لها مايا بمشاكسة:
_ولا يهمك انا هخلصك من القعدة هنا وهخدك معايا المول نجيب شوية حاجات.. ها جاهزة؟
انتابها الحماس والفرحة وهرعت للخزانة تجذب ملابسها وتسرع إليها كأنها ستبدل رأيها، فتعالت ضحكاتها وهي تراها ترتدي فستانها وحجابها بأقل من خمسة دقائق، فقالت مازحة:
_يا قلبي يا بنتي ده أنتي طلعتي عايشة في حبس.
ضحكت الاخيرة وهي تشير لها:
_يلا نخرج.
وتوقفت فجأة بتوتر لحق بنبرتها بحرجٍ:
_طب وعلي؟ أنا مخدتش إذنه!
ابتسمت وهي تضمها بذراعها:
_متقلقيش عمران هيكلمه.
وبرقت بعينيها فجأة وهي تشير للشرفة:
_دي عربية شمس، بينا نلحقها بسرعة أهي نبدسها في السواقة طول الطريق.
وجذبت يدها وركضت بها تجاه المصعد والاخيرة تلحقها وصوت ضحكاتها لا يتوقف، فنجحت مايسان بزرع الضحك على وجهها بعد فترة كبيرة، وخاصة حينما قصت لها على الطعام الذي ستحضره لاصدقاء زوجها وقالت :
_أيه رأيك لو عملتي معايا بكره كم صنف كده مغربي نزين بيه السفرة.
لمعت عينيها بشغف وقالت:
_كسكس مغربي وكعب غزال وبسطيلة.
هزت مايسان رأسها وأخذت تتساءل عن نوعية الطعام ومكوناتهم، فمضوا طريقهما للخارج يتناقشان دون توقف حتى وصلوا لشمس، فجلسوا بالمقعد الخلفي لتربت مايا على كتف شمس تخبرها:
_ما تركنيش اطلعي على أقرب ماركت على طول.
رددت الاخيرة بارهاق:
_ماركت أيه انتي عمرك دخلتي مطبخ يا بنتي عشان تنزلي الماركت!
أجابتها بهيام؛
_عمران عايز يأكل أكل مصري وأنا طبعًا ما عليا الا السمع والطاعة.
غمزت بمشاكسة:
_يا عم المطيع، ماشي عنيا بس ده اكرامًا لفطوم اللي اول مرة تركب معايا.
ابتسمت فطيمة حينما مالت عليها مايا:
_أهو عرفنا نطلع منك بحاجة!
*******
عاد علي من الخارج فصعد لغرفة عمران بعدما وضع الأدوية بغرفتها، فوجد أخيه يتابع الحاسوب ويعيد صياغة الملفات باستخدام يده اليمنى ببراعة جعلته يصفر باعجابٍ:
_هو ده البشمهندس المجتهد اللي ميقفش عند حاجة، ده اخويا الصغير العنيد.
منحه عمران بسمة هادئة ثم قال مازحًا:
_أيه يا دكتور رجعت ملقتش العروسة قولت تطلع رومانسياتك عليا ولا أيه؟
سحب ابتسامته وجذب المقعد يجلس قبالة فراشه مرددًا بغضب:
_منحرف ووقح مفيش فايدة فيك!
تعالت ضحكاته الرجولية، وردد بصعوبة بالحديث من بين سيلها:
_لا عايزك تروق وتفوقلي بكره عامل عزومة على اكل مصري ومغربي إنما أيه يستاهل بوقك.
زوى حاجبيه بدهشة:
_أكل مغربي!
هز رأسه مؤكدًا:
_فطيمة بنفسها هتعمل الأكل، عشان تعرف اخوك واصل لفين!
سحب جسده للامام وتساءل بجدية:
_لا فهمني وبالتفاصيل أنا أي حاجة خاصة بفاطيما أحب أكون فيها دقيق!
عادت ضحكاته ترنو، فصاح بعدم تصديق:
_أنا بفرح أقسم بالله، اتدري ليش؟ لان فاطيما سحبتك من رداء الاستقامة والعفاف للوقاحة وبالنهاية تقول إني وقح!
كاد بأن يوجه اليه حديثًا سام فأوقفه ذاك الذي اقتحم الغرفة مرددًا بجمود تام:
_كويس إني لقيتكم انتوا الاتنين.
ازدرد علي ريقه بتوتر، وتساءل:
_خير يا عمي؟
منحهما نظرة توزعت بينهما ثم قال:
_أنا وفريدة هنتجوز.
ابتسم عمران وهمس بنزقٍ:
_شكلها هتحلو!
يتبع…
اختنقت أنفاسه واحتسبت داخله بعد ما حدث، رؤية دمائها تقطر أمام عينيه جعلته يشعر بانكسار بكل عظمة يمتلكها، وقف بشرفته ينحني على السور الحديدي المحاط بها، والهواء يحرر خصلاته الفحمية المزينة ببعض الخصلات البيضاء، أغلق عينيه بقوة ورغمًا عنه انفلت ببسمة هادئة حينما تذكرها وهي ترفع السكين على رقبته وتهدده بشراستها التي مازالت تمتلكها حتى بعد مرور كل تلك السنوات، فعاد بذكرياته لاحدى المشاهد التي تمرد بها جنونها باجتيازٍ..
**
صعد لغرفته بعدما انتهى جده من الحوار المتبادل بينهما، كانت تستحوذ على اهتمامه بعدما تركت الصالون فور سماع جده يعرض عليه عروسًا من الطبقة المخملية التي تليق بعائلة “الغرباوي”، فلم تطيق سماع المزيد ونهضت للاعلى على الفور.
أغلق أحمد الباب من خلفه وخلع جاكيته ليلقيه على الأريكة باهمالٍ، وما ان استدار ليتجه لحمامه الخاص حتى تراجع للخلف وهو يتفادى تلك المزهرية التي كانت بطريقها لاحتضانه، فسقطت شظاياها أسفل قدميه ومازال يتطلع للأرض بصدمة جعلته يرفع عينيه لتلك التي تستعد برمي الأخرى تجاهه!
تراجع للخلف وهو يشير لها بعدم تصديق:
_تاني يا فريدة تاني!!
لم يعنيها كلماته وصوبت إليه ما تحمله فإنحنى للأسفل بسرعةٍ جعلت المزهرية تعبر لمرآة السراحة، فانهار زجاجها أرضًا، ابتلع ريقه بصوتٍ مسموعًا، وصاح بها وهو يحمي وجهه مما تحمله تلك المرة:
_ يا مجنونة أنا عملت أيه عشان تهاجميني بالشكل ده!! أنا زيي زيك إتصدمت من كلامه وزي ما سمعتي رفضت!!
كزت على أسنانها بغيظٍ جعل صوتها يبدو مخيفًا وهو يتحرر من بين انيابها:
_إنت اللي مديله الفرصة إنه كل شوية يجبلك عروسة شكل والموضوع شكله على مزاجك يا أحمد باشا.
خشى أن تفلت الأنتيكة الباهظة التي تحملها بين يده، وللحق لا تعنيه بأنها ثمينة بل ما يعينه بتلك اللحظة هو خسارة وجهه الوسيم التي تنتوي تلك الحمقاء تهشيمه تحقيقًا لتهديدتها السابقة بأنها ستشوه ملامحه حتى لا تقبل أي فتاة الارتباط به، فدنى منها ومازال منحني في محاولة بائسة للحديث:
_طيب اهدي يا حبيبتي، ارمي اللي في إيدك ده وخلينا نتكلم بالعقل!
رفعت حاجبيها مستنكرة لجملته وقالت:
_أي عقل ده يا ابن الغرباوي!! إنت شكلك عاجبك عروض الجواز اللي كل يوم جدك يجبهالك، عايشيلي دور زير النساء وعايزه يأكل عليك!
ضيق رماديته بصدمة، وردد ساخرًا:
_زير نساء!! ده جدي هيتجنن من حالة البرود اللي أنا فيها عشان كده عامل نفسه خاطبة عشان ميتأكدش الخوف اللي جواه من نحيتي!
عبثت بعدم فهم:
_خوف أيه؟
انتصب بوقفته قليلًا ومازال الخوف مما تحمله بيدها يعتريه، ليجيبها:
_إنتِ مش ملاحظة إننا عندنا في العيلة الشباب بيتجوزوا صغيرين في السن، أنا حاليًا بالسن الصغير ده وبالنسبلهم عديت السن المقرر للجواز، وده مدي انطباع سييء لجدك عني لدرجة أنه بقى معين ناس تراقبني جوه الشركة عشان نفسه يتأكد إني ليا أي علاقات نسائية، عايز قلبه يرتاح من الشكوك اللي بيتراوده نحيتي!
عاد لنفس لغزه من جديد، فسئمت بنفاذ صبر:
_شكوك أيه؟!!
حك جبينه بحيرة من إيصال المعنى الضمني لحديثه المحرج، فنفخ بغضب:
_متشغليش بالك إنتِ، ارمي اللي في إيدك بس واهدي ابوس إيدك مبقتش عارف أوجه الدادة نعمات لما بتشوف الاوضة كل يوم الصبح، بقت مصدقة عني إني ملبوس وبكسر في الأوضة، مش كفايا اللي جدك والعيلة واخدينه عني بسببك لسه هيترمي عليا ابتلاءات أيه تاني!!
منحته نظرة ساخرة، وقالت:
_والله بايدك تحل كل ده، انزل لجدك حالًا وقوله أنا عايز أتجوز بنت عمي.
برق بعينيه بدهشةٍ من خوضها نفس الحوار دون ملل، فراقب ما تحمله فوق كتفها بتوترٍ، ورفع يده يحمي وجهه وهو يقول بتعصب فشل بالسيطرة عليه:
_عايزاني أنزل لجدك أقوله أنا عايز اتجوز بنت عمي أم ضافير اللي لسه في تانية ثانوي وإنتِ أكتر واحدة عارفة شرع الغرباوي البنات متتجوزش الا لما تخلص تعليمها الشباب اللي بيتسحلوا من أول سن ال17، شكلك كده عايزة تضحي بيا!
اكتظم الغضب على تعابير وجهها، فبدت أكثر خطورة، فشددت من ضغط يدها لتقذف تجاهه الانتيكة، ارتطمت بذراعه قبل أن تلامس الحائط من خلفه فتلاحق بالضحايا السابقة لها.
ضم أحمد ذراعه وتأوه بألمٍ وهو يسب الحب على ذاك اليوم الذي نبض قلبه لها، وذاك ما جعلها تغوص بعصبيتها فجذبت زجاجات العطر الخاص به واستعدت لمهاجمته من جديد، فصاح بانفعال:
_يا فريدة مينفعش اللي بتعمليه ده، صدقيني أنا عايز أتزفت أتجوزك من دلوقتي بس اصبري حتى لما تدخلي الجامعة!
لم تهتم لحديثه وصوبت تجاهه أول زجاجة، فأسرع أحمد يحتمي بالمقعد المذهب الخاص بالسراحة، ليتفادى كل ضرباتها التي لم تنجح باصابته ولكنها كانت تسقط محطمة جوار الاجزاء الأخرى المبعثرة بالغرفة، فأطبق يديه فوق أذنيه من شدة الضوضاء وهو يهمس بغضب:
_الله يلعن أبو اليوم اللي حبيتك فيه يا متهورة!! أنا مش متخيل حياتي معاكي بعد الجواز هتكون عاملة أيه؟!
انتهت معركتها حينما بدأت تخوض سلامها النفسي بعدما انتهى كل شيء مصنوع من الزجاج حولها، فلم يعد هناك ما تتمكن باستخدامه، لذا جلست على فراشه بحزن.
مد رقبته من خلف المقعد يطمئن لهدوئها اللحظي، فتنهد بأملٍ، وخرج يتسلل بحرصٍ الا يصطدم قدميه بالزجاج حتى وصل إليها فسألها ببسمةٍ واسعة:
_أحسن دلوقتي؟
هزت رأسها بيأسٍ، فجلس على بعدٍ منها وهو يقول بنفس الابتسامة:
_الحمد لله.
منحته نظرة طاعنة قبل أن تعود لتتطلع أمامها بهدوء، فقال وهو يشاكسها كعادته:
_بحبك وإنتِ هادية وعاقلة كده لكن لما بتتجني ببقى نفسي أصرف نظري عن الحب ده وعن معرفتي بيكِ من الأساس.
وتابع مازحًا:
_تخيلي كده يا حبيبتي لو سكنا في عمارة وعملتي اللي بتعمليه ده هيبقى الوضع أيه؟ سكان العمارة هيزفونا لجدك بلبس البيت!
لم يستطيع أن يجعل الابتسامة تزرع على وجهها المحبب لقلبه، فقال بجدية تامة:
_مالك يا فريدة؟
اتجهت بعينيها اللامعة بالبكاء إليه، تردد بصوتٍ محتقن:
_خايفة يا أحمد، حاسة إن ممكن جدك يفرق بينا بيوم من الأيام.
ضيق عينيه بذهول:
_ليه بتقولي كده؟
هزت رأسها وقد غدى البكاء يتمكن منها:
_معرفش، مجرد إحساس.
ابتسم وهو يخبرها بنبرة صوته الرخيم:
_معتقدش إنه يعمل حاجة ممكن تزعلني في يوم من الأيام، متنسيش إنه هو اللي رباني طول السنين دي، أنا ماليش حد في الدنيا غيره هو واخواتي، أنا عارف أنه متأثر باللي مرات أبويا عاملاه فيه وحرمانه من سالم مأثر عليه، خصوصًت إنه من وقت وفاة بابا مبقاش ينزل مصر ولا يزوره بس اللي واثق فيه إنه بيعزني وطلبي له في يوم من الأيام هيكون مجاب.
ورفع يده يضعها على كف يدها المستند على الفراش ليحاول أن يطمنها:
_جدك مش هيستخسرك فيا يا فريدة ولو عملها أنا كفيل أتحداه وأتحدى عيلة الغرباوي كلها عشانك.
وتابع بمرحٍ:
_مع إني أشك أنه يرفض ده ما هيصدق إني أقوله إني كنت بحب وهتجوز!
تغاضت عن مزحه، وتمعنت بعينيه وقالت:
_أوعدني.
_بأيه؟
_منفترقش أبدًا.
_أوعدك لأخر العمر إنتِ وبس اللي هتكوني في قلبي، وعمري ما هكون لغيرك في يوم من الأيام.
_بحبك يا أحمد!
فتح رماديته اللامعة بالدموع التي تحررت على خده، فأزاحها عنه واتجه بقوة لم يمتلكها من قبل لغرفة عمران وها هو الآن يقف قبالتهما بعدما صرح لهما برغبته بالزواج من فريدة، ومازال الصمت يجوب الأجواء، تقابلت نظرات عمران وعلي بحيرةٍ من أمره، عمران لا يعلم أيخبرهما بالقرار فحسْب أم يطالبهما بإعلام والدته بعرض زواجه.
أما علي فكان يراقب صديقه المقرب في محاولة بائسة لفهم ما يحدث معه بتلك اللحظة، كيف قرر الخروج عن صمته فجأة دون أي مقدمات بالطبع هناك شيئًا حدث هو لا يعلمه.
سحب أحمد نفسًا مطولًا يحاول به التهيئة لوابل الاسئلة التي سيتواجه إليه بتلك اللحظة، ولكنه تعرض لصدمة جعلته يبرق لذاك الذي نطق ببسمة واسعة وهو يعود لمتابعة عمله على الحاسوب ببرود:
_مبروك يا عمي، ألف مبروك.
ضيق رماديته تجاه علي الذي يتابعه بهدوء هو الأخر وكأنهما كانا يتوقعان ما يفعله الآن، فعاد يتمعن بعمران الذي قال باهتمام:
_بس قولي فريدة هانم وافقت ولا إنت عملت أيه؟
وتابع بمرحٍ وهو يغمز له بخبث:
_أنا شعلتك بداية النار بمدام أنجلا وشكلك استفدت من الطعم كويس أوي، عفارم عليك يا رأي مامي هانم.
تغاضى أحمد عما يقوله عمران، وأتجه لذاك الصامت فتحرر صوته بشكٍ اعتراه لحديثه السابق الحامل لمغزى ما يحدث الآن :
_إنت كنت عارف يا علي؟
استقام بوقفته قبالته، وهو يحاول إيجاد ما سيقوله بحضرته، وبالنهاية قال باستسلامٍ:
_سمعت الكلام اللي كان بينكم بدون قصد يوم ما كان عمران بالمستشفى و كنت راجع أغير هدومي بس متضايقتش يا عمي بالعكس اللي ضايقني هو فراقكم عن بعض طول السنين دي.
أخفض أحمد عينيه للأسفل بحرجٍ، الموقف حساس برمته، اقترب علي منه ثم قال ببسمة هادئة:
_أنا عارف إن فريدة هانم عنيدة وشرسة بس واثق إنك هتقدر عليها يا عمي.
ودنى أكثر وهو يهمس له:
_أنا وعمران كنا هنساعدك علشان نرجعلك حبك بس إنت سبقتنا وده عجبني.
رفع عينيه له وقال ببسمة حزينة:
_كنت خايف من اللحظة اللي هواجهكم بيها بطلبي للجواز للمرة الأربعين وخصوصًا بعد العمر ده مكنتش أعرف إنكم عرفتوا القصة من بدايتها.
وابتلع ريقه بارتباك وهو يتساءل:
_يا ترى كان نظرتك ليا أيه يا علي لما عرفت إني بعت حب عمري وإنت واخدني قدوة ليك؟
تابع عمران حوارهما باهتمامٍ، فترك الحاسوب وراقب رد علي بتوترٍ، انساق الحديث لطرفٍ خطير بينهما، فلم يعد مجال المزح يليق به، راقب أحمد رد علي بلهفة، فخطف علي نظرة لعمران وصفن بكلمات عمه، ليضع ذاته بنفس تلك المقارنة الصعبة!
ماذا إن أحب عمران فطيمة وأرادها زوجة له؟ هل كان سيقف عدوًا بوجه أخيه من أجل حبه؟!
وما يقتله بتلك اللحظة ان أحمد لم يكن شقيق الأب والأم لأبيه، وهو يعلم بالعداوة التي سرت بالعائلة حينما تم كشف أمر زواج جده من امرأتين فحصل عمه وأخواته على ظلمٍ كان باينًا للجميع، وبعدما انحل الأمر بين والده سالم وعمه أحمد حينها هدأت العاصفة بين العائلة وعاش الجميع حياة طبيعية حتى تلك اللحظة.
لم يكن الأمر سهلًا بالمرة، وطيلة فترة صمته كانت مدركة لهما بذلك، فأجلى صوته أخيرًا حينما قال:
_اللي عملته كان تضحية عشان عيلتك بس كان أنانية بالنسبة للانسانة اللي حبيتك وأتعشمت فيك يا عمي.
ابتسم وهو يستمع لرأيه الحكيم، وقال:
_صح يا علي، عشان كده هقدملك نصيحة زي ما انت متعود تسمع مني.
راقبه باهتمام فقال أحمد:
_متبعدش عن اللي بتحبها حتى لو كان ده تمنه موت كل اللي بتحبهم، لإن موت قلبك ومشاعرك هيكون أصعب من وجع فراقهم ألف مرة.
لمعت عين علي بالدمع حينما تسلل له مضمون ما خاضه أحمد من ألمٍ قاتلٍ، وخاصة حينما قال ببسمة تعاكس ألمه:
_أقولك سر وتصونه؟
هز رأسه بتأكيد، فانحنى أحمد يهمس بأذنيه كلماتٍ جعلت الاخير يبرق بصدمة، فاستقام أحمد واتجه بعينيه تجاه عمران الذي يتابعهما بفضول، وقال:
_كمل شغلك يا بشمهندس.
وتركهما ورحل ومازالت نظرات علي تتابع مغادرته بصدمة جعلت عمران يناديه بقلق:
_علي.
عاد يناديه حينما طال صمته:
_علــي!
التفت إليه فتساءل عمران بارتباك:
_كان بيقولك أيه؟!
تغاضى عن سؤاله وهرع خلف عمه للخارج، وقبل أن يتجه لغرفته وجده يقف أمام بابها ينتظره بابتسامة تسلية، وكأنه كان يضمن بأنه سيتبعه بعدما ألقى له تلك القنبلة، فردد بتلعثمٍ:
_اللي حضرتك قولته جوه ده، إزاي!!
وضع يده بجيب بنطاله وانحنى قبالة وجهه يخبره باستفهامٍ ماكر:
_إنت كنت فاكرني هتخلى عن حبي بالسهولة دي! اللي قولتهولك كان السبب الأساسي اللي خلاني أعمل كده.
صمت ولم يجد كلمات تعبر عن صدمته، يحاول أن يجد سؤاله المنطقي القادم ليطرحه على من يراقبه، وقبل أن يصل لمبتغاه وجد هاتفه يضيء برقم زوجة أخيه، فرفعه قائلًا وعينيه مازالت تطارد عمه بذهول:
_أيوه يا مايا.
تجهمت معالمه بصورة ملحوظة، فقال:
_خليكي معاها وأنا جاي حالًا.
وأسرع تجاه الدرج فلحق أحمد به متسائلًا بقلق:
_خير يا علي، في حاجة؟
هز رأسه نافيًا وهو يجيبه باحترام:
_موقف بسيط حصل مع فطيمة ومايا محتاجاني أكون موجود عشان خايفة تتأثر بيه ، هبقى أطمنك بالفون متقلقش
وتركه وأكمل بخطاه للخارج مسترسلًا:
_لينا حوار تاني وطويل يا عمي.
ابتسم الاخير مرحبًا به:
_مستنيك بأي وقت يا دكتور!
واستدار ليتجه إلى غرفته، فوجد الخادمة تقف خلف تخبره:
_السيد عمران يريدك بغرفته سيدي.
******
تنقلت بين حوامل الملابس ببسمة رقيقة، بدت راضية عن قرارها بعدم الدخول مع مايا وفاطمة لشراء ما يلزم الطعام، وتوجهت إلى الطابق الثاني لاستكشاف كولكشن الفساتين الجديدة لهذا العام، فجذبها اللونين الأحمر والأسود، بدت حائرة بينهما، ورددت بصوتٍ منخفض:
_مش لو كانت مايا معايا كانت ساعدتني في اختيار اللون!
_عندي فضول أشوفك بالأسود.
ووصل الصوت الذكوري ليكون أمام عينيها يستكمل حديثه ببسمة مهلكة:
_أكيد هيكون مميز عليكِ!
رددت بابتسامة واسعة:
_آدهم.
اتسعت بسمته وأخفض وجهه قليلًا كأنه يحيي الملكة:
_شمس هانم.
ارتبكت أمامه وتلفتت من حولها كأنها تخشى وقوفهما، بحثت عما ستقوله بتلك اللحظة فلم تجد سوى سؤاله:
_بتعمل أيه هنا؟
اقترب آدهم منها ثم قال بنظرة غامضة:
_جاي عشانك يا شمس.
انتبهت لما سيقول باهتمام، خاصة وهي تتأمل ثباته الغامض، فقطع صمته قائلًا:
_إبعدي عن راكان الفترة دي يا شمس، عشان اللي حصل ليكي قبل كده ميتكررش تاني.
زوت حاجبيها بدهشة:
_تقصد أيه؟
أجابها ومازالت الإبتسامة تشرق على شفتيه:
_المرة اللي فاتت اتعرضتي لمحاولة الخطف دي بعد ما الشحنة اتمسكت بالمينا، أخاف بعد اللي هعمله يتكرر نفس الشيء معاكي عشان كده متحاوليش تشوفي راكان ولا تقربي منه الأيام دي مهما حصل.
ارتعبت شمس من مجرد تخيل السوء يمسه، فقالت بتوتر:
_إنت ناوي على أيه يا آدهم؟
اقترب ليقف جوارها، يمرر يديه بين حاملة الملابس وكأنه يبحث عن شيئًا يناسبه كونه زبونًا عاديًا، وأجابها وعينيه تتعلق على أحد الفساتين:
_هخلص من راكان واللي وراه بضربة واحدة، والطريق لده إني لازم أوصل للملف اللي أنا عايزه قبل دخول الشحنة الجاية مصر لإني لو منعناها من الدخول هتكشف قبل ما أقدر أخد الملف ده.
زاد خوفها أضعافًا، فقالت بقلق:
_أنا خايفة عليك يا آدهم، عشان خاطري خلي بالك من نفسك أنا… آآ… بحبك ومعنديش أستعداد أخسرك.
منحها ابتسامة هادئة قبل أن يستدير ليستعد للمغادرة هامسًا لها:
_مكنش عندي أي سبب يخليني أخاف على نفسي من الموت، دلوقتي بقى عندي اللي يخليني حريص بخطواتي، الحلم اللي هيجمعني بيكِ يا شمسي!
ورحل تاركًا الابتسامة تغدو على وجهها الحالم بذاك اليوم الذي ستصبح به زوجته!
******
وصل علي للمول وبحث عنهما بالطابق الأول، فوجدهما يقفان أمام مبردة اللحوم يحملان للعربة، وعلى ما يبدو استرخاء معالم فطيمة، فأوقف العربة التي تحاول مايا التحكم بعجلاتها لثقل ما تحمله، فتصنعت دهشتها لوجوده ورددت:
_علي! مش معقول!
منحها نظرة ماكرة ونفذ ما طلبته منه ببراعةٍ:
_أنا كنت قريب منكم هنا فقولت أعدي عليكم أخدكم في طريقي.
غمزت مايا بعينيها لعلي فابتسم رغمًا عنه، تكاد تفضحهما بأن مجيئه إلى هنا لم يكن سوى اتفاق جماعي بينهما، فتنحنح بخشونة ورماديته تعود لزوجته المرتبكة بوجوده، فتساءل:
_فطيمة إنتِ كويسة؟
هزت رأسها بتأكيدٍ، ووضعت اللحم بالعربة وهي تخبر مايا:
_هنحتاجه للكسكس المغربي.
عدلت مايا الكيس البلاستيكي وهي تضيف بأعجابٍ:
_الله عليكي يا فطوم، شكلك كده هتبدعي.
وأضافت وهي تشير لعلي:
_يلا يا علي على الكاشير، يدوب نرجع البيت نحضر الأكل، بحيث نصحى الصبح على التسوية.
دفع العربة وهو يشاكسها بهمس غير مسموع لفاطيما:
_بقى كده يا ست مايا، جايبني عشان تشغليني.
ألقت مايسان نظرة متفحصة على فطيمة، وحينما تأكدت بأنها تخطو على بعدٍ منهما قالت:
_علي الحمد لله إنك جيت، من أول لما دخلنا الماركت وأنا حاسة إن فاطمة مش طبيعية، بتبص على الناس اللي مالية المكان بخوف غريب، حتى كان في شاب خبط فيها غصب عنه لقيتها اتوترت بشكل غريب، أنا خوفت يجرالها حاجة عشان كده اتصلت بيك.
خطف نظرة سريعة إليها قبل أن يميل تجاه زوجة أخيه يخبرها:
_كويس إنك عملتي كده يا مايا، فطيمة لسه متعافتش بشكل كامل، الازدحام وتعاملها مع الاشخاص الغريبة بيربكها، بس أنا سعيد أنها بتحاول تتأقلم وتتعايش مع الوضع وده بفضل ربنا سبحانه وتعالى وبفضل وجودك إنتِ وشمس.
ابتسمت برقةٍ:
_أنا حبيتها أوي وحاسة والله إن فريدة هانم هتحبها، فطيمة طيبة وقلبها نقي.
ذم شفتيه ساخطًا:
_بتمنى بس صعب.
كبتت ضحكاتها وتركته يتجه للكاشير، يضع الاغراض على الطاولة الرفيعة، فوقفت مايسان جوار فاطمة تتبادل الحديث المرح برفقتها، لتجد علي يدنو منهما متسائلًا باستغرابٍ:
_مش بتقولوا شمس معاكم أمال هي فين مش شايفها!
ردت عليه مايا وهي تجذب هاتفها من حقيبة يدها:
_قالت هتطلع تبص على اللبس فوق، ثواني هكلمها تنزل.
وبالفعل طلبتها مايا وأخبرتها بأنهم بالخارج بانتظارها جوار سيارة علي، هبطت شمس للأسفل فقادت سيارتها ولحقت بهم للقصر وعقلها شارد بذاك الآدهم الذي على وشك خوض معركة مخيفة، لا تعلم بأنها ستكون أحد عناصر المرغمة بالمشاركة بتلك الحرب المجهولة!
*******
بغرفة عمران.
تنهد بضجرٍ وهو يردد:
_يا عمي بقالي ساعة بحاول أسحب منك أي معلومة عن اللي قولته لعلي، ومازلت بتتهرب مني!
حدجه بنظرة باردة قبل أن ينهض عن المقعد، قائلًا:
_يا حبيبي وفر وقتك ووقتي، كان زماني نمت!
صاح عمران بعصبية:
_يعني مش هتتكلم؟
دنى أحمد منه وانحنى قبالته مرددًا:
_صوتك عالي على ما أعتقد.
تصنع خوفه وابتلع ريقه وهو يهمس له:
_مهو مفيش أي حاجة عملتها جابت معاك نتيجة.
ابتسم وأخبره بغرور:
_لإن الكلمة اللي قولتها لعلي مش هتخرج لحد تاني، كانت ساعة شيطان وانصرف يا عمران ارتاحت!
ضيق عينيه وباصرار قال:
_لما يجي علي هعرف منه.
انتصب بوقفته فأغلق زر جاكيته وهو يشير له:
_تصبح على خير يا عمران.
وتركه يكاد ينفجر غيظًا وغادر لغرفته، بينما الأخر يهمس بفضول:
_يا ترى قاله أيه خلاه ارتبك بالشكل ده!
********
نزعت نايا مئزر الجلباب الأسود عن الطبقة الداخلية وأشمرت عن ساعديها، مرتدية مريول المطبخ لتبدأ الآن بتفريز الأكياس استعدادًا لصنع الطعام، ومازال علي يحمل الأغراض من الخارج إليهما بالمطبخ، فكانت تحمل منه فطيمة الأكياس لتضعها على الرخامة، وحمل كوتون الماء المعدني فأسرعت فطيمة إليه فأشار لها ببسمة حنونة:
_تقيلة عليكي، أنا هدخلها.
وبالفعل وضعها علي على الرخامة، وقال لتلك المنشغلة بتدوين ملاحظاتها وخطتها بالبدء:
_ها يا شيف مايا ناقصك حاجة تانية؟
أشارت له باسمة:
_بجد يا علي مش عارفة أشكرك إزاي، أنا مكنتش عارفة هرجع بكمية الأكياس دي كلها إزاي، إنت ربنا بعتك لينا نجدة.
حك لحيته النابتة ليخفى بسمته الماكرة:
_آه ما أنا عارف إن الصدفة دي جت من حظك.
وتابع وهو يشير لفطيمة:
_تسمحيلي بقى أخطف منك فطيمة نص ساعة .
أشارت بالقلم الذي تحمله:
_نص ساعة بس عشان ورانا تجهيزات كتيرة.
هز رأسه وأشار لفطيمة قائلًا:
_تعالي يا حبيبتي، عايزك.
رمشت بارتباكٍ لسماع كلمته المرهقة لمشاعرها التي تخوضها لأول مرة، فاتبعته للخارج حتى وجدته يجلس على الأريكة القريبة من الباب الخلفي للمنزل، جلست قبالته تنتظر سماع ما سيقوله، فقال وهو يرتدي نظارته الطبية ويجذب نوته:
_هنبدأ أول جلسة لينا في حياتنا الزوجية، بس تقدري تقولي مفيش وسطات، ففكك بقى إنك مراتي وإني هكون لطيف معاكي، الشغل شغل ولا أيه؟
ابتسمت رغمًا عنها، واكتفت بهزة رأسها بخفة، فقال:
_ها بقى احكيلي يومك النهاردة كان عامل إزاي؟ خصوصًا إن دي من المرات المحدودة اللي خرجتي فيها لوحدك!
لعقت شفتيها بارتباكٍ، وبدت متحيرة بما ستقول، الوضع الآن مختلف، بالسابق كانت لتقص عليه كل ما يزعجها كونه طبيبها المعالج، الآن هو زوجها كيف ستخبره مثلًا بحديث والدته المزعج لها؟!
كيف ستخبره عما خاضته منذ قليل؟! ، الوضع برمته يقلقها.
لمس علي ما تفكر به، فتردد بما سيفعله ولكنه بالنهاية فعله، مد يده ليمسك بيدها التي تفرك بالاخرى بتوترٍ، فاسترخت بين أصابعه الخشنة، وتعلقت عينيها به فقال:
_متخافيش يا فطيمة، أوعدك إني مش هتعامل مع أي شيء هتقوله كزوج، هعتبرك زي أي مريضة وأسرارك مش هتخرج بينا ولا هتقصر على انفعالاتي.
وتابع بهدوءٍ:
_يعني مثلًا اللي حصل بينك إنتِ وفريدة هانم الصبح وقلقانه تحكيهولي دلوقتي تقدري تتكلمي وتحكيلي وأنا بعدها هرمي كل شيء ولا كأني سمعت شيء.. ده وعد.
هزت رأسها ببسمة هادئة، وحررت صوتها الرقيق قائلة بارتباك:
_لم شوفتك بالمول فرحت، كنت متوترة جدًا من المكان وأنا لوحدي.
ابتسم وهو يتابع ربكة حدقتيها، وقال:
_مستعد أرافقك في كل مكان تروحيه، اطلبي إنتِ بس وأنا في الأمر بس كل شيء وله شروطه.
وخطف نظرة للردهة الواسعة قبل أن يدنو منها هامسًا:
_تجيبي حضن، وقتها ممكن أفكر أسيب شغلي وأجيلك بالمكان اللي تحبيه، ها موافقة؟
احتقنت نظراتها بغضب، فتعالت ضحكاته الرجولية بعدم تصديق لتبدل ملامح وجهها بثوانٍ، وقال بصوت متأثر بضحكاته:
_هتعملي أيه! مفيش أبواب ترزعيها في وشي هنا!
تسرب لها مغزى حديثه، فكلما طرح الأمر إليها كانت تغلق أحد الأبواب بوجهه، والآن لا يوجد أبواب مثلمة أخبره، تمردت ضحكات فطيمة بقوة جعلته يلاحظ غمازات وجهها بوضوحٍ، لأول مرة تكسر حاجز الابتسامة الصغيرة المتكلفة على شفتيها وتضحك بصوتها الانثوي الرقيق.
برق بعينيه وكأنه يرى أحد عجائب الدنيا السبع، فهمس بصوته المغري وكأنه مسلوب الارادة:
_عنيا مشافتش أجمل منك يا فاطمة!
تلاشت ضحكاتها تدريجيًا، ونهضت من جواره تجلي صوتها الهارب بصعوبة:
_هروح أساعد مايسان بالمطبخ، عن إذنك.
وقبل أن يعترض هرولت بخطواتٍ سريعة للمطبخ بينما أغلق هو نوته وخلع نظاراته ليتمدد على الأريكة بابتسامة حالمة، وهمس بعشقٍ:
_هحبها أكتر من كده إزاي!
*****
بالمطبخ.
ساندت شمس عمران حتى أوصلته للطاولة الصغيرة الموضوعة بالداخل وخرجت تبحث عن علي لتخبره بما يتردد لها منذ فترة، فراقب عمران ما تفعله مايا ببسمة مشاكسة، فأشار لها حينما انتهت من اعداد اللحم المفروم الخاص بالمعكرونة:
_دوقيني.
استدارت تجاهه قائلة بدهشة:
_لسه هجهز طواجن المكرونة بكره، أنا يدوب عصجت اللحمة عشان الصبح أجهز الطواجن على طول.
أجابها وهو يشير على الخبز:
_مهو أنا لازم أتمم على اللحمة، مش يمكن ناقصها حاجة.
ابتسمت ومالت على طاولته تسأله بنظرةٍ شك:
_عمران إنت جعان؟
هز رأسه بتأكيدٍ وضحكته الجذابة لا تفارقه:
_ريحة أكلك جوعتني!
رق قلبها له، فأسرعت للخبز تضع به اللحم وصنعت له كوبًا من النسكافا، ثم إتجهت إليه بالطعام، فتناول الخبز وهمهم بتلذذ:
_هممم، روعة بجد.
وبمرحٍ قال:
_شكلك كده هتشرفيني فعلًا بكره قدام يوسف وجمال ومرتاتهم.
تركت غطاء الوعاء واتجهت إليه بلهفة:
_هي دكتورة ليلى وصبا جاين بكره بجد؟
هز رأسه بتأكيدٍ، وقال موضحًا:
_كنت هقولك بس استنيت لما أعرف من يوسف وجمال إذا كانوا هيجوا معاهم أكيد ولا لأ.
ابتسمت بحماس:
_كويس أوي أنا كان نفسي ألقى أي طريقة أشكر بيها دكتورة ليلى على اللي عملته معاك وأهي فرصة نتعرف على صبا.
ترك الخبز عن يده وقال بجدية تامة احتلت معالمه:
_بخصوص صبا، مايا أنا عايزك تقربي منها وتفتحي معاها أي حوار ينتهي بأنك محتاجالها بالشركة لإني سبق وقولت لجمال وشكله كده طنش الموضوع.
واستكمل بتوضيح شامل:
_صبا قاعدة طول الوقت لوحدها ومالهاش أصدقاء هنا، أنا متأكد إنكم هتكون أصدقاء.
تابعت كل كلمة قالها بحبٍ، وهمست له بهيام:
_بالرغم من العيوب اللي موجودة جواك الا إنك شهم اوي مع أصدقائك وده أكتر شيء بيعجبني فيك يا عمران.
شرد بعينيها الفاتنة التي تحارب كل ذرة صبر يمتلكها، ينقلب به الأمر لشيءٍ أخطر مما واجهه من قبل، لم يسبق أنه تمنى أحدًا من النساء مثلما تمناها، أصبح يقدر قيمتها ويعلم بأنها ثمينة، غالية، لذا عليه المعاناة ليصل لسلامها، للذة الحلال الذي لم يذقه أبدًا.
رغمًا عنه وجد يديه تجذبها إليه لتسقط على قدميه، فلم يترك لها فرصة المناص من هفوة مشاعره الصادقة!
برقت فطيمة بعينيها في صدمةٍ، ورددت بحرجٍ:
_أنا أسفة مكنتش أعرف آآ…
لم تجد الكلمات المناسبة لاعتذارها، فهي بالنهاية تقف بالمطبخ وليست بغرفتهما الخاصة، دفعته مايسان لتقف على قدميها وقد انفلتت بموجة غاضبة:
_انت وقح يا عمران، مفيش فايدة فيك!!
كمم ابتسامته التي كادت بالانفلات، وادعى البراءة قائلًا:
_الحق عليا إني مسكتك قبل ما تقعي على الأرض وتنكسر رقبتك!
واتجهت عينيه لفاطمة يستجديها بشهامته المخادعة:
_اتزحقلت وكانت هتقع فمسكتها وبدل ما تشكرني بتقل أدبها يرضيكي يا فاطمة؟
توترت فطيمة المرتبكة من الموقف برمته، وقالت بخجل:
_المهم إنها كويسة، عن إذنكم.
وكادت بالفرار فأوقفتها مايسان بغضب:
_استني هنا، رايحة فين وسايباني أنا مش هعرف أعمل الكسكس بتاعك ده، هتدبسيني وتخلعي!
عادت لتستقر أمام الأكياس، تلهي ذاتها بحمل الأغراض لتبدأ بعملها، بينما اتجهت أعين مايسان المحمرة حرجًا من ذاك الوقح الذي عاد يرتشف كوبه الساخن بنظرة مستمتعة لحالة ارتباكها العجيبة، فقالت:
_إنت قاعد هنا ليه أصلًا، اتفضل اطلع أوضتك أو إخرج اقعد بره مع علي.
وضع الكوب على الطاولة وقال بمكرٍ يلتحف خلف براءة تصرفاته المسكينة:
_ما إنتِ عارفة إن شمس اللي جايباني هنا، لو عايزة تخرجيني بره معنديش مانع، تعالي سانديني وأنا هخرج!
وانهى حديثه بغمزة ماكرة جعلتها تحمل الملعقة الطويلة وتكاد ان تسقطها بوجهه، فالتقطتها منها فطيمة وهي تردد باستنكار:
_بتعملي أيه يا مايا، حرام عليكي!
استدارت تقابلها بعصبية:
_ااسكتي يا فاطيما انتي قلبك طيب ومتعرفيش عمران كويس، ده خبيث بيعمل كل ده عشان أقآآ…
ابتلعت باقي كلماتها بحرجٍ جعلته يتمادى بضحكاته الصاخبة، مشيرًا لها:
_عشان أيه يا حبيبتي كملي واشكي لمرات أخويا البريئة اللي هتلوثي عقلها بأفكارك المنحرفة.
كزت على أسنانها وهي تشير لنفسها:
_أنا منحرفة؟!
أكد باشارته فبحثت جوارها عما يمكن ألقائه على ذاك المستفز، فجذبت المناديل الورقية وألقتها إليه، فجذب احد المناديل وهو يردد بجدية ساخرة:
_حاسة بيا والله، منحرمش يا روح قلبي.
وجفف فمه من فوم النسكافا ثم قال:
_ها، هتيجي تخرجيني لعلي ولا أطلب مساعدة من شمس؟
اتجهت إليه بنفاذ صبر، فأسندت ذراعه الأيسر وخطت جواره لتخرج به، فما ان ابتعدوا عن أعين فطيمة حتى همست ببسمة صغيرة:
_ده دكتور علي طلع محترم وابن ناس جدًا جنب أخوه!
******
تعمد عمران ان يضمها إليه مدعيًا ارهاقه، فخطى جوارها بتأثرٍ وهو يردد بتعب مصطنع:
_مش قادر يا مايا، تعبان!
سددت نظراتها القاتلة إليه، فأصبحت تكشف تعبه الزائف بتمكنٍ، جاهد عمران لمنع بسمته التي تسللت له فور رؤيتها وجهها المحتقن، فخطى للردهة متبعًا الصالون الجانبي حتى بات علي وشمس على بعد معقول منهما، فهمست إليه بغضب:
_ياريت اللي حصل ده ميتكررش تاني يا عمران، بالأخص بوجود فاطيما..
منحها نظرة حزينة، وصاح لها بمشاكسة:
_متشكرين لمساعدتك يا شيف مايا، ارجعي المطبخ كملي طبيخ وسيبني ألعنك مع الملايكة طول الليل مهو مبقاش ورايا شيء غير كده.
واستند على الحائط حتى أصبح بمحيط نظر علي الذي أسرع إليه يسانده حتى وصل لمجلسهما، بينما تصلب جسد مايا مما استمعت إليه، فعادت للمطبخ شاردة حزينة بكلماته، تعلم بأنه يمزح معها ولكن مجرد فهمها لتلك الكلمات جعلت قلبها ينبض برعبٍ مما ستلقاه أمام الله عز وجل.
******
ارتبكت شمس من وجود عمران الذي اقتحم مجلسهما فجأة، فردد علي بدهشة:
_كملي كلامك يا شمس، سكتي ليه؟!
خطفت نظرة متوترة لعمران الذي راقبها باهتمام، وقالت:
_أنا مش عايزة راكان يا علي، أنا بحب واحد غيره.
توسعت حدقتيهما بصدمة، وكان علي أول من تحدث:
_بتحبيه ازاي!! أوعي قعدتنا هنا تنسيكي إنك مسلمة يا شمس، يعني الحب والمقابلات والكلام ده حرام وهتشيلي ذنبه.
أسرعت بالدفاع عن ذاتها:
_محصلش الكلام ده، الانسان اللي بحبه مسلم ومحصلش بينا أي تجاوز يا علي.
تساءل عمران بحدة:
_مين ده؟
ارتبكت للغاية، ورددت بصعوبة:
_آدهم.
_حارس راكان!!!
تفوه بها عمران بصدمة، ازدادت مع إيماءة رأسها، فاستطرد بعنف:
_لو كلامك صح فيبقى خاين وحقير، إزاي يخون الانسان اللي بيشتغل معاه بالطريقة الوضيعة دي!
توترت شمس كثيرًا فلم يكن بنيتها مصارحة عمران بالأمر، أرادت ان تخبر علي فقط، وحينما فرض عليها الحديث بوجوده حدث ما كانت تخشاه فأسرعت تبرر:
_راكان مش ملاك زي ما انت متخيل يا عمران، وعلى فكرة آدهم مش حارس.
سألها علي باستغراب:
_أمال أيه؟ وقصدك أيه من كلامك ده؟
لعقت شفتيها الجافة بلعابها، وقالت:
_مش هقدر أتكلم دلوقتي للأسف انا وعدته.
صاح عمران منفعلًا:
_هي وصلت للوعود بينكم، أيه طبيعة العلاقة بينكم بالظبط يا شمس!
تدفق الدمع من عينيها، ورددت بارتباك:
_مفيش شيء من اللي في دماغك ده يا عمران.
ونهضت من مقعدها واتجهت للأريكة التي يجلس بها علي، فأمسكت يده تستعطفه، قائلة ببكاء:
_علي انا مكنتش عايزة أعرف حد بالموضوع ده غيرك لإني عارفة إنك الوحيد اللي هتفهمني، آدهم بيحبني ووعدني لما يخلص اللي جاي عشانه هيجي يطلبني منكم، أنا مكنتش هتكلم غير لما في شيء معين يتم والشيء ده مش هقدر أتكلم عنه لإني كده هعرضه للخطر، أنا متعودتش أعمل شيء من وراك علشان كده قولت أتكلم معاك.
منحها بسمة هادئة وضم وجهها بيده ليجذبها لصدره قائلًا بحنان:
_حبيبتي كلنا بنثق فيكِ، عمران بس خايف عليكي.
كاد عمران بالحديث فأوقفه علي بإشارة يده، وتابع وهو يمسد على خصلاتها الناعمة:
_أنا عارف إنك عمرك ما هتعملي حاجة غلط وواثق فيكِ..
وأشار بيده:
_ يلا اطلعي خديلك شاور وشوفي مذكرتك.
ابتهجت ملامحها الباكية، وانحنت تطبع قبلة على خده بسعادةٍ، وكادت بأن تصعد للأعلى ليوقفها عمران بضيق:
_يعني هو أخوكي الحنين وانا ابن ضرة فريدة هانم!
أحنت رأسها أرضًا بخجل، فقال ببسمة هادئة:
_هاتي بوسة ليا طيب!
ضحكت بصوت مسموع وانحنت تطبع قبلة على خده فهمس لها:
_ربنا يستر وفريدة هانم متضمكيش لحزب دكتور علي، وقتها هتبرى منك زي ما أتبريت منه.
تعلقت بقميصه المنزلي ورددت بخوف:
_مترعبنيش يا عمران أنا خايفة من غير أي شيء أصلًا.
منحها نظرة مستنكرة، ومازحها ساخرًا:
_راحت فين قوة الحب! ضاعت هباءًا؟!
ابتسم علي وهو يراقبهما، وردد قائلًا:
_اطلعي اوضتك يا شمس.
اومأت برأسها إليه وصعدت للأعلى، فاقترب علي من عمران وهمس له بحذر:
_إنت تعرف آدهم ده يا عمران؟
هز رأسه وقال ما يعرفه عنه:
_أنا شوفته كذه مرة مع راكان، مشوفتش منه شيء سييء، بالعكس تصرفاته كلها رجولة، راكان حكالي قبل كده أنه فداه من الموت بروحه، وبيثق فيه جدًا، بس ده مش مبرر يخليني أستريح للي بينه وبين شمس، علي الموضوع يقلق!
أكد له علي خطورة الموقف:
_الثقة الكبيرة اللي حطاها شمس فيه وراها سر هي عرفاه وخصوصًا إنها قالت إن راكان وراه مصايب وإن آدهم مش مجرد حارس، احساسي ممكن يكون في محله لإن راكان ده مريب يمكن يكون له في الشغل الشمال وآدهم يكون بيوقعه لانه ظابط مثلًا.
قوس شفتيه باقتناعٍ، ولكنه سأله بريبة:
_ولو مكنش ظابط هنحط احتمالات ونسيبها تضيع مننا يا علي؟
نفى نظريته تلك حينما قال بهدوء:
_لا طبعًا هننحرك وهنحاول نوصل للحكاية دي من أساسها بس بدون ما شمس تعرف أو تلاحظ حاجة، أنا مش عايزها تفقد ثقتها فينا يا عمران ولا تندم إنها جت واتكلمت معانا.
واستطرد بعد تفكيرًا:
_كلها يومين تلاته ومراد هيوصل انجلترا وقتها هكلمه عن الموضوع ده.
هز الأخير رأسه باقتناع، وانتفض بجلسته حينما تذكر أمرًا هامًا طرحه له:
_قولي بقى عمك لما وشوشك كان بيقولك أيه؟
احتقنت ملامح وجهه فور تذكره أمر عمه، فعادت كلماته ترد على مسمعه من جديد حينما انحنى أحمد إليه هامسًا بكلماته
«سالم خدعني عشان يتجوز فريدة!»
انتصب بوقفته وعاونه على الوقوف قائلًا:
_هساعدك تطلع اوضتك الوقت إتاخر خد أدويتك ونام.
منحه نظرة ساخطة قبل أن يقول:
_أغسل سناني بالمرة قبل ما انام ولا رأيك أيه يا بابا علي؟
تجاهل سخريته وإتجه به للمصعد، ومن ثم لغرفته، فأسنده لفراشه واتجه للمغادرة فصاح عمران بغضب:
_يعني مش ناوي تقولي!!
أغلق الباب غير عابئًا بسؤاله وإتجه لغرفة عمه على الفور.
******
لاحظت فاطمة شرود مايسان الدائم بعدما عادت من الخارج، فتلاشى حماسها وفرحتها بصنع الطعام، فأصبحت تتحرك بالمطبخ ببطءٍ شديد، وأحيانًا تنسى الطعام فتفق على رائحة احتراقه، فتنحنحت تسالها بتردد لعدم اعتيادها اقتحام خصوصية أحدًا:
_مالك يا مايا من ساعة ما رجعتي من بره وإنتِ ساكتة وحزينة، فيكِ حاجة؟!
تركت مايسان الطنجرة من يدها واتجهت بعينيها إليها فقالت بوجع يخترق أضلعها:
_فاطيما في حاجات كتيرة إنتِ متعرفهاش عني، او بالمعنى الأصح عني انا وعمران، أنا متعودتش اتكلم مع حد قبل كده لإن كل اللي هنا عارفين قصتنا بس لإني حبيتك أوي وحسيتك هتكوني أختي اللي كنت بتمناها في يوم هحكيلك.
قصت لها مايسان عن قصة حبهما الطفولي وعن إجبار فريدة بأن يتزوج عمران منها، وعن خيانته لها وما حدث لها بذاك الحفل والسم الذي تسبب لعمران بحالته تلك، ارتعبت فطيمة فور سماعها عن أنها كانت ستتعرض لمحاولة اعتداء تعرف هي كيف تكون مساوئها، وانتهت حوارها الطويل قائلة:
_أنا دلوقتي بديله فرصة تانية وبتمنى إنه يكون اتغير فعلًا يا فاطيما، ده أملي الوحيد.
وبحرجٍ قالت وهي تضع الأرز بحبات الكوسة:
_بس أنا خايفة، خايفة أشيل وزر الامتناع عنه، إنتِ عارفة إن الزوجة لو امتنعت عن زوجها بتشيل وزر كبير، وفي نفس الوقت خايفة أديله المساحة دي في حياتي فيكسرني يا فاطمة، لأنه لو خاني بعد ما اكونله زوجة مفيش أي شيء في الدنيا هيداوي وجعي، وهتكون دي نهاية العلاقة بينا.
أجلت صوتها الهارب من أوردتها قائلة:
_أنا مش عارفة أفيدك بموضوعك ده يا مايا، لإني للاسف على وشك الدخول لنفس الدايرة دي، بس اللي هقدر أنصحك بيه إنك تسمعي لقلبك، أكيد هو قادر يحس بيه.
استندت على جذعها تهمس بهيام:
_قلبي بيعشقه وهيكون في صفه يا فطيمة.
ضحكت وهي تراقب هيامها هذا، فاعتدلت مايا بوقفتها وشاركتها الضحك حتى ضربنا كف بعضهما البعض بمرحٍ أحاطهما حتى الانتهاء من الطعام.
******
طرق الباب وولج للداخل على الفور، فوجد الغرفة فارغة، وصوت قادم من الشرفة يناديه:
_انا هنا يا علي.
أغلق علي الباب من خلفه وأسرع للشرفة، فوقف قبالة عمه يتساءل وهو يراقب ساعة يده باستغراب:
_سهران لحد دلوقتي؟
ابتسم وهو يستدير له:
_عارف إنك مش هيجيلك نوم من غير ما تتكلم معايا عن معنى الكلمة اللي قولتها، حافظك أكتر من نفسك يا دكتور.
دنى علي حتى بات يقف جواره يستند على السوار الحديدي، وقال بألمٍ:
_طول الطريق بحاول أحلل الاحداث اللي تخدم جملتك دي بس وجعها كان أكبر يا عمي، وبقيت بسأل نفسي إنت اتعرضت لكمية الوجع ده واستحملته ازاي؟ والاهم ازاي بابا خدعك مفهمتش المعنى!
تنهد بضيق، ولزم صمته المطول لدقائق، ثم كسره قائلًا:
_انسى يا علي، انسى اللي قولتهولك ومتسألنيش عن التفاصيل لانها هتوجعك وهتخليك شايف سالم بصورة تانية، صورة انا سكت عنها 15سنة ومستعد أسكت العمر كله عشان فريدة متكرهوش.
التفت إليه وقال:
_أيه اللي عمله يا عمي، أرجوك اتكلم وقولي!
انجرف بوقفته تجاهه وقال بعصبية اندفعن بعد فترات قضها بتفكير مرهق منذ ساعات بغرفته:
_أنا كنت أناني لما قررت ألمحلك عن اللي اتدفن بالماضي، كنت خايف على صورتي تتهز قدامك لما تعرف إن فريدة هي البنت اللي قضيت عمره كله بحكيلك عن قصة حبنا، خوفت على شكلي قدامك عشان كده حاولت أبررلك، اعتبرني مقولتش حاجة لإني مش هتكلم يا علي.
لمعت عينيه بالحزن تأثرًا لما يستمع إليه، لا يود طرح الحقيقة المدفونة خشية أن يكره أبيه ومازال يعاني بصمت، أدمعت عين علي رغمًا عن صلابته البادية على وجهه، والتقط نفسًا مطولًا قبل ان يقول:
_احكيلي اللي حصل زمان يا عمي، وإنت عارفني مش هنطق بحرف بأي شيء هتقوله.
تطلع إليه بابتسامة تحتل ثغره، فجذبه بقوة يحتضنه دون سابق انذار وهمس له بحب:
_إنت ابني اللي مخلفتهوش يا علي، عمري ما حسيت إني بطولي بالدنيا دي وإنت معايا، مش متخيلك غير ابني اللي من صلبي، بالنهاية انت حامل لاسم الغرباوي بنهاية اسمك أيًا كان الاسم اللي ورا اسمك سواء سالم او أحمد بالنهاية انت من نسل الغرباوي.
تمسك به علي ودمعاته تنهمر دون توقف، فطال باستكانته على كتفه حتى هدأ تمامًا، فابتعد يصطنع بسمة صغيرة على شفتيه وقال:
_مش هتحكي لابنك بقى.
ازاح أحمد دمعته المتأثرة ببكاء علي كالطفل الصغير المتأثر بحزن أبيه فيبكي لأجله، وقال بابتسامة جذابة:
_هحكيلك!
********
بغرفة فريدة.
تمددت على فراشها تتأمل جرح يدها ببسمة هادئة، تتذكر جنونه الذي استحضر فور رؤيته لدمائها تنزف، عادت بذكرياتها للصبا، لايام جمعته مع ذاك العاشق الحنون الذي أفاضها بجنة عشقه الخالده، فابتسمت على استحياء من تلك الذكرى التي روادتها دون سببًا.
**
_يا حبيبتي ارجعي بذكرياتك لورا كده افتكري هل انا في يوم سمحتلك تخرجي وجدك مش موجود وأنا معرفش إنتي راحة فين؟
هزت رأسها نافية ومازالت تكبت ألمها بصعوبة، فابتسم أحمد وهو يشير لها:
_شاطرة يا ديدا ودلوقتي هتقوليلي راحة فين السعادي ولا تطلعي زي الشاطرة بردو تنامي!
جزت على شفتيها السفلية بغضب؛
_ما تبقاش غلس يا أحمد، أنا اتصلت على بابا واستأذنت منه، وبعدين كلها عشر دقايق وراجعة.
أغلق باب القصر الداخلي وصاح بعصبية:
_على فوق يا فريدة أنا مش أهبل عشان أخليكِ تخرجي الساعة 11ونص!!
مسحت على وجهها بغيظٍ، وصاحت بانفعال:
_وبعدين معاك يا أحمد، أنا بقالي ساعة بحاول اقنعك قولتلك هنزل وراجعه بسرعة مش هتأخر.
دس مفتاحه ليغلق الباب وعاد لمقعد الصالون بهدوء، فلحقت به وهي تحاول السيطرة على غضبها أمام عناده، فقالت بهدوء كاذب:
_عشان خاطري مش هتأخر والله، حرام عليك أنا تعبانه ومش قادرة اتكلم.
قال وهو يعبث بهاتفه دون ان يهتم برجائها:
_اللي عندي قولته.
كورت يدها بعصبية، ودت حينها لو طالته أظافرها فتنهش وجهها، فدنت تستند على الأريكة القريبة منه تهمس على استحياءٍ واضح:
_هروح الصيدالية أجيب دوا وراجعة.
أبعد عينيه عن الهاتف ومنحها نظرة متفحصة، فارتبكت وهي تستأذنه:
_ها أمشي بقى؟ أنا قولتلك رايحة فين أهو!
نهض عن مقعده وجذب جاكيته يرتديه، ثم إتجه للطاولة يجذب مفتاح سيارته وأشار لها وهو يتفادى التطلع إليها حتى لا يخجلها:
_اطلعي أوضتك يا فريدة، هجبلك طلبك وراجعك.
برقت بعينيها بصدمة، وراحت تردد بتلعثم:
_طلب ايه لأ أنا آآآ… إنت فهمت غلط أنا بس آآ…
تركها تبحث عن سياق الحديث المناسب وأغلق الباب من خلفه، وغادر تاركها تكاد تقتل خجلًا، فجابت الردهة ذهابًا وإيابًا وهي تتساءل:
_يا ترى فهم أيه؟!!!
ولكمت الهواء بانفعال:
_ده حتى مدنيش الفرصة افهم هو فهم أيه!!!
انتفضت بوقفتها فور سماع صوت سيارته، فركضت للأعلى سريعًا تختبئ بغرفتها، لتستمع بعد قليل لصوت طرقات باب الغرفة، وقفت خلف الباب تردد بارتباك:
_عايز أيه أنا نايمة.
ابتسم على طريقتها وقال:
_افتحي خدي الكيس ونامي براحتك.
تصنعت دهشتها:
_كيس أيه ده؟!
احتضن زواية أنفه بتعب:
_افتحي يا فريدة.
فتحت الباب ومدت يدها دون ان تريه وجهها، فمسك ضحكته بصعوبة ومد لها الكيس البلاستيكي، حملته وأغلقت الباب بقوة جعلته يقهقه ضاحكًا وهو يردد:
_مفيش داعي للشكر ده إحنا ولاد عم!!
واتجه لغرفته بينما فتحت هي الكيس البلاستيكي بصدمة من معرفته ما تخوضه الآن، فوجدت أدوية مسكنة لالم بطنها القاتل وما تحتاجه لتقضي عذرها الشهري بسلامٍ، ومنذ تلك الليلة لم تستطيع أن تنسى موقفها المحرج حتى تلك اللحظة!
*******
استكان على المقعد بصدمة طعنت ما تبقى لديه، يختطف نظرة مستنكرة إليه ويعود لشروده من جديد، الصمت كان يتلاعب بهما وكلاهما يتحملان الجو المطموس بالثليج، حتى مزق علي جلبابه قائلًا بعدم استيعاب:
_بالرغم من كل اللي عمله فيك ده سكت ازاي؟! حتى بعد موته ولحد اللحظة دي سكت ليه يا عمي؟!
استند بجزءه العلوي على الطاولة الفاصلة بينهما، وقال:
_كلامي هيعمل أيه يا علي اللي حصل مش هيغير الحقيقة..
عارضه بتعصب:
_بس كان على الاقل هيقلل مسافة البعد اللي بينك وبين فريدة هانم، مكنتش هتوصل بيك العقوبة ل15سنة يا عمي!!
وبعدم تصديق صاح:
_إنت إزاي كده؟ ازاي قادر تتحمل ومكمل بتضحيتك حتى بعد كل السنين دي! أنا عقلي هيقف من التفكير!!
رد عليه ونفس ابتسامته لا تفارقه:
_ونهايتها خير يا علي، خلاص هنتجوز أنا وفريدة وهيتلم شملنا.
انكمشت ملامحه باشمئزاز مما فعله أبيه وقال:
_قدرت تسامحه إزاي أنا مش هقدر!
استقام بوقفتع وهو يردد باندفاع:
_علي متندمنيش إني حكيتلك، متنساش وعدك ليا!
هدأت انفعالاته، وقال بتريث:
_انا آسف على عصبيتي بس الحقيقة بشعة اوي يا عمي اتحملتها ازاي!
أراد أن يغير مجرى الحديث الذي أشعره بالاختناق، فقال بمرحٍ وهو يدفعه للخروج:
_ما خلاص يا دكتور هنقضيها رغي، الساعة بقت 2 أنا ورايا شغل الصبح ومش قادر للسهر، إرجع أوضتك وسبني بقى أنام.
ضحك علي وحاول تفادي دفعه قائلًا:
_طيب ما تكنسل الشغل بكره وتقعد معانا في عزومة بكره، أكل مصري ومغربي وحوار.
نجح بأخراجه من الغرفة وقال قبل ان يغلق بابه:
_بكره نشوف الحوار ده، تصبح على خير.
******
قضى عمران ليله يعمل على أحد الصفقات التي قرر توليها بنفسه لاهميتها، فترك العمل لأحمد وانشغل هو بأهم صفقة تخص شركة العائلة، فارتشف كوب قهوته وهو يتابع العمل، محركًا رأسه يسارًا ويمينًا بألمٍ انتابه من جلوسه الغير مريح على الطاولة والمقعد الخشبي أمام الحاسوب، فترنح له مسمع دقات خافتة على باب غرفته جعلته يتأمل الوقت من أمامه بدهشة، فهمس بخفوت:
_مين اللي صاحي لحد دلوقتي!
ورفع صوته الذكوري:
_ادخل.
تحرر مقبض بابه وولجت للداخل بخطواتٍ بطيئة مترددة، حتى انتهت بوقوفها أمامه، فردد باستغراب وهو يتأمل عينيها المنتفخة من اثر البكاء:
_مايا!
رفعت يديها المرتشعة تفك عنها مئزرها الأسود، لتظل بقميصها الطويل أمامه، فاندهش مما تفعله ولم يكن بالأحمق ليفسر تلك الاشارة الصريحة بموافقتها بالسماح له بالقرب منها، وأيضًا ليس بالغبي ألا يدرك سبب تورم عينيها بالبكاء ورجفة جسدها.
شعر بنيران تضرم قلبه حينها تصور ما فعله مزحه بها، أكانت تبكي كل تلك الساعات!!
هل تسبب بوضعها بتلك الحالة المؤلمة، ما بين اتخاذ قرار كذلك، ليته لم يفكر يمازحها قط!
انحنى عمران يلتقط مئزرها ثم نهض يحتمل بركبة قدمه اليسرى على المقعد، ووضع المئزر حولها ليخفيها تمامًا!
فتحت مايسان عينيها بصدمةٍ مما فعله، فقال بوجعٍ سكن رماديته قبل أن يتجه لنبرته:
_انا مش بالحقارة دي، وبعتذرلك لو هزاري ضايقك وأجبرك تاخدي الخطوة دي، أنا آسف.
تحررت من كبتها لما تخفيه، فبكت بصوتٍ مسموع جعله يضمها إليه بقوة جعلتها تتمسك به وهي تبتسم بفرحة بأنه فعلها لأجلها.
همس لها عمران بحب وصل مضمونه لها الآن:
_أنا بحبك يا مايا، صدقيني اللي في دماغك ده مش فارق معايا من الأساس.
وأبعدها عنه لتتمعن بعينيه عساها تلتمس صدق مشاعره:
_أنا عارف انك ادتيني فرصة تانية ويكفيني آنك مازلتي بتحاولي، مش متضايق من ده أبدًا ومنتظرك لحد ما تكوني جاهزة تتقبليني وتتقبلي حقيقة إني اتغيرت عشانك.
غادر اصفرار وجهها وحل محله سعادة جعلته دمويًا، ابتسم وهو يراقب تبدل حالها بعدما حصلت على السكينة، فقربها منه وطبع قبلة على جبينها وعلى كف يدها المتعلق بقميصه قائلًا:
_روحي ارتاحي ومتفكريش بأي حاجة غير حاجة واحدة بس.
تابعته باهتمام فقال:
_إني بحبك ومستحيل هعيد أخطائي تاني يا مايا.
وترك يدها وهو يمنحها نظرة مطولة، ختمها بمزحه:
_هتروحي تنامي ولا أغير رأيي بشكلك المغري ده!!!
وتابع وعينيه تتلصص إليها وبنيته المزح:
_قوليلي يا مايا، هو حد قالك إن الاغراء بيكون بالاشياء المحترمة الطويلة! يعني إديني أمل إني في يوم ما تحني عليا ألقى شيء يتلبس غير ده!
جحظت عينيها صدمة وكادت أن تتحدث ليقاطعها بسخط:
_وقح، حفظتها دي!
وتابع بفمٍ مقوس:
_أهو الصيت ولا الغنى!!
ضحكت رغمًا عنها فشاركها الضحك هو الأخر، وقال بحنان دافئ:
_تصبحي على خير.
ابتسمت وهي تجيبه بحب:
_وإنت من أهله.
وتركته واتجهت للخارج بفرحةٍ كبيرة وكأنها حصلت على الخلاص أخيرًا ، فراقبها ببسمة هادئة وعاد يتابع عمله مجددًا.
********
حديث مايسان عما كانت ستخوضه من محاولة للاعتداء ايقظ بفاطمة كل ما كبت داخلها، ذاك الكابوس الذي هجرها منذ أيامٍ قليلة عاد يهاجم بكل شراسة امتلكها.
ابتل وجهها بعرقها النازف، وجسدها يتحرك بشراسة رافضة الانصياع لعقلها الباطن الذي يسحبها لتلك الدائرة التي ترى ذاتها تواجههم بمفردها، احدهم يقيد حركتها والاخر يمزق ثيابها، بينما ثالثهما كان يضرب رأسها بقوة بالأرض حتى تفقد الوعي ولا تقاوم أحدهم، تاوهت فاطمة بالمٍ وصرخت ببكاء بنومها وهي تردد بصراخ:
_لأ….. ابعدوا عني.
وعادت تصرخ من جديد وحركتها المنفعلة لا تتوقف:
_محدش يقربلي، ابعدوا!!
تسلل صوت صراخها لعلي الذي يقوم بتبديل ملابسه لمنامته السوداء المريحة بعد عودته من غرفة أحمد، ردد بدهشة:
_فطيمة!
وعلى الفور ركض لغرفتها من الباب الجانبي الفاصل بين الغرفتين، فصعق حينما وجدها تنتفض لمنامتها وتصرخ بكلمات غير مرتبة:
_لأ… محدش يقرب… لأ.. لأ.. لأ.
فتح الضوء واندفع تجاهها يحرك وجهها برفق، وصوته يغزو ليحطم أحلامها:
_فطيمة فووقي… فوقي يا حبيبتي ده كابوس..
وكرر باصرارٍ بعدما جذبها لتجلس:
_فتحي عيونك… اصحي!
أفاقت من نومها باكية بصراخ يحطم القلوب، فما أن وجدته يجلس قبالتها حتى رددت بانهيارٍ:
_علي!
حاوط وجهها بحنان وهو يبعد خصلاتها المبتلة بعرقها لخلف اذنيها:
_أنا جانبك يا فطيمة متخافيش.
ضمت ساقيها إليها والتفت ذراعيها من حولها، فتمنى لو لجئت هي لحضنه بذات الوقت ولكنه يرى حالتها المنتفضة فمن الخطر بهذا الوقت أن يحاوطها أو حتى يلامسها، فظل كما هو، وانحنى يجذب الأدوية من الكيس البلاستيكي، قدمه لها وتناولته هي دون ان جدالًا، باستسلامٍ وخضوع، وظلت تضم ذاتها كالجنين أمام ناظريه.
ساعة، ساعتان قضتهما بجلستها تلك، حتى شعرت بثقل جفنيها، فتمددت على الوسادة باستسلامٍ.
نهض علي عن المقعد القريب منها، يجذب الغطاء إليها ويمسد على رأسها بحزن يجعله كالعجز، دقائق اطمئن بهما غفوتها ورحل لغرفته حزينًا، يود البقاء جوارها ولكنه يخشى ان يداهمه النوم فتراه هي صباحًا بغرفتها فيزيد الطين بلة.
جلس على الفراش يتطلع بشرود للفراغ، ليتسلل إليه مجددًا صوتها الباكي يناديه:
_علـي!…. علـــــــــــي!
إتجه للغرفة راكضًا فوجدها تجلس على الفراش وقد جفاها النوم، فقالت ببكاءٍ:
_خليك هنا متمشيش.
تهللت أساريره فرحًا حينما سمحت له بالبقاء، فجلس جوارها على الفراش قائلًا:
_مش هسيبك أبدًا، نامي يا حبيبتي وارتاحي وبلاش تفكري في اللي فات وعدى.
ارتبكت وهي تراقب جلوسه المجاور لها، وأشارت بيدها على المقعد القريب من الفراش الذي كان يعتليه منذ قليل،فرددت بارتباك من مطلبها:
_خليك هنا.
أشار لها بتفهمٍ، لم يتضايق أبدًا فهو الوحيد الذي يعلم بحالتها، فنهض على الفور ليجلس محل ما أرادته بالجلوس، فتمددت بنومتها وكلما غفاها النوم تفتح عينيها بهلعٍ تتأكد من وجوده لجوارها على المقعد، تخشى أن يتعب من جلسته الغير مريحة فيعود لغرفته ويتركها، تخشى ان يمل من مراقبتها ولكن كل مرة افاقت كانت تجده لجوارها، وأخر مرة استسلم للنوم جوارها على المقعد، وكأنه يلزمها بعهده القاطع بالحافظ على بقائه لجوارها..
نام بعمقٍ بعد سهره المطول برفقة عمه، وفجأة شعر بدفءٍ يجتاح جسده الذي يشعر بالبرد، ويد تعبث بخصلات شعره بحنانٍ، خشى أن يفتح عينيه فيجده حلمًا يوقظ نفسه منه، وفجأة استمع لصوت خطوات تبتعد لحمام الغرفة، ففتح عينيه لينصدم بأن من منحه الغطاء وضمة خصلاته لم تكن سوى أصابعها.. أصابع زوجته… فطيمة!
يتبع…
أحاطه ألمًا مقبض أحتل فقرات ظهره ورقبته من نومته الغير مريحة على هذا المقعد القاسٍ، وبالرغم من ذلك لم يعنيه الأمر في سبيل رؤية تلك الراحة التي تنعم بها ملامحه، والآن حظي بغطاء وضمة كف يدها لخصلات شعره الطويل لخلف رقبته، الأمر كان مرضي لمشاعره المرهفة، فابتسم علي وإدعى نومه وهو يراقبها تخرج من الحمام وتتجه لارتداء اسدال صلاتها تؤدي صلاة الصبح بخشوعٍ تام، وحينما انهتها تسللت للأسفل بحذر عدم ايقاظه لتعاون مايسان بطهي الطعام مبكرًا كما اتفقنا مسبقًا.
ولجت المطبخ فوجدتها قد استيقظت بالفعل وبدأت بتحضير الطعام، لتجد الاخرى تلحق بها، فهتفت بعدم تصديق:
_معقول قومتي بدري كده عشان تساعديني! أنا فكرتك بوق ومستحيل تقومي من 5الصبح.
منحتها فطيمة بسمة رقيقة، وأشمرت عن معصمها تقترب تعاونها وهي تخبرها:
_أنا وعدتك إني هساعدك ومستحيل أخلف بوعدي.
اتسعت بسمتها وقالت بفرحة تغمرها:
_والله أنا ربنا بيحبني انه رزقني بسلفة قمر زيك يا فاطيما، أنا كنت هنا بحس بالملل، والأغرب إني كنت لما بحس بالوحدة بضطر أروح مع فريدة هانم الجمعيات بتاعتها، يا أما أروح مع شمس كام مشوار مع صديقاتها الاجانب الا لا يطاقوا بالمرة.
ضحكت وهي تستمع لها باهتمام، وشرعت بجذب الوعاء للنيران قائلة بمزح:
_مش هتنجبري تروحي تاني مع حد أنا جاتلك أهو وقاعدة متفرغة ال24ساعة.
جذبت المنشفة تزيح المياه عن يديها، وقالت بتسلية:
_بس أنا عندي تعقيب صغير.
استرعت اهتمامها، وتساءلت:
_تعقيب أيه؟
أضافت بعملية باحتة:
_المفروض إني مرات عمران، وهو أصغر من علي، وانتي مرات الاخ الكبير وواجب عليا احترامك صح؟
انتظرت قليلًا تحسب كلماتها جيدًا قبل أن تهز رأسها بخفة بالرغم من عدم فهم حساباتها الغريبة، فقالت الاخيرة بنزقٍ:
_ازاي بقى وأنا أكبر منك!!!
أدلت الأخيرة شفتيها بحيرة، فلم تعد تحسن اختيار الرد الصريح الذي ترجوه الاخرى منها، لذا قالت:
_عامليني زي ما تحبي، أنا في كده جاية معاكي وفي كده جاية بردو!
تشاركان الضحك معًا وضمتها مايا إليها بحب سرى لفاطمة التي تعلقت بها بقوة كالتائه ببلدٍ لا يعلم بها أحدًا وفجأة طلت له روحًا طيبة تطمن قلبه وتخبره بأنها لن تفارقه أبدًا!
*******
خرج علي من الغرفة يسند رأسه على كتفه بتعبٍ شديد، فتفاجئ بأحمد يعاون أخيه بدخول المصعد، ولج خلفهما يردد وهو يخشى الالتفات للخلف حيث مكانهما:
_صباح الخير.
تفرس أحمد بملامحه الغريبة، هاتفًا:
_صباح النور يا دكتور.
وباستغراب استطرد:
_أيه اللي شنكلك بالشكل ده؟
ارتبك علي وراح يبحث عن أي حجة تحفظ ماء وجهه:
_لا أنا بس آآ…
تحمل عنه عمران الحرج حينما قال:
_هتلاقيه خد صف أول على كرسي غير مريح أو كنبة نص عمر، اسالني أنا يا عمي أنا مطقطق وفاهمها وهي طايرة.
كظم غضبه بثبات لا يعلم من أين تحلى به، فتولى أحمد مهام الرد ليهدم جبهته، حيث قال:
_ما بلاش إنت يا عم الوقح، ده إنت من يوم ما اتجوزت وإنت بطولك في أوضتك والله صعبان عليا وأنا شايفك وحيد وبائس كده! أغيب بالشهور وأرجع على أمل إن نحسك اتفك ألقيك لسه ثابت على توب التعفف.
ضحك علي مستهزءً، بينما ردد عمران بسخرية:
_أنا زاهد والله بس هي فتنة تحل من على حبل المشنقة، أقف على رجلي بس!
ترك أحمد كتفه فكاد بالسقوط أرضًا لولا استناده على كتف علي الذي صرخ بوجعٍ وهو يحيط برقبته صارخًا:
_مش عايز ألمحك النهاردة، إبعد عني أنت سامع!
عاد يبحث عن أحمد مرددًا بخبث:
_أيه يا عمي هتتخلى عن مساعدتي وأنا كنت ناوي أجوزك مع الواد علي بعد بكره.
تلألأت عينيه بقوة، وكأنه صبي لا يتعدى عمره السادسة عشر، فتمسك بجسد عمران الصلب متسائلًا:
_هتعملها ازاي دي؟
ابتسم وهو يتصنع غروره:
_لا إزاي دي بتاعتي، سبها عليا وأنا أروشلك الهانم تروشية تدعيلي عليها العمر كله.
واستطرد ساخرًا:
_مهو مش معقول هقف أتفرج عليك وإنت مبرد نفسك لاخر الشهر، هو العمر فيه كام شهر يا راجل!! الحاجات دي عايزة الراجل الحامي، شوف برودك إنت والدكتور النص كم اللي واقف جنبك ده وصلك لفين؟
برق أحمد بعينيه بصدمة لجراءة حوار عمران الوقح، ومع ذلك استطرد بعقلانية يتبارك بها لذاتها:
_لما مشيت ورا عقلك والواد علي هتتجوز وإنت على عتبة الخمسينات يا راجل ولولا تدخلي كنت هتكتب كتابك بس على الحور العين أهو ربنا كان هيعوضك دنيا وأخرة على نزاهتك المبالغ فيها دي!!
وأشار لذاته بعنجهية:
_وشوف بقى لما هتمشي ورا كلامي ونصايحي هوصلك فين.
وأشار ببده بعدما خرجوا من المصعد، فاتبع إصبعه باب الجناح الخاص بغرفة فريدة هانم، ردد علي بسخط:
_نفسي أرميك بنظرة قاتلة بس للأسف مش قادر ألفلك!
وتطلع لأحمد القريب منه يستأذنه:
_اديله بصة حمرا من بتاعت الشيطان دي يا عمي لما عضم الترياقة بتاعتي يفك!
لم يبخس شيئًا به، فمنحهما معًا نظرة مستحقرة، قبل أن يتجه للخارج بصمتٍ مخيف، جعل عمران يهمس بحيرةٍ وهو يتطلع لعلي المتعصب:
_اتقمص!
********
خرجت فطيمة تاركة مايا تصنع المشروبات، فوضعت الدورق الضخم بالبراد وما كادت بالاستقامة بوقفتها بعدما انتهت من وضعه بالرف السفلي حتى شهقت فزعًا ورددت بصعوبة بالحديث:
_خضتني يا عمران!!
طوفها بنظرة جريئة شملتها من الأعلى للأسفل، قبل أن يهمس بصوتٍ رخيم دافئ:
_سلمت حبيب عيوني وقلبي من الخضة، أيه يا وحش تأثيري عليك قلبك مش قده ولا أيه، إجمد كده!
رفرفت باهدابها بذهولٍ من طريقته تلك، ومع ذلك لم تهتم كثيرًا فهي تعلم بأن زوجها يحتل المرتبة الأولة بالوقاحة العالمية، لذا تحركت تعيد جذب الدورق الأخر لتعيده للبراد والاخر يستند على الحائط المجاور للبراد يراقبها بنظرة لم تكن عادية لها، ومع ذلك تجاهلته الا حينما طل من فوق باب البراد يسألها بصوت مغري:
_محتاجة مساعدة؟
إشرأبت بعنقها للأعلى لتجده يكاد يسقط باب البراد من فوق رأسها، فاستقامت بوقفتها تجيبه ببرودٌ:
_لا شكرًا خلصت كل حاجة، اطلع انت ريح برة لحد ما صحابك يوصلوا.
مال تجاهها بجسده يتساءل ببراءة وود:
_أنا خوفت أتعبك قولت أساعدك بأي حاجة، وعندي خوف تالت تكوني هنا وحيدة من غيري، طب بذمتك ينفع تكوني لوحدك وأنا موجود يا بيبي!
ارتبكت مايسان من طريقته الغامضة بالحديث، وكأنه يتعمد أن يجردها من برودتها التي تخفي من خلفها مشاعرها المتلهفة إليه، فتراجعت حتى قيدت الرخامة السوداء حركتها، فرددت بهمس مرتعش:
_في أيه يا عمران؟
نقل ذراعه الذي بات يستجيب لحركته نوعًا ما، ليقيد منفذ هروبها الوحيد، وابتسامته المسلية لا تترك شفتيه بينما رماديته تحاربها بكل قوة، وحروفه تخرج بطيئة مغرية لمسمعها:
_بأمانة كده أنا مش راضي عن وضعنا ده، يرضيكِ أبقى لبانة في بوق عمي وعلي.. ها.. يرضيكِ يا بيبي؟
ارتبكت عينيها وتهربت من عينيه القريبة منها، فتابع بخبث:
_الحل إنك تيجي تنوري جناحي اليتيم، ده حتى مساعدة المريض صدقة وأنا مريض جدًا ومحتاج اهتمام منك.
وتابع مشيرًا ليده التي تقترب منها لتحاصرها:
_حتى شوفي ايدي!
اعتلت معالمها بغضب جعلتها تقذف وابل عصبيتها إليه:
_قول كده بقى، طيب بص يا حبيبي حكاية عمك وعلي والحوار ده سبق وفتحناه واتقفل، يعني الحوار ده مالوش سكة معايا!
تلاشى غضبها وحل محله الدهشة من ابتسامته الجذابة التي مازالت لم تتركه، بل ملامحه لم تتأثر بتاتًا بما قالت، بل انحنى يهمس لها:
_الجانب الايجابي إن لسانك نطق إني حبيبك، طب بذمتك في حبيب بيقسى على حبيبه كده يا بيبي؟!
أبعدته عنها وكادت بالفرار، فجذبها لمحلها مجددًا وهو يلتقط نفسًا مطولًا يجعله بملامح تتهييء لشيئًا جاديًا، فانصبت فيروزتها إليه تنتبه لما سيقول، فأتاها صوته الرخيم:
_بصراحة كده لما جيتيلي أوضتي امبارح واتكلمنا وبتاع اكتشفت حاجة مهمة جدًا يا مايسان.
انتبهت إليه وقد جرى الحديث بجدية جعلتها تترك مزحه الثقيل جانبًا وتسأله:
_حاجة أيه؟
طرق بيده على الرخامة من خلفها بشكلٍ أفزعها:
_إني كنت مصلي لسه قيام الليل وربنا منزل على قلبي التقوى.
وانحنى لها مجددًا يغمز لها بوقاحته:
_أنا بقول عدي عليا النهاردة تاني يمكن شيطاني يكون حاضر ونرتكب معاصي!
استنزف داخلها كل محاولات صبرها، فدفعته بشراسة جعلت الادوات من خلفها تسقط أرضًا، وكادت بالتنحي جانبًا فتعركلت قدميها بزجاجة الزيت من أسفل قدميها، فاندفع ذراعه يضمها إليه هامسًا بسخرية:
_إسم الله والحارس الله يا بيبي.
اعتدلت بوقفتها ترمقه بازدراء، وصاحت:
_إنت مالك النهاردة من الصبح بيبي بيبي، حد قالك إني عيلة صغيرة!!
ضحك وهذا استفزها، وخاصة حينما قال وهو يجيبها ببرود:
_إنتِ بنتي أنا ومتزعليش يا ستي بنت قلبي الكبيرة عشان متزعليش
وأخفض نبرة صوته يحطم كبرياء أنثاها المتمردة،ساخرًا من حالهما:
_ولو كنتِ متعاونه كان ممكن أكون متفائل إن هيكون عندنا بيبي صغير بجد.. فلحد ما ده يحصل هفلق دماغك بكلمة بيبي اللي بتعصبك دي يا بيبي.
تهدل كتفيها بحزنٍ ويأسها يتراقص على ملامح وجهها من أمامه، ورددت بهدوء غريب بعد استسلامها لوقاحته ومزحه القاتل الذي لو استمر به لن تنجح بردعه:
_مش كنا اتفقنا يا عمران وكنت بقيت لطيف بكلامك معايا أيه حصلك فجأة النهاردة؟
ابتسم وهو يراقبها تشكوه لنفسه، وانحنى يهمس لها باغراء:
_عياري فلت بعد ما شوفتك بالقميص المحترم بتاع امبارح!!
وصاح متجهمًا:
_أنا واحد قاعد في حالي أشوف أكل عيشي، أتفاجئ بحورية داخلة تروضني عن آ………!!
كممت فمه بيدها وعينيها تبرقان بصدمة، فاستدارت تبحث عن أحدٍ حولها قبل أن تصيح بانفعال:
_بسسس إنت أيه!! بالع حبيتين جراءة على الصبح!
وبنظرة شاملة تساءلت:
_عمران إنت رجعت تشرب تاني؟!
هز رأسه ببراءة ومازالت تكمم فمه، فانتفضت فجأة حينما لثم باطن يدها، لتراقبه بذعرٍ بينما يستكمل هو طريق برائته متسائلًا بلهفة:
_مالك يا حبيبتي؟!
بقيت بتخشبية جسدها تبرق له بصدمة لايجاده تمثيل دوره التقديري لجائزة الأوسكار بالتمثيل، بينما تابع وهو يتفحصه بنظرة قلق:
_إنتِ تعبانه؟
هزت رأسها نافية ومازالت تتراجع حيث بامكانها الفرار من ذاك المنحرف الخطير، وبينما هي تتراجع قال ببسمة ماكرة:
_أجبلك كوباية مية تبلعي كلامي السم يا بيبي؟
هزت رأسها نافية، فابتسم بوادعة لطيبتها الغريبة وهدوء وقفتها، فتكرر وابل اسئلته:
_زعلانه مني؟
هزت رأسها توافقه حزنها منه، فعاد يتساءل بمكرٍ:
_بتحبيني؟
هزت رأسها موافقة حبها له، فتهللت أساريره وانحنى يطبع قبلة على خدها هامسًا بخبث:
_وأنا كمان بحبك يا بيبي.
كادت بأن تفر عدساتها من عينيها لفرط فتحهما، وبينما هي تراقبه بصدمة افاقت على حقيقة تبلد جسدها أمامه، فكانت تختبر مصارعة ما يعتري عقلها بتلك اللحظة، عينيها تجوب بالمطبخ وكأنها تبحث عن السكين لطعنه، فعادت تحوم من حولها الا أن اهتدت لشيءٍ أهم تمتلكه، وكان يدها الذي هوت لتمنحه صفعة رقيقة تناهز رقة أصابعها وصراخها العاصف يحيط بأذن ذاك الواقف على عتبة المطبخ يردد بتوسل:
_مايا اعمليلي قهوة، دماغي من الصداع مش قا…
انقطع حديثه حينما رأها تهوى بصفعة على وجه أخيه وهي تصيح بوجهه بغضب:
_إنت وقح يا عمران!
وتركت المطبخ بأكمله وغادرت من امامهما، فاقترب منه علي بصدمة ليجده يضم خده ببسمة خبيثة وهو يردد بالانجليزية:
_كان هذا قاسيًا يا رجل!
بينما تمرد لسان الاخير هاتفًا وعينيه تراقب زوجة أخيه التي تفر للخارج بعصبية الشياطين أكملها:
_إنت عملت أيه يلا!
تحلى بثباتٍ مخادع والتفت لعلي يردد بخشونة اعتلت نبرته:
_ولا حاجة.
ردد ساخرًا:
_ولا حاجة!! دي إديتك كف خماسي الأبعاد.
اعتلى الضيق ملامحه وهتف بتأثر:
_آه خدت بالك من القلم، شرسة أوي بنت خالتك دي بس على مين انا حبالي طويلة واتعودت أمشي بالطريق الطري لأخره، فإن شاء الله أجيب أخرها وأتمنى متجبش هي أخري ساعتها مش هيكون في مجال للوقاحة تاني يا دكتور علي!!
واستند على الرخام يجبر قدميه الثقيلة على الحركة وهو يتابع:
_يلا أسيبك تعملنا القهوة بقى، وابقى اعملي سندوتش كده عشان اعمر الطاسة الخربانه دي لاجل ما أفوق لفريدة هانم أرميها بجوازة عمك دي أهو أتسلى عليها قبل ما تتسلى على مراتك الغلبانة.
وتركه منصدم وكاد أن يتخطاه ولكنه عاد يخبره من جديد:
_آه افتكرت.. اوعى تيجي قدام جمال أو يوسف وتشتكي من رقبتك، العيال دي لماحة وعقلها بيرمح ورا الخيل هيفهموا الليلة ووكستك السودة هتتفضح قدامهم.
ورفع يده يشدد على كتفه وكأنه يواسيه:
_مهما كان انت أخويا وشكلك يهمني.
وتركه وغادر لباب المطبخ الهزاز وصاح قبل أن يختفي من أمامه:
_ابقى حط مخدة ورا رأسك، خليك ذكي ولماح!!
وهز رأسه بسخط ومر يتحدث مع ذاته وصوته يصل لذاك المصعوق من أمر أخيه:
_محدش في البيت ده بيفكر بعقله، مصممين تفضحوا نفسكم سواء أخويا أو عمي الاتنين معاتيه!!
واستطرد بحماس:
_اصبروا عليا بس، أنا قعدتلكم أهو لا شغلة ولا مشغلة!
اتجهت نظرات علي المصدوم تجاه مايسان التي خرجت من الحمام المجاور للمطبخ فور تأكدها من مغادرته فاتجهت لتراقب علي الذي مازال يحتضن رقبته باحراج لسماعها حديث عمران الاخير، فتصنعت انشغالها بصنع القهوة بينما ردد هو:
_ماله ده؟!
استدارت إليه بلهفة، وكأنه لقط الحديث على لسانها:
_معرفش والله من الصبح مش طبيعي.
وهدأت قليلًا تفكر بحديثه مع علي ثم قالت:
_أنا سمعته بيقول إنه جايب عريس لفريدة هانم؟
هز رأسه يؤكد لها، فتابعت بتفكير:
_لو قالها دلوقتي هتقوم الحريقة وزمان أصحابه على وصول، إلحقه يا علي واقنعه ميقولهاش حاجة الا بعد ما يمشوا.
حاول هز رقبته مجددًا فصرخ ألمًا وصاح:
_آآآه.. منك لله يا عمران.
وإتجه للخارج مضيفًا:
_اعملي قهوة يا مايا واعمليله يطفح بيقولك محتاج يتغذى قبل ما يشن الحرب!
******
بغرفة شمس.
لم تتمكن من النوم طيلة الليل تفكر بحديث آدهم المخيف، مازالت جملته عالقة بذهنها، وتحليلها يكمن بتعابيرٍ مقبضة تجعلها تخشى القادم، فإن لم يتمكن من الحصول على ذاك الملف قبل موعد تسليم الشحنة السامة لمصر وقتها ستضيع جهوده هباءًا وما يزيدها قلقًا تعرضه للخطر حينها لإن الشكوك برمتها ستصبح مسلطة عليه بعد ان تم كشف عملتين متتاليتين لراكان ومن خلفه بنفس الفترة التي تولى بها آدهم العمل معهم.
استحضرت حديثه أيضًا عن صعوبة اقتحامه لقصره وغرفته الخاصة بوقته الحالي لإنه لا يريد إثارة أي شكوك تجاهه هو وفؤاد وباقي فريقه بخضم لحظة اعدادهم للشحنة القادمة، فانتفضت عن فراشها تتجه لنافذتها وهي تعقد شالها الرقيق حول بيجامتها الستان الزرقاء لتهمس بخفوت:
_بس أنا أقدر أدخل قصر راكان بمتتهى السهولة ووقتها آدهم مش هيتأذى!
*****
انتهت فطيمة من تبديل ملابسها المتسخة بفستانٍ رمادي اللون يعلوه حجابًا أسود، فكانت رقيقة بملامح وجهها الهادئ، اتجهت للأسفل فما ان انتهت من الدرج وصولًا للطابق الأول حتى صعقت باتجاه فريدة للهبوط هي الاخرى، كادت بالتراجع للأعلى أوالاتجاه للمصعد، ولكنها توقفت رغمًا عنها حينما عقدت فريدة ذراعيها أمام صدرها وتساءلت بحدة:
_جوابك موصلنيش يعني؟
ابتلعت ريقها بصعوبة وحاولت أن تتسم بهدوئها، تخشى أن يهاجمها الاغماء أو التشنجات الغريبة، فقطعت فريدة صمتها حينما دنت لتصبح قبالتها تردد وعينيها الزرقاء لا تترك غنيمتها:
_لو المبلغ قليل ممكن نزوده المهم إننا نوصل لكلام نهائي بالموضوع ده.
أجلت فاطمة صوتها أخيرًا وبالرغم من اختفاء الكلمات من حلقها الا أنها قالت:
_أنا مش عارفة ليه حضرتك مصممة إني وافقت أتجوز دكتور علي علشان فلوسه، أنا مكنتش أعرف حاجة عن عيلته ولا أملاكه.
ورفعت عينيها لها تترجاها بحزن:
_من فضلك سبيني في حالي، أنا معنديش أستعداد أخوض حرب جديدة زيادة على حروبي، صدقيني أنا بتمنى أن يكون بينا حب واحترام وبحاول من دلوقتي تكون العلاقة بينا كويسة بس حضرتك اللي مش مدياني فرصة.
ضحكت بصوتٍ أثار قلق فاطمة، فراقبتها بتوتر وخاصة حينما رددت بتريثٍ:
_قولتلك قبل كده إن الأفلام الهندية دي مبتدخلش عليا.
وتابعت بنظرة صارمة مخيفة:
_خليكي فاكرة إني كلمتك بالحسنى وعرضت عليكي تبعدي عن علي وإنتِ كسبانه مبلغ محترم، لإن اللي جايلك فيه خسارة وهتخرجي منه بطولك لا معاكي علي ولا فلوسه.
وتركتها مصدومة وهبطت للأسفل، متجهة لأحمد وعمران الذي يقبض كلماته بعد تنبيهات علي بذلك، فرددت بازدراء وهي تتابع ابتسامة أحمد المؤكدة على حديث الأمس:
_مساء الخير.
رفع عمران عينه عن هاتفه يجيبها بابتسامة واسعة:
_مساء الجمال والورد يا فريدة هانم، أول مرة يعني تنزلي من فوق الساعة واحدة الظهر، خير؟
ارتبكت نظراتها الموجهة لأحمد المبتسم بانتصار لرؤية النوم يفارق عينيها لتأثر حديثهما، فقالت بتوتر:
_آآ… أنا… آآ..
اهتدى عقلها كونها الهانم هنا وهو الابن لذا قلبت الآية حينما صرخت باندفاع:
_هو انت بتسألني بأي حق! ثم إنك يهمك في أيه أقوم بدري ولا متأخر ما أنت مظبط عزومتك ومرتب كل حاجة بدون ما ترجعلي أو حتى تأخد رأيي!
إلتهم عمران الشطائر التي أعدتها له زوجته بنهمٍ، وقال وهو يلوكها بتلذذ:
_محبتش أزعجك معانا بالأكل الدسم اللي هيتعمل ده أنا حتى خصصت الشيف يعملك Healthy food (أكل صحي) عشان وزنك الرشيق ده اللي عيشتي تحافظي عليه لابن الحلال اللي يستاهلك والحمد لله لقيته واتقدملك وأنا وفقت.
طرق علي بيديه فوق رأسه بصدمة مما يتفوه به أخيه، بينما حدجته فريدة بغضب ثائر:
_إنت بتقول أيه!!
هز رأسه موكدًا على ما يقول:
_بقول جايلك عريس لقطة ميترفضش.
احتدت نظراتها وكادت بقتله، فأسرع علي بالتدخل قائلًا وهو يغتصب ابتسامة زائفة:
_متخديش على كلامه يا فريدة هانم، هو شكله كده السم اللي شربه عامل معاه مفعول.
هز رأسه رافضًا لحديث أخيه وتابع مشيرًا على أحمد الذي يتابع ما يحدث بابتسامة هادئة:
_مش صحيح أنا بعقلي، حتى إسالي أنكل أحمد سالم الغرباوي لقيتله حتة عروسة طلقة روسية هنروح بعد الغدا نطلبهاله مع إنه مصمم إنه هيتجوز واحدة تانية أخر الشهر بس أنا عايز أكافئه الراجل زاهد في جنس الستات وصبره يستحق المكافآة، يدلع نفسه بالاتنين دول ولو عايز يتجوز أربعة معنديش مانع، إنت عندك مانع يا أحمد يا ابني؟
هز أحمد رأسه نافيًا متبعًا نفس طريق عمران بالاعتراض والموافقة، فاتخذت فريدة عينيها مدفعًا يتقمصه فأشار بكتفيه ببراءة وهو يدلي بشفتيه وكأنه مغصوب على تلك الزيجة وحديث ذاك العمران الأبله!
لأول مرة يعجز لسان فريدة هانم عن الحديث، وزعت نظراتها بينهما بحيرة وجدها أحمد كسطوح الشمس، وقد كان مندهشًا لاستجابتها لطريقة عمران الغبية ولكن عليه الاعتراف هذا الوقح يجيد التعامل مع صنف النساء وكأنه كان الزير المجنح للعائلة على مر العهود!
تحررت عن صمتها ذاك حينما صاحت بعصبية:
_عريس أيه وعروسة أيه، عمران بطل إسلوبك المستفز ده وإتكلم عدل والا مش هيحصلك طيب.
كاد بأن يتحدث فقاطعه الخادم الذي أتى يخبرهم:
_لقد وصل السيد يوسف والسيد جمال سيدي.
أشار له بعصبية وهو يعتدل بجلسته:
_أيها الأبله هل تأتي لتخبرني وتتركهم بالخارج.
عاد الخادم يرحب بضيوف عمران بالداخل، فقابلتهم فريدة ببسمة صافية بالنهاية يوسف وجمال من الشخصيات التي تجبر من أمامها الانحناء وقارًا لهم.
أشار أحمد لهم بترحاب:
_يا أهلًا وسهلًا بالغاليين، اتفضلوا.
ولج يوسف برفقة زوجته وجمال يلتقط يد صبا التي تخطو للداخل بارهاق يوجهها منذ الصباح حتى أنها كانت ترفض الحضور ولكن جمال أصر عليها، انسحبت فريدة للخارج تاركة له مساحة الجلوس برفقتهم واتبعها أحمد دون ان يلاحظهما أحدٌ.
هبطت مايسان للأسفل ترتدي فستان من اللون السماوي وحجابًا أبيض جعل وجهها ينير كالبدر، فولجت للداخل تردد على استحياء:
_السلام عليكم.
اجابوها جميعًا بصدر رحب، وقد افتقدوا لتلك التحية الاسلامية التي باتت مهجورة بتلك البلاد، فاقتربت من ليلى وصبا قائلة بحبور:
_كان نفسي اتعرف عليكم من زمان وأخيرًا جت الفرصة.
ضمتها ليلى بحبٍ، قائلة:
_سبق وقابلتك بس كان وقتها كنتِ مشغولة مع البشمهندس، ربنا يكمل شفاه على خير.
آمنت على حديثها واقتربت من صبا تتبادل الاحضان معها، قائلة بلباقة:
_أيه الجمال ده كله، ما شاء الله إسم على مسمى يا صبا.
ضرم وجهها حمرة الخجل، وبادلتها ببسمة رقيقة:
_انتِ اللي زي القمر اللهم بارك.
أتاهم صوت مشاكس يؤكد لهم:
_القمر لما بيشوفها بيقوم ويشاورلها تقعد مكانه.
ضحك جمال يشاكسه:
_ما تفكك من جو سي كاظم ده وقوم استعجلنا الأكل لحسن أنا جاي واقع.
لكزه عمران بغضب:
_إنت جاي من بيتك طفس يا جدع، ما تهدأ علينا شوية.
ضحك يوسف عليهما واستشهد بعلي:
_عجبك كده يا دكتور علي، اخوك بيتوقح علينا من أولها يرضيك.
حاول جاهدًا أن يلتف إليه، فعاد يتطلع أمامه وهو يعتصر شفتيه ألمًا قائلًا:
_فكك منه يا دكتور يوسف وتعالى نلعب طاولة زي زمان.
ضيق عينيه بدهشة، وسأله بدهشة:
_مال رقبتك يا علي؟
كاد بأن يبحث عن حجة قوية تحجبه عن ذكاء طيبيًا قد يكشف جميع حججه، فتنهد عمران قائلًا بحزن جعل الجميع يتأثر به:
_أخويا مفيش أطيب من قلبه، شافني نايم طول الليل تعبان رايح جاي على السرير بنازع جاب كرسي ونام جنبي من كتر خوفه عليا لأقع من السرير وينكسر ضلعي اللمين هو كمان.
هزت الفتيات رؤؤسهم بحزن، بينما كبت جمال ويوسف ضحكاتهما مما جعل علي يكز على أسنانه هادرًا:
_اصبر عليا، وربي لأعيد تربيتك من أول وجديد.
أشار بصدمة وهو يهمس له بصوتٍ مسموع للرجال:
_عملت أيه بنقذ رجولتك المهدورة يا غبي!
صعد يوسف من بينهما فقد كان يجلس بمنتصف الاريكة بينهما:
_البنات قاعدين بلاش فضايح!!
انتبه علي إلى ليلى التي سألته بابتسامة هادئة:
_أمال فين مراتك يا دكتور علي؟
حين تذكرها بحث بالردهة بحثًا عنها، فتابعت ليلى بمزح:
_هتخبيها عننا ليوم الحفلة ولا أيه؟
رد عليها بابتسامة صغيرة:
_لا أبدًا، كانت هنا من شوية.
ورفع صوته عاليًا:
_فاطيمــا.
سمعت لصوته المنادي، ففركت يدها بتوتر، كانت تظن بأن الامر لا يخصها فستكتفي بجلوسها بالمطبخ تعاون مايا بتسخين الطعام ففاجئها علي بنادئه.
خرجت تتجه للصالون وهي تجاهد لتهدئة انفعالاتها ورسم ابتسامة صغيرة، فما أن رآها علي تقترب حتى نهض ليتبع خطواتها البطيئة ليعرفها بمن أمامها قائلًا:
_ده البشمهندس جمال وده دكتور يوسف أصحابي أنا وعمران يا فاطيما.
ارتبكت للغاية بالبقاء بمكان يحوي ثلاث من الشباب لا تعرف الا عمران من بينهم، فتبلدت بوقفتها ورغمًا عنها تشبثت بجاكيت علي بشكل جعل يوسف يتابعها بنظرة دقيقة قادرة على تحليل حالتها باجتيازٍ وادهشه الأمر حقًا، أيعقل أن يرتبط علي بفتاة على ما بدى له تحمل مرضًا نفسيًا ظاهرًا على ارتباكها وضم أصابعها بطريقة يعلمها جيدًا كطبيب.
مد جمال يده لها بابتسامة هادئة:
_أهلًا مدام فاطيما، وألف مبروك مقدمًا.
راقبت يده الممدودة برجفة سرت بجسدها، وعينيها معلقة على كفه الممدود بحرجٍ، فأسرع علي برد الحرج عنها وعن جمال حينما صافحه وهو يضيف مازحًا:
_فاطيما متدينة شوية، لكن انا منحرف وبسلم عادي.
تعالت الضحكات فيما بينهم على عكس تعابير يوسف الجامدة، فخطى بها علي تجاه الفتيات ليشير لمايا بتحمل هي أمر تعارفها بهم، وقال بلباقة لمعرفته بأنها لن ترتاح بالجلوس هنا:
_مايا خدي فاطيما ودكتورة ليلى ومدام صبا الحديقة الخارجية المنظر من هناك هيعجبهم جدًا.
تفهمت اشارته ونهضت على الفور:
_أيوه المنظر من هناك تحفة وهنكون على راحتنا أكتر.. اتفضلوا.
وبالفعل انسحبوا معًا للطاولة الخارجية، فبدأت فاطمة بالتعرف على ليلى وصبا وكذلك فعلت مايا ولكنها لازمت صبا لتستدرجها لأمر العمل بالشركة.
ضحكت ليلى وهي تتابع صبا التي قالت بمزح:
_يا ريتني مشيت ورا جمال من زمان وعرفت إن ليه أصحاب علشان نتجمع التجمع اللطيف ده وأتعرف عليكم، أنا من وقت ما جيت هنا وأنا لوحدي.
ردت عليها مايسان بتهكمٍ:
_ما أنا أهو بشتغل بالشركة مع عمران وحاسة إني لوحدي بردو كل اللي حوليا هناك أجانب ومفيش غير كام موظف مصريين بس رجالة مفيش بنات، عشان كده أنا مش هتنازل عنك يا صبا، هخلي عمران يكلم البشمهندس جمال وتنزلي تشتغلي معايا أنا محتاجة لواحدة بمؤهلك ده جدًا.
ابتهجت معالم وجهها الأبيض، ورددت بعدم تصديق:
_بجد يا مايسان، يا ريت والله نفسي أخرج من البيت وأخد على البلد هنا.
وتلاشت ابتسامتها وهي تقول عابثة:
_بس أعتقد إنه مش هيوافق لإني حامل.
ردت عليها ليلى ببسمة رقيقة:
_وفيها أيه يا صبا هو إنتِ راحة تهدي حجارة، أنتِ هيكونلك مكتب وشغلك كله حسابات يعني راحة جدًا ومش خطر عليكي.
تحمست مجددًا وقالت لمايسان:
_خلاص يا مايا قوليله يكلمه ويا رب يوافق.
هزت رأسها بتأكيد، فقطعت ليلى الصمت حينما وجهت حديثها لتلك الصامتة منذ لحظة جلوسهم:
_وإنتِ يا فاطمة مؤهلك أيه وبتشتغلي ولا لأ؟
رفعت عينيها إليهم بحرجٍ لمسته مايسان فكادت بالتدخل نيابة عنها ولكنها وجدتها تبلغها:
_أنا مقدرتش أكمل تعليمي، يعني كنت مخطوبة قبل كده وكنت بحب خطيبي فمدخلتش الجامعة وأكتفيت باللي وصلتله عشان أكون معاه.
وبامتعاض استرسلت:
_بس محصلش نصيب، نصيبي كان هنا مع دكتور علي.
ابتسمت صبا وهتفت بتأثر:
_سبحان الله… ربنا يفرحك يا حبيبتي ويجعله العوض ليكي عن كل اللي شوفتيه.
ابتسمت بسعادة وقالت:
_يا ررب… تسلمي.
*****
كان يتبعها للخارج حينما تسلل لهاتفه رسالة عمران النصية
«اتقل متدلقش وراها كده، خليك زي بذر الخوخ لما بيقف في الزور»
زم شفتيه ساخرًا وغير اتجاهه لمكتب المنزل، هاتفًا لذاته:
_والله عال أحمد الغرباوي بقى ماشي ورا كلام العيال!
وإتجه للمقعد الرئيسي يجذب حاسوبه ليتابع العمل هامسًا ببسمة تسلية:
_وماله خلينا وراه لما نشوف أخرتها آ….
ما كاد باستكمال كلماته حينما وجدها هي من تلحق به، فولجت للداخل تصيح به:
_عروسة إيه اللي هتخلي ابني أنا يروح يطلبهالك يا أحمد باشا، روح اتجوز اللي تتجوزها بعيد عني أنا وأولادي سامعني!
اتسعت ابتسامته وإلتحف بالبرود يخبرها:
_حاضر، هروح لوحدي.
وعاد يستكمل عمله، وحينما وجدها مازالت تقف أمامه رفع عينيه يتساءل بنفس ذات البراءة الخاصة بعمران الذي بات معلمه الذكي:
_في حاجة تانية يا مرات أخويا؟
سحبت شيطانيها وغادرت المكتب صافقة الباب من خلفها بقوة كادت باطاحة زجاجه الباهظ، فاعتلى ثغره ابتسامة جذابة وهو يهز مقعده باستمتاعٍ.
********
بالخارج.
دمغ يوسف يديه بزيت الزيتون الساخن الذي أحضره له الخادم بناء على طلبه يدلك رقبة علي الذي هتف باسترخاء:
_الله عليك يا جو، اضغط بقوتك على الجنب ده ربنا يراضيك.
انصاع له يوسف مرددًا بسخرية:
_وماله يا حبيبي، دكتور يوسف لعلاج قفشات العظام تحت أمرك.
كتم جمال ضحكته بصعوبة وقال بخبث:
_يوسف بعد الليلة دي عايزك تفتح العيادة تكشف على صبا مش عارف مالها من الصبح كده دايخة وتعبانه.
استدار إليه يمنحه نظرة محتقنة قبل أن يسحبها لعمران المسترخي أمام الشاشة يتناول مكسرات بتسلية:
_مش عايزني أكشفلك على حاجة إنت كمان؟
قال وهو يشير لقدميه بتعب:
_رجلي بتنقح عليا يا جو والله خلص أبو علي وتعالى دلكلي رجلي بالزيت يمكن ربنا يجعل في وشك القبول وأقف عليها بقدرة قادر.
التفت يوسف حوله ثم تحرر صوته المحتقن:
_لو مكنتش عامل احترام لوالدتك وعمك كنت قولتلك لفظ من إياهم عارفهم؟
ضحك عمران بصوته كله حتى كاد بأن يقتل من سعاله لتوقف التسالي بحلقه، بينما تساءل علي بدهشة:
_لفظ أيه ده؟
ضحك جمال وهو يشير له:
_بلاش يا دكتور علي إنت محترم وابن ناس.
صدح رنين هاتف يوسف الموضوع على الأريكة، فجذب المنشفة يجفف يده ثم رفع الهاتف يجيب:
_أيوه يا سيف.
تجهمت معالمه بصورة ملحوظة لجمال وعمران الذي تساءل فور اغلاق هاتفه:
_في أيه يا يوسف؟
جذب مفاتيح سيارته وهو يشير لجمال قائلًا:
_مفيش حاجة نص ساعة وراجعين، سيف بس في مشكلة صغيرة هنحلها ونرجع.
اشارة يوسف لجمال فهمها عمران جيدًا، فرفع ذراعيه لهم قائلًا باصرارٍ:
_معاكم..رجلي على رجليكم في الطالعة دي، أنا مش متنازل سامعين!!
انتصب علي بوقفته يتساءل بقلق:
_طالعة أيه؟ هو في أيه يا يوسف؟
رد عليه سريعًا:
_مفيش يا دكتور علي، أخوك دمه يلطش بس مش مصدق.
وضغط على شفتيه لعمران يشير له بالصمت، بينما انحنى جمال يساعده لتأكدهما بأنه لن يتركهما بالساهل، فعاونه يوسف من الجهة الاخرى، فالتف لعلي قائلًا بمرح:
_قولهم يجهزوا الأكل عما نرجع.
راقبهم باستغراب، وعاد يتسطح محله بهدوء وكأنهم نسمة عبرت بطريقها للخلاص.
******
بسيارة جمال.
صاح يوسف بعصبية لمن يغفو بالمقعد الخلفي:
_مش عارف لزمتك أيه، كنا هنخلص أنا وجمال الحوار ونرجع!
اجابه وهو يجتهد بوضع ساقًا فوق الأخر:
_لا إنت ولا هو هتقدروا تخلصوا الليلة، أنا معايا كورس في التربية ياض.
وتساءل باهتمام:
_المهم هو الواد اللي بيروق أخوك ده هو نفسه الواد المصري الملزق اللي ساكن في الدور اللي فوقه وكان بيشتكي منه قبل كده.
هز يوسف رأسه بتأكيدٍ، ففرك عمران يديه وهو يهمس ببسمة شيطانية:
_فرجت، عضلات إيدي نقحة عليا من يوم ما نمت بالسرير.
رد عليه جمال ساخرًا:
_يا حبيبي إنت مش شايف نفسك، احنا مساندينك للعربية يا عمران هتتعارك مع الواد ازاي بس!
اشرأب بعنقه يعنفه بغضب:
_إنت مال أمك إنت يا جمال، وديني للواد ده وسيبني أتعامل.
جحظت عين جمال من لفظه الوقح، فمرر يوسف يده على وجهه وهو يهمس لجمال:
_حقك عليا أنا، متعصبش عمران لما بيتعصب بيبقى وقح سوق واستهدا بالله خلينا نلحق الواد قبل ما نوصل نلاقيه جثة.
التقط شهيق قويًا ولفظه زفيرًا أقوى، فقاد بأقصى سرعته حتى وصل للعمارة، فلمحوا سيف يتأوه أرضًا وذاك الشاب الذي يتبختر بعضلات جسده يكيل له الركلات، فاندفع جمال ويوسف خارج السيارة بسرعة جعلت عمران يخرج رأسه من النافذة هادرًا بانفعال حازم وهو يصوب سلاحه تجاههما:
_أقسم بالله لو خطيتوا خطوة واحدة كمان لأطلق رصاصي عليكم، قولتلكم الواد الممحون ده قتيلي النهاردة، ارجعوا كده لعقلكم وساندوني أوصله!
تبادل جمال مع يوسف النظرات والاخر يتطلع لاخيه بقلق، فأسرعوا للسيارة يفتحوا بابها، ليسانده جمال من جهة ويوسف من جهة أخرى، وما أن اقتربوا منهما حتى اندفع يوسف لاخيه يعاونه على الوقوف بينما يساند جمال عمران، فحاوطوا ذاك النذل الذي ضحك مستهزءً:
_ده أخوك اللي كلمته تتحامى فيه يالا.
نهض يوسف قبالته يصيح بانفعال:
_إنت فاكر إنها سايبة ومفيش قانون أقدر أحبسك بيه وآ..
دفعه عمران للخلف بغضب:
_ريح إنت يا دكتور يا محترم سبلي أنا الردح.
ووقف قبالته مستندًا على جمال بكتفه الأيسر، فضحك الشاب قائلًا:
_انتوا جايبنلي واحد مشلول يأخد بحقه!!
ابتسم عمران بثقة جعلت الاخير يتابعه بسخرية، فسأله عمران:
_ سمعت عن عمران سالم الغرباوي يالا؟
هز رأسه مستهزءًا، فاتسعت بسمة عمران وتابع:
_حظك يا روح أمك إنك هتشوفه وش لوش.
وضربه برأسه ضربة جعلت الاخير يترنح للخلف من شدة الضربة التي تلاقها من رأس عمران، فكاد بالسقوط أرضًا متعثرًا، فأشار ليوسف:
_أمسك الحلوة دي وقربهالي يا دكتور.
كبت يوسف ضحكاته بصعوبة، وبالفعل جذبه ليدفعه تجاه عمران الذي يشير لجمال الضاحك:
_امسكني حلو لحسن الشلل ده رعاش ممكن أجيب شمال..
بينما عاد يقابل ذاك الذي يرى عمران أربعة اشخاص تتراقص من أمامه، فقال ببسمة هادئة:
_قولي يا حيلة أمك، أبوك بيشتغل أيه؟
بدى متحيرًا وكأنه فقد الذاكرة، فردد جمال بدهشة؛
_مالك بأبوه يا عمران؟
تطلع جواره بجيبه:
_عايزينه يلم بنته اللي فارضة عضلاتها تغري الاجانب هنا، ما هنا سبحان الله بيقدروا الستات والرجالة ال**
برق يوسف بعينيه وهو يتابع أخيه يتأمل عمران بصدمة، وكأنه يرى شخصًا يراه لأول مرة، فقد سبق ليوسف وجمال مشاهدة جزء من خروج ذاك المعتوه عن رزانته، بينما استرسل عمران قائلًا:
_انتي مكسوفة تقولي شغلانة أبوكي يا عسلية،أنا هنوب شرف المهمة دي، عارف يا سيفو شارع الهرم، أبوه بيلم النقطة من ورا العالمة كل يوم راجل مكافح وشهم بيكافح عشان يربي البقف اللي جاي يفرد علينا عضلاته..
جحظت عين الشاب صدمة، فتابع عمران ضاحكًا:
_ياض ميغركش البدلة الشيك اللي أنا لبسها دي، أنا أصلًا من العتبة يا حيلتها.
وسدد له لكمة قوية أطاحته أرضًا بقوة، فأشار ليوسف:
_قوم نوسة يا دكتور.. وسندهالي.
جذبه يوسف إليه مجددًا، واقترب يهمس له:
_خلاص كده يا عمران الواد اتربى وأخد الكورس كامل، بلاش نلم علينا السكان.
لكزه ليعود تجاه سيف مجددًا:
_ريح إنت.
وأشار لمن جواره:
_تكة لمين شوية يا جيمس، مش طايله يا جدع!
هز رأسه بضحكات صاخبة، فاتجه عمران ليجذب الاخير من تلباب ملابسه ليصبح أمام رماديته الحارقة وتلك المرة كان جادًا غامضًا:
_اسمعني بروح أمك احنا هنا من لما كنت لسه بتعملها على روحك، فمش هتيجي على أخر الزمن تعمل علينا بلطجي في مكانا، دكتور سيف من هنا ورايح لما تشوفه تضربله تعظيم سلام ولو طولت تحوض من الحيط عشان متتقابلش معاه هتعملها ده لو مش عايز تشوف واحد وقح وقادر يكسرك إسمه عمران سالم الغرباوي، وصلت يا نوسة ولا نسف الشريط تاني بس خد بالك المرة الجاية هتلاقيني واقف على رجلي من غير ما حد يسندني وتخيل بقى هيحصل فيك أيه وقتها!
هز رأسه بارتعاب فإن كان لا يمتلك نصف الاخر وفعل ذلك ماذا سيتمكن من فعله، دفعه عمران للخلف بشراسة جعلته يهرول لداخل المبنى وكأنه كان يقابل شبحًا لعينًا منذ قليل.
استدار يشير ليوسف:
_يالا يا جو هات دكتور سيف وبينا الأكل هيبرد
ابتلع سيف ريقه بصعوبة بالغة، ومال يهمس ليوسف:
_مين ده؟!
تنحنح الاخير وهو يكبت ضحكاته:
_بشمهندس عمران صاحبنا بس بعد عنك وقت ما بيلاقي خناقة بيقلب على بلطجي من نزلة السمان!
هز رأسه متفهمًا وعاد يهمس:
_أنا خوفت.
عدل يوسف من نظارة أخيه التي كادت بالسقوط هامسًا بضحكة:
_لازم تخاف، وبعدين الراجل وجب معاك وهو متدشمل!
وتابع ضاحكًا:
_والحيوان ده ابن حلال ويستاهل ما المرة اللي فاتت لما ضربك كلمناه أنا وجمال بالعقل ولا عمل أي اعتبار لينا وضربك تاني، بعد اللي عمران عمله وقاله معتش هتلمح طيفه اسمع مني.
تعصبت ملامح سيف، وهتفت بانفعال:
_متقولش ضربك دي، أنا كنت هعلم عليه بس احتارت وملقتش زواية.
منحه نظرة ساخرة وهدر:
_عندك حق الواد كله زوايا وانحناءات!
********
طرق الباب وحينما استمع لاذن الدخول ولج للداخل يبحث عنها، فإتجه للطاولة التي تحتل مقعدها، فقال بنظرة عميقة:
_ممكن تسمعيني؟
اعتدلت فريدة بجلستها وأصغت لمن يجلس قبالتها باهتمام، فقال بعد أن أطال بنظره لها:
_مجاش الوقت اللي تفكري في نفسك يا أمي؟ خلاص احنا كبرنا ومبقناش العيال الصغيرة اللي تخافي تسبيهم وراكِ، بقينا رجالة وفاهمين وواعين وعمرنا ما هنقف في طريقك وخصوصًا بعد الظلم اللي حصل زمان بينك وبين آآ…. آآ… عمي… جيه الوقت اللي تختاري الحبيب اللي هجر قلبك طول السنين اللي فاتت دي!
يتبع…
“اللهم لا تجعلني ثقيل على قلب احد وابعدني عن من يتمنى بُعدي ولو كان احب عبادك لقلبي.”
صدمتها بتلك اللحظة كادت أن تجعلها عاجزة عن الحديث، لم يكن بأوسع مخيلاتها أن ينكشف أمر حبها لأحدٍ من أبناءها، أبقته سرًا حربيًا لا ينفك لأحدٌ معرفته، تماسكت فريدة بثباتها ورددت متصنعة عدم الفهم:
_إنت تقصد أيه بكلامك ده يا علي؟
منحها نظرة دافئة طويلة، قبل أن يجيبها بحروفٍ عميقة:
_ماما أنا عارف بقصة الحب اللي كانت بينك وبين عمي.
رمشت بعينيها بدهشةٍ، وبدت حائرة بما يتوجب قوله بتلك اللحظة، فقالت بشكٍ:
_هو اللي قالك صح؟
هز رأسه ينفي عن عمه تلك التهمة، وقال:
_مقاليش حاجة، يا ريته كان عملها يمكن الفراق ما بينكم مكنش هيوصل لكل السنين دي.
أخفضت عينيها أرضًا حرجًا، بالعادة تجلس الأم برفقة ابنها تحاول اقناعه بالزواج من فتاة يحبها، والآن تجد وضعًا غريبًا لا تعلم كيف ستتعامل معه، ابنها يطالبها بالزواج وخوض حياة حرمت ذاتها منها منذ سنواتٍ.
أجلى صوته الخشن:
_متفكريش فينا احنا خلاص كبرنا وبقينا رجالة، فكري بنفسك لو مرة، فكري بالسنين اللي قضتيها وإنتِ بعيدة عنه، كفايا توجعي قلبك المجبور على الفراق.
أطلت له بنظرة تحوم بعينيها الغائرة، مرددة بصوتٍ يحتقن البكاء به:
_تفتكر إنه يستاهل إني أعمل كده بعد ما اتخلى عني يا علي؟
سحب دفعة من الهواء وأخرجها ببطءٍ، إن أخبرها الحقيقة التي أمنها له أحمد لكانت تعلم بأنها ارتكبت خطأ تندم لاجله ما بقى من عمرها، ولكنه إستئمنه عليه لذا قال بنبرته الدافئة:
_أنا مش عارف هو أيه اللي، خلاه يعمل كده بس اللي واثق منه إنه لو مكنش بيحبك حب جنوني مكنش فضل من غير جواز بعد السنين دي كلها ومازال مصر إنه يتجوز حضرتك.
نهضت فريدة عن مقعدها واتجهت للشرفة تتهرب من نظرات علي وصمتها يطول بها دون محالة، وبعد فترة صمتها أتاه صوتها المرتبك:
_صعب يا علي، هقول لعمران وشمس أيه؟ ، بدل ما أفكر بتحضرات جوازة بنتي أحضر لجوازي!
لحق بها والابتسامة لا تفارقه، فوقف جوارها يمنحها نظرة حنونة:
_عمران عارف وموافق، أما بالنسبة لشمس فأعتقد مش هيكون عندها أي مشاكل لانها بتحب أنكل أحمد وهتتقبله بينا لإن ده مكانه اللي يستحقه.
بدت حائرة لا تعلم ما ستقوله، فوجدته يجذبها إلى صدره يحتوبها كأنها ابنته الصغيرة، غاصت بين جسده ولا أحدٌ يصدق بأنها والدته، فتعلقت به وهمست إليه:
_ربنا ما يحرمني منك يا علي، إنت ابني وأخويا وصديقي وكل شيء بمتلكه في الدنيا.
ابتسم بسعادة تلاشت حينما استكملت بمكر:
_لو بس تسمع كلامي وتسيبك من الجوازة دي وآآ..
قاطعها حينما رفع وجهها إليه يخبرها بشيءٍ أقرب للتوسل:
_علشان خاطري بلاش تضغطي عليا، ماما أنا بحبها، وحابب أقضي عمري كله معاها، شايفها زوجة وأم أولادي، من فضلك يا ريت تتقبلي ده.
علمت بأنهة تنساق خلف حائط موصود، فتنهدت بيأسٍ واستدارت توليه ظهرها، فقال بتهذبٍ:
_هسيبك تريحي تفكري في كلامي كويس وهنزل أشوف عمران.
وتركها وهبط للأسفل، بينما بقيت هي بالشرفة تفكر جديًا بحديثه وبكل حرف قاله لها، لا تنكر بأن معرفة علي وعمران بالأمر قد أراح قلبها وخلصها من عوائق منتصف الطريق ولكن الأمر مازال يحتاج منها تفكيرًا ممهدًا.
*******
بالأسفل.
اجتمع الشباب حول مائدة الطعام، بعدما انتهت فاطمة ومايسان من تحضير السفرة، وصنع سفرة أخرى باحد الغرف للسيدات بناء على طلب علي الذي يفضل أن لا يحدث اختلاط بالجلوس بين الرجال والسيدات، وسرعان ما انضم لاصدقاء عمران وبدأ بالترحيب بشقيق يوسف بتهذبٍ:
_يا أهلًا بالدكتور سيف المجتهد، نورت البيت كله والله.
منحه سيف ابتسامة هادئة بعدما رفع بصره عن طبق الطعام من أمامه، فتلاشت ابتسامة علي وراح يتساءل بدهشةٍ:
_أيه اللي في وشك ده؟
سعل عمران حينما توقف الطعام بجوفه لعلمه بأن ذاك المعتوه سيفضح أمره لاخيه ولعمه الذي يترأس طاولة الطعام، فقال:
_بعد عنك يا علي دخل فيه تور طايح أصله كان جرفات أحمر، شكله كان بيحتفل بعيد الحب مع خواجية الخلبوص.
جحظت عين سيف بصدمة من تحليل عمران السريع والكاذب، فاستدار لاخيه الذي همس له وهو يحسس على ظهره كأنه يراود طفل صغير:
_عديها عشان خاطري.
كبت جمال ضحكة كادت بالافلات منه، وتنحنح بخشونة:
_الأكل طعمه رائع، شكلنا هنتعود على العزايم اللي من النوع ده.
ابتسم له أحمد، وقال بمحبة كبيرة يكنها لهم:
_البيت بيتك يا بشمهندس تنور بأي وقت.
بالرغم من محاولة جمال الناجحة لتغير مسار الحديث بين علي وسيف، الا أنه لم ينجح باقماع علي الذي عاد متسائلًا بشك:
_لما خرجتوا تجروا من شوية كنتوا فين؟
كاد عمران أن يختلق كذبة جديدة، فأوقفه سيف بضيق:
_كنت بتخانق مع بني آدم مستفز وأخوك جيه رباه.
واستدار تجاه أخيه الذي لطم فمه بغضب، هامسًا بضجر:
_متعودتش أكذب أنا! وصاحبك ده فشار درجة أولى.
جحظت أعين علي بصدمة، وانتصبت كامل نظراته لاخيه هاتفًا بغضب:
_تاني يا عمران؟؟؟
منح عمران سيف نظرة ساخطة، وصاح بعدها بغيظ:
_متشكرين يا دكتور سيف، طول عمرك ذوق وصاحب واجب.
واستطرد بسخرية وهو يكاد يتخطى جمال ليصل إليه:
_بقى أنا أنقذت حياتك من الجحش اللي كنت عالق معاه وأخرتها جاي تبلغ عني، ايش حال ما كنا جايبنك من تحت رجليه بترفرف زي الدبيحة اللي مستنية الفرج!
جذب أحمد المنديل الورقي يزيح بقايا الطعام، وقال بخشونة:
_مش مهم اللي حصل المهم إنكم بخير، بس خدوا بالكم بعد كده عشان ميحصلش لحد منكم مشاكل، متنسوش إننا مش في بلدنا وهنا مبيصدقوا يمسكوا أي غلطة على أي واحد عربي.
وأبعد مقعده عن الطاولة ثم استأذن بلباقة وابتسامة لا تفارقه:
_أنا هدخل أكمل شغل، سفرة دايمة بينا بإذن الله… عن إذنكم.
رد عليه يوسف بمحبة:
_اتفضل يا عمي.
إتجه أحمد للمكتب القريب منهم، فما أن تأكد يوسف من رحيله حتى عنف سيف بحدة:
_عجبك كده الراجل هيقول علينا أيه؟!
تناول عمران ما بملعقته مرددًا باستهزاء:
_هيقول عليا أنا يا حبيبي،ما أخوك خلاص طلعني بلطجي قدام عمي وأخويا أبو لسان طويل.
صاح علي بانفعال:
_أيدي أطول من لساني يا عمران، تحب تجرب؟
التحف بتوب الصدمة والحزن، وردد بنبرة ماكرة:
_إنت بتقول أيه يا علي؟ عايزني أمد إيدي على أخويا الكبير دي كانت تتقطع يا أخي لو اتعملت!
انفجر الجميع بنوبة من الضحك حتى علي ضحك من بينهم، ذاك المغرور يحسم المعركة بانتصاره منذ الآن ويبرهن بأنه سيكون الحائق الوحيد خوفه من ضرب أخيه الأكبر!
تناولوا طعامهم بتلذذ وقد استمتعوا كثيرًا بالطعام المغربي، وحينما اغتسلوا جلسوا بالصالون يتناولون الحلوى والعصائر، وعند ذاك الحد استأذن علي ليترك لهم مساحة خاصة بالجلوس مع صديقهم المقرب، فأن كان يربطه علاقة صديقة بهم فلأجل صداقتهم بأخيه.
فور صعود علي اعتدل عمران بجلسته على الأريكة يتطلع لسيف بنظرة جعلت الاخير يزدرد ريقه بتوتر فأسرع يبرر بارتباكٍ:
_أنا مكنش قصدي أفتن عليك بس أنا بجد اتصدمت فيك يا عمران، إنت اتحولت من شخص اتعودت أشوفه كاريزما وشيك لشخص غريب معرفوش أنا لوهلة كنت شاكك إن عمران اللي أخويا مصاحبه غير اللي كان واقف يضرب الولد، إنت علمت عليه بالجامد أوي!
ردد جمال ساخرًا:
_وده يزعلك في أيه، مش ده اللي سحلك على الطريق مرتين؟!
تجاهل حديث جمال ومازالت نظراته مركزة على عمران الذي يرتشف عصيره ببرودٍ والاخر ينتظر سماع ما سيقول، فعلق بنبرة ذكورية خشنة:
_اسمعني يا سيف آآ..
قاطعه يوسف بحدة:
_يسمع أيه، ده غبي بدل ما يشكرنا إننا نجدناه واقف يتكلم في أيه!!
التفت له عمران وصاح بتعصب:
_بتقاطعني ليه بروح أمك!! ما تسبني أقوله الكلمتين من غير ما تعصبني!
برق سيف بعينيه بصدمة، فزفر عمران بغضب وعاد يهدأ من ذاته قائلًا بحرج:
_أخوك عارف إني لما بتعصب بتخرج ألفاظ غريبة على لساني، حقك عليا يا سيفو أنا لسه داخل مرحلة إعادة التأهيل مبقاليش اسبوعين، وأول المرحلة بعدت عن الشرب وعن الستات وانتظمت بالصلاة يعني مش هتخطى كل الوحش في يوم وليلة.
هز رأسه بخفة وإن كان غير مقتنع لوقاحته تلك، فاستكمل عمران حديثه ببسمة خبيثة:
_بص بقى يا دكتور سيف، خدها مني نصيحة وحطها مبدأ في حياتك.
كبت يوسف ضحكاته ومال لجمال يهمس له:
_أخويا هيضيع مني بعد نصايح الوقح ده، ما تيجي نمشي أنا محلتيش غيره!
هزه بضيق وهو يتابع الحديث بينهما باهتمام:
_اسمع بس لما نشوف هيقوله أيه؟
بدأ عمران بالحديث والابتسامة المغرورة تلاحق حديثه وكأنه يمنحهم وقتًا ثمينًا للغاية:
_الستات بتحب الراجل الكاريزما الشيك، اللي يقدر يهتم بشكله وبجسمه الرياضي ولبسه المتناسق، وفي نفس الوقت عايزاه وقت الجد أسد يهز الغابة علشانها ومفيش مانع إنه يكون بلطجي إن تطلب الأمر، مهو مش هيرضيها تتكوم على الأرض مضروب وإنت بالبدالة الشيك والبرفيوم الغالي والساعة الفخمة، اعقلها!
وتابع وهو يرتشف عصير البرتقال:
_دورك إنت بقى إنك تجمع كل الصفات دي في شخصية واحدة، تتعلم إزاي تكون كاريزما وشيك ولبق في كلامك وإمته تستحضر الانسان البلطجي اللي متدكن جواك وقت اللزوم.
وأشار على يوسف مستحضرًا بحديثه:
_فكك بقى من أخوك وجو المستشفيات اللي انتوا عايشين فيها دي!
ورفع يده يشير بحزم وجدية:
_متسبش قفاك مكشوف لحد يعلم عليه، لإن الايد اللي هتنزل عليك مرة مش هتتمنع عنك تاني!
راق له حديثه حتى وإن اتبع نبرة مرحة، ولكنه محق بنهاية الأمر، لطالما كان يوسف لجواره يعلمه أن يباشر دراسته دون أن يتأثر بأي شيئًا حوله، ولكن رغمًا عنه كان ينغمس بمشاكل غريبة كأي شابًا مغتربًا، كان يخشى التعامل بهمجية فيسوء من حوله التفكير به، ولكن ماذا حدث بالنهاية؟
بسبب صمته وتغاضيه عن حقه استغله ذاك الشاب الذي يحمل نفس دماء العروبة بعروقه وود لو أن يسجل علامات فارقة بتاريخ شبابه ليقص بها لاجياله متفاخرًا بأنه سدد الضربات لشابٍ ذات يومٍ!!
********
حاول العمل على الحاسوب لأكثر من مرةٍ ولكنه لم يتمكن من كثرة الأفكار التي تتكوم عليه بتلك اللحظة، أحزانه تجمعت لتحاربه بكل قوته ليبقى بالنهاية بائس متخازل لا يعلم ماذا يحتاج من الصبر ليتجرع صبرًا فوق صبره؟!
أزاح أحمد الستائر عن الباب الزجاجي ليتأمل المسبح والحديقة بنظرة غائمة، فاسند جبهته للزجاج وهو يهمس بوجع:
_يا الله!
وفجأة تسلل له صوت طرقات خافتة اتبعها تحرر باب الغرفة، وولجت هي للداخل تقترب بعدما أغلقت الباب من خلفها.
وقفت على مقربة منه تتطلع له بنظرةٍ غريبة، جعلته يستدير بجسده كليًا لها، دنت منه على استحياءٍ وبحثت عما ستقول، طال بها الصمت وكأنها لا تجد ما ستبدأ به، فقالت بتلعثم:
_أحمد لازم نتكلم.
أغلق عينيه مطولًا، واستمد جزء من طاقته المهدورة، فتحرك ببطءٍ للأريكة الجلدية، احتلها بصمتٍ قطعته نبرته الهادئة:
_سمعك.
جلست على المقعد المجاور له، تبحث عن بداية لحديثه، وبعد فترة قالت:
_مش عايزة أكون أنانية معاك يا أحمد، آآ… أنا…
وانقطعت عن حديثها بتوترٍ تخطف نظرة سريعة إليه فوجدته ساكن كسكون جثة لا تجيد التحرك بعد عناء موتها، بصلابة يترقب سماع ما ستقول تلك المرة من رفضها، للحق يشفق عليها لم تجد حجة طوال تلك السنوات الا وذكرتها، ترى ماذا ستعلل سبب رفضها الآن؟
استجمعت فريدة شجاعتها التي لا تنفك عنها الا أمامه، تلزم جمودها وثباتها قبالة الجميع وتأتي أمامه تجد ذاتها طفلة تخشى كل شيءٍ بحضرته، تخلت عن تلعثمها وقالت بوضوح:
_أحمد إنت عشت عمرك كله بدون ما يكون عندك أولاد، وأنا مش هقدر أحققلك الحلم ده، مش هقدر أخلفلك بيبي وأنا المفروض أكون جدة بأي وقت، عشان كده مش عايزة أظلمك معايا، اتجوز يا أحمد وخلف أولاد يشيلوا إسمك قبل فوات الأوان.
تنهد بوجعٍ ويده تفرك جبينه، صوت أنفاسه الثقيلة كانت مسموعة بشكل أربكها، أحمد القوي يبدو ضعيفًا أمامها للمرة الأولى، لطالما كان عزيزًا، شامخًا.. قويًا لا يتأثر بأي شيء، ارتعبت فريدة من صمته واختلاج أنفاسه داخل صدره بذاك الشكل، فهمست بخفوت ويدها تمتد بتوتر لكفه المرتخي على ذراع المقعد:
_أحمد!
فتح رماديته الداكنة ومال برأسه تجاهها، فأتاه سؤالها المتلهف:
_مالك؟ إنت تعبان أجبلك دكتور؟
تعمق بالتطلع لها بملامح جامدة، تطيل بها ولسانه يردد ساخطًا:
_تعبي مالوش علاج عند أي دكتور يا فريدة، ريحي نفسك.
واتشح ببسمة ساخرة مستكملًا:
_بتوجعيني وعايزة تعالجيني!
تدفقت دمعة خائنة من عينيها الزرقاء، وهمست بألمٍ:
_إنت متعرفش حاجة يا أحمد متعرفش حاجة.
شم شفتيه بسخرية:
_والله.. طب عرفيني إنتِ!
توترت قبالته ونهضت بعصبية عن جلستها، هاتفه بارتباك:
_يا أحمد افهمني أنا مش عايزة أظلمك.
نهض خلفها يخبرها:
_سبق وظلمتك وجيه الدور عليا إدفع التمن، ثم إني مش شايف إنك هتظلميني، علي وعمران وشمس أولادي وبالنهاية حاملين اسم الغرباوي بالنهاية.
وهمس رغم تخاذل الألم أضلعه:
_غصب عنك وعن الكل هما من لحمي ودمي حتى لو انتِ مش شايفاني أنفع أب ليهم.
استدارت إليه تدافع عن ذاتها بصدمة:
_أنا مقولتش كده أبدًا، ده أنت أحن عليهم من سالم الله يرحمه.
أخرج زفيرًا قويًا اتبعه قوله الذي خرج ببطءٍ:
_اسمعيني يا بنت عمي، دي فرصتك الاخيرة يا نكتب كتابنا ونعلن جوازنا مع علي بعد بكره يا هرجع على مصر وهكون عم لاولادك بس المرة دي هتكون أخر فرصة ليكي يا فريدة لاني خلاص فقدت كل صبر كان جوايا ليكي.
وتركها وإتجه ليغادر بسئم من الاحاديث الغير متجددة بينهما، وقبل أن يحل عقدة الباب وجدها تقول:
_موافقة.
رمش بعدم تصديق لما استمع إليه، فاستدار إليها يحاول التأكد مما تلقاه منذ قليلٍ، فأجلى حلقه الجاف قائلًا بتوتر:
_موافقة على أيه بالظبط.
قطعت هي المسافة القليلة بينهما، وقالت وهي تفرك أصابعها كالمراهقة التي تعترف بحبها:
_موافقة تكونلي زوج يا أحمد.
تنهد بتعبٍ واضح على ملامحه المجهدة:
_أخيرًا يا فريدة، أخيرًا!
منحته ابتسامة مشرقة وابتعدت من أمامه على الفور تاركته يبتسم وهو يتطلع لاثرها بعدم تصديق، فجلس على المقعد وهو يردد بفرحة:
_اللهم لك الحمد حتى ترضى!!
دعوته المعلقة لأعوامٍ باتت صداها ملموس الآن، وأخيرًا انتهى عذابه وارتوى بعد صبرًا رشفة كانت هنيئة لقلبه النازف، ولكن ترى سره العالق بصدره سيظل مدفونًا؟!
*******
طرق علي على باب غرفتها، وحينما استمع لإذنها بالدخول ولج يبحث عنها، فوجدها تجلس أمام المرآة شاردة الذهن ويدها تتمسك بفراشة الشعر تمشط شعرها بعشوائية وغير اهتمام.
جذب منها الفراشة وجلس خلفها يمشط شعرها البني الطويل بهدوءٍ، ونظراته الحنونة لا تفارق انعكاس صورتها بالمرآة، عادت برأسها إليه مستندة على صدره، ويدها تتعلق برقبته:
_كويس إنك جيت، أنا محتاجالك.
صوتها المحتقن كان يحمل أثر بكاء ممزق داخلها زرع القلق داخله، فرفع جسدها إليه وتساءل بقلق:
_مالك يا روحي؟ وليه حابسة نفسك في أوضتك من الصبح ومنزلتيش مع مايا وفطيمة؟
هوت دمعاتها على وجنتها ورددت بهمس ضعيف:
_خليك معايا يا علي..
تمزق قلبه لرؤية طفلته الصغيرة تبكي، فلف جسدها إليه وضمها بكل قوته، تمسكت بقميصه من الخلف وبكت بصوتٍ مسموع:
_أنا مفتقدة بابا أوي وبشم ريحته فيك لما بتاخدني في حضنك.
أدمعت عينيه حينما استمع لما تقول، فانحني يطبع قبلة عميقة على جبينها وقال بشكٍ لا ينحاز عن عقله الذكي:
_شمس، انتِ عرفتي بموضوع جواز عمي وفريدة هانم؟
هزت رأسها وقالت ومازال رأسها مدسوس باحضانه:
_عمران قالي، غصب عني يا علي، مهما كنت بحب أنكل أحمد بس الموضوع مش سهل صدقني.
مسد على ظهرها بحنانٍ، وهمس لها:
_فاهمك وفاهم مشاعرك يا حبيبتي، بس صدقيني اما تهدي كده هتلاقي إن أنكل أحمد هو المناسب والأحق إنه يكون مكان بابا الله يرحمه، متنسيش يا شمس إنك بكره هتتجوز وهتسيبي البيت وتروحي تعيشي في بيت زوجك وأنا وعمران كل واحد فينا هيكون له حياته المستقلة، بالنهاية يا شمس ماما هتكون لوحدها إنتِ حابة تشوفيها عايشة بالوحدة دي؟
هزت رأسها رافضة لما يقول، وعاد صوتها الهزيل يصل لمسمعه:
_ميرضنيش ومستحيل هعارض الجوازة دي، أوعدك إني مش هبين شيء ليها.
رفع ذقنها إليه مانحها ابتسامة جذابة:
_كده أقول عليكي كبرتي وعقلتي.
منحته ابتسامة رقيقة، وعادت تميل برأسها على صدره ثم قالت بخجل:
_علي.. ممكن تخليك معايا النهاردة.
حمل جسدها إليه وزحف بها للفراش، فتمدد عليه وضمها إليه بحنان مثلما كان يفعل حينما كانت تتسلل لغرفته ريثما يطاردها كابوسًا مزعجًا أو ترى فيلمًا من صيحات الرعب القاتل، استحوذ الأمان عليها وخاصة حينما همس إليها:
_أنا هنا في أي وقت هتكوني محتاجالي فيه يا شمس، أنا معاكي سندك وأمانك، أبوكي وأخوكي وصديقك وحبيبك..اللي جاهز يحارب الدنيا كلها عشان سعادتك، ومهما كبرتي هفضل شايفك الطفلة اللي ماسكة ايدي عشان أعديها الطريق.
ابتسمت وهي تغفو بين ذراعيه بانهاكٍ يتبع تؤرم عينيها وفكرها المرهف، مسد بيده على خصلات شعرها بحنان وظل يردد الآيات القرآنية يرقيها بها حتى لحق بها هو الأخر وسقط بنومٍ ثقيلٍ.
******
ودع عمران أصدقائه بحبورٍ وعاد للداخل يبحث عنها ليشكرها بامتنان على ما فعلته لأجله، وجدها تعاون الخادم بحمل الأطباق ووضعها بغسالة الأطباق، وحينما استدارت وجدته يدنو منها ويشير على الباب:
_عايزك.
أبعدت مريال المطبخ عنها وقالت بتعبٍ:
_حاضر، بس أطلع أخد شاور وأغير هدومي الأول لحسن مش قادرة.
هز رأسه بتفهمٍ، وقال وهو يرفع يده لها بتسليةٍ:
_خديني معاكِ أستناكِ لما تخلصي ونتكلم.
أسندت يده للمصعد ومن ثم ولجت لغرفتها، فوجدته يجلس على الفراش ويراقبها باهتمامٍ، تحركت بارتباكٍ لخزانتها تجذب بيجامة من الستان وتتجه لحمام الغرفة، وقبل أن تغلق بابه قالت بحرجٍ:
_تحب أوديك أوضتك لحد ما أخلص وأجي نتكلم.
جذب هاتفه يدعي انشغاله به قائلًا:
_لا أنا مرتاح، خلصي وأنا هنا.
ابتلعت ريقها بارتباكٍ وأغلقت الباب ثم بدأت بالاستحمام، وحينما انتهت ارتدت بيجامتها واتجهت للخروح وهي تجفف شعرها بالمنشفة، فما أن فتحت الباب حتى برقت بفيروزتها بصدمةٍ حينما وجدته ينحني أمامها، انتصب بهيبته أمامها، يحاول استكشاف تجمد معالمها باستغرابٍ، لا يعي ماذا يحدث معها؟
تمرد لسانها عن ثقله ورددت بعدم تصديق:
_بتبص عليا من عقب الباب يا عمران!!!
جحظت عينيه صدمة لاتهامها هذا، فقال بضجر:
_ليه شايفاني مراهق عشان أعملها!!
قذفت وابل اتهام جديد:
_أمال موطي كده ليه؟
رفع ما يمسكه بيده قائلًا ومازالت صدمته جلية على ملامحه:
_الشاحن وقع مني، موبيلي فصل وكنت بوصله بشاحن موبيلك!
وحدجها بنظرة غاضبة قبل أن يخبرها:
_وبعدين يا حبيبتي مش أنا اللي أبص على مراتي من فتحة الباب، أنا زي ما قولتي عليا وقح والوقح بيعمل اللي على مزاجه في وش اللي قدامه ومبيهموش حد!
ارتخت معالمها واستكملت طريقها للسراحة تجفف خصلات شعرها وتمشطه ببراعةٍ، متسائلة لمن يراقبها:
_كنت عايز أيه؟
دنى منها وهو يمرر يده على الحائط، حتى أصبح قبالتها، فمد يده إليها والاخرى توزع نظراتها بين عينيه وبين يده الممدودة بعدم فهم، فرفعت كفها إليه، فوجدته يخرج من جيب سترته خاتم من الألماس يبرق من شدة لمعته، وضعه بين إصبعها وانحنى يلثمُ كفيها برقة جعلتها تغلق عينيها تأثرًا به وخاصة بكلماته التي تحررت على شفتيه:
_شكرًا على كل حاجة عملتيها النهاردة، الأكل كان طعمه جميل أوي، شرفتيني قدام الكل النهاردة.
نهضت عن المقعد وقالت ببسمة رقيقة:
_أنا معملتش حاجة مهمة تستاهل إنك تجبلي خاتم غالي زي ده يا عمران ده واجبي!
تابع عينيها بحبٍ وأجابها:
_مش فرض ولا واجب عليكي يا مايا، وحتى لو كان كده ففرض عليا أكافئك بعد اللي عملتيه.. وبصراحة كده أنا جاي عشان أبلغك حاجة تانية.
سألته بلهفة:
_حاجة أيه؟
تمعن بها بهيامٍ، وقال وهو يشير برأسه:
_قربي علشان محدش يسمع اللي هقوله.
انكمشت تعابيراتها بغضب ورددت من بين اصطكاك اسنانها حينما تسرب لها خبث نواياه:
_عمران!
اتسعت ابتسامته التي زادت من وسامته الطاعنة لها، وقال ينفي شكوكها:
_هبلغك باللي جيت أقوله وهخرج على طول.
انصاعت له واقتربت بارتباك ثم قدمت له أذنها، فانحنى تجاهها، لفحته رائحة شعرها المبتل فأنعشته وجعلته يغلق عينيه بقوة تحمل تلك المذبحة الطاعنة لرغباته ومشاعره.
ارتبكت من قربه فهمست بخوفٍ:
_عمران إنت وعدتني!
ابتسم وهو يطول بصمته الماكر، فعادت تناديه مجددًا:
_عمران!
أطبق بجفونه معتصرًا حدقتيه، وانحنى لأذنها يخبرها:
_بطلي تناديني باسمي، صدقيني بتصعبي البعد عليا!
كادت بالفرار من أمامه، فجذبها إليه بقوةٍ جعلتها تصطدم بصدره العضد مما ألمها فجعله يتراجع للخلف قليلًا وهو يعود لتطلعه لها قائلًا:
_اسمعي اللي جاي أبلغك بيه علشان خلاص نفذ صبر أيوب اللي أنا عايش بيه، يوم فرح علي وفطيمة جهزي نفسك، هنبدأ حياتنا مع بعض.
جحظت عينيها صدمة، ورددت بعدم استيعاب:
_بتقول أيه؟
ضحك وهو يخبرها بغمزة تسلية:
_ده اللي هيحصل يا حبيبتي لو مش عايزاني أنحرف بجد وأبص عليكي من فتحة الباب زي ما تخيلتي..
وتركها مندهشة محلها وغادر يردد ببسمة انتصار:
_تصبحي على خير يا.. يا بيبي!
كادت بأن تنفجر من فرط كبتها لغيظها، فما أن رأته يفتح بابها ليغادر حتى أسرعت خلفه تصرخ بغضب:
_مش هيحصل يا عمران.. استنى هنا رايح فين؟
أغلق الباب واستدار لها ببسمة واسعة:
_بنت حلال والله وحاسة بيا، إنتِ أساسًا مغرية بشكلك ده.
واقترب منها يشير:
_يلا بينا يا بيبي.
حاولت استيعاب مضمون حديثه، بالطبع ورائه كل ما هو وقح وجريء لذا قالت من بين اصطكاك اسنانها:
_اطلع بره يا وقح.
ابتسم ومرر وجهه بشكلٍ مستلذ:
_يا سلام بقيت بتكيف من الكلمة دي لما بتقوليها شوفتي تقصير كلمة بحبك يا عمران دي أقوى منها بمراحل!
عبثت بشكل مذري، واتجهت لفراشها تحتضن رأسها وهي ترتل بحزن:
_يا ربي أعمل معاه ده أيه، أجيله كده يجبني كده آه منه ابن الغرباوي هيطلعني منها بدري!!
راقبها ببسمة هادئة وتساءل بسخرية:
_هطلعك من أيه؟
_من الدنيا، هتكون هتطلعني من أيه يعني!
_لا يا بيبي مصدر الكلمة غلط، بتتقال هطلعني من هدومي تفرق!
_اطلع يا عمران.
_ما تطلعي انتي!
تساءلت باستغراب:
_اطلع منين دي أوضتي!!
أجابها بغمزة وقحة وادعاء بالبراءة زائف:
_من هدومك أأقصد فكي كده واستقبلي اللي جاي بفرحة يا آآ… يا عروسة ما إنتِ هتكوني عروسة بردو ولا أيه؟
نفذ صبرها وكل محاولة بالتمسك بعقلها، فاطاحت به تدفعه للخارج بكل قوتها وهي تصرخ بها:
_بره بقى بدل ما ألم عليك خلق الله عشان إنت وقح وتستاهل الفضيحة.
تعالت ضحكاته الرجولية وهو يجدها تتحلى بقوة غريبة كانت قادرة على دفع جسده القوي لخارج غرفتها وأغلقت بابها بعنف بوجهه، استند على الباب وردد ضاحكًا:
_ماشي يا مايا، خليكِ عارفة بس إن ابن الغرباوي نفسه طويل!
واستدار خلفه يتفحص الرواق من حوله، فابتهج حينما وجد الجميع بغرفهم، فاتشح ببسمة خبيثة وابدل مساره لصالة الرياضة بدلًا من غرفته.
******
مرر يده على الجهاز متحاشيًا لمس بطنها المنتفخ بعض الشيء، وعينيه مسلطة على الشاشة من أمامه كالمعتاد له عدم اباحة عينيه أي جسد امرأة قط، بينما من خلفه يقف جمال عينيه تكاد تخرجان من مكانهما على الجهاز، يتأمله ببسمة واسعة، ولجواره كانت تقف ليلى تبتسم وهي تشاهد صورة الشاشة وخاصة حينما حرك يوسف الجهاز على أجزاء من جسد الرضيع التي بدأت بالتكوين مشيرًا:
_دي الايد أهي، ودي رجليه.
رددت صبا بحماسٍ:
_هو ولد؟
قال دون أن يتطلع لها:
_مش هقدر أكدلك غير في الاعادة إن شاء الله يا مدام صبا.
ترك جمال موضعه المقابل للشاشة الكبيرة واقترب لينحني فوق رأس يوسف الجالس على مقعده حتى كاد بأن يسقط من فوقه ليرى ما يقوم يوسف بالتطلع إليه باهتمامٍ عبر الشاشة الصغيرة،وكأنه يرى منظر أخر غير ما تطرحه الشاشة الاخرى،صاح يوسف منفعلًا:
_أيه يا عم، قارفني حتى هنا!
لكزه جمال بغضبٍ:
_ما تظبط الكلام يالا بدل ما أظبطك أنا.
كبتت ليلى وصبا ضحكاتهما عليهما، وخاصة حينما لف يوسف يده حول رقبة جمال ودفعه لداخل الشاشة حتى كاد بأن يصيبه العمى من فرط الاضاءة:
_أهو كده شايف! أكيد هتطلع او هيطلع سمج زي أبوه، مرضي كده يا عم! مش كفايا مخليني افتحلك العيادة مخصوص عشانك انت وابنك؟!
تعالت ضحكات صبا باستمتاعٍ، فاليوم كان مميز لها، يكفيها بأنه سمح لها الدخول لدائرة أصدقائه للتعرف عليهما وعلى زواجاتهما عن قرب.
تخلى يوسف عن مزحه حينما رأي جمال يندمج بتأمل الشاشة بأعين شبه دامعة، فربت على ظهره بحنان:
_ربنا يكملها على خير ويجعله خلف صالح ليك يا حبيبي.
أجابه بتأثرٍ:
_يا رب يا يوسف، وعقبال ما نشيل خلفك.
اخترق الألم قلبها لسماع دعوته المرهفة، فعلمت الآن ماذا يخوض زوجها طوال تلك الفترة من زواجهما، ولكن شملتها سعادة كونها تخلت عن عقار منع الحمل منذ اليوم الذي جمعهما بعيادتها الجديدة، وتابعت يوسف باهتمامٍ لتجده يمنح رفيقه ابتسامة مشرقة وقال:
_تسلم يا جيمي، ارجع بقى مكانك عشان أسمعك نبض الجنين.
أسبل بجفنيه بعدم تصديق:
_بجد؟
هز الأخير رأسه موكدًا ورفع من صوت الجهاز ليعلو لهم صوت الجنين فتسللت البسمات الوجوه، وخاصة صبا التي بدت لا ترغب بنزع الجهاز عن بطنها وقضاء يومها بأكمله تستمع للنبضات وترى صورة جسده الغير مكتمل بعد.
خطف يوسف نظرة سريعة لزوجته، فوجدها تراقب الشاشة بنظرات حالمة مهتمة، عاد يتطلع امامه وهو يبتسم ويهمس بصوت غير مسموع:
_عقبال ما دماغك تلين وتكوني نايمة هنا مكانها!!
انتهى الفحص وقام يوسف بتدوين بعض الادوية والمكاملات الغذائية التي تعاونها بتلك الفترة من الحمل، وخصص لها موعد بعد اسبوعين من الآن لتقوم بمتابعة مستمرة لحين موعد ولادتها.
خرجوا معًا مجددًا فعاون جمال يوسف باغلاق الباب الحديدي الخارجي للعيادة وهبط معًا للسيارة ليقوم جمال بتوصليهما أولًا، وما أن وصل للعمارة حتى انحنى يوسف لجمال يخبره:
_اعمل حسابك الاسبوع الجاي معزومين على افتتاح عيادة الدكتورة ليلى.. ابقى بلغ الوقح بالكلام ده.
ضحك وغمز له:
_هي السهرة تحلى من غيره، عيوني هبلغه.
منحه الاخر ابتسامة هادئة واتبع زوجته للداخل بينما تحرك جمال بزوجته للمنزل.
*******
شفتيها ملتصقة ببعضهما ومع محاولتها العديدة لنزعهما عن بعضهما البعض باءت بالفشل، أرادت الصراخ ولكنها لا تنصاع إليها، جسدها ينتفض بقوة مع سماع ذاك الصوت القاتل لها، ولم يكن سوى صوت تمزق الثوب الذي ترتديه، دموعها لا تفارق مقلتيها وتوسلاتها لا تفارق حركة جسدها المنتفض، ثلاثون دقيقة تعافر بهم للخروج من تلك الحالة القاتلة وبالرغم من أن عقلها الباطن يهييء لها أن صوتها مكمم لا يخرج عن حلقها الا أن الحقيقة كانت معاكسة لذلك، فلقد تحرر صوتها بصراخٍ قابض خرج لأجله أحمد من غرفته ومايا وعمران الذي خرج بالمنشفة يزيح قطرات العرق عن جبينه، فدنى وهو يستند على الحائط من عمه الذي تساءل بقلقٍ:
_في أيه؟
أجابته مايا بخوفٍ يسيطر على رعشة صوتها:
_معرفش يا عمي أنا خرجت على صوت الصريخ ده؟!
قال عمران وهو يتلصص لسماع الصوت بحيرة:
_أعتقد ده صوت فاطيما!!
اتجهت مايسان لباب غرفتها ترهف السمع، وحينما تأكدت اتجهت لمحلهما تردد:
_فعلًا ده صوتها.
رفع عمران حاجبيه ساخطًا:
_ومستنية حد فينا يدخلها! ادخلي شوفي في أيه؟
قالت بحرجٍ من نظراتهما المسلطة عليها:
_افرض علي جوه!
رد عليها أحمد وهو يتجه لغرفة علي المجاورة لفطيمة:
_كان زمانه قام أول واحد.. علي نومه خفيف!
ولج لغرفته فوجد الفراش مرتب لم يمسه أحدٌ، فتساءل عمران باستغراب:
_هيكون راح فين؟!
أشار أحمد لمايسان:
_روحي يا بنتي شوفيها، وإنت يا عمران اتصل بعلي شوفه فين؟
افترض محله بعدما جمع علامات استفهام سؤاله:
_علي مخرجش، ممكن يكون عند شمس، هشوفه وراجع.
انتظر أحمد أمام باب الغرفة بالخارج، فجابها ذهابًا وإيابًا بقلقٍ شديد يعتريه كلما على صراخها أقوى من السابق، فتفاجئ بفريدة تقترب منه متسائلة بحيرة:
_في أيه يا أحمد وأيه الصوت ده؟
ذم شفتيه بضيقٍ مما سيحدث هنا الآن، وبالرغم من ذلك قال:
_فطيمة شكلها شايفة كابوس من ساعتها بتصرخ وعلي مش فاهم اختفى فين دلوقتي وهو عارف حالتها!
منحته نظرة ساخرة، ورددت باقتضاب:
_عندك حق مينفعش يسبلنا المجنونة دي كده ويختفي، وبعد اللي بيحصل ده يرجعها مستشفى الامراض العقلية أفضل من الفضايح اللي هتحصلنا دي.
صفق كفًا بالأخر بقلة حيلة:
_ده وقته يا فريدة!
*****
تسلل للداخل على أطراف أصابعه، فارتسمت على شفتيه ابتسامة صافية وهو يراقب شقيقته تغفو على صدر علي الذي يحتضنها بحنان، ابتسم عمران وانحني يقبل جبهة أخيه ومن ثم منح شمس قبلة على وجنتها، وهمس بحزن:
_طب كنتوا خدوني معاكم!
وحينما تذكر حالة فاطمة، اتجه يحرك علي بحذر، ففتح الأخير عينيه بانزعاجٍ:
_عمران! خير؟
همس له وهو يتفحص شمس:
_مش خير خالص يا قلب أخوك، قوم معايا ووطي صوتك عشان بنتك متصحاش.
منحه نظرة محتقنة وعاد يضمها إليه ويغفو دون أن يعبئ به، فجذبه عمران مجددًا قائلًا بجدية:
_بقولك قوم في كارثة برة؟
نقلها علي للوسادة ببطءٍ، ونهض ليتجه له، فاندهش حينما اتجه عمران لمحله وأشار له مدعيًا الألم:
_ارفع رجلي بس بهدوء.
انصاع له علي وعاونه على التمدد بشكلٍ مريح وهو يراقبه بغيظٍ قد أوشك به على قتله، ولكنه يعلم بأنه سيلقي القنبلة المؤقتة حتمًا ولكن بعدما يقوم باستفزازه كالمعتاد من هذا الوقح.
جذب عمران شمس إليه، ليضمها مثلما كان يفعل علي، ورفع عينيه له قائلًا:
_حلو الحضن ده يهون قسوة العيشة المرة معاكم.
وأغلق عينيه يستسلم للنوم وهو يتابع بحزن مصطنع:
_البت دي بتفضلك عليا معرفش ليه، حاسس أنها بتخبي سر حربي عننا، يمكن تكون اكتشفت إني مش أخوها مثلًا! بس ازاي والراجل ودع بدري وملحقش يتجوز غير فريدة! هكون ابن مين مثلًا!!!
وطبع قبلة على جبين شمس، ثم مال برأسه فوق رأسها، وأغلق عينيه مجددًا غير باليًا بمن يتابعه بنظرات قاتلة تكاد تجعله كالديناصور الذي سيبصق النيران من فمه تجاه هذا اللعين بأي لحظة، بينما تمتم عمران وقد اتشح بوشاح النوم فعليًا:
_ابقى فكرني الصبح نعمل تحليل DNA، أتاكد إني أخوكم بجد لإن اللي بيحصل هنا ده قاسي!
فقد علي صبره، فانحنى تجاهه واضعًا يده حول رقبته ويحاول جذبه عن الفراش بها، فصاح الاخير يحذره:
_إياك البت هتصحى!
وتابع ليخلص ذاته:
_أنا جيت أقولك ان فاطيما بتصرخ جامد وشوية كمان وفريدة هانم هتطردك إنت وهي برة البيت، كل عيش يا دكتور!
تحررت يده عن عنق أخيه وهرول من أمامه كأن شبحًا مسه للتو، بينما عاد الاخير يتمدد جوارها من جديد ليغفو هو الأخر جوارها.
*****
تعالى صوتها بشكلٍ مقبض، مما دفع فريدة للدخول لمايا التي أخبرتهما بأنها عاجزة عن تهدئتها، فولجت الاخيرة تردد بغضب:
_الجيران هيطلبوا الشرطة لو مبطلتش صريخ وآ..
ابتلعت فريدة كلماتها داخل جوفها حينما رأت جسد فاطمة متجمد، عينيها مغلقة بقوة ورأسها يلتفت هنا وهناك بعصبية مفرطة، والورم يحيط بجفونها من كثرة البكاء، وخذ قلبها ووقفت على عتبة الباب تتطلع لها بدهشة.
استكملت طريقها للداخل لتقف جوار مايا التي تتابعها ببكاء، فازدردت ريقها الجاف بصعوبة:
_روحي يا مايا شوفي علي فين بسرعة.
هزت الأخيرة رأسها وهي تراقب نظرات فريدة الغريبة بعدم استيعاب، واندفعت للخروج من الباب ولكنها توقفت حينما كادت بالاصطدام بعلي الذي ولج للداخل راكضًا، ليسرع للفراش لاهثًا.
تفحصها جيدًا بنظرة سريعة شمل بها حالتها، لا يستطيع الدواء تخفيف وطأة الحالة الحرجة التي تخوضها فاطمة الآن، لذا أسرع لغرفته قاصدًا البراد الصغير بها، وجذب منها الآبرة التي يحضرها لحدوث أمرًا طارئ هكذا، ثم عاد راكضًا لغرفتها يبعد كم البيجامة عن يدها، ويسدد الأبرة بورديها بتريثٍ.
راقبته فريدة باهتمامٍ، وعادت تسحب نظراتها لفاطمة فوجدتها مازالت تنتفض بشراسة، فقالت بحزنٍ لم تستطيع اخفاءه:
_لذا بترتعش ليه يا علي مش الحقنة المفروض تشتغل؟
كان بحالة عدم وعي، لا يشغله سوى التفكير بمحاولةٍ لايقاظها، فقط لسانه يردد وعينيه تراقب وجهها:
_مش على طول كده!
وحاوط وجه فاطمة بيده، ثم رفعها لصدره، فاستقر رأسها جوار رقبته، نادها بصوتٍ قوي:
_فطيمة، فتحي عيونك يا حبيبتي.. سامعاني.
صوته أحاطها بهالة من الأمان، فانزرع بداخلها وجوده بنفس المكان الذي يتم الاعتداء عليها به، جاهدت لفتح عيونها فخطفت صورة له وعادت لدوامة ظلامها فتجده داخلها أيضًا، رائحة ملابسه تدفعها للشعور به، حتى الهواء الداخل لرئتيها كان مندفع من أنفاسه.
كسرت حاجز صمتها المخيف ودموعها لا تتركها، مرددة بعدم وعي:
_علي متسبنيش يا علي.
ضمها إليه بعنفٍ وكأنه لقائهما الأخير، فهمس لها بحزنٍ خيم على صوته المبحوح:
_عمري ما هسيبك يا فاطمة، لو ده أخر يوم في عمري هقضيه ثانية ثانية معاكِ.
عادت تهمس له ببكاءٍ:
_خليهم يبعدوا عني، متخليش حد يقربلي!
تعالت شهقات مايسان وهي تراقبها بهذا الحال لأول مرة، فرفعت كفها المرتعش تكبت صوتها الباكي وتابعتها بشفقة قبل أن تخرج رافضة عدم القسوة على قلبها الذي ينهار لرؤية ذاك المشهد.
أحاطها بذراعيه بقوة وقال بعدما فقد القدرة على السيطرة على دمعاته فانهمرت على وجه فاطمة القريب من أنفاسه، وردد باكيًا:
_مفيش حد هيلمس منك شعرة طول ما أنا على وش الدنيا، مش هيتكرر تاني يا فطيمة اللي حصل مش هيتكرر تاني أوعدك.
وترجاها بألمٍ يكاد يمزق أضلعه:
_عشان خاطري افتحي عيونك، ده كابوس أول ما هتفتحي عيونك هتلاقيني جنبك.
إلتمعت تلك الدمعة الخائنة بعينيها وهي تتابع أمامها ما يحدث لها، ناهيك عن تلك الكلمات الطاعنة التي تفوه بها ابنها أمام أعينها، شعرت بوخزات حادة تطول صدرها المشتعل، فانسحبت خائنة الخطى للخارج بتأثرٍ، فوجدت أحمد يسرع إليها متسائلًا:
_ها يا فريدة فاقت؟
هزت رأسها نافية ومازال وجهها منغمس أرضًا بحالة جعلته يتساءل مجددًا:
_ مالك يا فريدة؟
رفعت عينيها الباكية إليه، ورددت:
_البنت صعبانه عليا أوي يا أحمد، منظرها يقطع القلب.
رفع احد حاجبيه باستنكارٍ، وكأنه يعلم حلمًا سخيفًا، عساه يتوهم هو الأخر، أراد أن يشن حملة جمله الماكرة والشامتة إليها، ولكنها لم تترك له المجال فانسحبت للاسفل قاصدة جناحها.
صفق أحمد كف بالأخر مرددًا بسخرية:
_مكدبش اللي قال إن المرأة صندوق أسرار مالوش قرار!!
*******
ذهق النهار ظلام الليل، فصدح منبه الهاتف ليزعج تلك الغافلة، فتحت شمس عينيها بانزعاجٍ فتفاجئت بعمران يضمها إليه ويبدأ هو الأخر بفتح عينيه بانزعاجٍ من صوت الهاتف، فقالت باستغرابٍ:
_هو أنا بتوهم ولا أيه، مش علي هو اللي كان نايم جنبي امبارح؟
أجابها وهي يحاول الاستقامة بجلسته:
_أنا طرقت علي ونمت مكانه، وهكررها كل ما تفضليه عليا يا واطية إنتِ أساسًا مبتعرفنيش غير وقت ما تتزنقي في فلوس، لإنك واثقة ومتأكدة إن ثروة العيلة البائسة دي ورأس مالها كله في ايدي أنا.
ضحكت وهي تتابعه وقالت:
_أمال أيه هو في حد في جنتالة عمران سالم!
ابتسم وهو يغمز لها:
_ثبتيني وأنا بتكيف من التثبيت!
دنت منه شمس بمكر وقالت:
_ومستعدة أديك حضن كبير كمان يا عموري بس على شرط.
زوى حاجبيه بدهشة:
_شرط أيه!
زحفت بجلستها تجاهه، تخبره ببسمة واسعة:
_تديني نفس الوعد اللي ادته لعلي يوم فرحه.
اعتلته الدهشة وصاح ساخرًا:
_مش لما اتنيل أنفذ وعد علي، ثم اني ادتله الوعد ده أيام الجامعة يعني في عز انحرافي دلوقتي أنا توبت وبقالي سنين مش بعزف ولا بغني!!
ربعت يديها أمام صدرها بحزن:
_كده ماشي يا عمران هتفضل ابن مرات أبويا وهتتعامل على هذا الاساس.
ذم شفتيه بسخط وتفوه:
_مستغلة.
أومأت برأسها بتأكيدٍ، فحك خده بتفكيرٍ ثم قال:
_طب بصي، أنا هجرب يوم حفلة علي أوفي بوعدي لو لسه متمكن زي زمان أوعدك يوم فرحك هغنيلك، لكن لو اتفضحت عذرًا مطلعش المسرح مرتين، ها قولتي أيه؟
ارتسمت بسمة واسعة وانزوت باحضانه بحبٍ:
_إن كان كده موافقة.
ضمها ببسمة هادئة وهمس لها بحب:
_ربنا يسعد قلبك يا حبيبتي، يلا هسيبك تستعدي للجامعة وهطلع الصالة.
تعجبت من سماعها ذلك وقالت:
_هتعمل أيه بالصالة الصبح كده مش إنت وقفت تلعب رياضة.
هز رأسه مؤكدًا وبرهن لها:
_الدكتورة مدياني تمارين بسيطة بعملها على غير ريق.
وتركها واستند على الحائط ليغادر، فلحقت به تسأله؛
_أساعدك.
استدار لها يشير:
_لا يا روح قلبي أنا عايز أحرك رجلي شوية.
منحته ابتسامة هادئة وراقبته حتى غادر من أمامها..
*******
رمشت بعينيها بخفة، وبدأت باستعادة وعيها، فشعرت بثقلٍ يفوق قدرتها الجسمانية، رمشت بعدم استيعاب ومازالت ذكراتها محتفظة ببقايا ما خاضته الآن، فاستعادت قوتها الهادرة ودفعت من يعلوها بكل طاقتها وهي تصرخ بفزع:
_إبعد عني.
أفاق علي من نومه، فابتسم حينما وجدها استعادة وعيها، فقال متلهفًا:
_الحمد لله إنك فوقتي يا حبيبتي أنا كنت هموت من القلق عليكي، طمنيني بقيتي أحسن؟
احتدت عينيها تجاهه وهي تراقب سيطرته على فراشها، واحتضانه لها، رفعت يدها تضم جسدها ونظراتها النافذة تحيطه، تابعها علي بنظراتٍ مرتعبة وقد صدق حدثه حينما خرج صوتها مهزوز:
_انت عملت فيا أيه؟
ابتلع ريقه بصوتٍ مسموع من فرط التوتر، وقال:
_معملتش حاجة يا فطيمة، إنتِ كنتِ منهارة وآآ…
قاطعته بصراخٍ قاتل ونهضت تكيل له اللكمات التي تلاقاها صدره بوجعٍ جسدي مؤلم، كأنها أمتلكت قوة ذكورية مخيفة، ومازالت تصرخ:
_كداب، كدااااب…. كلكم زي بعض.
ازداد رعب علي، وكل ما يخشاه أن يصيبها السوء وتعود لانتكاسة قد تهزم ما وصل له، فحاول احتضان وجهها بيده قائلًا بحنان:
_حبيبتي اهدي أنا مستحيل أذيكي، أنا نمت جنبك بس والله العظيم مقربتلك!
انهارت قوتها لفرط مجهودها المبذول ضده، فاستجابت للجلوس على الفراش قبالته، وكذلك جلس علي يلتقط أنفاسه ويده تضم صدره المتورم من فرط ضرباتها، فخرج صوته مبحوح من وسط أنفاسه اللاهثة:
_فطيمة أنا بحبك، ومش عايز منك حاجة غير إنك تبادلني نفس الحب.
رفعت عينيها له واندمست داخل رماديته لدقائقٍ، فوجدته ينهض عن الفراش بخطواتٍ غير متزنة، تحامل على الكومود وهو يخبرها:
_أنا هخرج وأسيبك… اهدي وارتاحي.
تابعت خطواته الغير منتظمة بنظرة نادمة، ما ذنبه أن يتلقى عاصفة غضبها الهادرة تجاه هؤلاء الذئاب، عادت لها صورتها وهي ترمي بكلتا يديها المتكورة الضربات إليه ولم يحاول حتى الدفاع عن نفسه حتى لا يلامس جسدها فتعود لارتعاشة جسدها من جديد.
ومن ثم قذفت إليها لقطات متفرقة لما اجتاحها بالأمس، وصولًا لوجوده جوارها وتوسلاتها بالا يتركها، ودمعاته الساخنة التي شعرت بها على خدها.
نهضت عن فراشها واتجهت بخطوات مترددة للباب الفاصل بين غرفته وغرفتها، تطلعت لمقبض الباب طويلًا تحاول أن تسترد ثباتها وتهدأ ارتجاف جسدها الهزيل، وحينما شعرت بأنها أفضل حررت المقبض وولجت تبحث عنه.
وجدته يقف أمام المرآة المطولة عاري الصدر، يضع المرهم على الاحمرار القاتل الذي أصاب أعلى صدره محدثة كدمات زرقاء وأخرى حمراء، سابقًا كانت ستقتل رعبًا إن رأته يقف أمامها هكذا ولكن ما أن رأت ما هي تسببت بفعله حتى اقتربت تناديه ببكاء:
_علي.
استدار ليتفاجئ بوجودها فارتعب من أن تسوء حالتها لرؤيته هكذا، فاستدار لفراشه يجذب قميصه يرتديه مسرعًا، وإتجه إليها فوجدها تردد بدموعها التي لا تفارقها:
_أنا آسفة.
منحها ابتسامة هادئة وقد نجح باغلاق أزرار قميصه ليخفي كدماته عن عينيها:
_أنا كويس يا فطيمة.. يا ريتها تيجي فيا وأنا مستعد أتحمل أضعاف كده عشر مرات ولا إنك تتمسي بأي سوء.
واقترب منها يقرب يديه بتردد منها، فوجدت يديه معلقة بالهواء على قرب منها، فتعلقت عينيها به تحاول معرفة ما يفعل فهمس لها ببسمة خافتة:
_تسمحيلي أقرب؟
منحته ابتسامة حزينة، يحبها حبًا جمًا، لم تجد منه يومًا سوى الاحترام، حتى الخصوصية يمنحها لها بصدر رحب، وفوق كل ذلك لا تترك له ذكرى طيبة، أومأت برأسها تسمح له بالقرب، فحاوط وجهها بيديه وابهاميه يتحركان ليزيحان دمعاتها معًا، وقال وعينيه تتعمق بالتطلع بها:
_أنا مش زي أي راجل عرفتيه يا فطيمة، أنا مختلف وهتشوفي ده بنفسك، كل اللي يهمني معاكِ إني أشوف ابتسامتك، صدقيني أنا جاهز أعيش معاكي العمر كله كتف بكتف حتى بدون علاقة بينا، لإن قلبك هو اللي يهمني يكون معايا.
رمشت بتوترٍ وابعدت عينيها عنه، فقال بابتسامة مشرقة:
_أنا طالبتلك هدية من المغرب هتعجبك جدًا، هروح مشوار على السريع كده وهرجع أستلم الاوردر، وانتِ خديلك شاور وافطري واقعدي هنا اقري الكتاب اللي تحبيه لحد ما أرجعلك.. اتفقنا؟
هزت رأسها ببسمة متحمسة:
_حاضر.
واستدارت تعود لغرفتها ولكنها توقفت والتفتت إليه، فوجدته يقف أمام خزانته يجذب بذلة من اللون الأسود، يضعها على الفراش ويستعد لتبديل ملابسه، فنادته على استحياء:
_علي.
استدار للخلف فتفاجئ بأنها مازالت تقف محلها، ضيق عينيه باستغراب وهو يراقب احمرار وجهها بشكلٍ أثار فضوله لمعرفة ما ستقول، فحررت كلماتها وهي تهم بالهروالة من أمامه:
_أنا بحبك.
وفور نطقها بتلك الكلمة اختفت من أمامه كهمس الرياح، اتسعت ابتسامة علي وبدى غير مستوعبًا لما قالته، بالأمس كان يظن أنه يتراجع بكل ما حققه لعلاج حالتها والآن يحرز نقطة ايجابية ستكون بالصميم، وبالرغم من مغادرتها الا أنه همس وهو يراقب مكانها الفارغ كأنها تترك قرينتها من خلفها لتنقل كلماته:
_وأنا بعشقك يا فاطمة.
*********
مضت ليلها دون أن يزورها النوم، وما أن دقت ساعتها بالعاشرة صباحًا حتى ابدلت ثيابها واتجهت لغرفتها.
وقفت فريدة أمام باب غرفة فطيمة تتردد بالطرق، ولكنها انصاعت لقلبها ولمشاعرها النيلة وطرقت الباب، فاتاها صوتها الخافت:
_ادخلي يا مايا.
ولجت فريدة للداخل فوجدتها تجلس على سجادة الصلاة وتحمل المصحف بين يدها، فقالت:
_عاملة أيه النهاردة، أحسن؟
شخصت عينيها بالفراغ ورفعتها بصعوبة لتراقب صاحبة الصوت، هامسة بعدم تصديق:
_فريدة هانم!!
*******
سئم انتظاره ومازال يتساءل أين ذهب بهذا الصباح؟!
هاتف شمس وأخبرته بأنه استيقظ منذ ساعتين وأخبرها بصعوده للصالة الرياضية، صعد علي للاعلى وهو يتساءل باستغراب عن تواجده بالاعلى، اقتحم الصالة فوجده يجلس على المقعد يتجرع المياه والعرق يتصبب على انحاء جسده وكأنه كان يحارب منذ قليل.
دنى منه متسائلًا بدهشة:
_هو في أيه مخليك بقالك يومين نايم قايم هنا!
وضع زجاجة المياه وجذب المنشفة يزيح عرقه الغزير:
_بهون عن عضلة ايدي اللمين بدل ما تنخ زي اختها.
منحه نظرة مطولة شملته، وانهاها برفع يده قائلًا بغموض:
_تعالى أوديك أوضتك تغير هدومك، عايزك معايا عند راكان هنعزمه على الحفلة ونخدها حجه نشوف قصة سي آدهم ده، أنا مش مطمن لحكايته مع شمس.
استند على ذراع أخيه، وقال بضجر:
_لازم يعني أجي معاك ما تروح لوحدك ولا عاجبك وأنا ماشي متسند كده شبه المُسنين!
ردد ساخرًا:
_ومكنتش شبه المسنين وإنت مسند على جمال ويوسف عشان تروح تبلطج على خلق الله ولا الصحة هنا خلقها ضيق.
منحه نظرة ساخطة وارتكن عليه بقوة مبالغ بها، حتى وصلوا معًا لغرفته، فمال به علي للفراش وسقط من جواره يردد بتعبٍ مفاجئ اقتحمه فجعله يضم يده لصدره، فمال إليه عمران يصرخ بذعرٍ:
_مالك يا علي؟!
رد باحتقان يذبح صدره:
_آآه.. مش قادر يا عمران… هموت.
تسارعت أنفاس عمران كأنه هو من يتعرض لذاك الوجع القاتل، فردد بصوت أشبه للبكاء:
_حاسس بأيه؟ هتصل بدكتور حالًا.
هز رأسه نافيًا وازاح جرفاته باختناق بعدما انفجر بنوبة من السعال انتابها اشارة ضعيفة:
_ميه عايز ميه.
هز رأسه بلهفة وأسرع للبراد الصغير يجذب زجاجة من المياه ثم هرع لأخيه، يقدم له الزجاجة التي جذبها علي ليضعها على الكومود واستكان بجلسته يتطلع للفراغ بنصف عين، ليفاجئ من يقف أمامه بلكمة قوية أطاحته أرضًا، فانقض من فوقه يكيل له اللكمات وهو يصرخ بعصبية بالغة:
_بتخدعنا يا حيوان، ده أنا كنت هموت من الخوف عليك وإنت مقضهالي في الجيم!!
حاول عمران تفادي لكماته هاتفًا بضحك:
_أه يا خاين، تستاهل أوسكار في التمثيل يا دكتور علي لا صايع أوي وأنا اللي رايح جاي أقول أخويا علي ده متربى ألف مرة!!
نالته لكمة هادرة اطاحت جانب وجهه وهو يصيح بانفعال:
_أمال إنت تبقى أيه في التمثيل يا حقير، ده أنا قلبي اتخلع عليك وسبت شغلي وقعدت جنبك وإنت بتسظرف!! عملت كده ليه يا وقح؟
رد من بين لهاث أنفاسه:
_عشان مايا تكون جنبي وعلاقتنا تتحسن بدل ما هي متشعبطة بين السما والارض، وعلشان كمان أخلع من نكد فريدة هانم يا ابني دي كانت مطلعة عيني في الكام ساعة اللي بجيهم هنا ما بالك لما تلاقيني رايح جاي على البيت عشان مايا مكنتش هتسبني في حالي يا علي!
وتابع بمكر:
_وبعدين إنت مش كان نفسك علاقتي بيها تتحسن أهي اتحسنت وهدخل عرين الزوجية يوم فرحك يا غالي، وكلها كام شهر وأجبلك بيبهات صغيرة تتعلق في رجليك في الرايحة والجاية، مستكتر على أخوك ينحرف مع حلاله يا علي اخص عليك.
تحررت يديه عنه وعاونه على الوقوف قبالته، ثم قال بضيق:
_وملقتش طريقة تانية غير دي يعني؟
ضحك وهو يخبره بسخرية:
_جربت كل حاجة، خبرتي اللي اكتسبتها من علاقتي الواطية منفعتش مع بنت خالتك مكنش قدامي غير كده ولازم تمسك نفسك لحد ما أنول المراد.
تأفف بغضب، فتابع الاخير مبتسمًا:
_بس صدقني أنا ايدي ورجلي فضلوا تقال بعد ما خرجت من المستشفى بعدها ابتديت احس أني كل ما بقف وبتحرك كتير بحركهم عادي..
كاد بأن يتحدث فاوقفه اندفاع باب الغرفة وظهور أحمد أمامهما يخبرهما بلهفة:
_محدش هيصدق اللي حصل امبارح واللي بيحصل دلوقتي!
استدار عمران قبالته يخمن بوقاحة:
_ضربت ورقة عرفي إنت وفريدة هانم!!
تجاهله أحمد بسخط وقال لعلي:
_والدتك فريدة هانم أخدت بنفسها الفطار وطلعت بيه لفطيمة!
يتبع…
سماحة الوجه والسيرة الطيبة المتروكة بين الناس قد تكون أحيانًا مصطنعة، قد يبدو لك بأن ذاك الشخص ما هو الا صورة مصغرة لملاك يمتلك جناحين مجهولين، فيصدمك الأمر حينما يلدغك فتشعر وكأن الأرض تدور بك استعدادًا للقيامة القريبة، ليتك تعلم بأن أحيانًا أصحاب الوجوه العابثة والقلوب التي تبدو متحجرة تخفي من خلفها لونها الابيض الناصع!
تبدد كل شيءٍ حملته داخلها تجاه تلك الفتاة حينما رأت ما تعرضت له بالأمس، بكائها، تشنجات جسدها، انتفاضتها المرعبة كل شيءٍ أثار داخلها الشفقة تجاهها، وها هي اليوم تخطو لغرفتها ومن خلفها الخادمة التي تدفع طاولة الطعام بينما تتقدمها بخطواتٍ آنيقة تدرس بعالم الطبقة المخملية من ضمن القواعد المتبعة لفتيات الطبقات العليا.
مازال كل ما تعلمته من الصغر يلزمها، حتى حركاتها، وقفت فريدة تتطلع لها بنظرة هادئة تترقب خروج الخادمة بعدما تركت يدها عن دفع الطاولة، ومع انغلاق الباب رددت بهدوء:
_أحسن النهاردة ولا لسه تعبانه؟
تلك الصدمة كانت تفوق حد تلك الهزيلة التي تحاول استيعاب ما يحدث هنا، وجود فريدة ذاته يُصدمها ناهيك عن سؤالها عن صحتها وحملها للطعام خصيصًا لغرفتها!
التقطت عينيها نظرة فطيمة المعلقة بالطاولة، فقالت بارتباكٍ ظاهري:
_أنا قولت إنك أكيد لسه تعبانه ومش هتقدري تنزلي تفطري معانا، فخليت الخدم يحضرولك الفطار هنا عشان ترتاحي أكتر.
وعادت لسؤالها من جديد باهتمامٍ:
_إنتِ كويسة؟
ازدردت لعابها تروي حلقها القاحل، وبصعوبة رددت:
_الحمد لله.
وعلى استحياءٍ قالت:
_مكنش له داعي تعذبي نفسك أنا كنت هنزل عادي أفطر تحت، أنا متعودة على النوبات دي وبتعايش معاها لإنها بقت جزء من حياتي وآآ..
بترت كلماتها تتوسل للأرض أن تنشق وتبتلعها من تلك المواجهة الغريبة، تراجع جسد فاطمة للخلف تلقائيًا حينما استمعت صوت حذائها يقترب منها طابعًا بالأرض بقوةٍ يتردد صداها لمسمع الأخرى، فوقفت قبالتها لا يفصلهما الكثير، وبخفة رفعت ذقنها لتواجه نظرات فريدة الهادئة، والاخيرة ترفرف باهدابها بحيرةٍ وعدم استيعاب لما يحدث معها، فتحررت نبرتها الرزينة تخبرها:
_أنا حاسة بيكِ يا فاطمة، لإني عشت نفس الحالة اللي إنتِ بتعيشها دي قبل كده في فترة من حياتي، بس الفرق الوحيد إن اللي حصلك كان غصب عنك لكن اللي كان بيحصل كان بارادتي ومنسوبلي بأنه زواج ويحل له إنه يعمل أي شيء، كنت بستسلم وأنا جوايا أنثى بتعافر وبتصرخ وبتتمنى إن الأنثى الشرسة اللي جواها تعبر عن نفسها وتقول لأ بس كانت مجبرة.
اتسعت مقلتيها بصدمة لما تستمع له الآن، بينما سحبت فريدة كفها الرقيق عن ذقن فاطمة، وتراجعت خطوتين للخلف تضم ذاتها بذراعيها المستكينه أمام صدرها، تختفي من أمام أعينها حتى لا ترى دلائل انكسارها، صوتها المحتقن من أثر سيطرتها على البكاء هو الذي يصل لها:
_أنا قضيت أسوء عشر سنين في حياتي كلها، قتلت فيهم كل شيء حلو جوايا، كنت أغلب الوقت بشوف نفسي ست مغتصبة حقها مهدور وكرامتها متهانة وأوقات تانية كنت بشوف نفسي ست خاينة مع زوجها بجسمها وروحها وقلبها مع حد تاني.
رفعت إصبعها تزيح تلك الدمعة الطاعنة لكبريائها، واستدارت تواجه تلك التي تراقبها بصدمة لتخبرها ببسمة مصطنعة:
_وكان بينتهي بيا الحال بنفس اللي كان بيحصلك ده، كوابيس بشعة وصراع نفسي مميت كان خاطف مني نومي ومخليني عايش كل نفس بعاني، وبخوض عجز من نوع تاني.. التبرير! كنت بدور على مبرر قوي أوضح فيه لسالم جوزي سبب التشنجات الغريبة اللي كنت بعانيها كل يوم، كنت بكتم جوايا قصة حبي الكبير.
كانت مشتتة تحاول فهم مغزى حديثها الغامض، وعلى ما بدى لها من فك الشفرات بأن فريدة سبق لها الوقوع بالحب والاجبار بالزواج بأخر، فضربتها في مقتلٍ حينما قالت ببسمة شملت الألم:
_أحمد… عم علي.
برقت بعينيها بدهشة، فقالت وقد خانتها دموعها لتظهر بانكسار لم يسبق لها خوضه أمام احدى بناتها:
_وعيت على وش الدنيا لقيت قلبي بيختاره من بين كل رجالة العيلة، أحمد كان حب عمري وروحي كانت متعلقة بيه، مكنتش بقدر أنام غير وأنا شايفة عربيته مركونة تحت شباك أوضتي، كل نفس كان خارج مني كنت بحس إنه بيشاركني فيه، حبي ليه وصل لمرحلة مخيفة لدرجة إني بقيت بسأل نفسي يا ترى لو حصل واتفرقنا في يوم من الأيام هعيش ازاي؟
وانهمرت دموعها وهي تحتضن صدرها بمحل قلبها الغافل بعنف عن سقوطها لتذكر ذاك الألم:
_وحصل واتفرقنا وحب عمري اتخلى عني، فبديهي أني كنت اتعرض للحالة اللي شوفتها فيكِ بعيني، رجعتني لايام مكنتش عايزة أفتكرها يا فاطمة، أيام كانت روحي بتعاني وجسمي سليم، كان قلبي فيها مكشوف وبيتعرض كل يوم لضربة ومفيش حد شايف ولا سامع ولا حاسس بيا.
زار الدمع عين فاطيما وهي تستمع لها بتأثرٍ، هي الوحيدة التي تفهم مغزى تلك الكلمات، نعم هي لا تعلم ما الذي دفع أحمد للتخلى عنها واجبارها على الزواج بأخيه ولكنها تشعر بآلامها الكبير بتلك اللحظة، تشعر بها وبئس ذاك الأمر!
استدارت فريدة عنها تزيح دموعها بقسوة كادت باضرام جلد وجهها الرقيق، وعملت على تنظيم مجرى تنفسها العنيف حتى هدأت تمامًا، فاتجهت إليها تخبرها بعد مدة من صمتها:
_بصي يا فاطيما أنا عارفة إن العلاقة ما بينا كانت سخيفة جدًا، بس إنتِ لازم تعرفي إن غصب عني لازم أخاف على ابني، عمران سبق وحب ووقف قدامي نفس وقفة علي واتحداني ونهايتها كانت أيه؟
عادت تجيب على سؤالها المطروح:
_سميته ودمرت حياته وطلعت زي ما أنا ظنيت كانت طمعانة بفلوسه! أنا اتعودت أحارب علشان اولادي اللي خرجت بيهم من رحلة عذابي التعيسة دي، أنا بعتبرهم هما الشيء الكويس اللي خرجت بيه من جوازتي المؤلمة، فعشان كده مستسلمتش وحاربت مع عمران لحد ما ابتدى يرجع لوعيه ويتقبل مايسان في حياته اللي الحمد لله رجعت تتعدل تاني.
واستطردت توضح لها سبب العداء الغريب التي تواجهه منها:
_عشان كده قسيت عليكي وعلى علي، وبتمنى من كل قلبي تطلع ظنوني فيكِ غلط، بعد اللي حصل امبارح شوفت تعلق علي بيكِ وتعلقك بيه، سمعتك وانتي بتستنجدي بيه!
وبدموع تجمعت بمقلتيها مجددًا قالت:
_شوفت نفسي فيكِ لما كنت بتمنى كل يوم بقضيه مع جوزي إن أحمد يرجع ويخلصني من عذابي، بس الحقيقة كله كان وهم، بالنهاية كنت بصحى وبلاقي سالم هو اللي جنبي مش أحمد، كنت بكمل يومي وبرسم الضحكة على وشي وأنا قلبي بينزف، عشان كده أنا قررت ابني ميعش نفس اللي عشته لو اتفرق عنك، وبتمنى ميكنش قراري الغريب ده غلط فأنا هديكي فرصة يا فاطيما تصلحي نظرتي ليكي، ومن فضلك متخذلنيش وتحافظي على ابني لانه أغلي من روحي ومن حياتي.
وببكاء مزق قلبها إربًا قالت:.
_علي ده حبيب عيوني وقلبي وروحي وكل شيء بمتلكه، آآ… أنا بستقوى بيه بحس إنه أبويا مش ابني، بتدارى فيه من همومي ومشاكلي وكل شيء بعيشه، بحاول بقدر الامكان أبان قدامه أني قوية ومش محتاجاله هو اللي محتاجالي بس الحقيقة إني ضعيفة من غيره وبحتاج لحضنه استقوى بيه، علي هو العوض ليا، بالرغم من إن الفرق بينه وبين اخواته سنين بسيطة بس هو اللي كان بيساعدني في تربيتهم كنت دايمًا بشكيله همومي وهو بيسمعني عمره ما ذهق مني أبدًا.
وابتسمت فجأة وهي تخبرها:
_مستغربتش أنه دخل طب تخصص الامراض النفسية لانه شخص صبور وبيحب يسمع اللي قدامه ويديه النصيحة اللي تفيده، كان نفسي أقوله يعالجني أنا من اللي شوفته يمكن وقتها أبطل أروح في السر لدكتوري النفسي اللي بتعالج عنده من سنين بس خوفت يكره أبوه!
من قال إنها الوحيدة التي قاسمت الألم، فبعد سماعها لما خاضته فريدة تقسم بأن العالم لا يخلو من جرعات الأوجاع القاتلة، بداخلها أنثى تصرخ بل تستغيث، وراء ذاك الوجه الجامد هناك أنثى انكسر كبريائها وتلاشت ضحكاتها، توارت خلف ظلام مميت قاتل، أزاحت فريدة دموعها وصرخت بغضب جعل فاطمة مندهشة:
_مش هسامحك على الدموع دي، أنا مش بحب النكد ولا الحزن وشي هيكرمش بسببك!!
ورفعت اصبعها تحذرها بجدية قاتلة:
_أول قاعدة من قوانين فريدة هانم الغرباوي ممنوع تنكدي عليا أو تقوليلي اي شيء حزين يخليني أنكي وأجهد بشرتي لأي سبب من الأسباب، مفهوم؟؟
اغتصبت ابتسامة خافتة على شفتيها وأومأت برأسها عدة مرات، فمنحتها ابتسامة صغيرة، وفرقت ذراعيها عن بعضهما وهي تشير لها:
_تعالي.
اتسعت نظراتها صدمة وهي تتطلع لها بعدم تصديق، فأرغمت قدميها على التحرك بصعوبة حتى وصلت قبالتها، فضمتها فريدة لاحضانها بقوةٍ تربت على خصرها بحنان وكأنها تواسيها عما خاضته وعاشته بتلك التجربة القاتلة.
ارتعش جسد فاطمة حينما شعرت بهالة من الدفء والحنان المشابه لضمة والدتها الراحلة، فرفعت يدها تتعلق بها كالغريق المتعلق بقشة نجاته، انكسر قلب فريدة وهي تشعر بانتفاضتها بين ذراعيها فشددت أكثر من احتوائها مرددة بتلقائية منها دون الاستيعاب لما تنطق به:
_متزعليش يا حبيبتي، اللي فات انتهى مش هيتعاد تاني وانتي هنا بينا، محدش هيقربلك أبدًا.. آآ… أنا هنا جانبك!!
أفرغت كل ما بداخلها من خزين البكاء على كتف فريدة التي تحاول أن تهدهدها كأنها صغيرتها الباكية، تستمد كل قوتها لتبدو أكثر حذرًا بالتعامل مع حالة فطيمة المشابهة لحالتها سابقًا في فترة زواجها، كأنها ترى نسختها سجينة هذا القصر منذ أعوام، تغرقها بحنانٍ كانت تود لأحد أن يفيضها به سابقًا.
تحرر باب الغرفة وتسلل للداخل علي وعمران ويتبعهما أحمد ومايسان التي علمت منهم بالخارج بما يحدث، فظنوا بأنها قد تضع السم لها بالطعام كمحاولة للتخلص من فاطمة، ومنهم من ظنها ستقوم بطردها عاجلًا بعد نوبة الازعاج التي أيقظت القصر بأكمله بالأمس، فزاغت أبصارهم صدمة مما يُرى أمامهم، فانفتحت الأفواه وتلبسهم الصمت والنظرات المستنكرة لما يحدث هنا، حتى شقهم صوت عمران المازح:
_أنا بحلم أم أتوهم أم الاتنين في بعض؟
أجابه أحمد بدهشة:
_ممكن نكون دخلنا أوضة غلط!
أجابتهما مايا وهي تبتلع ريقها ببطءٍ:
_لأ يا أنكل هي الأوضة.
تساءل علي باستغراب:
_طب في أيه بقى!
ردد عمران ومازالت عينيها تتسعان صدمة:
_دي عمرها ما حضنتني الحضن ده! مش بقولكم أنا محتاج اعملDNA للعيلة دي!!
تحرك علي إليهما فكانت فريدة أول ما تمكنت من رؤيته، فاستعابت بما يحدث الآن وبوجود الجميع بالغرفة، لذا أبعدتها عنها وهي تستعيد قوة شخصيتها المبالغ بها، قائلة بارتباك:
_علي… آآ.. كويس إنك جيت… قولها إني مبحبش النكد أنا ندمت إني طالعتلها مش معقول التعاسة اللي عيشتني فيهم الكام دقيقة دول.
ورددت وهي تخطف نظرة لأحمد ولابنها وزوجته:
_ثم إنكم بتعملوا ايه هنا، إنتوا ناسين انا الحفلة بكره وورانا تجهيزات كتيرة ولا سايبن كل شيء عليا زي كل مرة، لكن لأ أنا معنديش القدرة أنظم كل شيء لوحدي ومش هسمح بالتسيب ده..
وتحركت بالخروج أو بالفرار من منطق أخر متمتمة بسخط:
_بكره جايلنا ناس من كبار الطبقة الآرستقراطية لازم كل حاجة تكون برفكت والا هنكون مهزلة قدامهم، لازم أتمم على كل شيء بنفسي!
وقبل أن تختفي من أمامهم قالت:
_تقدر تفطر مع مراتك النهاردة يا علي، لكن الباقي لو منزلوش على المعاد مفيش فطار ليهم النهاردة مفهوم!
واحتفت من أمامهم كنسمة عابرة اختطفت الهواء من أنفاسهم، فقال عمران بصدمة:
_مين دي؟!
أدلى احمد بشفيته بحيرة:
_بحاول أركز معاها بس لقتني بتعب في النص، فريدة أمك زي الفرس الجامح لو مكنتش خيال متقدرش تصمد لوقت طويل، ودي بداية غير مبشرة بالمرة للي أنا داخل عليه يا ابني!
منحه نظرة ساخرة ثم قال:
_طيب يلا يابو حميد نلحق الأكل بدل ما نفضل طول اليوم على لحم بطننا!
خرج الجميع وتبقى علي قبالتها، يتأملها وهي تمسح دموعها بخجلٍ، فما أن استكانت حتى قال بفضولٍ:
_العداوة راحت فين؟
رفعت كتفيها تجيبه ببراءة:
_معرفش! بس فريدة هانم طلعت طيبة أوي يا علي، أنا فرحانه اوي إنها ادتني فرصة وشكلي ظلمتها ومعرفتهاش كويس.
ابتسم وهو يراقب تلك الابتسامة التي خفق قلبه بعنف لها، وأشار للطاولة التي تحمل الطعام قائلًا بحنان:
_حبيبتي متشغليش بالك بأي شيء واقعدي افطري وخدي أدويتك.. أنا عندي ثقة إن طيبتك وقلبك الأبيض هيلين الحجر قدامك مش بس فريدة هانم اللي هتلين!
وسكن بعينيه حضن عينيها الساحرة، هامسًا بصوته المنخفض المغري:
_عقبال ما قلبك يلين بحبي وتتقبلي قربي وتحبي حضني، على فكرة ماما وشمس بيقولولي إن حضني حلو ودافي تجربي؟
ارتبكت بوقفتها أمامه، فاسرعت للمقعد المقابل لطاولة الطعام تلهي ذاتها بإلتهام كل ما تتلقفه يدها، فتابعها بتسلية ورماديته المهلكة لا تترك لها المجال للهروب، فإتجه إليها وانحنى يلتقط بفمه الخبز المغموس بالجبن قبل أن تقذفه لفمها، مرددًا بتلذذٍ:
_أممم، طعمه لذيذ ومختلف! مع أني سبق وأكلت من الجبنة دي كتير، غريبة؟
وأشار لها بخبث:
_هاتي حتة كده كمان.
توترت من قربه الشديد منها، ومع ذلك مزقت الخبز وغمسته بالجبن ثم قربتها من يده ففجائها مجددًا حينما انحنى يلتقطها بفمه، مشيرًا باستمتاعٍ:
_واضح كده إن الأكل من إيدك هو اللي بيحلي الأكل، وشكلي كده والعلم لله هتعود إنك تأكليني أو تتبنيني..
واقترب برأسه من رأسها متسائلًا بمكرٍ:
_موافقة تتبني طفل عنده ٢٧سنة ، ميت في دباديبك وطمعان في قلبك يا بنت الناس؟
يتعمد اللعب على مشاعرها وللعجب ينجح بذلك، ذلك الطبيب الماكر يعلم الوقت المناسب ليستخدم أسلحته باستهداف عاطفتها، ويعلم متى يتراجع ويمنحها حصارها الآمن، إن كان شخصًا عاديًا لكان يقع بالمحظور وتهشمت العلاقة بينهما منذ أول لحظة، ولكنه ذكيًا يستخدم كل مهاراته الطبية ليعيد لقلبها عذريته المنتهكة!
خرجت من تلك الغوغاء قائلة بتلعثمٍ:
_هو… آآ… مش إنت قولتلي.. آآ.. إنك هتجبلي هدية وبتستنى وصولها، هي فين؟
يعلم بمحاولتها بالفرار من هالته ولم يمنعها أبدًا، فاستقام بوقفته يجيبها:
_لسه ساعة وتوصل، هسيبك أنا تكملي فطارك وهخرج مشوار على السريع كده.
واتجه ليغادر وعينيها لا تتركه، فجذب باب غرفتها ليغلقه، ومنحها نظرة أخيرة وهمسة دافئة:
_متنسيش أدويتك يا حبيبتي.
ابتسمت وهي تراقب أثره ورددت لذاتها:
_أهو إنت اللي حبيبي!
*******
بالأسفل..
اجتمعوا على مائدة الافطار ولم يجرأ أحدٌ على التحدث، الصمت مطبق على الجميع بما فيهم شمس الشاردة بآدهم الذي ابتعد عنها بالفترة الماضية، بعد أخر لقاء بينهما وتحذيره الصريح لها بالابتعاد عن راكان، فكانت تصد كل محاولة يقوم بها للقائها.
عبثت مايا بطبقها وهي تتحاشي التطلع لعمران الذي جدد وعده لها بالحصول عليها بالغد، لتجمعهما غرفة واحدة، وها هو يعيد همسه الوقح مجددًا:
_النهاردة أخر يوم هتكوني فيه لوحدك، من بكره هتنوري أوضتنا يا عروسة!
ارتبكت بنظراتها وتجاهه، وراقبت علي الذي دنى منه ينحنى إليه هامسًا:
_خليك وأنا هروح لراكان لوحدي.
أشار له بصدرٍ رحب وعاد يغمز لتلك التي تراقبه بفضولٍ لسماع ما يحدث بينهما.
********
انتهى من تنظيف الأطباق، بعدما كاد بإسقاط أخر طبق قام بجليه، فنزع يوسف عنه مريال المطبخ، ثم حمل الصينية المستديرة وخرج بها لغرفة أخيه، وضعها على الفراش وحركه بخفة:
_سيف، قوم هتتأخر على الجامعة.
فتح عينيه وهو يردد بنعاسٍ:
_سبني شوية يا يوسف، أنا تعبان.
لوى شفتيه بسخطٍ:
_تعبان من سحلة الواد الحقير ليك ولا عندك دور برد؟
تنهد بيأسٍ من الافلات من تلك الذلة التي أمسكها أخيه عليه، وجلس باستقامة يصيح بضجر:
_ما خلاص يا عم هتمسكهالي ذلة!
منحه نظرة منفرة وكأنه عدوى ستنتقل إليه:
_بقى دي أخرتها يا حقير، سايب شغلي وجاي أعملك فطار وأروقلك الشقة وأخرتها تكلمني بالأسلوب ده! لأ بقولك أيه أنا ممكن أقلب في لحظة وأسيبك كده محتاس مع نفسك لا منك هتذاكر ولا منك تنضف مطرحك المعفن ده يا حقير.
صفق كف بالأخر:
_هيقولي تاني حقير، أعمل فيه أيه ده!!
وصاح بانفعالٍ وكأنه يذاكر دروسه:
_بالنسبة لتعليمات عمران الوقح تمشي عليك بردو ولا أيه النظام؟
نفى ما يجول بخاطره:
_على العدو الدخيل مش خدامتك الفلبنية اللي بتخدم أبوك.
كبت ضحكاته وهز رأسه قائلًا:
_اقتنعت!
أعاد فرد قميصه وهو يستعيد تناسق ملابسه للرحيل، فوقف امام المرآة يصفف شعره الغير مرتب، متابعًا أخيه بالمرآة وهو يتابع تناول طعامه، فسأله بنبرة حنونة:
_لو الأومليت عجبك في جوه لسه أجبلك كمان؟
أشار له بحرجٍ، فاتجه للمطبخ وعاد بطبقٍ أخر ومرر يده على خصلات أخيه المبعثرة:
_ألف هنا على قلبك يا حبيبي.
منحه ابتسامة هادئة وعاد يلتهم الطعام بشهيةٍ، فجذب يوسف جاكيته وحقيبته وقال:
_سيف أنا هنزل عشان متأخرش، سبتلك على مكتبك مبلغ بسيط كده تدلع بيه نفسك بره الحساب اللي بابا بيبعتهولك، ومتعرفهوش أني بديلك حاجة ليخصمهم من مصروفك.
ابتسم وهو يشكره بامتنان:
_منحرمش منك يا جو،أنا فعلا كنت محتاج أشتري شوية هدوم كده لزوم الجامعة.
بادله الابتسامة بأخرى أكثر جاذبية:
_انزل واشتري اللي نفسك فيه كله ولو محتاج حاجة متترددش تكلمني.
وأشار بيده وهو يغادر:
_سلام مؤقت.. خلي بالك من نفسك.
هز رأسه بحبٍ، فغادر يوسف وتركه يستكمل طعامه باستمتاعٍ.
******
وصل علي لمنزل راكان، فاستقبله الخادم بترحابٍ وحينما أبلغ سيده بوصوله أوصاه أن يتجه به لمكتبه الشخصي، فإتجه علي للغرفة الجانبية الغافلة بنهاية زواق ضخم متفرع، ولج للداخل فوجده يعمل على أوراق يوضعها آدهم من أمامه ويترقب أن يوقع عليها، وما أن رآه حتى ردد بفرحة:
_دكتور علي، مش معقول جاي لحد هنا بنفسك!
قابل يده يصافحه، قائلًا بابتسامة هادئة:
_جايلك أعزمك على فرحي بكره، شوفت الحظ؟
ترك الملف وردد باهتمام بالغ:
_يبقى الكلام اللي سمعته مظبوط وإنت فعلا كتبت كتابك؟
أكد له وعينيه لا تحيل عن آدهم الذي يتابعهما بثبات وصلابة قاتلة:
_أيوه مظبوط، والدليل إني جيتلك بنفسي أعزمك على الحفلة، عقبال حفلتك إنت وشمس ووقتها هوزع كروت الدعوات بنفسي.
تجمدت تعابير آدهم وباتت أكثر صلابة، على الرغم من احمرار مقلتيه بصورةٍ كانت ملحوظة لرماديته الثاقبة، فحاول الحفاظ على مجرى الحديث المتبادل بينه وبين راكان وعينيه لا تفارق آدهم تحاول اكتشاف المخبئ خلفه، وفور انتهائه من ذاك اللقاء الروتيني وقف يستأذنه بالانصراف قائلًا:
_هسيبك تكمل شغلك متتأخرش بكره.
هز رأسه بتأكيد، وجامله بترحاب:
_من الفجر هتلاقيني عندك، عندي فضول أكيد أتعرف على اللي سرقت قلب دكتور علي سالم الغرباوي.
اكتفى برسم ابتسامة صغيرة ومازال يمنح آدهم نظرة غامضة جعلت الآخر يحلل مغزاها، فقدم لهما راكان فرصة ذهبية حينما قال:
_مع الدكتور علي يا آدهم وصله.
هز رأسه بخفة وتقدم علي يشير له بتتابعه باحترام، فما أن ابتعدا عن مرمى بصر راكان وتوقف أمام البوابة قبالة سيارته بالتحديد، حتى قال بنظرة غامضة:
_لو مكنش راكان طالبك توصلني كنت هتحجج بأي شيء عشان أتكلم معاك.
منحه بسمة ثابتة وأزاح نظارته السوداء عن عينيه:
_ولو مكتتش طلبت ده كنت خرجت وراك من نفسي، نظراتك وطريقتك جوه كانت مضمونها إنك جاي هنا علشاني أنا مش لراكان.
ابتسم وهو يرفع حاجبه:
_ذكي وخبيث يا آدهم.
وتساءل بغموضٍ:
_ويا ترى عرفت كمان من نظراتي أنا هنا ليه؟
أكد له بإيماءة من رأسه، وقال بخشونة:
_عارف وبتمنى تأجل أي كلام بالموضوع ده بالفترة الحالية، بس اللي أقدر أقولهولك إن الكلام اللي وصلك صح، أنا بحب شمس ومستحيل هتخلى عنها، خصوصًا إنه مش مناسب ليها ونهايته خلاص قربت.
اتضحت شكوك علي بكلماته المقتضبة، ومع ذلك حافظ على تصلب معالمه، ففتح باب سيارته وقبل أن يحتلها قال بصلابة:
_ولحد ما وقتك المناسب يجي وتقعد قدامي تحكيلي كل شيء خليك بعيد عن أختي، وده أمر مش تحذير، أنا مقدر سكوتك وشكوكي حاليًا مش هتقدر تكون الصورة المطلوبة عنك، عشان كده خليك بعيد أفضلك.
أشار له بتفهم، بالنهاية أي شخصًا محله يحق له القلق بشأن شقيقته، الموضوع بأكمله مقلق، فأغلق باب سيارته منحيًا بقامته وجذعيه الضخم:
_متقلقش يا دكتور أنا عارف حدودي كويس، وبتعامل مع شمس هانم بحذر لحد ما يحصل اللي بتمناه وقتها هتلقيني في بيتك بطالبها زوجة ليا وقبلها هكشفلك هويتي!
منحه نظرة عميقة ذات مغزى وكلمة واحدة تتحرر على لسانه:
_مستنيك يا حضرة الظابط!
وانطلق بسيارته تاركًا البسمة تغرد على وجهه، فدث يديه بجيوب سرواله مطلقًا صفيرًا مستمتعًا لقرب هدفه، ها قد اقترب ليصل لأميرته، خطوة واحدة ينتهي من ذاك اللعين ويطالبها لنفسه فتصبح زوجته، حينها سيكشف لها عن حبه العميق المحفور داخل قلبه لها، تلك التي اختطفت عقله من نظرة واحدة جمعتهما معًا، وكأنها حورية هاربة للتو ومنحته الآذن باختطفها من معذبها القاسٍ.
مزق لذته القصيرة صوت فؤاد الهامس:
_وبعدين يا باشا، معاد التسليم قرب والفلاشة لسه معاك موصلتش للجهاز وفوق كل ده موصلناش للملف!!
أطلق زفرة قوية ومنحه نظرة صارمة جعلت الاخير يرتبك بوقفته:
_أنا قولت حاجة غلط؟!
مرر آدهم يده بين خصلاته الطويلة يحررها عن ثباتها لتستجيب لنسمات الهواء فتتحرر على عينيه، فاستدار يوليه ظهره هادرًا من بين أنفاسه العنيفة:
_قولتلك دي لعبتي أنا، الفلاشة بكره هيستلمها الشخص الجدير بيها وهتوصل مصر قبل معاد التسليم، فكر في الملف لإنه الأهم دلوقتي، كل يوم بنقضيه هنا الخطر بيزيد!
*******
حركت مقعدها الهزار بحركة هادئة وعينيها مغلقة بقوةٍ، تحارب تلك الافكار التي تهاجمها وأساسها سؤال يلح عليها
«هل ستتمكن من منحه فرصة التقرب منها؟ وبماذا ستشعر بعدها؟ ماذا لو طعنت بألم الخيانة من جديد!»
مسدت فريدة فروة رأسها بإرهاقٍ، ولا تنكر بأن الخوف من الغد صار شيطان يتلبسها، ما أخفته طويلًا سيكشف غد أمام محبوب طفولتها، لا ترغب بأن يراها أحدًا ضعيفة فماذا إن كان هو؟
ولكن لا بأس عليها بالمحاولة ربما تتمكن من قمع كل ذلك خلفها وتمضي معه من جديد، هذا ما توده وتتمناه بكل رغبتها، فمازال قلبها يعشقه ولم ينتقص حبه شيئًا داخلها بل زاد للنخاع!
******
طرق علي على باب غرفتها طرقتان متتاليتان قبل أن يدخل بالطرد الضخم الذي يحمله، وناداها بلهفةٍ:
_فطيمة. أنا آ…
ابتلع جملته داخل جوفه حينما وجدها تقف قبالة خزانتها وعلى ما يبدو بأنها كانت تبدل ثيابها، فكانت تقف قبالته بقميص من الستان الأسود قصير بعض الشيء، ويدها تمسك جلباب طويل أبيص كانت سترتديه قبل أن تغفو، وها هو يقتحم غرفتها ليشل حركتها عما كانت تمضي بفعله،ارتعشت من أمامه، ويدها تحاول اخفاء ساقيها وذراعيها بالجلباب، فشعر وكأنها على وشك الاغماء محلها، أسرع علي بالحديث وهو يوليها ظهره:
_أنا آسف يا حبيبتي مكنتش أعرف أنك بتغيري هدومك، أنا بس كنت متحمس أعرف رأيك بالهدية اللي كلمتك عنها فأول ما الطرد وصل جبته وجيتلك، حقك عليا..
ووضع ما يحمله على الفراش وأسرع لباب غرفته الجانبية دون أن يجرحها بنظرةٍ، عينيه مازالت أرضًا رغم أنها حلاله، زوجته المباح لعينيه بتأملها:
_أنا في أوضتي، أتمنى هديتي تعجبك.
وأسرع بالخروج ليترك لها مساحتها خشية من أن تنتابها نوبة قاتلة تصييها في مقتلٍ، إلتقطت فاطمة أنفاسها على مهلٍ، ويدها تضم صدرها القابض بعنفٍ، فمال جسدها للخلف حتى تلقفه المقعد.
جلست تحاول تهدئة ذاتها، اختنق مجرى تنفسها حينما استعادت تلك الذكريات القاتلة وأقصى ما يطعنها أن علي رآها بهذا اللبس المخزي، فلفت انتباهها جانبه الرجولي، حينما امنتع عن التطلع إليها حتى بنظرة صغيرة، حفظها من عينيه وكأنها قطعة من قلبه يخشى حتى أن يخجلها!
عاملها كأنها ابنته التي يخشى عليها الحزن أو أن يرى دمعة عابرة بمقلتيها، حتى وإن كان قاسيًا على ذاته، استعادت فطيمة كامل هدوئها ونهضت تكمل ارتداء ثيابها، ثم تحركت للفراش لتستكشف ما أحضره لها بفضولٍ.
مزقت الورق الأبيض المحاط حول العُلبة الضخمة، ومن ثم فتحت العلبة ففغر فاهها من هول الصدمة حينما رأت أمامها قفطان أنيق من اللون الأبيض مطرد بحزام من اللون الذهبي ويحيطه بتطريز فخم على أكمامه، ولجواره قفطان أخر من اللون الأخضر الملكي يشابهه كثيرًا بالتصميم، حملتهما بين يدها بفرحة لا تتقاسمها مع أحدًا، فلم يكن بأوسع مخيلاتها بأنها ستتزوج شخصًا خارج جنسيتها، فكانت تتأمل يوم زفافها الذي سيتبع على الطريقة المغربية، وها هي تتزوج من مصري يقيم بدولة غربية بعيدًا عن دولته، ولتكن صادقة مع ذاتها ستتزوج من رجلٍ أتى ليحطم صورتها القاسية التي جمعتها بأشباه الرجال، أتى يؤكد لها بأن هنالك نوعية فريدة من نوعها.
حمل عشقًا داخل قلبه وغلفها داخل أضلعه يحميها من أي شيء وأولها نفسه ورغباته وتمنيه العزيز لها، حملت فطيمة القفطان بين يدها بحبٍ وكأنها تجمع ذكريات بلدها بأحضانها واتجهت لغرفة علي، فتحتها وولجت تبحث عنها فوجدته يتمدد على الفراش، يضع نظارته الطبية ويقرأ كتابًا أمامه باهتمامٍ، وما أن رأها حتى وضعه جواره على الكومود وأسرع إليها.
رفعت عينيها الغارقة بالدموع إليه وبنبرة مهزوزة قالت:
_شكرًا يا علي، الهدية دي غالية عليا فوق ما تتخيل، اهتمامك بالتفاصيل وبكل شيء يخصني، خوفك عليا وحمايتك ليا وكلامك اللي بيساندني وبينقذني من اللي بشوفه، علي إنت نجاتي!
ابتسم بفرحة وهو يستمع لها، رماديته لا تحيل عن احتضانها لهديته، فقال بحبٍ لم يستطيع اخفائه:
_أنا عايش علشانك يا فطيمة، أي شيء هيكون سبب لسعادتك هعمله بدون تفكير، يهمني أشوف الابتسامة الجميلة دي على وشك، ده اللي عايزه صدقيني.
وتابع وهو يتطلع لارتباكها الطفيف:
_هستنى اليوم اللي تكسري فيه أول حاجز بينا وتختاري حضني ملجئ ليكي، ومهما طال الصبر عمري ما هحزن منك.
اتسعت ابتسامتها، فضمت القفطان لها واتجهت لتغادر غرفتها قائلة على استحياء:
_تصبح على خير.
أجابها وعينيه لا تفارقها:
_وإنتِ من أهل الخير يا روح قلبي.
استدارت تغادر سريعًا قبل أن يرى ابتسامتها السعيدة على كلماته فأسرعت بالخروج ومازالت تتفحص القفطان بفرحة.
*****
الليل في زحامة السوداء وانقباض صدرها يزداد قبضة من الغد، تعلم بأنه ليس وقحًا فحسب، هو عنيدًا لا يختل عن كلمة أو وعدًا يقدمه لأحدٍ، وقد منحها وعدًا قاطعًا بأنها ستصبح ملكه، ومع مرور ذاك الوقت الذي قضتها برفقة شمس وفاطمة يتجهزن للغد بتحضير الفساتين وغيره من زينة العروس الا أن بالها كان مشغول بكلماته وبوعده القاطع، تشرب وجهها حمرة طفيفة وهي تتذكر همسه المغري، وحنان ضمته لها ولكنها بالنهاية تخشاه وتخشى شيطانه المدفون داخله، أغلقت مايسان الضوء المجاور لفراشها وهي تحاول اجبار عينيها على النوم، وحينما فشلت استلت مئزرها واتجهت لغرفته بخطواتٍ مندفعة.
فتحت بابه بعصبيةٍ كادت باسقاط زجاج بابه غير عابئة بتأخر الوقت الذي شارف على الواحدة صباحًا:
_اسمعني كويس يا عمران، الكلام الفارغ ده مش هيحصل أبدًا، متحلمش كتير!
وانهت جملتها وعينيها تبحث عنه باستغرابٍ، فوجدته يجلس أرضًا على سجادة الصلاة يقرأ القرآن بعناية واهتمام، متجاهلًا لحديثها تمامًا حتى انتهى من قراءة ورده، فأغلق المصحف ووضعه على الحامل ثم قال بتهكمٍ:
_روحي نامي يا مايا، وبطلي تفكير في كلامي ورانا يوم طويل بكره.
كزت على أسنانها بغيظٍ من بروده، فقالت بغيظ:
_إنت جايب البرود ده منين يا أخي!!!
منحها نظرة ساخرة ثم ادعى براءته:
_كل محاولاتي العظيمة دي في اقناعك وبارد!!
وتابع وهو يجذب المسبحة الخاصة به:
_امشي على أوضتك يا بنت الناس بدل ما أغير كلامي
هتفت بنفاذ صبر:
_عمران يا غرباوي إطلع من دور العاشق الولهان اللي عايش فيه ده. أنا قاريه دماغك المنحرفة دي!
جذبها على حين غرة لتسقط على ساقيه، وغمز لها بتسلية:
_طب ركزي فيهم كده وقوليلي قالولك أيه النهاردة؟
تساءلت باستغراب وهي تحاول ابعاده عنها:
_هما مين دول؟
أجابها بخبث:
_عيوني يا مايا، ركزي يا بنت الحلال الفرصة بتيجي مرة واحدة في العمر!
أرادت أن تبعده عنها ولكنها تناست معدن الكلمات المعنفة قبالة عينيه الساحرة التي نجحت بفتنتها آلآف المرات، تلعثمت حروفها أمامه ولسانها ينجبر على النطق وكأنه ليس تابع لجسدها:
_بحبك… بحبك يا عمران!
أغلق عينيه بقوة يحتمل تأثير كلماتها التي تذوب ما تبقى بداخله من الجليد، فدفعها برفقٍ:
_امشي دلوقتي علشان متندميش إنك خرجتي من أوضتك!
هرولت للخارج ففتفحت بابه لتغادر، ولكنها تفاجئت بأحمد يقف قبالتها بعدما كاد بطرق باب الغرفة، تلونت وجنتها بحمرة قاتمة، فهرعت لغرفتها راكضًا بينما ولج الاخير للداخل يهتف بتهكمٍ:
_أيه جو العشق الممنوع ده! ما تتلم وتقعد إنت ومراتك في أوضة واحدة.
تمردت ضحكته الصاخبة، لينهيها بمكر:
_أحمد يا حبيبي متشغلش دماغك بيا أنا وعلي الأمل كله عليك، سمعة عيلة الغرباوي بين ايدك يا أبو حميد، مع إن جوايا خوف وشك أنك هتأخد عزل انفرادي من أول يوم!
وتابع بغمزة ساخرة:
_بكره يوم مصيري ليك!!
يتبع…
انضم لجروب التليجرام ( هينزل فيه الرواية كاملة ) اضغط هنا
للانضمام لجروب الواتساب اضغط هنا
عاد لغرفته يعتلي الشرفة التي تعلو شرفتها، مازال الضوء يغمر الغرفة بأكملها ، اندهش أحمد من استيقاظها حتى ذلك الوقت المتأخر، يعلم جيدًا بأنها تغفو بمواعيدٍ ثابتة، يبدو أن هناك قلقًا يساورها فأزاح غيمة النوم عنها.
جذب قميصه يرتديه وإتجه للأسفل بخطواتٍ حذرة خشية من أن يراه أحدٌ، مبتسمًا لنفسه بسخطٍ:
_رجعت لأيام المراهقة تاني!
تسلل للأسفل حتى وصل لجناحها، طرق بخفة وكأنه يخشى أن تلامس يده الباب، وترقب قليلًا يناديها بصوتٍ هامس:
_فريدة!
فتحت الباب وتطلعت له باستغرابٍ متسائلة:
_أحمد! لسه صاحي؟
مال بوقفته يستند على الحائط المجاور له، وقال بنظرة هائمة بها:
_يعني بذمتك هيجيني نوم ونصي التاني سهران محتار!
ارتبكت في حضرته وعادت تلك الفتاة ذات الثمانية عشر عامًا تستحوذ عليها، أفتقدت خبرة التعامل وكأنها لم يسبق لها التعامل مع رجلٍ قط بحياتها، فقالت بتلعثم:
_وإنت عرفت منين إني لسه صاحية؟
ابتسامته الهادئة لحقت اجابته:
_نور أوضتك بيرشدني، وصوت نبض قلبك المرتبك واصلي لفوق.
شددت على مئزرها بارتباكٍ، وهي تحاول الفرار من حصار رماديته الهادرة، فاستقوت بحديثها المتعصب:
_وبعدين معاك يا أحمد، مينفعش اللي بتعمله ده، إرجع أوضتك من فضلك أنا مش مستعدة أواجه حد من الأولاد لو شافوك وافف على باب أوضتي السعادي.
ضحك بصوتٍ مسموع لجوارحها المهتمة لرؤية ابتساماته الجذابة، وقال مشيرًا على ساعته الفخمة:
_حبيبتي إنتي مش مستوعبة إن كلها كام ساعة بس وهتكوني على ذمتي!
لعقت شفتيها بتوتر لم يرأف بتصاعد خفقات قلبها العذري، فهدرت إليه بضيقٍ مصطنع:
_إرجع أوضتك يا أحمد، ولما أبقى مراتك وقتها نبقى نتكلم إنشالله خمسة الفجر، لكن قبلها بدقيقة أنا أرملة أخوك.
تلاشته ابتسامته، ودنى تلك الخطوة الفاصلة يخبرها بغضب تلمسته بنبرته الغريبة:
_إنتِ تخصيني من لما كانوا بيعلموني إزاي أشيلك وإنتِ حتة لحمة حمرا، تخصيني وعمرك ما خصيتي غيري حتى لو كنت زوجة ليه.
وطعنها بنظرة قاسية اتبعها جراءة غير مسبقة:
_محدش قدر يملك قلبك لحد اللحظة دي غيري يا فريدة.
وتركها تحاول السيطرة على مشاعرها قبالة كلماته التي ضربت عاطفتها في مقتلٍ، ثم غادر لغرفته بهدوءٍ جعلها تتوارى خلف بابها وابتسامتها لا تفارقها، ليته كان بذاك العناد والتحدي بتلك اللحظة التي جلست بها أمام المأذون تحاول الاستنجاد به بأن ينهي ذلك الزواج، ليته تمسك بها مثلما يفعل الآن.
*******
رفضت الانصياع خلف كوابيسها تلك المرة، يكفيها ما حدث بالأمس أمام الجميع، انتفضت فاطمة بجلستها ويدها تزيح قطرات العرق المبتل عن جبينها، انحنت للكومود تجذب زجاجة المياه ترتشفها بأكملها عسى حلقها الجاف يرويه تلك الكمية المفرطة، سيطرت على انفعال أنفاسها المتشنجة وحينما هدأت بالفعل، اتجهت لغرفة علي بخطواتٍ مترددة، حتى انتهى بها الحال قبالة فراشه!
كان يغفو باسترخاء تام، يده مضمومة أسفل رأسه ويده الأخرى تحاوط تلك الوسادة القابعة بأحضانه، لا تعلم لماذا شعرت بأنها ولأول مرة تحسد رؤيته بتلك الراحة التي تفتقدها منذ سنواتٍ، وبذات اللحظة ينتابها شعور غريب بالغيرة لضمه تلك الوسادة بهذة الطريقة التي جعلتها تتمنى أن تكون هي من تغفو بأحضانه، ترى هل ستراودها تلك الكوابيس إن حظيت بالبقاء داخل ذراعيه!
اعتلاها الخجل لما يقتحم عقلها، وتنحنحت في محاولة لايقاظه حتى يتجه للبقاء جوارها، اعتادته يغفو على المقعد المجاور لفراشها منذ أن بدأ بمعالجتها، كانت تستيقظ كل يومٍ بالمشفى تجده جوارها، أحيانًا كانت تختلس النظر إليه، وتحمد الله على وجوده جوارها، فكل مرة أحاطها كابوس مزعج يتبدد انزعاجها فور ان تستيقظ وتراه لجوارها.
مدت يدها باستعداد لايقاظه، ولكنها توقفت حينما تذكرت أخر مرة قامت بطلبها بأن يظل لجوارها، باليوم التالي كان لا يقوى على تحريك عنقه من شدة الألم الذي واجهه لغفوته على مقعدٍ غير مريح بالمرة.
ارتبكت ولم تعلم ماذا ستفعل؟ فهداها عقلها على البقاء هي لجواره على المقعد القريب من الفراش تلك المرةٍ، وبالفعل جذبت المقعد لتضعه على محاذاة الفراش وتمددت عليه تحتضن جسدها بوضع الجنين، وتلك الهالة الآمنة التي منحتها لها صوت أنفاسه الهادئة جعلتها تغفو سريعًا لجواره!
لا يحتاج الا لثلاثون دقيقة ليتأكد بأنها سقطت بنومها، ففتح رماديته واستدار بنظراته الحنونة إليها، مبتسمًا بعشقٍ يجرف عواطفه، فاستقام بجلسته يُمتع عينيه المسكينة بالتطلع لها عن قرب.. ما أعظم انتصاراته اليوم؟ حبيبته تتسلل لغرفته وتبقى أمامه تتأمله ومن ثم تختار النوم لجواره!
ربما قد يكون شيئًا عاديًا لأي رجلًا، ولكنه كطبيبٍ متخصص، يشمل حالة فطيمة يعلم أنه حقق إنجاز عليه الاعتراف به لذاته!
أبعد علي الوسادة عن صدره وتسلل إليها بهدوءٍ، فمال لمقعدها يبعد تلك الخصلة المتمردة على عينيها خلف أذنها ليمكن من رؤية باقي وجهها المحتمي عنه، ارتبك من تلك الفكرة التي تلح عليه بتلك اللحظة، فخشى أن تستيقظ إن منح جبينها قبلة عابرة تستنشق رائحتها، فأكتفى بحملها لفراشه والبقاء على مقعدها الغير مريح بدلًا منها.
استند بقدمه على الفراش وأراح جسده على المقعد، هامسًا بسخرية وابتسامته لا تفارقه:
_بقيت تخصص نوم كراسي أكتر ما بزوال المهنة نفسها!
وتابع ووجهه يميل لجهة نومها:
_كله يهون علشان خاطر عيونك يا فطيمة!
حاول كثيرًا أن يستحضر سلطان نومه ولكنه لم يتمكن من فعل شيء الا أن يطبع ملامحها داخله، وكأنه يحفظ وجهًا يراه لمرته الاولى.
أشرقت شمس اليوم التالي والمحدد لحفل الزفاف، فراقب علي ساعته بحماس وود لو حظى بحمام دافئ واستعد قبل أن يرن عليه أحمد للذهاب برفقته للمحامي مثلما اتفقا بالأمس، ولكنه خشى التحرك قيد أنامله حتى لا يفزعها فتظن بأنه قد فعل ما لا يحمد بحالتها، لذا ظل محله يراقبها حتى تستيقظ فتراه بعينيها لم يتعدى على خصوصياتها أبدًا، وبالفعل ما هي الا دقائق وبدأت تفرك عينيها بانزعاج وتلك اللحظة ذاتها التي إدعى بها نومه للمرة الثانية.
جلست فطيمة على الفراش تتطلع جوارها بفزعٍ، ومازالت تحاول تذكر ما حدث بالأمس ليجعلها طريحة الفراش، انتبهت لعلي الذي يغفو على المقعد مكانها، فأتاها الجواب على سؤالها الحائر، تلاشى غضبها تدريجيًا وسكنتها ابتسامة رقيقة، فنهضت عن الفراش تحمل الغطاء المحاط بجسدها، لتضعه على علي ويدها رغمًا عنها تصعد لشعره الفحمي، تحركه بخفة جعلته يستجيب لها فتبعثر أطرافه الطويلة على وجهه، وأعظم ما يصل له صوت ضحكاتها الخافتة على طول شعره الذي يخفيه بتمشيطه للخلف فيجعله يحيط أخر رقبته.
غادرت لغرفتها خشية من أن يستيقظ فيجدها بالقرب منه، لا تعلم بأنه من يقوم بخداعها، وفور أن أغلقت باب غرفتها حتى اعتدل بجلسته يعيد شعره للخلف بابتسامة واسعة، وردد بحب:
_كنت ناوي أقصر شعري النهاردة، بس الظاهر هحبه وهو طويل عشانك!!
مزق لحظاته الرومانسية التي يقضيها بمفرده صوت هاتفه، رفعه وهو يجيب بابتسامة جذابة:
_صباح الخير يا عريس.
وصل صوت ضحكاته الصاخبة لمسمعه:
_صباح الخير يا دكتور علي، ها جاهز عشان نتحرك على المحامي نشوفه جهز الاوراق ولا ناقصه حاجة؟
نهض يسرع لخزانته، ينزع ملابسه ورأسه تسند الهاتف لكتفه، بينما يديه تساعده على ارتداء بنطاله:
_خمس دقايق وهكون جاهز بإذن الله.. ثم إني مش هفوت فرصة أشوفك وإنت وشك منور وسعيد ده انا اتبهدلت معاك عشان لحظة زي دي يا صاحب عمري؛
ضحك أحمد وقال:
_متبقاش بكاش يا عريس، ما فرحتنا سوا.
_إنت كنت مصدق إن ربنا هيجمع بينا في يوم واحد؟
_أبدًا، ولا صدقت إن ممكن دماغ فريدة هانم تلين بعد السنين دي كلها، والفضل بعد ربنا سبحانه وتعالى ليك يا دوك.
اعتدل بوقفته وترك قميصه الذي يحمله، متسائلًا بذهولٍ:
_عرفت منين؟
ضحك بتسلية:
_هو إنت فاكر إن عمك غبي يالا! أشوفك نازل من جناح فريدة وبعدها بساعة ألقيها نازلة تقولي إنها موفقة أكيد ده مش سحر حلال يعني!
وعلى ذكر السحر ردد هائمًا:
_يا ريت كان ليا في السحر كنت سحرتلها وخلتها توافق من سنين، بس للأسف مفعول سحرها هو اللي نافذ عليا وعلى قلبي.
_أمممم، أنا بقول تقفل على ما أصلي وأنزلك ننجز لإني حاسس إن عمي اختفى وبقى مكانه السيد روميو اللي راجع لجوليت حافظلها كام بيت من الشعر يعيدوا بيه الامجاد… سلام مؤقت يا باشا.
وأغلق الهاتف والابتسامة تتسع على وجهه، فأسرع للحمام ساخرًا بهمسه الخافت:
_حتى عمي!!! الله يحرقك يا عمران هتعدي مين تاني هنا،مش فاضل حد غيري وأنا للأسف مينفعش أنحرف، مينفعش!!
*****
على رنين هاتفه للمرة الثالثة، فتأفف بغضبٍ وأغلق مياه الدُوش ثم لف المنشفة حول خصره وخرج يجذب الهاتف ليجيبه بعصبية بالغة:
_أيه يا جمال، نازل رن رن أيه ما خلاص مدام متزفتش رديت من أول رنة يبقى بديهي إني متزفت مشغول وبديهي بردو إني لما هتزفت أفضى هتنيل أكلمك تاني، مش حفلة رن هي، بتحسسني إنك عايش دور الزوجة الرزلة اللي عايزة تعرف جوزها راح فين بأي شكل!!
_حيلك يا عم الوقح، بكبورت واتفتح عليا!! قلقت عليك لما مكلمتنيش إمبارح فقولت أطمن عليك لو محتاج حاجة، غلطت؟!
زفر عمران بضيق، وألقى جسده على الفراش يشير بانفعال:
_واديني رديت أهو، أنا تمام وزي الفل ولما هتيجي بليل هتشوف وتعين، ها في حاجة تانية؟
وصل صوت ضحكاته الصاخبة إليه، وشاكسه قائلًا:
_اهدى طيب هي مدام مايسان عاملاها معاك وبتطلعها عليا ولا أيه؟
أسدل حاجبيه بغضب:
_مين دي يا روح أمك اللي تستجرا تعملها معايا، ما تصطبح في يومك اللي مش باينله ملامح ده، مش كفايا قطعت عليا راحتي في الحمام إلهي ربنا يقل راحتك يا بعيد.
قهقه عاليًا، وبصعوبة قال:
_على سيرة السيدة الوالدة فهي راكبة جانبي أهي، لسه واصلة من المطار حالًا.
تنحنح بحرجٍ من اندفاعه بالحديث، وقال:
_سمعت اللي قولته من شوية يالا؟
ضحك وهو ينفي له:
_يا ريتها سمعتك كانت شجعتني على قطع الصحوبية المنيلة بنيلة دي، وأترحم من لسانك الوقح ده.
ابتسم بامتنانٍ للحظ الذي جعل جمال يستغني عن فتح سماعة الهاتف على غير عادته، وقال:
_اديها الفون أرحب بيها بنفسي.
وصل له صوته الهامس من وسط ضحكاته:
_أخاف بصراحة أنا طول السنين دي بقنعها إني مصاحب رجالة محترمة، هتسوء سمعتنا لو بدايتها كانت مكالمتك إنت، هخليها تكلم يوسف الأول وبعدها اصدمها بيك.
كز على أسنانه بغيظٍ ليصل صوته المكتوم له:
_ليه مصاحب بلطجي من نزلة السمان بروح أمك!
ضحك الاخير يستشهد على تلك الذلة:
_صدقتني إنت مبتقدرش تتحكم في نفسك!
عبث باصبعيه بين خصلات شعره المبتل، وقال:
_خلاص بكره إن شاء الله هجي أزورك وأشوف الحاجة وش لوش، على رأيك المكالمات مفهاش قبول، هي بس تشوفني وهتقع في سحر وسامتي، مين في الكون يعني فلت من تحت إيد عمران سالم الغرباوي!!
_مراتك اللي فلتت.
قالها وقد انتابته نوبة عارمة من الضحكات، ليتسلل لعمران المحتقن وجهه بغضب قاتل صوت والدته المبتسمة:
_بطل تضايق عمران يا جمال أنا كده هزعل منك بجد.
واختطفت الهاتف منه تحدثه بابتسامتها البشوشة:
_معلش يا حبيبي جمال كده طور ومبيعرفش ينقي كلامه، المهم إنت عامل أيه وفعلًا زي ما جمال بيقول اتجوزت؟
هدأت معالمه رويدًا رويدًا واحتلته ابتسامة صافية، تلك المرأة تظن دائمًا بأن ابنها هو المنحرف من بينهم ويحاول دائمًا مضايقته هو ويوسف لا تعلم بأنه الوغد الأكبر هنا، وهذا ما يكتسبه من سحر طلته التي توحي برزانته وطيبته الغير موجودة بالمرة، فقال بصوتٍ دافئ:
_ست الكل اللي نورت إنجلترا كلها، شوفتي بعيونك يا أمي جمال مش مبطل يضايقني لا أنا ولا جو، ده حتى مقاليش إنك جاية النهاردة علشان مطبش عليه وينوبني من حلل الحنان اللي مترحلة من مصر لانجلترا في أكياس بلاستك!
تعالت ضحكاتها استجابة لحديثه المرح، وقالت بحنان:
_ودي تفوتني أنا جايبالكم إنت ودكتور يوسف حلة محشي ورق عنب ورقاق ومنبار وعكاوي وكارع وحمام محشي بالفريك إنما أيه يستاهلوا بوقكم، عازمكم بكره عند جمال ابني وأمانة عليك تجيب مراتك في ايدك وأنت جاي،وهخلي جمال يقول لدكتور يوسف الكلام ده بردك عايزة أشوف نقاوة عيالي.
قال متحمسًا وضحكته الهادئة تصل إليها:
_لو مكنش النهاردة فرح أخويا كنت لقتيني أول واحد يخبط على الباب بس ملحوقة النهاردة من بكره مش هتفرق، الخوف بس الفجعان اللي جنبك ده ينسف الأكل قبل ما نيجي، وهنا بقى يجي دورك، الشنط اللي فيها الأكل تتحط في تلاجة أوضتك يا ست الكل ويتأمن عليها بأرقام سرية وبصمة ايدك الحلوة دي.
احمر وجهها من فرط الضحك ولجوارها ابنها المبتسم بسعادة وخوف ينهش قلبه من أن يفقدها بالجراحة التي يجهزها لها عمران ويوسف بالاتفاق مع الطبيب المتخصص لجراحه القلب، فراقب حديثها المازح برفقة صديقه بأعين تلتمع بالدمع، ويجد ذاته ممتنًا بتلك اللحظة لوجود عمران بحياته، إن كان قادرًا على زرع الضحك على وجه والدته بتلك الطريقة لما لا يكون ممتن؟!
*****
غادر أحمد بسيارة علي للمحامي، وانشغل الخدم بتجهيز القصر لاستقبال الحفل، واجتمعت الفتيات بالمجلس القريب من الدرج ليتركوا المكان خاليًا لعمل الخدم، فأزاحت شمس بقايا طلاء الأظافر عن يد فطيمة المستسلمة لها بعد أن حاولت الاعتراض عما تفعله شمس لها منذ الصباح من مسكات وترطبيات وغيرها من نقوش الحنة السوداء على يدها وأخره طلاء الأظافر الغريب هذا، ومازالت تؤكد لها بتحذيرٍ صارم:
_حطي إيدك على رجليكي، أوعي المناكير يبوظ هزعل منك يا فاطيما.
ابتسمت وهي تشير لها بطاعة:
_متقلقيش أنا رافعه ايدي بحذر أهو.
أشارت لها بعنجهيةٍ:
_أيوا كده خافي مني، عشان انا مبحبش حد يبوظ شغلي.
_الله الله وأنا اللي شايلة العدة وراحة لاوضة فاطمة بستعد طلعت شمس هانم بنفسها مهتمية بالعروسة.
نطقت مايسان التي تراقبهما ببسمة هادئة، فوضعت عن يدها حقيبة الميكب الضخمة وجلست جوار فاطمة تتأمل ما فعلته شمس بنظرة أعجاب صرحت بها:
_لون المناكير تحفة يا شموسة طول عمرك شيك وعندك ذوق.
غمزت لها بضحكة صاخبة:
_ده انا قاعدة من الصبح استناكي عشان نولعها.
ضيقت حاجبيها بعدم فهم:
_نولع أيه؟
هرعت للهاتف تصله بالسماعة الضخمة، مشيرة لفاطمة:
_احنا لازم نحتفل بالعروسة النهاردة، أصلك متعرفيش يا فاطيما إن مايا بنت خالتي عليها هزة وسط يقعد دينا وصافيناز بالبيت.
جحظت عين مايسان صدمة، وصاحت وهي تلتفت حولها بحرجٍ:
_بتقولي أيه يا شمس بطلي قلة أدب!
غمزت بسخرية:
_متقلقيش عمي وعلي خرجوا، وفريدة هانم فوق في أوضتها مع الميكب آرتست بتعمل بدكير ومنكير مش فاضيلنا، وطبعًا عمران أخويا مستحيل يقوم دلوقتي، بيصحى على العصر.
همس عمران بتسلية وهو يراقبهن من أعلى الدرج:
_طلعت ابن محظوظة إني قومت النهاردة بدري، يا رب بس تقنعيها تقوم ترقص يا حبيبة قلب أخوكِ!
بالأسفل، عادت شمس لمحاولاتها المتكررة لاقناع مايسان، وكذلك طالبتها فطيمة بالنهوض، فنهضت حينما أخبرتها شمس بأنها ستشاركها، وعادت لها بحجابٍ تعقده حول خصر مايسان بمرحٍ:
_يلا بينا.
رمقتها بنظرة متوعدة، وخاصة حينما رفعت من صوت الموسيقى وبدأت شمس تتمايل أمامها لتشجعها قائلة باستفزاز:
_فاطيما عايزة تشوف الرقص المصري وبعد فقرتنا هنقيم احنا الرقص المغربي المهم بلاش نوطي رأسنا قدام المغاربة! صح يا فاطيما؟
همس ذاك المتلصص بالأعلى:
_كده انتِ أختي مش محتاج أعمل DNA!
تعالت ضحكات فاطمة وأكدت لها:
_صح أنا مسبقش ليا إني شوفت الرقص المصري وعايزة أقيم بصراحة لإن شمس بحركتها البهلونية دي مضحكة!!
همس من الأعلى وهو يتابع بعينيه الشبيهة بالمنظار الدقيق:
_هنقيم مع بعض يا مرات أخويا يا غالية!
ابتسمت مايسان واستجابت ليد شمس التي تحركها بدلالٍ، ومع انسجام لحن الأغنية الشعبية تمايلت ببراعةٍ جعلت فاطمة تصفق بيدها ببسمة متحمسة، بينما شمس تحاول جاهدة تقليد حركات مايا ولكنها كانت تفشل فشلًا ذريعًا.
ابتلع عمران ريقه بصعوبة بالغة، فمرر يده حول رقبته هامسًا بخفوت:
_دي بوسي ملاك الرحمة!! الظاهر إني محتاج قلب صناعي فوق قلبي عشان يكون في متسع يحب ويدوب في الجمال ده!!!
واسترسل ورماديته لا تترك تلك التي تتحرك برشاقة وخفة:
_أتوب إزاي والفتنة دي ملاحقاني يارب!!
تمايلت ولسانها يردد انسجامًا مع كلمات الاغنية، فاتجهت لتجذب فطيمة عن الأريكة وحينذاك تراجع عمران عن الدرابزين وهو يغض بصره عنهن، بالنهاية يراقب زوجتن وشقيقته التي تجعله يضحك ساخرًا على ما تحاول فعله، فتسلل لمسمعه صوت زوجة أخيه المعترضة:
_مش هعرف، المنكير هيبوظ وشمس هتنزعل.
فعادت تجلس وهي تراقب ما يحدث، وعاد هو يعتلي محله ليتأملها بنظرة عاشقة وهمس بفتور:
_وبعدهالك معايا يا بنت عثمان، أنا قلبي خلاص حن وداب أعمل أيه بس عشان تميلي!!
واستطرد بسخطٍ وابتسامته الخبيثة تنفرد:
_وماله ده حتى الليلة ليلتك يا عروسة!!
انتفضت عروقه حينما تسلل له صوت سيارة أخيه، وبالطبع لاقترابهن من صوت السماعة لن يلاحظ أحدًا قدوم عمه وأخيه، لذا أسرع بالتدخل لن يرضيه ان يرأها أحدًا دون حجابها وبذاك الموقف الذي سيجعل الدماء تنبغث من ورديه، فطل بوجهة ملحوظة وهو يصيح بهن:
_بعد إذن رئيسة شارع الهرم نلم الليلة عشان الرجالة وصلت بره، والله كان نفسي أشاركم بالنقطة الخضرا (الدولار) بس لا مواخذة مش قادر أنزل تحت!
جحظت الأعين المسلطة عليه، فركضت شمس تجاه المطبخ، بينما حلت مايسان الحجاب من حول خصرها وغطت به وجهها عن عينيه، فردد ساخرًا وهو يتابع شمس التي كادت بالتعثر أكثر من مرة،مدعيًا انزعاجه الشديد في حين أنه كان يشاركهما الرقص بالأعلى:
_صبرك عليا يا أوزعة، ده اللي بيعلمهولك في الجامعة يا بت، ده انا حيلي اتهد عليكي بالمصاريف وكله بالأخضر.
ورفع صوته مجددًا:
_كنت محتار أجبلك أيه في عيد ميلادك، وخيالي البريء رايح إني أغيرلك عربيتك، شكلي كده هجبلك بدلة رقص تطفشي بيها جوزك وترجعيلنا هنا تاني يا فقر!
كمن لها بما فيه النصيب وتبقت زوجته التي مازالت تختبئ خلف حجابها وتجلس جوار فاطمة التي احمر وجهها من فرط الضحك حتى كادت بالسقوط عن الاريكة، فاتجهت نظراته تستحوذها، مستكملًا وابل سخريته:.
_وانتي يا بوسي يا ملاك الرحمة، بدل ما تخلي في قلبك شوية رحمة وتطلعي تبصي على جوزك المسكين المعاق، تساعديه ينزل وتاخدي بيده بتنحرفي تحت! يا اختي انحرفي فوق مرة يمكن ربنا يسهلها ونجيب راقصات صغيرين أهو كانوا هيعملوا نمرة في فرح علي ويوجبوا مع عمهم!
فشلت فاطمة بالسيطرة على ضحكاتها، فتسللت خلف شمس تجاه المطبخ لتحرر ضحكاتها كما تشاء، مددت مايسان يدها تتحسس الاريكة فوجدتها فارغة، رفعت الحجاب عن عينيها فوجدت فاطمة تهرول للداخل، كادت أن تلحق بها فاوقفها صوته الصارم:
_استني هنا عندك، اطلعي ساعديني أنزل مسمعتنيش!
على شفى أن تبكي الآن من فرط حرجها، فاعدلت من حجابها وصعدت للاعلى بارتباكٍ ساحق، مد له يده بمكرٍ، فساندته وهي تتلاشى التطلع لعينيه، فهمس لها بغمزةٍ خبيثة:
_ما احنا طلعنا جامدين أهو، أمال بتيجي عند جوزك الغلبان وتعملي قطة مغمضة ليه؟
رددت على استحياء:
_والله ما أنا دي شمس اللي آآ…
وابتلعت باقي كلماتها وهي تكاد تدفن وجهها أرضًا من الخجل، فقال بمكر:
_مصدقك ما انا حاضر الحفلة من أولها!
ومال إليها يهمس بمرحٍ:
_والله لولا إني مش هقدر أستحمل حد يشوفك كده كنت فضلت واقف أتفرج باحترام، بس هعمل أيه بغير والغيرة قاتلة، عاشق وعشقك خلاني زي الغريق اللي بيتعلق بأي حاجة تديله أمل إنه ممكن في يوم يبقى سباح محترف ويواكب الموج، حتى لوكان عالي وشرس!
احمر وجهها خجلًا، فسحبت يدها عنه واتجهت لغرفتها غير عابئة بندائه وادعائه بالتعب وعدم مقدرته على الهبوط، فما أن تخفت عنه حتى استقام بوقفته الغير مريحة، يراقب باب غرفتها وهو يهمس بخبثٍ:
_هتلين بليل يا عسلية!
_إنت بتكلم نفسك!!
التفت يراقب مصدر الصوت الرجولي، فوجد أحمد يضيق بعينيه تجاهه بنظرة تشكك في قواه العقلية، حافظ على ثبات قامته وأجلى حلقه:
_لأ ده أنا كان معايا مكالمة غرام وكان لازم أقوي الوصال بين قلبين بريئين.
تهدلت شفتيه السفلية بسخطٍ:
_أممم.. وماله يا حبيبي قوي الوصال براحتك بس متخدش على المكالمات لإنها مبتأكلش عيش حاف.
وتركه واتجه لغرفته بينما يتابعه عمران بنظراتٍ مغتاظة، فرفع من صوته ليصل لأحمد الواشك على غلق الباب:
_وماله يا أبو حميد، كلها كام ساعة وهنشوف، ده أنا قايم بدري النهاردة علشان أجهز الmusic عشان أغنيتي اللي هغنيهالكم بليل، وعدي لعلي لو فاكر.
جحظت عين أحمد، وتوقف عن غلق بابه ثم عاد يهرول له:
_أغنية أيه دي؟
ابتسم الاخير وأردف بسخرية:
_بفكر أغنيلكم أغنية حمادة هلال بتاعت «دي عيلة واطية ونصابة» تقوم فريدة هانم يجيلها ذبحة صدرية وسط معازيم الطبقة الآرستقراطية، وتضيع مخططاتك ليلتك المنحرفة اللي بتتخطط ليها من يوم ما البنت وفقت عليك، أصل محسوبك قاري العيون أوي وعيونك فضحاك يا عمنا!
كز على أسنانه بغيظٍ، وأشار بحدة:
_شوف إنت رايح فين يا عمران ربنا يهديلك حالك وحالنا، أنا خلاص يا ابني مش غاوي أجادلك تاني وأجيب لنفسي وجع الراس.
وتركه وغادر مجددًا، بينما اتجه الاخير للاسفل ببسمةٍ مستمتعة.
******
الساعات مضت وشرع الحفل على الابتداء، وأخيرًا انتهت شمس من وضع لمساتها الاخيرة على وجه فاطمة التي ارتدت القفطان الأبيض الفخم، أما علي فارتدى بذلة سوداء كلاسيكية ومشط شعره الطويل للخلف بعدما ضمن وضع كمية من المثبت ليجعله خلفه لا يتهاوى على عينيه، وأكمل ارتداء ساعته الآنيقة ثم نثر البرفيوم على كتفيه ورقبته، وإتجه يطرق باب فاطمة حينما استلم رسالة من شمس على الواتساب تخبره بأنها انتهت من زينتها.
فتح شمس الباب فمنحها علي بسمة هادئة، ثم مرر يده بين خصلات شعرها برفقٍ كأنه يحيي طفلته المدللة فور رؤيتها، ففتحت الباب على مصرعيه لتطل زوجته من أمامه بتلك الطالة الخاطفة التي سلبت عقله وجعلت وتيرة أنفاسه تتصاعد دون رأفة عليه، أتجه إليها حتى بات قبالتها يردد باعجابٍ شديد:
_بسم الله ما شاء الله.
وتابع بمرحٍ وببسمةٍ جذابة للغاية :
_هو ربنا راضي عني لدرجة إنه يبعتلي واحدة من الحور العين في الدنيا!!
سمحت لنفسها أن تخطف نظرة سريعة إليه، فسلب اهتمامها وجعلها لا تقوى عن خفض عينيها عنه، اقترب علي منها وضم يده لصدره قائلًا:
_اتاخرنا على الضيوف، عمي وفريدة هانم بيكتبوا الكتاب تحت.
رفعت يدها المرتعشة تضم مرفقه، فمنحها ابتسامة واسعة وخطى بها للأسفل وهو يهمس بحبٍ حينما وجدها تتطلع للاعداد الغفيرة بالأسفل بنظرة قلق:
_متخافيش طول ما أنا جانبك يا فطيمة، إنتِ سبتي خوفك وارتباكك فوق في الأوضة مفيش حوليكي غير الآمان وضمة كف إيدي اللي مش هتسيبك من أول الحفلة لأخرها.
منحته نظرة ممتنة فأطبق أصابع يده الاخرى فوق يدها الممسكة بمرفق يده اليمنى، مؤكدًا:
_أنا جانبك ومش هتخلى عنك أبدًا!
******
لم تترك مايسان فريدة أبدًا، كانت الاخيرة تضمها بتوترٍ، وكأنها تستمد امانها من ابنتها الكبرى، تآلقت فريدة بفستانٍ من الشيفون، المحاط بدنتل من اللون الأبيض، وشعرها كان ملموم بدبوس شكل على هيئة الطاووس، يضم خصلاتها للخلف، ها هي تجلس قبالته وتراقبه وهو يوقع على عقد الزواج بفرحةٍ تتقافز من عينيه، وحينما قُدم لها الاوراق كانت مرتبكة وكأنها مرتها الأولى، فبحثت عينيها عن أبناءها بتلقائية، لتجد علي يهبط الدرج ومن خلفه شمس التي تخطته وهرولت لتكون جوار والدتها تخبرها ببسمة واسعة:
_مبروك يا مامي، مبروك يا أنكل.
فرق أحمد ذراعيه لها فاتجهت لمقعده تنزوي بأحضانه بحبٍ لم تشعر به مع أبيها التي لم تتذكره قط، ابتسمت فريدة وهي تراقبهما، وتحمست حينما انحنى لها علي يقبل كف يدها المتمسك بالقلم بارتباكٍ، وهمس لها:
_وقعي يا حبيبتي، ده حقك وحبك اللي اتحرمتي منه طول السنين دي كلها.
أدمعت عينيها تأثرًا من كلماته، وكأنه كان يشعر بارتباكها وخوفها فأتى يزيل عنها العوائق، ابنها البار الذي يزيح عنها كل عائق يحبطها، احتضنت فريدة أحمد بنظرة طويلة قبل أن تنحني للاوراق لتضع إسمها قبالة اسمه، وحينها شعرت بأن رحلة فراقهما القاسي قد انتهت، ولكن عذابها هي هل سينتهي أيضًا!
راقبت مايسان الدرج بلهفةٍ، كانت تود الذهاب لرؤيته منذ بداية الحفل عساه بحاجة لمساعدتها ولم يتمكن من الهبوط بمفرده، ولكنها تخجل من لقائه بعدما حدث بالصباح، ختمت ارتباكها المطول وشجعها وصول جمال ويوسف، فوجدتها حجة تصعد لتخبره بوصول أصدقائه.
حملت طرف فستانها الأخضر بين يدها، وأدلت بحجابها الأبيض للخلف ثم اتجهت للدرج تخطو درجاته صعودًا، فتخشبت قدميها على أول درجاته حينما وجدته بطريقه للهبوط، وفور أن رآها بذلك الفستان الساحر حتى منحها ابتسامة ساحرة.
أخفضت عينيها تدريجيًا لساقه التي تنساق للأسفل بتناغم وقوة، فبرقت بعدم استيعاب، خطى ليصبح قبالتها ببذلته الرماديه الشبيهة للون عينيه، كان آنيقًا مثلما إعتاد أن يكون، ولكن دهشتها تلك المرة ليست لجاذبيته، بل رؤيته يتحرك بقدميه هكذا.
أطلق صفيرًا منخفض وهو يتفحصها:
_أيه الجمال ده كله، يا ترى الساحرة الشريرة عارفة إن سندريلا هربت من الحكاية وخرجت لعمران الغرباوي المسكين؟
تجاهلت ما يقول وأفلتت سؤالها المنصدم:
_عمران إنت واقف إزاي؟
اتسعت ابتسامته وغمز لها:
_زي ما أنا قادر أخطفك حالًا وأهرب . بس للأسف ورايا وعد ولازم اوفي بيه.
وتركها منصدمة ثم كاد أن يتخطاها بهبوطه للأسفل، فصعد لها مجددًا يهمس جوار أذنها بالتحديد:
_لما هنتجمع بليل هحكيلك كل حاجة يا بيبي!
وتركها فارغة الفاه وهبط يستقبل أصدقائه بترحابٍ واسع، فكان جمال أول من تحدث:
_ما أنت بتمشي على رجلك أهو وحلو أمال أيه الحوارات دي!!
ضحك وهو يعدل من جاكيته ببرود:
_مزاجي جابني كده، حرام أتدلع عليكم يعني ولا أيه يا دكتور.
رمقه يوسف بنظرة ساخرة، ثم استدار لزوجته يخبرها:
_صدقتي إنه وقح يا ليلى.
ضحكت وهي تشير له بتأكيد، فصاح عمران بضيق:
_طيب ليه تسوء سمعتي يا دكتور، بالذمة ده كلام!
تعالت الضحكات بينهم، فقال جمال بنزق:
_لينا حوار في الدور التمثيلي ده بس دلوقتي قولي مين فيكم العريس إنت ولا دكتور علي؟ ده أنت متشيك ولا كأن الليلة دي عشانك أنت!
رد عليه بعنجهية:
_دي الحقيقة فعلًا يا حبيبي، مفيش فرق بيني أنا وأخويا، كفايا إني هغنيله بنفسي!
منحه يوسف نظرة تحمل الشك، وأضاف هامسًا لجمال:
_شكل كده عيادتي هتكون مستقرك إنت والحيوان ده الفترة الجاية، يلا يمكن ربنا يكرم ابنك بعروسة مصرية بنت ناس راقية صحيح أبوها وقح بس اللي يهمك اسم العيلة.
تركت صبا وليلى وقفتهم الشبابية واقتربتا من شمس ومايسان وفطيمة، فشكلوا حلقة دائرية تغتنم الضحكات، بينما اقترب علي منهم ليرحب بهم بحرارة، وفجأة وجد أحد العاملين يشير لعمران بأن كل شيءٍ على ما يرام، ووضع على رأسه سماعة تلتف لتصل جزئها على فمه بالتحديد ليتمكن من الحركة بمنتهى الحرية دون أن يمسك المايك بيده..
سحب مقعد خشبي من اللون الأسود، سحبه متعمدًا أن يجعل قدميه الخلفية تحتك بقاعدة المنصة مصدرة صوت جعل الجميع ينتبه له، فوضعه بالمنتصف وجلس عليه يفرق قدميه بثقة، وانطلق يردد بلهجة انجليزية مفهومة لاغلب الحاضرين:
_اليوم مميزًا لوالدتي ولأخي ولي بشكلٍ خاص،أعتاد دومًا على استغلال أخي الأكبر الدكتور علي،لذا علي أنا هنا الآن أستغلك للمرة التي أفشل بمعرفة عددها،لذا إن كنت لا تتذكر وعدي المسبق لك بأنني سأغني لك بيوم زفافك ها أنا أوفي بوعدي وأستغلك بنفس الوقت لإنني لا أرى بتلك اللحظة سوى زوجتي، والآن فلنبدأ الحفل!
جحظت عينيها صدمة تفوق صدمة الجميع، وأكثر ما يتردد لها «هل عاد عمران للغناء مجددًا؟ ألم تكن تلك لفترة قصيرة قضاها بالجامعة وانتهى الأمر! ماذا سيغني لها الآن ولماذا تشعر بأن الخجل يكاد يقتنصها؟»
ضحك علي وهمس لجمال ويوسف المنصدمان:
_ضيفوا على إنه وقح إنه مستغل وانتهازي، بس للأسف صوته حلو!
وتابع بمزح:
_أنا زمان كسرتله الجيتار ومنعته من الغنى النهاردة بيستغلني عشان يكسب قلب مايا، دماغه سم!
*******
انطلقت الموسيقى تغدو الحفل بأكمله، ومازال يجلس محله على المقعد ثابتًا، كأنه على وشك خوض حربًا طاحنة وليس يستعد للغناء، قدمه فقط كان يتطرق أرضية المنصة باستمتاعٍ لسماع النغمة التي تتحرر بانتظار أن يبدأ بانسجام أغنيته، صوت حذائه وتناسق ضرباته كانت تزيد من وتيرة الأعين، فانطلق صوته يردد وعينيه تتابع عينيها بتسليةٍ
«حاسس في بقلبي لهفة
عم تدفعني إني روح
اوميلا بإيدي وإعزمها
ع الرقصة وبسرّي بوح
رح قوي قلبي وما خاف
منو خسارة الاعتراف
ملاك منزل ع الأرض
بيستاهل كرمالو تبوح!»
واستكمل ما يقول ببسمة واسعة قاصدًا بها ما حدث بالصباح حينما رآها ترقص برفقة شقيقته:
«شو عملت فيي من لما
لفت ع خصرا هالشال
ترقص قدامي وتتغمى
وتتلفت يمين شمال!
وتهز بشعرا الحرير
ماتحمل قلبي الصغير
اي والله دوخني كتير
خصرا الميال»
وتلقف الجيتار الذي منحه إياه أحد العاملين، يطرق عليه وهو يصيح:
«أحلى صبية بشوفها
بعشق خجلها وخوفها
عطيني ضلوعك اغمرا
وحط النقط عحروفها
هزي براسك وافقي
وتركي عليي يلي بقي
سموني ب الحب الشقي
والدنيا عندي ظروفها
براكين بقلبي خليتي
يخرب بيتك شو سويتي
من السهرة دغري ع بيتي
جهزيلي حالك!!!»
وتلك المرة أحاطتها رماديته تتعمد نطق الكلمات كأنه يقصد بها ويتعمد كل كلمة لها:
«عليكي عيون مدري كيف
صوتك حنانو مخيف
وغمز لها وهو يكمل:
«صفي نيتك قصدي شريف
لاتشغلي بالك!!!»
ترك مقعده ونهض يختطف يدها بين يده ويده الاخرى تتمسك بالجيتار دون استخدمه، تلك المرة يواجهها وهو قريب منها:
«أحلى صبية بشوفها
بعشق خجلها وخوفها
عطيني ضلوعك اغمرا
وحط النقط عحروفها
هزي براسك وافقي
وتركي عليي يلي بقي
سموني ب الحب الشقي
والدنيا عندي ظروفها
بحلم كفي عمري حدا
شو بحكي عن حمرة خدا
ولما بإيدا الغرة تردا
عيونا بينباسو
كل الحلا جاية منين
حفظتلا شاماتا وين
تقبرني رموش العينين
طوال بينقاسو!!
أحلى صبية بشوفها
بعشق خجلها وخوفها
عطيني ضلوعك اغمرا
وحط النقط عحروفها
هزي براسك وافقي
وتركي عليي يلي بقي
سموني ب الحب الشقي
والدنيا عندي ظروفها
يلا حلا الدني حلا
تضحكلي اي والله
ونعيشا وبصوت الضحكات
نملى الأرض كلا
عطيني
غمزة ودوبيني
ايدك بايديي شبكي
وخليا ع الله خليا عالله
خليا عالله
أحلى صبية بشوفها
بعشق خجلها وخوفها
عطيني ضلوعك اغمرا
وحط النقط عحروفها
هزي براسك وافقي
وتركي عليي يلي بقي
سموني ب الحب الشقي
والدنيا عندي ظروفها»
انتهى من أغنيته أخيرًا لينطلق التصفقات الحارة إليه، ومازالت يده تحتجز يدها ونظراتها المنصدمة تحيطه، لم يتركها الا حينما توجهت شمس إليه تضمه وهي تردد باعجاب:
_صوتك بقى أعلى من الأول كمان ولا كأنك إعتزلت، ماليش دعوة إنت وعدتني لو قدرت تغني لعلي هتغنيلي يوم فرحي.
ضمها إليه وهمس لها ضاحكًا:
_استقري إنتِ بس على عريس وأنا عيوني ليكي وأهو بالمرة نكمل نمرة شارع الهرم اللي ابتدت الصبح أنا أغنيلكم وانتوا ترقصوا!
تجهمت معالمها بغضب وتركته وكادت بالرحيل فتفاجئت براكان يدلف للداخل برفقة آدهم، عينيها لم تلتقط سواه هو بحلته السوداء وثبات نظراته دون أن تحيل للبحث عنها، وكأنه يعلم مكانها، اتجه خلف راكان حينما وجده يتجه لشمس، فقال ونظراته الجريئة تحيط فستانها الأزرق الطويل:
_فستانك خرافة وشيك يا شمس.
امتقعت معالمها وبنفورٍ شديد قالت:
_شكرًا.
وقبل أن يضيف راكان حرفًا، قالت وهي تتجه لفريدة:
_عن إذنك مامي بتشاورلي.
تابع تصرفاتها بدهشة بينما ابتسم آدهم وقد راق له معاملتها الجافة، وحينما تطلع تجاهها وجدها تشير له بتتابعها، استغرب من الأمر وحاول أن ينسحب دون أن يلفت لهما الانتباه، فوجدها تخطو بمنعطف جانبي للقصر خلف الحديقة، وبعدت كثيرًا عن المكان، وصل لها آدهم فوجدها تنتظره بتوترٍ يعتلي معالمها وكأنها على وشك إلقاء قنبلة مؤقتة بوجهه!
*****
بداخل الحفل.
حاولت فريدة الابتعاد عن مقابلة سيدات الطبقة المخملية، لتتغاضى عن أسئلتهم التي لا تطيق بصبرها لتجيبهم عن كناية زوجة ابنها الأكبر، سبق لها التفاخر بنسب عمران، فابنة شقيقتها تمتد أصولها لعائلة عريقة تضاهي عائلتها، ولكن الآن ماذا ستخبرهم؟
عاد شعور النفور يجتازها مجددًا، لا تملك أي قوة لتواجه أحدًا منهن، وإن كنا يتوقن لافساد مزاجها فقد فعلنا بالتأكيد، وها هي الآن تواجه سؤال من احداهن:
_ما بكِ فريدة كلما تساءلنا عن العروس لا تجيبينا ، ما الأمر؟
قالت الاخرى بتهكمٍ صريح:
_عساها فتاة عادية وتخجل بقول ذلك!
أضافت احدهن وقد كان صوتها مرتفع مسموع للجميع:
_شكل كده كلامك صح، باين كده الدكتور علي اتجوز بنت من الطبقة المتوسطة عشان كده فريدة هانم مش عايزة تقولنا إسمها أو تقولنا هي بنت مين، بس معقول يا فريدة تعمليها!!
اتجهت احدى السيدات تسأل فطيمة التي تماسكت بيد علي بارتباكٍ:
_قولي لينا إنتِ يا عروسة مدام فريدة هانم مش قادرة تتكلم!
وضعت فريدة رأسها أرضًا بحرجٍ، بعدما كانت تطلق أحكامها وتتهامس بجراءة على النسب وبمن تليق بابنائها توضع بموقف صعبًا، تأججت الدماء بعروق عمران وأحمد، وكاد علي بأن يخرس ألسنتهم وإن حتم الأمر سيطردهم من الحفل بكل تأكيدٍ، لن يتهاون مع من يقلل احترامها أبدًا، ولكن ذاك الصوت الصارم انطلق يصمم الآذان:
_فطيمة أختي وأي حد في الاحتفال المخملي ده قادر يعرف مين هي عيلة زيدان ونفوذها واصلة لفين!
ظهور الجوكر كان نقطة فاصلة لتلك الفتاة، أنفاسها بدت تعود لمجراها الطبيعي وهي تراه يقف قبالتهم بكل عظمة وكبرياء، ومن جواره عدد من الحرس الملكي يزف لها هداياه الباهظة وسط همسات الجميع، تحرك ببذلته الآنيقة ليدنو من منتصف القاعة ليكون قبالة أعين فريدة الملتهبة، وصاح بكلماته الثقيلة الماكرة:
_ها يا فريدة هانم ده كافي بالنسبالك ويخليكي ترفعي رأسك وتقولي لضيوفك مين مرات الدكتور علي؟
ردت الدموية بوجهها، للحق لم تتخيل أبدًا أن تكون فاطمة تجمعها علاقة بأحد أفراد عائلة زيدان، وبالأخص بمراد زيدان، انقلب السحر على الساحر وانقلب الحفل لهمسات لا حصى لها عن نسب تلك الفتاى التي أضافت سلطة وقوة لعائلة الغرباوي، وانطلقت الأعين تراقب الهدايا الباهظة التي يصعد بها الحرس للأعلى متبعين أحد الخدم ليريهم غرفة العروس.
تحرك الجوكر بصلابة وهيبة لا تليق سوى به، ليقف قبالة فطيمة يمنحها ابتسامة هادئة وعينيه تراقبه بالقفطان المغربي، وأخيرًا حرر لها مباركاته:
_مبروك يا فطيمة ألف مليون مبروك.
ابتسمت بسعادة وروحها قد ردت لها، كانت تشعر بالحرج لعدم وجود أحدًا من أفراد عائلتها، فأتى بهيمانته وهالته القابضة ليضيف لها قوة ودفء شعرت به، فهمست بفرحة:
_مراد!
اتسعت ابتسامته وهو يربت على يدها الممدودة لمصافحته، وقال بضيق:
_وعدتك أسلمك لعريسك بنفسي وطيارتي أتاخرت شوية للأسف.
واستطرد بثباتٍ قاتل وزرقة عينيه تتجه لعلي المبتسم بامتنانٍ لوجوده:
_بس هسلمك للدكتور علي من تاني تنفيذًا لوعدي.
ورفع كف علي بيده الأخرى ثم غمس يدها بين يده، فأدمعت عين فطيمة تأثرًا وقالت:
_شكرًا أنك وفيت بوعدك ليا وجيت يا مراد، متتخيلش أنا فرحانه إزاي أني شوفتك من تاني واقف على رجلك وبنفس قوتك وكبريائك اللي اتعودت أشوفك بيهم.
يفهم جيدًا ما تقصد بقوله، تلك الفترة التي فقد بها قوته جراء الآبر الحاملة بالمخدرات السامة مازال يتذكرها، وكيف له بنسيانها وخلاصه منها صعب المنال، يعلم بأنهم فعلوا ذلك ليهبطوا قوته الشرسة فتعمدوا أن يكسروه بالتعدي على فطيمة قبالة عينيه وهو تحت تأثيرهم اللعين ولكن بالنهاية عاد الأسد يحكم غابته من جديدٍ ومازال لا يروى عطشه فيستمر بالثأر من هؤلاء اللعناء حتى تلك اللحظة ولجواره الاسطورة المزعوم،أخيه رحيم زيدان (رواية الجوكر والأسطورة!)..
ربت على يدها مجددًا وهو يخبرها بصوته الرخيم:
_فترة وعدت ومش هترجع تاني يا فطيمة، المهم إنتِ، عايز أشوفك دايمًا بخير وابتسامتك متفرقكيش أبدًا، ولو احتاجتي أي شيء إنتِ عارفة إني موجود وهكون موجود في أي وقت تحتاجيني فيه وعمري ما هتخلى عنك أبدًا، لإنك عندي بالظبط زي ريم ونغم أخواتي..
مد علي يده يصافحه قائلًا ببسمة صافية:
_نورت حفلنا المتواضع يا جوكر، ومبروك الترقية.
صافحه بقوة وقال بلباقة:
_مع إن كلمة مبروك دي تخصك النهاردة، بس مقبولة منك الله يبارك فيك.
اتجهت نظراته لفاطمة من جديد، فانزعج حينما وجدها تبكي وهي تتطلع له رغم ابتسامتها، فضيق عينيه هاتفًا بانزعاجٍ:
_مفيش بكى النهاردة، كده هتضطريني أخد هديتي اللي واقفة بره وأرجع بيها تاني!
انتابها الفضول، فقالت باستغراب:
_هو لسه في هدايا تاني، كفايا الحاجات اللي طلعت فوق دي!
غمز لها بمكر:
_لا دي هتكون أغلاهم على قلبك، تيجي نتراهن؟
ومال برأسه لحارسه الذي انحنى قليلًا وغادر للخارج ومن ثم عاد إليه بتلك التي تلاحقه حتى وقفت قبالتهم، فبرقت فاطمة بعينيها بصدمة لحقت حروفها البطيئة الغير مستوعبة:
_زينب!!! أختي!
يتبع…
قلبها التعيس غمرته فرحة ضمتها لتدوي جميع أحزانها، وكأن اليوم هو الموعود لتضميد تلك الندوب التي تركها السواط بعلاماته المؤلمة على جسدها، مرة حينما رزقها الله بزوجٍ حنون مثل زوجها، ومرة أخرى حينما رد لها شقيقتها الغائبة عنها منذ أعوامٍ وبالكد كان يصل لها خبر أنها على ما يرام، فقد بث لها مراد أنها بخيرٍ، وتتابع تعليمها على أكمل وجه وبتقديرات ممتازة، والآن يجمعها بها بعد فراق ولوعة.
لا تعلم كم قضت من الوقت تضمها بين أضلعها ودمعاتها تهوى على خديها دون توقف، لتهمس الأخرى بصوتٍ متألم:
_فاطيمة حبيبة ديالي، انا ما ممصدقاش راسي فاش قالي مراد بانني غنحضر عرسك.
(فاطمة حبيبتي، مصدقتش نفسي لما مراد قالي إنه هيخليني أحضر فرحك النهاردة.)
فقدت القدرة على الحديث، فبقت تربت بيدها بحنانٍ على ظهر شقيقتها، فاسترسلت زينب بسعادة تغمر عينيها:
_خباراتك كلها تتوصلني اول باول، و فرحتلك بزاف بزاف احبيبة ديالي،الله يفرحك و يسعدك.
(أنا اخبارك كلها كانت بتوصلني، وفرحتلك أوي يا حبيبتي، ربنا يفرحك ويسعدك..)
أبعدتها عنها وسألتها بلهفة وعينيها تراقب المكان المحاوط بهما:
_فين بابا يا زينب؟
لمع الحزن بحدقتيها، بعدما دعستها بذكرى طفيفة دون علمًا بما تخوضه هي، فقالت وهي تحاول السيطرة على حزنها:
_بابا مات افطيمة، مقدرش يستحمل الموت د ماما،كان كيتعدب ف اخر ايام حياته و ماكنش كيفارق بيته و لا سريره حتى دا مول الامانة امانته
(بابا مات يا فاطمة، مقدرش يستحمل وفاة ماما، كان بيتعذب في أخر أيامه ومكنش بيفارق البيت ولا سريره لحد ما ربنا استرد أمانته!)
برقت بعينيها بصدمة، وانتقلت الدموع لتغزو عينيها، فتابعت زينب بانكسار:
_انا المدة اللي دازت كنت بوحدي من بعد الموت د بابا، فكرت ف مراد يعاوني و يكون بجنبي حيت انا عارفة انه اهل ثقة و واثقة بانه ماغيخلينيش بوحدي
(أنا طول الفترة اللي فاتت كنت لوحدي بعد وفاة بابا وملقتش غير مراد ألجئ ليه لاني عارفة أنه أهل ثقة، وكان عندي ثقة إنه مش هيسيبني لوحدي.)
واستطردت وهي تلتقط نفسًا مطولًا يكون عونًا لها:
_كانت فترة صعيبة بزاف ف حياتي، كون ما مراد من بعد الله سبحانه و تعالى كون اتكرفست و اتبهدلت،حتى انه نقل اوراقي للجامعة هنا باش نكون معاك و مانبعدش عليك احبيبة ديالي.
(كانت فترة صعبة في حياتي أوي ولولا مراد بعد ربنا سبحانه وتعالى كان زماني اتبهدلت، ده كمان نقل ورقي لجامعة هنا عشان أكون معاكي ومفارقكيش تاني يا حبيبتي!)
ضمتها إليها بقوةٍ، وكأنها تود أن تنفرد بها بعيدًا عن ذلك الزحام، لتبقى برفقتها تستمع بالتفاصيل عما حدث إليها طوال تلك المدة، فتمهلت أن ينتهي هذا الحفل ويدها لا تفارق جسد شقيقتها الصغرى.
*******
وقف قبالتها وعينيه مازالت تراقب الطريق، وبالرغم من أن شوقه لها يكاد أن يدفعه لاحتضانها الا أنه فضل عدم التطلع لها، بخشى أن يزيد بذنوبه بتأملها، ويود أن يتمعن بها فور انتهائه من قطع تلك المسافة بينهما ويكون بينهما رابطًا شريفًا، فقال:
_خير يا شمس؟
اندهشت من طريقته الغريبة بالتعامل معها، وقالت بدهشة:
_في أيه إنت ليه مش بتبصلي؟
مرر لسانه على شفتيه السفلية بتريثٍ، وقال:
_زي ما أنتي شايفة براقب الطريق، لإن وجودنا هنا مع بعض غلط،ومش عايز حد يشوفنا ويتفتح في حوار مالوش أي لازمة.
واستطرد بجدية تامة:
_قوليلي في أيه يخليكي تعرضي نفسك لموقف سخيف زي ده؟
عبثت بعينيها متسائلة:
_موقفي سخيف من نحية أيه يا كابتن؟
بقى كما هو لا يستدير لمقابلتها، مما دفعها لتخطيه فكانت الآن تقف نصب عينيه وجهًا لوجه، وبعصبية بالغة قالت:
_إنت ليه بتعاملني كده يا آدهم؟ بقالك كام يوم بعيد والنهاردة بتكلمني كده، هو أنا بفرض نفسي عليك؟
تعلقت عينيه بعينيها وليته لم يفعل، قفز قلبه بداخله منصاعًا لتلك الضربات الصاخبة، فقال بهدوء نبرته:
_حبك اللي فارض نفسه عليا ومخليني أسير لعيونك يا شمس.
وتابع ببسمة صغيرة ينجح برسمها بالكد:
_أنا بحافظ عليكي يا هبلة، تخيلي حفلة زي دي فيها أكابر عائلات الطبقة الآرستقراطية، لو حد فيهم شافك واقفة معايا بمكان بعيد زي ده هيكون شكلك أيه..
وتابع ومازال يتابعها بحبٍ دافئ:
_وأنا وعدت دكتور علي إني أحافظ على حدودي لحد ما أنجز مهمتي وأجي أطالبك منه بشكل رسمي.
رفرفت بعينيها بعدم استيعاب، وتساءلت:
_إنت شوفت علي أخويا فين؟
تهدلت شفتيه ببسمةٍ هادئة:
_مش مهم، المهم ترجعي الحفلة وتخليكي زي ما إنتي بعيدة عن راكان قدر المستطاع، زي ما شوفتك كده بنفسي بتزحليقه كل ما يقف قدامك وبصراحه عجبني الوضع ومكيفني أوي.
ضحكت برقةٍ، وأخبرته بدلالٍ:
_بعمل كده عشان مبقدرش أشوف نظرات الغيرة اللي بشوفها جوه عيونك لما راكان بيقربلي.
اتسعت ابتسامته وتناغمت مع صوته الجذاب:
_مش بس هتعملي كده مع راكان، مع كل الرجالة يا شمس، أنا غيرتي قاتلة خدي بالك عشان متقوليش إني محذرتكيش!
وتابع بنظرة عميقة لها:
_لما كل ده يخلص هيكون عندنا الوقت أنك تستكشفي طباعي وشخصيتي الحقيقية، وأولها إسمي الحقيقي اللي هموت وأسمعه منك بدل آدهم اللي فلقتيني بيه قدام الناس وحتى وإحنا لوحدينا!
حذرته بأصبعها الممدود قبالة حدقتيه حتى كاد بأن يصفي عينيه:
_كله الا كده أنا حاباك بإسم آدهم ومش هناديلك غير بيه فمتعشمش نفسك يا باشا.
توالت ضحكاته المسموعة بشكلٍ جعلها تراقبه بابتسامة، وضع يديه بجيوب جاكيته وردد بيأسٍ:
_خدي راحتك لحد ما دوري في الفيلم ده يخلص وقتها هتطبعي على طباع عمر الرشيدي غصب عنك يا شمسي.
وتركها وخطى بطريقه للعودة، فأسرعت خلفه تناديه:
_أنا لسه مقولتلكش على اللي جبتك هنا علشانه يا آدهم.
توقف عن المشي واستدار لها باستغراب، فملامحها كانت تتسم بالجدية الطاغية، سألها برزانته المعتادة:
_قولي يا شمس، قلقتيني!
ضمت شفتيها معًا، وكأنها تحاول إيجاد المناسب لقوله وخاصة بمعرفتها بأنها ستفتح الطريق لاختبار عصبيته لأول مرة، فقالت:
_أنا أقدر أساعدك بالملف اللي مش قادر توصله لحد النهاردة ده، يعني أقدر أدخل لقصر راكان بمنتهى السهولة وآ…
كممت باقي كلماتها داخل جوفها فور رؤيتها لاحتقان معالم وجهه الأبيض، ليصبح كسواد الليل المحاط بها، تقنص منها خطوتان خطرة مثل نظراته الحالكة، وصاح بخشونة جافة:
_أوعي تندميني إني كشفتلك هويتي واللي موجود عشانه، أقسم بالله لو حصل يا شمس هتخسريني.
شفق على حالة الذعر المجتازة داخل نظراتها تجاهه، فهدأ من انفعالاته وأخذ يزفر تدريجيًا حتى هدأ بالفعل،فقال:
_ إنتي متعرفيش راكان ده واصل بالحقارة لأي درجة، لو عملتيها مش هتلحقي تخرجي من قصره على رجليكِ، أنا عارف ألعبه إزاي وأخليه يلف حولين نفسه، وعارف أمته هأخد الملف، ده شغلي ودي حربي أنا.
هزت رأسها بخفة ومازال الخوف يعتليها، فقال بحنان:
_شمس أنا خسرت مرة والدتي ومعنديش استعداد أخسر حد غالي على قلبي مرة تانية، عشان خاطري خليكِ بعيدة عن كل ده، أنا كافيل بيه وباللي وراه، أوعدك كل ده هينتهي وهنكون بعدها مع بعض على طول، المهم هنا هتستنيني؟
نجح بزرع الابتسامة على وجهها وهزت رأسها تؤكد له:
_هستناك العمر كله يا آدهم.
هز رأسه في يأس، وقال:
_عيدي الجملة اللي رشقت في قلبي دي تاني بس بإسمي الحقيقي لو لمرة واحدة.
اعترصت باشارتها النفية، فتوسل لها ببسمة تسلية:
_عشان خاطري طيب.. أنا ماليش خاطر عندك!
احتلت الحمرة وجهها، ففركت أصابعها وتراجعت وبسرعة كبيرة رددت وهي تحمل طرف فستانها الطويل وتهرول من أمامه:
_هستناك يا عمر!
تابعها وهي تركض بخفة والابتسامة تزيد من ابتسامته الجذابة، وحينما اختفت من أمامه همس لذاته بحبٍ:
_مش هطول عليكِ بالغياب يا روح قلب عمر!
*****
من قال أن المخابرات تتبع اسلوب أفلام الممزوجة بالأبيض والأسود الآن، ربما كان يتخفون جيدًا لايصال ما يردون من معلوماتٍ سرية، والآن على حسب تحديثات الجوكر والاسطورة والوحش وغيرهم من الظباط المتروك وسامهم فوق رؤوس الجميع باتت هناك قوانين جديدة، يتقابل بها القائد وتلميذه في خضم النهار وأمام أعين الجميع، كلاهما يعلمان بهوايتهم والجميع لا يدرون ما بهما، هكذا تم فور لحظة اصطدام آدهم بالجوكر حين عودته للحفل، فرفع يده يعتذر بلباقة:
_أعتذر منك سيدي.
منحه مراد نظرة عميقة، بينما يشعر بيده التي تمتد لجيب بنطاله لتدث له شيئًا كان جزءًا من قدومه إلى هنا، بينما الاخير يحيه بايماءة صغيرة من رأسه تقديرًا لقائده، والأخر يعلم تفسير الاشارة حتى وإن بدى منتصبًا بوقفته قبالته، فحرر صوته القاتم باستياءٍ:
_تطلع أمامك وأنت تسير يا فتى، إن كانت عينيك لا ترى العوائق أمامك جيدًا فلتنسحب من الحفل حتى لا تأذي نفسك ومن حولك هنا.
علم مغزى اشارته جيدًا، فهز رأسه ببسمة هادئة:
_أعتذر لك مرة أخرى.
وتركه واتجه ليكون قريب من راكان، وعقله شارد باشارة مراد الصارمة له بالا يعرض نفسه وفريقه للخطر لاجل الحصول على الملف، أمرًا صربحًا له بالانسحاب على الفور بينما تسعى القوات للقبض على راكان والتحفظ عليه لاستدراجه بالتحقيقات للاعتراف بمن ورائه، ولكنه مازال مصممًا على عدم الانسحاب دون هذا الملف، الرغبة بالانتقام كانت شخصية لخسارته والدته بسبب تلك الادوية المغشوشة وللعجب يعلم مراد بهذا ولكنه يخشى خسارة أحد تلاميذه المحترفين، فصوب له أمرًا مباشرًا بالانسحاب وهو يعلم بأن “عمر الرشيدي” ليس من ذاك النوع الذي يتقهقهر تاركًا ساحة القتال!
*******
إتجه جمال للطاولة التي تحوي صبا بعد أن غادرت ليلى لطاولة يوسف القريبة منها، جذب مقعدًا وجلس قبالتها فوجدها تتطلع تجاه يوسف وزوجته بابتسامة رقيقة، وما أن انتبهت له حتى قالت:
_دكتورة ليلى دي سكر أوي، وواضح كده إنها هي وجوزها بيحبوا بعض جدًا.
أكد لها بابتسامة هادئة:
_دي حقيقة، يوسف وليلى بينهم قصة حب كبيرة من أيام الجامعة.
اعتدلت له بجلستها بحماسٍ لحق أسئلتها الكثيرة:
_بجد، يعني قصص الحب اللي بنسمع عنها في الروايات والمسلسلات دي حقيقية يا جمال؟
ضيق عينيه باستغراب لحالتها، وكأنه لا يكن لها حبًا مقدسًا شبيهًا لذاك، فقال:
_ومالك مستغربة ليه، هو احنا مفيش بينا الحب اللي يخليكي تصدقي ده يا صبا؟
تلاشت ابتسامتها تدريجيًا، وكأنه لمس وترًا مقطوعًا داخلها، فجذبت كوب العصير من أمامها تتجرعه قائلة وهي تزيح ذاك الموضوع من أمامهما:
_أنا قلقانه على ماما، مكنتش حابة أسيبها لوحدها خصوصًا إنها لسه واصلة النهاردة، بس هي اللي صممت أجي معاك !
تغاضى عما قالت، وسألها مباشرة:
_قصدتي أيه بكلامك ده يا صبا؟
منحته ابتسامة مصطنعة، وقالت بلطف:
_مقصدتش حاجة يا جمال، أنا بكلمك عادي يعني.
اتسعت ابتسامة سخريته ولحقت بنبرته:
_صبا من أسابيع علاقتنا كانت على وشك إنها تنتهي بسبب سكوتك، النقاش هو اللي بيحل أي عقبات بين أي زوجين، أنا مصدقت إنك ابتديتي تتكلمي قدامي بدون خوف أو خزي، أيه اللي حصل تاني؟
رفعت عينيها إليه وجاهدت لسؤاله باستحياء:
_أصلك بتقول إنك بتحبني، وإنت ناردًا لما بتقولي الكلمة دي،أعتقد قولتلهالي مرتين أو تلاته من يوم ما اتجوزنا!
ضحك باستمتاعٍ وهو يراها تكاد تنقلب لحبات الكريز الأحمر من فرط خجلها، فتنحنح قائلًا:
_أنا من النوع اللي نادرًا لما أعبر عن مشاعري، وده مش أنا بس يا صبا أغلب الرجالة كده، مشاعرهم مدفونة جواهم، معرفش يمكن احراج أو توتر، لكن بديهي أي زوج لو مبيحبش زوجته محدش هيجبره يعني انه يعيش معاها العمر ده!
واجهته بقوة وجراءة غريبة:
_وده اللي بيخلي قلوب الستات دايما مكسورة، كلمة واحدة وبسيطة قادرة إنها تسعد الست، لو فاكر أن قلة الكلام الحلو بين الزوج وزوجته بيقربهم العشرة فده غلط، الست بتكون محتاجو لكلمة حلوة تسمعها من جوزها مش من حد تاني يا جمال، هو أيه اللي ممكن يقل من الراجل أو ينتقص من رجولته لو قال لمراته بحبك! ، شكلك حلو، تسلم إيدك لو الأكل عجبه، لو دخل لقى بيته مترتب كالعادة ومدحها بكلام جميل ده هيقل منه!!
بدى حائرًا أمامها، وردد بفتور:
_إنتِ عايزة توصلي لأيه يا صبا؟
أجابته وعينيها تتعمق بالتطلع إليه:
_مش عايزة أشحت الكلام الحلو منك، لو بينا قصة حب زي ما بتقول ليه مش بتعبرلي؟!
منع ذاته من الضحك حتى لا تظن أنه يسخر منها، فعاتبها وهو يقرب جسده من الطاولة ليصبح قريبًا منها:
_هو مش أنا ساعة المشكلة اللي حصلت بينا قولتلك بحبك وسمعتك كلام من على وش القفص، ولا إنتي زي القطط بتأكلي وتنكري إنتي وابنك!
لوت شفتيها بتهكمٍ:
_مهي دي يعتبر المرة الوحيدة اللي اتلحلحت واتكلمت فيها من وقتها رجعت لسكوتك وطبيعتك.
حك جبهته باحراجٍ:
_مهو أنا بتكسف يا صبا.
جحظت عينيها بدهشة من ذاك التصريح الصادم وكأنها هي الجريئة هنا!، نظف حلقه متنحنحًا:
_وبعدين عايز أقولك الكلام الكتير ده بالفاضي المهم الفعل، ونهايته إننا مع بعض واني بحبك.
واستطرد بغمزة مشاكسة:
_ولو الكلام الحلو هيبدد هرمونات الحمل اللي ناوية تخرب علينا دي عيوني هكترلك من المكسرات واللوز رشوة تأكدلك إني بحبك.
وبمزحٍ لحق صوته الرجولي الضاحك:
_فكك من الكلام اللي مبيأكلش عيش واطلعيلك بمصالحة، متخليش أجواء الطبقة المتريشة دي تأكل بعقلك إحنا اتربينا في البيوت البسيطة اللي أهلها أغلب الموجودين بالمجتمع.
منحته نظرة مغتاظة وعادت ترتشف عصيرها من جديدٍ.
********
رحلة عناء الأعوام المرهقة انتهت بتوقيعهما على ورقة الزواج، معشوقة طفولته ومراهقته وكل مراحله العمرية باتت زوجة له أخيرًا، تلك التي اعتكف لأجلها عن نساء الأرض بأكملهن أصبحت تخصه، يود أن يعوضها عن تلك الفترة القاحلة التي تعرض لها حبهما، يود أن يختطفها الآن ليحظى بالبقاء برفقتها لأطول فترة تمكنه من تعويض كل تلك الآلآم التي قضاها بالبعد عنها.
مال أحمد برأسه عليها وخدمه قربها منه على الأريكة ليهمس بعشقٍ:
_وأخيرًا انتهت قصتنا بنهاية سعيدة يا فريدة، ألف مبروك يا حبيبتي.
إستدارت إليه تقابله بابتسامةٍ رقيقة، هادئة، وبصوتها الناعم قالت:
_الله يبارك فيك يا أحمد، أنا كمان مش مصدقة إننا أخيرًا بقينا مع بعض.
أكد لها بوعده الصارم:
_لأخر العمر هنكون مع بعض، مفيش أي شيء تاني هيفرقنا يا أغلى من حياتي.
وانحنى بخفة يستغل انشغال الجميع من حوله، ليجذب يدها وإتجه بها للمصعد ومن ثم لجناحها القريب منهما، فما أن ولجوا معًا للجناح حتى طبع قبلة عميقة على باطن يدها وهمسه المغري يصل لها فيسري رعشتها بطريقة فجأتها:
_بحبك… وعمر قلبي ما اعتكف يوم عن حبك ولو لثانية واحدة، ثقتي في ربنا وفي الحب اللي بينا كانت بتقويني وبتديني الأمل أن في يوم هيكون في دوا لجروحي ولقاء يجمعنا.
واستكمل بحنين صوته الرخيم:
_الأيام كانت بتعدي عليا من غيرك قاسية زي الخريف اللي بينزع ورق الشجر ومبيتبقاش غير الغصن هو اللي صامد، ومتحمل فقدان كل ذكرى بتنزل مع الورقة اللي شايلها، كنت فاكر إني هنساكِ وهكمل بس الأيام يا حبببتي كانت بتعدي عليا ولا جرحي بيتداوى ولا أنا قادر أنسى! ، أنا مبعدتش عن الستات ولا إرتبط بسبب وعدي ليكي لأ مش دي الحقيقة، الحقيقة إن قلبي مقدرش يحس بحد غيرك يا فريدة، والنهاردة المعاناة دي انتهت ومش هترجع تاني.
انهمرت دمعاتها دون توقف وهي تستمع إلى صوته المهزوز من تحمله لكمية تلك الآلآم العاصفة لجوارحه، فلعقت شفتيها الجافة ورددت بخفوتٍ:
_مين كان السبب في المعاناة دي يا أحمد، مش إنت؟
أغلق عينيه بقوةٍ رافضًا العودة للحديث بالماضٍ، فقال ورماديته لا تتحرك عينيها الفاتنة:
_بلاش نتكلم في اللي فات على الأقل النهاردة.
وكسر جفاء تلك السنواتٍ القاحلة بمطرة من مشاعره تعوضه عن امتناعه عنها حتى حينما كان مراهقًا، كم تمنى أن يحظى بها منذ ذاك الحين ولكنه كان يحفظها من نفسه ولم يعلم بأنه سيفقدها بزواجها هذا ومن بعده فترة البعد الاجباري، وها هو الآن يقتبس أول قطفة من عشقهما، فتمادى برفقتها وللعجب أنه شعر بأن استجابتها الفطرية انقلبت لاعتراض جعلها متيبسة بين ذراعيه، فهمست له وهي تعافر اقحام أنفاسها المتسارعة:
_أحمد آآ.. أنا مش هقدر!!
هالة حبه الغريبة جعلته كالأصم لا يستمع لحديثها، وكأنها تتحدث بشفرةٍ غريبة، فقال بتريثٍ:
_مش فاهمك!
أبعدت يديه المحاطة لجسدها، وصاحت بارتباكٍ:
_مش هقدر أعمل كده.
تجعد جبينه وتلامس حاجبيه من فرط انقباضهما:
_تقصدي أيه؟
تخلت عن مواجهته وولاته ظهرها، وهي تستطرد بصوتٍ محتقن بالبكاء:
_مش هقدر أخونه وأحس الاحساس البشع ده من تاني، من فضلك إخرج!
رمش بعدم استيعاب، وكأنه لا يرى الا مجموعة من الألغاز يحاول جاهدًا فكها ليصل له مضمون ما تود قوله له من خلال كلماتها المستترة، فردد بوجومٍ شديد:
_تخوني مين؟؟؟ سالم خلاص مات من سنين يا فريدة ومبقاش في غيري جوزك وحبيبك وهكون أب لأولادك زي ما إنتِ عايزة!
انتفض جسدها من شدة البكاء، فراقبها بدهشةٍ لم تكن سوى تزيد من ألمه أضعافًا، فابتلع ريقه المرير وهو يجاهد جملته التي تذبح فؤاده قبل أن تخرج لها:
_إنتي آآ….آنتي حبيتيه يا فريدة؟
لم تحتمل إلقائه لتلك التهمة القاتلة لها، فالتفتت إليه بعينينٍ شاخصتين، تهز رأسها نافية بتعصبٍ، وصرخت بوجهه:
_محبتش في حياتي راجل غيرك إنت.
تماسك بأعصابه التي تندفع بانفعالٍ داخل جسده المتشنج، وصاح مستنكرًا:
_أمال أسمي ده أيه؟ رافضاني ومش قابلاني أقربلك ليه!!
أخفضت عينيها أرضًا غير قابلة لمواجهة رماديته، وهمست بانكسارٍ:
_في حاجات إنت متعرفهاش يا أحمد.
ربع يديه أمام صدره وبقوةٍ وصلابة قال:
_جاهز أسمع، اتكلمي.
ولاته ظهرها من جديد، قائلة:
_مش جاهزة أتكلم دلوقتي، من فضلك إديني فرصة.
تنهد بوجعٍ خنق أضلعه ومزق قلبه المتهاري دون شفقة، فالتفت ليغادر غرفتها ولكنه توقف وأسرع يجذب ذراعها لتقف قبالته، اقترب إليها واسند جبينه لجبينها يلتقط أنفاسه المتصاعدة تاركها تلفح وجهها، لتتنفس من ذفيره الخارج عنه بعنفٍ:
_أحمد حبيبك تعب أوي عشان يوصل للحظة دي، فبلاش تقسي عليه أكتر من كده يا فريدة، عاقبيني على التخلي والبعد بأي شيء تاني غير بعدك عني، أنا موجوع ومش حمل وجع جديد أقسملك إني جاهز لأي عقاب وهتقبله منك بس الا ده يا حبيبتي مش هقدر ليه!
انهارت بالبكاء، وبتوسلٍ شديد وضعف يجده عليها لأول مرة:
_أنا محتاجة بس شوية وقت، مش عايزاك تبعد عني والله بس أنا حاسة دلوقتي احساس مش هقدر أوصلهولك، سبني يا أحمد بالله عليك سبني.
تراجع خطوتان للخلف وعينيه لا تفارقها بعتابٍ ولوم، واستدار كليًا ليغادرها وأخر ما تلتقفه حدقتيه صور أخيه القريبة من مجال خروجه، وكأنه يعلن له انتصاره في جولته الثانية!
أحاطه غضبًا حارقًا، فعاد لغرفته مهمومًا حزينًا، وأخر ما يشغل باله ما الذي تخفيه عنه فريدة؟
*******
أحاط عمران كتف يوسف وقرب منه طبق الطعام الفخم الذي وضعه الخادم مشددًا عليه:
_مش هتنتقل غير لما تخلص طبقك يا دكتور، إحنا أهل كرم..
إلتفت إليه باسمًا، ثم قال:
_مش محتاجين عزومة في بيت أخويا.
جذب عمران المقعد المجاور إليه ليجيبه باحترام تلثم به لوجود ليلى:
_بيت أخوك منور بيك إنت وجمال يا دكتور، بس فين سيف مجاش ليه؟
ردت عليه ليلى:
_سيف واخد دور برد ورافض يأخد المحلول، الادوية مش جايبة نتيجة مع حالته دي، بس أنا قررت بعد الحفلة هنروحله أنا ويوسف وهنعلقله غصب عنه.
قهقه يوسف ضاحكًا، وحذرها:
_سيف بيكره الحقن والمحاليل يا ليلى وكده ممكن يأخد منك موقف أنا نبهتك أهو.
ضحك عمران وردد باستهزاءٍ:
_ولما الدكاترة تخاف من الحقن الإنسان العادي يعمل أيه؟!
أجابه جمال الذي ترك طاولة زوجته ولحق بهم:
_ياخد دوا شرب.
لف عمران ذراعه الأخر تلقائيًا ليضم من اقترب إليهما، فسأله باهتمام:
_أكلت ولا جاي عامل دايت هنا إنت كمان؟
نفى ببسمة واسعة:
_نسفت طبقي يا باشا من غير أي عزومة، وكنت في طريقي للمرواح بس جبت أكد عليكم إن الحاجة مستنياكم بكره محدش يتأخر..
أجابه يوسف بحماس:
_من الفجر هنكون عندك أنا وليلى.
عاد بنظراته لعمران ليعلم بها اجابته، فقال ساخرًا:
_أنا بايت عندك من دلوقتي، دي الحاجة عليها شوية محشي هما السبب في نزولي مصر طول السنين اللي فاتت.
واستطرد بمرحٍ:
_صحيح أنا محروج منها لإنها كانت بتبعتلي مع جمال حلة محشي كل ما بينزل فالمرادي جايبها وجاية أكيد مفكرة إني طفس بس ولا يهمني.
تعالت ضحكاتهم جميعًا، فصاح يوسف بمكرٍ:
_وأيه الجديد ما انت طول عمرك طفس يالا!
وزع جمال نظراته بين صبا وليلى، وصاح بحزمٍ:
_متعصبش عمران يا يوسف، البنات واقفة!
أشار له بعنجهية:
_شوفت الناس اللي بتفهم!!
انضم لهم علي ببسمته البشوشة:
_ها يا شباب ناقصكم حاجة؟
أجابه يوسف بلباقة:
_ناقصنا وجودك معانا يا دكتور.
أضافت ليلى:
_ألف مبروك يا دكتور علي.
منحها ابتسامة هادئة:
_الله يبارك فيكِ يا دكتورة، وعقبال كده ما نفرح بدكتور سيف قريب.
تخلى عمران عن رزانته التي ينجح بتلبسها أينما شاء:
_أكيد سيف هيقع في دكتورة بردو، ما العيلة دي تحسها قالبة على ادارة مستشفى عام حتى والد يوسف دكتور ووالدته دكتورة جامعية!
مازحه جمال هو الآخر:
_هاتله واحدة من كلية محاسبة تدير المواعيد وكشوفات المرضى!
انفجر الجميع ضاحكًا، فقال عمران لاخيه وعينيه لا تفارق زوجته المنزوية بين فاطمة وشقيقتها:
_مش هنقفل الليلة ولا أيه يا علي، ما خلاص على، كده!
رفع ساعة يده يتفحص الوقت، وقال:
_عندك حق الوقت إتاخر.
صاح يوسف بحماس:
_عمران قفلنا إنت الليلة دي، بأغنية رومانسية ندندن عليها أنا والدكتورة ليلى.
كاد بالاعتراض فلحق به جمال مؤكدًا:
_صوتك جميل ودافي يا عمران، عندي فضول أشوفك بتغني أغنية هادية.. ولا أيه يا دكتور علي؟
خشى عمران أن يعود علي لتعصبه من جديد، سابقًا منعه من الغناء حينما كان يهتم بمسرح الجامعة لابراز موهبته، والآن استغل موهبته ليعبر عن مشاعره لزوجته، ولكنه وجده يمنحه ابتسامة هادئة وأشار له للمنصة، انخفقت الاضوء وبات الجميع على استعداد لمشاركة الازواج بالرقص الهادئ.
صعد يوسف مع زوجته على المنصة وحاوط خصرها بينما تعتلي هي كتفيه، وبدأت الموسيقى الهادئة تجتاز المكان من حولهم.
تفاجآت صبا بجمال يدعوها للرقص، ولأول مرة تشعر بأنه رغم أنه شخصًا عاديًا لا يحب المبالغة بالامور الا أنه يحاول بشتى الطرق لاسعادها، فصعدت برفقته وتمايلت ببطء بين يده.
أما علي فاكتفى بالوقوف جوار فطيمة وعينيه لا تفارقها كأنها هي من تراقصها الآن.
قدم عمران يده لمايسان، فمنحته اياها على استحياء، سحبها للمنصة وتمايل برفقته بعدما ثبت سماعة الرأس حول أذنيه وشفتيه استعدادًا لاغنيته التالية، فطال صمته مما دفع يوسف لإن ينجرف برقصه برفقة زوجته حتى بات يقف جواره متسائلًا بدهشة:
_هنقضيها على الموسيقى كده، ما تغني يا ابني!
منحه نظرة مغتاظة وقال بسخط:
_قولتلكم ادوني وقتي بختار في دماغي المناسب ليا وللحالة الشاعرية اللي بعيشها مع مراتي، مش زرار هو هدوس عليه وأنطلق، ارجع مكانك بقى خليني أركز.
ضحكت ليلى وغمزت لمايسان الذي تلون وجهها بحمرة الخجل، وكأنه يصر على أن يجعل الجميع يعلمون بقصة حبهما الخفية، فرفعت عينيها له لتحدثه بغيظٍ مما يحاول فعله، فوجدته هائم بحدقتيها كالذي يبحث عن غايته بينهما، وفجأة انطلقت شفتيه تردد بعشقٍ:
«أيوه بسببك قادر أكمل
وقت ما بتعب ليكي بروح
لما ببان الدنيا تقفل
حضنك آخر باب مفتوح
ياللي عيونك وقت ما بغرق
بالنسبالي دي مركب نوح!»
ورفع يدها المنخفضة باستسلامٍ عنه ليضعها على صدره متعمدًا أن يحاوط بها موضع قلبه بالتحديد، ورماديته تتحداها بجراءة الا تحيل عينيها عن خاصته لتتمكن من فهم مغزى كلمات الأغنية، وكأنه يناشدها بكل حرف:
«إنتي الحته الحلوة في قلبي
ببقى ف قربك مش قلقان
إنتي حبيبتي وأمي وبنتي
وماليش بعدك تاني مكان
حببتيني ف أيام عمري
رجعتيني لنفسي زمان.»
طفولتهما المتشاركة تندمج بتلك المقطوعة، مازال يتذكر صداقتهم القوية، وكيف غاب عنها خلال ثلاث سنوات التي احتلتهما ألكس، فاستكمل بعشقٍ:
«إحساسي بيكي
لو قلت ليكي مابيتحكيش
جيتي وبقيتي
أهلي وبيتي
لو يوم مشيتي
إزاي هعيش!!!»
أتى لخلده ما فعله بها بعد زواجهما وتحملها العتي لاهاناته رغم إنه أكثر شخصًا يعلم كم أنها عزيزة غالية تأبى الخضوع لأي شخص، ولكنها كانت تنساق خلف قلبها العاشق له، انتابه ذكريات كانت هي لجواره على الدوام كلما احتاج لها، وبالأخص اليوم الذي تخلت عن خطة هروبها وهرولت إليه حينما أخبرها بأنه يعجز عن القيادة، مساندتها له وقت تناوله للسم حتى تلك اللحظة الذي بدى لها عاجزًا، لم تتخلى عنه، أدمعت عينيه وإحتقن صوته وهو يغني بباقي الكلمات التي لامستها فنقلت الدمع لعينيها هي الاخرى:
«عمرك لحظه ما نزلتيني
لأ بالعكس أنا بيكي عليت
ولا بعتيني ولا خذلتيني
وبتديني أكتر ما إديت
قبل ما بندهلك بتجيني
ضهري وسندي لو إتهزيت!!
نصي التاني إللي بيفهمني
قبلك عمري ماهوش محسوب
حبك هو إللي مكملني
من نقصي ومن أي عيوب
وسط حياه مليانه حروب!»
رفع إبهامه يزيح دمعتها المنسدلة على خدها، وبيده الاخرى ضمها لصدره ومال برأسه فوق رأسها مسترسلًا بحزنٍ:
«وأنا بين إيديكي
إحساسي بيكي
لو قلت ليكي آه مابينتهيش
جيتي وبقيتي أهلي وبيتي
لو يوم مشيتي إزاي هعيــــــــــش!!.»
تعالت الصفقات الحارة بين الجميع، وكان حسن ختام الحفل، فاستغل علي هدوء الاجواء وأصر على مراد البقاء بضيافتهم للصباح وحينها يتمكن من المغادرة للمطار مثلما أراد، فصعد برفقته للطابق الأول الخاص باستقبال الضيوف، وحينما تأكد بأنه لا ينقصه أي شيء غادر لغرفته.
نزع الجوكر جاكيته وأخرج من جيب بنطاله الفلاشة يتطلع لها بنظرة غامضة، انتشله صوت هاتفه الذي دق برقمها، فزوى حاحبيه باستغرابٍ لاستيقاظها لهذا الوقت، فأتاته ضربة أخرى أكثر حدة حينما أخبرته بأنها خارج القصر، فصاح بانفعالٍ:
_حنين، إنتِ ازاي تخرجي في وقت متأخر زي ده!!
نطقها الجوكر بغضب حينما حرر زر مكالمة الفيديو، فرفعت كوب الحمص إليه وهي تبرر له ببراءةٍ خبيثة:
_نفسي راحتله وإنت عارف لما بحب أكل حاجة مش بيهمني وقت ولا قوانين!
احتقنت زرقة عينيه وبات أكثر خطرًا، فأزاح سماعته عن أذنه وصاح بها:
_اقفلي خليني أكلم حد من الحرس يجيلك، حسابك معايا تقل أوي يا حنين.
أشارت له سريعًا وهي تبتلع ما بجوفها:
_يا حبيبي إنت قلقان عشان فاكرني لوحدي؟
ضيق عينيه بعدم فهم لما تحاول صغيرته ذات اللسان السليط كما يسجل إسمها بهاتفه فعله، فرفعت هاتفها عن الحجر تراقب بعينيها نقطة معينة قبالتها، ثم همست له بصوتٍ منخفض:
_ده أنا معايا الحكومة كلها هنا، حتى شوف عشان تعرف إن مراتك مش أي حد وتقدر تعمل أي حاجة في أي وقت!
عبث بحدقتيه في محاولةٍ لفهم تلك الحمقاء، فوجدها تستدير بجانب الكاميرا، فاندهش بشدةٍ حينما وجد رحيم يجلس على بعد مسافة منها يتحدث بهاتفه ويبدو على وجهه الامتعاض الشديد وكأنه على وشك ارتكاب جريمة مرعبة وبالطبع ستكون بمقتل قصيرته المختلة، وعادت بالكاميرا إليها تخفض من صوتها بغرور:
_الاسطورة بنفسه جبته معايا، قفشنس على البوابة وأنا خارجة فجبته معايا آآ… أقصد لقيته راجع بعربيته وباين عليه إنه مهموم كده، باينه متأثر ببعدك زيي كده يا حبيبي، فقولتله بينا نأكل حمص فقالي وماله.
منحها نظرة ساحرة وكأنه يحاول ابتلاع حديثها الأحمق، فقال بخشونة:
_وبعدين معاكي يا حنين، خفي شوية رحيم معندوش صبر ولا طولة بال هتجيبي لنفسك الأذى!
أتاه صوت أخيه الساخر:
_الأذى دخل حياتي من وقت ما جمعتنا مهمة واحدة يا حضرة الجوكر المزعوم، وحاليًا بعاني من توابع الأذى ده وحقيقي زي ما قولت أنا معنديش طولة بال لجنانها، فعقل مراتك بدل ما ترجع تلاقيني حابسها في زنزانة!
توالت ضحكات مراد الرجولية وهو يتأمل وجه حنين المرتعب، وكأنها على وشك البكاء من فرط الهلع التي خلفته كلمات رحيم المتعصبة، فهمست بخفوت:
_مراد إرجع إبليس ده قلبه جاحد ويعملها!
دث هاتفه بجيب جاكيته الفحمي، وأشار بزيتونية عينيه لباب السيارة بحزمٍ، مما دفعها لاستكمال طلبها للنجدة:
_ده باينه هيوديني الحبس فعلًا يا مراد، إلحقني الله يكرمك ده أنا حتى أم بناتك!!!
قهقه ضاحكًا ولم يتمكن السيطرة على ضحكاته وكأن الأمر يروق له، فقال بصعوبة بالحديث:
_على وضعك يا اسطورة، إتعامل أنا مديك الأذن!
ابتلعت ريقها الجاف بصعوبة، ورددت:
_مراد، بتتخلى عني يا مراد!!!
احتضن رحيم كفه جبينه يفركه بوجعٍ لحق نبرته:
_حنين أنا لو كنت بتعاقب على ذنب أسود في حياتي مكنش ربنا بعتك في طريقي، أنا كنت مستغرب إن في رأفة غريبة بيا لإني شخص لا يمت للضوضاء بصلة، والحمد لله شجن قدرت تندمج معايا في المحيط، أنتي بقى بتكفري ذنوب مين فيا!! يعني أخويا مش متعاقب بيكِ لوحده أنا كمان واخداني في الرجلين معاه!!
تلبست رداء الحزن بانعكاس ملامحها بشكلٍ جعل مراد يكتم ضحكاته، وأسرع بتحذير أخيه:
_وش البراءة بيترسم يا رحيم خد بالك!
سلط الكاميرا عليه ليمنحه بسمة مغتاظة:
_الوش ده بيأكل عليك إنت يا حبيبي، أنا محدش بيقدر يخدعني وإنت عارف.
وتابع بغيظٍ من بين اصطكاك أسنانه:
_إسمع أنا تعبان ومرهق وفيا اللي يخليني أعتزل المخابرات على الجواز على الحياة الآسرية اللعينة دي، فبهدوء كده يا مراد لو مكنتش في القصر الصبح قدامي متلومش الا نفسك.
واسترسل ببسمة خبيثة:
_وأبقى فكرني أبعتلك جثة الطيار اللي كل شوية يهج بيك ده في تابوت من توابيتي، عشان بعد كده متفجئش إنك غطست في أي مكان بدون إذني.
وهمس بسخط:
_مهو إنت متغطتسش وأنا ألبس في أم لسان طويل دي هنا!!
منع ضحكاته من الانفلات، وقال ساخرًا:
_شكلي وحشتك ومش قادر على غيابي فعلًا، عمومًا أنا طيارتي الساعة ٦ الصبح متقلقش.
وتابع بجدية:
_رحيم خلي بالك من حنين ومرين ومارال، أنا مبثقش في حد غيرك!
ارتسمت ابتسامة هادئة على وجهه، وبسخرية قال:
_بتوصيني على أختي وبناتي!
واسترسل قائلًا:
_ارتاح ولما توصل مطار القاهرة هكون بانتظارك.
*******
بشقة سيف.
انتفض بفراشه حينما وجد ليلى تثبت المحلول جوار الفراش وتحاول استهداف ذراعه لدث الأبرة بوريده، فصاع بهلعٍ:
_يا ليلى أرجوكِ أنا بخاف من الأبر، أنا خلاص بقيت كويس والله.
واستدار برأسه لمن يقف جوار الفراش يراقبهما بسخطٍ، فصرخ مستنجدًا:
_الحقني يا يوسف، إنت واقف تتفرج عليا أنا بموت من الحقن عندي فوبيا أنا!!!
ضحكت ليلى بعدم تصديق، وكأنها ترى طفلًا صغيرًا أمامها، فرددت بسخرية:
_أنت ازاي دكتور يا سيف؟
صعد ليجلس فوق وسادة الرأس يراقب ما بيدها، وأجابها:
_دكتور أطفال، يعني أسهل تخصص يبعدني عن الحقن والجراحة وكل الحاجات المكلكعة دي، كل اللي هعمله كشف بريء وكتابة الادوية المناسبة وطبعًا هحاول مكتبش حقن نهائي للأطفال.
تعالت ضحكاتها وهي تراقب سقوطه الوشيك عن الفراش، فحاولت استخدام نفس الاسلوب المتبع للاطفال:
_طيب يا سيف متخافش أنا ايدي خفيفة موت وفي لحظة هطلع العرق.
تراجع حتى اصطدم بيوسف، يحركه بقوة:
_إنت واقف كدليه!! خد مراتك وامشي يا يوسف أنا بقيت كويس
رفع يوسف يده تلقائيًا يتلامس جبينه فور أن لمسه سيف، وردد بقلق:
_سيف حرارتك ارتفعت، بلاش لعب عيال وإعقل.
صرخ بعنف:
_أعقل أيه، بقولك عندي فوييا من الحقن وإنت عارف الكلام ده
ضمه إليه يمسد على ظهره بسخرية لحقت نبرته:
_محدش بالبشرية بيحب الحقن أساسًا، إكبر كده وإعقل عشان أعملك الأومليت اللي بتحبه يا سيفو.
واستطرد متهكمًا:
_وأنا اللي ماشي أدورلك على عروسة!!!
وضعت ليلى طرف المحلول عن يدها وصاحت بعدم تصديق:
_هو انتوا بتهزروا صح؟ مش معقول كده!
فاض يوسف عن صبره، فانقض عليه يقيد جسده ويمد ذراعه لزوجته قائلًا بلهاث؛
_مش هيجي غير كده، يلا يا ليلى سمي الله.
حاول سيف ابعاد أخيه المتمدد على أنفاسه، هاتفًا بفزع:
_سمي الله أيه هي هتدبح! خد مراتك وامشي يا يوسف!!
لف نصفه العلوي لاخيه يغمز له هامسًا:
_عيب يا سيف، الدكتورة هتقول عليك أيه! يرضيك تتفضح أنك عيل وإنت خلاص هتتخرج كمان كام شهر!
وضم رأسه لصدره قائلًا وهو يكبت ضحكته:
_احضني واشغل نفسك بأي حاجة تانية.
وأخيرًا نجحت ليلى بدث الآبرة بين يده، وثبتتها جيدًا ثم اتجهت للمقعد القريب منهما لتجلس بارهاق استنزفها له بعد رفضه القاطع، عبثت بهاتفها لنصف ساعة وخطفت بعدها نظرة للمحلول فوجدته انتهى، نهضت لتغلقه تمامًا واتجهت لتسحب الأبرة عن ذراعه فابتسمت وهي تراقب سيف الذي استجاب لتأثير أحضان أخيه، فغفل على صدره ومن فوق رأسه يغفو يوسف بارهاقٍ ومازال يرتدي بذلته.
حاولت ايقاظه وحينما لم يستجيب لها، جذبت الغطاء وداثرتهما معًا ثم اتجهت لاحد الغرف لتقضي ليلها بها حتى الصباح!
*****
ما فعله اليوم جعلها تخشى أن ينفذ كل تلك الوعود بالحصول عليها، بحثت عنه مايسان بالأسفل وحينما لم تجده ظنت بأنه غادر برفقة جمال ويوسف، فهرعت لغرفته سريعًا وكأنها تلوذ بالفرار من شبحًا شريرًا، فما أن ولجت للداخل حتى أغلقت الباب بالمفتاح، وبدأت أنفاسها تهدأ تدريجيًا وهي تتأمل الباب بنظرة رضا تلاشت وحل محلها الذعر حينما أتاها صوتًا ذكوريًا يتساءل:
_قفلتيه كويس؟
هزت رأسها بالبداية تجيب سؤاله، ومن ثم انتفضت وهي تستدير فبرقت بصدمة حينما وجدت عمران يتمدد على فراشها، ونهض يقترب منها مرددًا بخبث:
_كويس أنك عملتي كده عشان نأخد راحتنا أكتر.
وبمكرٍ يدعي البراءة تساءل:
_أيه يا بيبي اتخضيتي من وجودي! إيش حال مكنتش مأكد عليكي تحت بالاغنية وقدام كل الناس إن النهاردة ليلتك!
كلما تقدم منها خطوة، تراجعت هي خطوتين حتى سد الحائط محاولات فرارها الفاشلة، وتبقت ذراعيه تحجب عنها الهواء، لتجده يقرب وجهه منها هامسًا بحب:
_كنتِ زي القمر النهاردة يا مايا، مقدرتش أرفع عيني من عليكي من أول الحفلة لأخرها.
توترت كلماتها التي لم تخرج عن شفتيها، فأحاط خدها بيده وقربها إليه، فهمست باستحياءٍ:
_عمران أنا آآ…
أستكمل هو جملتها الغير مفهومة:
_إنتي إيه يا قلب عمران، إتكلمي وأنا عليا السمع والطاعة.
ورفع يده على حين غرة يزيح حجابها، ومن بعده رباطة الشعر، لينسدل على كتفيها، فانحنى يستنشق رائحته المخللة بزيت الياسمين.
ابتلعت ريقها بارتباكٍ قاتل، ورددت بخفوت:
_إنت بتعمل أيه؟
خطف نظرة مطولة لها، ثم دنى ليصبح قريبًا، همسه يختطف أنفاسها اللاهثة:
_أنا سامع صوت قلبك من مكاني هنا.
ومال لأذنيها يستكمل:
_استسلمي لمشاعرك يا مايا!
وتابع بعشقه المتأجج:
_أنا بحبك وحابب نبدأ حياتنا مع بعض من تاني.
وأخبرها وعينيه لا تفارق خاصتها:
_وواثق أنك بتبادليني نفس الحب وأكتر، خلينا ننهي البعد والمسافات المتعبة دي يا مايا!
أغلقت عينيها بقوة تجاهد مشاعرها التي أضعفتها أمامه، فاستغل لحظتها القصيرة تلك ليستحوذها بحبه، وفجأة وجدت ذاتها تستمد قوة عجيبة لتدفعه بكل شراسة للخلف وهي تصرخ بغضب:
_عمران!
لم يكن جسده بالضعيف لينصاع خلف تلك الدفعة، انسياقه خلف رغبته أخفضت من محاولاته للوعي بما يحدث من حوله، اهتز بوقفته وعينيه تشخص بالفراغ لألم ما تعرض له، فعاد يتطلع لها بنظرة شملها الألم، ثم قال:
_بتعملي ليه كده معايا يا مايا، مش معقول بعد كل اللي بعمله عشان نقرب من بعض تكوني لسه موثقتيش فيا!!
واسترسل بحزن جعله يفوق عمره تعاسة:
_ربنا سبحانه وتعالى بيغفر يا مايا إنتي مش هتغفريلي اللي عدى!، أنا مبطلتش ألجئ ليه من بعدها، مطلبتش غيرك في دعاء قيامي وإنه يغفرلي!
يظن بأنها تمتنع عنه لحزنها لخيانتها السابقة مع إنها تعلم بأنه تاب وابتعد عن المعاصي، عساه يعلم بأنها تخسى منحه الأمان ويعود لضعفه مع أحدهن حينها ستفقد روحها وكل ما امتلكته من قوة زائفة، ستخسر وخسارتها تلك ستكون القاضية!
تمزق قلبه وهو يرى صمتها، فأجلى صوته المنقطع قائلًا:
_أوعدك إن اللي حصل ده عمره ما هيتكرر أبدًا، عمري ما هفرض نفسي عليكي، تصبحي على خير.
وترك غرفتها وإتجه لغرفته بخطواته المتهدجة، حل جاكيت البذلة وألقاها على الفراش، ثم حاول نزع الجرفات عن عنقه، وعبث بأزرر قميصه يفرقه عنه بحزنٍ عقيم.
تسلل لمسمعه الآن صوت باب غرفته يفتح، فاستدار ليجدها تضع ححابها على رأسها باهمال وتتجه لتقف قبالته بنظرات كانت غامضة للغاية، فوجدها ترفع يدها الحاملة لكتاب الله عز وجل، وبقهرٍ اخترق قلبه دون رحمة أتت كلماتها لتوضح له عما تخوضه طوال تلك المدة الماضية، حينما قالت:
_لو عايزني أبدأ معاك حياتنا يبقى تحلفلي بكتاب الله إنك مستحيل هتخوني ولا هترجع للي كنت فيه في يوم من الأيام يا عمران!
يتبع…
كان يظنها تتألم لخيانته السابقة لها، وها هي تصفعه بطعنة عذاب ضميره حينما واجهته بما تخفيه، تصلب جسد عمران أمامها، حبيبته القوية التي سبق وحذرته سابقًا من الحلف بالقرآن الكريم وخاطبته بالا يحلف سوى بالله عز وجل، تلجئ لنفس طريقه من قلة حيلتها!
نظرات عينيها المنكسرة، استجابتها السابقة لقربه، واعتراضها مجددًا ومن ثم تخبره بما تخشاه جعله يكره ذاته التي كانت السبب بجلد زوجته الحبيبة، بدد عمران تلك الغصة الطاعنة لحلقه المرير، ودنى منها يلتقط المصحف الشريف بين يده ويده الاخرى تتمسك بيدها المرتعشة.
وضعه على الخزانة القريبة منه، ثم عاد يمسكها بكلتا يديه وهي تنتفض أمامه ببكاء يرتفع صوته تدريجيًا من خيبة أمالها ، تحركت يده عن راسخها لتجذب رأسها بقوة لأحضانه، ويديها المرتفعة باستسلام تمنع جسدها من الوصول لصدره، وكأنها تترك ذاتها دون رغبة منها، تتأوه وتبكي ودموعها تنهمر فوق رقبته، باعدت ذراعيها المستندة على صدره وأحاطته مشددة على قميصه بقوةٍ، فانتفضت من تقصير كتمها لشهقاتها المؤلمة، ورددت جوار أذنه القريب منها:
_لو عملتها تاني يا عمران هموت.
أبعد وجهها عنه ورفعه إليه، ليقول بوجعٍ:
_بصي في عنيا يا مايا، وقوليلي شايفة فيه مكان لحد غيرك! أنا آسف إني السبب في الحالة اللي إنتي فيها دي، أنا اللي خليتك تعيشي معايا وإنتي قلقانه من اللي جاي.
وتابع وهو يضم وجهها بيديه بحنانٍ بالغ مستكملًا:
_ أنتِ نقية يا مايا وأنا اللي هدنسك بالمعاصي اللي ارتكبتها، أنا عارف إنك بتحاربي نفسك عشان تكوني معايا وده كافي بالنسبالي.
وقربها إليه ولثم جبينها بقبلة عميقة ضمت كل ذرة حب صفها داخل قلبه لها:
_عمران زير النساء ومدمن الخمر اتقتل في اليوم اللي كان ماشي فيه على الطريق وشايف بعينه الموت بيقربله وهو كله معاصي، شريط حياته مر عليه وملقاش حاجة فيه تشفعله قدام ربنا لو روحه فارقته..
واستند بجبينه على جبينها مغلقًا لحدقتيه ليسمح بتلك الدموع بالانهمار على خديه:
_اتولد واحد جديد في نفس اليوم اللي شافك فيه بترمي كل أخطائه وراه وبتحاولي تساعديه عشان يقوم من تاني، وإتولد جواه عزيمة وقوة وهو شايف إخلاصك حتى وهو بيواجه الموت،كنتِ مستعدة تشربي السم عشان شخص ميستحقش وأخد عهد على نفسه إنه يستحقك يا مايا، يستحق طيبتك وحبك وقلبك وكل شيء حلو فيكِ، أنا اتولدتي من تاني ونفسي تقتنعي بده!
مالت برأسها لصدره تدفن ذاتها داخله، وقد شعرت بارتياحٍ يحيطها، ضمها إليه مجددًا، وقد تسنى له الشعور براحتها وأمانها داخل أحضانه، والغريب بالأمر أنها باتت مستعدة لقربه بشكلٍ أثار رغبته بها، فخاض لحظات بقربها وحينما وجدها تستجيب له خرج صوته متحشرجًا:
_إنتِ على وضوء؟
أخفضت وجهها عن وجهه بخجلٍ، واكتفت بإشارة خافتة له، فتحرك ليكون خلفها، يحاوط شعرها الطويل بيده وعينيه تبحث على سراحته القريبة منه بحيرةٍ انطلقت بهمسه الخافت:
_مش لو كنتي عايشة معايا هنا كنت لقيت دبوس ولا توكة شعر!
واسترسل بخبثٍ وهو ينحني لفراشه جاذبها خلفه من شعرها برفقٍ خشية من أن يضيع مجهود جمع خصيلاتها بخصلة كبيرة:
_خلاص مش هيكون لينا مكانين بعد النهاردة، الصبح هننقل كل حاجتك هنا.
انحنت خلف انحناء جسده، فحاولت الاستدارة لترى ماذا يفعل هذا، فوجدته يجذب جرفاته وينتصب بوقفته ليحيط بها شعرها كأنها رابطة شعر، قائلًا بسخرية:
_مع إني دافع فيها نص ثروتي تقريبًا بس مش خسارة فيكِ .
وفور أن لف خصلاتها برابطة عنقه، حتى رفع الحجاب المتدلي حول رقبتها ليطرحه على رأسها بإحكامٍ والابتسامة المحبة لا تفارق شفتيه.
أتجه أمام عينيها لزوايته المفضلة التي خصصها لعبادته، فيترك بها حاملة مصحفه وسجادته وبعض أعواد المسك، فتح خزانته يجذب سجادة لها، ففردها خلف سجادته واستدار يتفحصها، فقال بحنانٍ حينما وجدها مازالت تقف محلها:
_قربي.
إنصاعت إليه وكبتت صوت طرقات قلبها الصاخب واقتربت تقف خلفه ليكون أمامها، ارتجف جسدها بقشعرة لذيذة فور سماع صوته بقراءة القرآن، وكأنه لا يمتلك الصوت البارع بالغناء فقط، تصطدم الآن بجماله الأكثر من السابق بالقرآن، لدرجة جعلتها لا تود أن ينتهي، كل ما تفعله تغلق عينيها وتتابع كل كلمة يرددها بخشوعٍ.
انتهت صلاتهما، واستدار لها عمران ومازال جالسًا على ساقيه المنحية أسفله، فوجدها تبتسم له وتخبره بحماسٍ:
_صوتك جميل أوي في القرآن يا عمران.
تمعن بها بصمتٍ جعلها ترتبك إلى أن قطع صمته بصوته الجذاب:
_صوتي بس؟
سحبت عينيها عنه بخجل قاتل، فزحف للخلف حتى بات قبالتها، يرفع وجهها تقابل وجهه، لتستمع لهمسه الصريح:
_صوتي وقلبي وكل ما أملكه ملكك يا مايا.
استقام بوقفته يجذبها لتنهض عن الأرض، ثم تراجع بها حتى الفراش، فتمدد معها وهو يتفنن بجعلها لا تفلت عن حصاره، حتى استسلمت له أخيرًا، وباتت زوجة له أمام الله عز وجل وقد كان أول لقائهما يشهد عليه صلاتهما ووعده القاطع لها!
*******
وأخيرًا انتهى علي من توديع ضيوفه من الأطباء، وتمكن من الصعود لغرفته بعد ذلك اليوم المتعب، فما أن ولج للداخل حتى تفاجئ بها داخل غرفته تنتظره جالسة على الأريكة، وقد بدى على وجهها أنها خاضت بذلك الوقت مئات من الحروب بين بقائها ومغادرتها.
ابتلع ريقه على مهلٍ، وقال ببسمة هادئة:
_فطيمة بتعملي أيه هنا؟
نهضت عن الأريكة تفرك أصابعها بقوةٍ كادت بتمزيقهم، وخرجت حروفها مبعثرة:
_أنا آآ… آآ… يعني النهاردة آآ… وميصحش يعني آآ…
منع الابتسامة من الظهور على ملامحه، فاقترب منها بعدما ترك هاتفه ومفاتيحه على الطاولة، وما أن اقترب منها حتى قال بحنان:
_في حد عاقل يسيب أخته اللي مشفهاش كل المدة دي ويجي لدكتور ممل ومعتوه زيي!
توترت بوقفتها بارتباكٍ، وخاصة بأنها تحاول فهم ما يريد، فأتاها صوته الحنون يأمرها:
_بصيلي يا فطيمة.
رفعت عينيها الخجولة له، فوجدته يبتسم بحبٍ:
_مساحتك الخاصة اللي ادتهالك مستحيل هكسرها في يوم من الأيام الا لما أحس إنك بقيتي كويسة وقادرة تتقبلي وجودي جنبك، الاتفاق اللي بينا مش هيتغير أبدًا.
واسترسل بايضاحٍ لم يبخس به عليها:
_فطيمة أنا أكتر حد مش هتقدري تخدعيه بأنك بخير، مش لاني دكتورك المعالج، لإني بقيت حفظك أكتر ما أنا حافظ نفسي ك علي.
وتابع بنفس الابتسامة الجذابة:
_انسي أي حاجة ومتفكريش غير في اللي يسعدك إنتي وبس وهتلاقيني بساندك قلبًا وقالبًا في أي شيء هيخليكي مبسوطة وسعيدة.. زي زينب مثلًا أنا رفضت إن مراد يخدها الشقة اللي اشترهالها هنا وصممت إنها تكون جنبك باستمرار يا فطيمة.
تلألأت عينيها بفرحةٍ، وراحت تتساءل:
_بجد… بجد يا علي؟
منحها ابتسامة هادئة وهز رأسه تجاه باب غرفتها:
_ادخلي شوفي بنفسك.
اتسعت ابتسامتها بفرحةٍ، وحملت طرف قفطانها الطويل لتستعد للهرولة تجاه غرفتها، فما أن وقفت أمام الباب الداخلي الفاصل بين الغرفتين حتى وقفت تحتار بما يعتليها بتلك اللحظة، فالتفت رأسها إليه تتطلع له بتوترٍ جعله متيبس محله باستغرابٍ ودهشة مما يقلقها لهذا الحد، وفجأة اصابه وابل من الصدمة جعله يرمش بعدم استيعاب ورأسه تتحرك لتلك التي تتوسط صدره وتضمه بقوةٍ!
تهللت أساريره وقرعت طبوله ليتراقص قلبه استجابة لذلك اللحن، فأحاطها بقوة وهو يهمس دون تصديق:
_أخيرًا يا فطيمة!
وتابع وهو يغلق عينيه باستسلام:
_مش عايز حاجة تانية غير ضمتك دي!
أرادت الابتعاد عنه ولكنها وللعجب بقت خاضعة لذراعيه التي تحيطها، ضمته كانت غريبة لا تشبه ضمة والدتها الراحلة ولا ضمة شقيقتها، تلك الضمة جعلتها تختبر تلاعب أوتار قلبها بشكلٍ أرهق أنفاسها الصاعدة، ما بين حمرة الخجل بقربه وبقائها منصاعة لدفء ذراعيه ولتلك الرائحة المميزة التي تعتادها بوجوده بأي مكان، ولكنها الآن قوية ونفاذة بقدر يجعلها هادئة بقربٍ لم تحظى به من قبلٍ.
لا تعلم إلى أي وقتٍ ظلت هادئة داخل أضلعه، حتى علي بالرغم من أن هناك جانب داخله مستيقظ خشية من أن تستعيد وعيها فتعود لنوبتها لذا بحاول البقاء على وعيه الكلي ليستعد لاي نوبة قد تقتحم جسدها،وجانب أخر ينغمس بضمتها بحبٍ يجعله يلعن ذاك النصف الواعي ويدعوه ليفقد عقله مثلما بعيش هو.
كادت أن تستجيب لتلك الغفوة التي تطالبها لنيلها الراحة داخل أحضانه، ولكنها تذكرت حديثه بأمر شقيقتها الجالسة الآن بغرفتها، فحلت ذراعيها المحاطة لرقبته وتراجعت خطوتين للخلف على استحياءٍ، ومن ثم ركضت لتفتح الباب وتغلقه بوجهه كمن ترغب بصرف عفريت المشاعر التي استحضرتها، فبقى محله مبتسمًا، هامسًا:
_قطعت نص الطريق لسه النص التاني وأقدر أقول بكل ثقة إنك اتعالجتي يا فطيمة!
*****
تفاجأت زينب بوجود شقيقتها، فضيقت عينيها الفيروزية بدهشةٍ:
_انتي لاش رجعتي لبيتك أ فطيمة،ماشي المفروض اليوم عرسك؟
(إنتي رجعتي الاوضة ليه يا فاطمة، مش المفروض النهاردة فرحك).
نزعت حجابها عنها واتجهت لتجلس على الفراش وهي تجيبها بخجل:
_العلاقة بيني و بين علي ماشي بحال داكشي اللي انتي فاهمة،
زينب انا باقية كنتعالج من داكشي اللي طرا ليا،
باقي الكوابيس كتلاحقني،انا عارفة بانه علي عمره ما غيضغط عليا و غيتعامل معايا بحذر،
انا بغيت ناخد هاد الخطوة و نتقرب منه، و لكن صدقيني ما قداش،كاين حاجز بيني و بينه و ماقادراش نهرسه واخا ف شي اوقات كنحس بانه اقرب ليا من نفسي
انا كنحس معاه بحنان و احترام ما حسيتوش مع حتى شي واحد اخر.
(العلاقة بيني أنا وعلي مش زي ما أنتي فاهمه، زينب أنا لسه بتعالج من اللي حصلي، لسه الكوابيس بتطاردني، أنا عارفة إن علي عمره ما هيضغط عليا وبيتعامل معايا بحذر، ونفسي أخد أنا الخطوة دي وأقرب منه بس صدقيني مش عارفة في حاجز بيني وبينه مش قادرة أكسره مع إني أوقات بحس إنه أقرب ليا من روحي، أنا بشوف معاه حنية واحترام محستش بيهم مع أي حد)
اتجهت لتجلس جوارها على الفراش، تخبرها بابتسامة هادئة:
_انا كنت حزينة عليكي ا فطيمة،و لكن لما مراد عاودلي على الدكتور علي و على زواجكم فرحتلك بزاف،
و باين من الشوفات ديالو و اهتمامه بيك طول الحفلة بانه كيبغيك
(أنا كنت حزينة أوي عليكي يا فاطمة، بس لما مراد حكالي عن الدكتور علي وعن جوازكم فرحتلك أوي، وباين من نظراته واهتمامه بيكي طول الحفلة إنه بيحبك.)
ابتسمت تلقائيًا وقالت:
_علي فعلا رجل عظيم،هو الراجل الوحيد اللي ما كنحسش بالخوف و انا معاه خصوصا من بعد داكشي اللي اتعرضت ليه
(علي فعلًا شخص عظيم، الراجل الوحيد اللي مبحسش بالخوف وأنا معاه وخصوصًا بعد اللي اتعرضتله!)
وعاد الحزن يرتسم على معالمها، حتى أدمى الدمع عينيها، فقالت:
_كنت كنتمنى بابا و ماما يكونوا موجودين معايا في نهار بحال هدا،
انا اتحطمت لما وصلني خبر الموت د ماما و دابا زدت اتقهرت فاش عرفت بالموت د بابا.
(كان نفسي بابا وماما يكونوا موجودين معايا في يوم زي ده، أنا انكسرت لما وصلني خبر وفاة أمي ودلوقتي زادت كسرتي لما عرفت بوفاة بابا.)
وتابعت بابتسامة زارتها، ويدها تشدد على يد شقيقتها:
_وجودك معايا ازينب،غيخليني نتخطى اي حاجة خايبة عشتها و اتعرضت ليها.
(وجودك معايا هنا يا زينب هيخليني أتخطى أي وجع عشته!)
وأزحت دموعها، وراحت تتساءل بلهفة:
_المهم انا بغيتك تعاوديلي عليك،
عنداكي تكوني تخليتي على الحلم ديالك و خرجتي من القراية.
(المهم أنا عايزاكي تحكيلي عنك، أوعي تكوني اتخليتي عن حلمك وطلعتي من التعليم!!)
أجابتها سريعًا حتى لا تخيب أمالها:
_هادي هي الحاجة الوحيدة اللي كانت كتنوسني و كتخرجني من همومي أ فطيمة،كنت كنقرا بالليل و النهار حتى دخلت للطب،انا دا في السنة التانية،
مراد نقل ليا وراقيا للجامعة هنا بالنجليز،
هاد الانسان محترم و شهم و ولد الناس،ما تخلاش عليا كاع من بعد الموت د بابا،باركا انه كان كيستحمل المكالمات ديالي و السؤال ديالي عليك ديما،و اخر حاجة وعدني يلاقيني بيك و وفى بوعده.
(دي الحاجة الوحيدة اللي كانت بتسليني وبتخرجني من همومي يا فاطمة، كنت بذاكر ليل نهار لحد ما الحمد لله دخلت طب، أنا في سنة تانية، مراد نقلي أوراقي لجامعة هنا بانجلترا، الانسان ده محترم وشهم وابن اصول، متخلاش عني بعد وفاة بابا أبدًا، كفايا انه كان متحمل مكالماتي وسؤالي عنك بشكل دائم، وأخر شيء وعدني إنه هيجمعني بيكِ وفعلًا صدق بوعده!)
وأضافت بحماسٍ أضاء وجهها:
_انا بسبابه وليت كنبغي البوليس و المخابرات، و كنطلب من الله يجيبلي شي عريس بحاله ف شهامته و شكله و عضلاته و آآ…..
(أنا بسببه بقيت بحب الظباط والمخابرات وبتمنى ربنا يبعتلي عريس بشهامته وشكله وعضلاته وآآ….)
قاطعتها فاطمة بغضب مصطنع:
_زينب!!
تجاهلتها واستطردت ببسمة مازحة:
_واش انتي متأكدة انو متزوج أ فطيمة ؟
(هو انتي متأكدة إنه متجوز يا فاطمة؟)
ضحكت بصوتها الرقيق، وحطمت سقف أمنياتها:
_متزوج و عندو جوج بنيات كيحمقو ،و هادشي اللي كتقوليه حرام،هبطي لأرض الواقع و لا غتبوري أدكتورة
(متجوز وعنده بنتين زي السكر، وحرام اللي بتقوليه ده، إنزلي لسقف الواقع عشان كده هتعنسي يا دكتورة!)
لوت شفتيها بسخطٍ، ورددت باستنكارٍ:
_و لاش غنبور، هانتي زهرك طلع زوين و طيحك ف الدكتور علي،
دكتور زوين و غزال و زاز و مربي و من الهاي كلاس و كيبغيك من الفوق،
و حتى انا اكيد ربي سبحانه و تعالى غيجازيني لاني اختك و صبرت معاك ف المحنة ديالك كاينة و لا لا!
(هعنس ليه ما أنتي حظك كان جميل ووقعك في دكتور علي، دكتور وسيم وشيك وذوق جدًا ومن الطبقة المخملية الراقية وفوق كل ده بيحبك، يعني أنا أكيد ربنا سبحانه وتعالى هيكافئني عشان أنا أختك وصبرت معاكي في محنتك بردو ولا أيه؟)
تمادت بالضحك حتى احمر وجهها، وهتفت بصعوبة وهي تحاول إلتقاط أنفاسها:
_انتي كااارتة أزينب! (انتي كارثة يا زينب!)
********
تمادى الليل بفرض سيطرته وفجأة انقشع ظلامه مع سطوع شمس اليوم التالي، حيث استعد الجوكر ليغادر لطائرته الخاصة، فوجد علي بانتظاره وعلى وجهه ابتسامة مشرقة:
_خلاص هتفارقنا يا باشا؟
منحه الجوكر ابتسامة هادئة تزيد من جاذبيته:
_مضطر والله يا دكتور علي، إنت عارف إن شغلي صعب أتحرر منه ولو ليوم واحد، ده غير إن رحيم زيدان مستحيل يقبل إني أبعد عن القصر وسمحلي بده عشان وعدي لفاطيما.
وتابع وهو يربت على كتفه بملامحه الجادة:
_إنت معاك رقمي الخاص وقت ما تحتاج أي حاجة إنت أو فاطيما كلمني على طول.
احتضنه علي باحترام ينجح هيبته بطرحه على مسمع الجميع، فهمس له الأخر:
_خلي بالك من فاطيما، البنت دي اتعرضت لعذاب جحيمي وتستحق تعيش بسلام بعد الرحلة الصعبة اللي خضتها معايا ضد ناس اتعرت قلوبهم من الرحمة ومبقوش شايفين الست غير وسيلة للمتعة.
وابتعد وهو يستطرد ببسمة هادئة تمنح الراحة للأخر:
_حلال فيهم قنبلة رحيم زيدان.. فتت أشلائهم.
ارتسم الحزن بمعالمه ومع ذلك رسم ابتسامة متفهمة:
_متقلقش يا مراد، فاطمة بعنيا أوعدك إني هحافظ عليها أكتر من نفسي.
ربت على كتفه بصلابة، وكاد بالصعود للسيارة التي ينتظره سائقها ليتحرك به، ولكنه عاد يخبر الاخير بغمزة أضافت جمال لعينيه الزرقاء:
_بالنسبة للي شاغل بالك بيه وسألتني عنه امبارح فإطمن لإنه مش بس محترم ويليق بأختك، لإنه يخصني وتحت تدريبي وأنا مبكنش قائد لأي حد!
اتسعت ابتسامة علي وقد غمرته الراحة بعد حديث مراد، فوقف يراقب سيارته الراحلة بنظرة ممتنة، والآن ما عليه سوى الانتظار والترقب لخطوة آدهم القادمة.
التفت ليصعد للأعلى فخطفت عينيه نظرة لشرفتها، فوجدها تقف برفقة شقيقتها، وعلى ما يبدو لم تذق كلتهما النوم وبقيت تثرثران للصباح، إتجه علي للأعلى وطرق الباب ومن ثم ولج حينما استمع لإذن فاطمة، فقال ببسمة جذابة:
_صباح الخير،لقيتكم صاحين بدري فقولت فرصة أجي أتعرف على زينب بنفسي.
دنت إليه زينب بابتسامة بشوشة متحمسة للتعرف بزوج أختها الكبرى، وما كادت بالحديث حتى أوقفها باشارة اصبعه المحذر:
_بالمصري! اتكلمي بالمصري الله يكرمك عشان أقدر أفهمك ولو مش هتعرفي هنحتاج كده فطيمة تترجم..
ضحكت وهي تجيبه بغرور:
_لغتكم مش صعبه يا دكتور علي، سهل أي حد يتكلم بيها
اتسعت بسمته قائلًا:
_شكلنا كده هنفهم بعض، عمومًا يا زينب أنا مش عايزك تعامليني على إني جوز أختك، أنا يكون ليا الشرف لو قدرتي تحطيني في خانة الأخ اللي بسهولة تلجئي ليه بدون أي حرج، يا ترى هتقدري ولا صعبة؟
خطفت نظرة لشقيقتها وكأنها تستمد العون منها، فوجدته تهز رأسها باشارة صريحة بأنه يستحق أن تعامله كأخ، واستنادًا على حديثهما المسائي هزت زينب رأسها قائلة:
_طبعًا هقدر، لاني عندي ثقة في الاشخاص اللي بتطمن ليهم فطيمة، وسبق وجربت ثقتها بمراد زيدان وكانت في محلها فأكيد هتكون زيه يا دكتور.
منحها نظرة حنونة، وأضاف وهو يفتح الباب ليستقبل الخادم الذي انتهى للتو من صنع الافطار انصياعًا لطلب علي،فدفع الطاولة قبالتهما:
_حيث كده بقى يبقى نفطر مع بعض،عشان يكون في بينا عيش وملح ولا أيه يا فطيمة!
تخلت عن صمتها أخيرًا وقالت:
_اللي تشوفه يا علي.
جلسوا معًا يتناولان الطعام، وبدأ علي يتعرف عن زينب وعن دراستها وكل شيء متعلق بها،حتى لا تواجه أي مشاكل بعد تحويل أوراقها إلى هنا.
*******.
فتحت عينيها بانزعاجٍ، وبدأت تستوعب ما حولها، انتفضت بجلستها بفزعٍ حينما لم تجد نفسها بغرفتها، وبدأت بالهدوء ريثما تسلل لها ذكريات الأمس، فالتفتت جوارها تلقائيًا فعادت أنفاسها لمجراها الطبيعي حينما لم تجده لجوارها.
تسلل لها صوت المياه الجاري بحمام الغرفة، فتسللت مايسان تلتقط فستانها ترتديه لتلوذ بالفرار مسرعة قبل خروجه، فما أن أحكمت حجابها حتى اسرعت للباب تحاول فتحه، فتصلبت عروقها حينما وجدته موصود بالمفتاح، خُيل لها ألف سيناريو جميعهم حصدوا الهلع من حولها، وفجأة تسلل لها صوته الذكوري القوي:
_صباح الخير يا بيبي!
استدارت تقابله بنظرة مشتعلة بالغضب:
_إنت قافل الباب بالمفتاح ليه يا عمران وآ…
ابتلعت باقي كلماتها وهي تستدير سريعًا تحتمي خلف يديها بصراخ:
_إنت طالع قدامي كده إزاي!!!!
رمش بعدم استيعاب لما يحدث لها منذ طالعة الصباح، فجذب التيشرت يرتديه على بنطاله مرددًا بسخرية:
_إنتِ ناقص تطلعي على القسم تقدمي فيا قضية تحرش! في أيه على الصبح يا مايا، ما كنا كويسين من ساعات!
ارتبكت أمام حديثه الجريء ومع ذلك حافظت على اندفاع نبرتها المتعصبة:
_فهمني قافل الباب عليا ليه!!
حك ذقنه بتسليةٍ وصلت لهمس صوته المغري:
_خايف تهربي مني!
واتسعت ابتسامته وهو يصيح بفتور:
_قفلته عشان عمي وعلي أخدين إني هنا لوحدي، وأنا مش حابب لا أعرضك ولا أعرضهم لموقف سخيف لحد ما يفهموا من نفسهم إن الأوضة بقت تخصنا.
وتابع بهدوء مخادع لها:
_وطلعت من حمامي أكمل لبسي بره كالعادة يعني وحتى لو مكنتيش نايمة فأنا مش شايف نفسي أذنبت إنتِ مراتي وجوازنا داخل على السنة!!
أخفضت عينيها أرضًا ، فاقترب منها حتى رفع وجهها قبالته يجاهد ليخرج سؤاله بحرجٍ يحوم به:
_مايا إنتِ آآ.. إحممم.. كويسة؟
عبثت بحدقتيها بصدمةٍ حينما استفهمت مغزى سؤاله، فأبعدت يده عن وجهها واتجهت للفراش وهي تؤمي برأسها بخفة، فعبث بخصلات شعره بضيق من عدم تأكده إن كانت تعلم مقصده أم تطمنه على أحوالها، فلحق بها يحاول خلق جو من الحديث بينهما، فقال:
_النهاردة معزومين عند جمال، والدته سافرتله امبارح ومصممة إنها تتعرف عليكي، خديلك Shower وإلبسي عشان نتحرك.
التفتت إليه تخبره بنزقٍ:
_مش لما تتكرم وتفتح الباب الأول!
ابتسم بمشاكسة جابت غمزة عينيه على خزانته:
_لأ ما أنا خلاص نقلت هدومك في دولابي، ونظمتهم بنفسي.
جحظت عينيها بدهشةٍ:
_أمته ده؟
أجابها وهو يلف يديه حولها:
_إمبارح بعد ما نمتي قومت عشان أصلي القيام وبعدها مجاليش نوم، فشغلت نفسي بنقل الهدوم وترتيبها.
ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تبعد عن عقلها تلك الفكرة التي تحررت على هيئة سؤال عابر:
_نقلت كل هدومي؟
هز رأسه مؤكدًا لها بخبثٍ، فجن جنونها وطاحت بعصبية:
_ازاي تسمح لنفسك تفتح حاجتي وأغراضي الخاصة، صحيح إنك وقح يا عمران ومدي لنفسك حقوق كتيرة أوي لمجرد أني آآ… آآ..
_آآآ أيه؟!
تساءل بخبث جعلها تزدرد ريقها وقد تخلت عنها الكلمات بحق، فدنى منها مجددًا يضمها إليه وهو يهمس ببراءة مصطنعة:
_نظمتلك فساتينك والشوذات لكن باقي حاجتك أقسملك إنهم جوه لسه في الشنطة مجتش جنبهم نهائي!
استرخت معالمها بهدوءٍ غريب، جعله يكتم ضحكة صاخبة كادت بالتمرد، وخاصة حينما استكمل بدور برائته مربتًا على كتفيها:
_يلا يا قلبي ادخلي خدي الشاور بتاعك وإخرجي عشان تلبسي، مش عايز نتأخر عليهم.
اومأت له بطاعة وولجت للخزانة تنتقي ما سترتديه، بينما هي بالداخل تعبث بحقيبة السفر الضخمة التي تحتوي أغراضها ترسخ لها الغباء، على مقاس ردائها، فإن كان صادقًا بأنه يحتفظ بأغراضها بحقيبة موصدة كيف وضعهم بداخلها من الأساس!! ذاك الوقح يظن نفسه متحاذقًا؟
خرجت كالاعصار تبحث عنه فوجدته يرفع يديه مرددًا بخشوع:
_الله أكبر.
لجئ لصلاة الضحى سريعًا قبل أن تقتص منه، فهتفت وهي تعود للخزانة مجددًا:
_ اصبر عليا يا وقح!
******
صمم علي أن تخرج زينب وفاطمة برفقته في جولة بانجلترا، وخاصة حينما استكشف انبهار زينب بها، فاستعدت كلاهن للخروج، ارتدت فاطمة فستان بسيط أسود اللون يحيط به حزام من اللون الأبيض وحجاب ابيض اللون، هبطت للأسفل برففة شقيقتها فما أن رأها علي حتى ابتسم وقال:
_جمالك اللي محتاج تأمل مش انجلترا!
منحته ابتسامة رقيقة، ووقفت لجواره تراقب زينب التي هرعت للاسفل تحمل طرف قفطانها المغربي البسيط، لتتساءل بلهفة:
_ها يا علي هتودينا فين؟
منحها ابتسامة واسعة، وقال:
_كل الأماكن اللي تخطر على بالك.. وبالمناسبة شمس كمان جاية معانا مصممة تتعرف عليكي عن قرب يا زينب.
اتسعت ابتسامتها وقالت بترحاب:
_أكيد أنا كمان نفسي أتعرف عليها، هي عندها كام سنة وبتدرس أيه؟
قص لها علي سريعًا عن عائلته، حتى والدته وعمه، كانت فاطمة تراقبه وهو ينسجم بالحديث مع شقيقتها بفرحة، علي لا يحتل قلبها فحسب، ذاك الشخص يملك قلبًا لا يعرف الخبث طريقًا إليه، فإن وجدته يتحدث أحدًا تجده بشوش الوجه بصورة تجعل من أمامه لا يود أن يفارقه، ربما لا يمتلك تفاصيل الرجال المغرية لفتيات، ولكنه يمتلك جمال خاص به، طباعه هادئة وحياته منسقة حتى بعمله هو كذلك، من يراه ويرى أخيه المشاكس الوقح يجدهما عملتين مختلفين للغاية.
خرج علي بسيارته وعينيه لا تفارق فاطمة الجالسة جواره بالأمام بعدما صممت شمس البقاء بالخلف برفقة زينب لتتعرف عليها بإريحية.
*****
انتهت مايسان من ارتداء ملابسها، فخرجت تتجه للسراحة لتعقد ححابها، وقفت أمام المرآة تجمع خصلاتها فابتسمت حينما تذكرت رابطة عنقه، فأسرعت للفراش الغير منظم تبحث عنها، وما أن رأتها حتى قربتها لأنفها تجدد أنفاسها برائحته العالقة بها، وعلى الفور لفتها حول شعرها، ومن ثم جذبت الحجاب مجددًا لترتديه.
تسمرت يدها بالهواء ومازال الحجاب يحيط بها فور رؤيته يطل عليه من الخزانة ببنطاله الجينز الأزرق وقميصه الرمادي، كانت طالته جديدة عليها ولكنه كعادته يحرص على آناقته، تابعته بإعجابٍ شديد وهو ينحني ليرتدي حذائه الرمادي اللامع، ومن ثم نهض يسألها وعينيه على يده التي تعقد رابطة الحذاء:
_خلصتي يا حبيبتي؟
لم يستمع لردها مع أنه سبق ولمحها تقف أمام المرآة، فرفع رماديته لها هاتفًا باستغرابٍ:
_مايا!
تفاجئ بها شاردة به، فابتسم ودنى ليحيطها بيديه هامسًا بتسليةٍ:
_عحبك الاستايل ده عليا؟
اشتعلت خجلًا من ملاحظته لشرودها به، فادعت استكمالها لحجابها قائلة بعدم فهم:
_استايل أيه؟
مال برأسه لها ومازالت عينيه تواجه انعكاسها بالمرآة:
_متحاوليش تدعي البراءة قدام عيوني الخبيرة يا مايا.
ومال لأذنها يهمس باغراء وغمزة عينيه:
_إنتي كمان زي القمر بالفستان ده.
دفعته للخلف بضيق:
_ممكن تبعد عايزة أخلص لبس.
ضحك بتسلية وكاد بأن يضايقها مجددًا، فوجدها تهمس له بضيق:
_عمران من فضلك.
احترم رغبتها ورفع يديه باستسلام، ومن ثم ابتعد للحائط المجاور لمرآتها يتابعها ببسمة هادئة، ويديه مربعة أمام صدره، يتابع فوضوية الاغراض المتعلقة بها وهي تجتمع جوار أغراضه المرصوصة بعناية على السراحة، بعضًا من أَحْجِبَتها ملاقاة عليها، وعُلبة من الدبابيس وغيرها من المرطبات وبعض أدوات التجميل البسيطة، وهناك على الفراش عدة فساتين ملقاة وكأنها كانت تجرب أكثر من فستان لتستقر على ذاك اللون الرصاصي الهادئ، والآن تحتار باختيار الحجاب المناسب،حتى ركنه الخاص بالصلاة تحمل سجادتها بعدما أدت فريضتها بالصباح.
راق له مظهر الغرفة التي نبضت بوجود حياة زوجية مشتركة بعد جفاء ما قضاه، انحنى تجاهها بدرجة أربكتها، فوجدته يجذب حجابًا من المجموعة المطروحة أمامهما وأشار لها ببسمة مهلكة:
_ده هيكون جميل وهيليق على ال dress.. وفتح أحد الإدراج ثم جذب لها مجموعة من الزينة قائلًا:
_ الaccessories (اكسسوارات) دي هتنطق الفستان كمان.
تفحصت ما بيده بدهشةٍ، وخاصة حينما تلقفت منه ما يقدمه، وما أن انتهت من ارتدائهم حتى تطلعت لذاتها ببلاهة، كيف استطاع أن يساعدها بتلك البساطة بينما قضت نصف ساعة تحاول أن تختار وللعجب أصاب اختيارته لنطق طالتها بشكلٍ صادم، فقالت ببسمة رقيقة:
_هتساعدني على طول بتنسيق اللبس؟
مال إليها ويده تندفع لجيب بنطاله:
_عمران سالم في خدمتك كل ما تحتاجيله مولاتي الأميرة!
تعالت ضحكاتها بشكلٍ أضحكه هو الأخر، وقطع ضحكته حينما قرص أرنبة أنفه بتوترٍ يعهده لأول مرة، لا يعلم ماذا أصابه بلوعة عشقها، فسألها:
_مايا إنتِ فعلًا كويسة، لو حاسة بتعب خليكي وأنا هعتذر منهم.
تبددت معالمها فألقت بالكحل الذي كانت تضع به القليل بعينيها ليصطدم بالسراحة من فرط انفعالاها:
_ما قولتلك إني كويسة، ليه مصمم تكسفني الله!!
وجذبت حقيبتها واتجهت للباب تصبح بعصبية تخفي بها موقفهما المحرج:
_افتح الباب عشان منتأخرش على الناس.
وحملت هاتفها الذي يصيح برنته الأولى من حقيبتها، هاتفة بحنقٍ:
_صبا بتتصل أهو عجبك كده؟
منع ابتسامته من الظهور، وجذب مفتاح الغرفة يفتحه وهو يشير لها بحبٍ:
_اتفضلي يا مايا هانم.
منحته ابتسامة خاطفة قبل أن تمر، فلحق بها للأسفل ليغادروا معًا لمنزل جمال حيث يتجمع يوسف وزوجته وجمال وصبا بانتظارهما.
********
مر الوقت بها ومازالت حببسة غرفتها منذ الأمس، حتى النوم جفاها وعدم رغبتها بتناول الطعام تركت جوفها، انتهت فريدة من ارتداء فستان من اللون الوردي وصففت شعرها بعناية ثم هبطت للأسفل تشير للخادم:
_أعد الغدا وبلغهم.
أجابها الخادم سريعًا:
_عفوًا سيدتي، السيد علي وزوجته وشقيقتها وشمس هانم خرجوا منذ الصباح، ومنذ قليل خرج السيد عمران برفقة زوجته، أما السيد أحمد فرفض تناول الطعام وكذلك الغداء.
تألم قلبها للغاية لسماع ذلك، فقالت وهي تتدعي صلابتها:
_أين هو؟
أشار بعينيه:
_بغرفته بالأعلى.
أجلت صوتها بعد مدة صمتها المرتبك:
_أحضر طباقين من الطعام وأنا سأحمله للأعلى.
هز الخادم رأسه وغادر عنها وبعد دقائق عاد يحمل ما تريد على صينية مستديرة فخمة، فأشارت له بتتابعها للاعلى حتى وصل لغرفته فحملتها عنه وقالت بثبات صارم:
_غادر إنت.
انصرف للأسفل بينما بقيت هي أمام الغرفة تحاول فتح بابها بارتباك جعلها تنتظر لخمسة عشر دقيقة تجاهد لاستعادة اتزانها الكلي، فنظفت وجهها من بقايا دموعها المنفلتة وطرقت بخفة على الباب ثم فتحت المقبض وولجت بما تحمله، فوجدته يجلس على المقعد الخارجي للشرفة، اتجهت إليه وهي تردد بغضب:
_ممكن أفهم أيه لعب العيال ده يا أحمد، ليه مأكلتش من الصبح؟!
منحها نظرة ساخطة قبل أن يميل برأسه للجانب الأخر وكأن لا وجود لها، فوضعت الصينية على الطاولة قبالته وقالت وهي تدعي الصلابة:
_على فكرة ده مش حل!
كان جامدًا وكأنه عاكفًا عن حديث البشر، فحاولت استمالة حنانه المعتاد منه:
_أنا كمان مأكلتش حاجة فجبت طبقي عشان أكل معاك، هتسبني جعانة يا أحمد؟
صمته طال ومحاولتها جميعًا تبوق بالفشل، انحنت فريدة بحذائها الانيق مستندة على حافة مقعده، ولمست يده مرددة بخفوت:
_أحمد أنا بكلمك!
أبعد يدها عن يده ونهض عن المقعد ليترك لها الشرفة بأكملها واتجه للغرفة، انهمرت دمعتها دون توقف ومع ذلك استمدت قوتها وأزاحتهما ومن ثم لحقت به للداخل، فوجدته يلف جسده بغطاء الفراش مداعيًا النوم، لحقت به وجلست جواره قائلة بحزن:
_مش عايز تتكلم معايا للدرجادي يا أحمد!
طُعن قلبها حينما تخر محاولتها محاولة تلو الاخرى أمامها، وكأنها لم تعد تملك سلطانًا عليه، رفعت فريدة ساقيها وأزاحت عنها الحذاء ثم وقفت على الفراش واتجهت للجانب الذي يوليها به ظهره، فتمددت جواره حتى بات وجهه مقابل لها، ويدها تمتد لتحيط وجهه، هامسة بتوسل:
_سكوتك هيموتني، أتكلم عشان خاطري.
مرر رماديته على كف يدها الناعم المحاط لوجهه، وردد ساخرًا:
_مش خايفة من شعور الخيانة العظيم اللي هيوجهك وأنتي هنا في سريري ولمساني!
ارتجفت يدها على خده وسحبتها وهي تنهض من جواره كلدغة عقرب سام طالتها، حديثه الساخر جعلها تصرخ بانفعال:
_إنت بتسخر مني وكل ده ليه عشان رفضتك!!
آه من قلبه الذي ينال طعنة جراء الاخرى والطعنة القاضية إنها من تتسبب له، أبعد الغطاء عن جسده ونهض يتجه إليها ببركان غضبه الثائر:
_إنتي جاية هنا ليه، اطلعي برة ومتدخليش أي مكان أكون فيه تاني.
عبست بعينيها بدهشة، لحقت نبرتها الهامسة:
_أنا مراتك!!
ضحك مستهزءًا:
_بجد فكرتك مرات أخويا!!
انهمرت دمعاتها أمامه وجلست على طرف فراشه تبكي بحرقة:
_كفايا يا أحمد، حرام عليك كفايا أنا موجوعة ومش متحملة وجع منك إنت كمان.
حن لها وقد نجحت بغزو قلبه ببكائها، فانحنى يلتقط راسخها ليجبرها على النهوض والخضوع لحضنه الدافئ، ويده تمسد على شعرها القصير بينما صوته الرجولي ينبعث بنبرة هادئة:
_هشش.. خلاص اهدي يا فريدة مش هعصبك تاني.
رفعت عينيها الباكية له وقالت:
_أنا بحبك وأنت عارف ده كويس، بس أنا مش قادرة يا أحمد إنت متعرفش أنا عشت طول السنين دي ازاي، إنت متعرفش حاجة.
منحها نظرة متعبة من كلماتها الغامضة، فسحبت نفسًا مطولًا وقالت بألم:
_ لما اتجوزت سالم كانت نظراته ليا غريبة، حتى كلامه، كان دايمًا بيرمي كلام غريب عن زوجة صاحبه اللي خانت جوزها مع اخوه، كنت بحس أنه يقصدني بكلامه وده كان قاتلني، أنا مكنتش بشوفك خالص يا أحمد عشان أخونه حتى بنظرة ليك.
وتابعت ببكاء حارق:
_حول حياتي لجحيم، بقيت بخاف من كل شيء بعمله عشان ميفكرنيش إني بخونه مع إن الحقيقة أنا كنت خاينة في خيالي واحتفاظي بذكرياتك.
ضيق عينيه بدهشة، وجذبها تجلس قبالته على المقعد يحاول سبر أغوارها، فقالت ببكاء:
_أنا كنت بروح لدكتور نفسي من كتر تصرفاته يا أحمد.
التقطت أنفاسها بعنف جعله يربت على ظهرها بألم:
_اهدي، خدي نفس ومتتكلميش غير لما تهدي.
هزت رأسها نافية، وباصرار قالت:
_لأ… سبني أتكلم وأحكيلك قبل ما ارجع أخاف من تاني.
هبطت يدها تتمسك بيده وقالت بانهيار:
_سالم عمره ما قسى عليا، لا ضربني ولا هاني مرة ولا عمل أي شيء يخليني أكرهه وده اللي كان وجعني أوي، بصاته يا أحمد كانت كلها كلام واتهامات ليا بالخيانة، كأنه بيقولي إنتي خاينة بس أنا بحبك وبعاملك كويس، حتى اما كان بيحصل بينا شيء كان بعدها بيكون غريب معايا، بيتضايق وبيتنرفز لإني مش قادرة أكون بالشكل اللي هو متوقعه! ولو حصل واتجاوبت معاه مكنتش بشوف غيرك إنت وده كان بيخليه متعصب أكتر من الأول وبالرغم من سكوته الا إن نظراته وطريقته كانت بتوصلي كل ده!
واستطردت بقهر وهي تتطلع له بنظرة قتلته:
_كرهتك أوي واتمنيت أنتقم منك بأي شكل يا أحمد لانك انت السبب في اللي أنا عشته، أنا كنت عايزة أريح نفسي من المعاناة دي وأقوله شكوكك كلها صح أنا فعلا بحب انسان غيرك بس مخنتكش كان نفسي أقوله كده..
وقالت بانكسار لحق بها:
_في اليوم اللي هو عمل فيه حادثة كان متخانق معايا بسبب برودي معاه، لبس هدومه وخرج وهو متعصب وبعدها لما جاني الخبر وروحتله المستشفى طلب مني طلب غريب أوي.
جلدته كل ما تحمله على عاتقها بمفردها، حبيبته كانت تخوض رحلة قاسية حد اللعنة، ابتلع مرارته وقال بحشرجة تكبت دموعه:
_طلب أيه؟
انتابها نوبة بكاء جعلت جسدها ينتفض بشراسة، فجذب مقعدها ليقربه من مكان فراشه الاعلى منها، وانحنى يضمها وهو يربت على ظهرها، لا ترى هي دموعها ومشاركته لوجعها، هدأت بعد دقائق وبعدت عنه تقول:
_قالي قبل ما يموت لو أحمد اتقدملك للجواز وافقي!!
وانهارت حصونها بينما تحولت تعابير وجهه لجمود تام، فبكت منهارة وكلماتها تخرج مشتتة:
_أنا كنت هموت وقتها يا أحمد، احساس أنه كان عارف بحبي ليك بعد جوازنا وسكت الفترة دي كان هيموتني، عاتبت نفسي وقتلتها ألف مرة لما فهمت وقتها معاني نظراته الغريبة ليا، كان نفسي أقوله اني فعلا حبيتك بس ده من قبل ما هو يدخل حياتي، كان نفسي أقوله اني ولا مرة خنته ولا حتى كلمتك بالتليفون ولا جمعنا أي لقاء، كان نفسي اعتذرله يا أحمد، آآ.. أنا السبب في موته أنا اللي خليته يخرج متعصب بسبب معاملتي ليه، بس غصب عني مكنتش قادره أكون معاه وقلبي معاك إنت!
ظلت لدقائق تنهار بالبكاء وحينما لم تجده يضم جسدها أو حتى يتحدث رفعت عينيها تراقبه بفضول، فوجدته يتطلع لها ببرود، وما أن تلاقت عينيهما حتى قال:
_سالم كان يعرف بحبنا من قبل ما يتقدملك يا فريدة، وطلبه الاخير ليكي كان لإن ضميره اللي مات أخيرًا فاق.
برقت بعينيها بصدمة جعلتها لا تحيل عينيها عنه، فضحكت وبكت بطريقة مجنونة، وهمهمت بجنون:
_إنت بتقول أيه… لأ ده مستحيل.. هو لو كان يعرف مكنش أكيد اتجوزني ولا آآآ…
وعادت تتطلع له من جديد، فنهضت عن مقعدها وهي تصرخ بانهيار:
_لأ.. لأ… إنت بتكدب عليا عشان أتخلص من عذاب الضمير اللي عشته، ع.. ع.. عشان انتقمت منك ورفضت طول السنين دي صح؟
وقف قبالتها وهز رأسه نافيًا لاتهاماتها، وقال بوهن أصاب صوته:
_تفتكري بعد حبي الكبير ليكي إني كنت هتخلى عنك بالسهولة دي؟
رمشت بعدم فهم، فتابع وهو يحرر كل ما دُفن داخله:
_أنا في اللحظة اللي جدك قالي فيها واجهته باللي بينا وإنك مش هتكوني لغيري وهو قالي هيرفض سالم بدون ما يقوله على اللي بينا عشان ميحصلش بيني وبينه عداء، وبعدها اتفاجئت بيه في مكتبي بيرسم عليا حوار خدعني وخلاني أستسلم وأقنعك وأقنع جدي إنه يوافق..
تراجعت عنه للخلف، تلاقت صدمات اليوم قد تجعلها تفارق الحياة بأي لحظة، ومع ذلك سألته لتستكشف ما يخفيه بعد:
_حوار أيه؟
يؤلمه رؤيتها بتلك الحالة، يؤلمه ابتعادها عنه بتلك اللحظة، ولكنه لن يصمت بعد ان ألقت لها معاناة ما تسبب أخيه الحقير بها، فقال:
_جالي المكتب، كان منهار وعايز يعرف جدي رفضه ليه، أنا محاولتش أعرف باللي بينا بأي شكل من الاشكال كنت خايف أخسره لإنه مهما كان أخويا الكبير يا فريدة، طلب مني إني اتداخل وأجوزه ليكي لانه بيحبك، وصدمني لما قالي إنه عنده كانسر في مرحلته الاخيرة وعمره متوقف على أي لحظة..
انهمرت دمعة من عينيه تقص لها عن ألم ما خاضه من خيانة،وقال:
_خدعني ودخلت على عقلي، وعدته أني هساعده وهبذل كل طاقتي عشان الجوازة دي تتم، ضحيت بقلبي وبيكِ من باب الشهامة ورحمة لجسمه المريض، مكنتش أعرف اني غبي واتلعب بيا.
ازداد اتساع زرقة عينيها بدرجة أغرقت رماديته داخلها، كانت تحاول التقاط كل كلمة منه وتعقلها الف مرة حتى تؤكد لها بأن أحمد من يتحدث، أتاها باغتة بمقتل حينما قال:
_في اليوم اللي وصلتكم فيه للمطار طعني لما كشفلي وشه الحقيقي وقالي إنه متعودش يحط عينه على حاجة ومتكتش ليه حتى لو كانت حب أخوه الوحيد، وجعني يا فريدة وأكدلي إنه عمل اللعبة دي كلها عشان يوصلك وهددني أني لو ظهرت تاني في حياتكم هيقسى عليكي ومش بعيد يواجه العيلة إنك بتخونيه معايا، طالبها مني بمنتهى الوقاحة وأنا خوفت عليكي وبعدت.
وابتسم بوجع شق صدره قبالة عينيها:
_ربنا لإنه عادل حققله الكلام اللي نسبه ليه، قال إنه هيموت وهو صغير بالعمر وفعلًا مات وهو في عز شبابه وإن كان السبب غير السرطان.
وتابع ببكاء احرق عينيه:
_بس انا معرفتش أشمت فيه سامحته وحافظت على السر ده لحد النهاردة علشان لا إنتي ولا حد من اولاده يكرهه، حتى لو جيت على نفسي واتحملت بعدك طول السنين دي كلها.
هزت رأسها بحركات متسارعة، وهمست بعدم استيعاب:
_لأ… مش قادرة أصدقك، قولي إنك بتكدب عليا يا أحمد، قولي إنك بتخدعني أهونلي من اللي أنا فيه.
واستدارت تحتضن موضع قلبها متفوهة ببكاء:
_يعني هو خدعني طول السنين دي كلها، ده أنا لحد اللحظة دي مخلصة ليه!! حرمت نفسي من كل شيء حتى إنت عشان وجع ضميري!!! أنا كنت بروح لدكتور نفسي يعالجني من اللي عشته على ايده ومتكلمتش بنص كلمة!! كان بيلاعبني!! بيلاعب أعصابي بكلامه ونظراته وهو عارف باللي كان بينا!!!
والتفتت لأحمد تشير بيدها على الباب وتضحك بانهيار مزق قلبه:
_ده أنا سايبه صوره في كل مكان حتى جناحي عشان مديش فرصة لنفسي إني أعيش حياتي وأنساه.
ورفعت كلتا يديها له:
_دفنتك بايدي يا أحمد عشان مدلكش الفرصة إنك تقربلي!! يعني انا كنت بعاقب مين طول السنين دي كلها! بعاقب نفسي أنا!! بعاقب مين قولي؟؟؟
ولعقت شفتيها الجافة الحاملة لملوحة دموعها، ورددت ببسمة وجع:
_طب إنت ليه سبتني أعاني طول السنين دي ومتكلمتش؟! طيب أنا المفروض أزعل منك وأعاقبك بكام سنة تانية والعمر خلاص مبقاش فيه أكتر من اللي راح!!!! قولي آنت أعاقبك بأيه على سكوتك كل ده، أنا حتى مش عارفة إنت مظلوم ولا ظالم يا أحمد، أنا حاسة بوجع أكبر من الأول، كأن اليوم اللي سبت ايدي فيه وسبتني بتزفله بيتعاد تاني قدامي، وأنا عاجزة.. آآ.. أنا عاجزة يا أحمد!!
ومزقت شفتيها بضغط أسنانها وهي تصيح بحقد:
_أنا بكرهه والمفروض ده اللي كان يحصل طول السنين دي.
برق بحدقتيه وأسرع إليها يتوسل لها:
_سامحيه يا فريدة هو خلاص مبقاش بينا، عشان خاطري متندمنيش إني صارحتك بالحقيقة إنتي كده بتأكديلي إني كنت صح لما خبيت عنك.
منحته نظرة قبضت قلبه، حينما تجمدت دموعها وحررت صرخات الأنثى القابعة داخلها:
_لو هيقف على باب الجنة وسماحي ليه اللي هيدخله مش هسامحه، سامعني عمري ما هسامحه يا أحمد.
وتركته وهرولت لجناحها بشكلٍ جعله يندفع خلفها وهو يناديها بلهفة:
_فريدة استني، اسمعيني!
أغلقت بابها بوجهه، وتبقى بالخارج يدق بابها بقوة ازدادت بعنف حينما تسلل له صوت تحطيم زجاج قوي يأتي من الداخل فصرخ بفزعٍ:
_فريدة افتحي الباب ده، عشان خاطري بلاش تأذي نفسك.
وطرق مجددًا بقوة:
_افتحيلي أنا مش هقدر أستحمل وجع تاني ارحميني يا فريدة وافتحي!
واسند جبينه للباب وهو يردد بصوتٍ متقطع:
_يا ريتني مقولتلك الحقيقة، ارجعي اكرهيني أفصل من العذاب ده… افتحي عشان خاطري.
تراجع أحمد للخلف واندفع بكل قوته تجاه الباب، مرة فالاخرى، مرات متتالية حتى استجاب له أخيرًا.
الزجاج المحطم يشمل الجناح بأكمله، صور أخيه التي تملأه مكسورة بين الارجاء، تفادت ساقيه الزجاج باحثًا عنها، حتى سقطت عينيها عليها تجلس بين الشظايا المحطمة تحتضن جسمها الذي يهتز بعنفٍ أختلج له قلبه، فمر من جوار الزجاج حتى بات ينحني أمامها، يرفع وجهها الباكي لوجهه المتشنج من فرط خوفه عليها، جلى صوته المحتقن قائلًا:
_حقك على قلبي أنا، غلط سالم وظلمي ليكي أي شيء تعبك وقهرك حقك عليا أنا آسف على الوجع اللي عشتيه، والله أنا كمان كنت بعاني وموجوع زيك بالظبط يا فريدة، أنا كمان اتداس عليا من أخويا، كفايا إني كنت السبب في موافقتك على الجواز، انا عشت بتألم وبعاني لحد اللحظة اللي أنا شايفك فيها منهارة، الكلام اللي حكتيه عن طبيعة العلاقة بينكم قتلني، حقك بيتخلص مني يا فريدة، ولو شايفة إن ده قليل عليا عاقبيني وأنا جاهز والله.
أخفضت رأسها للأسفل وهزت جسدها مجددًا بصمتٍ جعله يخبرها بقهر:
_اعتبريني سالم وعاقبيني، أو وأنا أحمد عاقبيني العقاب اللي يريح قلبك حتى لو هنفترق تاني بس بلاش تعملي كده في نفسك.
رفعت عينيها إليه وقد تمرد الدمع على وجنتها، فخرج همسها الخافت تترجاه:
_طلعني من الأوضة دي يا أحمد، مش عايزة أفضل بالبيت ده، من فضلك خرجني من هنا، كل ركن هنا بيخنقني!
ضمها إليه بقوةٍ جعلتها تبكي وهي تتشبث به، بينما الأخر يكبت بكائه ويعاكسه دمعاته المنسدلة على كتفيها، وصوته الذي مزقها دون رأفة:
_من بكره الصبح البيت اللي تختاريه هيكون ملكك يا فريدة.
ونهض يحملها بين ذراعيه متفاديًا الزجاج حتى خرج بها لغرفته بالطابق العلوي من جديد، وضعها على الفراش وداثرها بالغطاء ومن ثم تمدد لجوارها يربت على كتفها بحنانٍ، فانزوت بأحضانه تتشبث به هامسة بألمٍ:
_متبعدش عني تاني، خليك معايا متسبنيش!
مال برأسه على كتفها يخبرها بصوته المنخفض:
_السنين دي بكل اللي حصل فيها ومبعدتش تفتكري بعد ما بقيتي ملكي وحلالي هبعد يا فريدة هانم!
ابتسمت من بين دموعها، ورفعت وجهها له تتمعن بعينيه بعشقٍ جعله يضعف رغمًا عنه، فخشى الاقتراب وهي بتلك الحالة ولكنها سبقته على عتبة الغرام تستجديه حبًا فأتاها مرحبًا بصدرٍ رحب يقتطف ثمار عشقهما الذي طال عليه الفراق والوجع، طالت بهما الرحلة وجاهد بها أحمد للثبات دون تلك الآلآم التي تخترق قلبه، وحينما حصل عليها بالكامل وغفت لنومها بقى مستيقظًا دمعاته تنهمر على وجهه الصافن بسقف الغرفة بألمٍ، فمال بجسده إليها يراقب وجهها بوجع، يتذكر ما حدث بينهما منذ قليل بعذاب يزيد من وجعه ودموعه.
فكلما كانت تنغمس معه بين اوردة العشق كانت تفيق بهلعٍ تتمعن بوجهه بخوفٍ تمكن برؤيته داخل حدقتيه، وحينما تطمئن بأنه أحمد حبيبها وليس زوجها السابق كانت تستكين بين ذراعيه؛!
تذكر كلماته الهامسة لها:
_سالم مبقاش له وجود يا فريدة، أنا اللي جنبك ومعاكي يا حبيبتي!
جذبها وهي غافلة ليضمها، مرددًا بوهن انتابه كليًا:
_اتحملتي كل ده إزاي!! أنا اللي كان مصبرني إني كنت بشوفك قوية قدامي، طريقتك مع أولادك وفي كل شيء خلاني محسش أنك مدارية كل ده عني!!
وتابع بحزنٍ:
_يا ترى هقدر أعوضك عن كل ده؟!
يتبع…
مضى عهدًا طويلًا لم تخرج للتنزه برفقة أحدًا، أخر مرة كان يصطحبها والدها ويومها تعرضت للاختطاف، واليوم تندمس كل تلك الذكريات السيئة وتجددها تلك الذكريات التي يتركها علي لها.
تراه منسجمًا بالحديث والشرح التفصيلي لشقيقتها، وكلما ابتسم لها وهو يستمع لحوارها المشاكس يخفق قلبها هي وكأن تلك الابتسامة البشوشة لها هي، تشعر بتلك اللحظة بامتنانٍ كبيرًا لوجوده فاليوم ولأول مرة ترى أختها سعيدة لتلك الدرجة، وكأنها لمست ب علي الأب والأخ الحنون الذي تفتقدهم، فبالرغم من امتلاكهم للاشقاء الا أنهم لم يبالوا بهن، كُل يجري لمسعاه الشخصي وكأنهم لم يمتلكن شقيقات أبدًا، لذا كانت فاطمة تشعر بكل تلك الاحاسيس التي ترافق زينب تجاه زوجها.
مضت الساعات ولم يمل علي من أسئلتها الفضولية لمعرفة كل ركن بانجلترا، حتى استقر بهم رحلة المشي القاتلة بأحد المطاعم الشهيرة ببيع المثلجات والحلوى، جلسوا على احدى الطاولات الخارجية للمطعم بناء على طلب زينب التي أرادت تفحص وجهة المارة أمام عينيها، فطلب لهم علي الحلوى وبعض العصائر الذي يمتاز المحل بصنعها، فوضعت زينب حقيبتها على الطاولة الزجاجية وقالت بحماسٍ:
_اليوم كان حلو بشكل مش معقول، شكرًا يا علي أنا أول مرة أنبسط كده وشكلي كده هستغلك في خروجات كتيرة.
ابتسم بجاذبيته، وانحنى ليستند على الطاولة، مرددًا بهدوء رزين:
_في أي وقت تحبي تخرجي فيه أنا تحت أمرك يا زينب، زيك زي شمس طلباتك كلها مجابه!
اتسعت ابتسامتها وأشارت لفاطمة بمرحٍ:
_هو في كده!! نوعية الرجالة دي انقرضت من أيام الحرب العالمية.
ضحكت فاطمة وشاركتها شمس التي نهضت تنحني طابعة قبلة على خد أخيها قائلة:
_علي ده مفيش أحن من قلبه، اساليني أنا.
تنحنح بحرجٍ من فعلة شقيقته بمكانٍ عام هكذا، وردد بخشونة يفتقد إليها لتخفي خجله:
_شمس مش كنتي حابة تشتري فستان عشان عيد ميلاد صديقتك، المحل قدامنا أهو روحي اختاريلك واحد ولما تخلصي ابعتيلي رسالة أجيلك.
تلألأت حدقتيها بفرحةٍ، ونهضت تصفق بسعادة:
_هطول شوية بس ولا يهمني.
وتركتهم ورحلت قاصدة محل الملابس الفخم الموازي للمطعم، بينما خطفت زينب نظرة للمطعم من الداخل، فوجدته يمتلئ بالطاولات والزبائن وأكثر ما لفت انتباهها تجمهر عدد ضخم من الناس أمام ثلاجات ضخمة تقدم المثلجات، فنهضت تشير لفاطمة:
_ثواني وراجعة يا فطيمة.
سألتها باستغرابٍ وهي تجدها تجذب المال من حقيبتها:
_رايحة فين يا زينب؟
مالت برأسها للداخل وهي تجيبها:
_هجيب أيس كريم من ده وراجعة.
نهض علي عن مقعده مغلقًا زر بذلته الآنيقة، قائلًا لها بابتسامة صغيرة:
_خليكِ مع فطيمة وأنا هجبلك أحسن أيس كريم في انجلترا كلها.
أمسكت بذراعه تستوقفه، وتقدمته قائلة:
_لا أنا اللي عايزة أجيب، عندي طلبات مخصصة.
ومالت إليه تعنفه بغيظٍ وصوتها يكاد أن يمد ذراعه عليه:
_إنت ليه مش بتستغل الفرص، شمس مش هنا ولا أنا حاول تكون ذكي وخبيث زي الشباب يا جوز أختي!
برق لبرهةٍ بدهشةٍ، وانتهى به الحال بوقوعه ضاحكًا، ليحرر صوته العميق بصعوبة لها:
_حاضر يا زينب، هستغلها حاضر.
منحته ابتسامة واسعة وغمزت له بمشاكستها:
_أيوه كده.. ارجعلها بقى وأنا هغطس بين الزحام ده.
وعادت تسأله باهتمامٍ:
_أجبلك؟
هز رأسه نافيًا وهو يستعد لعودته للطاولة، فما أن احتل مقعده حتى سألته فاطمة بفضول:
_كانت بتقولك أيه؟
رفع رماديته إليها وهو يجاهد منع ضحكاته للخروج:
_أستغل الفرص إنك معايا لوحدينا!
منحته نظرة بلهاء وانهمرت ضاحكة فتابعها ببسمة اتسعت لمشاركتها الضحك، وقال بعدم تصديق:
_زينب مختلفة عنك كتير يا فطيمة، بحاول أستوعب إنكم أخوات بس مش جاية معايا.
حملت كوب العصير ترتشف بضعة قطرات ومن ثم قالت بخجل:
_إنت كمان مختلف جدًا عن عمران أخوك، يعني محدش يقدر يخمن أنكم أخوات خالص، يمكن الشبه بس اللي يساعد.
هز رأسه بتأكيدٍ لحديثها، وجذب الكوب خاصته يرتشفه على مهلٍ وعينيه لا تفارقها، إلى أن قالت بحزن:
_مراد مشى من غير ما أودعه.. زعلت أوي بجد.
تسللت يده لتحتضن كفها المحاوط للكوب وإبهامه يتحرك على أصابعها برقة جعلت جسدها يقشعر جراء لمسته، فرفعت عسليتها إليه، تتساءل عن سبب ذاك الحنان المفاجئ منه، فابتسم وهو يخفض من صوته بشكلٍ مثيرٍ:
_ولو افترق عنك كل الاحباب أنا موجود جنبك، وجودي مش كافي ليكِ يا فطيمة؟
ابتلعت ريقها الجاف بتريثٍ، فسحبت كفها بخجلٍ وأفلتت بسمة خافتة لتلتهي بسؤالها:
_هو إنت كنت تعرف مراد قبل كده؟
لمساته لم تستقبلها الا بالخجل كأي فتاة يقتحمها مشاعر الحب العذري لأول مرة، لم تكن تتقزز أو ترتجف خوفًا من اقترابه أبدًا، وذاك كان يبعث السرور داخله بأنه يحظى بمكانة يعلم بأنه من الصعب الحصول عليها مع حالة مثل حالتها.
أجلى صوته الرخيم يجيبها:
_أعرفه من زمان، مراد ابنة خالة دكتورة يارا اللي كانت خطيبتي، وهي نفسها اللي كانت مسؤولة عن حالتك بمصر قبل ما أستلم حالتك، فاكراها يا فطيمة؟
هزت رأسها بتأكيدٍ، ورددت بثبات مخادع تحاول دفن غيرتها الغريبة التي تهاجمها:
_ليه مكملتوش مع بعض؟
وتابعت وهي تقلب الشاليموه بالعصير كمحاولة للفرار من رماديته التي تحاصرها:
_يعني دكتورة يارا كانت جميلة وتتحب أيه اللي يخليكم تنفصلوا!
توسعت حدقتيه بشكلٍ ملحوظ وعقله يحاول استيعاب رؤية تلك الغيرة التي تهاجمها، ابتسم علي وتخبطت كلماته، حتى بدى صمته غير مقبولًا لتلك التي تنتظر سماع اجابته، تنحنح وهو يستعيد كامل هدوئه، ليجيبها بتمهلٍ وحذر:
_أنا ودكتورة يارا كنا أصدقاء يا فطيمة، أنا عندي مستشفى هنا بانجلترا مكنتش قادر أديرها لوحدي، فيارا كانت بتساعدني فيها من أول ما فتحتها، العلاقة بينا ابتدت تتطور لحد ما بقينا فاهمين بعض أوي في الشغل، وواحدة واحدة بقينا نعرف عن بعض التفاصيل الشخصية.
واستطرد بعدما ارتشف من كوبه القليل:
_العلاقة موصلتش بينا للحب، مجرد اتنين متفاهمين وقارين دماغ بعض، ولما الوقت المناسب جاني للجواز لقيتها المناسبة ليا، اتخطبنا وبعدها نزلت انشغلت مع مراد في كذه حوار، وسافرت مصر عشان تعالج مرات أخوه اللي اسمه رحيم زيدان أعتقد، وهناك اتعرفت على واحد من عيلة زيدان إسمه مروان وحبوا بعض.
رفع علي عينيه إليها يتمعن بعسليتها ليخبرها بما هو أتي على لسانه:
_مكنتش ملاك يا فاطمة، لما عرفت اتنرفزت جدًا ومكنتش عارف اللي أنا حاسس بيه ده أيه، يمكن حب يمكن تعلق، يمكن غضب إن خطيبتي اللي المفروض هتكون زوجتي بعد كام شهر واقعة في حب واحد غيري.
لعقت شفتيها بارتباك وصل بنبرتها المتسائلة:
_وبعدين؟
ابتسم وهو يجيبها:
_مفيش.. بالبداية حصل بينا زعل كبير لدرجة إن كان في بيني وبين مروان خناقة كبيرة، كنا هنموت بعض حرفيًا، بس بعدها لما هديت واتوجهنا أنا ويارا وسمعتها، بدأت أتقبل كلامها، لانها كانت زيي مرتبكة ومتعرفش تفرق بين الحب والصداقة، هو نجح يميل قلبها ويخليها تتخلى عن كل شيء عشانه..
واستكمل وأصابعه تلهو بدبلته الفضية المحاطة لاصبعه:
_مراد قابلني واعتذرلي على سوء التفاهم اللي حصل وطلب مني مبعدش عن يارا وأكون صديقها الدائم زي ما اتعودت أكون، وفعلًا رجعت علاقتنا زي الأول ووقفت جنبها طول الفترة اللي كانت مشغولة فيها بتحضيرات جوازها كنت أنا بدير العيادة بتاعتها والحالات اللي هي متابعاها، وهناك شوفتك يا فطيمة، ومن أول ما عنيا لمحتك حسيت إن قلبي اتحرك من مكانه، كان عندي فضول كبير أعرف حكايتك وأيه اللي وصلك لكده، كنت فاكر أن ده كله حماس إني اعالجك بس الموضوع طلع أكبر من كده بكتير.
وتلك المرة قبض على يدها بقوةٍ تبث لها مشاعره الصادقة، المنفلتة بعينيه ولمسته وحديثه:
_وأنا جنبك بحس إني مكتمل، مببقاش عايز أي شيء غير إني أتأملك، سكون ملامحك وهدوئك كان بيخليني أحس بسلام نفسي، وظهورك في الوقت ده كأنه إشارة من ربنا إنك هتكونيلي الزوجة اللي عفيت نفسي طول السنين دي عشانها.
لما سلمت الشغل ليارا وسبت مصر طلبت منها ومن مراد بشكل شخصي إني أتابع حالتك، كنت خايف مراد يرفض وقتها كان ممكن اتخلى عن المستشفى وعن كل حاجة عشان أكون جنبك يا فطيمة، ولما سفرت انجلترا كنتي معايا في المستشفى بتاعتي لشهرين، وقتها محستش نفسي قادر أديرها لوحدي فرجعت لشغلي من تاني وإنتي بردو معايا، كنتي معايا بكل مكان أروحه كأنك بنتي اللي خايف أسيبها في أي مكان فتضيع مني، أنا أغلب وقتي كنت بقضيه جنبك على الكرسي، بحكيلك عن يومي ونفسي وذكرياتي، كان نفسي تفوقي عشان اصارحك بحبي وأطلبك للجواز، كنت ضعيف يا فطيمة بحاول أمنع عيني تبصلك ومش قادر أعملها!!
خفق قلبها بقوةٍ جعلتها لا تدري لماذا شعرت بأنها تود هي أن تحتضنه بتلك اللحظة، وجدت أبسط الأشياء التي تعبر له عن حبها وامتنانها بمسكة يده التي تشدد على يدها، فرفعت يدها الاخرى تحاوط كفه الممسك بكفها، وهمست له على استحياءٍ:
_كنت حاسة بيك يا علي، اليوم اللي كنت بتفضل فيه جنبي مكنتش الكوابيس بتجيني، بمجرد ما بحس بيك جنبي كنت بطمن ومببقاش عايزة أي حاجة غير وجودك جنبي… علي أنا آآ… حبيتك من أول ما ابتديت تكلمني كل يوم، اتعودت أسمعك وأحس بيك، لما كانت الممرضات بيطلبوا منك تخرج كان نفسي أصرخ وأقولك متسبنيش، كان عندي فضول أشوف شكلك وبسأل نفسي يا ترى زي ما أنا بتخيلك!
انهمرت دمعة من عينيه وأنفاسه تقترب منها، ود لو أن اعترافاتهم تلك كانت تجمعهم بالمنزل، ربما حينها كان ليضمها إليه بصدرٍ رحب، همس لها بصوتٍ أجش يتأثر بعاطفته:
_بحبك.. وهعيش عمري كله علشانك إنتي، ولو في يوم ربنا من عليا وجمعنا روح واحدة مش هيكونلي امنيات تانية طول ما أنا عايش، بدعي في كل صلاتي إنك متشوفيش كوابيسك دي تاني لإنها بتقتلني وبتحسسني بعجزي، بتوجع لما بلجئ لحقن المهدئات وبتمنى أكون أنا المهدأ والمداوي لكل جروحك.. أنا مش طماع جاهز ومستعد لكل تقلباتك ونوباتك، حتى لو بعدتي عني كفايا إن عيني بتضمك كل يوم، كفايا إني بتنفس من الهوا نفسه اللي بتنفسيه، أقسملك إني عاشق وعشقي مالوش دوى غير وجودك في حياتي يا فاطمة!
تدفقت دموعها وشهقاتها تعلو رويدًا رويدًا، فتلفتت حولها بارتباكٍ، ثم عادت تتمعن به هامسة ببسمة تخالف بكائها:
_ممكن تخدني في حضنك؟
رغم اندهاشه المفاجئ من طلبها الا أنها ترك مقعده واستل مقعد زينب المجاور لفاطمة، وجذبها إليه بكل قوته، يربت عليها بكل ما امتلكه من حبٍ وعشقٍ دفن لها هي!
*******
بحثت بين الفساتين حتى وجدت فستانًا رقيقًا للغاية، تعمدت أن تنقي اللون الأسود الذي يعشقه آدهم، فالتقطته وإتجهت لتجربه، فولجت لأحد غرف ارتداء الملابس وما كادت باغلاق بابها حتى وجدت شخصًا غريبًا يقتحمها، وقبل أن تصرخ وجدته يكمم فمها ويسرع بالحديث اللاهث من فرط ركضها:
_اهدي يا شمس متخافيش أنا مش هأذيكي، أنا فؤاد واحد من فريق عمر الرشيدي.
هدأت تعابيرها المشدودة حينما تمعنت به، سبق لها التعرف عليه سابقًا وقص لها آدهم عنه، وما أن رآها هدأت بالفعل من أمامه حتى حرر يده ليسرع بالاعتذار:
_أنا آسف إني دخلتلك بالشكل ده بس صدقيني غصب عني، مفيش عندي أي حل تاني غير إني ألجئ ليكي يمكن تقدري تقنعي عمر باشا وتخليه يتراجع عن اللي في دماغه.
رددت بتيهةٍ:
_عمر باشا! آدهم؟
هز رأسه لها، وقال باستفاضةٍ:
_الاوامر جاتلنا بالانسحاب من المهمة، بس الباشا رافض وطلب مني أنا وباقي الفريق بالانسحاب ومصمم يكمل المهمة لوحده، الانتقام اللي جواه مش مخليه يسمع لحد، عايز يوصل للملف لوحده بيعرض نفسه للخطر ورفض إننا حتى نشاركه، أرجوكي يا شمس اتكلمي معاه يمكن تقنعيه، بلاش يضيع نفسه راكان كده كده هيتقبض عليه واللي وراه أكيد حد من الجهاز هيكمل بدالنا وهنجيبهم.
جحظت عينيها صدمة لما تتلاقاه الآن من صدماتٍ قاتلة، يريد منهم الانسحاب ليحارب بمفرده! تبًا لذاك الرجل الذي سيجعلها تجن بكل تأكيد!
ازدردت ريقها واستعادت ثبات انفعالاتها قائلة:
_روح إنت وأنا أوعدك هحاول معاه.
غادر فؤاد على الفور وتبقت هي بالداخل تفكر بما ينتابها بتلك اللحظة، إن حصل آدهم على الملف سيكون بأمان، سينسحب برفقة فريفه دون أن يعلم أحد بالأمر، ربما تتمكن هي من الحصول عليه دون أن تعرضه لخطرٍ هكذا!!
تركت الفستان من يدها وخرجت تركض من الباب الخلفي للمحل حتى لا يراها علي، استقلت سيارة أجرة ووجهت السائق بالتحرك لقصر راكان، لا تعلم أي قوة تدفعها هذا وهي أضعف من عصفورًا هزيلًا..
اكتفت بإرسال رسالة مختصرة لأخيها تعمدت كتابتها حتى لا يفضحها سماع صوتها فيلمس على كذبها.
«علي أنا في مشوار مع صديقة ليا قابلتها بالاتليه، إرجع إنت البيت وأنا مش هتأخر.»
*******
وأخيرًا بعد نصف ساعة تمكنت أخيرًا من الحصول على طلبها، مثلجات لذيذة بطعم الڤانيلا مثلما أرادت، تفادت زينب الصف المتكدس وكانت بطريقها للخارج، فاندفع إليها ذاك الحائط السد الذي خرج من العدم ليدمس المثلجات على كتف فستانها دون قصدًا منه.
شهقت بصدمة واعترتها عاصفة قاتلة، لم ينتزع فستانها الجديد فحسب بل المثلجات التي حصلت عليها بعد طابور من الكتل البشرية لتحصل أخيرًت على مرادها، رفعت عينيها النافذة لذاك الشاب الضخم المقابل لها، فصرخت بكل عصبية:
_أيها الأبله ألا ترى أمامك!! نزعت فستاني الرقيق ومُثلجاتي، ماذا تظن نفسك فاعلًا!!
انزوت حاجبيه بتكشيرة عظيمة، وصاح باحتقان يلتمع بصوته الرجولي:
_ما بكِ يا امرأة وكأنني ألقيت عليكي نيزك ناري من السماء!! الأمر لا يستدعي كل تلك العصبية.
وحمل المحارم ودفعها بوجهها قائلًا:
_خذي هذا وأزيحي المثلجات وانتهى الأمر!!
كزت على أسنانها بغضبٍ قاتل واندفعت تهاجمه بلسانها السليط:
_إنت حقيرًا يا هذا، ألا تجد طريقة لطيفة للاعتذار، أراك فجًا سليط القلب وأعمى البصيرة.
كاد بأن يخرج ما كبت داخله من غضبٍ مستعار يقابله بهذا اليوم بالتحديد، فأتاه صديقه يهرول مناديًا:
_أيوب اهدى مش كده!!!
ردد له من بين اصطكاك أسنانه:
_مانتش شايف بتكلمني كدليه، لو قتلتها قتيل مش هتكلمني كده!!!
تعجبت من حديثه العربي ولصدمتها بأنه عربيًا! ، الا يجيد الاعتذار، الا يرى حجابها وملامحها الشرقية الذي تؤكد عروبتها، لماذا ذاك المغرور مندفعًا هكذا!
أفاقت زينب على صوت صديقه الذي ردد ببسمة بشوشة:
_عذرًا منكِ آنستي، أعتذر منكِ نيابة عن أيوب صديقي، هو شخصًا نبيلًا ولكنه اليوم مزاجه سييء للغاية، أعتذر مجددًا.
كان لابقًا بحديثه واعتذاره الذي رضى كبريائها كأنثى، ولكنها عاندت مرددة بالعربية:
_اعتذاره مش مقبول، أنا وقفت ساعتين علشان أخد دوري، وهقبل منه العوض.. حالًا يقف بالصف ويجبلي آيس كريم بالڤانيلا بدل اللي وقع ده.
برق بفيروزته بحدةٍ لحقت لسانه:
_بما إنك بتفهمي عربي، فهقولهالك بكل اللغات، مبسمحش لنفسي أختلط بالحريم عشان أعوض جنابك على الآيس كريم المعجون بمية الدهب اللي هنتحري وراه!
أشارت لصديقه بغيظٍ:
_شوفت وقاحته!!
ابتسم ذاك الوسيم وبرر لها بلطافته:
_متزعليش أنا هجبلك الآيس كريم لحد عندك.
جذبه أيوب بضيق:
_تجيب أيه؟
منحه نظرة صارمة، ولقن أوامره:
_روح إنت يا أيوب استناني على التربيزة وأنا دقايق وراجعلك.
منحها نظرة مغتاظة وانسحب للطاولة دون أن يضيف كلمة واحدة، فجلست زينب تنتظر ذاك الغريب بجلب لها مثلجاتها التي لم تحظى حتى بتذوق طعمها، وبعد دقائق عاد يقدم لها ما بيده قائلًا بابتسامته الجذابة:
_اتفضلي يا أنسة، آيس كريم بالڤانيلا زي ما طلبتي.
منحته ابتسامة رقيقة، وشكرته بامتنان:
_شكرًا ليك بجد إنت ذوق أوي عكس صاحبك الدبش ده شكله مش بيفهم في الذوق أصلًا.
تعالت ضحكاته الرجولية، فهندم قميصه المفتوح وأسفله تيشرته الابيض المرسوم بحرافية، قائلًا:
_أيوب لا إنتي ظلماه هو بس حاصل معاه موقف مخليه مش طايق نفسه، وعمومًا بتمنى إنك تقبلي اعتذاري.
كادت بأن تجيبه ولكن قطعها صوت هذا المغرور من وجهة نظرها:
_ما تنجز يا سيف، هتقف معاها طول اليوم ولا أيه!!!
قدم لها سيف المثلجات فقالت بنفور وهي تتطلع على من يعتلي الطاولة ويرمقها بغضب:
_مش قولتلك إنه قليل الذوق،اسمع نصيحتي وفكك منه،شكلك إنسان محترم وابن ناس وصحبة السوء هتعديك صدقني.
انفجر ضاحكًا على حديثها،وبصعوبة حرر صوته من بين ضحكاته الرجولية:
_إنتي ظالماه، أيوب شاب محترم ومتدين جدًا، والده شيخ أزهري ووالدته ست محترمة، هو بس زي ما قولتلك هو حاصل معاه شيء مخليه على وشك إنه يقتلني أنا شخصيًا، وعمومًا فرصة سعيدة يا آنسة..
ودعها بابتسامة صغيرة وعينيه تنخفض عنها أرضًا، وفور ابتعاده رددت بهيامٍ وعينيها تتابعه دون إرادة منها:
_سيف!! اسمه حلو، وعنده عضلات وفوق كل ده ذوق بكلامه وشيك جدًا!
وتنحنحت بخفوت:
_يالهوي فطيمة هتولع فيا لو سمعتني بعاكس الواد!! هتقول أيه عليا انحرفت من بعدها!
وأسرعت بالخروج مرددة بضيق:
_استغفر الله الواد فتنة متنقلة، لطفك بيا يا رررب.
******
سحب سيف المقعد المقابل لأيوب الذي يمنحه نظرة تكاد تفتك به، فاحتبسه داخله وصاح بسخط:
_عجبتك الواقفة معاها ولا أيه يا محترم!
ضحك وهو لا يصدق بأنه ينجرف للمزح بحالته تلك، وقال ساخرًا:
_دي جزاءة اللي يلم وراك يعني.
واستطرد بمرحٍ:
_آه لو يوسف لمحني واقف معاه كان زمانه جاب المأذون واتنين شهود وخلاني أكتب عليها وقتي، حاسس إنه عايز يتخلص مني بأي شكل.
هدأت معالمه المتعصبة، ومنحه ابتسامة وهو يقول:
_يوسف ده شخص عظيم، بيحبك وبيخاف عليك خصوصًا إننا عايشين هنا وسط الرزيلة يا سيف، أنا والدي مش مبطل يكلمني ونفسه أخلص السنة الاخيرة دي بفارغ الصبر وأرجع مصر.
ابتسم له بلطفٍ وقال:
_هانت وتخلص الهندسة وتبقى أعظم مهندس بمصر كلها.
تلاشت بسمة أيوب بشكلٍ مقبض مما دفع الأخر بتساءل بشكٍ:
_مالك يا أيوب، إنت من وقت ما خرجنا وإنت مش طبيعي.. هو الولد العبراني اللي اسمه آران ده أهله لسه بيلاحقوك بردو.
أجابه بتشدد بدى بانقباض ملامحه:
_الله يرحمه.. إسمه محمد يا سيف أسلم قبل ما يموت ربنا يحسن مثواه.
غيمت حدقتيه التي تحاول استكشاف الغموض خلف أيوب، فقالها مباشرة:
_أخته لسه بتطاردك؟!
زم شفتيه وسحب نفسًا طويلًا، يخفي ارتباكه، بينما صاح الاخير بخوف:
_مخبي أيه عليا يا أيوب!!
تنهد بيأس وأفاض له:
_مش قادرة تستوعب إن عمها هو اللي قتله عشان أسلم، مفكراني أجبرته يدخل الاسلام، بتطاردني بكل مكان وعايزة تقتلني هي وعمها، والمصيبة بقى إن محمد قبل ما يموت وصاني عليها وقالي آديرا أمانة في رقبتك!
(قريبًا نوڤيلا خاصة بأيوب سبق الاعلان عنها بإسم #آديرا.. #حبيبتي_العبرية..)
طال صمت سيف وهو يحاول استكشاف ما يحدث مع رفيقه المتدين، فصاح به:
_أيوب أوعى يكون اللي في دماغي صح!!!
طرق على الطاولة بنفاذ صبر:
_سيف أنا مش ناقص، أنا من الصبح عمال يجيني رسايل تهديد من عمه ده، وقبل ما أجيلك بنص ساعة البنت دي هاجمتني بسلاح أبيض وأنا عاجز حتى أدافع عن نفسي مش لأن أخوها أمني عليها عشان دي بالنهاية بنت!
كبت ضحكته بصعوبة وهو يطلق سؤاله:
_طب هربت منها ازاي!
زوى فمه بتهكمٍ وهو يشير للجانب الاخر:
_متزفتش أهي واقفة بره تراقبني ومستنية فرصة تانية تهاجمني، أنا بقيت متعود أتهاجم منها أربع مرات في اليوم، مبقتش عارف انزل الجامعة ولا انزل الشغل، وقفتها امبارح وقولتلها تقتلني وتخلص خليها ترتاح وتريحني.
سقط بنوبة من الضحك، وساوره بسؤاله القادم:
_طيب لسه واقف قدامي ازاي، الطبيعي انها هجمتك بالفعل.
نفى بسخط:
_ايدها رعشت قدامي ومقدرتش تقتلني، فاديتها فرصة للنهاردة وقولتلها هنزل الجامعة الساعة ١٢ لقيتها مستياني وبردو فشلت، وحاليًا بتشرب قهوة بره تروق اعصابها عشان تقتلني بمزاج!!
سقط عن مقعده ونهض يلتفت حوله بصدمة:
_هنا فين!! انت بتهزر يا أيوب.
مرر يديه بشعره البني يعيد ترتيبه وهو يجيبه بارهاق:
_يا ريته كان هزار، أنا بعاني بره ودخلت جوه أقابل المجنونة دي كمان أصل أنا ناقص!!
وتابع ببعض الهدوء:
_ أنا فعلًا كنت سخيف معاها بس هعمل أيه، أنا واحد قايم نايم بتهدد بالموت ودي جاية تقولي آيس كريم!!
نهض سيف يجذب مفاتيحه وهاتفه، وجذب يده قائلًا بقلق:
_قوم معايا إنت مستحيل ترجع شقتك، إنت هتقعد معايا كام يوم.
سحب يده منه قائلًا بجدية:
_مش هقبل أعرض حياتك للخطر يا سيف، دي مشاكلي وأنا قادر أحلها، وبعدين الاعمار بيد الله عز وجل لو كاتبلي أموت في أرضي هموت، ولو كاتبلي أموت حالًا وأنا بكلمك هموت
وتابع بحزن:
_أنا معملتش شيء أندم عليه محمد كان عايز اللي ياخد يده للطريق وأنا ربنا اختصني وكنت النور ليه.
وقال وهو يجاهد ألم فراقه:
_أنا لحد النهاردة حزين على الطريق البشعة اللي اتقتل بيها، واللي وجعني إنه وصاني على أخته وأنا عاجز ومش قادر حتى أتعامل معاها مهما كان دي يــهودية يا سيف.
وردد هامسًا:
_بتمنى السنة الاخيرة ليا تنتهي على خير لإني خلاص تعبت!
صمم سيف عليه:
_طب قوم معايا هنروح نرتاح شوية وروح بليل.
كاد بالاعتراض ولكنه أمسك يده وأرغمه على تتبعه فما ان خرج من الباب الخلفي للمطعم حتى سمع صوت خطوات تركض تجاههما برشاقة وصوتًا انوثي رقيق ينادي:
_أنت!! يا هذا!
وقف أيوب بمللٍ، واستدار لصاحبة الصوت الذي يعرفها جيدًا، فقال بغضب:
_ماذا بعد؟!
منحته نظرة شرسة من عينيها الخضراء وأشارت له بالاقتراب، فاستأذن من سيف الذي كاد بأن يصيب بذبحة صدرية لما يحدث أمامه، واتجه إليها فوجدها تصيح به:
_ألم يكن هناك اتفاقًا مسبقًا بيننا؟
مرر يده على طول أنفه، وقال بنزقٍ:
_أتذكر ذلك ولكن الأهم هل إنتي على استعداد لتقومي بها؟
عبثت بحدقتيها ببعض الخوف، وفتحت حقيبة يدها لتريه ما بحوزتها قائلة:
_انظر اشتريت سلاحًا ناريًا أفضل من السكين، لا أعلم لما أرتجف فور حمله، ربما لا أجد ذلك مع السلاح، ما رأيك؟
أسبل بعينيه لوهلةٍ، وصاح ساخطًا:
_مهلًا هل تأخذين رأيي بطريقة قتل تناسبني!! هل تمازحيني آديرا!!
وهمس بتعبٍ:
_أغثني يا الله، أقسم بأنني فقدت صبر أيوب الذي تحللت به منذ الصغر أمام تلك الفتاة المعتوهة، أقتلها أم ماذا!!!
وتابع وهو يفترسها بنظرة خاطفة:
_من المؤكد بأن دمها حلال فعلى كل حل هي من اليهـ،ـود الجرذان ولكن ماذا بالوعد الذي قطعته لأخيها!!!
صرخت بوجهه:
_أتحدث نفسك أنت، ابقى بعقلك فمازالت أفكر كيف أنتقم منك، أتعلم السلاح لن يجدي نفعًا، اتركني هنا لبعض الوقت لأفكر بما يناسبك فأنت بالنهاية قاتل أخي!
زفر بتهكمٍ وقال لها:
_ما رأيك أصعد فوق تلك العمارة وتدفعنيني وربما حينما أنا مش سيحصل على الخلاص؟
رفعت خضرة عينيها للاعلى تتفحص المسافة ومن ثم رددت بضيق:
_المسافة عالية للغاية ستموت أيها الغبي!
مرر يده على وجهه مجددًا هاتفًا:
_رحمتك بي يا الله.
عادت تتساءل من جديد:
_هل تذهب لما يسمى المسجد؟
هز رأسه بتأكيدٍ، فقالت:
_حسنًا سأتي لاقتلك وأنت ساجد حينها سأشعر بالارتياح، ما رأيك!
التقط نفسًا مطولًا، وجذب حقيبة الظهر التي يحملها، فجذب احد الدفاتر ودون لها شيئًا ثم قدمها لها قائلًا بضيق:
_إليكِ هذا رقمي، سأذهب برفقة صديقي وإن وجدتي طريقتك المناسبة لقتلي هاتفيني، إلى اللقاء آديرا.
وتركها تحمل الورقة وغادر مع سيف الذي كاد عقله بالبزخ ليلطم وجهه ليستوعب ما يحدث، فصاح إليه:
_أنت أيه جننك بالشكل ده إنت كنت عاقل يا أيوب!
لحق به ودث يديه بجيب جاكيته الرياضي قائلًا بتسلية:
_حبيت اللعبة وحاسس إن الرؤيا اللي بشوفها كل يوم هتتحقق، وتوبتها هتكون على إيدي أنا كمان.
جحظت عينيه صدمة، فصرخ به:
_إنت عايز عيلتها تولع فيك حي، مكفاش التهديدات اللي بتجيلك.
منحه بسمة ساخرة قبل أن يردد:
_اللي معاه ربنا قلبه ميت!
*****
بقصر راكان.
ولجت للداخل تبحث عنه فأخبرها الخادم بأنه بالداخل برفقة أحد الرجال، فذهب ليصنع لها كوبًا من العصير بناء على تعليمات راكان، فتسللت شمس لتلقى سمعها لغرفة مكتبه فوجدت الرجل الذي بالداخل يقول:
_الشرطي الذي يبطل التهريبات والعمليات يدعى عمر الرشيدي!!
يتبع…
حمل عمران باقة الزهور الفخمة وإنحنى على ساقًا واحدة، ويده تمتد أمام وجهها بابتسامة جذابة، مشيرًا بيده الاخرى لجمال الذي يحاول التفنن بزواية التصوير:
_صور حلو يا جيمس عايزين الحج يغير ويقيد نار، وهو شايف مزته بتتخطف منه من أول يوم ليها في لندن.
ضحكت أشرقت والدة جمال بصوتها كله، ورددت بخجل:
_إخص عليك يا عمران يا ابني، ما خلاص راحت علينا.
شهق بطريقة أضحكت الجميع من حوله:
_فشر مين دي اللي راحت عليها، ده أنا لو مكنتش مرتبط كنت فكرت أنزل مصر اقتل الحاج وأرجع أتجوزك بالغصب والواد جمال يشهد على العقد.
ضحكت حتى أحمر وجهها، والتقطت منه باقة الزهور بنظرة ممتنة، ومن ثم قالت:
_تصدق يا جمال أني بقالي مع أبوك ٤٢سنة وعمره ما دخل عليا بحزمة جرجير!!
انفجر يوسف ضاحكًا، وحذرها بتريث:
_أوعي يا حاجة الواد عمران ده وقح وعايز يخرب عليكي، يرضيكي تفارقي الحاج بعد ٤٥سنة جواز!!
لكزه عمران بغضب، ليمنحه كلماته المعتادة:
_ريح إنت يا دكتور.
وعادت ابتسامته تتسع على وجهه واستكمل وصال مدحه:
_سيبك منه يا مزتي، وقوليلي الست الوالدة كانت بتقرى الفنجان؟
تساءلت بذهول:
_لأ يا ابني مفيش عندنا البدع دي، بس بتسأل ليه؟
أجابها بغمزة ساحرة من رماديته:
_أصلها مختارلك إسم على مسمى، شكلها كانت عارفة إن شمس جمالك هتشرق في قلبي وقلب الحج اللي قولتيلي إسمه أيه؟
انفجرت ضاحكة حتى أدمعت عينيها، وبصعوبة حتى خرج صوتها:
_والله ما في بجمال روحك وكلامك يا ابني.
ولكزت جمال ببطنه بغضب:
_اتعلم منه كلمتين تلفيني بيهم أنا ومراتك يالا.
ضحك الشباب بأكملهم، فصاح يوسف به:
_أنا بقول كفايا إن الحاجة بنفسها حطتلنا الأكل في الأوضة كفايا وجودها هنا يا جمال لإن الحقير ده هيقلبها عليك وهيلبسك في ليلة كبيرة أوي.
رد عليه ساخطًا:
_لبست ولا كان كان يا دكتور.
كشفت الحاجة أشرقت عن أصناف الطعام، قائلة بمحبة:
_مدوا إيدكم قبل ما الأكل يبرد، كل يا دكتور يوسف.. كل يا عمران.
منحها ابتسامة واسعة وعينيه تنتقل على أصناف الطعام الشهي، فأشمر عن ساعديه هاتفًا:
_أيه ده كله، أنا شكلي كده هحتاج أحرق نص وزني بعد ما أنسف كل ده، إنتي جيتي تعوضيني عن الاكل اللي فريدة هانم بتنتقم مني فيه.
ضحكت وهي تراقبه قد بدأ بتناول طعامه بالفعل وقالت:
_ومامتك سايبك لفريدة هانم دي ليه يا ضنايا، ما تطبخلك هي أكل الطباخين مرع ومالوش طعم.
وزع عمران نظراته الضاحكة بين جمال ويوسف، ثم انفجر ضاحكًا وأخبرها بتريث:
_لا مهي فريدة هانم دي والدتي يا أمي، بس لو عينك لمحتها هتقولي إن أنا اللي أبوها، يعني شكلها يديكي احساس إنها في التلاتينات كده، فلقيت نفسي بتكسف أقولها يا ماما.
وجذب يدها التي تضع أمامه احدى قطع اللحم ليطبع قبلة محبة على كف يدها، قائلًا:
_بس أنا بقى عند أم جميلة ونفسها حلو بالأكل، وده أهم شيء.
ربتت على ظهره بسعادة عارمة، فمازحها بخفة:
_اتبري من جمال المعفن ده واتبنيني عندك هنا اسبوعين.
لكزه بضيقٍ:
_ما تتلم بقى يا عم الوقح نازل تهزيق فيا من ساعة ما دخلت.
احتلته نظرة ماكرة، ففرك ذراعه وهو يرسم الألم:
_شوفتي يا أمي الغيرة والحقد فاطين من عينه ازاي.
منحت أشرقت ابنها نظرة قاتلة، اتبعها قولًا صارمًا:
_اختشي على دمك يا جمال بدل ما أشيل الأكل من قدامك!
تعالت ضحكات يوسف، وانحنى يربت على كتف جمال الذي يكاد فمه يصل للأرض من فرط الصدمة، فأغلق يوسف فك جمال بأصبعه وانحنى يهمس له:
_متعزمش عمران في أي مكان فيه حد يخصك، لان بالكاريزما وكلامه الناعم بيغلب قلوب العذارى والسن المبكر والمتأخر، عمران خطر على صنف الحريم كله.
اتجهت نظرات جمال ليوسف وقهقه ضاحكًا، واتبعهما عمران الذي كاد ببصق الطعام من فرط ضحكاته، فابتسمت أشرقت ورددت وهي تراقبهم بحب:
_ربنا يسعدكم ويديم جمعتكم دايمًا، هطلع أنا أشوف البنات في الصالون.
وتركتهم ورحلت، بينما أشار عمران لهما:
_يوسف ناولني طاجن الكوارع دي بسرعة قبل ما يبرد.
دفعه يوسف تجاهه وبدى التقزز يحيط به، فدفع عمران ليسأله بذهول:
_مالك قالب منخيرك كده ليه يا جدع، أوعى تكون الطبقة الآرستقراطية الحقيرة دي طبعت عليك!! ولا نسيت أيام ما كنا بنقضيها في المعز والسيدة زينب!!
رد عليه بنفورٍ استحثه بالحديث:
_معتش ليا بالكلام ده، وبالأخص الطواجن.
رمش ساخرًا، ونهض عن مقعده يجذب طبقين من الأطباق الفارغة المجاورة تجاهه، فوضع قطعة ضخمة وقربها منه أمرًا بحدة:
_كل يا يوسف، رم عضمك ومتصعش عليا بالأتكيت المخادع ده.
دفع يوسف الطبق إليه مرة أخرى:
_يا عمران مش عايز أنا خايف وزني يزيد يا عم.
حدجه بنظرةٍ قاتمة اتبعها:
_تعدمني يالا لو مكلتوش، عايزني أموت يا جو!
انقبض قلب يوسف، وبدى مندهشًا من تشديده على تناوله للطبق، ظنه كان يمزح ولكن مجمل الكلمة أخذته حتى لو كان يشاكسه، فجذب يوسف الطبق من أمامه وبدأ يتناول ما به، فابتسم عمران بانتصارٍ، واتجهت عينيه لجمال الذي يراقبهما ببسمة جذابة، كالأب الذي يتناول صغاره يتناولون طعام صنع لهم بحبٍ.
وجده عمران لا يتناول شيئًا، فنهض ليضع قطعة بالطبق الأخر وقربها منه مرددًا باستهزاءٍ:
_جرى أيه إنت التاني، عايز عزومة في بيتك، انتوا جايبنا هنا نهزر ولا أيه يا جدعان، أقوم ألم الأكل ده وأخلع!
شرع جمال بتناول طبقه وهي يتابعهما بفرحٍ، ومن بين اندماجهم بالطعام كسر عمران الصمت بينهما قائلًا بوقاحة مازحة:
_شكل كده الحاجة أشرقت عاملة حسابها إننا عرسان جداد فخاصنا بأكل من اللي هو، بصريح العبارة كده الكوارع دي وراها سر باتع.
ترك جمال الملعقة بصدمة مما يتفوه به، بينما طعنه يوسف بنظرة ساخطة اتبعها نفوره:
_مش قولتلك الواد ده وقح يا جمال، أقسم بالله عايز أقوم أجيبه من رقبته بس للأسف مش فاضي طاجن الكوارع طلع يستاهل، هات حتة كمان يا وقح!
برق جمال بصدمة من انحلال يوسف خلف عمران بعدما كان يشكو منه منذ قليل، فاستند بيده على جبينه وأخذ يراقبهما بنظرة المغلوب على أمره!
*******
انتهى من تجفيف جسده، وارتدى إحدى البيجامات الرجالية المريحة، ثم اتجه إليها يمرر يده بحنان على صدغها، وصوته الثابت يناديها بحنان:
_فريدة… حبيبتي اصحي يلا.
رمشت بانزعاجٍ وصل له من صوتها الناعس:
_سبني يا أحمد، عايزة أنام.
ملس على شعرها برفقٍ وكأنه يدلك فروتها، وعاد لهمسه الدافئ:
_احنا لسه بالنهار وانتي لجئتي للنوم بدري، قومي خلينيا نقعد مع بعض ونتغدى، مش كنتي بتقولي انك جعانه!
فتحت عينيها الزرقاء بانزعاجٍ منه، واستقامت بجلستها بعصبية:
_في أيه يا أحمد ما تسبني أنام وأصحى براحتي.
ضحك وهو يتأمل وجهها العابس، فجذب الطبق الموضوع على الكومود وقرب ملعقته منها بسرعة قبل أن تنفجر به:
_خلاص كلي اللي في ايدي وهسيبك تكملي نوم، مهو أنا مش هيجيلي قلب أسيبك نايمة من غير أكل.
ابتسمت لسماعها تلك الكلمات الحنونة، فاكتفت بهزة رأسها وتناولت كل ما قدمته لها يده، حتى فرغت من تناول الطبق، فجذب الغطاء يداثرها بحب، وقبلته العميقة تلثم جبينها، هامسًا:
_نامي وارتاحي يا حبيبتي، أنا هنا جنبك.
ابتسامتها كانت ردًا سريعًا لكلمته، وبالفعل سرعان ما عادت لنومها منذ جديد، بينما الاخر يراقبها بابتسامة حنونة ويده تضمها لصدره.
******
منحه نظرة ساخرة لتماديه بما يحمله من معلوماتٍ ظنها ستفيده، فتنفس من غليونه ببرودٍ اتبع نبرته:
_ما تحمله قديمًا يا فتى، أتيت لي بإسم الشرطي وأنا أسبقك بعشرة خطوات، تراه الآن يعاقب على كل جرائمه!
ابتلعت شمس ريقها بصدمة مما استمعت إليه، فتراجعت للخلف بحركة منفعلة شتت تركيزها عن رؤية أي شيء، فاختل توازنها مستندة على الطاولة، ورغمًا عنها دفعت يدها الطاووس الموضوع من فوقها، فألقت تحذير صارم بوجودها بالقرب من مكتب راكان.
فُتح باب المكتب وطل راكان منه ومن خلفه الحارس الجديد له، فوقف قبالتها بنظرة قاتمة وابتسامة شيطانية اختلجت قلبها، فرددت بتلعثم:
_أنا آسفة مقصدتش أوقعه، أنا بس اتخبطت في التربيزة وآ…
قاطعها بابتسامة مخيفة:
_فداكِ يا شمس، فداكِ كل شيء، كفايا إنك حنيتي عليا أخيرًا وجيتي لحد هنا علشان تقابليني، دي في حد ذاتها كبيرة عندي يا حبيبتي.
ودنى منها بخطواتٍ شبيهة لحركة السلحفاة، حتى بات قبالتها، نفث راكان غليونه بوجهها، فسعلت بقوة مطلقة يديها لتبعد الأدخنة عنها، ومازالت تنتظر ما سيخبرها به، فقال بخشونة:
_كنتِ جاية ليه يا شمس؟
لعقت شفتيها القاحلة برعبٍ سرى بجسدها:
_آآ… أنا… كنت… جاية آآ.. عشان أشوفك.. وشكلك مشغول، همشي وأجيلك وقت تاني.
قالتها وهي تهرول للاريكة تحمل حقيبة يدها، وإتجهت للخروج، ارتجف جسدها وكأن فصل الشتاء أصابها بثليج عاصف حينما وجدت رجال أشداء مفتولين العضلات يسدوا طريق خروجها، وكأنهم بانتظار الأمر لقتلها.
التفتت للخلف تجاه وقوف راكان وهاتفته بتوتر:
_في أيه يا راكان، من فضلك خليهم يبعدوا!
ضحك بصوته كله، وصاح باستهزاءٍ:
_هو دخول القفص سهل الخروج منه يا شمسي، العصفورة لما بتدخل قفص من حديد وبيتقفل عليها سجانها هو بس اللي يقدر يطلعها، وأنا معنديش النية إني أخرجك أصلًا..
ضمت حقيبة يدها وكأنها تستمد منها قوة مهدورة داخلها، وقالت:
_يعني أيه؟
أجابها بنظرة أزهقت ما تبقى داخلها، وصوته الرعدي يصمم آذنيها:
_يعني خلاص لعبتك إنتي والحقير اللي مشغلك انكشفت واتعريتي قدامي يا شمس هانم يا بنت الأكابر.
وانطلق ليقف أمامها يجءب راسخها بقوة وهو يتساءل بغضب:
_أنا اللي مش فاهمه هو جبرك بأيه علشان تساعديه مهو مستحيل يكون دافعلك فلوس أو هددك بشيء، قوليلي آدهم ولا عمر، الكلب ده أجبرك إزاي تلعبي عليا اللعبة دي، اتكلمي أفضل ليكي.
تسللت البرودة لجسدها تدريجيًا، وهمست بضعفٍ:
_معرفش إنت بتتكلم عن أيه، سبني أمشي.
احتدت معالمه وفجأها بصفعة جعلتها تنساق أرضًا أسفل قدم رجاله، ضمت شمس وجهها بوجعٍ وقبل أن تستوعب ما حدث لها وجدته ينحني ويجذبها من خصلات شعرها إليه:
_لما جيت أتجوز قولت أستنضف وأناسب عيلة الغرباوي، وكنت فاكر نفسي ذكي باختياري ليكي، تقومي إنتي اللي تديني القلم ده لا فوقي معاش ولا كان اللي يختم راكان منذر على قفاه يا بنت سالم، ده أنا أقتلك وادفنك هنا مطرحك ومبكيش عليكي ثانية واحدة.
وبسخرية استطرد:
_ولا كنتي فاكراني أهبل وبريالة وواقع في غرامك!! أنا قلبي عمره ما حب ولا هيحب حد، هعيش وأموت وأنا اللي بهمني بس مصلحتي وشغلي.
هل ستتلقى الموت؟ حسنًا لا مفر منه، لذا عليها نزع رداء ضعفها المستتر وتحارب لاخر أنفاسها، رمقته بنظرة قوية جعلته يستغرب منها، وخاصة حينما قالت:
_شغلك القذر اللي زيك، إنت فعلًا صادق مفيش انسان على وجه الأرض عنده قلب يعمل اللي بتعمله، الأدوية المغشوشة اللي بتهربها جوه بلدك بالاتفاق مع الصهـ. ـاينة القذرين اللي زيك أكيد متخرجش الا من شيطان جاحد زيك، لا عمره فكر مين هيتأذى بيها طفل ولا شيخ ولا ست ولا راجل بيشقى عشان عياله، إنت عندك انتزاع روح البني آدمين سهل، عشان كده ربنا هيخلي نهايتك عبرة وعظة وعلى إيد الشخص اللي مستني لحظة تشفي غليله منك.
بالرغم من أن حديثها أثار غضبه وحنقه بشكل ضخم، لكنه التزم بهدوئه وافرج عن ابتسامة تعج بالشر والسخرية:
_لو تقصدي بالشخص ده آدهم أو عمر فأحب أقولك خابت أمانيكِ الرائعة، لإن الكلب ده خلاص زمانه دلوقتي بينطق الشهادة ده لو كان عمله حلو وقدر ينطقها ابن المحظوظة!
برقت بحدقتيها بصدمة، وراحت تهز رأسها باندفاع:
_لأ…. لأ.. مستحيل.
ضحك وهو يتابعها بشماتة، وفجأة احتلت الجدية الطاعنة ملامحه وهدر بصوت محموم:
_إنتي حبتيه ولا أيه؟؟ يعني الكلام اللي اتقالي صح وكنتي مقرطاسني معاه غراميات!
ألقى غيلونه أرضًا وكسره بقدميه وهو يصيح بشراسة:
_يعني أنا اللي كنت هلم زبالته وأخليها حرمي، حرم راكان المنذر!!
بصقت على الأرض القريبة منه:
_مستنضفش أكون زوجة ليك يا حقير، والكلام اللي قولته ده مهزش فيا شعرة، لإني واثقة ومتأكدة إن آدهم مستحيل تنهيه بالسهولة دي.
تلاشى غيظه ومنحها ابتسامة أخافتها، فاقترب ينحني عليها قائلًا بفحيحه المخيف:
_تيجي نتراهن؟
تابعته بنظرة حائرة، فتابع:
_أنا كنت هقتلك دلوقتي، بس ميخلصنيش تموتي وآنتي فاكرة إن الصرصار اللي كنتي حاطة فيه أمالك هيعدي من الكمين اللي نصبهوله، فهتحداكي حالًا لو الصبح طلع عليكي وهو موجود مش هخلي حد من رجالتي يلمس شعرة منك، لو مجاش هتكوني حددتي مصيرك.
أسبلت بعينيها تخفي دموعها المنهمرة، بينما صاح الاخير بصوتٍ مقبض:
_خدوها لأي أوضة من اللي فوق، ومتنسوش تاخدوا الشنطة منها.
أومأ له رجاله وبالفعل جذبوها عنوة للاعلى بعدما جذبوا منها حقيبتها، فقيدوها على أحد كراسي الغرف العلوية، لتمضي باكية متأملة عودته!
******
المعروف عنه أنه لا يهين نفسه أبدًا بالوقوف بالمطبخ لاي سبب من الأسباب، يلجئ دائمًا لأخيه الأكبر الذي بدى له كأنه الأم البديلة له هنا لخدمته، فعلها مرات قليلة تعد على اليد وكُلهم كانت لأجل صديقه المقرب “أيوب” ابن الشيخ “مهران”، وها هو الآن ينتهي من صنع الدجاج سريع التحضير ويغمسه بالشطائر والجبن ويضعهما بالفرن الكهربائي، وما أن انتهى حتى خرج له، فوجده يتمدد على الأريكة وقد غفاه النوم من شدة ارهاقه.
ابتسم سيف وهو يتمعن بوجهه الطيب، صديقه يملك تلك المقولة المنسوبة إليه من آيات الله عز وجل ” سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ”.
ترك سيف الصينية على الطاولة المجاولة له، وانحنى ينزع عنه الحذاء الرياضي بخفة وبحذر، إن أيقظته حركته يعلم بأنه سيغادر، ولن يتمكن هو من ردع ذاك العنيد الشرس.
تسلل على أطراف أصابعه للداخل، فجذب غطاء سميك ووسادة مريحة، وعاد يضع رأسه عليها ويداثره بالغطاء، ثم اغلق ضوء الردهة ليستكين بنومته، وخطف ورقة يدون له ملحوظة تركها جوار الصينية والتقط مفاتيحه وخرج من الشفة.
تشنجت ملامح وجه أيوب الهادئة، حينما عاد لها ذكريات هذا اليوم البغيض، اليوم الذي هاتفته احدى الممرضات وبلغته بأن أحدهم أتى المشفى مصابًا للغاية ويطالب لقائه وبشدة، يتذكر كيف هرول إليه فتهاوت ساقيه حينما وجده مطروحًا على الفراش بجسدٍ محروق ووجههًا لا يملك به أي مكانًا فارغ من الاصابة، والاطباء من حوله عاجزون حتى عن معالجته من كم الاصابات والجروح التي غلبت هذا الجسد الضعيف الذي مازال يتمسك بالحياة لبضعة ساعات بعد تلك الجنحة القاتلة..
فتح عينيه المنقطع رموشها، ليشير باصبعها النازف للدماء لأيوب بأن يقترب، ففعل وهو يهرول إليه هاتفًا بصدمة:
_محمد، من فعل بك ذلك؟ أخبرني؟؟!
بالرغم من آلامه الغير محتملة ولكنه رسم ابتسامة واسعة، وهمس بصوتٍ خافت للغاية:
_أيوب… كنت أخشى أن يزورني الموت قبل أن أراك للمرة الأخيرة يا صديقي.
غارت عينيه بالدموع، واحتقن صوته المتحشرج:
_هيي أنت أراك تتمنى الموت لمجرد خدشًا صغيرًا يصيبك، دعك من ذاك ولتعلم بأن طريقنا مازال طويلًا، مازلت لم انتهي من إخبارك المزيد عن الدين الإسلامي ونبيك محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، أتتذكر كنت بالأمس تترجاني لنبقى ساعتين بعد صلاة الفجر أحدثك بهما عن وفاة رسول الله ولكنني كنت مرهق للغاية ووعدتك بأني سأقص لك اليوم!
احتدت أنفاسه المزلزلة داخل جهاز التنفس، ورافقته دمعات حارقة جعلت مسمع كلماته صعبة:
_كنت أود أن أتعلم كل شيء عن ديني، كنت أريد أن أمضي سنوات وأنا مسلمًا لأكفر عن ذنوبي وجهلي، ولكنها إرادة الله يا صديقي، الحمد لله الذي سيتوفاني مسلمًا، تائبًا، عاكفًا عن ذنبٍ كان ليرجمني بجنهمٍ حتى يوم الدين.
وتابع وقد تثاقلت أنفاسه واحتقن وجهه بصعوبة:
_أنا لست نادمًا على شيئًا، ما يؤلمني أنني كنت أظن أن الاسلام ما هو الا إرهاب، واليوم بعد ما تعرضت له على يد عمي أدركت أن اليهود هم عصبة الإرهاب وأساسها، أتعلم يا أيوب، لقد كان يتلذذ بتعذيبي ولم يعيره تواسلاتي، أتعلم بأنه من قام بترتبيتي!! فعل كل ما بوسعه ليجعلني أكفر عن دين الله ونبيه محمدًا ولكنني صمدت وأن أتذكر حديثك عن الصحابة وما لقوه أيام الجاهلية.
سعل بقوة جعلت أيوب يهرع إليه متوسلًا ببكاء يراه محمدًا لأول مرة:
_أقسمت عليك بالله أن تكف عن الحديث، أنت مازالت مريضًا، فلتستريح الآن ونستكمل لاحقًا.
هز رأسه يرفض صمته بذاك الوقت الذي يشعر به أن الموت يرفرف بجناحاته فوق رأسه، فمال إليه يخبره ببسمة طعنت قلب أيوب:
_والله يا ما يحزنني الا فراقك يا أيوب، وليشهد الله إنك أحب الخلق لي، وأنك كنت ونعم الصديق والأخ.. لذا سأترك أختي الوحيدة أمانة برقبتك ليومٍ قد ألقاك به على باب الجنة إن أراد الله لي بالمغفرة على ذنوبي.
وابتلع ريقه بصعوبة وهو يردد ببكاء كالطفل الصغير:
_ليتني ولدت مسلمًا، ليتني لم أهدر ثانية من حياتي وأنا على تلك الديانة.
وتعمق بنظرة دافئة له:
_ليتني قابلتك منذ سنوات أيوب.
بكى أيوب وهو عاجزًا حتى عن ضمه، أراد أن يمسك بيده ولكنه خشى أن يؤذيه فكانت تنزف من فرط الاحتراق القامع بجلد جسده المنصهر، فمال على وسادته يربت على خده السليم باكيًا:
_أقسمت عليك بالله الواحد الأحد أن تكف عن الحديث، لست قادرًا على تحمل ذلك الألم، أنا أعلم بأنك ستشفى من جروحك وستعود معي للسكن مجددًا.
ابتسم ودمعاته تقتنص خديه، ومال بوجهه ليكون قبالته، فقال بهمسٍ مرهقًا:
_على ذكرك للسكن فمازلت أتذكر كيف أخفى عليك الشباب بأنني يهودي، ولكنك بالرغم من ذلك كنت تنفر مني دون أن تعلم ديانتي.
وازدرد حلقه المرير من علقم الأدوية، وقال ببسمة مؤلمة:
_كنت أتسلل ليلًا لشرفتك لأسمع تلاوتك بالقراءة، كانت لي رغبة كبيرة بالبقاء جوارك وسماع حديثك، بات صوتك بالقرآن الكريم محببًا لي، فكنت أترقب الليل بصبرٍ يضيق بي تحمله، لاسمعك ترتل تلك الآيات وكنت أدونها من خلفك وأعود لغرفتي أبحث عنها على الانترنت وكلما تعمقت بمعاني القرآن أجد ما يلثم قلبي، كنت أحيانًا أشغل مقاطع من القرآن المسموع حينما ينقبض صدري وأنام هنيًا، إلى أن حلل عقلي لي بأنه الدين الحق، ذلك الدين الذي يعز المسلمين، إنما هو دينًا يدعو للحق وينهي عن المنكر والمحرمات، هذا الدين عظيمًا لدرجة جعلت اللين والمحبة ترافق قلوب المسلمين حينما يتقرب لربه بالصدقة، قضيت تسعة أشهر أحاول فيهم جمع كل شيءٍ متعلق بالدين وحينما أشعر بأني اقتربت أجد بأن لا نهاية لحلاوته،وإنما أنا ما علمته ما هو الا نقطة ببحرٍ يفيض بالكنوز…
وجدت الراحة والسكينة حينما أطيل بسجودي داعيًا لله أن يتقبلني مسلمًا، وجدت سكينتي وأنا أتلو القرآن الكريم ليلًا جوارك أيوب.
جاهد ذاك الألم بكل قوته، ورفع يده المحروقة يشدد على قبضة أيوب، يهاجم انضراع انفاسه المستقبلة للموت وردد له:
_لا تنساني بدعائك يا صديقي، وبلغ الشيخ مهران سلامي وأخبره إنني كنت أتمنى لقائه بنفسي لانحني على يده أقبلها امتنانًا على تربيته لشابٍ بأخلاقك يا أيوب.
بكى بصوتٍ مسموع، فابتسم محمد وقال باسترابة:
_لم أراك يومًا باكيًا، وإن رأيتك اليوم هكذا فأنا سعيدًا للغاية بأنني أملك بقلبك مكانة بادية على وجهك، وللحق كم أنا محظوظ بمحبتك يا أخي!!
ارتعش جسده بصورةٍ مفاجئة، وتحشرجت أنفاسه، فقبض باصابعه على يد أيوب، ليردد بصوته المتقطع:
_إنها النهاية يا صديقي، فلتنصت لي جيدًا، أنا لا أملك شيئًا أخشاه بعد رحيلي سوى أختي الوحيدة، بعد ما رأيته بعيني من عمي فلا أراها آمنة بمنزله، أرجوك أن تعتني بها يا أيوب.
وبوجعٍ شديد ردد:
_آديرا أمانتك وأنا أعلم بإن لن ترد أمانة شقيقك المسلم.
وصرخ بوجعٍ قابض، وأنفاسه تهمس بخفوت:
_أشهد أن لا إله الا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله…
ارتخت يده بين قبضة أيوب، وتمدد جسده أخيرًا حاصلًا على خلاصه، رفرف أيوب بأهدابه بعدم استيعاب، فهزه برفق:
_هيي أنت لا تحاول أن تخدعني، هيا انهض.
وكأنه يحرك قماشة بالية، تنصاع لحركات يده، فردد أيوب بصرامة قاطعة:
_إن لم تنهض الآن لن أقص لك حرفًا واحدًا عن سيدنا محمدًا وأخر غزواته، وما فعله وهو على فراش الموت.. أنا أحذرك.
تمزقت عينيه من البكاء، وراح يحركه متوسلًا:
_استحلفك بالله يا محمد أن تنهض، أنا لن أحتمل فراقك.
ابعده عنه الاطباء واجتمعوا من حوله، يحاولون أن يستعيدوه ولكن أمر الله قد نفذ، طرح أحدهم الغطاء على وجهه وعلامات الأسف يقدمها لأيوب الذي سقط جسده جالسًا أرضًا يردد ببكاء صوته يصدح بأنحاء الغرفة:
_اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعفُ عنه، وأكرم نُزُلَه، ووسِّع مُدْخَلَه، واغسله بالماء والثَّلج والبَرَد، ونَقِّه من الخطايا كما يُنَقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدَّنَس، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلًا خيرًا من أهله, وأدخله الجنة، وقِهِ فتنةَ القبر وعذابَ النار.
واستطرد بانكسارٍ:
_اللهم توفاه مسلمًا… اللهم تقبل توبته.
انهمر الدمع على وجهه الذي ينازع لرؤيته تلك الذكرى التي تحرق روحه، فانتفض أيوب بنومته، يلتقط أنفاسه المتسارعة بصعوبة.
بدأ بالاسترخاء حينما أفاق لواقعه، فرفع عينيه يبحث عن سيف من حوله، وحينما لم يجده ناداه:
_سيف!!
فرك عينيه يبعد النوم عنهما، فرأى الصينية القريبة منه ولجوارها تلك الورقة، جذبها أيوب وقرأ محتوياتها
«مساء الخير أو صباح على حسب ما تقوم، لو صباح هتكون عملت لصاحبك اعتبار وفضلت لتاني يوم احترامًا لكلمتي، أما لو مساء فأكيد يعني لسه رأسك حجر صوان وهتمشي اللي في دماغك وهتمشي من غير ما تعملي أي اعتبار، عمومًا أنا تحت بصور مستلزمات وشوية أوراق وراجع، وسواء قررت تمشي أو تطلع محترم وتستناني سواء ده أو ده هتأكل الأكل اللي عملتهولك، وخد بالك الدكتور سيفو عمره ما بيقف يعمل أكل حتى لنفسه فياريت تقدر ده يا بشمهندس.
صديقك المخلص دكتور سيف عتمان الآشقر»
ضحك وهو يلقي ورقته جانبًا، وجذب الصينية،ثم رفع الغطاء عن الطبق، فوجد ورقة أخرى مدونة بخط كبيرًا.
«كشفت الغطا وهتأكل؟ كنت عارف إنك بتحترمني وهتسمع كلامي وهتخليك معايا، كل الأكل كله أنا نادرًا لما بطبخ وهزعل لو سبت حاجة.»
ألقاها جوار الورقة الأولى وقرب له أحد الشطائر، لكها ببطءٍ ومازال عقله يشرد بصديقه الراحل، لوهلة شعر بأنه فقد شهيته بتناول الطعام، ولكنها ضغط على ذاته ليستكملها حتى لا يحزن سيف.
انطلق رنين جرس الباب مرات متتالية، جعلته ينهض مسرعًا ليرى من هذا الطارق المزعج، ربما قد نسى سيف مفاتيحه أو قد يكون يوسف.
فتح أيوب الباب متمعنًا بالطارق، فانعقد حاجبيه وغامت فيروزته مرددًا بدهشةٍ:
_آديرا!
*******
انتهت مايسان من تنظيف الأطباق، ومن خلفها ليلى كانت تقوم بتجفيفها من المياه،بينما تلتقط منهم صبا لتضعهم بأماكنهم، وسط أجواء متبادلة بالمرح والسعادة، انقضت ساعتهم سريعًا، وعاد كل ثنائي لمنزله، بعد أن أبلغت ليلى صبا أن تخبر جمال بموعد الجراحة المتفق عليه مسبقًا، فبالرغم من اجتماعهم بمنزله الا ان الشباب كانوا يحرصون على عدم الاختلاط بينهم وبين الزوجات، لذا كانوا ينعزلون عنهن بغرفة الضيافة.
وصلت سيارة عمران للمنزل، فصعدت مايسان للأعلى لتستريح قليلًا بينما صف هو السيارة وكان بطريق صعوده، ولكنه توقف حينما وجد أخيه يجلس بالخارج ويقرأ أحد الكتب.
جلس عمران جواره ليشاكسه بمرحٍ:
_مساء الجمال يا دكتور علي، بتقرأ أيه المرادي رعب ولا جريمة ولا اتهورت ودخلتلك على رواية رومانسية!
أغلق علي الكتاب ووضعه على الطاولة، وتساءل بدهشة:
_إنت كنت فين من الصبح يا عمران.
رد عليه وهو ينحني ليجذب كوب قهوة علي، ليستكمل ارتشافها بتلذذ:
_كنت معزوم عند جمال، والدته لسه واصلة وأصرت تعزمني أنا ويوسف.
راقب ما بيده بنظرة ساخرة، لطالما اعتاد عمران أن يشاركه كل شيء حتى كوب قهوته!
انتهى منها وفرد ذراعيه بالهواء بتثاقل، وأخذ يراقب الوضع من حوله بنظرة مهتمة، مقدرًا المسافة بينه وبين ساق علي، فوجدها ستكون مريحة، وعلى الفور تمدد مستندًا برأسه على ساقيه وأغلق عينيه يستعد للنوم.
لكزه علي بضيق:
_مش عايزني أطلعك الأوضة بالمرة!!
همس مدعيًا النوم:
_مش هينفع مايا بقت معايا في الأوضة.
وتابع بمرحٍ:
_يعني طلوعك ودخولك بقى بحساب يا دكتور!
فسر علي معاني الحديث ومن ثم تعالت ضحكاته الرجولية، مرددًا بمشاكسة:
_أخيرًا يا راجل!! … أممم ما أنت استغليت فرحي عشان تأكل بعقلها حلاوة.
ضحك عمران على حديثه، واستقام بجلسته يغمز له:
_لو مستغلتش بطيبتك وقلبك الأبيض ده بذمتك هستغل مين!
ضحك برفقته وسرعان ما أمسك ضحكاته حينما استمع لصوت هاتف عمران.
******
بقصر راكان.
تمكنت من جذب هاتفها من جيب جاكيتها، وبصعوبة رفعت يدها المكبلة بالاحبال، وجدت أن الانسب بمهمتها هذا اللجوء لاخيها الشرس، من يتمكن جيدًا من مواكبة ما تمر به، رفعت شمس هاتفها تطالبه وتنتظر بصبرٍ أن يجيبها وما أن أتاها مجيبًا، حتى همست ببكاء وصوتًا مبحوح:
_عمران.. الحقني يا عمران هيموتني!
انتفض بجلسته بصدمة وعدم استيعاب لما يستمع به، وردد بفزعٍ جعل علي يراقبه باندهاش:
_شمس إنتي فين!! مين اللي هيموتك!! إنتي فين انطقي!
ردت عليه ببكاء:
_أنا في بيت راكان، وآ…
انقطعت باقي جملتها حينما شعرت بخطوات تقترب من باب الغرفة، أعادت الهاتف سريعًا لجيبها بعدما أغلقته نهائيًا حتى لا يصدر منه أي صوتًا يثير الاهتمام لها.
انتفض علي قبالته يتساءل بخوف:
_مالها شمس يا عمران اتكلم!!
أزاح بصره عن الهاتف قائلًا بدهشة:
_بتقول إنها في بيت راكان وإنه عايز يقتلها!
انقبض صدره، وزاغت عينيه وهو يحاول استيعاب تلك الكلمات القاتلة، فلم يدعي ما يشل تفكيره أكثر من ذلك، هرع علي لسيارته وقبل أن يشغل محركها كان عمران يقفز لجواره، لتتجه السيارة بسرعتها القصوى تجاه قصر راكان!
******
خطة محكمة ستلقي بحتفه مؤكدًا، خاصة بأنه يحمل حقيبة مسلمة من راكان الذي منحه ورقة بالعنوان معللًا اختياره للذهاب بأنه أكثر رجاله ثقة، ويريده أن يسلمها للساكن بالعنوان المدون، وبالحقيقة كان ينتظره هناك إثنا عشر رجلًا، مسلحون بأسلحة تكاد تحرق الأخضر واليابس.
شعر بالارتياح واسترخى بتمدده بالمسبح، وحينما انتهى نهض يجفف جسده بالمنشفة العريضة، ويتجه لغرفته مدندنًا باستمتاعٍ.
وقف أمام السراحه بعبث بخصلاته المبلولة، ويراقب تنظيم حاجبيه، توسعت حدقتيه بصدمة وهو يرى انعكاس الصورة المقابلة بالمرآة، فاستدار للخلف بسرعة البرق ليتحقق بأنه لا يتوهم!
لعق شفتيه بصعوبة وهو يردد:
_عمر باشا!!
منحه ذاك الصقر بسمة باردة، ووقفة تهتز لها الثقة من فرط ارتباكها، يبتسم بصمتٍ يبتر كل أجزاءه الحيوية، حتى حرر صوته الخشن:
_مكنتش متوقع أنك هتشوفني تاني ولا أيه يا فؤاد!
تراجع للخلف وهو يحارب ارتباكه:
_لا.. ازاي بس يا باشا، أنا بس مش مستوعب إنك هنا.
هز رأسه بخفة وعينيه تراقبه بتمعنٍ، فاستدار يجذب أحد البرفيوم الموضوعة على السراحة ينثر على لائحة يده ويقربها لانفه، وفجأة ألقاها على المرآة بتقززٍ:
_ريحتها نتنه زيك بالظبط.
راقب فؤاد الزجاج المنكسر من أمامه بخوفٍ، وعاد يتأمله بهلعٍ حينما وجده يلف من حوله كالأسد الذي على وشك التهام فريسته، قائلًا بجمود:
_بقولك يا فؤاد متعرفش ليه راكان باعتني لصاحبه ده أسلمه الشنطة، وليه مصر أني أروح بنفسي!
رفع يده يفرك صدره وكأنه بهذة الحركة ستمده بالاكسجين، وبتلعثم قال:
_لا يا باشا معرفش.
اتسعت ابتسامته الماكرة:
_بس أنا عارف، وعارف كمان بمقابلتك اللي تمت من ساعتين لشمس.
برق بذعرٍ، والتفت ليركض من أمامه، فاحتضنه عمر من الخلف، يده تلف كتفيه ويده الاخرى تعيق حركته بحركة خبيرة يصعب على أحدٌ فعلها، ارتعب فؤاد فهو يعلم تلك الحركة المعتادة لعمر الرشيدي وباتت تشهره بين الجهاز كالدمغة، يعتصر جيد غنيمه كالأفعى التي تعتصر جسد فريستها، حتى تنكسر عظامها.
ردد الاخير متوسلًا برعب:
_أنا معملتش حاجة، راكان هو اللي أجبرني أعمل كده يا باشا.
انطلق فحيحه يهمس بأذنيه:
_إنت عملت كده عشان النص مليون دولار اللي اشتراك بيهم الكلب ده، عملتها وإنت عارف تمن الخيانة اللي بيدفعه أي حقير يفكر يبيع عمر الرشيدي، وإنت ارتكبت ذنب ميغتفرش مرة بخيانتك لبلدك ومرة بخيانتي!
اشتدت يديه من حوله تدريجيًا، فبدء وجهه بالاحمرار من احتباس مجرى تنفسه، فسارع بالحديث:
_إنت اللي خنت اتفاقنا من الأول يا باشا، خطتنا كانت واضحة من البداية إنك توقع شمس وتجندها لصالحنا وبكده كانت هتقدر تسحب الملف بسهولة من خزنة راكان، لكن إنت وقفت كل ده عشان حبيته، إنت كنت عارف إن وجودنا جوه بيته طول المدة دي فيها خطر علينا وأنسب حل كانت شمس، استبعادك ليها عرضك وعرض الفريق كله للخطر، مكنتش هستنى لحد ما ننكشف ويخلص علينا واحد واحد بسبب حبك الغبي ده.
زاد من اعتصار جسده بغضب جعل الأخير يصرخ ألمًا، بينما ردد عمر بعصبية بالغة:
_أنا ازاي مقدرتش أشوف حقارتك دي، إنت ظابط يعني مأمور بحماية الارواح، مستحيل أكون موافق أعرض حياة انسانه بريئة للموت مهما كانت صلة قرابتها بيا، أنا وافقتك بالبداية لاني كنت فاكر إن الموضوع بسيط بس بعد كده لما حسبت أبعاده لقيتني هعرضها للخطر لذا وقفت الخطة كلها وبلغتك بده..
تصلب جسده وهبطت معافرته بين جسد عمر القاسي، فهمس له قبل ان يغلق الاخير عينيه:
_كنت عامل نفسك ذكي وأنا سابقك بخطوة، وزي ما قدرت أكشف راكان ولعبته التافهة قدرت أكشفك يا كلب، وحظك بقى إن مبسبش حقي يبرد، فجيتلك على الحامي ووعد مني هبعتلك الكلب اللي اشتراك وراك بكام ساعة مش هيطول عليك متقلقش!
انتهت رحلة معافرة جسده أمامه، وحينما تأكد من سكونه ألقاه أرضًا بنفورٍ من ملامسته لذاك الخائن، واتجه ليحول حياة ذاك الشيطان لجحيم مستعار سيذقه الآن ما يجعله لا ينسى إسم “عمر الرشيدي” طوال حياته!
****
اندهش من وجودها أمامه، وخاصة حينما أشارت له على الدرج قائلة:
_رأيت صديقك يخرج من العمارة فصعدت لرؤيتك.
أسبل بعينيه بعدم استيعاب:
_هل كنتِ تراقبيني؟
اومأت برأسها بعدة تأكيدٍ، وكأنه يمنحها سؤالًا أحمقًا، أمهل أيوب ذاته بالصبر الذي تمرن عليه طوال حياته لينتسب لجملة صبر أيوب، بينما الاخيرة أتت لتحطمها حينما قالت بتوسلٍ صريح:
_ فلنجرب فعلها الآن، هل أنت مستعد لذلك؟
حقًا هل بات القاتل يسأل قتيله إن كان مستعدًا للموت أم لأ؟
تنهد أيوب بإرهاقٍ، وقال:
_انتظريني هنا، سأعود بعد قليل.
ودفع الباب ليواربه، ففتحته آديرا متسائلة:
_ألا يمكنني الانتظار بالداخل؟
عاد ليدفع الباب مشيرًا لها بتحذير:
_لا يجوز لي الاختلاء بامرأة، انتظري بالخارج سأعود بعد خمسة دقائق.
زفرت بنزقٍ:
_ولماذا تحتاج للخمسة دقائق فلنفعلها الإن وهنا!
اقتحمت فيروزته هالة من الغضب ومع ذلك أبقى عينيه أرضًا متعمدًا عدم التطلع لها مثلما اعتاد أن يغض بصره:
_لا أريد أن أقحم صديقي بمشاكل من تحت رأسي، سأعود بعد خمسة دقائق… انتهينا.
وتركها ورحل فهمست بسخرية غاضبة:
_وكأنك تأمرني!!
زفرت بنفاذ صبر، واتجهت للدرج الجانبي تجلس عليه بحزنٍ، فانهمر شعرها الأصفر من حولها كأنه يحاوط عينيها الباكية، فأزاحت دموعها وهي تهمس بحقد:
_سأقتل هذا الارهابي مهما كان الثمن، حينها ستنتهي معاناة أخي آران!
مضت الدقائق ومازالت تنتظره، فهزت ساقها بعصبية مفرطة، تفحصت ساعتها فوجدته قد أطال عن الخمسة عشر دقيقة، فنهضت واندفعت داخل الشقة تبحث عنه بغصب.
فتحت “أديرا” أحد الغرف فوجدته واقفًا على سجادة الصلاة يصلي من أمامها بسكينة غريبة، انحنى يردد بصوتٍ وصل لها
“سبحان ربي العظيم وبحمده..”
واستقام بوقفته ومن ثم سجد أرضًا وأطال بسجدته، مما دفع الاخيرة تتحدث من خلفه بصوت كان مسموع له:
_حسنًا أديرا تلك هي فرصتك، سأفعلها الآن.
وبالفعل نزعت حقيبة يدها وجذبت السلاح تسلطه على أيوب الذي لم يعبئ بها وكأنه لم يراها من الأساس، استكمل صلاته بخشوعٍ تامٍ متجاهلًا لوجودها من أمامه بالسلاح، بينما الاخيرة تراقبه بعينيها الخضراء بدهشةٍ، ذاك الرجل لم يطرف عينيه خوفًا حتى، تراه صامدًا أمامها في كل مرة تحاول فيها قتله، لا تعلم هل هذا هو الذي يدفع يدها للارتعاش من أمامه..
شرودها جعلها لم تنتبه له وهو ينتهي من صلاته ويطوي سجادته مرددًا بعضًا من التسبيحات، فوضع سجادته على الأريكة ومنحها نظرة صارمة تعج بغضبه:
_لم أتفاجئ بفعلتك، اليهـ. ــود معروف عنهم أنهم أخِسَّةٌ جبناء.. يعتدون الهجوم من الظهر لإنهم يعلمون جيدًا بأنهم ضعفاء.
احتدت معالمها وصاحت به:
_لن أقبل باهانتك هذة أيها الارهابي الحقير!
ابتسم بتهكمٍ لحق نبرته:
_من منا يحمل سلاحًا هنا؟ أعتقد بأن الارهاب متعلق بحمل الاسلحة إذًا إنتِ واحدة منهم.
واستطرد بنفور من تواجدها برفقته:
_على كلٍ انتظريني بالخارج وسألحق بكِ، لم أهرب منكِ يومًا حتى أفعلها هنا.
أعادت سلاحها لحقيبتها وخرجت تنتظره أمام الشقة، وبالفعل ما هي الا دققيقتين وخرج لها أيوب، يؤمرها وهو يهبط الدرج بخفة:
_اتبعيني.
لحقت به وهي تكز على أسنانها بغيظٍ من أوامره، فوجدته يذهب لطريق الحديقة الهامة، واختار جانب غير مزدحم بها.
وقف أيوب قبالتها وقال بتعب:
_أنا جاهز، فلتفعليها ولينتهي هذا الأمر.
هزت رأسها بتأكيدٍ وأخرجت السلاح مجددًا، صوبته تجاهه وحاولت جاهدة الضغط عليه ولكنها كالعادة فشلت بفعل ذلك.
ارتجفت يدها من أمامه وكأنه محصنًا قبالتها، ألقت “أديرا” السلاح وارتمت أرضًا تبكي بانهيارٍ، وصوتها المحتقن يصل لمسمعه:
_يا ويلتي أترتجف يدي أمام قاتل أخي، تبًا لي!
تعالت شهقاتها وحلت عقدة ذراعيها وهي تسأله بانهيار:
_ما الذي سأخبر به عمي عند عودتي، سأخبره إنني فشلت بفعلها!
وصرخت بوجعٍ:
_ماذا أفعل؟
زفر الأخير بمللٍ، ودنى ليصبح على مسافة منها، أعاد تلك الخصلات المتمردة على عينيه ونظم أنفاسه، انحنى بقامته الطويلة وقال باستهزاء يختفي بثبات نبرته:
_لا عليكِ يا فتاة، يمكنك فعلها! هيا انهضي.. ركزي على هدفك.. حرري الزناد… وانتهى الأمر!
رفعت وجهها المحتفظ ببقايا دموعها إليه، وقالت بدهشة:
_أولست خائفًا من الموت يا هذا؟
أخفض فيروزته عنها وأجابها ساخرًا:
_وهل يخاف أحدًا من لقاء الله عز وجل، أنا انتظر تلك اللحظة بفارغ الصبر، وإن كنتِ ستجعلين مني شهيدًا أزف للجنة بعد مغفرة من الله فمرحبًا برصاصتك بين أضلعي مستقراها!
ابتسمت بفرحةٍ، وكأنها وجدت الخلاص لأمرها، فمدت له ما تحمله قائلة:
_إن كنت ترغب بلقاء ربك فلتفعلها أنت.
أبعد السلاح عنه وقال بحزمٍ:
_حاشة لله أن أموت عاصيا، ديني يمنعني من فعل ذلك.
تهجمت معالمها بسخطٍ:
_أيمنعك ربك من قتل نفسك ويستحل لك قتل الأخرون.
أجابها بنفس قوته الصارمة:
_بلى يحرم علينا قتل النفس.. وعقابها عسير.
طعنته بنظرة قاتلة ولحقها صراخ متعصب:
_ولماذا قتلته إذًا؟! لماذا فعلته أيها الارهابي!!
مزق شفتيه السفلية بأسنانه، وانتصب بوقفته متجاهلها، فلحقت به واندفعت تمسك ذراعه لتستوقفه:
_أين تذهب؟ أخبرني!!
تراجع للخلف بعينين مشتعلتين زرعت الخوف داخلها منه، وخاصة حينما رفع اصبعه يحذرها بعنف:
_إياكِ أن تلمسيني مجددًا، إن كنتِ لا تريديني أن أقتلك بحق كوني بعيدة عني، أنا لن أحمل ذنبًا عظيمًا مثل ذلك لأجلك يا امرأة.
وبصراخٍ غاضب قال:
_والآن أما أن تقتليني أو ترحلين من هنا وتدعيني أعيش بسلامٍ
زمت شفتيها بحنقٍ:
_بأحلامك أت أدعك تعيش بسلامٍ أيها الأرهابي.
وأشارت له بقوة شرسة:
_يتنتظر هنا إلى أن أتمكن من فعلها، حتى لو وقفت عامًا بأكمله!
سحب أيوب نفسًا طويلًا يهدأ بها ذاته، وهمس بنزقٍ:
_فينك يا شيخ مهران تشوف اللي بيحصل لابنك، حبكت يعني تسميني أيوب!! أهو ربنا ابتلاني باللي هيخليني محتاج لصبره.
واستطرد بغيظٍ:
_ما أسماء الانبياء كتيرة قدامك…
وعاد يفرك جبينه هامسًا:
_اللهم لا اعترض… اللهم صبرًا يشابه صبر أيوب في محنته!
راقبته بحاجب معقود، فوجدته يجلس أرضًا على الخضرة، ويجذب مصحفه الصغير يقرأ به، اشارة لها بأنه سينتظر مثلما أرادت.
تراجعت بظهرها للخلف لتعود للاريكة الخشبية، جلست تحاول تقنع ذاتها بفعلها، تتذكر كل لحظة قضتها مع أخيها لتتمكن من قتله.
مرت ساعة كاملة ومازالت تفكر، وفجأة هرولت لأيوب تخبره بسعادة غريبة:
_وجدتها… وجدتها أيوب!
صدق عن الآية التي يقرأها، وأغلق مصحفه يضمه له، متغاضيًا عن نطقها لاسمه بحروفٍ غير صحيحة بالمرة، وسألها:
_أهلكيني بذكائك الخارق تلك المرة، أمل أن يكون حلًا سريعًا ولائقًا بموتة كريمة لي!!
ألقت سخريته جانبًا، وقالت:
_ما رأيك أن نستأجر مجرمًا شرسًا ونطالبه بقتلك؟
أراد منع ضحكته ولكنها انفلتت رغمًا عنه، فضحك حتى أحمر وجهه الأبيض المشع بنور إيمانه، وحينما لمح احتقان وجهها قال:
_آسف ولكن الأمر مضحك!
وتنحنح وهو يستعيد كافة رزانته ورخامة صوته:
_حسنًا فلتفعليها إذًا، إن كان الحل مناسبًا من وجهة نظرك.
زمت شفتيها بحزن:
_ولماذا سأفعلها؟ ألم تأتي معي للقاء المجرم؟
أسبل بأهدابه الطويلة بصدمة أخرى، وردد:
_عذرًا هل تريدي أن أقوم باختيار قاتلي بنفسي؟
هزت رأسها بتأكيدٍ، فقال ضاحكًا:
_لا أجده حلًا منطقيًا، فحينما سيستمع لنا القاتل اقسم بالله سيقتلنا معًا وحينها يا فتاة ستخسرين حياتك، ألا يكفيكِ خسارة أخرتك!!
هزت رأسها باقتناع وعادت تشرد بالفكرة العظيمة التي بدأت تستحوذ على اعجابها، فأتتها احدى العقبات تعكر صفوها ودفعتها للبوح بها قائلة:
_هذا القاتل سيلزمه مبلغًا كبيرًا من المال.
كبت ابتسامته وهو يهز رأسه بعنجهيةٍ:
_بالتأكيد، لن يفعلها حبًا بي، أنا لست محظوظ ليحبني نصف اليهود ويرغب النصف الأخر بقتلي!!
لم تكن تسمعه من الأساس، تفكر بخطتها بكل تركيز، لتأتي له بحديث أحمق:
_إن ذهبت لطلب المال من عمي سيقتلني إن علم بأنني لم أقتلك بنفسي، ولكن من أين سأحصل على المال؟
هز كتفيه وهو يحرك رأسه يسارًا ويمينًا مذعنًا شفقته وقلة حيلته ولكنه بالحقيقة يود السقوط بنوبة ضحك تهون عنه كبت ما يعتريه بتلك اللحظة التي يُجالس بها قتالته التي تطورت مهمته للتفكير في مستأجر يقوم بقتله وتفكر الإن بكيفية جمع المال؟
اعتدلت بجلستها بابتسامة واسعة دفعته ليردد بأملٍ:
_فتاة ذكية، تريدين فعلها بنفسك توفيرًا للمال أليس كذلك؟
تلاشت ابتسامتها وقالت بضيق:
_لأ.. ولكني وجدت ذلك الشخص النبيل الذي سيقرضني المال.
بدى له الأمل يلوح من بعيدًا مهاجرًا إياه، وخاصة حينما قالت هي:
_أنت من ستفعل يا أيوب، ستعطيني المال لأقدمه للقاتل وحينها سينتهي الأمر.
رمش بعدم استيعاب، وردد:
_أنا لو عايز أتبرع بالفلوس هتبرع بيها أكيد لبناء مسجد، كفالة يتيم، أنما أتبرع بيها للشخص اللي هيقتلني عشان يصرفهم رحمة ونور على بدنه موردتش عليا دي بصراحة!
عبثت بعينيها باستغراب:
_ماذا تقول؟ لم أفهم حرفًا واحدًا!
أغلق عينيه بتعبٍ، ويده تدلك فروة شعره البني، اتخذ خمسة دقائق هدنة للاسترخاء، ثم قال ببسمة هادئة:
_حسنًا سأفعل، ولكن ليس الآن.
ونهض عن الارض ينفض ثيابه، فلحقت به تتساءل بدهشة:
_ولماذا ليس الآن؟
أجابها ببرود:
_لإن المال ليس بحوزتي الآن، أبي يقوم بإرسال المال ببداية الشهر الجديد، ونحن الآن باليوم التاسع عشر!
هزت رأسها بتفهمٍ، وطرقت بأظافرها على السلاح الذي تحمله بتفكيرٍ، لتجده يودعها وينصرف قائلًا:
_سأنتظرك بشقتي في اليوم الأول من الشهر القادم… وداعًا.
ركضت خلفه بلهاثٍ:
_انتظر!
استدار بمللٍ ونزقٍ:
_ماذا بعد؟!
ابتلعت ريقها بخوفٍ وارتباك:
_وأين سأذهب تلك المدة؟
وقبل أن يمطرها بسخريته قالت:
_إن عدت لعمي قبل أن أقتلك سيقتلني هو، لذا عليا الاختباء بأي مكان حينما أنتهي منك وحينها سأعود مرفوعة الرأس.
همس بسخط:
_مرفوعة الرأس ليه قتلتي نتنياهـو، أهو لو هتعمليها هساعدك بمالي ودمي وحياتي وصحتي وكل ما أملك!
رددت بعدم فهم:._بماذا تثرثر أنت؟
تنهد بيأس من محاولاته للفرار منها، وقال بعد تفكيرًا اتخذه لتحقيق رؤياه:
_أستطيع أن أترك لكِ سكني الخاص، اتبعيني سنذهب لأجمع بعضًا من أغراضي، ستجلسين لبضعة أيام وسأذهب أنا للعيش برفقة صديقي.
حاولت أن تسرع لمحاذاة خطوات ساقيه الطويلة، قائلة وهي تلتقط أنفاسها:
_ولماذا ستذهب للعيش مع صديقك، ألا يتسع مسكنك لي ولك؟
توقف عن المشي واستدار يلقنها نظرة نارية جعلتها تزدرد ريقها بخوفٍ، ليندفع الاخر بشراسة حديثه:
_سبق وأخبرتك أني لا اختلي بالنساء بمكانٍ واحد، وأضطر أسفًا بالتعامل معكي اكرامًا لوعدي القاطع لصديقي محمدًا.
_سحقًا لك، يدعى آران!
لفظتها بعناد يجابه خاصته، فكور يده بقوةٍ ليمنعها الأ يجرها من شعرها لاهانة تسحقه هكذة، ولكنه أن فعل ذلك سيثبت لها بأنه ارهابي مثلما تزعم تلك، لذا قال بهدوء:
_دعينا من هذا الأمر، فلنذهب.
أومأت برأسها وهي تطمس غضبها، ولحقت به بهدوءٍ تجتهد بالتحلي به.
*******
وصل عمران وعلي للقصر، فولجوا للداخل بخطواتٍ أشبه للركض، وما أن ولجوا لغرفة مكتبه حتى نهض يستقبلهما بجراءة وكأنه لم يفعل شيئًا:
_أيه الزيارة السعيدة دي، دكتور علي وعمران باشا، يا أهلًا وسهلًا..
وأشار لاحد رجاله المتوزعون من حوله استعدادًا لأي خطر:
_اتنين قهوة مظبوطه للبهوات بسرعة.
انطلق صوت علي الحازم يعيق عنه تلك الألعيب:
_فين شمس يا راكان؟
ادعى دهشته من الأمر، وقال ببراءةٍ:
_شمس! أنا مشفتهاش من ساعة الحفلة، هو في حاجة ولا أيه؟
كاد عمران أن يسلط وقاحته على ذاك اللعين ولكنه تسمر محله حينما وجد علي يجتاز رجاله ليلف يده حول رقبته بقوةٍ وشراسة:
_أختي فين، حالًا تؤمر حد من كلابك دول يجبوها لحد عندي والا قسمًا بالله العلي العظيم أكسرلك رقبتك وإنت عارف إني دكتور وأدرى باللي يأذيك.
وأشار على من يتسلل من جواره ظنًا من أنه سيخلص سيده:
_قبل ما يفكر يقرب خطوة هكون ناهيك في أرضك.
ابتلع راكان ريقه بتوتر جلي، وأشار بيده:
_ارجع مكانك، وإنت هات شمس.
أومأ الرجل إليه وانصرف يأتي بها من الأعلى، بينما ردد عمران بفرحة:
_الله عليك يا دكتارة، ياما في الجراب يا حاوي بصحيح.
منحه نظرة ساخرة من سخريته ومزحه بوقتٍ كهذا، ومع ذلك بقى ثابتًا أمامه، فالتقط أذنه صوتها الهزيل مرددة لمن يواجهها:
_عمران!
ركضت لاحضان أخيها تشدد من ضمه بجسدها المرتجف، فربت عليها بحنان:
_متخافيش يا حبيبتي مفيش حد فيهم هيأذيكِ.
التفت علي يتفحصها بنظرة مهتمة، فاستغل راكان انشغاله وكاد بأن يسدد له لكمة، فجأه علي حينما قبض على قبضته ورد له اللكمة بقوة جعلته يسقط على مقعده، لتبدأ معركة شرسة بينه وبين الحرس.
دفع عمران شمس خلف الاريكة، وانضم يدافع عن أخيه، وبالرغم من تضاعف الاعداد عليهما الا أنهما كانوا يجاهدون لمحاذاة القوة، ضعف أي منهما يعني قتل الأخر والاصعب تعرض شمس للخطر، صاح عمران براكان غاضبًا:
_مكنتش أعرف إنك وسخ وعرة كده يا ****، وربي لادفنك وإنت وكلابك اللي بتتحامى فيهم دول يا جبان.
ضحك وهو ينفث سيجاره بعناد:
_وماله خلص عليهم وأبقى تعالى نتكلم، بس عايزك تصمد يا وحش!
انحنى عمران يتفادى لكمة احداهم ومرر قدمه ليسقطه وانقض عليه يلكمه بقوة، بينما على يرفع قدميه يركل احداهم ويسد الطريق عن ذاك الذي يحاول ضرب رأس أخيه المنحني بمطرقعة حادة.
دارت معركة شرسة بينهم وشمس تختبئ، تغلق فمها بصعوبة بالغة وتبكي بمرارة لما وضعت به، ربما هي أتت لانقاذ حبيبها ولكنها فور سماع راكان يتحدث بمكتبه عقدت العزم بالرحيل وتحذير آدهم ولكنه كان يكشف أمرها من البداية وهو من دبر لها تلك المكيدة لتقع بشباكه.
فُتح أحد رجال راكان باب المكتب وهرول مذعورًا إليه يخبره:
_باشا الخزنة مفتوحة على وسعها والملف مش فيها!
نهض عن مقعده يجاهد الا يقع من طوله، وصرخ بثورته:
_إنت بتقول أيه يا حيوان!!
تراجع عمران يحمي شمس التي خرجت من خلف الأريكة، بينما تراجع علي يحمي شقيقه ومن خلفه شقيقته كالأب الذي يخشى على صغاره من نسمات البرد القارصة.
اتجهت نظرات راكان لشمس، وصاح بصوت كالرعد:
_الملف فين؟؟
رددت بخفوت وهي تتعلق بقميص عمران:
_مخدتش حاجة!
_ملفك معايا… وعدواتك معايا… وموتك على ايدي!
كلمات واثقة قالها ذلك الذي يعتلي مقعد راكان بعدما تركه ولحق بشمس، فحرك المقعد المتحرك باستمتاعٍ وابتسامة انتشاء أشعلت الاخر، وخاصة حينما استطرد عمر وهو يتأمل الملف الذي يحمله بين يديه:
_اتعمدت أخده بالوقت ده بالذات علشان أعرفك أني اقدر أعمل اللي أنا عايزه في أي وقت، حتى لو كنت إنت ورجالتك جوه المكان.
وجذب القداحة المجاورة لغليون راكان من على المكتب ثم أشعل النيران بالملف، والجميع يتابعه بصدمة ودهشة عدا تلك التي تبتسم بفرحة وعشق لرؤيته على قيد الحياة.
اشتعلت النيران بالملف وراكان يكاد ينصهر معها، فألقى آدهم الملف إليه هاتفًا ببرود:
_المعلومات اللي فيه اتحفظت هنا، فمبقاش يلزمني.
وكان يشير على رأسه، وفرد ظهره للمقعد مستطردًا بنومٍ:
_معاك فرصة أخيرة تقتلني وبالتالي سرك يتدفن معايا.
واعتدل مستندًا على سطح المكتب ليهاتفه بجدية تامة جعلت علي وعمران بصدمة وحيرة من قوة ذاك الشرطي الغامض:
_بس أنا خايف عليك يا راكان تحصل رجالتك اللي كنت مخليهم يستنوني في البيت إياه، ألا صحيح هما كانوا كام؟ أصل منظر الدم والاشلاء كان مثير للاشمئزاز بصراحة.
وضيق حدقتيه الماكرة:
_أممم… خليني أخمن، اتنين جنب الشباك وأربعة ورا الباب، وكان في خيالين عند الطرقة، وممكن اربعة تانين!!
وانفجر ضاحكًا بشكلٍ جعل رجال راكان يرتعبون منه، سبق لهم معاشرته ورؤيته وهو يدافع عن راكان بشراسة والآن سيواجههم!! المعادلة صعبة وغير متقنه.
استوقف ضحكه وقال بجمود:
_تؤ.. تؤ… صعبان عليا يا راكي! وخليني أقولك نصيحة قالهالي مدربي في وقت من الأوقات.
وانتصب بوقفته ينزع عنه جاكيته وقميصه الأبيض حتى بات بملابسه العلوية السوداء، قائلًا وهو ينشغل بنزع القميص:
_قالي في رجالة تستاهل إنك تضيع من وقتك وتقف تحاربهم لأخر نفس خارج منك لإنهم رجالة اختاروا المواجهة وليهم الشرف إنهم يشوفوا الاقوى والاذكى منهم، وفي حريم تانية بتستخبى بالجحر بيستنوا لحظة غدر علشان يخدوك على خوانة ودول ديتهم قنبلة تبيدهم زي ما بدت حريمك!
تعالت ضحكات عمران وراق له ما يحدث من آدهم، بينما راقبه علي ببسمة هادئة وبات يملك فضول لمعرفة ما سيفعله الإن، فوجده يدنو من راكان حتى بات قبالته، وقال:
_تعرف مين اللي قالي كده؟
تراجع الاخير برعبٍ قابض، بينما استطرد آدهم بقوة:
_مراد زيدان… الجوكر تسمع عنه؟
يتبع…
نهض عن المقعد أخيرًا ليتجه بخطواته البطيئة حتى وقف قبالة “راكان” وجهًا لوجه، يشيعه الأخير بنظراتٍ حاقدة، بينما هو كان جامدًا التعابير، غامضًا بشكلٍ يرعب الأعين المحاطة به، حتى تلك العينين البندقتين التي تسترق النظر إليه من فوق كتف أخيها، تراه صارمًا لأول مرة بعدما اعتادت رؤية الابتسامة والمرح لا يفارقاه.
مد عمران ذراعيه للخلف ليحتضن جسد شمس حتى لا يصيبها أي ضرر من اندلاع تلك المعركة المخيفة، ابتدت من إشارة “راكان” لرجاله أمرهم:
_خلصوا عليه.
ابتسم “آدهم” بسمته المخيفة، ورفع ذراعيه للأعلى كأنه ينفض جاكيته الجلد، فهبط لكلا ذراعيه خنجرين صغيرين.
إلتحم معهم بمعركة دامية، جعلت علي وعمران يصعقان مما يرآه، كان يسدد خناجره بأماكن متفرقة بالجسد بسرعة جنونية، مخيفة، تجزع الدماء وتغرق الجسد ببركتها.
حاولت شمس أن ترى ما يحدث، فألتف لها عمران بجسده وضمها بصدره دامسًا رأسها على كتفه هامسًا بسخرية:
_متحاوليش تشوفي اللي بيحصل هتغيري رأيك في فارس أحلامك الشهم!!!
اندفع الرجال من حول “آدهم” ليشكلوا حلقة دائرية من حوله، فتخلى “علي” عن مكانه وأسرع بمساعدته، فأحاطه “آدهم” من الخلف صارخًا به:
_دكتور علي خد شمس وعمران وإخرج من هنا، أنا هقدر أتعامل معاهم.
نزع “علي” جاكيته ورفع يديه يستعد للمحاربة، قائلًا دون التطلع لمن يوليه ظهره:
_هنخرج مع بعض يا حضرة الظابط.
غرز “آدهم” خنجره بصدر أحد الرجال الذي يحاول الوصول بسكينه إليه، وقال وهو يلتهي بالمعركة بتركيزٍ وتمعن:
_من فضلك يا دكتور إسمع الكلام، هتتأذي!
واستغل تأوه الرجال من أمامه واستدار ليخطف نظرة سريعة لعلي، فتفاجئ به يلكم أحدهما بحرفية، ومن ثم يرفع جسده ليمر من فوق ظهره قاصدًا الضغط بكوع يده على ظهر خصمه بقوة جعلت غريمه ينازع حد الموت بعد سماع انكسار عظامه، حركة خبيرة لا تهدر الا من رجلٍ اعتاد ممارستها لسنواتٍ، فغر فاه “آدهم” بذهولٍ، وبات يتساءل عن كناية ذاك الرجل أمامه؟
احتدمت أطراف المعركة وباتت شرسة بقدرٍ مرعبٍ، مما دفع عمران لإبعاد شقيقته لخلف الأريكة وأسرع بالتدخل ليكون مجاورًا لأخيه ولآدهم.
نجحوا معًا بالقضاء على رجال “راكان” الذي بدى مذعورًا من قوتهم الغريبة، فنزع عن ملابسه ذاك السلاح وإتجه للأريكة التي تحتمي بها “شمس” ، جذبها من خصلات شعرها المنسدل خلفها بقوة جعلتها تصرخ بهلعٍ:
_علي! … عمران!
اتجهت ابصارهما إليها فصعقوا حينما وجدوا السلاح مصوب على رأسها، انتهى آدهم من تكبيل الرجال ونهض يقابل ما يراه باستعداد تأهل له مسبقًا.
اقترب “عمران” من “راكان” مشيرًا بيديه بهدوءٍ:
_راكان اللي بتعمله ده مفيش منه فايدة، خلاص إنت جرايمك كلها اتكشفت واللي بتعمله ده هيزود عقوبتك.
سحب خصلات شعرها للخلف ليرغمها على التراجع خلف خطواته، ليشير بسلاحه بعنفٍ:
_ارجع جنب أخوك بدل ما أخليك ترجع للموت تاني برجليك وإنت مصدقت نفدت منه.
واتجه بفوه السلاح للمكان الذي يقف به “آدهم” شامخًا لا يهتز له جفنًا حتى بعد أن أصبح السلاح مُصوب إليه، كان يعلم بأنه سيفعل ذلك ليضمن عدم كشف الملف للسلطات المصرية.
صدق حدثه حينما حرر “راكان” الزناد لتستقر الطلقة بكتف الاخير، فانحنى على ساقٍ واحدة وهو يضم كتفه بألمٍ.
تحررت صرخة شمس بجنونٍ وكسرة جعلت صوتها مبحوحًا:
_آدهـــــــــــــم!
ركض إليه “علي” ينحني قبالته، في محاولة لتفحص جرحه فانتبه لهمس الخافت ونظرات عينيه الماكرة:
_إبعد عمران.
هز رأسه بعدما تمعن بخطته الخبيثة بالقضاء على ذاك السليط، وبالرغم من خوفه الشديد على شقيقته الا أن ما رأه بعينيه من مهارة وقوة جعلته يثق بأن “آدهم” لن يسمح بأن يطولها أذى، فبدأ بتنفيذ تلك الخطة العاجلة، وجذب “عمران” مدعيًا خوفه الشديد عليه ليطوله رصاصه مثلما فعل مع آدهم، فقال:
_إرجع يا عمران.
وقف أمامه كالحصن المنيع الجاهز لاستقبال أي رصاص يخترقه قبل أن يصل لأخيه، وتراجع علي للخلف بعمران للشروع بتنفيذ مخطط آدهم الذي يدعي تألمه الشديد لأصابته، فمازال يضم صدره وينخفض برأسه للأرض بتعبٍ.
تطلع علي لراكان وأشار بيده بينما مازال يتراجع بعمران للخلف:
_اهدى يا راكان واللي إنت عايزه هنعملهولك، احسبها بالعقل، إنت كده هتخسر ومش هتستفاد أي شيء.
ضحك ساخرًا ومرر سلاحه على وجوههم جميعًا:
_المعركة بينا لسه مخلصتش يا دكتور، اختارتوا تقفوا في الجهة الغلط، وحظه بقى إني مطلوب حي.
انهمرت الدموع من عينيها، وكل ما يشغل عقلها ماذا أصابه؟ لم تفارقه نظراتها الباكية وهمسها الوحيد المعاكس للأجواء المتبادلة، تهمس باسمه بعدم استيعاب بما حدث إليه، ولم تبالي بفوه السلاح المصوب برأسها، إن أراد الله أن يفرقهما بموته فليفعل ذاك السفيه وليضغط على الزناد لتلحق به لمثواهما الأخير!
رفع آدهم رأسه ببطء ليواجه راكان بنظرةٍ قوية، واستقام بوقفته بهدوء وصوته الرزين يسترعى انتباهه:
_بس أنا معنديش تعليمات إنك ترجع مصر عايش يا راكان!
وأنهى جملته بخروج سلاحه وفي لمح البصر استقرت رصاصته بمنتصف جبين الأخر، سقط السلاح أرضًا من يده مصدرًا صوتًا صاخبًا ومن خلفه سقط جثمان راكان، بينما ترك دمائه تنبثق على فستان شمس الذي تلوث بتلك الدماء، فصرخت بذعرٍ وهي تتأمل كتفيها وصدرها.
جذبها آدهم بعيدًا قبل أن يترنح راكان بسقوطه من فوقها، والتقفها علي الذي يحاول جاهدًا ازالة الدماء عن فستانها حتى تهدأ من روعها.
جذب عمران المحارم الورقية المبللة التي يحتفظ بها بسيارته وأزال ما تمكن بفعله، فكان يزيح علي البقع الماسدة على ظهرها وعمران يزيح عن شعرها وجبينها بينما لا تكف هي عن الصراخ والانتفاض بين أيدهما، فقال علي:
_اهدي يا شمس، احمدي ربنا إنك كويسة وبخير.
بينما صاح عمران بوقاحة:
_كلب ويستاهل اللي جراله، ليها حق تقرف من دمه ال***
ضحك آدهم على سبه المضحك ومازالت يده الحاملة للسلاح تتكئ على كتفه المصاب، فاسترعى انتباه علي الذي ترك شمس لأخيها واتجه إليه قائلًا بقلقٍ:
_آدهم إنت لازم تروح المستشفى حالًا، جرحك بينزف.
هز رأسه نافيًا لاقتراحه الخطير:
_مركزي حساس مقدرش اعمل كده، هدخل في سين وجيم وإنت عارف يا دكتور.
ضيق حاجبيه بذهول:
_يعني أيه هتسيب نفسك لما تتصفى كده!!
إتجه إليهما عمران يقترح بعدما تلصص لحديثهما:
_الدكتورة ليلى ممكن تساعده تخصصها جراحة عامة وتقدر تعمل كده بسهولة.
وتابع قائلًا:
_هنأخد آدهم شقة سيف وأنا هطلب يوسف وأخليه يسبقنا هو وليلى هناك.
استحسن علي فكرة أخيه، وأشار له وهو يساند آدهم الذي بدأ بخسارة وعيه تدريجيًا:
_هات شمس وأنا هسند آدهم للعربية.
استدار تجاه شقيقته وقبل أن يخطو إليها خطوة واحدة وجدها تهرول تجاه آدهم، تمسك يده وتردد ببكاء انساقت إليه بانهيارٍ:
_آدهم!
فتح عينيه لها وبصعوبة أجبر لسانه الثقيل على النطق:
_أنا كويس.. متقلقيش.
رفع عمران أحد حاجبيه بسخطٍ، فجذب يدها التي تتمسك بيد آدهم وأجبرها على أن تخرج معه قائلًا وهو يقلد صوتها الانوثي:
_آه آدهم!! طب اعملي احترام لأخواتك الرجالة اللي واقفين، ولا خلاص الحب ولع في الدرة!
استعادت نوبة بكائها وهمست له بغضب:
_ده وقتك يا عمران، آدهم بيموت.
استدار للخلف ليضمن وجود مسافة بينه وبين علي الذي يساند آدهم بخطواته البطيئة واستدار مجددًا يخبرها:
_بعد اللي شوفناه جوه ده هيموت ازاي! ده لف على رجالة راكي شبه الخنفس وقذف الرعب في أوراكهم وأفخادهم، كنت فاكره ظابط محترم طلع سفاح المعادي!!!
ولف يده حول كتفها ليجبرها على الاقتراب من شفتيه الهامسة:
_رجعي نفسك يا بت، ده لو اتخانقتي معاه مش هنلحق نيجي نسلكك منه، هيقطعك ومش هنعترلك على قطعة واحدة ندفنك، فكك منه وبصي لقدام.
وعاد يتطلع للخلف ليتفحص جسد آدهم بنظرة دقيقة ثم عاد بنظره لشقيقته ليعود لهمسه:
_راجعي نفسك يا شمس الموضوع محتاج تفكير صدقيني!
منحته نظرة غاضبة، يراها تكاد تقتل من فرط بكائها وخوفها عليه بينما مازال هو يستكمل حديثه، تلصص عمران لنظرتها وقال وهو يغلق عينيه بشكلٍ أضحكها:
_أنا أدرى بمصلحتك يا بنت الحلال، إنتي اتربيني تربية آرستقراطية على ايد فريدة هانم، يعني الرقة والاحساس والمشاعر وكل شيء هادي، ده ياما عايز واحدة من السيرك تلاعبه بالخناجر وهو منشكح ومش همه الخنجر هيصيبه من إنهي اتجاه.
واستطرد وهو يلعق شفتيه بتوتر:
_أنا خايف على مستقبلك يا شمس، مش معقول بعد الفلوس اللي كعتها على تعليمك ألقيكي بالأخر بتتعلمي مسكت الخناجر!!
زفرت بتعبٍ وتوسلت له:
_عمران عشان خاطري أنا تعبانه ومش قادرة والله لكلامك، ده لا وقته ولا مكانه بقولك هموت من الرعب على آدهم، إنت أيه معندكش دم؟
ضحك ساخرًا وهو يصفق كف بالأخر:
_لا حول ولا قوة الا بالله، أقنعها ازاي دي بقى!! يا بنتي انا وأخوكِ الغلبان ده اللي يتخاف علينا من الخنفس اللي عايزة تتجوزيه ده.
وتابع وقد توقف عن الخطى حتى عاق الطريق لعلي وآدهم، فوقفوا يراقبون ما يحدث وقد صدمهما ما قاله بالاخص آدهم:
_طب بذمتك لو اتجوزتي واحد زي ده وجيتي في يوم تشتكي منه هنروحله نواجهه بمصايبه من أنهي اتجاه! هو إنتي مستبيعة ومش فارقلك عمري أنا وأخوكي الدكتور المحترم اللي رباكي ورباني.
ربعت يديها بخصرها وتراقصت بانفعالٍ:
_ليه يا حبيبي حد قالك إني هتجوز بلطجي، آدهم ظابط قد الدنيا كلها، وعمره في يوم ما هيجرحني بالعكس أنا لو هسلطه فهسلطه عليك عشان إنت تستحق بصراحة.
وضع يده بجيب بنطاله وقال وهو يلتقط هاتفه:
_ولا يقدر يعملي حاجة، لو هو شاطر بالخناجر فأنا شاطر بآسر قلوب الستات، هآسر قلب أمه وأقلبها ضده زي ما بنجح دايمًا.
تنحنح ذاك المنصدم من حديث عمران الذي ظنه عاقلًا بشخصيته الرزينة، وقال:
_والدتي للأسف متوفية يا عمران بس بابا موجود، ليك بردو في أسر قلوب الرجالة ولا سكتك حريم بس؟
اتجهت نظراتهما معًا للخلف ليجدوا علي تتصاعد نيرانه من عينيه تجاههما، فابتلع عمران ريقه بارتباك من نظرات أخيه وصاح ببراءة مصطنعة:
_واجب عليا كأخ إني أنصحها متأخذنيش بردو يا آدهم اللي عملته جوه من شوية لازم يتخاف منه ولا أيه؟
قهقه ضاحكًا ويده تضم جرحه بألمٍ، وهمس ساخطًا:
_لا في دي عندك حق، بس أنا عندي تعليق بسيط.
هز رأسه بمعنى صريح لاستماعه لما سيقول، فردد وهو يتحرك:
_أولًا أنا إسمي عمر مش آدهم كفايا أختك اللي بحاول أقنعها بإسمي الحقيقي إلى الآن ومش راكبة معاها، ثانيًا اللي حصل جوه ده إن دل على شيء يدل إني هصون أختك وهحميها من نسمة الهوا قبل ما ترمش على خدها، ويدل بردو إنك هيكونلك زوج أختك شرس لو إحتاجتله هتلاقيه وخصوصًا إن باين عليك بتاع مشاكل!
تمعن بالأمر بمنظورٍ عميق، وهمس إليه:
_شكلي هتثبت ولا أيه!
ردد علي من بين اصطكاك أسنانه بغيظٍ:
_على العربية يا عمران بدل ما أخليه يقتص من فخادك إنت كمان!
هز رأسه وإتجه بها للمقعد الخلفي، بينما صعد علي لمقعد القيادة بعدما وضع عمر لجواره، وتبقى الصمت بينهم السائد الا من صوت عمران الذي هاتف يوسف وأخبره بالتوجه لشقة سيف هو وزوجته لأمر ضرورًا.
******
جمع أيوب بعضًا من أغراضه الشخصية، ووضعها باحدى حقائبه الصغيرة، وجذب كتبه ومتعلقات جامعته، وحينما كان بطريق خروجه من غرفته عاد خطوتين للخلف يفتح أحد أدراجه وأخرج منه بعض الكتب الدينية والقرآن الكريم، ثم تعمد تركهم على سطح الطاولة لتبدو منظورة لها بوضوحٍ، والابتسامة الصغيرة تزين شفتيه.
جذب الحقيبة وغادر تاركًا شقته، فوجدها تجلس بالخارج بانتظاره، وتلك المرة لم تجرأ على مخالفة حديثه، فتبقت بالخارج مثلما أمرها.
أفاقت من شرودها على صوته الرجولي الثابت:
_لقد انتهيت، يمكنك الدخول والاسترخاء بالداخل.
هزت رأسها ونهضت تتجه بتعبٍ للباب، وقبل أن تدخل قالت برجاءٍ:
_أيوب فلتكن رجلًا شهمًا ولا تكن تلك إحدى محاولاتك للفرار مني، أرجوك أريد القصاص لأخي.
رفرف بأهدابه الطويلة بعدم استيعاب، ومنع تلك الابتسامة التي تزوره مجددًا، فحك أنفه يخفيها وتنحنح بخشونة:
_لا تقلقي، لست ذاك الجبان الذي يهرب من مواجهة مصيره، وإن كنت سأفعلها لما سمحت لكِ بالبقاء هنا ولما اتبعتك طوال تلك المدة.
ورفع يد الحقيبة يجرها قائلًا باقتضابٍ:
_سأغادر الآن وسأعود غدًا ببعض الطعام والأغراض التي ستحتاجينها..
وتركها وغادر ومازالت تراقبه باستغرابٍ ودهشة.
ولجت “آديرا” لشقته، فتمكنت من تفحصها بعناية، وجدتها شقة صغيرة للغاية بالكد تخفيه، كانت تتكون من غرفة نوم واحدة وحمامًا خاص ومطبخ صغير يطل على ردهة مطولة تحتوي على صالون وبعضًا من أغراضه.
كانت مرهقة بالدرجة التي جعلتها تتجه سريعًا لغرفة النوم لتنال قسطًا من الراحة، وما أن حررت بابها حتى أغلقت عينيها باستمتاعٍ حينما انعشتها تلك الرائحة الطبية التي تسللت لانفها وكأنه كان ينثر بغرفته معطرًا باهظًا، فلأول مرة تلتقط تلك الرائحة التي أرسلت لها شعور الطمأنينة والرائحة بشكلٍ غريبًا جعلها تتسلل خلفها لتستعلم عنها ولكنها وجدتها بالغرفة بأكملها..
تفحصت فراشه بعينيها، وتلك الخزانة الصغيرة، لامست خشب الطاولة بلفتة سريعة فجذب انتباهها بعض الكتب الدينية المكتوبة باللغة الانجليزية، استوقفها احدهم وكادت بقراءته ولكنها اندرجت لمفهومٍ جعلها تقتاد غضبًا، آن كاد أيوب عربيًا لما يحتفظ بكتبٍ انجليزية من المؤكد بأنه قد تركها لها عن عمد وربما كانت لأخيها من قبل، هل ذاك ما قام به استدراج أخيها؟
دفعتهم للخلف بضيقٍ وكادت أن تتوجه للفراش ولكنها توقفت حينما لمحت صورة محاطة للكومود بإطار زجاجي تضم أيوب وأخيها.
انحنت وحملت الصورة تتأملها بأعين باكية وأناملها تلامس وجه أخيها ببطءٍ وشوقٍ يمزقها، وأكثر ما ألمها بأنها كانت تراه مبتسمًا بشكل لم تراه بمثل تلك السعادة من قبل، مما دفعها للتفكير بحديث أيوب وخاصة بأفعاله وأقواله وبات ما فعله معها إلى الآن يختبئ خلف سؤالًا واحدًا ردده عقلها بقوة.
هل ما يغعله من كرمًا ولطفًا يندرج لخانة الإرهاب؟؟!
********
تسلل أحمد من جوارها وهو يتفحص الوقت، فارتدى بذلته وخرج يتسلل حتى لا يوقظها، لا يعلم بأنها مستيقظة وتدعي النوم حتى تهرب من وجعها القاتل، لم تعد تريد الانهيار أمام أحدٌ حتى هو شخصيًا.
فور أن اغلق الباب حتى استقامت بجلستها تفرغ ما كبت بداخلها، تضم جسدها الهزيل وتدعي العنان لدموعها..
وقف أحمد يطرق باب غرفة عمران، فارتدت مايسان اسدال صلاتها وخرجت إليه مرددة بدهشة:
_أنكل أحمد!
تنحنح بحرجٍ وهو يزدرد صوته:
_معلشي يا مايا لو قلقتك بالوقت ده.
أسرعت برفع الحرج عنه قائلة:
_أنا صاحية منمتش.. خير يا أنكل في حاجة ولا أيه؟
قال وقد تجلى الحزن على معالمه قبل نبرته الرخيمة:
_فريدة حاسس إنها مش تمام، وعندي اجتماع مهم ولازم أخرج وللاسف هتأخر، عايزك تخلي بالك منها لحد ما اخرج.
برقت بقلقٍ وتساءلت:
_مالها فريدة هانم!!!
لا يريد أن يخبر أحدٌ بما يحزنها، لذا قال:
_معرفش يمكن تحضيرات الحفلة سببتلها شوية ارهاق، المهم خلي بالك منها.
هزت رأسها في طاعة وأغلقت باب غرفتهما واتجهت سريعًا لغرفة أحمد.
*******
ولج للداخل يحمل أكياس الحلوى، وضعها على أقرب مقعدًا قابله وناداه بتلهفٍ:
_أيـــــــــوب!
اتجه سيف للداخل وتفحص الأريكة بنظرة حزينة، فهمس وهو يلهو بالمفاتيح:
_طلع حجر صوان، مفيش فايدة فيه!
وفجأة اتاه صوت جرس الباب، فإتجه ليرى من الطارق، اتسعت ابتسامته وعينيه تنخفض للحقيبة التي يحملها، وصاح بفرحة:
_هتطلع ابن اصول وهتقعد معايا؟
ولج أيوب للداخل وترك حقيبته وهو يستدير في مقابلته قائلًا باصرارٍ:
_لأ يا سيف، قولتلك اني مستحيل هقبل ليك بالأذى، أنا بس هقعد عندك كام يوم لحد ما ألقى سكن مناسب ليا أو يمكن ربنا يكرم وألقى شقة صغيرة بسعر مناسب زي اللي كنت قاعد فيها.
اتبعه سيف حتى جلس قبالته على المقعد، وتساءل بعدم فهم:
_وسبت شقتك ليه؟
تنحنح وهو يجاهد لخروج صوته ثابتًا:
_مسبتهاش، فيها حد يخصني.
عبث سيف بعينيه بنظرة جعلت الأخير يشعر وكأنه عاري أمامه:
_مين الحد ده يا أيوب؟
تهرب من حصار نظراته مدعيًا انشغاله بالهاتف الذي جذبه فجأة، مما دفع سيف لالتقاطه ودفعه على الطاولة بعنفٍ:
_إنت أكيد اتجننت يا أيوب، متقوليش إنك مقعد البنت اللي عايزة تقتلك جوه بيتك!!
التقط نفسًا مطولًا وأجابه:
_مكنش ينفع أسيبها تقعد في الشارع يعني يا سيف، دي مهما كان وصية محمد.
انفجر متعصبًا:
_ما تغور ما داهية يا أخي، دي يهودية وقاتلة يا أيوب إنت عايز تلبس نفسك مصيبة!! وبعدين أنا ليه حاسك كده مسلم ومرحب بأنها تموتك ما تموت نفسك وتخلص والعقوبة واحدة مش فارقة!
منحه نظرة قوية عميقة، اتبعها قوله:
_مين قالك إنها هتعمل كده!
رمش وملامحه تتشح بالسخرية:
_أمال بتجري وراك عشان سواد عيونك!
رد عليه ببسمة هادئة:
_الايد اللي ترتعش قدامك وهي في عز حرقتها واصرارها للانتقام مش هتعملها ونارها الوقت كل مادى بيسكنها وبيطفيها يا سيف.
أدلى بشفتيه بحيرةٍ:
_مش فاهمك أنت عايز توصل لأيه؟
أجابه بوضوحٍ والخبث يتراقص بين عينيه:
_سيف أديرا جواها شيء كويس أو بيحاول يكون كويس، هي حاليًا شايفاني الارهابي اللي قتل أخوها وأرغمه إنه يدخل الاسلام، وفي نفس الوقت بتشوف حقايق معاكسة لكل ده، طريقتي معاها من البداية لحد هنا بتنافي كل القذارة اللي زرعها عمها في دماغها عن المسلمين وعني أنا بالأخص، لو أنا قولتلها مباشرة بالكلام إني مش ارهابي مش هتسمعني لكن لما تشوف تصرفاتي معاها لحد اللحظة دي هتواجه عكس اللي اتقالها ومش بعيد كمان تتبع نفس طريق أخوها وتتوب على إيدي بإذن الله.
بدأ الأمر منطقيًا له الآن، فكما اعتاد عنه الرزانة والعقل وبما اكتشفه الآن فمازال يملك هذا العقل والتفكير، انتهى من صمته الطويل ولعق شفتيه مرددًا:
_بس ده هيكون خطر عليك يا أيوب، عمها مش هيسيبك في حالك واللي عمله في ابن أخوه اللي من دمه يخليك واثق أنك هتشوف مصير أسوء منه، بلاها كل ده يا صاحبي أبوك ممكن يروح فيها لو جرالك حاجة، إنت جتله بعد صبر وحرمان ٢٠سنة بلاش تعمل فيه وفي الحاجة رقية كده راجع نفسك.
ابتسم وهو يمنحه نظرة دافئة:
_الاعمار بيد الله وحده يا سيف وسبق وقولتلك قبل كده، اللي معاه ربنا قلبه مات!
تلاحقت البسمات على وجه سيف، وقال وهو يتمعن التطلع به:
_اسلوبك وكلامك دايمًا بيفكرني بعمران صاحب يوسف، أقسم بالله تؤامه يا أيوب.
تنهد بمللٍ:
_مفيش مرة أقابلك فيها الا وجبتلي فيها سيرة اللي اسمه عمران ده، يا أخي بقى عندي فضول أقابله بسبب رغيك عنه!
أتاه الرد مقبلًا ببشارة من يوسف الذي فتح باب المنزل وولج للداخل برفقة زوجته، فترك حقيبتها الطبية الصغيرة أرضًا وأسرع للصالون يردد بحفاوةٍ:
_أيوب مش معقول!
وضمه بحبٍ والاخير يبادله بضمة حنونة، فسأله يوسف بضيق:
_بقى كده متسألش علينا ولا خلاص بقى البشمهندس تقل علينا.
ابتسم وهو يجيبه:
_متقولش كده يا دكتور أنا بس الفترة اللي فاتت كنت مشغول شوية في حوار كده.
هتف سيف بنزقٍ:
_حوار اليهودي اللي هيتسبب في قتله قريب بإذن واحد أحد.
زجره أيوب بغضبٍ، وكاد بالحديث ولكن فور رؤيته لزوجة يوسف تقترب منهم حتى غضب بصره للأسفل عنها، تفحصت ليلى الردهة وتساءلت بنعاسٍ:
_هو فين عمران وصاحبه المصاب ده يا يوسف!
أسبل سيف بصدمة:
_مين اللي مصاب!!
رفع كتفيه بقلة حيلة:
_ولا أعرف أنا اتفاجئت بمكالمة منه بيقولي أجي هنا أنا وليلى عشان صديقه مصاب!
رد بحيرة من ذاك الأمر:
_طيب مودهوش مستشفى على طول ليه،على الأقل هناك رعاية كاملة عن البيت لو اصابته خطيرة!
جلس على الاريكة بانهاكٍ:
_ادينا قاعدين وهنشوف، بس تأكد إن عمران مورهوش غير المصايب.
وأشار بيده على زوجته:
_خد دكتورة ليلى تريح جوه لحد ما البيه يشرف ونشوف حكايته أيه؟ وبالمرة أشوف حكاية ايوب أيه، ها يا بشمهندس؟
أومأ سيف برأسه واتجه لزوجه أخيه يحمل عنها حقيبتها ويتبعها لأحد الغرف، فوضع الحقيبة بالداخل وأغلق الباب عليها.
بينما بالخارج.
قص أيوب بإيجازٍ ليوسف عما فعله، فتلألأت حدقتيه بفخرٍ واعتزاز بذاك الفتى، فانتهى من حديثه قائلًا:
_سيف مصمم أني غلطت يا دكتور يوسف وأنا مش شايف إني أذنب في شيء وحتى لو عمه مسبنيش أنا جاهز لأي غدر بس بعيد عن سيف.
وبحرجٍ قال:
_علشان كده أنا مش هطول هنا، يومين بس ألقى مكان بديل وآ..
قاطعه يوسف بغضب بعدما توارى له مغزى حديثه:
_متكملش يا أيوب، أنا من البداية كنت مصر إنك تفضل هنا مع سيف، وبعدين الكلام ده مهزش فيا شعرة ولو شايف بصحيح إن دكتور يوسف مش أهل كرم وابن اصول يعتمد عليه هتمشي، لو شايف العكس هتقعد مع سيف لاني مأمنش لأخويا مع حد غيرك يا أيوب، اعتبرني أخوك الكبير يا عم تفتكر أخوك هيقبل انك تسكن بره وهو عنده شقة!
كاد أيوب بأن يوضح له وجهة نظره والمخاطر الصارمة التي تنتظر مصيره البائس، ولكن قاطعه صوت رنين هاتفه، رفعه ليجد عمران يصيح به:
_انزل سند معايا أنا تحت.
فرك جبينه بارهاقٍ، وأشار لايوب:
_هنزل أشوف أخرة صبري ده وراجعالك تاني يا أيوب.
أشار له بتفهمٍ وجلس بانتظاره.
*****
وأخيرًا تمكن من اقناع علي باصطحاب شمس للمنزل لتأخر الوقت، وساند عمران آدهم للمصعد، فارتكن عليه هامسًا بتعبٍ:
_احنا رايحين فين يا عمران؟
حاوطه بذراعيه بقوةٍ، وأجابه بخوفٍ وهو يتفحص ملامحه التي بدأ العرق يتسلل لجبينه:
_متقلقش دي شقتي انا وأصدقائي، أمان متقلقش.
ابتسم ساخرًا وهو يميل على كتف عمران:
_إنت ليه محسسني إنك بتتستر على مجرم.
أحاطه عمران حينما تمايل للأمام، وأجابه بجدية تامة لاحظها بشخصيته الغامضة:
_إنت باللي عملته ده بطل يا آدهم، كفايا انك جبت رقبة الكلب ده، ده الجزاء المناسب ليه بعد خيانته لبلده ولناسه.
اتسعت بسمته وردد بخفوت مازح:
_اعتبر رأسه مهر أختك!
ضحك بصوته الرجولي وتحرك به بعدما توقف المصعد، وتفاجئ بعدم وجود يوسف، فدق الجرس فوجد قبالته شابًا غريبًا يراه لأول مرة.
أحكم عمران لف ذراعه حول آدهم المستسلم للاغماء بين اللحظة والاخرى، فردد بدهشة:
_أعتذر منك، لقد أخطأت الشقة بالتأكيد.
استكشف أيوب من ملامحه وبذاك المصاب بين ذراعيه بأنه هو، فأشار له متسائلًا:
_إنت عمران صح؟
تعجب من ذاك الشاب العربي، وأجابه باستغرابٍ:
_أيوه انا.. إنت مين؟
مال آدهم بين يديه فعاونه أيوب حينما انحنى تجاهه وسانده للداخل، مناديًا:
_سيف!
خرج سيف مهرولًا ومن خلفه ليلى، عاونوه الشباب معًا بالاسترخاء بغرفة جمال، وأسرعت ليلى بقص التيشرت الاسود الذي يرتديه آدهم أسفل جاكيته الاسود، لتتفحص اصابته فرددت بصدمة لمن يقف جوارها:
_عمران ده مضروب بالنار ولازم يتتقل المستشفى فورًا.
أجابها عمران وهو يتفحص آدهم الذي غلبه فقدان الوعي أخيرًا، وقال:
_اتصرفي يا دكتورة ليلى، آدهم ظابط من المخابرات المصرية ولو حد شم خبر إنت عارفة اللي هيحصل.
تفاجئ سيف وأيوب بما استمعوا إليه، بينما لم يعني الأمر ليلى كثيرًا، كانت تركز بما ستفعله لانقاذ مريضها مهما كلف الأمر، فحاولت جذب الاغراض المتاحة باستخدامها وتوفيرهة بالمنزل حتى تتخطى به مرحلة الخطر..
صعد يوسف بعدما تفحص انحاء العمارة والمصعد، فولج بمفتاحه الخاص وهرع للغرفة المجتمع بها الجميع، فاقترب يتفحص ما تفعله ليلى وقد شملت نظراته ما يحدث، فجذب عمران للخارج بغضب، وسدده للحائط وهو يردد بعدم تصديق:
_إنت جايبلنا مجرم مضروب بالنار لحد هنا يا عمران عايز تودينا وتودي نفسك في داهيه.
دفعه بعيدًا عنه وهو يصيح به:
_اهدى بروح أمك العملية مش ناقصه، أنا لسه خارج من عركة مخليني شايفك مصاص دماء قدامي، ريح يا دكتور في جنب ومتستفزنيش بدل ما أخرج الحركتين اللي ملحقتش أستعرض بيهم نفسي هناك وتطوح جنبه جوه.
دفعه للحائط مجددًا بعدما كاد بأن يتخطاه عائدًا للداخل:
_لسانك الوقح ده هقصهولك قريب إن شاء الله، بس الأول فهمني عركة أيه وحد أذاك؟
قالها وهو يتفحص جسده بعدما رأى بقع الدماء قابعة بقميصه، فقال بعدمت التقط نفسًا:
_أنا كويس ومتقلقش اللي جوه ده مش مجرم زي ما أنت فاكر، ده ظابط ويعتبر خطيب شمس أختي.
زوى حاجبيه بدهشة:
_وراكان المنذر أيه وضعه!
ضحك وهو يخبره:
_الله يرحمه بقى لا يجوز عليه سوى الرحمة.
ردد حائرًا:
_أنا مش فاهم أي حاجة منك!
قال وهو يبعده عنه بتعبٍ:
_بعدين يا يوسف أطمن عليه بس وهنقعد نحكي للصبح.
وقبل أن يدلف لباب الغرفة استدار يسأله:
_صحيح مين اللي فتحلي الباب من شوية ده؟
ابتسم وهو ينقل له الخبر الذي مل من سماعه:
_أيوب اللي فلقنا رأسك بيه أنا وسيف.
بادله الابتسامة وهتف:
_بجد، صاحب سيف صح.
هز رأسه مؤكدًا له، وولجوا معًا للداخل، فوجدوا ليلى قد سحبت الرصاصة من جسده بالفعل، بينما يقوم سيف بمساعدتها بتعقيمه، حتى أيوب تعاون معهما بمناولتها ما تحتاج إليه من الحقيبة على وجه السرعة حتى أتمت مهمتها ووضعت المحلول بيده ثم خرجت لعمران ويوسف بالخارج قائلة بارهاقٍ:
_الحمد لله كله الحالة شبه مستقرة، بس لازم يكوت تحت الملاحظة عشان لو لقدر الله حصل أي مضاعفات، فلازم أكون جنبه هنا لحد بكره الصبح.
هز يوسف رأسه بتفهمٍ وقال:
_خلاص مفيش مشكلة نخلينا هنا لبكره لحد ما نتطمن على وضعه..
وأشار لها بنظرة فهمت معناها:
_ادخلي انتي اوصتي ريحي يا ليلى وأنا شوية وجايلك.
انسحبت تاركة الصالون للشباب، فجلسوا جميعًا بالخارج، وكان عمران أول من تحدث:
_الحمد لله إنه كويس أنا كنت خايف يجراله حاجة معرفش أقف قدام أختي وأقولها أيه.
ابتسم أيوب وردد:
_ربنا يشفيه ويعافيه، بسيطة إن شاء الله.
منحه الاخير ابتسامة واسعة وصاح:
_أنا سعيد إني اتعرفت عليك يا أيوب، سيف ويوسف دايمًا في سيرتك.. ومن اللي سمعته شكلنا كده هنكون أصدقاء قريب
تطلع له سيف بريبة فأشار ليوسف الذي أسرع بلكز عمران هامسًا من بين اصطكاك أسنانه:
_بالمناسبة أيوب ابن الشيخ مهران، أبوه شيخ أزهري وهو شاب متدين ارجع عن أي هزار سفيه أبوس ايدك.
تألم لضغط يده ولكزه بقوة أكبر وهو يصرخ به بحنقٍ:
_في أيه يا عم؟ حد قالك إني ملحد!!
تهاوت الضحكات على وجه أيوب وخاصة حينما نهض عمران يحمل حقيبته ملابسه وأشار له بغمزة مشاكسة:
_تعالى يا أيوب هقعدك في أوضتي أنا، وبالمرة أتعرف عليك حلو بدل بكيزة وزغلول اللي قعدلنا على الواحدة دول!
تعالت ضحكاته ونهض ليلحق به فأوقفه سيف حبنما تعلق بذراعه وهتف بتواسل مازح:
_بلاش عمران يا أيوب، أخلاقك هتنحدر، صدقني هتتغير وهتبقى انسان شيطاني، مغرور، زير نساء، وقح، معاك قرص في الردح والتربية السلبية، هتكتسب بلاوي وأنا بغير عليك يا صاحبي.
دفعه أيوب وهو يمازحه بذكورية متسلطة:
_لازم تغير لاني التركيبة اللي نطقتها دي تغري وأنا قبلت الاغراء!
ضحك يوسف وسيف وشاركهما أيوب، بينما خرج عمران من الغرفة حينما لم يجد من يتتبعه قائلًا بضجرٍ:
_أيه يا شيخ أيوب خوفت مني ولا أيه؟ لا عندك ده أنا في المعلومات الدينية معنديش ياما ارحميني، شوف إنت عايز تجاريني في أيه وأنا سداد.
توسعت ابتسامته بعدم تصديق لوجود شخصيات تلقائية مثل ذاك الغريب الذي يتعامل معه وكأن هناك عقدًا من الزمان يجمعهما، وما زاده غرابة بأنه قام بنفسه بترتيب ملابس أيوب داخل خزنته، وحينما وجد القرآن بين أغراضه حمله بحرصٍ وهو يقبله بسعادة..
منح أيوب بالبصيرة تجاه خلق الله، لا يعلم ولكنه يشعر بالقلوب البيضاء ويميزها عن غيرها، ومنذ أن رأى عمران وهو يشعر بنقاء روحه التي تألقت برداء أبيض ذاهي.
جلس عمران جواره وأخذ يسأله عن جامعته وبعض الاسئلة الافتتاحية لاي علاقة تجمع صديقين حديثًا.
******
إتجه علي ليبدل ثيابه وينعم بحمامٍ دافئ بعد هذا اليوم المرهق، وخاصة بعد أن وصل شمس لغرفتها، وولج هو لحمام غرفته واستغرق أمر تبديل ملابسه لاخرى حتى يستعد ليتجه لشقة يوسف لرؤية آدهم، صفف شعره بعناية وهو يراقب ساعة الحائط فوجدها تشارف على الحادية عشر.
جذب علي مفاتيحه وكاد بالخروج فتسلل له صوت صراخ زينب وهي تصيح بخوفٍ:
_فطيمــــــه.
اختلج قلبه بين أضلعه، فود لو حطم الباب الفاصل بينهما ولكنها الآن لم تعد بمفردها، فطرق بخفة على الباب مناديًا:
_زينب أنا هدخل؟
جذبت الاسدال القريب منها وارتدته وقد سمحت له بذلك، فاسرع للفراش يتفحص وجهها المتصبب بالعرق، ملامحها كانت مشدودة بشكلٍ مخيف.
تراجعت زينب للخلف وهي تراقبها ببكاء، وقالت بوجع:
_هي مالها يا علي؟
قال ومازال يتفحص حدة نوبتها:
_متقلقيش يا زينب هي بس بتشوف كابوس..
أراد أن يضمها ولكن وجود زينب يعجز حركته، فقال بلباقة:
_لو ممكن تنزلي تجبيلها أي عصير من تحت يا زينب.
هرعت للباب وهي تردد في طاعه:
_حاضر.
وما أن غادرت للأسفل حتى رفعها علي إليه وضمها بقوةٍ، هامسًا جوار أذنيها:
_كل ده كابوس أنا جنبك يا حبيبتي، ومستحيل هسمح لحد إنه يأذيكِ، فوقي يا فطيمة.
بالعادة تستغرق نوبتها ما يقرب العشرة دقائق لتستفيق منها، أما الآن وجوده لجوارها تمسكه بها، رائحته التي باتت تعتاد عليها جعلتها تفتح عيونها وتستفيق من نوبتها، فهتفت ببسمة هادئة:
_كنت فين كل ده يا علي؟
أبعدها عنه وهو يتمعن بعينيها، فرفع يده يلامس خصلاتها بحنانٍ، مزيحًا عرق وجهها:
_واضح إن القمر كان مستنيني وأنا زي المغفل مطلتش عليه.
وراقب باب الغرفة ثم انحنى لها سريعًا يهمس:
_لازم نتصرف في أوضة لزينب أنا كنت هموت من القلق عليكي بره ومش قادر أدخلك، وبعدين الدخول والخروج اللي بحساب ده مش نافعني.
استندت على ساقيه حتى اعتدلت بجلستها، وابتسامتها عادت لتنير وجهها الشاحب، جاهدت فاطمة ليخرج كلماتها له، فقالت على استحياءٍ وهي تود بث طمأنينتها إليه:
_بكره هجي أنام في أوضتك لما زينب تنام.
واستطردت بألمٍ تلألأ بعينيها الغائرة بالدموع:
_لاني مش حابه أنها تشوفني كده، مش عايزة أقلقها عليا يا علي.
أزاح دموعها بأبهاميه ويديه تحيط خصلاتها بحنانٍ، فرفعت بنيتها إليه وسألته ببكاء:
_هو أنا هفضل كده كتير، الكوابيس دي هتفضل تلاحقني كده طول عمري! أنا تعبت يا علي والله تعبت.
جذبها لاحضانه فتشبثت به وهي تبكي بانهيارٍ، مال برأسه يطبع قبلة عميقة على جبينها وقال بحزنٍ يمس أوتار فؤاده:
_هنعدي كل ده يا فطيمة، أنا جانبك وهفضل جانبك على طول يا حبيبتي.
ورفع عينيها لتواجه رماديته قائلًا:
_هنحارب مع بعض لحد ما نهزم كل كوابيسك وماضيكِ، هفضل جنبك ومعاكي.. مش هتخلى عنك يا أغلى من روحي.
منحته ابتسامة جذابة أهلكت جوارحه، فتعمق بالتطلع لكل أنشن بوجهها، حمرته الطاغية على خديها أثارته بشكلٍ جعله ينحني ليترك قبلة خاطفة على خدها، ارتجفت وتوترت مما فعله، اعتادت على قبلة أعلى رأسها منه والآن يختبر الأخرى.
أخفضت عينيها عنه بخجلٍ وارتباكٍ جعل صوت أنفاسها تتلاحم بقوةٍ، فرحمها صوت الباب ودلوف زينب تقترب من علي قائلة:
_العصير يا علي.
التقطته منها قائلًا بامتنان:
_تسلم إيدك يا زينب.
وقرب الكوب من فاطمة، فكادت بالتقاطه منه ولكنه أصر على أن ترتشفه من يده، فرفعت بصرها لشقيقتها وكأنه توجه له رسالة تحذيرية من وجودها، تجاهل اشارتها عن عمدٍ ودفع الكوب إليها فتناولته على مضضٍ، وفور انتهاءها منه ساعدها علي بالاسترخاء ومدد الغطاء عليها، فاستجابت للدواء الذي وضعه علي بالعصير دون أن تلاحظ هي، فغفت بعمق وبسرعة جعلت زينب تتساءل بخوف:
_هي كويسة يا علي؟
أشار لها وعينيه تتفادى التطلع لها، فأخفض عينيه وهو يجيبها:
_متقلقيش يا زينب كل ده طبيعي على حالة فطيمة، متشغليش بالك ونامي علشان بكره أول يوم ليكي بالجامعة ولازم تكوني فايقة.
وتابع وهو يتجه للخروج:
_أول ما تصحي اجهزي علشان هعدي عليكي أوصلك.
اتبعته مرددة بحرجٍ من حملها الذي بات ثقيل عليه في أول أيام قدومها الى هنا:
_مفيش داعي يا علي، أنا هروح بالتاكسي وهو أكيد هيعرف عنوان الجامعة.
استدار إليها ومازالت عينيه أرضًا تتغاضى عن رؤيتها:
_بلاش الكلام الفارغ ده يا زينب، قولتلك إنتي بقيتي مسؤولة مني مسؤولية كاملة من لما بقيتي في لندن، ولو يا ستي مش قادرة تعتبريني زي أخواتك فأنا بعتبرك زي شمس.
ترقرقت الدموع من عينيها وصاحت بضيقٍ تمكن من لمسه:
_بلاش زي أخواتي لإنك أفضل منهم بمراحل يا علي، متظلمش نفسك بالمقارنة بينهم.
رفع رماديته لها فوجدها تبكي وقد بدى له بأنه لمس ألمًا عميقًا داخلها، فقال باستغراب:
_ليه بتقولي كده يا زينب؟
ابتسمت ساخرة:
_عندي أخين وجودهم في حياتي زي الهامش، أخ منهم سافر من أربع سنين يشتغل بره علشان يكون نفسه ومن يومها فصل نفسه عننا، حتى لما بابا الله يرحمه كان بيموت اتصلت عليه واترجيته ينزل علشان يشوفه بس للمرة الاخيرة رفض إنه ينزل علشان خايف يكسر الفيزا، وحتى بعد موته مهتمش حتى يرفع عليا سماعة التليفون ولا يسألني محتاجة حاجة ولا لأ!
واستطردت بأنفاسٍ متحشرجة:
_والتاني إتجوز وبقت حياته كلها متوقفة على بيته ومراته وأولاده وأنا ولا كأني أخته ولا أهمه في شيء ولما بابا اتوفى جالي أخويا علشان الورث، وحقيقي كان شهم أوي كان عايز يديني مبلغ وأمضيله على حقي في البيت، وأخر همه بقى أنا هروح فين بعد ما أوقعله على الورق مع إنه عنده بيته بس زي ما تقول بيستكتر عليا اني أعيش بطولي جوه البيت اللي له فيه ورث! ولما رفضت مد إيده عليا وأجبرني أوقعله على العقود.
انهمرت دموعها بانهيارٍ حينما تذكرت ما فعله بها أخيها، والتقطت نفسًا مطولًا تخبر به علي الذي أدمعت عينيه وانتفضت حواسه بعدم تصديق لما قد يفعله أخًا هكذا بشقيقته:
_طردني من البيت وملقتش حد ألجئ ليه غير مراد زيدان، كان معايا رقمه كلمته واستغربت لما لقيته قدامي تاني يوم، معرفش ازاي قدر يرجعلي البيت وكان هيحبسه بس أنا رفضت ده، فضل جنبي لحد ما دخلت سنة اولى طب ولما وصلت لسنة تانية لقيته سحب أوراقي وقالي إنه قدملي في جامعة في لندن وإن بمجرد وصولي هنا هلاقي مفاجأة بانتظاري.
وابتسمت تبدد ظلمة ما تعرضت له لفرحة تلألأت داخل عتمة أحزانها:
_وصدق فعلًا لما جيت وشوفت فطيمة واقفة على رجليها من تاني.
رفع علي يده يزيح تلك الدمعة عن أهدابه سريعًا، ثم قال بنبرة مبحوحة:
_خلاص إعتبريني أنا أخوكي الوحيد اللي هيعوضك عن اللي عملوه فيكِ، كده مرضية؟
منحته ابتسامة مشرقة وراحت تهز رأسها، فابتسم وهو يودعها:
_همشي أنا… تصبحي على خير يا دكتورة زينب.
راق لها لقبها الذي عانت لسنواتٍ من الدراسة لحمله، فسحبت الباب خلفه وهي تردد:
_وإنت من أهله يا دكتور.
*******
خرج سيف لأخيه متجهمًا بعدما ترك أكواب العصير بالداخل، راقبه يوسف بابتسامة ساخرة ومازال يتمدد على الأريكة بالردهة:
_أيه مالك يا سيڤو مش طايق نفسك ليه؟
جلس على المقعد المقابل له وهو يتأفف بوابل من الغضب الذي انهار بصراخه الحاد:
_صاحبك ده مش راحم حد، ده من ساعة ما دخل مع أيوب الأوضة وهما نازلين رغي وضحك، هو في أيه بالظبط!!
إشرأب يوسف برأسه لأخيه متفحصًا معالمه بنظرة دقيقة، وكأنه يحاول الجزم ما بين كونه جادي أم يمازحه، فاعتدل بجلسته وهو يصيح بشكٍ:
_إنت غيران من علاقة الصداقة المستجدة بين عمران الوقح وأيوب!
زم شفتيه بسخطٍ:
_أديك قولتها عمران الوقح وأيوب ابن الشيخ مهرااان، ثم إني من حقي أغير على صاحبي الوحيد الله!!
انفجر بنوبة من الضحك وحاول جاهدًا أن يسيطر على ذاته، فهتف بتبرمٍ:
_يا ابني اخرج من قوقعة الابتدائية دي، وبعدين إنت ليه محسسني إن عمران يهودي، عمران اتغير يا سيف ومبقاش بيسيب ولا ركعة.
وتابع بتعجبٍ:
_وبعدين إنت مش كان نفسك إنهم يتعرفوا لانهم شبه بعض!
لوى شفتيه بتهكمٍ:
_بقالهم أربع ساعات بيتعرفوا أيه هيفضلوا يتعرفوا للسنة الجاية!!
عبث بعينيه بعدم تصديق لما يحدث مع شقيقه، كان يعلم بأنه يعز أيوب للغاية ولكنه لم يكن يتوقع أن يصل بحب صديقه للغيرة التي تجعله لا يريد أن يصادق غيره، فنهض عن الأريكة واتجه لغرفة آدهم مبتسمًا وهمس بسخرية:
_هتفضل طول عمرك طفل يا سيف، أمته تكبر وأخطبلك بقى!
حرر مقبض الباب وولج يتفحص حالة آدهم بعنايةٍ تامة بينما تحصل زوجته على قسطٍ من الراحة.
*****
بغرفة عمران.
تعالت ضحكات أيوب بعدم استيعاب لما يستمع منه من ذاك الغريب الذي مر لقلبه بسرعة البرق، فأكد عليه عمران وهو يرتشف عصير البرتقال المقدم له:
_يا ابني ده الذكاء إنك تجاري الحياة والكون زي ما تحب، تبقى وقح مع الوقح، ومحترم مع اللي يستحق احترامك، ومفيش مانع توري اللي قدامك جزء من تدينك لو كان متدين وأبوه شيخ أزهري زيك كده.
عادت إليه نوبة الضحك، فقدم له عمران الكوب الأخر قائلًا:
_اشرب اشرب.
وتجرع من كوبه ثم اعتدل بجلسته على حافة الفراش متسائلًا بمرحٍ:
_قولتلي بقى البنت اليهودية اللي احتلت بيتك برضاك دي إسمها أيه؟
أجابه أيوب وابتسامته البشوشة تنفرد على شفتيه:
_اسمها آديرا..بس إنت ليه محسسني إني سبتها تحتل بلدي!
وضع الكوب على الكومود وعاد يستقيم بجلسته قبالته، هاتفًا بحدة:
_عشان هي بتبدأ بالبيت يا أيوب، وبعدين إنت ليه عايز تساعدها إنها تتوب إفرض فشلت إنك تعملها هيكون ده كله عليك بأيه؟ إنت بتعرض حياتك للخطر وعلى حسب ما حكيتلي من شوية إنك وحيد والدك ووالدتك واتولدت بعد عشرين سنه من صبر أيوب اللي اتحلى بيه الشيخ مهران طيب ليه تعمل في نفسك كده، ليه عايز تقهرهم عليك!!
تنهد بقلة حيلة، وفاض له:
_عمران ربنا سبحانه وتعالى اختصني بده لما وقع محمد بطريقي وكانت توبته على ايدي، ويمكن يكون كل ده حصل علشان يكون للبنت دي طريق تاني غير طريقها، أنا حاسس إنها هتأسلم.. ولو افترضنا إنها هتكون نهايتي حد يطول يموت وهو حامل الشرف ده، وأكيد الشيخ مهران لما يعرف باللي عملته هيرفع رأسه فوق وهيستنى اللحظة اللي هنتجمع فيها بالجنة وابنه بيتزف فيها شهيد.
منحه ابتسامة هادئة، واخفض قدميه عن الفراش ليكون قبالته:
_إنت راجل يا أيوب، أنا كان ليا الشرف إني أتعرف عليك النهاردة، صحيح الظروف اللي جمعتنا النهاردة بالقتيل اللي جوه ده مكنتش ألطف حاجة بس المهم إننا اتقابلنا.
منحه ابتسامة هادئة، وقال بفضول:
_طيب قولي بقى عنك أي حاجة إنت من ساعة ما دخلنا هنا وإنت نازل فيا استجواب حتى جامعتي وعنواني في مصر مسبتش حاجة الا لما عرفتها.
ضحك الاخير، وقال مازحًا:
_هتعرف عني أيه بلا هم أنا شخصية تعر أقسم بالله.
شاركه أيوب الضحك حتى أدمعت عينيه، ومع ذلك قال باصرار:
_ولو بردو أنا مصمم.
ابتسم له عمران وقال بجدية تامة:
_إسمع يا سيدي، أنا شاب ومش هينفع أقولك بسيط عشان هظلم البساطة أنا عجينة بتتشكل حسب الشخصية اللي بتتعامل معاها زي ما سبق وقولتلك، بس الفرق إن اللي قدامك ده خاض حرب مع نفسه علشان يبعد عن طريق مكنش يحب إنه يمشي فيه.
أسبل بعينيه بعدم فهم، فأوضح له عمران ببحة ألم اعتلت صوته:
_أنا اتولدت في عيلة من الطبقة الآرستقراطية هنا في لندن يا أيوب، من لما وعيت على الدنيا وأنا مشوفتش غير الطبقة دي بكل قرفها، وغصب عني اتطبعت على طباعهم حتى لو كان جوايا عرق من التربية الشرقية اللي والدتي فريدة هانم حاولت تحافظ عليه، بس هي كانت غريبة أوي، عايزنا نجمع ما بين الغرب في تحضرهم وكل الصفات اللي ممكن تكون حلوة لكن الوحشة لا، كانت عايزة تعوض بالصفات الشرقية اللس هتخلينا رجالة في نظرها، وما بين دول ودول صاحبك تاه ومبقاش عارف هو مين!!
وتابع ببسمة حملت وجع التجربة المريرة التي خاضها:
_كنت بحاول أبقى كويس بس غصب عني اندرجت للكفة التانية، سكرت وزنيت وارتكبت معاصي كتيرة بس الحمد لله فوقت لنفسي بالوقت المناسب وبعدت عن كل ده، قربت من ربنا ولقيت في قربه الدوا لكل جروحي، استرجعت كل نصايح علي أخويا من تاني ومشيت عليها وحسيت وقتها إن حياتي بقيت أفضل.
واسترسل إليه دون حرجًا مما لقاه:
_ربنا كان رزقني بنعم كتيرة مشوفتهاش غير لما فوقت، يمكن اللي حصلي ساعدني في ده.. يعني الحادث اللي كان هيحصلي على الطريق والسم اللي شربته من البنت اللي غلطت معاها وكنت فاكر إنها بتحبني فوقني وخلاني مستحيل هرجع للتجربة المرة دي تاني، وأهو أديني بحاول أكفر عن ذنوبي وربنا غفورًا رحيمًا.
ربت أيوب على يد عمران ومنحه نفس الابتسامة التي ظنها ستتلاشى فور سماعه ما ارتكبه، وقال بعمقٍ:
_ربنا مببقفلش أبواب رحمته في وش حد يا عمران، محدش فينا بيتولد ملاك كلنا بنغلط وبنرتكب معاصي بس المهم التوبة وعدم ارتكاب الذنب مرة تانية، استسلامك لشيطانك من تاني هو الأبشع من كل ده.
هز رأسه باطمئنان وردد:
_ونعم بالله.
ونهض عن الفراش يخبره بابتسامة صافية:
_على فكرة أنا كمان كنت بدرس في نفس جامعتك.
وأعدل من ياقة قميصه بعنجهيةٍ:
_لازم تعرف إني بحضر ندوات واجتماعات كتيرة جوه الجامعة بتاعتك على سبيل إني وجهة مشرفة.
وغمز بتسلية:
_هنتقابل كتير سواء هنا أو هناك، وياريت تنجز بأخر سنة ليك علشان شركاتي هتكون نقطة إنطلاقة ليك يا بشمهندس.
نهض قبالته وقال بمزحٍ:
_خلاص كده مش هشيل هم الشغل، هتخرج وأجيب شهادتي وأجيلك بس بشرط تقنع الشيخ مهران يسيبني أشتغل معاك هنا، لإنه عايزني أنجز وأنزل مصر.
إلتحف برداء الخوف المصطنع وصاح بفزع:
_أقنع مين يا ابني، هو أنا شوفتك قبل كده ولا كان فيه بينا سبق معرفة!!
انفجر ضاحكًا والاخر يضحك برفقته، فخرجوا معًا فوجدوا علي يقف برفقة يوسف وسيف الذي يراقب ضحكات أيوب وعمران بنظرة مغتاظة، وفجأة جذب أيوب للداخل وترك علي برفقة عمران بخبره بالعودة للمنزل بينما سيظل هو لجوار آدهم حتى الصباح، فانصاع إليه لحاجته للنوم، وغادر على الفور.
******
بداخل غرفة أيوب.
تفاجئ بسيف يدفعه بقوةٍ وغضب يحتد بعينيه، فتساءل باستغراب من حالته الغريبة:
_في أيه يا سيف؟
حرر ما كبت داخله وصاح به:
_إنت بقالك ساعتين قاعد مع عمران وسايبني بره أيه القعدة معاه عجبتك أوي!
أسبل بفيروزته بعدم استيعاب لحديثه، وردد وهو يكبت ضحكة كادت بالتحرر عنه:
_وفيها أيه لما أقعد مع عمران أو غيره!!
احتدت نظراته المسلطة تجاهه وكأنه سيبتلعه بنيران ستحرقه:
_ماشي يا أيوب براحتك، بس خليك عارف إني مكتفي بيك ومش عارف أصاحب غيرك.
واستكمل بضحكة صاخبة وهو يخبره:
_أقسم بالله ما قادر أصاحب غيرك، مع إنك في هندسة وأنا في طب، ده إنت لو مراتي مش هحبك ده يلا!!
ابتسم أيوب وأشار له بسخرية:
_أنا أهو بحاول أستوعبك وأفهم اللي في دماغك بس صدقني مش راكبة معايا، إنت بتغير عليا يا سيفو؟؟
جاراه على نفس الوتيرة:
_ومغيرش عليك ليه يا حبيبي ما أنت لسانك حلو وموقع الكل في حبك، المهم إني أكون صاحبك الأول والأخير وصاحب بقى ميت ما تصاحب ميفرقش معايا.
فرق ذراعيه وهو يردد بضحكة رجولية:
_هات حضن يالا والله إنت أخويا مش صاحبي، أينعم إنت عبيط وغريب بس أنا راضي!
لكمه سيف بغضب فانبطح الاخير أرضًا، وقال باستهزاء:
_بدل ما تتشطر عليا كنت اتشطر على اللي ساكن فوقنا ده بيروقك أكتر ما بيروق دقنه يا أهبل!
تمدد على الفراش بنومٍ وصاح بتحذير:
_طب اخرس بقى عشان أنام شوية، مش كفايا منمين القتيل في أوضتي!
قهقه ضاحكًا ونزع عنه قميصه ثم ألقى بجسده جواره وأغلق الضوء، حاول أيوب أن يغفو بهدوء ولكن مازالت تفاصيل وجه سيف يلاحقه وكأنه يواجه زوجته التي قبضت عليه مع إحدى النساء، فانفجر بنوبة ضحك أخرى جعلت من يجاوره يردد بسئم:
_هننام النهاردة احنا!!!
*****
صعد عمران بإنهاكٍ لغرفته، يشتاق لرؤيته ومعانقتها التي حرم منها بهذا اليوم الشاق، فهمس بتمني وهو يعرج من المصعد:
_يا رب تكون لسه صاحية.
خفق قلبه طربًا حينما وجدها تجلس على الفراش، فصاح بحماسٍ:
_لو بتسمعي دعوات قلبي مش هتستجبيله بالسرعة دي، أكيد مستنياني صح؟
وأحاط كتفيها بيديه ليجبرها على الاستدارة إليه، فبرق بدهشة حينما وجد أثر البكاء على عينيها،فانحنى أسفل قدميها يداعب كف يدها بحنانٍ وصوته الرخيم يتسلل لها:
_ مايا!! في أيه؟
منح عقله التخمين بأمرها، وقال بعدما ظن أنه سبب حزنها:
_حقك عليا يا روحي أوعدك إني مش هتأخر بالشكل ده تاني، بس والله صديق ليا تعب جدًا وأخدناه لشقة سيف حتى أنا سايب معاه دكتورة ليلى ويوسف وعلي وجتلك على طول.
مازالت تحتفظ بالصمت، وخصلاتها تحجب وجهها عنه، أبعد عمران خصلاتها للخلف قائلًا بحزنٍ:
_هتخبي نفسك عني كتير يا مايا، أنا أعتذرت ووعدتك مش هتكرر تاني.
رفعت عينيها إليه تمنحه نظرة محبة لحنانه، ورددت بصوتها المتقطع من أثر البكاء:
_أنا مش زعلانه منك يا عمران، أنا زعلانه على خالتي.
انتصب بوقفته وجلس جوارها يتساءل بلهفة:
_مالها ماما؟؟
أزاحت دموعها قائلة بحزن:
_معرفش مالها يا عمران، أنكل أحمد كان عندي من ساعة وطلب مني أروحلها وأخلي بالي منها، روحتلها لقيت عنيها ورمة وكان باين عليها انها بتعيط، رفضت تقولي مالها وخرجتني من الأوضة وقفلت على نفسها ومن ساعتها مخرجتش ولا راضية تفتحلي.
احتل الرعب والخوف وجدانه، فصاح وهو يسرع لجناحها:
_ازاي متبلغنيش يا مايا، متصلتيش بيا ليه!!
لحقت بخطواته الواسعة راكضًا:
_موبيلك كان مقفول يا عمران، استنى هي بأوضة أنكل أحمد مش في جناحها.
ابتعد عن الدرج وعكس وجهته، مشيرًا لها بصرامة:
_ارجعي انتي الأوضة بلبسك ده، أنا هشوفها وراجع.
أشارت له بتفهمٍ وعادت لغرفتها بينما استكمل هو طريقه لباب غرفة أحمد، طرق عدة مرات وحينما لم يأتيه ردها نادها بخفوت:
_فريدة هانم ممكن تفتحي الباب، عايز أطمن عليكي!
أتاه صوته يهرول لها، ومازالت تجلس أرضًا وتستند بجسدها على الفراش تبكي بانهيار على حالها، أضاعت نفسها وأولادها بسبب رجلًا كان ظالمًا بالنهاية، ودت لو مزقت جسدها أو منحته الخلاص بسكينٍ يحرر روحها من مخضع ألمها، وبالرغم مما حدث بينها وبين أحمد الا أنه لم يتمكن من ان يداوي وجعها العميق.
طرق عمران بخوف فرض سيطرته عليه بعنفٍ، فصاح مهددًا:
_لو مفتحتيش أنا هكسر الباب ومش هيفرق معايا أي عقاب منك!
بالعادة كان ينتابها الغضب الكاسح فور رؤية أي شيئًا مكسورًا بقصرها الحبيب، الذي عانت لجمع كل تحفه بعناية حتى الأساس، أما الآن فلم يعد شيئًا يهمها إن كانت هي بذاتها قد انكسرت وتمزقت!
اندفع عمران بكل قوته لدفع ذاك الباب بقوةٍ هاجمته من فرط خوفه وقلقه عليها، دفعة فالاخرى وبالثالثة انخضع لقوته المسيطرة فانكسر المقبض وانفتح من أمامه، فعلها حبيبها سابقًا وكسر الباب لأجلها وفعلها الآن ابنها الحبيب وكأنه يؤكد لها بأن هناك من سيعوضها عما خاضته، هناك من يعمر قلبه بحبها وإن وجدت هي الجفاء والقسوة.
جحظت عين عمران صدمة حينما رأها ترتكن برأسها على الفراش وعينيها مازالت تنهمر بالدموع، قُتل بأرضه وشعر بثقل حركة قدميه، لم يرأها أبدًا بذاك الضعف حتى الدموع ما كان ليراها بعين والدته القوية، هرع إليها وجلس أرضًا يناديها بلوعةٍ:
_ماما!!
حركت رأسها إليه ببطءٍ ومنحته نظرة أصابته في مقتلٍ، كأنها تشكو له مرارة ما تذوقته، وفجأة تحركت بجسدها لتختبئ داخله وتحرر عنها صوت اليكاء الذي كتمته بحرافيةٍ طوال تلك السنوات، ضعفت وتعالى صوت بكائها وهي تتمسك به كأنه أخر قشة لنجاتها من بئر أحزانها.
ارتجف جسد عمران وهو يراها بتلك الحالة وما جعله لا يستوعب تمسكها به وبكائها على صدره، أحاطها بقوة ويده تهددها من الخلف بينما الاخرى تحيط بها بحنان، ورغمًا عنه سقطت دموعه تأثرًا بها، فازدرد صوته المبحوح متسائلًا:
_مالك يا حبيبتي؟ فيكِ أيه؟
يعلو صوت شهقاتها عن السابق وبصوتٍ هزيلًا كحالها رددت:
_أبوك ظلمني يا عمران، أبوك دبحني… أنا مش مسمحاه.. مش مسمحاه على ظلمه ليا ولا على كسر قلبي.
ورفعت وجهها إليه تشير على موضع قلبها بألمٍ:
_قلبي موجوع أوي وحاسة إني عايزة أنبش تربته وأولع فيه بأيدي، آآ… أنا… آآ.. أنا موجوعة هو كسرني كسر فريدة هانم اللي محدش كان يقدر عليها.
حاول استيعاب ما تحاول اخباره به، ولكن ما عاناه هي، كان يخشى من حالتها الغريبة تلك، فأبعد خصلات شعرها القصير للخلف وهو يردد:
_هو مات خلاص يا ماما، من فضلك اهدي عشان صحتك، أنا أول مرة أشوفك كده.
تمعنت بالتطلع لوجهه بدقة، جعلته يزوى حاحبيه بدهشة من أمرها، فانهمرت دمعاتها وهي تردد بوجعٍ قابض:
_إنت شبهه بالظبط يا عمران، إنت شبه سالم في كل حاجة.. أوعى تكون ظالم زيه وتظلم بنتي زي مهو ظالمني!
ابتلع ريقه المرير بصعوبة بالغة، ومنحها ابتسامة عابثة ومن خلفها صوته المتحشرج:
_مش كنتي بتقولي دايمًا إني شبه عمي!
ضحكت ساخرة ودموعها لا تتوقف:
_الاتنين شبه بعض.
ورفعت اصبعها تشير له وقد تهاوى دموعها دون توقف:
_بس أحمد مش زيه، مش زي سالم يا عمران، أحمد عنده قلب وبيعرف يحب أبوك لأ… أبوك معندوش قلب ولا عنده رحمة، أبوك عاش طول عمره بيمثل عليا دور الملاك والنهاردة بس عرفت إنه كان شيطان، فضل أسرني بكلبش الذنب وعذاب الضمير حتى بعد موته، أنا بكرهه وبكره نفسي.
وانهارت باكية مرة أخرى وهو عاجز عن فهم ما تريد قوله، فضمها إليه وربت عليها بحنان، لم تمانع هي بل شددت على قميصه واتركت العنان لبكاء ربما يكون رءوف بها ويحررها من وجع قلبها.
نصف ساعة ومازالت تستند على كتفه ويميل هو على الحائط، يحتويها بجسده الضخم مقارنة لجسدها الضعيف، يمسد على ظهرها وينطق آيات قرآنية عليها، فابتسمت وهي تتلصص لهمسه فتذكرت ماذا كانت تفعل معه حينما كان ينتابه كابوس، كانت تضمه وتقرأ له الآيات القرآنية مثلما يفعل معها الآن، وأخر ما تسلل لها كلماته الداعية:
_بسم الله على قلبك حتى يهدأ، بسم الله على قلبك حتى يطمئن!
غفت فريدة على كتفه فتركها تثقل بنومها وإتكأ على الفراش لينهض بها، ووضعها عليه ثم داثرها وجلس جوارها يراقبها بنظرة حزينة، لا يعلم ماذا حدث ليصيبها كل ذلك الحزن والسخط من أبيه، أزاح تلك الدمعة التي مازال وجهها يحتفظ به، ورفع هاتفه يتفحص الساعة فوجد بأنه نفسه الوقت الذي خصصه لقيام الليل كمعتاده، نهض عمران من جوارها فوجدها تتمتم:
_متمشيش يا عمران.
عاد إليها فوجدها تفتح عينيها له وتترجاه:
_خليك معايا.
ربت على خصلاتها المتمردة، وقال:
_أنا هصلي جنبك هنا مش خارج يا ماما.
هزت رأسها وأغلقت عينيها بتعبٍ، فلف الغطاء عليها وتركها وولج لحمام الغرفة وخرج بعد قليل يفرد سجادة الصلاة ويؤدي صلاته بخشوعٍ تام، ومع كل ركعة كانت يطول بسجوده ويدعي لها بأن يبدد الله أحزانها.
ومع أخر ركعة له، سلم يمينًا ويسارًا ليتفاجئ بها تجلس جواره أرضًا، فاستدار لها يتساءل بقلقٍ:
_ماما، حاسة بحاجة أطلبلك دكتور؟
هزت رأسها نافية، وقالت ببسمة زارتها أخيرًا:
_إنت بتصلي من أمته يا عمران؟
رد عليها وهو يعتدل بجلسته الغير مريحة:
_من لما ربنا نجاني من الموت ووهبلي حياة جديدة ومختلفة عن اللي عشته.
وتابع بابتسامة هادئة:
_صلاة القيام دي راحة بحس بعدها بطاقة رهيبة، أيه رأيك تقومي تتوضي وتصليها حالتك هتتحسن وهتبقي أفضل من الأول، صدقيني.
دققت عينيها به بذهولٍ، هل هذا هو عمران ابنها المشاكس الذي كان لا يترك ذنبًا الا وارتكبه، ربما لو كان علي فلما كانت ستتعجب كثيرًا، علي الولد الطيب الذي لم تعاني بتربيته مثلما فعلت مع ذلك العنيد المتمرد الذي كان يدفعها لمعاقبته باستمرارٍ، ماذا حدث له؟
أفاقت فريدة من شرودها على صوته المازح:
_ها يا فيري هتقومي ولا اسندك للسرير؟
ظنها ستغضب لحديثه ولكنه وجدها تبتسم له وهي تجيبه:
_هصلي الأول.
وحاولت النهوض وهي تحارب ذلك الدوار القابض، فساندها عمران لداخل الحمام، حتى خرجت له، فوقف يعاونها على الوضوء ويديه تحيط بها خشية من سقوطها بالداخل فتتأذى، ابتسمت له فريدة ورددت:
_اخرج أنت يا عمران أنا كويسة يا حبيبي متخافش عليا.
رفض ذلك وبقى جوارها فانحنت تغسل قدميها لتنهي وضوءها، ولكنها شعرت بأنها ستسقط من فرط وجع رأسها لتجده ينحني ويجذب المياه ليغمسها بين أصابع قدميها ليضمن نجاح وضوءها.
لمعت عين فريدة بالدموع وهي ترى ما يفعله لأجلها، حتى خرج بها يحملها للخارج، وقال بحنان:
_لو تعبانه صلي وإنتي قاعدة.
هزت رأسها له وقالت وهي تتفحص غرفة أحمد بنظرة شاملة:
_بس أنا ماليش هدوم هنا.
وحينما تذكرت جناحها بغضت معالمها، وقالت لعمران:
_هاتلي اسدالي من جناحي يا عمران.
هز رأسه وتركها وهبط للأسفل، وما أن ولج للجناح حتى فغر فاهه صدمة من ذلك المنظر الفوضوي، بات الآن على ثقة بأن والدته تواجه أمرًا كارثي بالتأكيد، وربما هذا الأمر يعرفه أحمد جيدًا.
التقط الاسدال وعاد لوالدته بحزن يلمع بعينيه، التقط منه فريدة ما يحمله وقبل أن يتحدث لها قالت:
_لو هتسأل عن أوضتي واللي حصل فيها فأنا اللي عملت كده ومش ندمانه يا عمران.
وتركته ونهضت تحتل مكانه على سجادته لتؤدي صلاتها، فجلس عمران على مسافة قريبة منها أرضًا يجذب مصحفه الصغير الذي لا يفارقه ليتسكمل قراءة لحين أن تنتهي من صلاتها.
وحينما كان منسجمًا بقراءته شعر برأسها توُضع على ساقه، فرفع يده يلف بها جسدها وأخذ يسترسل قراءة ليجدها تردد بصوتٍ باكي:
_علي صوتك، عايزة أسمعك!
انصاع لها ورفع من صوته، بينما تغلق هي عينيها براحة غريبة ولم يعنيها أنها تتمدد أرضًا، غفت بهدوء والهواء المقابل للشرفة يغزو وجهها، حتى انتهى عمران من ورده وأخذ يمسد عليها بحزنٍ جعل دمعاته تنهمر على عينيه.
استمع لصوت تسلل قدمًا منه فرفع عينيه ليجد مايسان قبالته تتساءل بلهفة:
_عرفت مالها يا عمران؟
هز رأسه نافيًا وهو يقول بحزنٍ:
_لأ… بس شكل بابا الله يرحمه ورا حالتها دي.
ومسد على شعرها وهو يستكمل:
_وأكيد عمرها ما هتتكلم، لكن أنا مش هسكت وهعرف من عمي أو علي اللي مخبينه عني.. يلا إرجعي انتي الأوضة وأنا شوية وجاي
هزت مايسان وجهها الباكي وأخذت تراقب ملامح فريدة بتأثرٍ قبل أن تغادر فنهض عمران وحملها للفراش مجددًا، وتمدد جوارها حينما وجدها مازالت تتشبث به، وكأنها تشعر بوجوده جوارها بعد، فمال ليستند برأسه على رأسها حتى سبح بنومه هو الأخر.
وبعد ساعتين شعر بأنفاسٍ قريبة منهما، فتح رماديته ليجد أحمد يطبع قبلة على جبين فريدة بتأثرٍ، فاعتدل بجلسته وهي يردد بنومٍ:
_عمي، أنا آسف شكلي راحت عليا نومة.
واعتدل وهو يستعد لمغادرة الفراش فلاحظ أحمد يد فريدة القابضة عن قميص عمران المفتوح أزراره باهمالٍ لنهوضه المفاجئ، وعاد يتطلع له قائلًا بابتسامة:
_خليك جنبها يا عمران، هي محتاجالك أكتر مني.
تجاهل عمران حديثه وسدد له نظرة قاتمة اتبعها سؤاله:
_بابا عمل فيها أيه يخليها بالحالة دي يا عمي؟
اتسعت حدقتيه صدمة من أن تكون فريدة قد سردت لعمران شيئًا، فبدى مرتبكًا للغاية مما دفع عمران يستطرد باصرار:
_أنا عايز أعرف كل حاجة ودلوقتي حالًا!
يتبع…
بُدد الضوء ظلام عتمته، فاستجاب جفن عينيه الثقيل له، فتحهما رويدًا رويدًا حتى اعتاد على ضوء الغرفة الغريبة التي لم يتذكره.
لم يستغرق الأمر الا بضعة دقائق وتقاذفت إليه ذكريات الليلة الماضية، نهاية باصابة كتفه، ضم آدهم كتفه واستقام بجلسته فتأوه بخفوت حينما لامست يده جرحه الحديث، ليجد شخصًا يهرع إليه يأمره بودٍ:
_متحاولش تحرك نفسك وجعك هيزيد مع كتر حركاتك، جرحك لسه طري من فضلك حاول تهدى.
انصاع إليه لشعوره بوجعٍ قابض، فعاد بظهره للوسادة من خلفه وراح يتساءل وعلامات الألم تتسرب على بشرته:
_إنت مين؟
رد عليه بابتسامة هادئة زادت من وسامة وجهه المحرف بجاذبية مهلكة:
_أنا دكتور يوسف، صديق عمران ودكتور علي.
وربت بيده على كتفه الغير مصاب:
_حمدلله على سلامتك يا سيادة الرائد.
منحه ابتسامة ممتنة لما قدمه إليه من معروف لا يُنسى:
_أنا بشكرك على وقفتك جنبي ومعالجتك ليا، اعتبرها دين في رقبتي وأكيد هيجي اليوم وهرده.
منحه ابتسامة رغم رزانة معالمه الا أنها كانت ساخرة لمن يبرع بتحليل الوجوه، فتابعه باهتمام لمعرفة سر سخريته الغريبة، فوجده يجذب المقعد لجوار الفراش، وقال بهدوء لا يفارق ذاك الشخص:
_أولًا مش أنا اللي عالجتك أنا دكتور نسا وتوليد، اللي عالجك مراتي دكتورة ليلى، ثانيًا مش هلوم على باقي جملتك لإن شكلك كده قضيت سنين كتيرة هنا وسط الأجانب فبقى عندك إيمان إن كل البشر زيهم مش بيعملوا حاجة من غير مقابل أو رد دين.
وتابع بنفس ابتسامته التي لا يتغير منوال سخريتها:
_شكلك نسيت هنا شهامة العرب والمصريين بالأخص يا سيادة الرائد!
تحرر وجه آدهم عن جموده وصاح ببسمةٍ واسعة:
_يا دكتور أخدتني لسكة غير سكتي ليه، أنا غرضي من كلامي أن تكون واثق إنك ليك صديق إضافي هنا وده بشكل كبير بسبب اللي عملته معايا وله كمان سبب، إني على ثقة إن دكتور علي وعمران الغرباوي معارفهم ناس تتاقل بالدهب ومعرفتهم كنز، تفتكر هفرط فيهم بسهولة؟
راق له حديثه، وأضرم بأنه شخصًا ذكيًا يعلم كيف يُحرف حديثه ليصبح مسيطرًا، فحافظ على ثبات ابتسامته وقال بخشونة امتزجت مع صوته الرجولي:
_إنت بقيت صاحبنا من اللحظة اللي رجلك خطت فيها الشقة يا حضرة الظابط.
ورفع صوته للأعلى قليلًا مناديًا:
_دكتور علي..
انتهى الاخير من المكالمة التي تلاقاها فأجاب عنها بالخارج حتى لا يقلق آدهم، ولج للداخل سريعًا فور سماعه صوت يوسف، فابتسم بفرحة حينما وجده استعاد وعيه،ويجلس على الفراش باستقامة، دنى منه وانحنى يضم كف يده بمحبة لاحت على وجهه البشوش:
_حمدلله على سلامتك يا آدهم، الحمد لله اصابتك كانت سطحية وربنا كتبلك النجاة.
نقلت ابتسامته حبه وتقديره لشخصه الطيب، وقال بامتنان:
_أنا بخير بفضل ربنا سبحانه وتعالى وبفضل مساندتك ليا إنت وعمران وطبعًا أصدقائه اللي عي فضول أتعرف عليهم.
أستأذن يوسف بالخروج، قائلًا باصرار:
_أنا هريح برة شوية يا دكتور علي، وإعمل حسابك مش هتتنقل من هنا الا لما تفطر معانا، عمران على الطريق وزمانه على وصول..
وغادر مرددًا:
_عن إذنكم.
خرج يوسف تاركًا علي برفقته، فجلس علي على المقعد قبالته فقال آدهم بحرجٍ:
_أنا بقيت كويس يا علي، وعايز أرجع شقتي.
عاد يوسف يطل برأسه من خلف الحائط، يحذره بنظرة صارمة:
_مفيش خروج من هنا الا بعد ما نطمن عليك ده لو على اعتبار إنك حابب فعلاً تتعرف علينا زي ما بتقول، فالموضوع ده هياخدله حسبة أسبوع كده يا حضرة الظابط.
وانحنى بجسده الرياضي يجذب الباب ليغلقه، هامسًا بغمزة:
_خدوا راحتكم.
ابتسم آدهم وهو يتابع مغادرته، وخاصة حينما رفع علي يديه باستسلامٍ:
_مفيش كلام بعد كلام دكتور يوسف.. الا بقى لو مش مرتاح هنا ساعتها هكلمه وأقنعه أنا.
نفى ذلك سريعًا:
_أنا لسه فايق قدامك من شوية يا علي، ملحقتش أشوف نفسي مرتاح ولا لأ، بس الجواب باين من عنوانه، حبيت يوسف ده جدًا.
ابتسم علي وهز رأسه بتفهمٍ، ثم قال بمزحٍ:
_وجمال بردو يتحب، أنا بقيت مصر أكتر إنك تخليك هنا يومين تلاته على الأقل دكتورة ليلى ويوسف ياخدوا بالهم من جرحك.
هز رأسه وعاد يفرد جسده باسترخاء، بينما يكافح علي عدد تلك المكالمات التي لا تنتهي، فجذب الهاتف بضيقٍ من تصرفات شقيقته الغير مدروسة وقربه من آدهم قائلًا بنبرة قاتمة لمسها آدهم وخشى على معشوقته من غضبه:
_طمن شمس انك بخير.
واستطرد بهمسٍ لم يكن مسموع الا له:
_ومن فضلك يا سيادة الرائد تقدر حساسية الموقف، وتأكد عليها متحاولش تكلمك بأي شكل الا لما يكون بينكم أي ارتباط رسمي.
هز رأسه بتفهمٍ، وسحب الهاتف من يده وهو يراقب انفعالات وجهه المتعصب، أجلى صوته باتزانٍ وقال بإيجازٍ:
_شمس أنا كويس، مفيش داعي اتصالاتك دي، من فضلك متزعجيش دكتور علي ولا أي حد، أنا بخير وأول ما أسترد صحتي هكلمك بنفسي، مع السلامة.
وأغلق الهاتف ثم قدمه لعلي متسائلًا بنزقٍ:
_تمام كده يا دكتور؟
التقط الهاتف وأعاده لجيب جاكيت بذلته السوداء ببسمة انتشاء:
_تمام يا حضرة الظابط.. خلينا متعاونين كده لحد ما نوصل مع بعض لبر الآمان.
قهقه ضاحكًا، وقال:
_هكون متعاون حاضر، مع إني كنت أتمنى تكون إنت اللي متعاون وتجيب مأذون واتنين شهود نكتب من دلوقتي ونخلص.
وضع ساقًا فوق أخرى مدعيًا غروره:
_آه ده أنت داخل على طمع بقى وعايزها كتب كتاب مش خطوبة! لا وما شاء الله أمالك وطموحاتك واصله السما مفكر إني بالساهل هسلكهالك من ايد عمران وفريدة هانم.
رمش بعدم فهم فتابع الاخير باستهزاء:
_الأخت الوحيدة دي بتبقى مشكلة، لا أخ عايز يفرط فيها ولا أم، عندك مثلًا عمران أشك إنه هيحاول يخترع بينكم ألف مشكلة عشان يأخر الجوازة.
أغلق عينيه بانهاكٍ داهمه، وهمس ساخطًا:
_بشرى لحرب جديدة داخلة عليا!!
******
فتح النافذة على مصرعيها، وانحنى بجسده إلى أخيه يحركه برفقٍ، مناديًا:
_سيف، قوم بقالي ساعة بصحيك يالا!!
فتح عينيه بتذمرٍ، وردد بخفوت:
_شوية يا يوسف بالله عليك.
ضم شفتيه معًا في محاولة لكبح أفكاره الجنونية لمحاولات إيقاظه، فاكتفى بجذب يده بقوة أرغمته على الوقوف أمامه، فردد بضيقٍ صريحٍ:
_أيه يا يوسف أنا معنديش محاضرات غير بعد الظهر، نازل زن على وداني من الصبح ليه، حرام عليك يا أخي!
رمقه بنظرةٍ باردة، وبهدوء أخرج مبلغ من المال من جيب بنطاله وجذب يد الأخر ليضعه بعنف بين لائحته هاتفًا بأمرٍ حانق:
_حالًا تنزل الماركت تجيب حاجات للفطار، وياريت تستنضف وتشرفني في أول حاجة أعتمد عليك فيها، يمكن لو أيوب مكنش نزل جامعته من بدري ونزل هو معاك بالي كان هيكون مرتاح ومطمن أكتر، بس هتعشم فيك خير وبتمنى عشمي ميحدفش فيا جون!
ارتبك أمامه وردد بتوترٍ من نبرته:
_استنضف أيه! أنا خلفيتي عن الفطار جبن ولنشون وبيضتين، عندك اختيارات أفخم!!
التقط نفسًا مطولًا وزفره هامسًا بتعبٍ:
_إعمل اللي تعمله، بس متتأخرش.
هز رأسه وهو يخفي انزعاجه من عدم استكماله لنومه المريح بعدما تمكن من الحصول عليه بصعوبة بعد هبوط أيوب لجامعته، فجذب قميصه الموضوع على المشجب وارتداه ثم إتجه للأسفل.
******
طرق الباب مرتين متتاليتين ومع أن استمع لصوت خطواتها تقترب من الباب حتى ترك ما يحمله من الأكياس على بابها وغادر على الفور.
فتحت “أديرا” الباب تتفحص الطارق فاندهشت حينما لم تجد أحدٌ، تحركت للدرج فاحتكت قدميها بأكياس الطعام الموضوعة من أمامها، حملتها وولجت للداخل تسرع للشرفة، فوجدت أيوب يغادر المبنى لسيارة الأجرة التي تنتظره.
جلست على الأريكة صافنة بما يفعله، وهمست بدهشة:
_ما بال هذا الرجل؟ هل يكرم الارهابي عدوه لهذة الدرجة!!
وتركت الأكياس عن يدها مستطردة بتوتر:
_أمره غريبًا حقًا!
******
صف عمران سيارته أسفل بناية يوسف، واستكان على مقعده ومازالت كلمات عمه تترنح بين غياب عقله فتجعل وجعه صعب التلاشي، تذكر كيف بقى لجوار والدته حتى الصباح بعد أن جفاه النوم والراحة، شعوره بالنفور والسخط لما فعله والده يتآكله حد الموت.
كان يظن انها تشتاق إلى زوجها فتشم ريحه فيه كونه يحمل ذلك الشبه البسيط من أبيه، ولكنه صعق حينما علم بما تخفيه ويخفيه عمه عنه.
أفاق عمران من غفلته على صوت دقات خافتة على نافذة سيارته، ففتح بابها وهبط يردد بدهشةٍ:
_سيف!
قُذف إليه العديد من الأكياس البلاستيكية، شملهم عمران بين ذراعيه ورفع رأسه من فوقهم ليتمكن من تسديد نظرة غاضبة لهذا الأحمق، وحينما لم يتمكن حرر لسانه السليط:
_دي مقابلة تقابل بيها حد على الصبح يا بجم!!
تسلل له صوته الغاضب:
_دي المقابلة اللي تستحقها، مرمطتي دي في حد ذاتها من تحت رأسك إنت والقتيل اللي فوق ده، دلوقتي اتدبست في الفطار والله أعلم هتدبس تاني بأيه؟
منحه نظرة ساخرة قبل أن يسدد له الأكياس مجددًا، ليعيد ترتيب قميصه الأبيض أسفل سترته الجلدية، سبقه بخطوتان تجاه المصعد ومازال سيف يراقبه بدهشة ازدادت حينما أشار له:
_لم شنطك وحصلني.. واتعلم بعد كده لما تطلب مساعدة من عمران سالم الغرباوي تطلب باحترام عشان تلاقي معاملة بالمثل.
كبت سيف غيظه داخل جوفه وضم الأكياس بصعوبة جعلت الاغراض تتناثر منه بأرجاء المصعد، اتخذ دقيقة فاصلة يسترد بها كامل ثباته، ومن ثم اصطنع ابتسامة:
_عمران باشا، لو تكرمت ممكن تساعدني وتطلع معايا الحاجة.. ده بعد إذن معاليك!
راق له نبرة احترام الأخير، فرفع كتفيه بعنجهية:
_درب لسانك على كده معايا عشان نرتاح بالتعامل مع بعض أكتر يا سيفو.
وانحنى إليه يحمل عنه عدد من الأكياس، فتهدل ذراع سيف بتعبٍ، دفع عمران يتساءل بدهشة:
_أيه كل ده؟ إنت عاملين عزومة للمغتربين ولا أيه؟
أدلى شفتيه بسخطٍ:
_ انت بتجامل القتيل ويوسف بيجاملك وكل ده على قفايا.. خد بالك!
ضيق رماديته باستنكارٍ:
_وماله يا عم ما نجامل بعض براحتنا إيش حشرك إنت في النص، ركز في مذاكرتك وتخرجك وفكك من المجاملات اللي مضايقة عين أهلك دي!
صرخ بانفعال:
_مهو أنا الصغير بينكم كل اللي يعوز طلب يجري يبعتني!
ضحك بصوتٍ استفزه، وخاصة حينما قال:
_يااه كل ده عشان نزلت تجبلنا الفطار، يا ريتك خليت أيوب نزل جابه هو.. على الأقل كان فتح نفسنا بوشه البشوش مش إنت اللي بوزك يسد النفس.
عند ذكره لرفيقه، ترك سيف الأكياس عن يده لتسقط أرضًا أسفل قدميه ولم يعنيه الأمر أكثر من صراخه المنفعل:
_مالكش دعوة بأيوب يا عمران، إبعد عنه.
رفرف بأهدابه باستغراب، وقبل أن يطرح محاضرة بالصميم وجد المصعد ينذره بوصوله للطابق المنشود، فأشار بحاجبيه إليه:
_لم شنطك وخلي أم الليلة دي تعدي علينا يا سيف.. أنا لسه نازل الشركة أول يوم بعد الاجازة وواخد التمام من البيت فمش فايقلك ولا فايق لدماغ المراهقين بتاعتك دي، رأسي فيها مدعكة كلاب صعرانه لو طلقتهم عليك وربي ليشخلعوك.
سبق له أن رأى ذاك الوقح حينما يتجرد من رداء العقل والرزانة، لذا لن يجازف أمامه، انحنى يجمع الأكياس وولج بمفتاحه الخاص للشقة، فاستقبله يوسف بوجهًا عابثًا:
_كنت فين كل ده يا سيف؟
تخطاه عمران ليضع ما بحوزته بيد يوسف، وأجابه بامتعاض ونظراته لا تفارق ذاك العابث:
_كان بيحاول يطبق أخر دروسي عن الوقاحة والبلطجة مسكين ملقاش حد قدامه غيري.. وطبعًا قدام استاذ المادة يتراجع التلميذ.. مش كده ولا أيه يا دكتور سيفو؟
امتعضت معالمه واحتقنت نظرته الموجهة إليهما، فترك ما يحمله على الطاولة القريبة، وتمتم بغيظٍ:
_والله ما أنا فاطر معاكم، هنزل الجامعة أحسن.
وتركهما وولج لغرفته يجذب أغراضه بينما نقل يوسف باقي الاغراض للطاولة، يكشف عن الأطباق ويستكشف هوية الطعام الذي أحضره شقيقه.
دنى عمران منه يتفقده بنظرة ثابتة كانت غامضة بالقدر الذي دفع يوسف لسؤاله:
_مالك؟
سحب نفسًا مطولًا يجابه به ما اعتراه بعد ليلة أمس المؤلمة، وتنهد بمرارةٍ وصلت لحلقه:
_مهزوم.. لأول مرة بحس بالغربة.. احساس العجز بيطاردني للمرة اللي مبقتش عارف عددها.. كأن الدنيا مش شايفة غيري وحالفة تكسرني بكل قوتها.. حالفة تهزم كل انتصار بحققه في كل معركة بخوضها ضد شياطيني يا يوسف.
ترك يوسف ما بيده وهرع إليه، ظنها محاولة منه ليجذب أطراف حديث مشاكس جديد بينهما، ولكن ما أوجعه سماع كلماته الجادة.
رفع يده على كتفه وتساءل بقلقٍ:
_عمران إنت بتتكلم عن أيه؟ في حاجة حصلت بينك إنت ومايسان؟
هز رأسه نافيًا، وتهرب من لقائه الذي سيفتك به، فترك جانب الطاولة وإلتهى بفرد باقي الاغراض.
أضاق عليه طريقه حينما جذب منه الأطباق ووضعها محلها، مردفًا باهتمام:
_كلمني زي ما بكلمك.. فيك أيه؟
استدار ليقابله، وقال بحزنٍ:
_كنت فاكر إن والدتي عندها شخصية قوية، طلع كل ده قناع وهمي.. شوفت حقيقيتها اللي وجعت قلبي وخلتني أتمنيت الموت قبل ما أشوفها بالشكل ده يا يوسف، واللي وجعني إن اللي كان السبب في وجعها هو اللي المفروض يكون أعز الناس على قلبي.. أبويا الله يرحمه!
تأثر لسماع ما قاله، فتسلل الألم ليخترق قلبه باجتيازٍ، جلس يوسف على أقرب مقعد ليساره يراقبه وهو يزيح دمعة كادت بالتحرر عن عينيه، وأجلى صوته بخشونة:
_فين علي؟
كعادتهم منذ صداقتهم التي جمعت ثلاثتهم لم يعتدوا يومًا نصب حصارًا مؤلمًا لاحدهم، يراه يحاول الهروب عن الاندارج بالحديث أكثر من ذلك لذا لم يضايقه بأسئلة لا داعي لها، بعلم بأنه استدرج منه ما سيقرر البوح عنه قط، لذا قال:
_علي جوه مع آدهم من ساعة ما فاق.
خلع عنه جاكيته، وأشمر عن ساعديه قائلًا وهو يتجه للداخل:
_كمل إنت، هناديهم يفطروا.
وكاد بتخطيه ولكنه عاد يتساءل وعينيه تبحث بالمكان:
_أمال فين أيوب؟
رد عليه وهو يضع الخبز بالأطباق:
_نزل من بدري.
أشار له بخفة واستدار ليتجه للغرفة، فتوقف حينما لمح سيف يرتدي حقيبته ويستعد للمغادرة، فاتجه ليعيق طريقه قائلًا بصرامة وحزم:
_مفيش نزول من غير فطار يا دكتور.. مش عايزينك تقع من طولك وأنت داخل على امتحانات، اقعد افطر وأنا هأخدك في طريقي.
رد عليه سيف وهو يتفحص ساعة يده:
_هتأخر كده يا عمران، هبقى أجبلي أي سندوتش على الطريق.
نزع عنه الحقيبة وجذبه لأقرب مقعد للطاولة، ثم حمل ما بيد يوسف من شطائر ووضعها قبالة الاخير، قائلًا ببسمة جذابة:
_كُل يا سيف ومتقلقش هوصلك في أقل من عشر دقايق، اسأل أخوك عن عفاريت الاسفلت هيدلك عليا أنا وجيمس.
انطلقت ضحكة صاخبة من يوسف حينما تذكر سباقاته الدائمة مع جمال طوال أيام الجامعة، فأكد بإيماءة صغيرة، مضيفًا بمشاكسة:
_أنا أصلًا أتعرفت عليهم بسباق عربيات، واتصدمت وقتها انهم في هندسة!!
تتوسعت حدقتيه بفضول، وتساءل:
_يعني جمال وعمران كانوا أصحاب الأول قبل ما تتعرفوا.
أومأ له عمران برأسه:
_أيوه.. أنا وجمال كنا في جامعة واحدة.
وغمز بمرح إليه:
_هكملك الحكاية على الطريق، كُل إنت عما أطمن على القتيل اللي جوه ده، وأصرف دكتور علي ورديته انتهت من بدري!
*******
أسند علي آدهم بعدما انتهى من الاغتسال، فجذب المنشفة بيده وهو يحاول أن لا يحيد عنه حتى لا يسقط، تشبث آدهم بالباب وقال ببسمة هادئة:
_مش هقع متقلقش، دي مش أول مرة أتصاب فيها، عندي خبرة في التعامل.
أصر على مساندته، قائلًا :
_الأمر ميسلمش، لو وقعت الجرح هيتأثر.
اتسعت ابتسامته فلأول مرة يختبر تلك المشاعر الغريبة التي تحاطه بمجال عمله، لطالما كان يواجه عقابته بمفرده، وإن سقط جريحًا كان هو من يعالج ذاته.
أحيانًا كان يضيق صدره من عزلته، بالنهاية هو وحيدًا حتى الشقيق لا يمتلكه، فلقد كان الطفل الوحيد لوالدته المريضة، فكان من الصعب عليها الحمل مرة أخرى بعد أن داهمها المرض، فاستكفت به وأغنته عن العالم بأكمله، وفجأة سحبت كفها عن كفه ورحلت!
والمؤلم بأنها لم تنال موتة رحيمة، وانتقامه لم يكن سهلًا بالمرة، تجرع بالصبر طويلًا وكم كان يتوجع وهو لجوار ذاك اللعين الذي تسبب بقتل والدته ويديه مكتوفة عن قتله، ازداد بوتيرة صبره لتلك اللحظة التي تشمل سكين انتقامه اللعناء من خلفه وها هو الآن يحقق انتصاره ويهدأ من روع قلبه الجريح.
تعجب علي من صمته الغريب، فظنه يتألم بوقفته الغير مريحة، انتصب بوقفته أمامه ليحيط كلا ذراعيه متسائلًا:
_إنت كويس؟ في حاجة وجعاك؟
أفاق على صوته فتمكن من رؤية الاهتمام واللهفة داخل رماديته، فاقتص بسمة جاذبة يليها صوته:
_متقلقش عليا يا دكتور علي، أنا اللي حصل معايا ده كله شيء تافه بالنسبة للي خضته واتعرضت ليه في شغلي.
وارتكن بجسده الثقيل على الحائط من خلفه وهو بتابع بنفس الابتسامة:
_من كتر ما اتعودت على الخطر بقيت بخاف من أي شخص بيحاول يدخل حياتي، عشان كده أنا وحيد.. لا ليا صديق ولا عمري سمحت لنفسي ارتبط وأعيش حياة طبيعية، لإن ببساطة هعرض أي شخص يفكر يدخل حياتي لخطر كبير.
واستطرد بألم جعل نبرته قاتمة:
_وللأسف قلبي طلع ندل وخان وعده ليا، وغصب عنه اختار اللي غابت عنه من سنين.. أكدلي إني كنت مغرور لما وثقت إني مفيش ست في جنس حوا تقدر تأخده مني.
وبسخرية قال:
_أختك عملتها من أول مقابلة وأول نظرة.
ضيق رماديته بضيقٍ من سماعه اعترافه بمشاعره هكذا بوجهه، ولكنه معتاد بالتحكم بانفعالاته لاقصى درجة ممكنة، يكفيه شعوره بصدق تلك المشاعر، يكفيه أنه قادر على تحليل شخصية ذاك الأدهم المتوحش كما يلقبه أخيه، حتى ولو اندرج خلف اسمًا حقيقيًا سيظل هو ذاته ذاك المتوحش!
يمتن كثيرًا كونه طبيبًا يتمكن من كشف المخبئ خلف تلك الثياب، وبالأخص خلف القلوب المبهمة، نظراته ثاقبة كالصقر الذي يتمكن تحديد أماكن ضعف فريسته.
سحب علي نفسًا مطولًا واطلقه بهدوءٍ اتبع رزانة نبرته:
_سيادة الرائد عُمر الرشيدي أو آدهم المتوحش قولي إنت قاصد أيه بكلامك ده! لو بتخوفني على أختي من دلوقتي عشان الرفض والبعد يجي من عندي فآسف هخذلك وأقولك مقدرش أكسر قلب بنتي!
ابتسم وهو يتطلع له بينما قام علي بجمع خصلاته الطويلة للخلف بانزعاجٍ مستطردًا:
_أنا معنديش شك فيك يا عمر، أنا واثق بعد اللي شوفته بعيني ده إنك قادر تحميها..
وتابع بهمسٍ رجولي ويده تشدد على كتف الاخير:
_أنا مسلمها لراجل مش لراكي!!
اقتحم جلستهما صوت ضحكات ذكورية، جعلتهما ينجرفان لذاك الوقح المستند على باب الغرفة، ويلتهم الموز بفمه بشكلٍ مضحك، قائلًا:
_خليني اعترف انك ماكر يا متوحش، اختارت تلف الدكتور علي علشان عارف إنه عاطفي وسهل، حظك بقى إنك داخل العيلة من أدق ثغراتها، ومختار العاشق الفارسي اللي نايم قايم يدافع عن الحب والعشق والذي منه، ومرتحش غير لما جوز أمي معاه في ليلة واحدة ودلوقتي الدور على المسكينة أخته!!
حدجه علي بنظرة محذرة جعلته يبتلع ما بجوفه وهو يشير له:
_الفطار جاهز.. كلك لقمة على السريع قبل ما تنزل شغلك ومتقلقش أنا هنزل الشركة ساعتين وهرجع لسيادة الرائد.
هز علي رأسه واتجه ليجذب جاكيته المتروك على المقعد ثم خرج مرددًا:
_هرجع البيت الأول أغير هدومي قبل ما أنزل المستشفى.
وأشار إليه:
_ساعد عمر.. أنا بره مع يوسف عايزة في موضوع كده.
راقب عمران أخيه وهو يغادر بنظرة ثابتة، عادت لتتعلق بذاك “المتوحش”، جاهد ليجعلها أشد حزمًا وغضبًا، فوضع ما تبقى بيده بفمه والتهمه ببطءٍ يتناسب مع بطء خطواته حتى بات مقابله:
_أنا لسه مش عارف هتعامل معاك على انهي أساس وانت حُر طليق كده ميربطكش بالبنت دبلة فضة حتى!
ومسح فمه من أثار الموز ليفاجئ من يراقبه بثبات:
_ها قولي كلمتها ولا أسلكلك موبيلي!
اعتدل بجسده مقابله يبتسم ساخرًا وهو يقرأ نية ذاك الخبيث الذي يحاول معرفة إلى أي حد تسوقه علاقته بشقيقته، ومع ذلك راق له الأمر وكما اعتاد دومًا استغلال أي خيطًا يصله لهدف بمهام عمله، فلا مانع بتطبيق نظريته بحياته العملية، فقال وهو يهذب لحيته البنية:
_طمنتها عليا مش أكتر.. بس ده ميمنعش إني محتاجك تسلك ليا حاجة تانية.
_نعم!
ضحك وهو يتابع امتعاض معالمه، فحل زر قميصه ومن ثم انتزع من حول رقبته سلسال من الجلد الأسود الرجالي ينتهي برسمة غريبة وكأنها ليدٍ تحمل قرص الشمس بين كفوفها.
وضعها بين يده وقال بأمرٍ صريح:
_وصلها لشمس، وبكده هتهدى وهتطمن عليا.
سحب رماديته عما وُضع بكفه لينهال عليه بنظرات كالسهام اتبعها قوله الساخر:
_من عنيا حاضر.. مش عايز المقطف يوصلك ليها بوسة طايرة في الهوا بالمرة ولا أيه وضعك!
وكور يده بغضبٍ تسلل بتهديده:
_اسمع أما أقولك لو فاكر نفسك أنك البطل المتوحش اللي عايش قصة ألف ليلة وليلة فأنا كفيل أفوقك وقتي! ده يا أخي اللي اختشوا ماتوا، واقف بكل بجاحة تديني تذكار ليها ده إنت جاي من مصر أمال لو كنت مغترب معانا كنت عملت أيه!!! والمصيبة الأكبر إنك ظابط يعني عدت معاك في الجراءة ووقاحتي أنا شخصيًا!
وتابع صراخه المتعصب:
_اسمع بقى المفيد وفكك من علي ومن فريدة هانم عشان محدش هيسد معايا، لو حصل والأمر نفذ وهيكون في رابط بينك وبين شمس فمفيش خطوبة كتب كتاب على طول، لإني شامم ريحة الانحراف من ساعة ما شوفتك.
ابتهجت معالمه بصورة أدهشت عمران، وخاصة حينما قال:
_والله تبقى عملت فيا جميل.. والجميل عندي رده دين!
سحب يده المصوبة تجاهه بيأسٍ، وردد:
_كده الخطر هيكون أكبر من الأول، أنت هتتحرش بالبت كده!!
وتنهد وهو يفكر بحلٍ سريع لتلك المعضلة، مجرد رؤيته جوار شقيقته سيدفعه حتمًا للقتل، ربما كانت مرتبطة براكان المنذر من قبل ولكنه لم يجد منه سوى رقي التعامل مع شقيقته التي لم تشكو منه يومًا بالرغم من أنه كان على علمًا بنزواته التي تجمعه مع بعض سيدات الأعمال فالأمر معتاد بينهم بالغرب بدناءة، ولكنه بالنهاية كان يعاملها بشكل لجم لسانه عن الحديث.
سحب عمران السلسال لجيب بنطاله وقال بنزقٍ:
_حكايتك محلولة بس خد بالك لو كتبت عليها هتترحل على مصر لحد يوم الفرح، آه ما أنت مش هتعملهم عليا لو إنت متوحش فأنا وقح وقارئ دماغك من بصة.
واستطرد بتهديد صريح:
_تحاول بقى تكلمها.. تقابلها… تعمل أي شيءمن بتوع طيش الشباب دول هشتكيك في السفارة وهبهدلك.. أنا معنديش هزار في المواضيع دي أنا لحد شمس وفيري وبقلب تنين.
تمردت ضحكات آدهم الصاخبة، فهمس بصعوبة حديثه:
_طب حاسب النار تحرقك!
امتعضت معالمه وجذب يده المصابه ليضعه على كتفه هاتفًا بغيظٍ:
_سند عشان تطفح.. عشت وشوفت عريس داخل على أهل العروسة متطوح برصاصة، بدل ما يخش بورد وشوكولا!
ضم يده لكتفه بألمٍ، وردد بضيق:
_براحة يا عمران.. واهدى كده شوية هو أنا بقولك جوزني طليقتك ولا عيني من مراتك دي أختك يا ابني!!
كز على أسنانه بقوةٍ كادت باسقاطهما من مجرد نطق لفظ زوجته دون حتى نطق اسمها، فحاول ينظم أنفاسه بهدوء حتى لا ينضم له لقب “الغيور المجنون” ألا يكفيه أنه “الوقح” المعهود بين أصدقائه وعائلته!
*******
بالخارج.
أشاد “علي” بفكرة “يوسف” المطروحة من أمامه، ودرسها بعناية من كل زاوية، بينما تابع هو:
_ده اقتراحي يا علي، بدل ما تخصص المستشفى للطب النفسي خليه عام، وأنا وعد وقت ما تجددها وتخلص هكون معاك أنا ودكتورة ليلى كتف بكتف، وبمناسبة المعدات والأجهزة اللي هتحتاجها فأنا أعرف مصانع كويسة جدًا في الصين مدير المستشفى بيستورد منهم، هكلمه وأجبلك الميل بتاعهم تتفق معاهم.
وضع الخبز عن يده بعدما قضم منه، وردد بتخوف:
_مش عارف يا يوسف مش حابب أخوض في شيء زي ده، دي مسؤولية هتكون كبيرة عليا أوي.
تساءل بذهولٍ:
_من الناحية المادية؟
أجابه نافيًا:
_لأ خالص الفلوس أخر شيء أشيل همها، ورثي من بابا مقربتلوش، حتى الفلوس اللي عمران بيحولهالي في حسابي البنكي من أرباح الشراكات في حسابي زي مهي، الفكرة بس إني مش حابب أكون مسؤول عن عدد أطباء ومستشفى كبير بالحجم ده جربت قبل كده وفشلت، أنا مش حابب أكون بالأدارة عايز أمارس مهنتي بس.
هز رأسه بتفهمٍ، وارتشف من كوب قهوته الساخن عسى صداع رأسه لقلة يومه يخفف عن حدته، وقال برزانة:
_ومين قال أنك هتتمنع تزاول مهنتك! أنا مش شايفها حجة على فكرة ممكن ببساطة تختار حد يكون مسؤول عن المستشفى غيرك.. ومش شرط يكون دكتور على فكرة.. مثلًا يكون عنده خبرة التعامل بالادارة لإن الموضوع هيكون زي مشروع استثماري.
شاركهما سيف وجهة نظره بعدما تابع حديثهما باهتمام منذ بدايته:
_هتكون فكرة حلوة لو اختارت طقم العمل كله من مصر، إنت عارف إن التعينات والمرتبات هناك واقعه وكمان من نحية تانية هتحس بالارتياح وإنت شغال وسطهم على الأقل مش هتحس نفسك غريب عنهم. فبكده بتكون ضربت عصفورين بحجر واحد.
اتسعت ابتسامة علي، وقد ساقه لنقطة جعلته يهيم بما سيفعله بالايام القادمة ليحول مشفاه الصغير لمركز ضخم مؤهل لاستقبال جميع التخصصات، كان سابقًا حلمه ثمين ولكن بمجرد أن ابتعدت عنه يارا خطيبته السابقة وتركته يديره بمفرده فقد شغف البقاء وأغلقه منذ فترة طويلة، كما أن اقتراح يوسف صائب للغاية، لما عليه أن يدير المشفى بنفسه سيجد أخر بديل عنه وسيمارس مهنته التي يعشقها بحرية تامة.
قطع حديثهم وصول آدهم برفقة عمران الذي سانده لأقرب مقعدًا، فنهض يوسف ليجلس جواره مقدمًا الطعام إليه، ومتابعًا حديثه مع علي.
جلس عمران قبالتهم وبدأ بتناول طعامه وعينيه لا تفارق سيف الذي ينغرز رأسه بالكتب من أمامه، فقال ببسمة مشاكسة:
_خف شوية يا علي..يوسف صاحبي أنا لو نسيت.. من فضلك راعي شعوري لحسن بغير بعد عنك وعن السامعين!
زوى علي حاجبيه بدهشة من حديث أخيه، بينما انتقلت عين يوسف لاخيه الذي استشاط غضبًا، ونهض يحمل كتبه صائحًا بانفعالٍ:
_عن أذنكم أنا نازل.
ضحك يوسف وهو يهز رأسه بيأس بينما ضحك علي وآدهم لفهم مضمون حديثه، وسهل لهم الأمر حينما نهض عمران خلفه يردد:
_خلاص يا سيڤو متزعلش تعالى كمل أكلك ومتقلقش مش هكلم أيوب تاني.. أوعدك لو لمحته حتى صدفة هديله قفايا.. وهعمله block.
رمقه بازدراء وهو يفتح باب الشقة الذي كاد بالسقوط من فرط قوته، فلحق به عمران وهو يناديه:
_استني يــلا… بهزر معاك يخربيت مخك!
هرول خلفه للأسفل ومن خلفهم ضحكات الشباب المازحة، وفضول آدهم للتعرف على أيوب الذي يشاهد غيرة غريبة من نوعها، ألا يكفيه ذاك الوقح الذي كاد بقتله بالداخل، على الأحرى هؤلاء الشباب معاتيه وعليه الاحتراس منهم!
*******
_إنتِ ملكي أنا سامعة… أي راجل عينه هتلمحك هعميه.. ولو وصلت إني أقتلك مش هتردد ثانية واحدة سامعة!!!
_ سبق وقولتلك قبل كده إن في اليوم اللي هتجمعنا قصة حب هتكون نهايتها موت حد فينا.. أنا مش الشخص اللي تسيبه واحدة كانت في حياته..
_بصيلي وملي عنيكي مني، لإنك صعب تنسي ملامحي أبدًا.
انتفضت بمنامتها بفزعٍ وعينيها تبحث بالغرفة عنه، متأكدة بأنها استمعت لصوته، دموعها تنهمر دون توقف ويدها تكبت شهقات دموعها حتى لا توقظ شقيقتها، يكفيها بما تخوضه يكفيها ما تتعرض إليه.
نهضت زينب عن الفراش واتجهت لحمام الغرفة بخطواتٍ ثقيلة، وقفت قباله المرآة المواجهة لحوض الاغتسال ورفعت المياه لوجهها عساها تستعيد وعيها من تلك الغفلة القاتلة، أدمعت عينيها وبهتت معالمها لتزيح ستار ماضيها الذي يقلب حاضرها ومستقبلها.
**
انتهت لتوها من زيارة بعض الأماكن السياحية برفقة رحلة جامعتها، فاتخذت ذاك المقعد استراحة قصيرة لها ولقدميها المتورمة، نزعت زينب عنها حذائها الجديد وتفحصت أصابع قدميها بألمٍ جعلها تتأوه بخفوتٍ، فخطفت نظرة لاستاذها وللطالبات اللاتي يلحقن به، واطمئنت بأنهن بالقرب منها، فمددت ساقها لتنال قسطًا من الراحة قبل مغادرتها.
استمتعت بهذا الهدوء المريح لأعصابها بعيدًا عن العنف الذي تتعرض له على يد أخيها الأصغر بعد سفر أخيها الأكبر للخارج غير عابئ بها ولا بما يفعله أخيه بها، وفجأة مزق هدوئها قط يحمل ساقه التي تنزف بغزارة، وكأن أحدًا تعمد غرس سكينًا حادًا بساقيه.
كانت دومًا تخشى الحيوانات حتى لو كانت أليفة ولكن رؤيتها له هكذا جعلتها تشفق عليه، ففتحت حقيبتها وجذبت ما تحمله من شاش ومعقم واتجهت بساقيها المتعرجة إليه، فجلست أرضًا تداوي جرح ساقه بما تحمله وانتهت بعقد الرابطة الطبية التي لا تفارق حقيبتها كطبيبة تحت التمرين اعتادت على حملها لبعض الاسعافات الأولية، فقامت بمعالجته ببراعةٍ وفور انتهائها جذبت زجاجة المياه لتنظف الدماء عن يدها.
حاولت فتح الزجاجة دون أن تلطخها بما تحمله من أثار الدماء، فتفاجئت بمن يجذب عنها الزجاجة ويسددها فوق يديها معًا فرددت ببسمة هادئة ظنًا من أنها احدى زميلاتها:
_شكرًا.
وحينما انتهت وجدت مناديل ورقية تُقدم لها، رفعت زينب عينيها تلك المرةٍ بهدف الشكر الخالص لمن يقدم مساعدة نبيلة كهذة، فتفاجئت بأن من يقف قبالتها لم يكن سوى شابًا يتطلع لها بزرقة عينيه باهتمامٍ.
تحاملت على قدميها حتى وقفت قبالته، فوجدته يتطلع لها بانبهارٍ وكأنه لتوه يرى عروس البحر الهاربة.
وجدها رائعة بقفطانها المغربي، حجابها الطويل وملامحها الجذابة، ظنته لوهلة أخرس لا يجيد الحديث، ولكنه بعد دقيقة من تأملها قال:
_العفو.
رمشت بارتباكٍ من نظراته، وكأنها تمتلك ملامح فاتنة تجعله بكل ذاك الارتباك أمامها، قلبها بدأ يخفق داخلها بشراسة، وخاصة حينما قدم لها زجاجة المياه خاصتها قائلًا بخشونة:
_مساعدتك للقط شيء ظريف، شكلك كده بتحبي تربية الحيوانات.
ضحكت ساخرة واستنكرت قوله:
_أنا!! بالعكس أنا بترعب من الحيوانات بس كدكتورة حسيت إني مينفعش أسيبه كده.
منحها نظرة مطولة لما ترتديه، وقال:
_شكلك مصرية.. افتكرتك من لبسك إنك مغربية.
أجابته بابتسامة صغيرة:
_أنا فعلًا مغربية، بس بقدر أتكلم نبرتكم عادي لأنها سهلة ومفهومة جدًا، تحب أكلمك مغربي؟
هز رأسه نافيًا، مضيفًا بمزحٍ:
_لا أبوس إيدك مش طالبة، أنا من الصبح في المصنع بحاول أفهم حرف وسط العمال حاولت أكلمهم انجلش مش جايبة معاهم.. خليكي كده تمام.
رفعت يدها تخفي ضحكتها، وما أن لمحت الفتيات تصعدن للحافلة حتى أغلقت حقيبتها وهي تودعه:
_عن إذنك.
تدرجت معالمه وهو يجدها تغادره، فلحق بها بتوترٍ:
_طيب مش هتقوليلي اسمك أيه؟
منحته نظرة متوترة، بأي حق تخبره بأسمها وحتى إن أظهرت ضيقها لذلك ولكنها لا تنكر سعادتها باهتمام ذلك الجذاب بها، فهمست بخفوت:
_”زينب”.
منحها ابتسامة واسعة وهو يقول:
_وأنا “يمان”
وقدم يده لها قائلًا:
_اتشرفت بيكِ يا دكتورة.
وزعت نظراتها بينه وبين كفه الموضوع، فشددت بيدها على الحقيبة المحيطة لكتفها، لتبدي له عدم رغبتها بالتلامس، واكتفت بهزة منها:
_وأنا كمان اتشرفت بيك.. عن إذنك الباص هيفوتني.
وتركته واتجهت سريعًا للحافلة، فسحب كفه وهو يمرر لسانه على شفتيه ببسمة واسعة، واستدار ليشير لاحد رجاله المختبئين من حوله باسلحتهم:
_اركب عربيتك فورًا وامشي ورا الاتوبيس ده، البنت اللي كانت واقفة معايا من شوية عايزك تجبلي عنوانها وقررها!
عادت من شرودها على صوت فاطمة التي تناديها بقلقٍ:
_زينب انتي كده هتتأخري على الجامعة في أول يوم!!
أغلقت الصنبور وخرجت تجيبها:
_أنا صحيت أهو متخافيش مش هتأخر
أشارت لها على الفراش:
_طيب يلا بسرعة غيري هدومك عما أشوف علي، هو قالي أول ما تصحي أبلغه عشان يوصلك.
رددت بحرجٍ:
_مالوش داعي يا فطيمة.
تجاهلتها وهي تتجه لغرفة علي هامسة:
_والله ابقي قوليله الكلام ده بنفسك.
*******
وصل عمران للشركة بعد غياب، فولج أمام الجميع ببذلته الرمادية الآنيقة وخطوات ثابتة تحازي نظراته الموزعة بين الجميع بكل ثقة، ذاك الوقح يملك سحرًا وجاذبية وطريقة تعامل تجعل من أمامه مشتت بين شخصه الغامض..
انتهى بطريقه بمبنى مكتبه، فتوجه ليحرر مقبض بابه ومن خلفه يتبعه السكرتير الذي يهرول ليجمع الأوراق الهامة إليه، وفي ظرف دقائق معدودة تحول مكتبه لغامة من الأوراق، وكأنه كان باجازة طويلة المدى، فصاح بمن أمامه:
_حيلك حيلك، أنا مش آلة عشان أراجع وأمضي كل الورق ده.. براحة عليا يا حسام أنا لسه راجع من تعب مش من رحلة استجمام أنا!
ابتلع السكرتير ريقه بحرجٍ، وسحب رزمة من الأوراق مرددًا بندمٍ:
_آسف..بس حضرتك يا مستر عمران بقالك فترة مبتجيش وأحمد باشا مقدرش يخلص أوراق المشاريع من غير وجود حضرتك وبالأخص المول التجاري حضرتك عارف إن المشروع ده من أهم المشاريع اللي هتقوم بيه الشركة والتأخير فيه مش لصالحنا.
هز رأسه بتفهمٍ وقال:
_جهز الملف على فلاشة لإني اختارت الشركة اللي هتقوم بالمشروع ده معانا.
أومأ برأسه في طاعة، فألقن له عمران أمره الاخير:
_ابعتلي كوباية قهوة مظبوط ومتدخلش عليا أي مخلوق لحد ما أفض المغارة اللي فتحتها عليا دي.
اشارات عديدة من رأسه واختفى مغلقًا الباب من خلفه، ليبدأ عمران بعمله الشاق حتى احتد الألم برقبته، فترك ما بيده وتعلقت نظراته بالباب الجانبي المتصل بمكتبها ولجواره الباب المتخصص لقاعة اجتماعات مجلس الادارة.
نهض عن مكتبه ليتبع طريق مكتبها، ففتح بابها ليتمعن تطلعه بها بعشقٍ يريح قلبه وتشدد أعصابه من فرط العمل.
وجدها تشاركه الانهاك بالعمل على حاسوبها، وعدد من الأوراق الهامة من أمامها وكأنها تحسب مساحات هامة لأحد المشاريع، ترتدي سترة من اللون الأزرق ومن أسفله قميصًا أبيض يتشح بجرفات من اللون الأسود وحجابًا أسود اللون ينخفض ليخفي جزائها العلوي باحتشامٍ راق له.
فاقترب ليتمكن من رؤية ما ترتديه بالكامل خشية من أنها ارتدت بنطال لتناسب تلك الطلة المعتاد له رؤية سيدات الاعمال يرتدون مثل تلك النوع من البذلات الحريمي، تنفس براحة حينما وجدها ترتدي تنورة فضفاصة من نفس اللون.
لفت انتباهه وجود تلك المزهرية القريبة من الباب، فسحب منها أحد الزهور واتجه جلسة يمررها على يدها الممسكة لكوب العصير بين يدها، فانتفضت بجلستها بفزعٍ تلاشى بخفوت أنفاسها:
_عمران! خضتني!
ابتسم هامسًا:
_حبيب قلبه بيتخض من جوزه يا ناس!
واستقام بوقفته قبالتها، فجذب يدها إليه مرغمها على الالتفاف وأطلق صفيرًا هائمًا:
_أيه الشياكة دي كلها، إنتِ نازلة تشتغلي ولا تسرقي قلبي!
سحبت كفها عنها بخجلٍ، ورددت بتلعثمٍ:
_إنت أيه اللي جابك هنا.. أكيد وراك شغل كتير بعد الأجازة دي.
هز رأسه موكدًا لها، وتابع وهو يقترب منها حتى سقطت على مقعدها المتحرك:
_ورايا بصراحة، بس مليت وحسيت إني مشتاقلك فقولت أجيلك أشبع عيوني وقلبي منك، وبصراحة كده شكلك هتبقي خطر عليا وعلى مستقبلي الفترة الجاية..
تراجعت برأسها للخلف محاولة الاستفسار بنظراتها عن معنى حديثه المبطن، فجذب الكوب وارتشف منه بتلذذٍ مستغلًا قربه منها:
_هممم… حلو العصير ده أول مرة أدوقه هنا… أمال ليه محدش بيقدمه ليا بيضحكوا عليا بالقهوة بس يرضيكي يا حبيب قلب جوزك!
دفعته للخلف وهي تشير له بارتباكٍ:
_ارجع يا عمران.. احنا في المكتب ميصحش كده من فضلك ممكن أي حد يدخل!
كبت ضحكته الخبيثة وردد بحزمٍ وبروده السابق معها:
_ما اللي يدخل يدخل، في أيه يا بشمهندسة أنا جاي أهزر معاكي اللي بينا شغل متنسيش إني مديرك هنا!
مسحت وجهها بغيظٍ، وصاحت بنزق:
_تمام فين الشغل اللي بنعمله هنا؟
منحها نظرة أهلكتها من هذا القرب، وتوزعت بينها وبين الحاسوب والاوراق:
_معرفش… اطبعي أي ملف نتناقش فيه، أو هرجع مكتبي أجيب كام تصميم ونشتغل مش حوار يعني!!
كادت بأن تمزق شفتيها السفلية، ورددت بنفاذ صبر:
_هو أنت من أمته بتشتغل على التصميمات بنفسك يا عمران!
هز كتفيه بعدم مبالاة:
_مدام معاكي أشتغل مشتغلش ليه!
أغلقت حاسوبها وترجته بتوسلٍ:
_طب ارجع مكتبك كمل شغلك وبعدين ابقى تعالى صمم براحتك.
تعمق بعينيه تجاهها وهمس:
_موافق بس بشرط.
ترقبته باهتمامٍ فوجدته ينحني تجاهها ليقدم لها وجنته فجحظت عينيها صدمة ودفعته للخلف بعصبية بالغة:
_إنت بتعمل أيه، عايز تفضحني أنا عارفة! والله يا عمران لو متعدلت لأقبل عرض أنكل أحمد وهروح أشتغل معاه لإنك مبقتش وقح بالبيت بس حتى هنا!
ضحك بملئ صوته وجلس على المكتب قبالتها يخبرها بجدية صادقة:
_شكلك فعلًا شغلك هيبقى معاه لإني مش هعرف أراكز بأي حاجه وانتي جنبي صدقيني.
ابتسمت بخجل وقد جاهدت لاخفائها، وقالت باستنكارٍ:
_من أمته ده ما أنا بقالي سنة شغالة معاك!
طرق على صدره بهيام:
_قصدك قبل ما كنتي تدخلي هنا وتعششي يا بيبي!
زفرت بضجرٍ:
_عمران.
_حبيب قلبه!
_وبعدين معاك؟
_تنفذي طلبي هنصرف أنا وشيطاني من قدامك، مقدامكيش حل تاني يا بيبي!
منحته نظرة عابثة، فأشار لها بالاقتراب، انصاعت إليه على مضضٍ، فقدم خده لها بضحكة منتصرة، فمنحته نظرة مغتاظة وقالت تجاريه:
_طيب ما تروح تخلص شغل ولما نروح نبقى نتفاوض.
هز رأسه نافيًا، فعاندته وهي تجلس على مقعدها من جديد مرددة بغيظ:
_روح مكتبك يا بشمهندس أنا محدش يتشرط عليا، يا أما هسيب الشغل من دلوقتي وهمشي.
منحها نظرة عاشقة قبل أن ينحني ليطبع قبلة على يدها، متابعًا ببسمة جذابة:
_هزاري التقيل هخففه حاضر، بس خدي بالك كل عرض وليه طلب وعقاب… سلام يا بيبي!
وتركها وغادر لمكتبه فابتسمت وهي تضم الزهرة إليها بهيامٍ، لا تجد سوى كلماته ونظراته التي تركها تحيطها حتى بعد رحيله.
*****
بحثت عنه بغرفته فلم تجده، كادت بالعودة لشقيقتها ولكنها توقفت حينما لمحت ما وُضع على السراحة، ارتسمت على شفتيها ابتسامة ساحرة، فأغلقت بابها واتجهت تجذب زجاجة عطره الباهظة تزيح غطائها وعينيها تراقب الجناح بخوفٍ أن يُقبض عليها.
نثرت منها فاطمة على يدها وقربتها إلى أنفها تشمه بقوةٍ وكأنها مدمنة تتعاطى المخدرات، لوهلة شعرت بأنها سترتكب أول سرقة لها، فستقوم الآن بسرقة تلك الزجاجة التي ستكاد تشن جنونها.
فرفعتها قبالة عينيها وهي تردد بحزنٍ:
_معقول يا فاطيما هتسرقي!!
_ما إنتِ عملتيها قبل كده وسرقتي قلبي ملومتيش نفسك ليه؟
تحررت كلمات ذاك العاشق الذي يتابعها بنظرات عتيقة، يستند بجسده على باب غرفته مربعًا ذراعيه أمام صدره، يتابعها بحبٍ ونظرة حنونة على ارتباكها وانتفضتها بفعله، فدنى منها يهتف بخشونة نبرته الذكورية:
_اهدي حبيبتي ده أنا!
أحمق هو! تكاد تقتل خجلًا كونه هو بالذات من يراها بتلك الحالة، ابتلعت ريقها وهي تقترب لتضعها على السراحة بارتباكٍ:
_آآ.. أنا.. بس… آآ… كنت… آ.
ابتسم وهو يخبرها بنبرة بطيئة تستشف مضمونها:
_الأمان اللي بيوصلك مش بسبب البرفيوم، الادمان اللي عندك ده لحضني يا فطيمة… حضني هو اللي بيطمنك وبيمدك بالأمان.. البرفيوم فاكس!
ضمت شفتيها معًا بحرجٍ، اللعنة هو حقًا يشعرها وكأنه محتبس داخل عقلها فيعلم ما الذي يطوف تفكيرها! تخشى يومًا إن أرادت أن تكذب أو تخادعه بأي موقف قد تتعرض له مثل باقي النساء، أحيانًا تشعر وكأنه ظابط شرطة وليس بطبيب نفسي.
انشغالها بالتفكير جعلها لا تراه يقترب ليضمها إليه فجأة، فارتبكت من فعلته وتصلب جسدها.
شعرت بيده يمسد على خصرها وهو يهمس لها:
_كل ما تحبي تحسي بالأمان تعالي لحضني من غير أي كلام وأنا هفهم.. وأوعدك مش هسألك مالك لو حسيتك مش حابة تتكلمي.
أغلقت عينيها باستسلام، ورفعت يدها تتمسك بجاكيته، لقد صدق ما أخبرها به ذاك الشعور ينبع لقربه هو، لسكينة ذراعيه من حولها، تشعر بوجوده بأنها تحتمي بين حوائط متينة تحميها من نسمات الهواء القارصة، استكانت برأسها على كتفه ويده تقرب مؤخرة رأسها لعنقه، لا يود أن تغادره أبدًا ليته استقال عن مخططاته بالبدأ بتجهيزات المشفى، يود أن يظل لجوارها هكذا.
ابتعدت عنه فاطمة بخجل جعلها ترتجف بصورة بدت تنبهه بضروارة التعامل الحذر على الفور، فقال:
_زينب جهزت؟ أكيد زمانها مرتبكة لأن ده يومها الأول صح؟
نجح بسحبها خارج تلك الدائرة فقالت وهي تلحق خطواته لخزانته:
_مش عارفة بس أكيد هي مرتبكة خصوصًا انها هنا في بلد غريب.
جذب ملابسه وخرج يضعها على الفراش، فقالت وهي تشير له على باب غرفتها:
_هروح أبلغها تجهز علشان متتأخرش.
ابتسم وهو يشير لها:
_تمام يا حبيبتي.. أنا شوية وهكون جاهز أنا كمان.
ابتسمت بحبٍ لسماعها تلك الكلمة مرتين، فهزت رأسها وهي تغادر بينما يظل هو بمتابعتها حتى أغلقت الباب فازدادت ابتسامته، فانحنى يتلقف الملابس وغادر لحمامه الخاص.
******
جمعت كومة الملابس وحررت عود الثقاب لتلقيها عليها، وجلست تراقب احتراقها باستمتاعٍ غريبًا، وكأنها تحرق جسده حيًا وتنتقم منه على ما فعله بها، تتمنى أن تشعر بالسكينة التي لم تزورها يومًا منذ معرفتها للحقيقة، والمؤلم بأنها تشعر بانتكاس حالتها بعدما تعدت مرحلة الشفاء.
بحث عنها كثيرًا بغرفته وحينما لم يجدها هرول لجناحها الخاص فصعق حينما وجد النيران تتأكل الأرض مضرمة ملابس رجالية بدت له تفاصيلها بأنها تخص أخيه، انتفض محله بفزعٍ وقبض على معصمها يبعدها عن مصدر النيران الذي تسلل لسجادة الغرفة هادرًا بفزعٍ:
_فريدة!!
رفعت جفنيها الثقيل بحركة بطيئة له، فانهمرت الدموع المحتبسة وهي ترمقه بنظرة معاتبة:
_عايزة أنتقم منه ومش عارفة إزاي يا أحمد!
برق برماديته بصدمة من الحالة الغريبة التي تبدو عليها الآن، فأحاط وجهها بيديه معًا:
_فريدة فوقي من الحالة اللي انتي فيها دي يا حبيبتي، بصي حواليكي سالم مبقاش له وجود خلاص أنا اللي جنبك ومعاكي… هعوضك عن كل ده صدقيني.
اكتفت بهزة رأسها بالرغم من إنها مازالت تشتعل داخليًا، فجذبها أحمد للمقعد البعيد عن النيران وعاونها تجلس عليه ثم هرع لحمام الغرفة يحمل سطل من المياه ويحاول اطفاء الحريق قبل أن يتوسع باضراره وهو على اتقان إن قرار البحث عن منزل أخر هو الأنسب لتخطي حالتها تلك.
انتهى أخيرًا من اطفاء النيران، وجلس أرضًا يضم جبينه بيديه لمجرد أن تسلل له بأنها بحالة قد تجعلها تؤذي ذاتها، خاصة بجمود جلستها كالإنسان الألي.
تابعته فريدة بنظرة ثابتة وكأنها قرأت ما بعينيه لها، فقالت ببسمة هادئة:
_متقلقش عليا أنا كويسة، ممكن حالتي تكون ساءت شوية بس أكيد لما هرجع أتابع مع دكتوري هكون أحسن.
زحف حتى وصل لمقعدها وردد بحزنٍ:
_وليه كل ده من الأساس، انسي اللي قولتهولك وانسي كل شيء أنا عايزك جنبي يا فريدة.. محتاجلك!
ترقرقت دموعها وببكاء رددت:
_وأنا كمان محتاجالك.. زمن احتاجتلك والنهاردة محتاجالك عن أي وقت.. محتاجة إنك تطمني إن كل ده هيعدي، وإن وجودك جنبي وجوازي منك حقيقة.
جذبها إليه بقوة ليضمها بين أضلعه، فتمسكت به وهي تهمس ببكاء:
_أنا آسفة يا أحمد… أنا مكنتش عايزة حياتنا تبتدي بكده بس غصب عني اللي عرفته كان صعب.
طبع قبلة على جبينه ويده تحيط شعرها القصير:
_أرمي كل أوجاعك ليا يا فريدة، أنا جاهز والله أتحمل كل ألم اتعرضتي ليه.
وأبعدها عنه يضم وجهها وهو يواجهها:
_قولتلك اعتبريني سالم وعاقبيني أنا… لو هو اللي قدامك هتعملي أيه؟
احتقنت معالمها بقسوةٍ، تتمنى لو انتزعت عنه عينيه التي تشبه عين زوجها، بالرغم من أنه أكثر جاذبية وأكثره حنانًا لا يتشابه بينهما أي شيء سوى القليل ولكنها تجحم بالنيران فور نطقه لتلك الكلمات، فارتدت للخلف وهي تحذره:
_لا يا أحمد إنت مش هو… إنت مش الشيطان ده.
زحف إليها مجددًا وقال باصرار:
_لو انتقامك منه هيريحك خدي حقك مني، أنا راضي لو ده هيبرد النار اللي جواكي.
تعمقت بتطلعها داخل عينيه بقوةٍ، وهزت رأسها تنفي ما قال، فاتجه يساندها ليخرج بها لغرفته، جلست على الفراش ووجدته يسكب كوب من المياه إليها، فارتشفته على مهلٍ وراقبته وهو يتجه للخزانة ليستعد لتبديل ملابسه قائلًا:
_في بيت مناسب منزلين اعلانه النهاردة، السكرتيرة بعتتلي التفاصيل أيه رأيك تيجي معايا نبص عليه.
هزت رأسها بغير استحسان:
_مش حابة أخرج.. أنا هنام.
استدار يقابلها بعدما نزع قميصه:
_تنامي أيه إنتِ لسه صاحية إنتي وعمران من شوية!
تهربت منه وهي تتجه لفراشه:
_عايزة أرتاح يا أحمد.
هز رأسه بتفهمٍ، واتجه يجذب جاكيته يرتديه ومن ثم صفف شعره وانتهى باقترابه منها يجلس خلفها.
احتسبت بكائها حينما لفحت أنفاسه رقبتها فعلمت بأنه خلفها، ربت على خصلاتها القصيرة وهو يخبرها:
_أنا مش هتأخر.. لو احتاجتي حاجة كلميني.
هزت رأسها إليه، وهي تدعي نومها وحينما تأكدت من رحيله نهضت تتجه لأحد الادراج ثم جذبت الملف التي نقلته منذ الصباح تتمعن به بارتباك لما ستقدم على فعله.
*********
ارتدى بنطاله وزرر قميصه الأبيض، فأتاه صوت طرقات على باب غرفته جعلته يردد:
_ادخل.
ولجت شمس إليه تخطو على استحياء حتى باتت جواره لتطبع صورتها بالمرآة من أمامه، ابتسم بمكر وهو يراقب ارتباكها وقال:
_والله بقى كويس وإنتي كلمتيه وسمعتي صوته أعملك أيه تاني عشان تتأكدي.
فركت أصابعها وتحاشت تطلعها إليه، وبصعوبة قالت:
_ينفع أروح أطمن عليه.
استدار علي إليها وهو يضع ذراعيه بالسترة:
_لأ يا شمس مينفعش، عمر قاعد في شقة اصحاب عمران وحتى لو مكنتش شقة شباب فمفيش بينكم رابط يخليكي تروحيله.
هزت رأسها بتفهمٍ رغم حرقة قلبها المتلهف للاطمئنان عليه، فدنى منها علي يخبرها برفق:
_شمس أنا عايزك تاخدي بالك من تصرفاتك أكتر من كده، ويا ريت تفكري في موضوع الحجاب لإن لا أنا ولا عمران متحملين نشوفك كده.
برقت بدهشة إليه، لم يسبق له أن طلب منها أن ترتديه وأن فعل كانت لترحب بذلك، فاستطرد بهدوء:
_أنا عارف إنك بتبصي لفريدة هانم، بس أنا واجبي إني أنصحك وأحميكِ مقدرش أقدم النصيحة دي لوالدتي حتى لو شايف تصرفها غلط، أنا واثق إنها هتيجي في يوم وهتأخد القرار ده ويمكن لما تبدأي إنتي هي تعملها بعدك.
ردت عليه بحرجٍ اكتظم حنجرتها:
_أنا كنت بفكر من فترة بالموضوع ده من فترة يا علي بس مكنش عندي الشجاعة أخد القرار ده، أنت عارف إن الحجاب لازم يكونله لبس معين ولازم اكون أخدة قراري فيه بدون تراجع.
أحاطها بذراعيه وهو يقربها منه:
_أنا مكنتش حابب أضغط عليكي وكنن أتمنى تأخدي القرار ده من نفسك بس صدقيني أنا مش قادر أتحمل أي نظرة ليكي من حد، عايزك غالية مش مباحة لأي عين تلمحك.. وواثق إنك هتستجيبي لطلبي.. ولو ده حصل هخلي مايا وفطيمة ينزلوا معاكي من بكره يشتروا معاكي اللبس اللي يناسبك، ها قولتي أيه؟
اتسعت ابتسامتها فرحة، وقالت:
_اعتبرني من دلوقتي اتحجبت.
ضمها إليه وطبع قبلة عميقة على جبينها وهو يهمس بفرحة:
_اعتبرتك واتخيلتك بيه.. بس واثق إنك هتكوني أحلى من توقعاتي.. بكره هجي معاكي بنفسي.
هزت رأسها بسعادة، وتركته قائلة:
_هشوف فاطمة.
غادرت من الباب الجانبي بينما وقف هو يستكمل ارتداء حذائه، فتسلل له طرقًا أخرًا على بابه، فصاح:
_ادخل.
انتصب علي بوقفته حينما وجد والدته أمامه، تلاشت ابتسامته البشوشة وهو يراقب اصفرار وجهها وتورم عينيها الغريب، فأجلى صوته:
_فريدة هانم إنتِ كويسة؟
دنت فريدة منه تتطلع إليه بنظرة مطولة، مرتبكة، كادت بالتراجع عما أتت إليه، فحطم صوته الحنون صوت تفكيرها القارع:
_ماما مالك؟
أخفضت وجهها أرضًا وقالت بصوتها المبحوح:
_طول عمرك وإنت كاتم أسراري، يا ترى ينفع أئتمنك على سر أخير يا دكتور؟
رمش باهدابه مطولًا وهو يحاول استيعاب ما يحدث معها، فقطع مسافاته بينهما يحاوط كتفيها بلهفة:
_طبعًا.. كل أسرارك وكل اللي تحبي تقوليه عمره ما يطلع لمخلوق.. بس طمنيني عليكِ عشان خاطري؟
رفعت إليه ما تحمله، فالتقطه منها باستغراب، تفحص صفحات الملف الذي بيده بفضول ازداد اتساع مقلتيه بصدمة ضربته بمقتل، وخاصة حينما تحرر صوتها الباكي:
_عايزاك تعالجني يا علي!
******
ترك ما بيده بملل، ونهض يتجه إليها، صفق الباب وولج للداخل يخبرها:
_وقت الاستراحة… قومي نتغدى بأي مكان.
زفرت بضيقٍ، وقالت دون أن تطلع إليه:
_لسه ساعتين على الاستراحة يا عمران.. روح كمل شغلك.
أغلق الحاسوب من أمامها وهو يردد:
_المدير مبيتعاملش معاملة الموظفين يا مايا، قومي يلا نختفي من هنا.
نهضت عن محلها ورددت بضجر:
_عمران أنا مش عارفة اشتغل منك كل شوية تدخل عليا بحجة شكل، من فضلك سبني أركز أنا كده الحسابات هتبوظ مني.
حاوط خصرها بيده:
_فداكِ وفدا حبنا يا بيبي.
وقبل أن تعترض جذب حقيبتها إليها وهرول بها للخارج تجاه المصعد، فما أن لمحه السكرتير حتى هرول من خلفه يناديه بصدمة:
_مستر عمران حضرتك رايح فين لسه في أوراق مهمة محتاجين امضاء حضرتك عليهم.
وقف قبالته وهو يواجه ضحكات مايسان الشامتة، فجذبها خلفه وهو يواجهه بنبرة حزينة:
_معلش يا حسام خالتي اتوفت ولازم ألحقها.. عن اذنك.
وجذب مايا المصدومة من خلفه وهو يصرخ بها مدعيًا تأثره:
_بينا يا مايا نلحق أمك تودعيها قبل الدفنة، الله يرحمك يا خالتي موتي وقطعتي في قلبي من وأنا تانية اعدادي!
انفجرت ضاحكة وانصاعت ليده التي تقذفها بالمصعد، فرددت بعدم استيعاب:
_انت كارثة أقسم بالله.
عدل من ياقة جاكيته بعنجهيةٍ:
_أنا محدش يتوقعني..
ودنى منها بقربٍ خطر وهو يهمس باغراء:
_مينفعش امك تموت وأسيبك في يوم زي ده من غير ما أقدم تعازي حارة تصبرك على الهم ده، شوفتي إن جوزك قلبه حنين ويميل لحبيبه من على بعد!
دفعته للخلف وهي تشير له:
_شوفت.. ابعد بس.
كاد بأن يقترب منها مجددًا فصاحت به:
_عمران اطلع من دور المتحرش ده، احنا في مكان شغل!
غمز برماديته بمشاكسة:
_قلبك مصيره يلين يا جميل.
ضحكت رغمًا عنها، وصفقت كف بالاخر وهي تردد بدهشة:
_جننتني معاك.. مبقتش عارفة إنت وقح ولا مجنون ولا بتستهبل ولا طبعك أيه؟
دنى منها ليحيط المصعد خلفها بذراعيه المقيدة لحركتها، وردد قبالة وجهها وعينيه لا تفارقها:
_أنا وقح ومجنون وحنين وعاشق ومتهور أنا كل الرجالة دول في بعض، كوكتيل!!
خفق قلبها بشراسة جعلتها تستمد أخر ثبات بعقلها، فأبعدته وهي تصيح بتحذير:
_الاسانسير فيه كاميرات يا عمران.. بطل فضايح!
ابتعد وهو يزفر بغضبٍ، فرفع عينيه للكاميرا بنظرة حانقة وطرق بخفة على بابه متمتمًا:
_مش بيتحرك ليه ده.. عطلان ولا أيه!
كتمت ضحكاتها بصعوبة وراقبت غيظه باستمتاعٍ واضح على معالمها.
******
انسحبت من أمامه وتركته يقرأ الملف بتمعنٍ، وحينما انتهى من القراءة وضعه جانبه على الفراش بصدمة، بالرغم من امتلاكه لتلك الخبرة المكتسبة بالطب النفسي كيف لم يلاحظ مرض والدته؟
تعاني منه منذ أعوام وكانت قبالة عينيه طوال ذاك الوقت كيف لم يلاحظ؟!
اللعنة عساه أصبح طبيبًا فاشلًا لتلك الدرجة، وكأن القدر يسوق له رحلة مريرة كالعلقم يعيشها مرة أخرى مع والدته مثلما يخوضها حتى تلك اللحظة مع زوجته..
كيف سيحتمل سماعها تتحدث بالسوء عن والده، سيمر بأصعب اختبارًا قد يساق إليه والمؤلم أنه لم يعتاد رؤية والدته ضعيفة وتبكي من أمامه كيف سيتمكن من عالجها وهو من سيزوره الضعف ويكسره دون رأفة!
سحب علي نفسًا مطولًا وأسرع يخطو من خلفها، فطرق باب غرفة عمه وناداها بحزنٍ:
_ماما افتحي!
لم تستجيب إليه، فعاد بكرر طرقه ويناديها:
_من فضلك افتحي وفهميني إزاي كنتي بتتعالجي كل ده وأنا معرفش! وليه قررتي أني أكون مسؤول عن حالتك دلوقتي، عندي اسئلة كتير هتقتلني افتحي وجاوبيني عنها عشان خاطري.
لم يستسلم بطرقاته القوية، وفجأة امتنع عنها حينما وجدها تفتح الباب وهي تحدجه بقوة غريبة ارتدتها بحرفية، لتشير بتحذير وصرامه:
_بطل تخبط بالطريقة المزعجة دي وأوعى تكسر الباب، أنا مش عايشة هنا في غابة عشان كل شوية واحد فيكم يكسر عليا الباب، كفايا عمك وأخوك السخيف اللي أكيد هيتعاقبوا… من فضلكم كفايا تكسروا الأبواب القصر اتبهدل!!
امتنع عن الضحك، يبدو أنه فاته أكثر من أمرًا، فرفع يديه باستسلام:
_مكنتش هكسره صدقيني!
هزت رأسها بعدم اقتناع وقالت:
_بكره هجيلك المستشفى ونتكلم، هنا لأ.. قولتلك الموضوع سر.. أيه مبتعرفش تصون أسرار المرضى يا دكتور؟
أدمعت عينيه تأثرًا بقوتها، فانحنى يقبل كلتا يديها وردد لها ببحة صوته الباكي:
_بعرف.. وبالذات لو حاجة تخصك.
تهاوت دمعة على وجنتها، فوجدت ذاتها تندفع برأسها على صدره هامسة ببكاء تحاول محاربته:
_أنا بحبك إنت وأخوك وشمس يا علي… عايزة أعيش حياة طبيعية بعيد عن كل اللي بيطاردني ده… من فضلك ساعدني زي ما ساعدت فاطيما.
ربت عليها وهو يخبرها:
_هنتخطى كل ده مع بعض… أنا هسيب كل حاجة عشانك.. مش هنزل المستشفى ولا أي مكان غير لما أطمن انك بقيتي بخير.
ابتعدت عنه تزيح دموعها وتلتقط نفسًا يسهل لها التوقف عن البكاء قائلة:
_لأ… حياتك مش هتقف عشاني يا حبيبي، انزل شغلك وسبني أخد الخطوة الجاية لما أحس اني قادرة أتكلم وأبدأ هجيلك.. متضغطش عليا من فضلك.
يعلم بأنها من المؤكد اتخذت عدة سبل عريقة لتصل لباب غرفته تطالبه بعلاجها والفصح عن طبيبها النفسي وما يتعلق بها، لذا رفض الضغط عليها وقال:
_أنا جاهز وموجود في أي وقت.
منحته ابتسامة متسعة وهى تربت على يده، وقالت وهي تبتعد عنه:
_هروح أبص على شمس… بقالي فترة مقصرة معاها ومبقتش عارفة حاجة عنها.
قال وهو يتبعها:
_راكان اتقتل.. طلع وراه مصايب.. الحمد لله إن ربنا نجد شمس منه.
جحظت عينيها صدمة:
_ااتقتل ازاي! ومصايب أيه؟
لمح زينب وهي تقترب منهما فقال:
_شمس هتحكي لحضرتك.. أنا هنزل أوصل أخت فاطمة في طريقي، وبعدين هروح المستشفى أقدم استقالتي لاني قررت افتتح المركز الخاص بيا ودلوقتي بس لقيت مين المدير المناسب؟
وكأنه يتحدث بالالغاز، موت راكان ومن ثم استقالة ومن ثم يخبرها بمدير وكلمات غريبة ختمها حينما قال ببسمة واسعة:
_حضرتك هتكوني مديرة المركز.. هلاقي مين يدير المستشفى أفضل من فريدة هانم الغرباوي!
بدت متخبطة مما تسمعه، فقالت وهي تتجه لغرفة ابنتها:
_انزل انت عشان متتاخرش انت وزينب وبليل نتكلم.
أومأ برأسه لها فتركته واتجهت لغرفة شمس ومنحت زينب ابتسامة هادئة وهي تشير لها بمحبة:
_بالتوفيق يا زينب.. بتمنالك يوم لطيف.
ابتسمت الاخيرة بامتنان:
_شكرًا يا فريدة هانم.
وتركتها وانضمت لعلي الذي تحرك بها على الفور.
********
انتهى أيوب من أول محاضراته وخرج يتجه للاستراحة الخارجية، فتعجب حينما وجد سيف بهبط من سيارة الاجرة ويسرع إليه بابتسامة واسعة، فنهض يتجه إليه باستغراب:
_سيف.. بتعمل أيه هنا؟؟
ترك البلطو الطبي منه على الاريكة وقدم له العُلبة التي يحملها قائلًا:
_طب سبني أخد نفسي الأول.
منحه نظرة ساخرة:
_على أساس انك جاي مشي!
واتجهت عينيه لتلك العلبة التي يحملها، فتساءل بذهول:
_ده أيه؟
جلس على الاريكة وهو يجذبه ليجلس جواره قائلًا بحماس:
_خمن يا ابن الشيخ مهران.
ضحك على طريقته الطفولية، وقال وهو يصدر صوت بأنفه:
_أممم.. أعتقد من ريحتها انها بيتزا ومش أي نوع ده نوع فاخر من الأخر..ريحة السجق باينه فيها يعني النوع اللي أنا بحبه!
ضحك الاخير وهو يهز رأسه مؤكدًا:
_مجاليش قلب اتغدى من غيرك فقولت أجي نتغدى مع بعض قبل المحاضرة بتاعتي.
برق بدهشة:
_انت سايب الجامعة وجايلي هنا عشان تتغدى مع بعض يا سيف!! انت بتهرج صح!
حرر العلبة وهو يشير له:
_ههرج ليه مجاليش قلب فعلًا أكل من غيرك.
حك لحيته بحزن وردد:
_أنا آسف إنك قطعت المشوار ده كله على الفاضي، إنت عارف اني بصوم كل اتنين وخميس والنهاردة الاتنين يا سيف.
لطم جبهته بتذكرٍ وهمس بضيق:
_ازاي فاتتني دي!!
ابتسم له أيوب بمحبة على ذاك الصديق الحنون الذي يقطع مسافات لأجل طعام يفضله هو، فقرب إليه قطعه البيتزا قائلًا:
_يلا كل إنت عشان تلحق جامعتك، قدامك مشوار طويل يا دكتور معرفش حقيقي هالك نفسك ليه في المواصلات!!
وضع القطعة من يده بالعلبة وأغلقها وهو يشير له بابتسامة مشاغبة:
_هنسخنها بليل على المغرب.. هتشاركيني فيها يعني هتشاركيني فيها.
هز رأسه بتعب وقال:
_يا سيف اتغدى وروح جامعتك هشيل ذنبك لبليل أنا!
عانده بنظرة جعلت الاخير يخبره بعد تفكير:
_طب خلاص قوم.. كده كده ده معاد شغلي، المطعم اللي بشتغل فيه بيقدم سندوتشات برجر انما أيه عظمة.. انا عازمك يا سيدي بدل ما أشيل ذنبك.
ضحك وهو يجذب كتبه ويلحق به قائلًا:
_فل أوي، اعمل حسابي في أربع سندوتشات مدام أكله حلو.
منحه نظرة محتقنة وصاح:
_انت داخل على طمع يا دكتور وده مش كويس لا لصحتك ولا لجيبي!
أشار بعدم مبالاة:
_جيبك وجيبي واحد يا بشمهندس، ولو قصروا هندخل على جيب جو!
ضحك بصخبٍ والاخير يشاركه الضحك، وفجأة تلاشت ضحكته حينما سأله أيوب باهتمام:
_طمني صديق عمران بقى كويس؟ أنا استغربت انه مشي امبارح حقيقي شخص لطيف جدًا من ساعة ما قعدت معاه وأنا محتار ومش مصدق إن في شخص كده!
تجهمت معالمه فجأة فسدد له نظرة اضحكت أيوب رغمًا عنه ومع ذلك همس بخوف:
_في أيه؟ مالك؟
جذب سيف البيتزا من يديه واتجه ليغادر هادرًا بانفعال:
_أنا غلطان اني جيتلك… ابقى خليه ينفعك.
وتركه ورحل بينما الاخر يهرول من خلفه ضاحكًا:
_استنى بس يا سيف أنا بهزر معاك… خد هنا بكلمك..
وركض خلفه وضحكاته تصل للاخير، ليصرخ من بين التقاط انفاسه:
_أقف يلا.. مش قادر أخد نفسي… عالجني بسرعة نفسي بيروح شكلي عندي كرشة نفس من البيتزا الفخمة دي!!
يتبع…
توقفت سيارة علي أمام الجامعة الخاصة بطب الأطفال بلندن، فاتجهت بعينيها تجاه زوج شقيقتها تشكره بابتسامة جذابة:
_مش عارفة أشكرك ازاي يا علي، مكنتش عايزة أتعبك معايا من البداية كده، كفايا إنك صممت إني أكون معاكم في نفس البيت ورفضت قعدتي في الأوتيل، وصممت إني أكون جنب فطيمة ودي في حد ذاتها كبيرة أوي ليا.
انجرف بجسده تجاه مقعدها المستكين جوار مقعد قيادته، ليمنحها نظرة مندهشة انهاها بقوله المستنكر:
_وبعدين معاكي يا زينب.. هو أنا مش نبهت عليكي وقولتلك إنك زي شمس بالظبط.. وأعتقد إنك معملتيش بكلامي لإن مفيش أخت بتفضل تشكر أخوها كل شوية بالشكل ده.
اختصرت بسمة متهكمة على شفتيها وإن كانت مؤلمة بعض الشيء:
_يمكن لإني مجربتش الاهتمام ده من اخواتي فمش متعودة عليه بس.
ينجح دائمًا بلمس أوتار الآلآم النفسية العميقة لاعتياده لمسها بمهنته، يعلم بأن البشر بأكملهم بحاجة إلى طبيب نفسي حتى وإن كان متكاملًا فمن منا لا يحمل ألمًا يدفعه لخوض مرحلة مؤلمة من جراعات لا يود ارتشافها!
تنهد علي مطلقًا صوت أنفاس مسموعه، وقال وعينيه تحيدان عن التطلع بها، بالنهاية هي تجوز له ويتوجب غض بصره عنها:
_بصي يا زينب أنا مبحاولش أمارس مهنتي عليكي، بس خليكي متأكدة إني موجود وجاهز أسمعك في أي وقت من الأوقات.. وبقولك كده لإني حاسس إن في جواكي جرح كبير بتحاولي تداريه.. يمكن ذكريات مش لطيفة جواكِ أو مثلًا تكوني مريتي بتجربة صعبة.. فصدقيني لو احتاجتي مساعدتي في أي وقت هتلاقيني جنبك.. ممكن تعتمدي عليا.
فور ذكره لتجربة سابقة احتل وجدنها صورته أمام عينيها، فانقبض قلبها وكأنه على وشك التخلي عنها ليلوذ بالفرار ، ابتلعت زينب ريقها ببطءٍ وهي تحاول تنظيم أنفاسها المضطربة لمجرد أن تذكرته، هو بالنسبة لها أبشع ذكرى، أبشع تجربة، أبشع كابوس، الأبشع في كل مقارنة ستخوضها طوال حياتها.
استعادت اتزانها وهي تحاول رسم ابتسامة تخدع بها من تظن بأنه اقتنع وانخدع بها:
_أكيد يا علي… بشكرك مرة تانية.
حررت باب السيارة وخطت بخطوات سريعة كأنها تفر من وحش يمد بساطه ليسحبها لقوقعة الماضي المؤلم، وفجأة تبلدت قدميها حينما هبط من خلفها يناديها:
_دكتورة زينب استني.
استدارت إليه ونسبه للقلب الطبيبة لاح لها بابتسامة صغيرة، فعادت له ببسمة رقيقة:
_خير يا دكتور علي!
ابتسم لها وهو يقترب، فأخرج من جيبه مبلغًا من المال وبترددٍ رفعه قبالتها وكأنه يجابه الحرج:
_زينب لو رفضتي مني الفلوس دي همشي وأنا زعلان منك.. أكيد إنتي معاكي عملة مختلفة ويمكن تحتاجي أي شيء.. فخليهم معاكي.
رفعت حقيبتها وكتبها إليها بخجلٍ، ودت لو انشقت الأرض وابتلعتها قبل أن تُوضع بموقف هكذا، فدنى منها علي أكثر بعدما لاح له فكرة ستعاونه برفع الحرج عن كلاهما:
_بالمناسبة ده مقدم من مرتبك عشان تعرفي إني كريم معاكي.. مفيش مدير بيدي موظفينه فلوس قبل ما يستلم الشغل.
رفعت عينيها إليه متسائلة بدهشة:
_شغل أيه؟
سعد بمبادلتها سؤالها:
_أنا بفتتح مركز ضخم وأكيد هحتاج لدكاترة أطفال وإنتي أول واحدة في التيم طب الاطفال ولا ناوية تتخلي عني!
ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهها وقالت:
_ما شاء الله.. بجد خطوة ممتازة يا علي ألف مبروك مسبقًا.
وبتوترٍ استطردت:
_بس أنا لسه قدامي سنين في الجامعة مينفعش أشتغل من دلوقتي!
بدد ارتباكها وقلقها حينما قال:
_دكتورة تحت التمرين يا دكتور… كده كده هيكون دكتور سيفو اتخرج لان دي أخر سنة ليه فهتكوني تحت ايده لحد ما تاخدي الشهادة.
تساءلت باستغراب:
_دكتور سيفو مين ده؟
ضحك بمرحٍ وهو يوضح لها:
_صديق لينا أنا وعمران هينضم لينا.
هزت رأسها بفرحةٍ وقالت بحماس طغى على نبرتها:
_أكيد هفرح لو كنت معاك يا علي..
ابتسم لها بوداعةٍ وحرك رماديته للمال الذي يحمله قائلًا بعبثٍ:
_طيب أيه هفضل رافع ايدي بالفلوس كده كتير ولا أيه يا دكتور؟
تنحنحت وهي ترفع يدها بارتباكٍ لتجذب منه المبلغ قائلة باستحياءٍ:
_شكرًا يا علي.
منحها نظرة غاضبة واستعاد وقفته للسيارة مرددًا:
_نفس الكلمة اللي هتخضعني لدكتور نفسي على الصبح… ماشي يا زينب هشوفك على الساعة 5 عشان أرجعك البيت.
وفتح باب السيارة وهو يتابع لها:
_معاكي رقمي لو احتاجتي أي حاجة كلميني.. أوكي؟
منحته ابتسامة وإيماءة صغيرة من رأسها، والامتنان لوجود زوج أخت مثله بحياتها فجأة يزداد مع كل معروف يقدمه لها، فعادت للداخل بعد مغادرته تستكشف مقرها الدراسي الجديد بارتباكٍ وخوف تغلب عليها حينما وجدت أمام عينيها المحرمات تندرج بكل زواية.
وكأن هؤلاء يستبحن المحرمات بكل مكان حتى مكان مقدس كالدراسة، هنا يتمدد اثنين يمارسان القذارة أمام أعين الجميع وكأنهما حيوانات مجردة من الحياء، وعلى الطرف الاخر مجموعة من الشباب والفتيات يلهون بصيحاتٍ مقززة وكلمات بذيئة..
لوهلة شعرت وكأنها ستتقييء ولكنها تماسكت وابتعدت عن كل ذلك، فدخلت للمبنى الجامعي تتأمل رؤية فتاة واحدة عربية.
لاح لها الأمل بعد رؤية عدد بسيط من الفتيات المحجبات وتمنت أن تتعرف على احداهن، وان تكون منهن من ستشاركها فصلها، فاتجهت للفصل الصغير التابع إليها حتى وإن كان مازال على محاضرتها نصف ساعة ولكنها على الأقل ستكون على ما يرام بعيدًا عن كل تلك القذارة.
فتحت “زينب” باب الفصل واستعدت للدخول فجحظت عينيها صدمة وتبلد جسدها وكأنها سُكب عليها ماء مثلج للتو حينما وجدت فتاة وشابًا في وضعٍ مخل جعلها تتراجع للخلف وهي تبرق بصدمة خاصة حينما انتبهت لها الفتاة ونهضت تقترب منها وهي تصيح بجراءة:
_هيي أنتِ لماذا تقتحمين المكان هكذا؟
بينما رفع الشاب نفسه وهو يغمز لها بوقاحة:
_دعيها إيجا.. ربما تود أن تشاركنا.. ما رأيك يا فتاة فلتنضمي إلينا!
تبلد حركتها وكأنها كانت اشارة صريحة إليه بموافقتها، ولطالما ينتابهم هوس جنوني تجاه الفتاة العربية التي تخبئ جسدها خلف تلك الثياب المحتشمة.
جذب بنطاله يرتديه واقترب إليها ببطء، والاخيرة تحاول التراجع للخلف ولكن قدميها كانت ملتصقة بالأرض تأبى التزحزح وكأن مشهد من ماضيها اللعين يساق لها من جديدٍ.
##
_يمــان… إنت فين؟ من فضلك الوقت اتاخر وأخويا هيزعقلي إنت روحت فين؟
نادته وهي تبحث عنه بين طوابق المنزل المتسع الشبيه بالڤيلا، لا تعلم كيف تمكن من كسب قلبها ومن بعده ثقتها ولم يمر على تعرفها به شهرين، كل ما تعلمه بأنها أحبته وأحبت اهتمامه الزائد بكل تفاصيلها.
تعشقه حينما يسألها بمنتهى الحنان هل يصيبها مكروه أو هل هي على مايرام؟
أسئلة فشلت يومًا بالحصول عليها من أخواتها وكأنها لقيطة يعطفون عليها بنفقة الطعام فقط، ومنذ أن تعرفت به كان يغدقها بالثياب والمجوهرات الثمينة وحينما كانت ترفض ذلك كان يغضب وبشدة وهذا ما كانت تخشاه.. غضبه!
كانت أحيانًا تشعر وكأنه يمتلك شخصًا أخرًا داخله، شخصًا يتلبس، جسده وقتما تستميل غضبه، ولكن قلبها اللعين مازال يكرر عشقه لشخصه وفتنة شخصيته المختلفة عن كل الرجال، فعشقته ويا ليتها ما فعلت!
تراه الآن أمامها، يخطو بكل ثقته بعدما تخلى عن قميصه وبقى ببنطاله فقط، يستعرض قامة جسده وتكوينه القاس من أمام عينيها، حتى بات يقف نصبها يقدم لها كأسًا من العصير ويمنحها بسمة متلاعبة:
_كنت بحضرلك حاجة تشربيها، ميصحش تدخلي بيتي لأول مرة ومضيفكيش بالشكل المناسب يا حبيبتي.
ابتلعت ريقها بتوترٍ، ورفضت تتناول منه الكوب، تراجعت للخلف وتمرد عنها الذعر المختبئ ليشدو بين مقلتيها، وبصعوبة أجبرت لسانها على النطق:
_يمان أنت ليه قلعت قميصك؟
واستدارت راكضة للأريكة تحمل حقيبتها وهي تردد برجفة:
_آإ.. أنا عايزة أمشي… من فضلك روحني.
نظراته تجاهها كانت غامضة مثل شخصيته الغريبة، وجدته ينحني ليضع العصير على الطاولة والحزن يتردد إليه، متابعًا:
_معندكيش ثقة فيا يا زينب! يعني كنتِ بتصحكي عليا طول الأيام اللي فاتت لما قولتيلي أنك بقيتي بتثقي فيا!
حركت رأسها والتوتر يصل إليها زحفًا مع كل خطوة يقترب فيها منها، فرددت بتلعثم:
_بثق فيك يا يمان، بس أأا… أنا اتاخرت وإنت عارف أخويا ما بيصدق أرتكب أي غلطة عشان يآآ… آآ..
انتزعت كلماتها حينما بقيت محاصرة أمامه والحائط من خلفها، فرفع يده يطرق على الحائط بغضب وصل من صوته القاتم:
_اخوكي ده لو عاد يمد ايده الو*** دي عليكي هقتله!
رفعت عينيها لعينيه بهلعٍ انتباها حينما تلاشى لون حدقتيه المميز وبات محمرًا كجمرات النيران المشتعلة، فانسابت دموعها وهمست إليه بتوسلٍ:
_يمان أرجوك عايزة أمشي.
منحها ابتسامة غريبة، معاكسة لاحمرار عينيه وتراجع عنها وهو يشير:
_اشربي العصير وهنتحرك فورًا.
تعلقت نظراتها بالكوب بارتباك، تخشى من سماع القصص المستهلكة بأن يكون وضع لها أي شيء، قلبها تألم من مجرد رؤيتها مشهد كذلك، هو الوحيد الذي وثقت به وسيقتلها إن كان ينتمي لتلك الفصيلة الوضيعة.
اغتصبت ابتسامة تخادعه بها، وهي تدنو من الطاولة، تلتقط الكوب باصابع مرتشعة وتقربه لفمها، فتعمدت أن تسقطه أرضًا.
تراجعت للخلف مدعية احراجها، وانحنت تجمع الكوب المنكسر مرددة:
_أنا أسفة مقصدتش… هلم حالًا الازاز وهنضف المكان.
وضع ساقًا فوق الاخرى وهو يراقبها بابتسامة ساخطة، فأشار بيده:
_قومي وابعدي عن الازاز يا زينب.
ونهض فجأة إليها يقترب حتى جذب معصمها ودفعها خلفه فانخفض ضغط دمائها، ويدها الاخرى تستميت بتحرير معصمها:
_يمان إنت واخدني على فين؟ سيب ايدي من فضلك أنا عايزة أروح!
دفعها بقوة تجاه تلك الطاولة المستديرة، فاستقامت بوقفتها خاطفة نظرة للمكان من حولها، فوجدت أنها بالمطبخ ووجدته يتجه للبراد فجذب دورق من نفس العصير يرتشف منه أمامها وألقاه بقوة أسفل قدمه، فتراجعت بخوف من رؤية الزجاج ونظراتها العاجزة عن فهم ما يحاول فهمه تتجه إليه فوجدته يصيح غاضبًا:
_أكيد مش هأذي نفسي لو كنت حطتلك حاجة في العصير زي ما أنتِ شاكة فيا.
وتابع وهو يغادر المطبخ بعصبية:
_هغير هدومي وهنزل أوصلك.. لو عايزة تمشي لوحدك مش همنعك انتي عارفة طريق الباب.
غادر للطابق العلوي تاركها تفرك أصابعها بضيقٍ مما فعلته، بينما يتشح هو بابتسامة خبيثة ليتها تراها، فخرجت للردهة تنتظر هبوطه.
استغرق خمسة عشرة دقائق وهبط إليها بملابسه السوداء المعتاد بارتدائها وكأن اللون الاسود لا يخص الا هو، فمنحها بسمة ساخرة:
_غريبة انك لسه هنا! مخوفتيش أحاول أكرر اللي كنت بعمله أحطلك تاني مخدر وأعتدي عليكي مثلًا!!
لعقت شفتيها في محاولة لابعاد الجفاف عنها يكفيها مرارة حلقها:
_يمان أنا أسفة، أنا والله بحبك وبثق فيك بس اللي عاشته فطيمة أختي واللي أنا عشته مع اخواتي خلاني فقدت الثقة في كل اللي حوليا حتى نفسي!
أبدى تعاطفه معها فدنى منها يفرق ذراعيه قائلًا بمكرٍ:
_أنا مش عايز غير حضنك يا زينب… وأنا واثق إني العوض ليكي عن كل المعاناة اللي عيشتها.
وضعت رأسها أرضًا وضمت حقيبتها مجددًا وهي تجاهد خروج الكلمات التي حتمًا ستغضبه:
_مش هقدر أقربلك غير لما يكون في بينا رابط رسمي يا يمان… أنا جيت هنا معاك عشان متزعلش مني وتشيل كل أوهام عدم الثقة دي من راسك لكن غير كده سامحني مش هقدر.
أخفض ذراعيه وأطبق أظافره بلحم يديه معًا بقوةٍ وغضبٍ يعاكسه تلك الابتسامة الجامدة ونبرته:
_ولا يهمك… أنا مقدر كل ده ومستني لما اليوم ده يجي وتبقي مراتي يا زينب.
واتجه للباب يكرر لها:
_يالا عشان متتأخريش.
استعادت وعيها في تلك اللحظة التي رفع بها يده ليجردها من حجابها، وكأنه بلمسته ألقى عليها لعنة، فدفعته بكل قوتها للخلف وركضت للخارج كمن لقت شبحًا يود افتراس لحمها.
والأبشع لها بأنه هرول من خلفها بغيظٍ على ما فعلته، اتجهت زينب للدرج الضخم تهبط للاسفل وعينيه المرتعبة تتفحص ذاك الذي يهبط من خلفها.
التوى كاحلها وكادت بالسقوط، فاستندت ذراعيها على من يقابلها في لحظة صعوده للطوابق العلوية حيث يختص الطابق الاخير من المبنى تاركًا الطوابق الاولى للسنوات المبدئية للطلاب الاصغر سنًا ليتفاجئ بتلك التي تندفع بجسدها نحوه ووجهها مسلط للأعلى!
شعرت بأن جسدها يستند على جسدًا قاس، يحيل عن سقوطها أرضًا، فاستدارت برأسها للأمام لترى ماذا يحدث معها؟
وجدته يصوب عينيه لها بنظرة مهتمة لمعرفة ما يصيب تلك الفتاة المحجبة، فضيق عينيه بتيهةٍ وهو يحاول تذكر أين تمكن من رؤية تلك الملامح المألوفة إليه؟
بينما كانت هي تجد الغوث قبالتها وإن كان بأي شخصًا سيظهر لها بذلك الوقت، فاعتدلت بوقفتها تترجاه ببكاء:
_ساعدني من فضلك… هذا الشاب يلحق بي ويريد الاعتداء علي!
تحركت حدقتيه المشتعلة بغضب تجاه ذاك الشاب العاري من خلفها، والذي أشار له بكل فظاظة:
_تراجع عنها والا سأحطم عنقك.. دعها لي وأعدك بأنها ستستمتع برفقتي كثيرًا.
احتل الغضب كل خلية بجسد سيف، فجذب معصمها ليرغمها على هبوط الدرج لتلك الطرقة، وقدم لها كتبه والبلطو الخاص به، ثم نزع عنه ساعته الباهظة ليضعها فوق الكتب ومازالت زينب تراقب ما يفعله باستغرابٍ، وقبل أن تتمكن من تحليل ما يفعل وجدته يصعد الدرج بخطوات بطيئة بدت خطرة للغاية، وقد صدق حدسها حينما انهال على ذاك اللعين بلكمة قوية جعلته يسقط عن الدرج ليستقر أسفل قدميها.
هبط إليه سيف ودفعه ليجثو من فوقه، ويديه تقدم لها ما تلاقنه تلك السنوات من تعليم قابض بالملاكمة، فجعل وجهه كالخريطة العابرة، لا يعلم ذاك الوقح بأنه لم يكن ذلك الشاب الذي يقمع قوته لأبشع درجة ونادرًا ما يسوقه أحدٌ ليدافع عن نفسه، وللعجب أنه يفعلها للمرة الاولى ولأجل تلك الفتاة!!
أربعة سنوات قضاها بتلك الجامعة ولم يجرأ يومًا على رفع يده على أحدٌ من قبل، كان يستقيم ويمضي بمفرده دون صحبة، لإنه وببساطة هو الشاب الهادئ الذي يفضل البقاء بمفرده منعزلًا، حتى بتجمعات أخيه واصدقائه كان يختلي بنفسه بغرفته للمذاكرة فقط، لم يعرف صديقًا قط فكان يوسف هو الأخ والصديق والأب وكل شيء يمتلك، حتى زاره أول صديق “أيوب بن الشيخ مهران”.
ارتعبت” زينب” وهي تراقب ما يحدث أمامها، وقد تسنى لعقلها تذكر ملامحه، ويا لحظها هو نفس الشاب اللطيف الذي قابلته بالمطعم ذاك اليوم وقدم لها المثلجات واعتذر أكثر من مرة بلباقة عن وقاحة صديقه، لا تعلم لما ابتسمت وهي تتابعه بنظرات ساكنة.
جذب سيف رأسه إليه وصاح بحدة:
_استمع لي أيها المعتوه، إن لحقت الفتاة مجددًا أعدك بأنني من سيقتلع عنقك الوضيع هذا، هل سمعت؟
أومأ برأسه عدة مرات والذعر يفترسه من ذاك العتي، فدفعه بركبته وهو يأمره بصرامة:
_والآن اغرب عن وجهي.
فور سماعه لتلك الكلمة رحل راكضًا، فكان يخطو الدرج وكأنه سيحلق من فوق كل ثلاثة درجة، حتى سقط مرتين وهو يلوذ بالنجاة، بينما انتصب سيف بوقفته بثقةٍ وهو يعود ليسترد كتبه والبلطو الخاص به وأخيرًا ساعته، متسائلًا باهتمام:
_انتِ كويسة؟
هزت رأسها ويدها تحاول ازاحة دموعها عنها، ورددت بصوتٍ منتحب:
_لولاك مش عارفة كنت هكون كويسة ولا لأ..
وتابعت بارتباك وهي تتجه للدرج، فجلست عليه تجاهد ارتجاف جسدها:
_ده أول يوم ليا هنا ومكنتش أعرف إني هشوف كل المناظر المقززة دي وأخرهم في الClass، أنا مش عارفة إزاي مسموح بالقرف ده جوه الجامعة.
ابتسم ساخرًا على جملتها، واتجه نهاية الدرج مجلس مناسب له، ليجيبها:
_هنا بيتسمى تحرر وحرية شخصية وممكن لو حد سمع اعتراضك هيسموه بالجهل.
تهاوت دموعها بانكسار وسألته وهي تستدير بجلستها إليه:
_يعني أيه؟ أنا هكمل وسط القرف ده السنتين اللي فاضلين ليا؟؟
وتابعت بانهيار تام:
_أنا مستحيل أقدر أندمج مع القذارة دي.. أنا كده مستقبلي هيضيع!
شفق عليها حقًا، فإن كان هو رجلًا يجيد صعوبة بالتعامل مع ذلك الوضع الذي سبق لاخيه الخوض به لذا يصمم عليه بجنون أن يزوجه سريعًا فكيف لفتاة تحمل رؤية كل تلك المشاهد المقززة.
أجلى سيف صوته المحتبس وقال:
_مضطرة تتحملي الوضع ده مؤقتًا يا آ…
رفعت عسليتها إليه وعلى استحياءٍ قالت:
_زينب.
ابتسم لها وهو يستطرد:
_أنا عذرك وفاهمك.. علشان كده هنصحك باللي قدرت أتخطاه هنا طول السنين دي.
سألته وعينيها تتابع كتبه بفضول لمعرفة بأي صف هو:
_هو إنت في سنة كام؟
لمح نظراتها الفضولية التي تود استكشاف كتبه، وقال بصوته الرجولي:
_أنا في أخر سنة، وكان عندي حلم عبيط أكون دكتور جامعي بس لما جيت هنا وقررت الاستقرار غيرت رأيي لأني مش هقدر أتكيف على الوضع ده فالأفضل اني اتخرج بسرعة واستلم شغل بعيد عن هنا بسرعة.
وجاء دوره ليتساءل:
_دي أول سنة ليكي؟
هزت رأسها نافية وأجابته:
_التانية.
بنفس ابتسامته قال برزانة وتعقل:
_طيب بصي يا زينب، عشان تعدي اللي فضالك هنا لازم تكوني واعية ومدركة للي هتخوضيه هنا، أولًا متدخليش فصلك الا في معاد المحاضرة بالدقيقة ويُفضل تكوني أخر واحدة تدخلي الفصل وأول واحدة تطلعي منه، أول ما المحاضرة تنتهي مش بس تسيبي الفصل وتنزلي لا الجامعة كلها…
هزت رأسها بلطف وهي تستمع له باهتمام وكأنه يلقنها نصائح للخلاص، فتابع هو:
_وأوعي تكوني صداقات مع أي حد، لإن للأسف مش هتقدر تفهمي عقليتهم ولو حصل ممكن تجيبي لنفسك مشاكل انتي في غنى عنها، لو حظك كان حلو واتعرفتي على بنت متدينة زيك تمام محصلش خليكي في نفسك وبس، أي شخص حاول يضايقك انسحبي من المكان فورًا ومتفكريش إنك بلجوئك لادارة الجامعة هتقدري تاخدي حقك، لإن القوانين هنا شوية مش منصفة لينا.
عادت بتحريك رأسها إليه، فسألها مجددًا:
_انتي قاعدة في سكن للطالبات؟
نفت باشارة جديدة من رأسها وكادت بأن تجيبه فأوقفها رنين هاتفها، أخرجته بارتباك من حقيبتها وهو يتابعها باهتمام انقلب لقلق حينما رددت:
_ألو… أيوه سمعاك.. لأ أنا آ…
رفعت الهاتف إليها فانصدمت حينما وجدته مغلق بعد انتهاء بطاريته، فهمست بضيق:
_ده وقته هيقلق عليا!
لا يعلم لما انتابه ضيقًا وغيرة غريبة وكأنه وقع في عشق فتاة منذ أعوامٍ! عنف ذاته الغريبة ونظف حلقه قائلًا:
_لو حافظة الرقم ممكن تطلبيه من على موبيلي!
وكأنه اليوم أتى بنجدة كوارثها، منحته زينب نظرة ممتنة ورددت بحرجٍ:
_لو مش هتقل عليك يعني.
ابتسم وهو بستقيم بوقفته ليخرج هاتفه:
_لا أبدًا… تحت أمرك.
قدم لها الهاتف ولكنها فضلت بأن تملي عليه الأرقام، فعبث باللائحة يضع الأرقام من خلفها، وحرر زر الاتصال فضيق عينيه هاتفًا باستغرابٍ:
_ده رقم علي!!
رفرفت باهدابها بدهشة:
_إنت تعرفه؟
أكد لها وهو يتابع انطلاق رنين المكالمة:
_طبعًا دكتور علي صديقنا هو وعمران أخوه.
زوت حاجبيها بذهول وابتسمت وهي تردد بتخمينٍ مرح:
_يكونش إنت الدكتور سيفو اللي كان بيتكلم عنك من شوية!
وما كاد باجابتها حتى أتاه صوت علي يجيب:
_دكتور سيفو بيتصل بنفسه، ده أيه اليوم المميز ده أكيد البطل فكر في عرضي وقرر يبلغني موفقته صح؟
ضحك سيف وأجابه بمزحٍ:
_حبببي يا دكتور أنا مستغناش عنك وإنت عارف بس مش أنا اللي كنت عايز أكلمك هي صدفة باحتة بس لذيذة.
وقدم الهاتف لزينب التي تتابعه بعدم استيعاب، فقالت بخجل:
_علي!
صمت قليلًا وراح يتساءل بدهشة:
_زينب! إنتي اتعرفتي على سيف؟
ارتبكت قليلًا وهي لا تعلم أن كانت تخبره بما حدث لها بأول يوم دراسي أم لا، بينما يتابعها سيف بعقلٍ مشغول بالعلاقة التي تجمع علي بتلك الفتاة؟
استخرجت صوتها أخيرًا وأجابته:
_أنا موبيلي فصل شحن وأنا بكلمك وخوفت تقلق فدكتور سيف عرض عليا يساعدني عشان أطمنك عليا، مكنتش أعرف انكم تعرفوا بعض.
رد بضحكة قوية:
_سيفو ده حبيبي وأخو حبيبي، حيث كده بقى أقدر أطمن عليكي أي حاجة تعوزيها سيف موجود، هتسد ولا مش قدها يا دكتور؟
ابتسم الاخير وأجابه بمجاملة:
_في الخدمة وتحت الأمر يا علي.. وإنت عارف.
تبادلا المزح فيما بينهما وحديث قصير انتهى باغلاق المكالمة ومازال سيف لا يفهم العلاقة التي تجمعه بها، فسألها باستغراب:
_هو دكتور علي يقربلك؟
نهضت عن الدرج تنفض ثيابها وهي تجيبه:
_يبقى جوز أختي.
أسبل عينيه في دهشة وإن كانت لطيفة، وهمس بصوتٍ منخفض:
_كده يوسف هيلكبشنا في بعض من بكره، والمرادي مش هعترض!
_بتقول حاجة؟
افاق على صوتها المتساءل، فقال مشيرًا لها:
_لأ أبدًا.. كنت بقولك اطلعي لمحاضرتك ومتقلقيش أنا هطلع معاكي وهوصي البروفيسور عليكي .. أنا أعرف كل الدكاترة هنا..
ابتهجت معالمها ولحقت به للأعلى، فما أن ولجوا معًا حتى هم إليه البروفيسور ورحب به بمحبة غريبة عادت لمستواه الممتاز وترتيبه المذكور بجدارة، فامتنت للحظ الذي أسقطها بطريق هذا الشاب المكتظم بداخله رجلًا يحمل كل معاني الشهامة والرجولة، فاتجهت لمقعدها وتابعت رحيله بابتسامة حالمة، تبددت فجأة حينما تذكرت قصة حبها السابقة وجريمة ما تلقته على يد شخصًا نجح بالحصول على اهتمامها وحبها وبالنهاية وجدته شيطانًا متنكرًا يقدم لها درسًا بعدم الوثوق بأحدٍ قط!
********
وضعت حزام الأمان من حولها، وتابعت انجراف السيارة عن طريق المطعم الخاص باستقبال طلبيات شركات “عمران الغرباوي”، فاستدارت إليه تتساءل بدهشةٍ:
_إنت رايح فين ده مش طريق المطعم؟
لاح على وجهه بسمة مشاكسة، وصاح باستنكارٍ:
_هو إنتِ فاكرة إني هفكر في غدا ومعايا طبق حلويات بالمكسرات! طموحاتك ضايعة خالص يا مايا ولازم تفكيرك ينحرف عشان يتماشى مع تفكيري!
رفرفت بأهدابها بعدم استيعاب لما قال:
_إنت بتقول أيه؟ وواخدني على فين يا عمران؟
استدار برأسه إليها ويده تمسد على حجابها قائلًا بطريقة مضحكة وكأنه يجابه طفلته الصغيرة:
_حبيب قلبه خايف من جوزه يا ناس! متخافيش يا عسلية أنا مش بتحرش بالبيبهات الصغننة العسليات اللي زيك أنا عاقل!
ارتابت مايسان لأمره ومع ذلك طريقته بدلالها جعلها تنخرط بموجة من الضحك وما زاد صدمتها حينما خطف يده يدغدغ بطنها قائلًا:
_أيوه كده اضحك وفك يا عسلية.
أبعدت يده وقد احمر وجهه من فرط الضحك، وجسدها يتلوى بالمقعد، فحاولت بصعوبة التماس الجدية والحزم:
_عمران كفايا، هنزل من العربية بطريقتك المريبة دي صدقني أنا بحاول أفهمك بس كل يوم بكتشف فيك حاجات جديدة.
ضحك حتى ظهرت غمازاته، وصاح بفتورٍ مضحك:
_الله بجددلك معايا عشان ميحصلش ملل بينا يا بيبي، ده مزعل حبيب قلبه في أيه؟!
وجدت نفسها خاسرة أمام لسانه المعتاد على هزيمة من أمامه فتحلت بالصمت وعبثت بهاتفها لتشتت فكرها عنه، فأبعد يده عن الفرام وبحركة خاطفة سحب الهاتف من يدها محذرًا إياها:
_موبيل وأنا معاكي ممنوع يا بيبي.
حاولت سحب الهاتف منه وهي تصيح بانفعال:
_عمران بطل استفزاز اديني الموبيل فاطيما باعتالي وإنكل أحمد كمان باعتلي رسايل.
هز رأسه نافيًا، واستدار لها بهذا القرب يخبرها بخبث:
_ممكن اسمحلك بعشر دقايق لو طاوعتيني.
تجعد جبينها بعدم فهم:
_أطاوعك في أيه أكتر من نزولي معاك في وقت الشغل، لسه في كارثة تانية؟!
اقترب بوجهه منها وقدم خده إليها، فعلمت مقصده، تراجعت للمقعد وربعت يديها أمام صدرها بغيظٍ جعله يقهقه ضاحكًا، فلزمت الصمت وأحجمت غيظها بصعوبة، لتجده يسحب كف يدها وإبهامه يرق بلمساته فوق جلدها الناعم، وقربها إليه يطبع قبلة صغيرة وهو يهمس بصوتٍ هامسٍ:
_أنا عارف إني بنرفزك من الصبح حقك عليا يا روحي.
وقدم لها الهاتف قائلًا:
_كلمي اللي تحبيه.. وياريت تكلمي فريدة هانم أنا نزلت وسبتها نايمة عايز أطمن عليها.
ابتسمت بفرحة وهي تستعيد هاتفها، ففتحت الرسائل وكان أول من أجابته أحمد، فاستدارت لعمران تخبره:
_أنكل أحمد باعتلي صور لبيت كبير وبيقول أقول رأيي أنا وانت لانه هيشتري البيت ده وهننقل فيه كلنا.
زوى حاجبيه باستغراب، وردد:
_معقول ماما تكون هي اللي طلبت كده، مستحيل يأخد قرار زي ده لوحده أكيد هي اللي طلبت بكده.. ازاي والبيت ده كل حياتها!
ومرر يده بخصلاته المتمردة وهو يتابع بصوت منخفض لم تتمكن من سماعه:
_للدرجادي الموضوع فارقالها وعايزة تنساه!
انتبهت لهمساته الخافتة فسألته بشكٍ استنادًا عما حدث سابقًا:
_عمرات انت مخبي عني حاجة؟
انتبه لها فصف سيارته فور وصوله لوجهته، واستدار إليها يضم وجنتها بين دفء يده الخشنة، ليجيبها بحبٍ:
_حبيبتي انتي مش غريبة عشان أخبي عنك حاجة، إنتِ من العيلة وقريبة من ماما يمكن أكتر مني أنا شخصيًا، وعد هحكيلك كل حاجة بس أنا دلوقتي محتاج أفصل من كل حاجة فجبتك معايا هنا… مكاني الخاص!
التفتت للنافذة المجاورة لها تتفحص مقصده، فانفتر فاهها وهي تراقب ذاك الكوخ الخشبي القابع بجنة من حدائق الزهور وبركات المياه التي تحيطة من ثلاث جهات، وبالرغم من ضخامة المساحة المقام عليها الكوخ الا أنه كان مثيرًا يخطف الأنفاس.
هبطت مايسان لتنضم بوقفتها لعمران الذي يقدم يده لها، فضمت يدها يده واتبعته وهي تتساءل بانبهارٍ:
_ده أيه يا عمران؟
أزاح نظارته الشمسية السوداء عن عينيه وتأمل ما تتأمله عينيها، مجيبها:
_كان مخطط يكون مشروع من مشاريع الشركة، بس بعد ما اشتريته اتعلقت بيه ووقفت تتفيذ مشروع الأوتيل اللي كنت هنفذه، خليته ملكية خاصة بيا بس… كل ما بحس بنفسي مخنوق ومفيش مكان حابب أروحه بعيد عن يوسف وجمال باجي هنا.
رددت ومازالت عينيها تراقب كل أنشن صنع ليبرع جمال طلته:
_المكان يهبل بجد.
منحها ابتسامة جذابة وسحبها للدرج الخشبي:
_ولسه من جوه.. تعالي.
اتبعته للداخل فحرر مفتاحه الباب الخشبي، ودفعه بقدمه فاتبعته للداخل، فوقفت تتأمل التنسيق الخرافي من داخله، كل شيئًا يحوم بلمسة الخشب الأحمر الرائع، المدفئة، الفراش الحوائط، الأثاث بأكمله، كل شيءٍ وضع بلمسة عتيقة وكأنه يعود لقرون مضت ورفض الانصياع لأي تجديد يقام هنا.
تسللت عينيها لذاك المقعد المألوف فأسرعت إليه وهي تشير لعمران الذي تابعها باهتمام ليعلم إن كانت ستكتشف الأمر أم لا، وقد أتته تؤكد ظنونه حينما قالت:
_عمران الكرسي!
هز رأسه بإيماءة خفيفة لها، وراقبها وهي تركض لتجلس عليه وتتحرك به بفرحةٍ اتبعت حديثها العفوي:
_كنت بتقعد عليه كل ما بتكلمني فيديو، ولما سافرت لندن كان نفسي أدخل أوضتك عشان أجرب الكرسي ده، ولما أخيرًا نجحت ودخلتها ملقتهوش حتى في الجناح الخاص بينا مكنش فيه، إزاي مجربتش أسالك عنه قبل كده!
دنى منها ثم قرب الطاولة ليعتليها قبالة وجهها:
_لإني كنت بحب أكلمك من المكان ده، عشان تعرفي إني من صغري وأنا رومانسي وعاطفي.
اعتلى الحزن معالمها، فتوقفت عن هز المقعد الهزاز وانحنت بجلستها لتكون قبالته نفس الشيء:
_وده اللي خلاني أحبك وأتوقع إنك تطلبني للجواز بأقرب وقت يا عمران، معرفش ليه فجأة هدمت كل اللي بينا وبقى في واحدة تانية في حياتك، أربع سنين بعدت فيهم عني وأنا معرفش عملت أيه خلاك تبطل تكلمني أو حتى ترد على مكالماتي!
خيم الحزن على رماديته، فنزع عنه جاكيته وانحنى قبالتها ليكون على نفس مستواه، حرر حجابها بلمسة خاطفة وضم وجهها بيديه وكعادته يترك إبهاميه يزيحان دمعاتها، وباقي أصابعه تسند رأسها لتبقى منصوب قبالته:
_حبيبتي كل ده فترة وعدت، أنا قولتلك إني كنت مخدوع ورا شيطاني ونزواتي الحقيرة، بس والله العظيم كل ده اتدفن والميت مستحيل هيرجع أبدًا… مايا أنا بحبك وعايز أكمل حياتي معاكي… عايز يكونلي أولاد منك!
خفق قلبها بشراسةٍ وعينيها لا تفارق خاصته، وجدها تبعد المقعد للخلف وتنحني قبالته، تختبئ داخل أحضانه خجلًا من نظراته وكلماته، فابتسم وهو يضمها إليه بصدرٍ يرحب بفرارها من مواجهته، وانحنى إليها يقبل خصلاتها بحبٍ وهمس أذابها بين ذراعيه:
_أنا عنيا وقلبي مبقاش فيهم غيرك يا مايا.. بحبك ونفسي ترضي عني بس!
وتابع وهو ينحني برأسه لأذنيها:
_مشاعرك وحبك ليا أنا قادر ألمسهم، مش فاضل غير إنك ترمي أوجاعك كلها وتسلميلي!
ابتسمت بين ذراعيه ورفعت عينيها إليه تطالبه بأغرب شيء توقعه بتلك اللحظة العاطفية:
_غنيلي يا عمران.
تلاقى مقدمة حاجبيه بسخطٍ:
_ده وقته بذمتك! ده أنا خطفك من الشركة كام دقيقة يا حبيبتي!
تحرك كتفها بدلال:
_مزاجي كده.
منحها ابتسامة خبيثة، ولف ذراعه أسفل ساقيها، لينهض بها بنظراتٍ كانت خطيرة مفهومة وخاصة حينما قال:
_تعالي أقولك مزاجي أنا بقى جايبني لأيه يا بيبي!
*******
_خبيتي عني كل ده يا شمس؟ ليه هو أنا عايشة في دولة تانية مش معاكي في نفس البيت؟
كلمات مستنكرة نطقت بها فريدة وهي تحاول استيعاب ما تخبرها به ابنتها، مرورًا بمحاولة اختطفها نهاية برفع راكان السلاح عليها وتخليص آدهم لها في كل المواقف التي ذكرتها.
تعالت شهقات بكائها وهي عاجزة عن اجابة والدتها، فتخلت فريدة عن حدتها وفرقت ذراعيها قائلة بصوت حنون:
_تعالي.
ابتسمت وهي تركض لأحضان والدتها، ضمتها بقوة وهي تربت على ظهرها، انتابها خوفًا قاتل لمجرد تخيل أن السوء قد يمس ابنتها الوحيدة، وامتنت بالشكر لذاك الآدهم المجهول عنها، فأبعدتها عنها ورمقتها بنظرة مطولة من زرقة عينيها، قبل أن تسدد سؤالها الصريح:
_بتحبيه يا شمس؟
امتقع وجهها بحمرةٍ قاتمة، كيف ستخبر والدتها بهذا الأمر، فرغمًا عنها أومأت برأسها وهي تحاول سرقة نظرة عابرة لوجه والدتها فوجدتها تبتسم وهي تضمها إليها هامسة :
_مش بقولك فايتني كتير.
وتابعت بمكر وهي تربت على ظهرها:
_بكره هنروح أنا وأنكل أحمد بنفسنا نزوره ونشكره بنفسنا على اللي عمله معاكي مينفعش يكون اتصاب ومنعملش معاه الواجب.
رفعت عينيها الشغوفة إليها وتساءلت:
_بجد يا مامي هنروح نشوفه؟
ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهها، وقالت بخبث:
_انا وإنكل أحمد انتِ مينفعش تروحي يا قلب مامي علشان الدكتور علي والبشمهندس عمران هينقلبوا ضدك لو جيتي.
تجهمت معالمها وبات الحزن والخذلان يقمعان عليها، فضحكت فريدة وهي تراقب ما يحدث لها وقالت مستنكرة:
_شكل الموضوع أكبر من إعجاب بينك وبينه يا شمس… أنا موافقة أخدك معانا بس أوعي علي ولا عمران يعرفوا بده.. عارفة إني غلط بس هعمل أيه سبق ووقعت في الحب قبل كده وحاسة بيكي!
برقت بدهشة وعدم استيعاب لما قالته، فلفت ذراعيها حول رقبتها وهمست بفرحة:
_أنا بحبك أوي يا مامي.. بجد بحبك.
ابتسمت وهي تمسد على ظهرها بحنان، وابعدتها وهي تنهض قائلة:
_يلا قومي غيري هدومك وأنا هخليهم يحضرولنا الغدا على الpool تحت.
وقبل أن تتجه للخروج استدارت تخبرها بارتباك:
_هاتي فاطمة وإنتي نازلة تتغدى معانا.. وأنا هشوف مايا.
وأغلقت الباب تاركة شمس في حالة من الصدمة مما يحدث مع والدتها اليوم بداية من تقبلها قصة حبها بآدهم ونهاية برغبتها في وجود فاطمة لجوارها!
******
وضع الخط بهاتفه بعد أشهر اتخذها بالاحتراس لاداء مهمته، فكان يحترس بالاتصال التابع لمصر إلى ممرضة أبيه ليطمئن على صحته من وقتٍ لأخر وكان يتحاشى الاتصال به شخصيًا لأنه يعلم بما سيفعله ككل مرةٍ يذهب بها لاحد المهمات، ولكن تلك المرة كان الأمر يتعلق بوالدته.
واليوم قرر الاتصال بأبيه ليطمئن على صحته فأتاه صوته متلهفًا حزينًا يعاتبه:
_أخيرًا افتكرت إن ليك أب يا عمر!
سحب عمر نفسًا ثقيلًا وقال:
_حقك عليا يا بابا، أنا عارف اني مقصر معاك بس غصب عني صدقني.
_انت يا ابني مش شايف حاجة في حياتك غير الانتقام لموت أمك ونسيت ان أبوك راجل مريض على وش موت ولا أنا ماليش حق عليك زيها يا عمر! ناوي تتكرم وتحن على أبوك أمته لما يفارقك هو كمان!
انتفض ألمًا لسماعه تلك الكلمات القاتلة بالصميم وقال:
_ألف بعد الشر عليك يا حبيبي متقولش كده، أنا ليا مين غيرك استند عليه!
اتاه صوت أبيه الباكي، ولأول مرة يستمع إلى بكائه لدرجة زادت من جرح اصابته في مقتل:
_8شهور يا ابني لا بتسأل عليا ولا بسمع صوتك ولا عارف انت حي ولا ميت، من بعد وفاة امك وأنا خسرتك معاها يا عمر، كنت فاكرك هتعوضني عن فراقها طلعت انت مفارقني معاها، ليه يا ابني أنا مبقاش في عمري الكتير عشان استحمل غيابك وشغلك اللي مببتهيش..
وتنهد وهو يخرج تأويهات مؤلمة:
_أنا كبرت ومحتاجك جنبي، محتاج أحرر العبئ اللي شلته على قلبي من سنين… عمر أنا علشانك ضحيت بحتة مني يا عمر… وخايف يا ابني أقابل ربنا وأنا شايل ذنبي على كتافي.. عايزك تشيله عني عشان أرتاح.
ضيق عينيه بعدم فهم، وسأله:
_أنا مش عارف أيه اللي وصل حضرتك للحالة الغريبة دي من فضلك اهدى وفهمني مالك؟ ذنب أيه اللي تقصده؟
زفر بقهرٍ وهو يخبره برجاء:
_ارجع مصر أنا محتاجك… ووقتها هصارحك بشيء خبيته عن أمك وعنك طول السنين دي كلها، أنا عارف إنك ممكن تنكسر بعد اللي هتعرفه بس واثق انك هتساعد أبوك ومش هتتخلى عنه يا عمر.
فرك جبينه بارهاق وعقله لا يتوقف عن فهم مضمون حديث أبيه، فقال:
_حاضر يا بابا.. أوعدك اني هرجعلك بأقرب وقت بس اديني على الاقل كام يوم أرتب نفسي بس.
_ولا يوم يا عمر.. أنا معتش عندي صبر لفراقك سامعني!
صارحه بحقيقة الأمر وإن لم يكن بحبذ ذلك:
_بابا أنا انتقمت من اللي كان السبب في موت أمي، وخلاص مهتمي انتهت بس محتاج الوقت ده لإني آآ… لاني مصاب بس متقلقش أنا كويس والله والجرح سطحي، يومين تلاته بس أقدر أقف على رجليا وهرجعلك يا حبيبي.. هرجع تحت رجليك أطلب عفوك عني أنا غصب عني فارقتك مكنتش هتحمل أعيش وأنا عارف إن أمي اتخدت غدر بسبب ولاد ال** اللي دخلولها الموت بالدوا أنا دلوقتي مرتاح..
استمع لصوت بكائه من جديد، فتوسل له:
_عشان خاطري دموعك بتزيد وجعي، أنا راجع والله وهسمعك ومهما كان اللي مخبيه صعب أنا جاهز أتقبله.. انت مش كان نفسك اني أتجوز وأملى البيت ليك أحفاد.. ابسط يا عم لقيت بنت الحلال اللي دخلت قلبي ومزاجي.
توقف عن البكاء وسأله بلهفة:
_بجد يا عمر… مين؟
أجابه بابتسامة رسمت على وجهه:
_مش هتعرفها يا حبيبي لانها من هنا بس متقلقش مش خواجية.. أهلها ناس محترمين ومقمين هنا من سنين… إنت يعني تايه عن نقاوة سيادة الرائد ولا أيه؟
ضحك الاخير وأخبره:
_متنزلش غير لما تشبكها.
شاركه الضحك وقال بمشاكسة:
_هكتب عليها قبل ما أرجعلك.. انا معنديش خلق للخطوبة والكلام الأهبل ده وبصراحة أخاف تضيع مني لإنها يتطمع فيها بصراحة.
قهقه ضاحكًا وأزاح دموع عينيه قائلًا:
_وهي هتلاقي فين أحسن من عمر الرشيدي، يالا ده أنت طول بعرض بهيبة بجمال، طالع لابوك طول عمرك تقتل قلب النسوان بطرف عينك بس.
انفرط عمر بنوبة من الضحك ومازحه:
_عشان كده وفاء اتكلت بدرى وسابتك يا حاج.
رد عليه بعاطفة:
_وحشتني أوي.. البيت من غيرها قبر يا عمر.
تألم قلبه وأدمعت عينيه، فأزاح دمعته وصاح بصرامة:
_بقولك أيه يا توفيق يا رشيدي فكك من جو الصعبنيات ده وقولي اللي عايز تقولهولي.. شكلك كده عايز تلعب بديلك وتتجوز بعد وفاء صح؟
ردد ساخرًا:
_هو أنا فيا حيل أصلب طولي يا عبيط، أنا لولا الممرضات اللي معايا هنا في البيت كان زماني اتكلت من زمان.
_بعد الشر عليك يا حبيبي متقولش كده تاني، أنا محتاجك جنبي.. عايزك جنب أولادي في وقت ممكن أكون فيه مش جنبهم وفي شغلي.
صمت قليلًا ثم قال:
_لو ربنا مد في عمري لحد اللحظة دي هيكون فضله كبير عليا أوي يا ابني، لكن أنا كل اللي بتمناه تحققلي طلبي الأخير قبل ما أموت.
_طلب أيه؟
_قولتلك ده سر هقولهولك لما ترجع وهتحتاج تكون فيه الرائد عمر الرشيدي مش ابني اللي ربيته، وظيفتك هتساعدك توصل للي أنا بدور عليه لحد النهاردة ومش قادر أوصله… أنت تقدر يا عمر تجمعني بيه.
_بمين؟ أنا ليه حاسس انك مخبي حاجة كبيرة؟
_هي كبيرة فعلًا يا ابني… ارجع أرجوك.
_حاضر يا حبيبي، يومين تلاته وهرجع بإذن الله.. خد بالك انت بس من صحتك وأنا أوعدك مش هتأخر عليك…. في رعاية الله.
أغلق عمر الهاتف ووضعه جانبًا ومازال حديث أبيه المبهم يجتاز عقله، ترى ما الشيء الهام الذي يخفيه عنه وفجأة قرر البوح عنه؟
انقطع تفكيره فور سماع دقات باب غرفته، فنهض يتكأ على كتفه وفتح الباب ليتفاجئ بشابٍ من أمامه يبتسم له ويتساءل:
_أخبارك أيه النهاردة يا رب تكون بقيت أفضل؟
ضيق عينيه بتعجبٍ وراح يخمن:
_إنت جمال؟
هز رأسه بالنفي وقال وهو يقدم يده ليصافحه:
_أيوب صاحب سيف..
تذكر أمره المتناقش بالافطار فضحك وهو يصافحه قائلًا:
_أيوه إنت صديق دكتور سيف اللي عامل عليك كماشة.
ضحك بصوته الرجولي مؤكدًا له:
_بالظبط كده.. أنا لسه مخلص شغل واستلمت مكالمة من دكتور يوسف بيأكد عليا أعملك الغدا وأكلك بنفسي وطبعًا طلباته أوامر.. عشان كده جهزتلك شوربة خضار وفراخ.. مردتش أزعجك من وقت ما رجعت لتكون نايم بس سمعت صوتك من شوي. فعرفت انك صاحي.. تسمح بقى تخرج تتغدى.
تابع حديثه الطويل بتمعنٍ، وقال بابتسامة جذابة:
_مالوش داعي والله التعب ده كله، كفايا تعب يوسف وعمران وعلي معايا.
اسنده أيوب وخرج به للردهة قائلًا:
_تعب أيه بس… يلا بس عشان معاد الدوا لو يوسف رجع من العيادة ملقاش الدوا اتخد هينفخني.
شاركه الضحك حتى وصل به للأريكة فعاونه أيوب على الجلوس ومن ثم وضع الصينيه المستديرة أمامه، فحاول عمر رفع يده ليتناول الملعقة ولكن ألمه كتفه كثيرًا فاستسلم للخضوع جواره.
تفحصه أيوب بنظرة شاملة وهو يسكب كوب المياه ويضعه من أمامه، فجذب الطبق والملعقة وقربها إليه قائلًا بمرح:
_يا رب بس أكلي يعجبك أنت عارف طبيخ رجالة الغربة أشبه بطبيخ زنزانة السجن كده.
وتابع باستفهام:
_صحيح إنت ظابط ممكن تكون جربت أكل السجون قبل كده يعني سهل تتقبل أكلنا!
انفجر آدهم ضاحكًا وتابعه أيوب بقوةٍ، فهمس له بصعوبة بالحديث:
_متقلقش أنا كظابط متعود التأقلم على أي شيء.. ناولني المعلقة وأنت على يقين انها هتكون أطعم من السم اللي بنضطر تشربه بالتدربيات.
ضحك وهو يقدمه إليه فأوقفه آدهم قائلًا:
_استنى… شيل البسلة من الشوربة مش بحبها.
ابتسم أيوب وأزاحها بالملعقة وهو يخبره:
_وأنا كده مع إنها أساس شوربة الخضار بس بكرهها.
ابتلع آدهم الملعقة من يد أيوب وحينما ابتلعها تحركت يده تلقائيًا لكوب المياه في نفس لحظة نطق أيوب:
_ولما بتجبر أشربها بشرب بوق مية بعد كل معلقة!
أخفض آدهم الكوب عن فمه بعدما ارتشف رشفة واحدة منها ليقابله بنظرة مندهشة والمياه داخل فمه بينما الاخير يبتسم مرددًا بعفوية:
_شكلنا منسجمين في كره البسلة وشرب المية!
ابتلع وهو يبتسم له بمحبة كبيرة لا يعرف سببها، وراح يسأله:
_إنت بتشتغل هنا ولا بتدرس ولا حكايتك أيه؟
أفشى حبات البسلة عن الملعقة وناولها لآدهم وهو يجيبه:
_حكايتي بقت أشهر من فيلم سينما لسه امبارح حكيها لعمران والنهاردة هحكيها ليك.. بس تمام هقولك نفس الكلمات المختصرة ابن الابن الوحيد للشيخ مهران بعد عشرين سنة حرمان من الخلفة وجيت هنا ادرس رغمًا عن أنفه لانك عارف بقى فراق الولد الوحيد والقصة اللي يمكن تكون غريب. عليك.
قاطعه بنزق:
_لا مش غريبة عليا لاني وحيد أبويا وأمي بردو.
ضحك وهو يشاكسه:
_إنت شبهي حتى في الوحدة أيه ده اوعى تكون كمان زميلي!
تعالت ضحكاته وهو ينفي ذلك قائلًا:
_أنا أكبر منك بسبع سنين يا بشمهندس.
ابتسم وابتسامته لا تفارقه أمام هذا الرجل الغريب الذي احبه أكثر من باقي الشباب وارتاح لمجلسه، فتابع الاحاديث فيما بينهما حتى نهض ليحضر له الادوية، فجلس جوار آدهم وأفرغ محتويات الحقيبة، تفحصها وهو يردد:
_أمممم… أربع حبوب دلوقتي وتلاتة بعد العشا.. خلينا في دلوقتي.
وانحنى يسكب كوب من المياه ثم أفرغ بيد آدهم أول حبة، فهز رأسه نافيًا وقال:
_حط الأربعة.
تابع أيوب وضع باقي الحبوب بابتسامة مندهشة وتابعه بترقب لما سيفعل، لينصدم بشدة حينما ابتلع آدهم المياه بجوفه وفجأة ألقى بعدها الحبوب ليبتلعهما معًا وحينما استقام بجلسته نظر له باستغراب لطريقة تطلعه إليه وقال بشك:
_مالك؟
أجابه أيوب بدهشة:
_كنت فاكر إني الوحيد اللي بأخد الدوا بالطريقة الغريبة دي!!
وتابع بنفس النبرة وعينيه تحوم بالفراغ:
_انت حكايتك أيه بالظبط يا حضرة الظابط، نفس التقزز من البسلة وشرب المية ودلوقتي نفس طريقة شرب الدوا إنت عايز تصاحبني عن قناعة إننا شبه بعض ولا أيه؟؟
تمردت ضحكاته الرجولية الصاخبة وردد بمشاغبة:
_ليه أنا مش واطي لدرجة إني أعمل مشاكل بينك وبين دكتور سيف في أول لقاء بينا، اضحك وهزر معايا براحتك وأول ما يرجع معرفكش.
وجده يحاول التمدد على الأريكة فأسرع إليه يعاونه، ووضع خلف ظهره وسادة صغيرة، فشكره آدهم وردد بارهاق:
_تسلم ايدك يا بشمهندس.. أنا بأخد الدوا ده ومعرفش أيه بيحصلي بروح في دنيا تانية.
منحه أيوب ابتسامة هادئة وقال:
_أنا هدخل أذاكر جوه لو احتجت أي حاجة ناديني.
هز رأسه إليه قبل أن ينساق لنومٍ ثقيل جعل الأخير يتسلل بحرصٍ حتى لا يوقظه، ومازالت الابتسامة والمحبة تحيطه تجاه هذا الرجل الذي أسعد كثيرًا بالتعرف عليه.
*******
وصل علي بسيارته للمنزل فهبطت زينب ولحق بها، كانوا بطريقهما للداخل حينما استوقفهما نداء شمس من حديقة المنزل، فأشار لها بأن تتبعه وإتجه لطاولة الطعام الضخمة القريبة من المسبح، فأشارت شمس لزينب بالجلوس لجوارها بينما ظل علي محله لدقيقة لا يصدق ما يراه، والدته تجلس جوار فاطمة وكلتهما تتبادلان الحديث بهمس منخفض وكأن بينهما العديد من الأسرار، تنحنح بخشونة حينما نادته فريدة بدهشة:
_واقف عندك كده ليه يا علي؟
حرر زر جاكيته وجلس بالمقعد المقابل لفاطمة التي منحته ابتسامة أهلكت جوارحه، فتعلقت عينيه بها لا سواها.
قربت فريدة طبق الدجاج المتبل من زينب وسألتها بابتسامة بشوشة:
_طمنيني يا زينب يومك الأول بالجامعة كان لطيف؟
ارتبكت للغاية فور تذكرها ما حدث ومع ذلك تلاشت أي ذكرى قد تدفع أحدًا لسؤالها عما أصابها، وقالت:
_الحمدلله يا فريدة هانم… أول ما خلصت محاضراتي رجعت على طول.
هزت رأسها ببسمة هادئة ثم استدارت جوارها تتساءل بدهشة:
_مش بتأكلي ليه يا فاطيما الأكل مش عجبك ولا أيه؟
ارتبكت من اهتمامها الغريب منذ الصباح، وتناولت شوكتها تدفعها بقطع الدجاج:
_لا بالعكس الأكل جميل جدًا.
اتجهت أعين علي لشمس يشير لها بصدمة، فغمزت له بضحكة مشاكسة تؤكد له صفاء الاجواء بين والدته وزوجته منذ فترة لا بأس بها..
_أيه ده بتتغدوا من غيري!!
نطقها من يقترب ليحتل مقعده جوار فريدة منحني على رأسها مقبلًا إياها بهمس وصل للجميع رغم انخفاضه:
_أيه الجمال ده كله.
اختلجت معالمها وهمست على استحياءٍ:
_الاولاد قاعدين يا أحمد عيب!
منحها ابتسامة غير عابئة، واقتبس نظرة لعلي قائلًا:
_دكتور علي فينك يا راجل؟
ابتسم باستمتاعٍ وهو يتابع انجذاب والدته به وقال بمشاكسة:
_أنا اللي فيني يا عمي، ولا أنت اللي من ساعة ما اتجوزت فيري واختفيت من الوسط كله ونسيت أصحابك الأوفياء!
انطلقت ضحكاته بصوتٍ جعلها تبتسم وهي تراقبه بعشقٍ، وقال:
_هدي اللعب يا صحابي يا وفي، أنا لسه مبقاليش كام ساعة متجوز لحقت تدخل في اسطوانات هتطول معانا الفترة الجاية.
وتابع وهو يدفع هاتفه إليه:
_بص على البيت ده كده وقولي رأيك، أنا خلاص خلصت فيه وبكره هأخد فريدة ونكتب العقد.
حمل علي هاتف أحمد وتساءل بحيرة:
_بيت لمين؟
أجابه أحمد وهو يلتقط الطبق الذي أعدته فريدة له:
_لينا يا علي.. هنسيب البيت ده وهننتقل للبيت الجديد لو عجب فريدة ومعندهاش أي اعتراض.
وزع نظراته بينه وبين والدته بدهشة، ولم يرضخ فضوله لما يحدث خاصة بعلمه بمكانة المنزل لوالدته فقال:
_ده قرار حضرتك ولا قرار مين؟
أجابته فريدة بعصبية بالغة أوشكت أعراضها لنوبة يعلمها علي جيدًا:
_قراري أنا يا علي.. أنا اللي طلبت من أحمد يشوفلنا بيت تاني نعيش فيه لاني مش قادرة أعيش هنا بعد اللي اكتشفته عن الحقير اللي كنت متجوازه… هتعارض قراري وتفضل هنا ولا هتيجي معايا؟
توسعت أعين شمس من سماع حديث والدتها، وهتفت بتعجب:
_ليه بتتكلمي على بابي بالطريقة دي!
تدخل أحمد بالحديث بضيق من طريقة حديثها وقال:
_مفيش حاجة يا شمس، مامي بس متنرفزة شوية ومش عارفة هي بتقول أيه..
نهضت عن مقعدها بغضب:
_قصدك أيه يا أحمد قصدك اني مجنونة!!
نهض قبالتها يحاول تهدئتها بنظراته المحذرة لها:
_مقصدتش يا حبيبتي، أنا بس بحاول ألفت نظرك ان أعصابك مشدودة في وجود شمس والبنات.
وبإشارته لاسم ابنتها بالأخص جعلها تبدأ بالاسترخاء قليلًا، فاستدارت تجاههم وقالت ببعض التوتر:
_أنا مرهقة شوية ومحتاجة استريح… عن اذنكم.
وتركتهم ورحلت ومن خلفها أحمد الذي ترك طعامه ولحق بها للاعلى.
ما أن تأكدت شمس من ابتعاد والدتها حتى تساءلت بحيرة:
_مالها مامي يا علي وليه قالت الكلام ده على بابا!
رفع ذقنه المستند على ذراعه وقال بهدوء:
مفيش يا شمس زي ما أنكل أحمد قال كده فريدة هانم مرتبكة شوية يمكن لإنها لسه في بداية علاقة جديدة بعد ما رفضت الارتباط سنين طويلة.
واستكمل وهو ينهض عن الطاولة:
_كملي أكلك يا شمس وشوفي زينب مأكلتش حاجة من ساعة ما قعدت شكلها لسه مكسوفة.
هزت رأسها تنفي اتهامه:
_بأكل والله حتى شوف.
منحها ابتسامة صغيرة، بينما يدنو من فاطمة فانحنى إليها يخبرها بابتسامة صافية:
_خلصي أكلك وأنا مستنيكِ فوق عشان نبدأ جلستنا النهاردة.
أومأت برأسها بخفة، فتعمق بنظراته تجاهها وكأنه يضمها ضمة جعلتها تشعر بطيف يحيط بها، فتابعت عمق رماديته بتوترٍ، وعادت أنفاسها لطبيعتها فور استقامته واتجاهه للأعلى، فوزعت نظراتها بين شمس وزينب وهي تحمد الله بأن كلتهما تتشاركان الحديث ولم تلاحظ أحدهن اقترابه منها لهذا الحد.
*****
انتهت من ارتداء حجابها واستعدت للمغادرة، فوجدته يقف بالأسفل فاستقبلها بفتح باب السيارة قائلًا بغمزة:
_سمو الملكة..
ابتسمت وهي تفرد التنورة وتنحني قائلة بدلال:
_مولاي الملك.
انطلقت ضحكاته فأمسك معصمها قبل أن تدخل مقعدها وقربها إليه يهمس بخبث:
_مولاكِ الملك راضي عنكِ كل الرضا يا فتاة.. استغنى بكِ عن كل الجواري.
ضحكت بصوتها كله وقالت:
_عليك بالاستغناء عنهم والا استغنيت عن روحك مولاي.
اتفلتت سيل ضحك من عمران ولم يستطيع التوقف حتى بعد صعوده للسيارة، فتحرك بها على الفور.
راقبته مايسان ببسمة حالمة، وحاولت جاهدة أن تجلي صوتها قائلة:
_عمران.
أجابها ومازالت عينيه على الطريق:
_حبيب قلبه!
كبتت ضحكاتها وهي تفجر قنبلتها:
_في خبر مش لطيف عايزة أقولهولك بس مش عارفة ازاي.
حانت منه نظرة مهتمة لها:
_اتكلمي يا مايا.. في أيه؟
قوست شفتيها بنفورٍ:
_نعمان جاي لندن.
أوقف سيارته بسرعة جعلتها تحتك بالرصيف مصدرة صوتًا مزعجًا، واتجه بوجهه لها:
_مين؟!! لأ متقوليش.. متتكلميش…ياااااه على الرزالة والخبر الملزق اللي يصد النفس بعد المتعة ده..
ضحكت على ما يحدث معه، فقد كان حالها يشبهها منذ أن علمت بالخبر المجيد وقالت:
_مش عارفة الاسبوعين اللي هيقعدهم هنستحمله ازاي، بصراحة خالك ده أرزل خلق الله ومعرفش خالتو بترحب بيه ليه في بيتها.
رفع احد حاجبيه باستنكارٍ:
_هو خالي لوحدي! مهو خالك إنتي كمان.
أخفضت رأسها بتهكمٍ صريح:
_مش بحبه ولا عمري حبته، ده بيعشق الأذى للخلق.. فاكر يا عمران كان بيضربنا ازاي واحنا صغيرين وفريدة هانم مكنتش بتصدقنا وبتصدقه هو!
تلون وجهه بغضبٍ قاتل، وعاد يقود سيارته متأججًا بعصبية قوله:
_كان زمان الكلام ده، أنا بقيت أطول منه الوقتي.. أقسم بالله لو مقعدش باحترامه المرادي لاشخلعه ولا هيهمني مخلوق.
كبتت ضحكاتها وقالت تزيد من غضبه الصاعد:
_أنا مش متخيلة هيعمل أيه لما يعرف إن خالتو كتبت ورثها في أسهم الشركة ليك إنت وعلي وشمس، انت مش عارف هو كان مقهور ازاي لما مامي الله يرحمها كتبتلي ال25في المية باسمي ورفضت تبيعله نصيبها ودلوقتي ال25 التانين بقوا ملك ليك ولاخواتك.. صدقني هيموت لانه كان حاطط أمل إن فريدة هانم تبيعله وبكده عدد أسهمه هيعلى وشركة العيلة هيكون هو المساهم الأكبر فيها.
سحب نفسًا صاخبًا، وصاح بتريثٍ:
_قبل ما يوصل لازم أروح شركة الغرباوي بكره أرتب شوية حاجات، علشان أكون جاهز للقائه اللي يصد النفس ده… مالقاش غير الوقتي ويجي بروح أمه!
كبتت ضحكاتها بصعوبة، ورددت ببراءة مصطنعة:
_عمران ما تكسب فيا جميل وتشتري أسهمي أنا مش عايزة أي شيء يجمعني بنعمان الغرباوي.. أقفله إنت زي ما أنت متعود بقى.
خطف نظرة مندهشة لها، وصاح ساخرًا:
_حبيب قلب جوزه الجبان بيخلع وعايز يدبسه مع نعمان يا ناس.
تعالت ضحكاتها وأقرت له:
_جبان جبان يا عمهم مش أحسن ما أقف قدامه ويضربني زي ما بيعمل كل مرة، ده أيده طويلة ولسانه سليط.
اقمع وجهه بغدافية مخيفة، فمنحها نظرة صارمة وصاح بعنفوان:
_ده أنا كنت كسرتله ايده بروح أم اللي جابوه.. أقسم بالله العلي العظيم لو عادها تاني ورفع ايده عليكي لاقطعاله.. خلاص العيل الصغير اللي كان بيضحك عليه بالcandy كبر وبقى راجل وقد كلمته.
عصبيته جعلتها تتراجع عن حوارها المرح، فقربت يدها من يده المتحكمة بالفرام وقالت ببسمة هادئة:
_ده اللي أنا واثقة منه، علشان كده مش خايفة من لقائه المرادي طول ما أنت موجود جنبي أنا مطمنة يا عمران.
انزاح غضبه وتبدد كمن لم يحضر له، وتمسك بالمقود بيد واليد الاخرى يقربها لصدره هامسًا بعشق:
_حبيب قلبه إنتي يا مايا… يا روحي أنا أفديكِ بعمري وبكل ما أملك.
أغلقت عينيها بقوةٍ وانسجام، فتابع القيادة بتركيزٍ حتى انجرف لطريق المنزل، اعتدلت بجلستها وتساءلت باستغراب:
_احنا رايحين تاني فين يا عمران… مش قولت وراك شغل كتير وآ..
قاطعها حينما أجابها بغمزة جريئة:
_هوصلك البيت ترتاحي شوية كفايا الارهاق اللي بذلناه بعد المجهود ده.
لكزته بقوةٍ وهي تصيح بغيظ:
_إنت وقح!
ادعى برائته وهو يشير لها:
_أنا غلطان اني خايف عليكي من ضغط الشغل اللي انتي فيه من الصبح.
زمت شفتيها بسخط:
_هو أنا لحقت اشتغل!!
هز رأسه بموافقة لما قالت وهمس لها:
_اعتبربه أخر يوم ليكي في شركاتي ده لو انتي خايفة على مركزي وشغلي، لكن شركة الوراثة مقدرش أمنعك منها ولا من لقاء الخال نعمان الملزق!
انتابها النفور من ذكر اسمه وقالت بسخرية:
_دي أول شركة هتنازل عنها.. أنا مش عارفة هقول لانكل أحمد الخبر ده ازاي، شوف هو ابن عمه وعلى الرغم من كده مش بيطيقه.
قال بنزق:
_بلاش تقوليله الراجل عريس جديد ومحتاج أعصابه سبيه يتأخد الصدمة بكره خبط لزق.
هزت رأسها بتأكيد وحملت حقيبتها ثم فتحت الباب لتغادر قائلة بابتسامة رقيقة:
_هتتأخر؟
حك ذقنه النابتة بحرجٍ:
_بصراحه هتأخر لاني بعد الشغل هعدي على سيف أطمن على آدهم.. أنا عارف إني المفروض أقضي معاكي وقت أطول من كده بس غصب عني الظروف كلها جايه مع بعضها.
ارتسمت الحزن على معالمها وقالت بعتاب:
_أيه اللي بتقوله ده يا عمران.. من غير اصابة آدهم أنا عارفة إنك بتحب تقضي وقت مع يوسف وجمال زي ما أنت متعود فأنا مستحيل الحاجة اللي تفرحك تزعلني بالعكس بكون سعيدة لما بشوفك فرحان.
واستطردت بابتسامة أبهجته:
_وعلى فكرة إنت مش مقصر معايا علشان تقول الكلام ده.
منحها بسمة جذابة، ثم قال:
_ابقي طمنيني على فريدة هانم ومتنسيش تدي السلسلة اللي ادتهالك لشمس.
هزت رأسها بخفوت وأغلقت الباب من خلفها ثم ولجت للمنزل بينما غادر هو للشركة مرة أخرى.
******
استمع دقات خافتة على باب الغرفة، فابتسم لعلمه بمن الطارق، انطلق صوته الخافت يردد:
_تعالي يا فطيمة.
ولجت للداخل بخطوات مترددة، حتى باتت قبالته فنهض عن مقعد مكتبه الصغير واتجه ليقف قبالتها مشيرًا للمقعد المقابل إليه مشيرًا:
_اتفضلي.
جلست قبالته وترقبت ما سيقول، فجذب علي قهوته الساخنة يرتشف منها على مهلٍ، ثم قال:
_النهاردة يومنا هيكون مختلف.. عايزك تكلميني عن نفسك يا فطيمة.. وعن اخواتك.. زينب قالتلي إن عندكم أخين ومع ذلك لما كنتي بتتكلمي شوقك وحنينك مكنش غير لزينب ليه؟
امتعضت معالمها فور تذكرها لاشقائها، فاخفضت عينيها اللامعة بالدمع أرضًا وصوت اضطراب أنفاسها تحذره مما سيخوضه معها، فأسرع بالحديث:
_تحبي نأجل كلام في الموضوع ده؟
هزت رأسها بالنفي وقالت دون أن تقابل عينيه:
_أنا وزينب ملقناش حنان في حياتنا غير من والدي ووالدتي يا علي، اخواتنا الاتنين زي عدمهم مفيش واحد فيهم يعنيه أمرنا، أنا طول الايام اللي فاتت كان شغالني زينب عايشة معاهم ازاي وهما ميعتمدش عليهم، كأننا مش اخواتهم، أنا أخويا الصغير كان عايز يعيش دور الرجولة علينا فكان كل حاجة يتحجج ويضربنا وراضي نفسه كده إنه راجل.
اهتز جسده بعنف لتخيله ما عانته طوال حياتها، الا يكفيها الاعتداء الذي تعرضت له، شعر بتثاقل صدرها من فرط احتباس دموعها فجذب يدها لتنهض إليه تستكين باحضانه، يده تربت على خصرها وهو يهدهدها كطفلته الصغيرة.
اتخذت ثواني معدودة حتى رفعت يديها معًا تحيط عنقه ومسكن أوجاعها ومهدأها الوحيد هو ضمته القوية ورائحته التي تهييء عقلها للابتعاد عما سيزورها الآن.
استكانت لدرجة جعلته يسترخي بجلسته هو الأخر، ففرده وجهها على كتفه وقالت بصوت رقيق:
_أنت الراجل الوحيد اللي قابلته وحسسني آني بني آدمة.. إنت الوحيد اللي رجعني للحياة بعد ما ضاع طريقها عني.. أنا بحبك أوي يا علي.. بالله عليك متبعد عني في يوم من الأيام.
أبعدها عنه ليتمعن بعينيها بدهشة، وردد بعتاب مؤلم:
_ده شكل واحد ممكن يبعد أو يتخلى عن روحه يا فطيمة… أنا متمنتش في حياتي حد غيرك.. أنا كنت فاكر إن الحياة العملية بين اتنين متفهمين هو الحب لحد ما قابلتك إنتِ، خلتيني أحس إني انسان تافه ومعدوم الخبرة، ميعرفش يعني أيه انسان قلبه دق واتعلق.. أقصى سعادتي إني أشوف ابتسامتك أو أشوفك سعيدة.. أنا مبقدرش أنام غير وأنا مطمن إنك عديتي من النوبة والكوابيس اللي بتجيلك كل يوم.. أنا كلمة بحبك دي بتظلمني أنا يا فطيمة لإن كلمة الحب ولا العشق هتقدر توصلك اللي في قلبي ليكي!
اتسعت ابتسامتها فأنارت ظلمة قلبه، استند علي على جبينها وطالعها بصمت وسكون، فوجدها تستكين على جبينه مثلما يفعل.
تردد قليلًا فيما سيفعله الآن ولكن عليه خوض مجازفة تحقق انتصارًا كاملًا لخطوات علاجه، فانحنى لها يختطف من رحيقها بتوازن وعقلانية جعلتها تتجمد بين ذراعيه فانصعق من فكرة انهدام كل ما فعله لعلاجها وكاد بالتراجع، ولكنه تصلب محله حينما وجد يدها تستند على كتفه وكأنها تصرح له تقبلها الأمر ومع ذلك هزم رغبته الطائشة وابتعد حتى لا تخشاه أبدًا فيدمر كل نقطة ايجابية حققها مع حالتها الشبه مستحيلة.
رقبها علي بعد انفصاله عنها فوجدها تتجه بعينيها لأي مكان بالغرفة بعيدًا عن عينيه وجهها ملتهب كمن تعاني من حرارة قاتلة، ابتعدت فجأة وأسرعت لباب غرفتها، فلحق بها يناديها:
_فطيمة… لسه الجلسة مخلصتش ارجعي للكرسي بتاعك.
تشبثت بطرف فستانها الوردي وهي تلعن ذاتها داخلها بأنه نفسه طبيبها المتخصص، الا يكفيه ما فعله وجعلها تكاد لا تود أن تريه وجهها بحياته قط، عادت للمقعد وهي تتحاشى التطلع إليه فابتسم بمحبة لها، وحاول أن يبدو طبيعيًا حتى يعاونها لتكسر حالة خجلها المميتة، فازدرد ريقه ليخرج صوته ناعمًا عكس خشونته:
_فطيمة.. بصيلي!
هي الآن على وشك دفع المزهرية بوجهه حتمًا، ومع ذلك رفعت عينيها لرماديته فوجدته يسألها بجدية تامة:
_في نقطة مش فاهمها وكنت حابب أسالك عنها من زمان.
تنحنحت بخفوت وسألته:
_نقطة أيه؟
قال وهو يدنو بجسده منها:
_بالبداية لما استلمت ملفك وكلمت مراد عنك علشان أحاول أفهم اللي حصل معاكي بالتحديد قالي إنك كنتِ من البنات اللي تم ابتزازهم وتصورهم في سكن الجامعات وده كان سبب دخولك للمكان ده، ولما انتي اتكلمتي وحكيتلي قولتلي انك اتخطفتي وانتي كنتي مع والدك في مشوار أعتقد، أنا مش فاهم ليه في مدخلين للقصة؟
لعقت شفتيها بارتباكٍ، وقالت:
_لإن ده اللي مراد فهمه فعلًا ومجتليش فرصة أصححله فيها اللي حصل.
_مش فاهم!!
استفاضت بشرحها قائلة:
_أنا لما مراد دخلي الاوضة دي وقالي إنه ظابط وجاي يساعدني خفت إنه يكون واحد منهم وبيعمل عليا حوار علشان يعرف إذا كان حد كشف اللي حصل وممكن يبلغ فمكنتش قادرة أثق فيه بالبداية فقولتله اللي سمعت أغلب البنات بيقوله لإني خوفت أعرفه إني كنت مع أبويا ليكون واحد منهم أكون بكده عرضت أبويا للخطر، كفايا اللي عشته جوه المكان ده.. لكن بعد كده محصلش مناسبة او موقف خلاني أصححله كدبتي.. والموضوع أساسًا مكنش له لزمة نهايته اني خرجت من المكان ده أنا وهو والبنات.
منحها ابتسامة ثابتة وأغلق دفتره قائلًا بمزح:
_الجلسة انتهت وأنا عارف إن الكلمة دي بتغسلك من جوه، عايزة تتخلصي مني بسرعة البرق كأني عملك الأسود وأنا دكتور..
ضحكت بصوتٍ أطربه، ورددت قائلة بسخرية:
_والله بقى إنت أدرى بعملك إذا كان أسود ولا أبيض.
أسبل باستنكار:
_بقى كده ماشي يا فاطيما… أنا بقى بما إني دكتورك المعالج هكتبلك على حقنتين كده بديل المهدأ.
انتفضت بجلستها بذعرٍ واستعدت لتمجد به:
_إنت مفيش في طيبة ونقاء قلبك يا دكتور علي، إنت أجمل وأحسن دكتور في لندن والعالم كله، عمل مين اللي أسود ده أنت هتعدي الصراط على الجنة حدف.
سقط ضاحكًا من فرط انطلاق ضحكاته، وردد بصعوبة:
_أتمنى والله تكون من قلبك ربنا هيغفرلي سيئاتي علشان دعوات زوجة صالحة زيك بس أوعي تكون من ورا قلبك يا فطيمة هدخل سعير!
تابعت وجهه الضاحك بابتسامة رقيقة جعلته يكف عن الضحك ويتمعن بعينيها الصافية، ابتلعت بارتباك ونهضت تخبره:
_هروح أشوف زينب.
أمسك معصمها يوقفها:
_اقعدي معايا شوية.
ابعدت كفه بخجل قائلة:
_مش قولت إني هبات معاك النهاردة، يبقى سبني اطمن عليها لإني حاسها مرتبكة من ساعة ما رجعت من الجامعة.
تهللت أساريره لتذكرها حديثه، فقال بلهفة:
_هستناكي متتأخريش عليا، علشان هسهرك سهرة ملوكي حتة فيلم هيعجبك أوي.
هزت رأسها وغادرت بابتسامتها الرقيقة، فتابعها حتى أغلقت الباب من خلفها، فعاد لمقعده يتابع حديثه مع يوسف لاختيار الاجهزة وغيرها من المكينات والتجديدات اللازمة للمركز.
*******
بشقة أيوب.
ما أن أعادت فتح جهازها حتى ورد لها رسائل عمها المتعددة لأربعون رسالة أخرهم
«آديرا إن لم تقتلي هذا الارهابي سأقتلك بيدي هذة.»
رسالة اخرى
«أيتها العاهرة كيف ظل على قيد الحياة، ستظلين ضعيفة هكذا حتى مماتك، أتتركين قاتل أخيكِ يحيى بسلامٍ!»
أغلقت آديرا الهاتف وألقته بعيدًا عنها بغضب، ونهضت تبحث بمنزله عن أي مالًا أو أي شيء يمكن أن تبيعه ومن خلال ثمنه تستأجر من يقوم بما تفشل هي بفعلته، فوجدت باحد الادراج عدد من الصور تخص أيوب وأخيها، لاحظت فيها أخيها يبتسم من قلبه ويضم أيوب بمحبة جعلت عينيها تدمعان ورددت بخفوت:
_ليتك لم تثق بذلك الإرهابي كل تلك الثقة، لقد خذلك وقتلك بدمًا باردًا ولكن لا تقلق يا أخي سأقتص لك أعدك بذلك!
*****
الساعات مضت وأخيرًا انهى عمله الشاق وانطلق بسيارته منهكًا للغاية، وما أن اقترب من مبنى يوسف حتى انطلق الهاتف برنينه المزعج للمرة الخامسة فزم شفتيه وردد بهمس خافت:
_الحقير المزعج.
وحرر سماعة الهاتف الخارجية قائلًا دون رؤية اسم المتصل:
_خير يا مزعج.. واخد النهاردة اجازة من الشغل علشان تقرف أمي!!
تعجب جمال وسأله:
_وعرفت منين اني مرحتش الشركة النهاردة.
أجابه بفتور:
_روحتلك النهاردة والسكرتير بتاعك بلغني بخلعانك… كنت فين يا جبمس؟
_كنت مع والدتي بنعمل الفحوصات والدكتور حدد معاد الجراحة يوم الخميس.
_بعد يومين؟!
_أيوه.. أنا خايف ومرعوب يا عمران.
_عيب يا جمال الكلام ده سبت أيه للحريم، انشف كده وإجمد… وأنا بكره هعدي عليك ببوكيه ورد نسخن بيه الحاجة على الحاج.
اكتظم غيظه وانطلق يسبه:
_ده وقته بذمتك إرحم أمي يا أخي بقى بوقاحتك… نستني أساسًا أنا طالبك ليه.
_اشجيني ما أنا اتعودت على مصايبك!
تمتم بغضب:
_إنت فين بحاول أتصل بيوسف ومش عارف أوصله محتاجله ضروري.
صف سيارته أسفل البناية وانطلق للمصعد:
_أنا طالع الشقة أهو معرفش يوسف فوق ولا في شقته النهاردة.. خليك معايا هشوفه.
انتظره جمال حتى ولج بمفتاحه الخاص، فبحث بعينيه بالردهة فلم يجد أحد، انطلق لغرفة آدهم فوجده يخلد للنوم، اتجه للغرفة الجانبية فوجد يوسف يغط بنومٍ عميقٍ، فقال لمن يترقب رده:
_هنا اهو يا جمال… ثواني هصحيه.
ووضع الهاتف على الكومود بعدما أبقى على السماعة الخارجية، ثم هز يوسف برفقٍ:
_جو… يوسف.
عبث بعينيه بارهاقٍ، وهمهم:
_عمران أنا تعبان وعايز أريح ساعتين قبل ما أرجع العيادة عندي حالة ولادة 6الصبح.. من فضلك إلزم الصمت يا ترجع بيتكم.
لكزه بقوةٍ تلك المرة وهو يكشف الغطاء عنه:
_قوم شوف جمال قالب الدنيا عليك ليه.
اعتدل بمنامته متسائلًا بقلق:
_عنده قتيل هو كمان ما أنا قلبتها هنا مستشفى وسايب بيتي ومراتي وشغالكم تمرجي!
اتاه صوت جمال المحتقن:
_يوسف أرجوك فوق وخليك معايا أنا بقالي ساعتين بحاول أتصل بيك وموبيلك متزفت مقفول.
انتبه لصوت الهاتف، فمال بجسده للكومود مستندًا على راسخه:
_انجز سامعك وياريت تلخص.
ضحك عمران وهو يتابعهما واستند على الحائط يتلصص لهما، فقال جمال:
_صبا صحيت من شوية وبتشتكي من وجع في بطنها ودهرها، أجبهالك العيادة ولا أديها أيه؟
ضم مقدمة أنفه وعينيه باصابعه وسأله بنومٍ:
_هي عملت مجهود النهاردة في البيت مثلًا؟
أجابه على الفور:
_لا كانت معايا عند الدكتور بتاع ماما وبعدها لفينا بالعربية شوية، أحنا حتى أكلنا بره يعني مطبختش ولا وقفت خالص.
جز بأسنانه على شفتيه وألقى جسده على الوسادة بعنف، فانتظر جمال سماع اقتراحاته ولكنه لم يستمع سوى لضحكات عمران المستمتع لما سيخوضه يوسف الآن من طيش جمال المعهود، فانطلق صوته كالانذار:
_سكت ليه ما تنطق مالها؟
متقلقنيش عليها يا يوسف رد!!
همس بصوتٍ لم يكن مسموع الا لعمران:
_أكمل معاه اسئلة ازاي وده طور هايج حسبي الله ونعم الوكيل في عقلي اللي خلاني أدخل القسم المنيل بنيلة ده.
تمادى عمران بضحكاته بينما يصرخ جمال بانفعال:
_بتضحك على أيه يا زفت.. ما تنجز يا يوسف انت التاني بقولك تعبانه وبتعيط من بطنها يا أخي!!
أشار عمران ليوسف بأنه سيتولى الأمر، فنهض عن فراشه يراقب ما سيفعله هذا الوقح الذي مؤكدًا سينزع الأمر، فقال الاخير:
_طيب يا عم جيمس استغليت انت بقى الخروجه والفسحة دي أسوء استغلال صح؟
عبثت كلماته:
_استغلال أيه مش فاهمك؟
وما اتخذ الا ثواني وراح يصيح باندفاع:
_آه يا وقح يا زبالة.. وربي لأربيك يا عمران.. إقفل أنا جايلك.
أوقفه يوسف قائلًا:
_جمال خلاصة الرغي ده لو حصل شيء بينكم وبعده حصلها الوجع فده شيء طبيعي، هكتبلك دوا على الواتس انزل هاته واديها منه وياريت بعد كده تكون حريص… خلصنا سبني أنام بقى.
وتطلع لعمران يخبره:
_خد موبيلك والمزعج اللي معاك وطفي النور واطلع بره.
وجذب الغطاء على جسده ليستكمل نومه، فرفع عمران الهاتف يردد بخبث:
_سمعت الدكتور قالك أيه يا غشيم مع ان الموضوع مش محتاج استشارة بس هنقول أيه الحمار عمره ما يفرق بين الكزبرة والبرسيم.
اشتد انفعاله فقال:
_اقفل يا عمران أنا جايلك، وربي لاوريك أصبر عليا.
أخبره ببسمة واسعة:
_هات معاك سوداني ومكسرات يا جيمي، سهراتنا طويلة.
وأغلق الهاتف بوجهه ثم توجه لغرفة أيوب، طرق عدة طرقات وحينما استمع إذن الدخول ولج مبتسمًا يردد:
_مساء الخير يا بشمهندس، يا رب ما تكون نسيتني!
نهض أيوب عن الأريكة تاركًا كتبه وقلمه، وبابتسامة واسعة قال:
_حد ينسى عمران باشا الغرباوي، والله كنت مفتقدك بالرغم من إني مشفتكش غير مرة واحدة بس إنت من الوشوش والاشخاص اللي عمره ما تتنسى.
وتابع بضحكة مرحة:
_ده أنا حتى لسه سأل عنك دكتور سيفو النهاردة.
برق برماديته وصاح مستندًا بجسده على الكومود قبالة أيوب:
_عملتها ازاي دي؟!
عدل من قميصه الأسود وهو يجيبه باستهزاء:
_مهو سبني ومشي بعدها.
ضرب كلاهما كفًا بالاخر والضحك يعلو بينهما، فلمح عمران الكتب الموضوعة على الطاولة، وقال:
_شكلك عندك مذاكرة كتيرة، تشرب معايا قهوة؟
أجابه بامتنان:
_يا ريت تبقى خدمتني.
نزع عنه جاكيته وألقاه على الفراش مرددًا:
_عنيا.. ومعاها كمان سندوتشات جبنه رومي سايحة وده للأسف أخري في المطبخ.
ضحك أيوب وقال ساخرًا:
_الحمد لله إننا بنعرف نفتح النور واحنا داخلين أساسًا.. أنا بعرف أعمل أي حاجة بس بصراحة الطعم ميتبلعش معرفش ازاي حضرة الظابط شرب شوربة الخضار اللي عملتها أنا والله قلقان عليه من ساعتها وهو نايم تقولش شرب منوم!
اتجه ليغادر وهو يصيح بمرح:
_قلقتني على الراجل هروح أطمن عليه لو محتاج غسيل معدة.. ورايا.
لحق به أيوب ضاحكًا، ففتح الضوء واتجه للفراش وما كاد عمران برفع الغطاء عن وجه آدهم حتى تفاجئ بسكينٍ حاد مسلط على عنقه بشكلٍ أفزع أيوب وجعله يندفع تجاه هذا الجسد القوي في محاولة لانقاذ عمران، بينما انطلق صراخ حاد من ذاك الذي يقتحم المنزل مرددًا بصراخ:
_عمران اطلعلي يا وقح.
اندفع جمال للغرف حتى ولج لغرفة آدهم فصعق مما رأه ومن خلفه يوسف يردد بانزعاج ونعاسه يغلبه:
_في أيه؟!
يتبع…
صعق يوسف وجمال مما يروه، سكينًا حاد يستهدف رقبة عمران المنصدم ومازال منحني تجاه تلك اليد التي تحيط رقبته، بينما أيوب يتمدد جوار ذاك الجسد الملتف بالغطاء السميك يحاول انقاذ عمران بطريقة آمنة لا تعرض رقبته لأي خدش.
المؤكد لهم بتلك اللحظة بأن عمران قد فعل جرمًا ما لينال غضب آدهم المتوحش، ولكن الصدمة لجراءة فعلته جعلتهم يراقبون بعضهم البعض بألسنة منعقدة، ازدادت عقدتها على ذاك الصوت القادم من خلف اجسادهم:
_في أيه؟
اتجهت الأعين لآدهم المستند على باب الغرفة يضم كتفه المصاب بيده وعلى وجهه أثار النوم، فعادت النظرات لمن يتمدد على الفراش والغطاء يحكم جسده.
تحرك عمران عن نزعة جموده وجذب الغطاء عنوة ليكشف هوية ذاك اللعين الذي حتمًا سيُقتل الآن لتجرأه برفع سكينه بوجه “عمران الغرباوي” ، ومع توهج أضواء الغرفة وانكشاف الغطاء انهدرت الصدمات تجوب وجوه الشباب بأكملهم وعلى رأسهم أيوب الذي همس بصوتٍ تزلزل قوته رغم انخفاضه بذاك الصمت:
_آديرا!!
اتجهت بعينيها المحتقنة غضبًا لصاحب الصوت، فعادت تخطف نظرة لمن تقوم بتسديد سلاحها إليه، وحينما وجدت ذاتها تخطئ هدفها عادت تسلط على رقبة أيوب الذي يتراجع مشيرًا لها بذعرٍ مدهش لأعين الشباب:
_لا تلمسيني يا امرأة… لا أريد أن ينتزع وضوئي!
لم يتمكن الوقح تلك المرة من حجب وقاحته الجديدة على هذا الصديق المستجد فصاح ساخرًا:
_وحياة أمك هو ده كل اللي همك!!! إنت بتهزر يالا… البت دي دخلت هنا ازاي وجاتلها الجرءة منين إنها ترفع عليا أنا سلاح!
ردد جمال باستهزاءٍ وهو يتابعها بدهشة:
_متسئش الظن يا عم الوقح شكلك مش المقصود… الضلمة خلتها متعرفش تحدد هدفها.
صفق يوسف بحدة لتتجمع اليه الأعين:
_حلو الكلام ده.. بس السؤال المهم دلوقتي دخلت هنا ازاي؟
رفع أيوب كتفيه بقلة حيلة:
_معرفش والله يا يوسف.
وعاد يصيح لمن تقترب بتحذير:
_يا ويلي لا تقتربي!
خرجت عن صمتها تصيح غير عابئة بأنها محاصرة بأربعة رجال أقوياء البنية قد يقتلوها أرضًا إن تعرضت لخامسهم:
_ألم يكن بيننا عهدًا بإنني إن أردت فعلها بأي وقت أتي إليك.
ورددت بتلقائية:
_أنا جاهزة فلنفعلها الآن.
جحظت أعين الشباب بصدمة من جرئتها وبالطبع لم يصل مفهوم معاهدة القتل المتفقة بينهما، فكان عمران أول من صاح ساخرًا:
_أيه يا ابن الشيخ مهران اتفاق أيه ده يا حبيبي وأنا اللي فكرتك محترم ومتدين طلعت بتتثبت بمطوة!! وبيقولوا عليا وقح!
شددت من ضغطها على رقبته وهو غير عابئ بما تفعله تلك الفتاة، كل ما يعنيه ما تسلل لمفهومهم، فقال يبرر:
_لا متفهمش غلط يا عمران.. انا اتفقت معاها إنها لو عايزة تقتلني وتأخد طار أخوها في أي وقت تجيني دماغك مترحش بعيد الله يكرمك.
استغل آدهم انشغال الجميع وبحذرٍ وخفة فجأة يوسف وجمال انتزع المدة من يدها، ولف ذراعها بمهارة للخلف بقوة ألمتها وجعلت عينيها تبرقان بذعرٍ، خاصة مع تسلل صوته الرجولي القابض لها:
_حركة خاطئة وسيطيح سكينك رقبتك يا فتاة!
ابتعد أيوب للخلف عنها بحرصٍ الا تلامسه، بينما يمنحه آدهم نظرة ساخرة:
_إنت بتجري منها قدامنا أمال من ورانا طبيعة علاقتها بيك أيه يا بشمهندس، شكلها معلمة عليك!!
هز رأسه ينفي ذلك ويشير بيده لآدهم:
_آنت فاهم غلط يا آدهم.. من فضلك سبها وإبعد السكينة عنها دي أمانة في رقبتي!
جلس جمال على الفراش يراقبه بسخطٍ وهو يضع ساقًا فوق الاخرى:
_أمانة أيه يا أيوب إنت مش في وعيك ولا شارب حاجة البت داخلة تثبتك بمطوة ولا هممها حد!
وتابع وهو يستدير ليوسف المنصدم من توابع الموقف:
_دخلت هنا ازاي أصلًا!
هز كتفه بدهشة’
_معرفش صدقني أنا قافل الباب كويس.
تنهد عمران بنزقٍ وهو يراقبها بنفورٍ:
_أنا كنت راجع ومعايا شنط البيتزا، دخلتهم المطبخ ورجعت قفلت الباب يمكن دخلت وقتها!
تدفق صوت آدهم المتعصب ومازال يحكم سكينه عليها:.
_هي دي مشكلتكم إنها دخلت ازاي!! والاستاذ اللي مرحب بفكرة قتله ده أيه واكلة معاكم!! ومش لاقي غير يهودية بنت آ*** يموت على إيدها!
اتجهت الأعين إليه مجددًا فقال وهو يزدرد ريقه بتوتر:
_يا رجالة انتوا فاهمين الحكاية غلط، سيف لما يرجع هيفهمكم غرضي من الليلة دي كلها أيه.
واستطرد وهو يحاول أبعاد يد آدهم عنها:
_أرجوك يا سيادة الرائد أبعد السكينة دي عنها، الحمد لله محدش اتصاب ولا حصله حاجة، أنا هأخدها وهنزل حالًا.
تملكه خوفًا غريبًا تجاهه، فتركها لتسقط أرضًا واندفع نحوه يجذب رقبته بضربات خفيفة:
_ولما تاخدها وتنزل اتحل الموضوع يعني! ده هتهاجمك في أي وقت لإن طبعهم ال** الخيانة والضرب في الضهر.
تعجب أيوب من طريقته وخاصة حينما شدد من ضغط يده على كتفه:
_مش هتنزل من هنا مع حد، هي تغور لوحدها وتقطع علاقتك بيها وبطل بقى دور المحارب اللي نازل بلد الكفر يجاهد للإيمان لانك لوحدك مش قد ولاد ال** دول يا أيوب.
أسبل عمران جفنيه بذهولٍ، لأول مرة منذ أن اجتمع بآدهم المتوحش يراه ينفعل بتلك الطريقة، حتى في مخاضع المعركة واستنزاف راكان كل ما يمتلك من فنون الاجرام ليجرده من رزانته وبروده الا أنها كان صامدًا يملكُ من الجمود والبرود ما جعل الجميع يهابه يومها، والآن يخرج عن ردائه لأجل شخصًا يعتقد بأنه يراه الإن لمرته الاولى!
اندفع يوسف بينهما متدخلًا:
_خلاص يا عمر أيوب مش هيخالف كلامك..
واتجه بنظراته إليه، يغمز له بضيقٍ كأنه ينجده من أبيه:
_اسمع الكلام يا أيوب مش عايزين سيادة الرائد يتنرفز وهو مصاب، خرجها من هنا ومشيها.
خطف نظرة سريعة إليها فوجدها تتابع حديثهم بعدم فهم ولكنها تتحاشى أقدامهم وتنجرف بزواية الغرفة بخوفٍ من تخمين مجرى حديثهم الذي بالطبع سيكون بشأن اقتحامها الشقة، وليتها علمت بأنهم بهذا العدد، تخيلته مازال يجلس مع ذلك الشاب الذي سبق لها رؤيته بالمقهى، فتجرأت وولجت للداخل واختبأت بتلك الغرفة الفارغة، فما أن استمعت لصوت أيوب يقترب للغرفة برفقة رجلًا يرافقه حتى تمددت بالفراش وبيدها السكين باستعداد لقتله في الحال بعد أن تلقنت جرعة محفزة من رسائل عمها.
وها هي الآن تواجه مصيرها المرعب بين يد خمسة رجال، احدهم شرسًا لدرجة جعلتها تفقد سلاحها وقوتها في لمح البصر، ومن قامت باستهدافه بالسكين أولًا يمنحها نظرات قاتلة متقززة من وجودها يين الحين والأخر، أما الاثنان الأخرون يكتفين بمراقبة حديث المتوحش مع أيوب الوحيد الذي تتأمل برأفة قلبه أن يقوم بحمايتها من هؤلاء.
رفع أيوب عينيه ليوسف وقال بحرجٍ:
_أنا بعتذرلك يا يوسف على كل اللي حصل ده، بس أنا آسف مش هقدر أسيبها بالوقت ده تنزل لوحدها… دي وصية أخوها ومش هقدر أكسر وعدي ليه.
اندفع تجاهه عمران وبكل غضب امتلكه سدد به لكمة على وجهه ليسقطه أرضًا ويندفع تجاهه صارخًا بعنفوان:
_هتضيع نفسك ومستقبلك عشان الحقيرة اليهودية دي، فوق لنفسك يالا.
فشل جمال ويوسف بابعاده عنه، وحينما نجحوا برفع جسده رفع عمران جسد أيوب خلفه لينظر بعمق عينيه هاتفًا بقلقٍ:
_مصيبة تكون حبتها!!
انتفض بين ذراعيه بنفور استطاع الشباب بأكملهم الشعور به، وردد بعدم تصديق:
_أحب مين يا عمران إنت عقلك راح فين؟ أقسملك بالله ما طايق أبص في وشها بس هعمل أيه أخوها أمني عليها علشان خايف من عمها… هي لحد اللحظة دي متعرفش إنه هو اللي قتل أخوها.. وبيهددها لو مقتلتنيش هيقتلها هو عشان كده قعدتها عندي في الشقة وجيت هنا.
همس جمال بصدمة مضحكة:
_في شقتك كمان؟!!!!
هز آدهم رأسه بقلة حيلة في اقناع هذا الأيوب، ومن ثم قال بنفاذ صبر:
_قصره طلعها بره وارجع.. ومتقلقش أنا هجبلك قرار عمها ده وهلبسه في حيطة سد.
أومأ له والابتسامة تشق وجهه في بادرة جعلت عمران يهتف بسخط:
_ليك نفس تضحك!
هز رأسه مؤكدًا وقال بصوتٍ محتقن بالدموع المتلألأة رغمًا عنه:
_عشت طول عمري وحيد ومسبقش ليا إني خوفت أو عملت اعتبار لحد غير أبويا، فأول مرة أحسن إني مش وحيد وعندي اخوات رجالة خايفين عليا بجد.
تقصروا بحديثه، فابتسم جمال وضمه إليه بقوةٍ:
_والله العظيم أنا من ساعة ما شوفتك هنا مع سيف وأنا بحبك لله في الله… خلقتك سمحة وتتحب غصب عين أي حد.
ضحك يوسف بمرحٍ وهو يفصلهما عن العناق:
_ايدك يا جمال سيف لو شافك هيولع فيك.
تعالت ضحكاتهم الرجولية بمرحٍ، فضمه يوسف وهو يعاتبه بمحبة:
_ما أنا قايلك يا عبيط إنك في مقام دكتور سيفو بس إنت الحمد لله نسخة أعقل منه.. بس لو تطاوعنا وتتخلص من القازورات دي!!
منحه آدهم ابتسامة صغيرة، ومن ثم ربت على كتفه بحنان قبل أن يغادر الغرفة التي لم يحتمل البقاء بها بوجود تلك الفتاة، خرج الشباب وتبقى عمران يحدجه بنظرات صلبة، انتهى باشارته الصارمة:
_هاتها وانزل هدور العربية وهستناك.
لحق به قبل أن يخرج من الغرفة:
_مفيش داعي يا عمران أنا هأخد أي تاكسي.
التف إليه محطمًا أسنانه من فرط ضغطه المتعصب عليها، وصاح بتحذير:
_هاتها وانزل بدل ما أمد إيدي عليك تاني، أنا خلاص مبقاش عندي تفاءل لإني على يقين إن المعاتيه هما اللي بيقعوا في طريقي.
وأشار وهو يغادر:
_لخص في ليلتك.
هز رأسه له وما أن غادر الغرفة حتى إلتف لها بنظرة غاضبة لحقت صراخه:
_بحق الله كيف تأتين إلى هنا! أنتِ حمقاء يا امرأة أم فقدتي عقلك المعتوه هذا!
التقطت أنفاسها بحرية فور مغادرة الجميع، ونهضت تقف قبالته تهتف بملل:
_ وأخيرًا انتهى حديثكم الغريب هذا.. حسنًا فإن بقينا بمفردنا فلنفعلها الآن.
مزق شفتيه السفلى باسنانه واحتدت وتيرته:
_اللعنة… توقفي عن نطق تلك الكلمات البذيئة، أنا لا أحتمل سماعها ولا سماع صوتك هذا، هيا سنغادر.
رفضت التزحزح عن محلها وقالت باصرار:
_انتهى الأمر أحضر لي السكين من هذا الشرس لأقتلك هنا ولننتهي من هذا.
توسعت مقلتيه بدهشةٍ وأجابها بنفس طريقتها البسيطة في طرح وجهة نظرها:
_إن خرجت وطالبته بالسكين سيعود ليقطع رقبتك وتلك المرة لن أستطيع انقاذك من بين براثينه…. ما رأيك أذهب لطلب سكينك أم ستتحركين الآن؟
ابتلعت ريقها بتوترٍ وخاصة بعد أن أُتيح لها فرصة تقييم حالة ذلك الرجل الشرس ذو البنية الضخمة، فهمست برعبٍ فشلت باخفائه:
_لنخرج من هنا الآن… من فضلك.
سخر من رعبها وهروبها السريع لخارج الشقة، لحق بها للأسفل، فوجد عمران بانتظاره بالسيارة، دخلت “آديرا” للمقعد الخلفي وصعد “أيوب” جواره يتابع صمته وتجهم معالمه بضيقٍ، وكلما حاول التحدث معه كان يوقفه باشارة قاطعة حتى وصل لمسكن أيوب، فهبطت وهبط من خلفها أيوب يشير لعمران:
_شكرًا يا عمران.. تقدر تمشي إنت.
نزع عنه حزام الأمان بقسوة، وهبط ليكون جواره طارقًا بقوة على سقف السيارة:
_مش هتحرك من هنا خطوة واحدة من غيرك.. سامع!
هز رأسه عدة مرات بارتباك من رؤية حالته الغريبة، واتجه معها لمدخل العمارة، فوقف قبالتها يشدد عليها:
_هيا اصعدي للأعلى ولا تفعليها مجددًا والا لن أنجح بتحريرك.
رفعت عينيها الزرقاء إليه وأبعدت خصلاتها الصفراء خلف أذنيها بارتباكٍ مما تجاهد لقوله، وحينما فشلت قالت:
_لماذا تفعل كل ذلك؟ لماذا تساعدني بالمسكن والطعام والآن فعلتها وانقذتني من صديقك الغاضب، لماذا تفعل كل ذلك؟
وتابعت تزيح عقلاتها الصعبة عنها:
_إن كنت ارهابيًا تقتل من حولك لماذا لم تقتلني حينما هاجمتك بأول مرة؟
صمته يطول وكأنه لم يستمع لها، عينيه مازالت تنخفض أرضًا، يتركها تحرر ما داخلها ويحلل مسافته هو لهدفه، فوجده قريبًا حينما قالت:
_ظننت بأنك تفعل كل ذلك لإنك قد تكون كأي رجلًا يسقط أمام جمالي خادمًا لي ولكنك ولا مرة رفعت عينك بي!!
وبوضوحٍ شديد قالت:
_ماذا تريد من كل ذلك أيوب، أخبرني؟
مسح وجهه بيده والعصبية جعلت أصابعه تعلم على وجنتيه البيضاء، وأخرج إليها أحد الاسرار التي لا تعرفها:
_لإنكِ وصية محمد لي… أخر ما فعله قبل أن يفارق الحياة بأن وضعكِ في ذمتي وأمانتي وأنا أحاول بكل طاقتي ألا أنكس بوعدي له رغم صعوبة ذلك، فأنا بالنهاية مسلمًا وديني يُحرم علي التعامل مع أي امرأة تحل لي.
سددت له نظرة مشككة بحديثه، فانهدرت أنفاسها من شدة انفعال مجرى الهواء، وتساءلت:
_ولماذا يضعني أخي بأمانة قاتله؟
تخلى عن هدوئه وهدر بانفعالٍ وصراخ وصل لعمران الذي يتابع وقفتهما عن كثبٍ:
_لإنني لست قاتل أخيكِ.. أخبرتك كثيرًا بأنني لست هو!
_ومن هو إذًا؟
تساءلت بحدةٍ وعينيها لا تفارقه، لتجده يرفع رأسه وعينيه الجذابة إليها لمرته الاولى وبكل ثقة قال:
_عمك من فعلها.
تغاضت عن رؤية عينيه الذي حق له إخفائها بتطلعه للأرض باستمرارٍ، وتراجعت للخلف ويدها تكبت شهقات يعجز فمها عن تحريرها، بينما رأسها ينفي تهمته:
_لا… هذا ليس صحيحًا… أنت كاذب… عمي لا يفعلها… عمي لا يقتل أخي.. كيف سيقتله وهو من كان مسؤولًا عنا منذ أن توفى أبي وأمي؟
وصرخت بانهيارٍ ويدها تحيط جبهتها:
_إنت كاذب.. بالطبع كاذب.. عمي لا يفعلها.
بقوةٍ واصرار قال:
_بلى فعلها.. أراده أن يكفر بالدين الاسلامي بعدما أصبح مسلمًا وحينما رفض عذبه مرارًا ليجعله يرتد عن دينه حتى لاقى مصرعه.
هزت رأسها مجددًا بشراسة وعنف:
_أنت كاذب… إرهابي لعين..
ابتسم ساخرًا وهو يراقب حالتها:
_وإن كنت ارهابيًا لماذا لم أقتلك بأول مرة قمتي بمهاجمتي بها؟ ولماذا لم أترك صديقي يفعلها الآن؟ ولماذا أبقيكِ بمنزلي آمنة؟!
وضع يديه بجيب سرواله واستدار يتابع عمران المستند على مقدمة السيارة بانتظاره، ومن ثم عاد يقف محله قائلًا:
_أتعلمين آديرا بداخلك فتاة رقيقة ولكن ينقصها العقل…إن كنتِ لا تستطيعي جرح أصبع صغير لرجلٍ تظنيه قاتل أخيكِ، كيف يظن عمك بأنكِ ستنجحين باتمام مهمتك الا وإن كان يعلم بأنكِ ستخسرين بتلك الحرب وحينها سيتخلص منكِ مثلما يريد وحتى إن نجحتي بهدفك وقتلتيني هل سيتركك القانون هنا؟
استندت على الحائط من خلفها لتعزز قوتها، بينما تابع أيوب:
_ألم يكن بمقدوره قتلي بنفسه أو على الأقل ارسال أحدًا من رجاله ليقتلني!
وأجاب ذاته باستهزاءٍ:
_هدفه الوحيد أن يتخلص منكِ يا عديمة العقل!
ضمت يديها لآذنيها وصرخت بعصبية:
_اصمت.. لا أريد سماع شيئًا من أكاذيبك… سحقًا لك أيوب.
وتركته وصعدت الدرج تهرول عن مواجهته التي بدت أكثر منطقية لها، تابعها حتى صعدت وعاد لمن ينتظره، جلس جواره فتحرك به عمران للمقهى المقابل لمبنى سكن يوسف، وأمره بحدة:
_انزل.
توجس من طريقته ولكنه انصاع إليه، فهبط يتبعه للطاولة الخارجية للمقهى.
وضع عمران مفاتيح سيارته وأغراضه على الطاولة بصمت طال بالأخر الذي يترقب سماع ما سيقول، بينما يتجاهله ويطلب كوبين من القهوة، وطال بهدوئه حتى أتى النادل بطلبه فارتشفه ببرود تام دفع أيوب ليتساءل:
_عمران أنت لسه زعلان مني؟
رفع حاجبه باستنكارٍ:
_هو إنت كنت متوقع رينج معين لعملتك السودة دي غير زعلي!!
تنهد بتعبٍ وقال:
_أنا اتورطت في كل ده بدون ارادة مني والله.
ورمى الكرة إليه حينما تابع:
_طيب لو انت مكاني هتعمل أيه؟ هتتخلى عنها وهي وصية صاحبك؟
أجابه بخشونة تتبع عرف رجولته المتشدد:
_مش هتخلى عنها بس الأكيد مش هقدملها نفسي وأقولها اقتليني براحتك!
جذب كوب قهوته يرتشف منه ليبتعد عن اجابة قد تشعل الأخير، فتابع عمران بنفس العصبية:
_أيوب أخرة اللي بتعمله ده هيحرقك… البنت دي مش هتسيبك في حالك لا هي ولا عمها، إنت لازم تبعد عنها وتغير مكانك خالص لحد ما تخلص السنة الاخيرة اللي لسالك وترجع مصر على طول.
حرك رأسه هامسًا بخفوت:
_أوعدك إني هبعد عن المشاكل.. وكلها كام شهر وهنزل مصر نهائي معدليش رجوع هنا.
امتعضت معالمه بشدة، فقال بمرح:
_قول إنك جبان وبتهرب من أولها.. بس أنا واثق إنك هترجع محدش صاحب عمران الغرباوي وقدر على بعده.
ضحك أيوب بشدةٍ، وطرق كف بكفه فغمز له وهو يسحب يده سريعًا:
_مراتك جت.
زوى حاجبيه بذهولٍ، واستدار، خلفه تجاه ما يتأمله، فوجد سيف يهرول إليهما بعدما رأهما من الشرفة، وما أن وصل إليهما حتى احتوى أيوب بين أحضانه مرددًا بقلقٍ:
_اترعبت لما يوسف حكالي اللي حصل، قولتلك يا أيوب البت دي مش هتسيبك في حالك.
ربت على ظهره بحنانٍ وأخبره ببسمة ممتنة لحبه الصادق:
_أنا كويس يا سيف متقلقش.
ابتعد عنه وهو يبادله الابتسامة، ثم جذب المقعد المجاور لعمران الذي يرتشف قهوته ويتابعه بطرف عينيه، وحينما وجده يتأمله قال بنزقٍ:
_صاحبك عندك أهو يا عم محدش جيه جنبه، هو اللي لازق فيا ومرضاش يطلع.
ابتسم سيف وقد أتقن مقصده، فقال بامتنانٍ:
_شكرًا إنك مسبتهوش يا عمران… وجودك معاه طمني إنه هيكون بخير.
رمش بعدم استيعاب وأشارب لايوب:
_مين ده؟ هو القهوة اللي بيقدموها هنا فيها كحول ولا أيه؟
تعالت ضحكاتهما الرجولية فشاركهما عمران، استند سيف بذراعيه على الطاولة الصغيرة الفاصلة بينهم وقال:
_لا ده أنا متقلقش ولو كنت جيت الصبح الجامعة عندي كنت هتشوف أد أيه دروسك جابت نتيجة معايا حتى اسال زينب.
ضيق رماديته بتشوشٍ، فحاول تذكر ذاك الإسم وتساءل بعدم فهم:
_زينب مين؟
وتابع بعد ارشاد عقله:
_آه… تقصد أخت مرات أخويا؟
أكد له:
_أيوه أخت مرات دكتور علي.
تابعه أيوب باهتمامٍ فاستدار يخبره بمشاكسة:
_هي نفسها البنت اللي وقعتلها الأيس كريم وروقتك.
طرق الطاولة بحماس:
_كنت حاسس لإن وقفتك معاها يومها مكنتش طبيعية.
راقبهما عمران بشك مما يدور بنيتهم، فأسرع سيف بتفادي غضبه قائلًا:
_حيلك يا أيوب دماغك راحت فين يالا، اللي حصل مالوش علاقة بالارتباط ولا غيره، أنا بس ساعدتها كان في شاب بيضيقها وأنا ربيته.
تحفز بجلسته وهو يسأله:
_بيضايقها ازاي؟
رد عليه بإيجازٍ:
_بيضايقها يا عمران وأنا اتدخلت واتحلت.
منحه نظرة محتقنة لاختصاره الاحداث، فزفر بضيق:
_أعتقد انها دخلت الفصل وشافت اتنين في وضع مخل فاتعرض ليها.
أسبل بدهشةٍ، وهتف:
_في الفصل!! الكلام ده ممنوع جوه الجامعات إزاي مأخدتهاش وقدمت شكوى باللي حصل، ازاي تعمل كده يا سيف الولد ده أكيد هيتعرضك إنت وهي تاني، لكن لو كنت لجئت للمدير أو حد من الادارة كان أقل حاجة أخد فصل، الكلام ده ممنوع وفي تشديد بكده.
أجابه باستهزاء:
_مين اللي هياخد فصل يا عمران؟ معتقدش إنه هيتأذى في حاجة الأذى كله ممكن يطولها لإن ده يومها الأول بالجامعة وعملت المشاكل دي، عمومًا متقلقش أنا فهمتها على شوية قواعد لو مشت عليها هتتجنب المشاكل.
تحاشى عنه جموده وابتسم ابتسامة واسعة جعلت سيف مرتبكًا مما يجوب بخاطره، فأتاه يكشف له نيته:
_غريبة يعني يا سيف انك تخرج عن هدوئك وطبيعتك علشان واحدة أول مرة تشوفها!
ابتلع ريقه بارتباكٍ:
_مهو أنا مكنتش هقف أتفرج عليها ومساعدهاش.. دي حتى لو مش متدينة كنت هساعدها بردو، صح يا أيوب؟
قالها وهو يلكز ذاك الذي يتابعه بخبث، فكبت ضحكاته وراح يوافقه بالحديث باشارة رأسه، فتجرع عمران أخر ما تبقى بقهوته قائلًا باستهزاء:
_لو يوسف عرف انك ضربت حد عشان بنت هيجوزهالك النهاردة.
ضحك وهو يؤمي له، مؤكدًا:
_هو نفسه يجوزني بأي شكل مش مستني حتى اما اتخرج… ده فرحان إنه بكره افتتاح عيادة دكتورة ليلى علشان يبدأ يشطب الشقة اللي اشترهالي فوق شقته بحيث يجوزني فيها أول ما العمال يخلصوا!!
نهض وهو يجذب مفاتيحه ومتعلقاته غامزًا بمكرٍ:
_هساعده المرادي بنفسي لإني حاسس أن الحوار جاي على هواك!
وأشار لأيوب قبل أن يغادر:
_شكل في ضرة داخلة عليك قريب يابن الشيخ مهران!
وتركهما يضحكان بشدة وغادر على الفور، بينما طعنه أيوب بنظرة محتقنة تليها قوله المازح:
_أهون عليك تجبلي ضرة يا سيفو… بس وماله ده يوم الهنى على الأقل تتجهالها شوية وتفكك مني.
لكزه بغضب رغم انطلاق ضحكاتهما، ليوقفه أيوب متسائلًا بجدية:
_لا لخص واحكيلي حوارك معاها على أيه؟!
ضم شفتيه معًا وسرح بتفكيره عنها ومن ثم أجابه بحيرة:
_مش عارف والله يا أيوب، بس أنا حابب أتعرف عليها عن قرب أوي، وإنت عارف إن حاجة زي دي مينفعش تحصل من غير رابط راسمي، فلو عملنا خطوبة اتعرف عليها كويس هيكون أفضل.
رد عليه باستنكارٍ لما يظنه متاح:
_وتفتكر دكتور يوسف هيقبل بده! مش هيرضى غير بكتب كتاب وأنا معاه في الحتة دي، فألحق قرر قبل ما يعرف وتلاقيه داخل عليك بالمأذون!
*******
ادعت نومها بينما تراقبه وهو ينتهي من غلق الحاسوب بعدما اختار أغلب التصميمات المؤكدة للمركز، ونهض يتجه لمكان نومه حيث سيتوسط الأريكة اليوم تاركًا لها الفراش.
وضعت فاطمة الوسادة من أسفل رأسها وأخذت تراقبه بارتباكٍ، تجاهد رغبتها بالبقاء جواره، وحينما ظن أنها غافلة نهضت هي تناديه:
_علي.
فتح عينيه واستدار لها بابتسامة واسعة:
_إنتِ صاحية؟
هزت رأسها بخفةٍ، وحاربت بشدة احتقان وجهها لنطق:
_ممكن تخليك جنبي، عايزة أتعود على وجودك.
رمش بعدم استيعاب لدرجة جعلته يظن بأنه أخطأ ما استمع له للتو، فاستقام بجلسته وتساءل بتوترٍ:
_أنام جنبك تقصدي؟
هزت رأسها تؤكد له، وكأنما حصل الآن على أذنٍ صريحٍ منها، فاستقام بوقفته واتجه ليتمدد جوارها وعينيه لا تفارق عينيها، كلاهما يتمددان باتجاه بعضهما البعض باستكانة عجيبة، أعينهما لا تفارق الأخرى.
تردد علي كثيرًا بفعلته ولكنه جازف حينما فرق ذراعيه وجذبها إليه لتغفو داخل أضلعه، فابتسم براحة حينما رأها تتمسك به وتستريح برأسها فوق صدره ملامسة موضع قلبه.
مال علي على رأسها يطبع قبلات متفرقة على جبينها بابتسامة جذابة وصوتًا محشرج يصل لأذنيها:
_مش مصدق إنك نايمة في حضني أخيرًا… كنت حاسس إن اللحظة دي مستحيل هتيجي في يوم من الأيام يا فطيمة.
شعر بارتباك حركتها، حتى أنفاسها التي تلفح رقبته كانت مضطربة بشكلٍ جعله ينهض بها، فأبعدها عنه تقابل وجهه.
أبعد علي شعرها خلف أذنيها مبددًا اختفاء معالمها الرقيقة، وهمس بعاطفته:
_حبيبتي بصيلي.
رفعت عينيها إليه وهي تجاهد لاخفاء ربكتها، فوجدته يقييم حالتها بنظرة متفحصة، وفجأة انفصل عنها متراجعًا لأخر نقطة بالفراش:
_أنا آسف إني أخدت خطوة إنتي مش جاهزة ليها، لو حابة ممكن أرجع مكاني!
ما فعله لم يكن جرمًا كل ما أراده أن تغفو بين ذراعيه ولكنها على ما بدى له ارتبكت والبداية ستوشك على اختبار أشد حدة منها، هزت فاطمة رأسها نافية عودته للأريكة، فتمدد بعيدًا عنها قائلًا:
_نامي وارتاحي، أنا كل اللي يهمني انك تكوني مطمنه.
تمددت محلها والتوتر يزيد من حدته، كيف تخبره بأنها لم تخاف قربه بل ازدادت نبضاتها لقربه بشكلٍ تختبره لأول مرة، الثواني التي قضتها بين ذراعيه منحتها شعورًا لم يسبق لها خوضه من قبل، بالرغم من أنها لم تكن ضمته الأولى.
خطفت فاطمة نظرة إليه فوجدته يضع ذراعه على عينيه وعلى ما يبدو من اتتظام أنفاسه بأنه قد غفى سريعًا.
تسللت إليه حتى أصبحت ملتصقة به ووضعت رأسها على صدره مجددًا، تختبر ذاك الشعور مجددًا، تقسم أنها بتلك اللحظة لن يزورها أي كابوس مجددًا.
ارتسمت ابتسامة على شفتيه، وأخفض ذراعيه معًا يحاوطها بحبٍ وتملكٍ، وعادت همساته تختلج آذنها:
_أوعدك إنك عمرك ما هتندمي على الثقة اللي ادتهاني في يوم من الأيام يا فطيمة… أنا ميهمنيش غير إني أكون موجود جنبك.
تشبثت يدها بقميصه وضمت نفسها لكتفه، فأحاطها بشوقٍ ولهفة تجوب لمساته، واستدار بجسده يحاوطها داخله هامسًا بنعومة رقيقة:
_تصبحي على خير يا أغلى من روحي!
******
النغمات الهادئة تنطلق من المذياع الصغير، ومن أمامه تتحرك بخفة بين ذراعيه وعينيها لا تفارق رماديته، يضم بيديه خصرها ويتحرك ببطءٍ معها، ابتسمت برقةٍ وهمست له:
_كان نفسي أرقص معاك ولا مرة اتجرأت وطلبت منك كده.
اندهش أحمد من كلماتها العفوية وسألها باستفسار:
_ليه؟
ضحكت وأجابته وهي تميل لكتفه:
_لإني كنت بحس دايمًا إنك خايف تقرب مني لتضعف، كنت بتخاف تكون آثم ومخطئ، وبتحاول تحافظ عليا وتصوني لنفسك.
وأطلت بزرقة عينيها إليه تسأله بكل جدية:
_لو كنت تعرف إني هكون لغيرك كنت هتفضل محافظ عليا كده يا أحمد؟
تعمق بنظرته العاشقة إليها، ومد يده الممسكة بيدها إليه يطبع قبلة عنيقة تلامس أصابعها هامسًا بصوتٍ رخيم:
_أنا وقعت في عشقك من وإنتِ طفلة بضفرتين، وعمري ما سمحت لمشاعري تنجرف لطريق يأذيكِ يا فريدة، حاربت نزواتي كلها ومسمعتش غير لقلبي اللي بيرتاح لما يشوف ابتسامتك الجميلة، والأكتر من كده نظرة الثقة اللي كانت جوه عيونك ليا، الثقة اللي خالتني أول شخص تلجئ له وانتي مش خايفة اني أستغل ضعفك ووجودك معايا.
وتابع وهو يقربها إليه لتكون قبالته للغاية:
_فريدة أنا استكفيت بيكِ عن ستات الدنيا كلها، حتى الحاجة الوحيدة اللي كانت ممكن تخضعني للجواز كرهتها، كرهت إني يكونلي ابن من ست غيرك ولو مكنتيش وافقتي على جوازنا كنت هكمل كده لأخر حياتي.
تدفق الدمع من عينيها، فاندثت باحضانه هامسة ببكاء:
_حقك عليا يا حبيبي، أنا كنت قاسية وظلمتك يا ريتك صارحتيني بكل ده من زمان، يا ريتك فوقتني ومسبتنيش أعيش كل ده وأنا مخدوعة، سامحني أرجوك.
أحاطها مجددًا وأخبرها باستنكارٍ:
_هو أنا كنت زعلت منك عشان أسامحك، أنا اللي اتظلمت وظلمتك معايا يا فريدة.. بس خلاص اللي فات انتهى واترمى بره حياتنا.. اللي جاي هو اللي ملكنا.. هو اللي أنا قادر بيه أعوضك عن كل العذاب والبعد.
وحملها بين ذراعيه وإتجه بها لفراشه وهو يهمس بشغفٍ:
_بعشقك يا فريدة.. وعشقي ليكِ مستحيل ينتهي الا بموتي!
*******
صعد لجناحه بارهاقٍ يجتابه، فوضع متعلقاته جانبًا واستكمل خطاه للداخل، فتفاجئ بها تجلس أمام السراحة واضعة من أمامها الكثير من عُلب مستحقات التجميل.
رفع عمران ساعته إليه وتفاجئ بتأخر الوقت للغاية، وعاد بنظراته لها متسائلًا بحيرةٍ:
_بتعملي أيه في الوقت ده يا مايا؟
تفاجئت بعودته المبكرة عن المعتاد، فارتبكت للغاية وأخبرته:
_مفيش كنت زهقانه شوية فقولت أسلي نفسي وأعمل ميكب كامل وبعد كده همسحه وأنام.
كبت ضحكة فالته منه واقتراب يجلس على جزء من السراحة قبالتها، ورفع يديه معًا يشدد على وجنتها مرددًا بدلال:
_حبيب قلبه يا ناس زهقان وملان وجوزه موجود طيب تيجي ازاي دي!!
نزع عنه جاكيته واسقطه جانبًا، ثم انحنى ليختار أحد الفراشات التجميلية من أمامه، خطفت مايا نظرة سريعة إليه وتساءلت بذهول:
_بتعمل أيه يا عمران؟
قال وهو يحاول جاهدًا العثور على غايته:
_هنتسلى سوى يا بيبي، مينفعش مشاركيش في شيء بيساليكي، حتى لو عملنا من وشك خريطة أو وش بلياتشو.
وصاح بحماس:
_لقيتها.
لعقت شفتيها بتوتر وهو يقرب منها ما يحمله، فصاحت به:
_عمران إنت أساسًا بتعرف تحط ميكيب؟
تجاهل سؤالها وبدأ بفرد طبقة من الكريم المرطب على وجهها، قائلًا ورماديته لا تحيل عن فرك يده للكريم:
_مش يمكن لو جربت أطلع بعرف! أكيد يعني حاجة سهلة مش كميا هي.
وتابع وهو يعود بنظره للأغراض من أمامه:
_بصي توكلي على الله ثم علي وسبيلي نفسك.. أنا هروشنك وإن لقدر الله البوهية باظت فأنتِ كده كده كان عندك نية تمسحيها يعني مفيش أي خساير في الموضوع… ممكن تسكتي بقى وتسبيني أركز.. عايز أخد فرصتي لو سمحتي!
ضحكت بصوتها كله وهي تراه ينصدم من كمية الادوات من أمامه، ويتمعن بالألوان باهتمامٍ بالغ، فيعود لخطف نظرة سريعة لها ويعود ليتحقق من الألوان بيده، راق لها قربه واهتمامه بتفاهتها، فراقبته بصمت وهي تعلم أن فور انتهائه ستكون شبيهة بلوحة الألوان الفجة ولكن ما عليها سوى الاستمتاع بوقتهما معًا.
سمعته يهمس بحيرة وهو يبدي كل اهتمامه لعمله وكأنه سيقوم بانشاء احد مشاريعه:
_اللون ده حلو بس حاسس إني لو دمجت عليه لون تاني هيدي لون تالت مميز… طيب هجرب ده.
وجدته يدمجهما على يده قبل أن يتجه لعينيها، بدأ بوضع ما اختاره بعناية وتركيزه بأكمله منصوب على ما يفعله، فقالت بسخرية:
_ها يا بشمهندس ألوان النقاشة عجبتك ولا أستلف لونين من شمس.
انحنى بعينيه لعينيها التي تتابع ما يفعل، فاقترب بمنديل ورقي وأزاح الزائد عن باطن عينيها قائلًا:
_هششش، سبيني أركز قولت… كل ما تديني شوية هدوء كل ما خرجتلك شغل نضيف اسمعي مني بس.
انطلقت صوت ضحكاتها بقوة وهو يشاركها الابتسامة، فانتهى من رسم عينيها وكأنه يرسم لوحة فنية تذيبه داخلها، حتى جذي فرشاة أخرى يضع بها حمرة طفيفة على وجنتها، وانتهى باختيار طلاء الشفاة، وضعها بتمهل وبحرص حتى لا ينتزع ما فعله، وألقى ما بيده ليستند على المرآة بظهره وهو يقييمها بنظرة عاشقة تتفننن بحفظ معالمها، فقالت بقلق:
_ها طمني الشكل بشع لأي درجة؟
ابتسم وهو ينهض عن السراحة:
_شوفي بنفسك.
تماسكت وهي تسحب نظراتها للمرآة، فبرقت بعينيها صدمة جعلتها تنهض عن المقعد وتسرع للمرآة حتى كادت بالولوج داخلها.
نزع عنه قميصه وجذب بيجامته وعينيه مازالت تتابعها بابتسامة صغيرة، استدارت إليه بتلعثمٍ:
_ازاي!!!!!
سقط منه الملابس بفزعٍ:
_أيه يا عسلية مالك؟
أشارت بيدها على المرآة:
_أيه ده؟
تطلع للمرآة ثم عاد يتطلع لها باستغرابٍ:
_أيه؟! مايا خشي في المضمون أنا معنديش دماغ تفكر عقد وألغاز الستات دي!
ركضت تجاهه فتراجع للخلف بخوفٍ مصطنع:
_صلى على النبي واللي انكسر يتصلح.
أمسكت يديه وبحماس وفرحة تساءلت:
_عملت الميكب التحفة ده ازاي!!! انطق يا عمران إنت واخد كورس؟
زوى حاجبيه بسخرية من طريقتها وكأنه صعد للسماء وعاد بالقمر للتو، فانخفض يجذب الملابس وانتصب ينزع قميصه ليلقفها بكلماتٍ مغرورة:
_أنا محدش يتوقعني، ثم إني كبشمهندس أد الدنيا مفيش شيء صعب يقف قدامي.
ابتسمت بفرحة أضاءت عينيها:
_مش مصدقة بجد، الميكب سمبل وألوانه رقيقة اوي يا عمران!
راقب فرحتها بابتسامة جذابة، وانحنى يضع قبلة على خدها قائلًا:
_مبسوط إنه عجبك يا حبيب قلبه.
تركته وهرولت للسراحة تجذب أحد الزجاجات وترش بها على وجهها بأكمله، فتابعها وهو يضع رقبته بطوق التيشرت المنزلي:
_بتعملي أيه؟
أجابته ببسمة واسعة:
_بثبته علشان أروح الشركة بيه بكره.
احتل الغضب معالمه وصاح إليها:
_مش هيحصل، إنتِ بطبيعتك أحلى يا مايا.. وبعدين أنا اجتهدت في الالوان والروج عشاني أنا مش عشان تمشي تتمختري قدام الموظفين كلهم، عايزة تفتني حد في جمالك افتنيني أنا معنديش مانع غيري No يا بيبي.
أدلت شفتيها السفلية بحزن، واتجهت للفراش، فقالت بعد تفكير:
_طيب لو روحنا مناسبة مهمة هتحطلي زيه بالظبط؟
اتجه ليجاورها، وقال ساخرًا:
_خايف أوعدك بصراحة، هي طلعت مني كده صدفة الله أعلم هتتكرر معايا تاني ولا أيه! بس أوعدك اني هحاول يا حبيب قلبه!
اقتربت بجلستها منه وواجهت جلسته، وحركت كتفها بدلال:
_جوزي حبيبي هينجح تاني وتالت وعاشر عشان حبيب قلبه ميزعلش.
حدجها بنظرة مشاغبة، وبمكر قال:
_مقدرش على زعل حبيب قلبه أبدًا وهبدأ بالمصالحة من دلوقتي.
لم تفهم مقصده الا حينما هاجمها بدغدغة تستهدف بطنها وأسفل إبطيها، انفجرت بنوبة من الضحك وهي تترجاه أن يكف قائلة:
_بس يا عمران… عمران لأ..
ضحك هو الأخر على صوت ضحكاتها وصاح بدلاله الطفولي:
_حبيب قلب جوزه هيزعل منه ومش هيصالحه ازاي ده بس، أنا هدلعك النهاردة لبكره على الأقل يكون عندك جرعة سعادة تنفجر وقت ما نشوف نعمان الملزق إلهي ما يلحق يوصل على رجليه ويجعل زيارته من المستشفى للطيارة مرة تانية على مصر للقبر عدل مهو مش هيجي هنا يقرفنا بجثته!
لم تكف عن الضحك وهو يستشعر صوت قهقهاتها فضحك برفقتها وضمها إليه، متسائلًا بخبث:
_مش نعيمًا الميكب؟
حركت رأسها بعدم فهم لكلماته فتابع:
_ فين حق تعب الميكب آرتست المحترف اللي ظبطك الظبطة دي!
زحفت للخلف بنظرات تحذيرية إليه حينما وجدته يدنو منها بغمزة تعلم نهايتها كيف ستكون، وقبل أن تعترض وجدت ذاتها تستجيب لنوبة عشقه فلم تستطيع مواجهته بالنفي وانساقت خلفه لبوابة الغرام.
******
انساق الليل بغيمته السوداء وسطعت شمس يوم جديد، اجتمع فيه أحمد وفريدة بالأسفل على طاولة الطعام برفقة شمس وزينب وعلي، حتى مايا نهضت وهبطت للأسفل تتساءل بدهشة:
_صباح الخير… فاطيما فين؟
أجابها علي وهو يتابع تناول الجبن بالخبز:
_صباح النور يا مايا… شوية ونازلة.
منحته ابتسامة صغيرة، واتجهت لتحتل مقعدها، انتبهوا جميعًا لصوت عمران الذي يصفر بالأعلى رافعًا من صوته:
_فطار الهنا.. بس مش هيكون فيه سرور من غيري على فكرة.
قالها وهو يهم بهبوط الدرج، فانتبه لخروج فاطمة من غرفتها، استدار لها يبتسم كعادته:
_صباح الخير يا فاطمة.
اكتفت بهزة رأسها وحملت طرف فستانها الطويل واتجهت للهبوط للأسفل وهي تحمل بين يدها كتب زينب التي طالبتها بحملها لها.
هبطت فاطمة الدرج فأعاق لها حمل الكتب رؤية طرف فستانها الطويل، فتعلق كعب حذائها بطرفه فسقطت عنها الكتب وكادت بأن تلحق بهم، لتجد يد عمران تمتد لتمنع سقوطها، جذبها بقوة لدرجة آمنة في لحظة وقوف الجميع بفزع عليها، فوجدته يسألها ومازالت يده محاصرة لمعصمها:
_إنتي كويسة؟
انتفضت تدفعه بكل قوتها للخلف ونظراتها المحتقنة لا تحيد عنه، ارتجاف جسدها وتراجعه للدربزاين جعل الاخير يتابعها بدهشة متسائلًا عما فعله ليجد كل ذاك العداء منها؟!
أسرع علي إليها يجذبها إليه بلهفة:
_حصلك حاجة يا فطيمة؟
هزت رأسها بالنفي وعينيها تختطف النظرات لعمران باحراج لما فعلته، فحملت طرف فستانها وصعدت للأعلى هاربة، بينما انحنت شمس ومايا تجمعان الكتب، فاستغل علي ابتعادهما عن مكان عمران واتجه إليه يربت على كتفه بهمسٍ منخفض:
_متزعلش يا عمران منها، فاطيما لسه متخطتش الحالة النفسية اللي بتمر بيها.
هز رأسه بتفهمٍ، وعقد زر بذلته قائلًا:
_عارف يا علي ومش متضايق، المهم إنها موقعتش واتجرحت.
منحه ابتسامة يجاهد باخفاء حزنه بها، فدنى الاخير منه يتفرسه بنظراته فقرأ ما يحاول اخفائه:
_مالك يا علي؟
احتل الألم نبرة صوته لتجردها من ثباته الزائف:
_بقالي فترة بخلص ورق فاطيما انا ومراد علشان تكمل تعليمها وتدخل الجامعة من جديد بس اللي شوفته بعيني دلوقتي يخليني متسرعش في الخطوة دي، فاطيما مش جاهزة لسه تواجه العالم اللي برة حساباتها، مبقتش قادرة تتعامل مع حد.
أصاب الحزن قلبه، فهو يعلم ماذا تعني لأخيه وكيف احتمل لأجلها، الا يكفيه بأنه لا يحاول أن يكون زوجًا طبيعيًا معها، ربما امتلك هو الخبرة وسابق التجربة مع ألكس وكان يومًا ما ملقبًا بزير النساء ومع ذلك ضعفت مقاومته أمام من أحبها وودها بكل ما فيه، وبتلك اللحظة يشهد بأن علي رجلًا بكل ما تحمله معنى الكلمة، يتساءل أحيانًا أين يذهب باحتياجاته إن لم تكن يومًا بحياته تجربة سابقة أو صلة تربطه بالنساء كيف يحتمل بقائه جوارها هكذا؟
تنحنح بخشونة وقال بعد فترة صمته:
_إنت محتاج لتجربة صغيرة تجبر فاطيما انها تختلط بالناس يا علي، ولو تسمحلي أنا اللي هجر رجليها لكده.
سأله باهتمامٍ:
_ازاي؟
ارتدى نظارته بعنجهيةٍ:
_بعدين هتعرف سبني دلوقتي أغطس على شركة الغرباوي قبل ما خالك الملزق يوصل.
انقبضت معالمه بتقزز صريح ومن خلفه صدمة سؤاله:
_خالك جاي؟
طرق بقوة على كتفه وهو يشير له:
_استعد للاختناق أخي الطبيب.
وتركه واتجه ليغادر فانحنى علي بجسده للدرابزين يذكره:
_متنساش تبعت الفريق على المركز عايزين نبتدي الشغل بدري.
أشار له وهو يتجه للطاولة:
_الفريق بالمركز من ساعتين يا دكتور ومتقلقش أنا هشرف عليهم بنفسي وبكره تشوف هتستلم المركز ازاي، خلاص بقى في قبضتي والمداخل من تصميمي شخصيًا بص هبهرك!!
ردد وهو يستكمل طريقه لغرفة فاطمة:
_ربنا يستر!
تابعت فريدة عمران بقلق من أن يكون منزعجًا من تصرف فاطمة، فوجدته يقترب منها بابتسامة واسعة عذباء مردفًا:
_صباح الجمال والدلال على أجمل فيري في عيلة الغرباوي كلها.
قالها وهو ينحني يقبل وجنتها ورأسها ويدها بطريقة جعلت أحمد يتابعه بنظرات متفرسة بينما يتعالى ضحكات فريدة فضمته اليها من مقعدها قائلة:
_صباح الورد يا حبيبي.. أيه الجمال والشياكة دي كلها.
ألقى على نفسه نظرة خاطفة وغمز لها مشاكسًا:
_لازم أكون شيك وآنيق مش ابن فريدة هانم الغرباوي!!
احتضنت جانب وجهه بحنان:
_انت بكاش بس بموت فيك.
تنحنح أحمد ليلفت انتباههما لما يزيد عن تحمله، فخطف إليه عمران نظرة خاطفة ومرر لسانه على شفتيه باستمتاعٍ لرؤيته هكذا، فأراد أن يحجم يومه مثلما يشعر هو بتلك اللحظة، فانتقل من مقعد والدته لمقعده.
مال عمران لعمه الذي بدى مستنكرًا لفعلته، وخاصة حينما وجده ينحني تجاهه فتراجع بوجهه باستغراب من فعلته فقال عمران ضاحكًا:
_أنا هقولك كلمة سر متفهمنيش غلط يابو حميد.
حدجه بعمق خطر وصاح بتذمر وهو يرتشف من كوب عصيره:
_انجز.
اتشح بابتسامة خبيثة وهمس له:
_الملزق جاي.
سكب ما تجرعه واستدار يقابله بعينين متوسعتين من شدة صدمته، فضحك وهو ينحني يمنحه محرمة ويربت على كتفه كأنه يواسيه، وقبل أن تنتبه لهم فريدة الغارقة بحديثها مع زينب قال:
_امسك نفسك عشان لو فريدة هانم لمحت الكره اللي جواك ليه هترجع حظر العزوبية من تاني ومش بعيد تفضل هناك لأخر عمرك.
وتابع مستهدفًا جولته:
_خد بالك مجاش فرحكم لإنه مكنش موافق على الجوازة يعني الجاية المرادي هتكون زي قشرة الموزة مزحلقة يا عمي!
وانتصب بوقفته يودعه:
_عن إذنك هروح أحضر نعش جنازته لأجل ما استقبله.
والتفت ينادي زوجته:
_يلا يا بيبي؟
خطفت حقيبة يدها ولوحت للفتيات تودعهما، بينما اشارت فريدة لشمس:
_اطلعي يالا غيري هدومك عما نجهز أنا وأنكل أحمد… هنتحرك اول ما علي ينزل هو كمان.
هزت رأسها بحماسٍ وهرعت بلهفة للأعلى لتبدل ملابسها.
******
طرق علي على باب جناحه ليجعلها تنتبه لدخوله، ومن ثم ولج للداخل فوجدها تجلس على الأريكة ويدها تزيح دموعها فور أن اقترب منها، جلس علي قبالتها وسحب نفسًا مطولًا يغلب به حزنه وضيقه، فتمسكت يده بيدها يفركها بحنانٍ ودفء يجتاحها:
_الجميل زعلان ليه؟
أتاها مهدئها ودوائها لتسرع بأخراج علتها عنها، فزحفت بجسدها تقابله وقالت ببكاء:
_مقصدتش والله أحرج عمران بالشكل ده، كنت بايخة جدًا بدل ما أشكره على مساعدته ليا زقيته وجريت زي الهبلة، أكيد بيقول عليا مجنونة أو قليلة الذوق!
وتابعت بقهر جعل ريقها كالعلقم:
_غصب عني والله يا علي، أول ما مسك ايدي حسيت اني دوخت ومبقتش شايفة غير تفاصيل الأيام القاسية اللي عشتها دي.. أنا مكسوفة من نفسي أوي وحابة أعتذرله أنا مشوفتش منه شيء وحش بالعكس من يوم ما جيت هنا وهو محترم وذوق معايا جدًا وفي المقابل عاملته بطريقة بشعة.
احتوى وجهها المحتقن بأثر الدموع، وأزاحها عنه بهدوء اتنقل لصوته الرزين:
_عمران مبيعرفش يزعل من حد، وبالعكس هو متفهم جدًا الحالة اللي بتمري بيها يا فاطمة.. ولو اعتذارك هيفرق معاكي فأول ما هيرجع بليل هخدك وتروحي تعتذري مع أني شايف أنه مالوش لزمة لإنه متقبل الموضوع ومنتهي بالنسباله.
نجح بأن يبدد حرجها وزرع الابتسامة الرقيقة على شفتيها، فابتسم هو الاخر وردد بهيامٍ:
_ابتسامتك دي كفيلة تقلب يومي كله لسعادة.. أنا مش عايز أنزل غير وأنا متأكد أنك تخطيتي الموقف كله.
واستطرد وهو ينحني مقبلًا يديها معًا:
_أنا صاحي فرحان إنك ولأول مرة ميجلكيش نوبات ولا كوابيس، الظاهر كده حضني له تأثير عليك يا جميل!
سحبت كفها منه بخجل:
_علي!!
تمردت ضحكاته بصوتٍ مرتفع ونهض يتمم على ملابسه وشعره:
_أنا هنزل علشان ورايا كام حاجة كده..لو عوزتي حاجة إبقى كلميني.
تساءلت باهتمامٍ :
_ نازل المستشفى.
هز رأسه نافيًا، وقال وهو يعيد تصفيف شعره:
_أنا إستقلت يا فاطيما.
نهضت واسرعت إليه تمنحه سؤالًا أخر:
_ليه؟
رد عليها بحلمٍ يتشاركه برفقتها:
_ما أنا قولتلك قبل كده يا حبيبتي إني حولت المستشفى بتاعتي لمركز كبير واليومين دول فريق عمران بيجهز المركز وأنا معاهم بساعد باختيار المفروشات وغيرها مع إني معنديش شك في عمران بس أنا عندي خبرة بردو في الألوان والتنسيق المريح للمريض.
منحته ابتسامة اتسعت بفرحتها:
_ربنا معاك يا دكتور… متأكدة إنك هتنجح لإنك دكتور شاطر وتستاهل ده.
وتابعت وهي تشير على ذاتها بعنجهية:
_والدليل قدامك.
انحنى تجاهها يقبل جبينها وودعها بايجازٍ:
_أشوفك بليل يا قمري… سلام مؤقت.
همست وهي تتابع خروجه بهيام:
_مع السلامة.
*******
استيقظ آدهم على يد تهز جسده برفق، ففتح عينيه يجاهد مهاجمة نومه، فوجد سيف يقابله بابتسامة عذباء:
_صباح الخير يا سيادة الرائد… أنا حضرتلك الفطار والدوا ومضطر أصحيك دلوقتي عشان أطمن إنك أخدت أدويتك قبل ما أنزل عشان دكتور يوسف هيآآآ..
قاطعه بضحكة صاخبة:
_هينفخك؟
ضحك وهو يؤكد له:
_بالظبط، بس عرفت منين؟
اعتدل بجلسته وسحب الوسادة من خلف ظهره:
_عشان أيوب قالي نفس الكلام امبارح، واضح ان يوسف شخصية بيتخاف منها بس مش باين عليه!
جلس سيف قبالته يضع الطاولة المطولة ومن ثم يرص أطباق الطعام وأجابه ببسمة شملت ملخص للحب المتبادل بين الاخوة:
_يوسف ده مفيش في طيبة قلبه، أينعم هو مصحيني النهاردة من النجمة عشان أروحله أساعده في تزين عيادة دكتورة ليلى عشان الافتتاح النهاردة ومخلعني من الجامعة اليوم بطوله بس عشان عيونه أنا جاهز لأي حاجة.
تابعه باهتمامٍ وخاصة حينما لاح الحزن على معالم وجه ذاك الذي ظنه فتى صغيرًا مرحًا:
_يوسف مش أخويا الكبير يوسف ده أبويا وأهلي وناسي وكل ما أملك، بالرغم من اني مش يتيم عندي أب وأم بس الاتنين مش شايفين غير شغلهم، مكنش حد مهتم بيا غير يوسف، أكلي.. لبسي.. دراستي.. كل عقبة قضتها في حياتي كان جنبي فيها كتف لكتف، تخيل يا سيادة الرائد أنا برجع من جامعتي ألقيه سايب عيادته وبيته ومراته وعاملي الأكل ومنضف الشقة حتى هدومي بيغسلهالي!
واستكمل بوجعٍ انغمس بنبرته المبحوحة من شدة اضرام مشاعره:
_لما سابنا في مصر واستقر هنا كنت حاسس إني يتيم من غيره، مكالمته كل يوم هي اللي كانت بتصبرني، وعدني إني لما أخلص الثانوي هيبعتلي وأسافرله، كنت بذاكر ليل نهار وبدعي أخر سنة ليا تخلص عشان أشوفه، وأول ما نتجتي ظاهرت كان أول واحد أبلغه بمجموعي وأفكره بوعده… وجيت هنا وناوي استقر زيه مش راجع مصر تاني، مكان ما يكون يوسف هتلاقيني موجود.
ختم باقي حديثه مازحًا ليخفف من حدة الاجواء التي اصطنعها حديثه، فوجد آدهم يتابعه بنظرة حنونة مهتمة لسماع ما سيقول حتى ولو ظل يتحدث للأبد، فنهض عن الفراش يضع طبق صغير به الأدوية، ثم قال:
_أنا دوشتك على الصبح، المهم افطر وخد أدويتك لاني لازم أنزل ليوسف قبل ما يتعصب عليا، وبليل لو قدرت تيجي هستناك هناك في العيادة أنا قايل لأيوب يجيبك معاه.
تفحص الطرقة المطلة من باب غرفته متسائلًا:
_هو فين أيوب؟
رد عليه وهو يسكب له كوب المياه:
_أيوب بينزل من بدري لانه بيشتغل في مطعم قبل الجامعة.
اتسعت ابتسامة آدهم فأعاد خصلات شعره الطويل للخلف بحركة خاطفة، وتطلع لسيف يخبره:
_انت وأيوب ويوسف وعلي وعمران وجمال شاملين جملة شباب مجدع وزي الورد اللي بنقولها في مصر.. بحس بالفخر كل ما بكتشف عنكم حاجه.
مد يده يربت على كتفه في حالة مفاجئة لآدهم وقال:
_وإنت بانقاذك لأيوب ينطبق عليك نفس المقولة يا سيادة الرائد، عشان كده حضرتلك الفطار على مزاج بعد اللي يوسف قالهولي عن اللي حصل هنا امبارح.
قهقه عاليًا وردد بمشاكسة:
_كل ده عشان أخدت السكينة من البنت دي، بصراحة أيوب يتحسد على حبك ليه يا دكتور سيفو.. ومتقلقش أنا بعيد ولا كأني أعرفه.
حك لحيته المنمقة وقال بحرجٍ:
_هو أنا بعز أيوب وبحبه جدًا بس مش بالطريقة اللي داخله دماغكم، أنا بس كنت خايف عليه من صداقة عمران وجمال لإن أيوب خام مالوش في أي حاجة، وعمران ما شاء الله عليه وقح درجة أولى وجمال درجة تانية، كنت قلقان ميظبطوش مع بعض بس شكلي كنت غلط لانه اندمج وسطيهم بسرعة متخيلتهاش!
تلقفت يده الخبز ليضعه بالبيض وتناوله وهو يراقب من أمامه بهدوء، ومن ثم جذب المياه يرتشفها، تابعه سيف باستغراب من طريقته بتناول الطعام، فتمتم آدهم:
_كمل سامعك.
وجده يراقب طريقة تناول طعامه وسأله:
_إنت بتشرب بعد كل لقمة!!
هز رأسه يؤكد له:
_معرفش هي عادة عندي كده بحس الأكل مبيتهضمش من غير المية وده تعبني جدًا بس اتعودت.
بدت الحيرة جلية على معالم سيف، فقال مبتسمًا:
_أيوب كده وبهريه تريقة طول ما بيأكل.
إلتقط الجبن يتناوله بتمهلٍ لحديثه:
_لأ ما أنا مش هديك الفرصة، لإنك ماشي حالًا هتتأخر كده على دكتور سيف وهينفخك المرادي بجد.. روح علق البلالين مع أخوك أفضل من التريقى على خلق الله.
تعالت ضحكاته وأشار له بمرحٍ:
_حاضر يا سيادة الرائد إنت تؤمر…. سلام.
غادر تاركًا الابتسامة تغزو وجه الأخر الذي يتابع تناول طعامه باستمتاعٍ
**********
أوقف سيارته أسفل الشركة فهبطت مايا وغادر بعد أن أخبرها بأنه سيذهب لمشوارٍ هام، استكمل بسيارته الطريق متبعًا هاتفه بعدما بحث عن إسم المطعم وأخرج موقعه، والآن أصبح يقابل وجهته.
صف عمران سيارته وولج للداخل يبحث عن غايته، فوجده يرتدي مريال يحمل لوجو المطعم وينتقل بين الطاولات، وضع العصائر على احدى الطاولة وما كاد بحمل بالعودة للمطبخ حاملًا الصينية الفارغة حتى تفاجئ به يقف قبالته، فتفوه باسترابةٍ:
_عمران!
يتبع…
أوقف سيارته أسفل الشركة فهبطت مايا وغادر بعد أن أخبرها بأنه سيذهب لمشوارٍ هام، استكمل بسيارته الطريق متبعًا هاتفه بعدما بحث عن إسم المطعم وأخرج موقعه، والآن أصبح يقابل وجهته.
صف عمران سيارته وولج للداخل يبحث عن غايته، فوجده يرتدي مريال يحمل لوجو المطعم وينتقل بين الطاولات، وضع العصائر على احدى الطاولة وما كاد بحمل بالعودة للمطبخ حاملًا الصينية الفارغة حتى تفاجئ به يقف قبالته، فتفوه باسترابةٍ:
_عمران!
نزع عنه نظارته الشمسية ودنى إليه يمنحه ابتسامة مقتضبة:
_صباح الخير يا بشمهندس.
وكأنه يتعمد أن يذكره بما تنساه بين الطاولات هنا، فتعجب أيوب من طريقته الغريبة بالحديث، وسأله بدهشة:
_بتعمل أيه هنا؟
زوى حاجبيه بتهكمٍ صريح:
_هكون بعمل أيه؟ مش ده مطعم وبيقدموا فيه أكل؟
أشار له بايجاب بينما هز الاخير رأسه هامسًا بضجر:
_أسئلة خارج المنهج!
وتابع وهو يحك خده ليكظم غيظه الغريب لرؤية صديقه الجديد بتلك الوظيفة التي يعلم بكونها شريفة ولكن لجوئه لها في وجود شخصًا بنفوذه أثار غضبه بشكل تعجب هو ذاته له، فقال بحدة غريبة:
_اقلع المريالة دي وتعالى معايا.. عايزك.
عبث حاجبيه بدهشةٍ:
_أجي معاك فين؟ لسه بدري على ما أخلص شغلي وعندي محاضرة الساعة ٣!
جز على أسنانه بضيق وصدر أوامره:
_أيوب متنرفزنيش اقلع القرف ده وتعالى معايا حالًا!
وقبل أن يتفوه بحرف وجد عمران يدفعه للخلف لينزع عنه ما يرتديه فقال باستغراب:
_مالك بس في أيه فهمني؟!!!
منحه نظرة حارقة وصاح بغضب:
_في بشمهندس يشتغل الشغلانه دي بذمتك؟
رد بعفوية تامة:
_وأقل من كده كمان مدام مش برتكب شيء حرام ولا يعيبني فين المشكلة!
يعلم بأنه يمتلك الحق بحديثه وإن تحمل الخطأ سيكون إليه ومع ذلك لم يتمكن السيطرة على أعصابه، فجذب الصينية السوداء من يده ووضعها جوار المريال الغريب، ودفعه للخارج قائلًا:
_أنا اللي عندي مشكلة ارتاحت!!
جذبه عمران لسيارته والاخر يضحك على الحالة التي تعتلي الاخر، فما أن صعد جواره حتى انفجر ضاحكًا:
_مش معقول بجد إنت محسسني أنك قافشني مع واحدة ست!! في أيه يا عمران على الصبح مش كفايا امبارح مكنتش مفهوم!
قاد سيارته بصمت جعل الاخير يصفق كفًا بالاخر:
_لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم، ما ترد عليا يا ابني مسيبني شغلي وواخدني على فين؟
لكزه بعنفٍ والغضب يتطاير من عينيه بشراسة:
_متقولش شغلك ده مش شغلك يالا، إنت بشمهندس إعقلها بروح أ….
بلع باقي كلمته وراح يهمس لذاته بصوت وصل لمسمع أيوب المنصدم:
_اهدى يا عمران خد نفسك ومهما الحيوان ده حاول ينرفزك أوعى تتنرفز… relax!!
أعاد أيوب غلق سحاب تيشرته الذي انفتح لأخره حينما كان يحاول عمران تخليصه من المريال، وقال بنزق لسماع همساته:
_روح لاخوك يعالجك بدل ما أنت قاعد تكلم نفسك كده!
منحه نظرة محذرة فزفر بغضب والتزم الصمت لما يقرب العشرة دقائق، ومن ثم عاد ليتساءل:
_طيب ريحني وقولي واخدني على فين؟ هخسر شغلي بقولك!
خرج عن رزانته التي يحمل التكلف بها، فطرق الدريكسون بعصبية:
_شغل أيه اللي خايف تخسره يا أيوب، أنت أزاي تسمح لنفسك بتعليمك ده إنك تشتغل في مطعم، لو الشيخ مهران عرف بده هيقبل أن ابنه الوحيد يمشي يمسح التربيزات إنت بتهرج؟
برق إليه بصدمة، يحدثه وكأنه ارتكب جرمًا ما، ولوهلة تريث بالرد بالنهاية عمران يختلف عنه، يتحدر للطبقة الأرستقراطية التي عرفت بالترف والسلطة والمال، كيف سيتمكن من أن يصل لعقله فكرة العمل شيئًا صريح لأي رجلًا، ريثما إن تمكن من العيش عامًا كاملًا بمصر سيعلم بأن الرجال هم من يحتملون العمل المرهق لأجل قوت يومهم، ربما ولد وبفمه ملعقة من ذهب لذا صعب عليه الشعور بالاخرين، وإن كان أيوب ميسور الحال ولكنه لا يحتمل فكرة إلقاء كل احتياجاته لأبيه، لذا ود الاعتماد على نفسه حتى وإن لم يكن بحاجة للمال، فالمال الذي يرسله أبيه كل شهرٍ يكفيه ويفيض عن حاجته.
لعن عمران نفسه وما تفوه به حينما وجد أيوب يلتزم بالصمت، فصف سيارته أمام احدى شركاته بعدما وصل لمدخلها واستدار يقابله بندمٍ:
_أيوب أنا آسف مقصدتش، بس أنا لما شوفتك وإنت بتشتغل كده اتنرفزت ومقدرتش أمسك نفسي.
وتابع بضيق:
_أنا كده لما بتعصب ببقى دبش ووقح.
رفع عينيه إليه بهدوء يعاكس ظنونه:
_مزعلتش يا عمران بس إنت اللي مش قادر تفهم إن الشغل عمره ما كان عيب، حتى لو كنت دكتور أو عالم ذرة حتى، العيبة أنك تحتاج لحد وتمد ايدك وتقوله اديني، احنا الحمد لله مبسوطين ووالدي عندي أراضي وورث يعيشنا ملوك بس أنا مش حابب أعتمد عليه على طول، عايز اتعود اتحمل مسؤوليتي من دلوقتي وأشتغل في أي حاجة وكل حاجة لاني ببساطة مش منتظر اني اخلص جامعتي وألقى الشركات فاتحلي دراعتها لازم أكون جاهز لأي وضع.
منحه ابتسامة هادئة ورفع يده يضم كتفه مشيرًا برماديته:
_أنا اللي هخدك في دراعاتي وبدايتك من هنا.
تعلقت نظراته لخارج النافذة فانفتح فمه بانبهارٍ لرؤيته تلك المباني العتيقة التي تحتل منتصفها مبنى ضخمًا يحمل اسم “الغرباوي” ، فتح أيوب باب السيارة ولحق بعمران الذي يحاوط كتفه ويخبره بنفس ابتسامته الصافية:
_مكانك هنا يا بشمهندس.
تبلدت قدميه على أول درجات رخام البورسلين الأبيض فسحبها للخلف رافضًا تتبعه، فعاد إليه عمران ليجده يردد:
_مش هقدر يا عمران انا لسه بدرس مش جاهز!
منحه بسمة ساخرة قبل أن يتمتم:
_أنا استلمت ادارة شركة أبويا وأنا في أول سنة بالجامعة يا أيوب، وفي السنة الرابعة كنت بفتتح فرعين جداد للشركة.
وتابع ويده تضغط على كتفه:
_متقلقش أنا جنبك… واللي علمني وخلاني عمران الغرباوي هو نفسه اللي هيعلمك.
لم يفهم كلماته جيدًا وكأنه يحدثه بالألغاز، فصعد خلفه حتى ولج للداخل.
انبهر أيوب من تصميم المبنى الداخل، وحينما تود العمل مع شركة ضخمة بحجمها سيغلبك فضول رؤية ما يفعلوه بتصميم مداخل ومخارجها لذا اتقن عمران وفريقه كل شبرٍ بشركاته وبراعة تنسيق المساحات وغيرها من المكاتب والأرائك الباهظة.
شعر أيوب بأنه يقابل شخصًا أخرًا لا يعرفه، منذ ان طوق قدم عمران الشركة حتى تحول لشخصٍ جادي للغاية، الصرامة والجمود طريق لقاءاته مع الموظفين، حتى ولج به للمصعد، ليجده يهبط به لطابق منخفض عن مستوى الطابق الارضي، فلحق به بممر طويل للغاية حتى انتهى بباب حديدي دفعه ليجد عدد هائل من المجلدات المصفوفة بأرفف عديدة وكأنه بمكان أشبه بالمكتبة.
استدار عمران له يضغط من ضمه يده على كتف أيوب المندهش وخاصة حينما قال له بحزن غريب:
_إنت عارف إني بحبك وبعزك صح؟
هبوطه لمكان أسفل الارض وعلى ما بدى من عدم وجود أحدًا بالرغم من أن الطوابق الاخرى كانت تعج بخلية نحل من العمال، فمضمون المكان بأنه سري للغاية، والآن يخبره بتلك الكلمات اللعينة التي جعلته يبتلع بتوتر:
_في أيه يا عمران؟
سيطر على ضحكاته وهو يتابع:
_في إني عايزك تتقن الشغلانه من قبل ما تبدأها عشان كده جبتك المكان اللي اتعلمت فيه، أينعم كانت فترة صعبة ليا بس علمت معايا وفرقت، وهتفرق معاك جدًا بدراستك وباللي جاي.
خطف نظرة متفحصة للارشيف وعاد له:
_اتعلمت هنا!
نفى ذلك وأشار بعينيه على احد الابواب الجانبية، وقبل أن يحرر بابه عاد يضمه بقوة وهو يخبره:
_خليك عارف إني بحبك وبعمل كده عشانك.
ارتعب أيوب ودفعه عنه وهو يصيح بشك:
_أنا مش مرتحالك… خرجني من هنا!
انفجر ضاحكًا على مظهره وجذبه بقوة:
_انشف يالا مش كنت عاملي فيها الدكر الشقيان، رجولتك راحت فين؟
دفعه باندفاع:
_ما انت جايبني مكان غريب وبتقول كلام أغرب!
كاد بأن يتحدث إليه الا ان الباب قد تحرر وظهر من خلفه رجلًا وقورًا يبدو بأنه أفنى عمره بذلك المكان، يرتدى نظارات طبية كبيرة المقدمة، يتفرس بمن أمامه بنظرة شاملة، وسرعان ما تساءل:
_عمران! غريبة انك نازلي هنا بنفسك ومبعتش حسام السكرتير، محتاج حاجة؟
اندهش أيوب حينما وجد الخوف يسيطر على عمران الذي يراه بتلك الحالة لأول مرة وإن صحت له ظروفًا أخرى لكان أول السعداء فيه.
تنحنح عمران بخشونة أودع بها كل هيبته:
_مفيش يا استاذ ممدوح أنا جيتلك بنفسي عشان كنت حابب أطلب منك طلب.
أعدل نظارته وسأله باستغراب:
_طلب أيه؟ معقول يكون في حاجة وقفة عليك يا بشمهندس ده إنت خارج من تحت ايدي بخبرة تدرسها إنت لأجيال جاية.
في لافتة لطيفة انحنى عمران يقبل يد صديق والده المخلص الذي ظل يعمل برفقته حتى ذلك اليوم لذا أمنه عمران على كل المستندات والوثائق الهامة بالشركات الأربعة، والآن يأتي بعد كل تلك السنوات ليطالبه بشيئًا لم يتوقعه، فقال:
_أنا عمري ما أنسى أفضالك عليا، علشان كده أنا جيت أطلبها منك للمرة التانية… عايزك تعلم أخويا أصول المهنة زي ما بيقولوا.
اختطف نظرة لمن يتابع حوارهما باهتمامٍ وعاد يتفرس بعمران قائلًا بابتسامة هادئة:
_مدام جتني هنا وطلبت مني الطلب ده بنفسك يبقى أكيد الشاب ده بتعزه جدًا.. وأنا مقدرش أرفضلك طلب يا ابن سالم.
وأشار لأيوب قائلًا:
_ادخل يا بشمهندس.
انتابه خوفًا من طريقة توديع عمران له، وخاصة حينما قال:
_متقلقش هبعتلك مع حسام أكل ومية.
ردد بهلعٍ:
_أكل أيه؟!!! هو أيه اللي هيحصل؟
ضمه مجددًا وابتعد يلوح له:
_مع السلامة يا أيوب.
جحظت عينيه صدمة وصاح به:
_متهزرش يا عمران خد هنا!!!
أغلق الباب وغادر بالمصعد فاستدار ليجد ممدوح يرمقه بنظرة مستخفة وصاح به:
_هتفضل واقف كده طول اليوم ولا أيه يا بشمهندس، من أولها كده أنا مبحبش الدلع الشغل يعني شغل… اتفضل على مكتبي رانا شغل كتير!
لحق به أيوب للداخل ومازال يختطف نظرات مستنجدة بمن قذفه إلى هنا وغادر ببرود قابض، فما أن استقر بمقعده حتى أخرج هاتفه يحاول الاتصال به، فصعق حينما جذب منه ممدوح الهاتف وعاد لعنفوانه:
_بص بقى يا بشمهندس، أنا معنديش خلق للكلام الكتير أنا علمت عمران وشربته المهنة زي ما قال في ظرف شهرين، هنشوف بقى إنت هتأخد في ايدي أد أيه؟ ولازم تعرف إن من وقت دخولك هنا التليفون ممنوع… الأكل ممنوع غير بمواعيد الشركة المحددة… السرحان ممنوع…الغباء ممنوع منعًا بتًا لإني راجل عندي ٦٦سنة وعندي الضغط مش متحمل فرهدة آمين؟
ابتلع ريقه الجاف بصعوبة واكتفى باشارة من رأسه، فان كان بمثل هذا العمر ما الذي يفعله هنا لما لا يتقاعد أم أن هذا الوقح يبقى عليه لاجل تعذيبه؟!
ردد ساخطًا وهو يتابعه بعينيه:
_منك لله يا عمران، وربي لأوريك أما اخرجلك بس!
_مش لو خرجت من هنا!
اتاه صوت العجوز يجيبه بسخرية ومازال يوليه ظهره باحثًا في الارشيف عن احد الكتب التي سيحتاجها لتعليمه، اندهش من حاسة السمع السليمة مئة بالمئة لدى هذا الرجل، وما أن استدار اليه حتى تحرك بمقعده بارتباك:
_بس أنا عندي جامعة الساعة٣.
احتل مقعد مكتبه البسيط وهو يرتشف من كوب الشاي الذي يبرز لأيوب مدي بساطة هذا الرجل المخيف، وقال:
_مفيش جامعة في شغل وبس… ها جاهز يا بشمهندس؟
******
غادر عمران بسيارته لمقر شركة الورثة، ليكون باستقبال نعمان بذاته، صعد للمكتب الرئيسي بعدما علم بأن مايسان بمكتبها، فأرسل لها رسالة بأن تصعد إليه في الحال.
رأت مايا هاتفها فنهضت تتجه إليه، صعدت الدرج للطابق العلوي وما كادت بالوصول للزقاق حتى استمعت لصوتٍ مألوفًا لها:
_على مهلك وإنتِ طالعة يا بنت عثمان لرقبتك تنكسر.
استدارت للخلف فتفاجئت به أمامها، أبغضت أن يتلوث سماعها بسماع صوته، وارتبكت بوقفتها على الدرج كلما يصعد إليها حتى وقف أسفلها بدرجة وقال بحقد فاح منه:
_ها فكرتي في عرضي؟
لعقت شفتيها بارتباكٍ حينما تذكرت أخر مرة كان بها هنا منذ سبعة أشهر بعدما طالبها ببيع حصة والدتها بعد أن قامت بتسجيله لها، وطالبته بمهلة تفكر بها بينما كانت تتهرب منه، ازدردت ريقها المرير قائلة:
_لسه!
ربع يديه بسخطٍ تسلل لملامحه:
_لسه ليه ان شاء الله، هو أيه اللي محتاج تفكير كل ده أنا كده كده هشتري نصيب فريدة ونصيب أمك هأخده سواء برضاكي أو غصب عنك، فهتمضي بالتراضي ولا أوريكي العين الحمرا!
ارتعبت أمامه كالهرة التي يهاجمها كلبًا مجردًا من الانسانية، وفجأة وجدت مخرجًا لخندقه فقالت:
_هشوف لسه عمران لو حابب يشتري نصيبي هدهوله مهو مش منطقي أبيع لحضرتك لو جوزي عايز يشتري نصيبي.
تمرد الغضب داخله لذكرها من يكره سماع اسمه نهيك عن رؤيته وجهًا لوجه، فصرخ بحدة ويده تعتصر ذراعها :
_تبيعي لمين ده أنا كنت شربت من دمك إنتي وهو، خلاص مبقاش حد مالي عينكم، هو يحيل امه لحد ما كتبتله نصيبها وانتي عايزة تسلميه نصيبك مش هيحصل يا بنت عثمان على جثتي إن حصل سمعتي.
واسترسل وهو يحرك جسدها بشراسة:
_حالًا هتعمليلي تنازل بحقك، أبوكي وراه ممتلكات وثروة متخلكيش تبصي لورثك في شركة الغرباوي، ده غير اللي عند جوزك ولا كل ده مش مكفينك!!
كادت بالسقوط من فرط انفعال حركاته فحاولت تحرير ذاتها من بين براثينه، ابعدته للخلف وهي تتوسل له بخوف:
_ابعد عني حرام عليك.
شهقت بفزعٍ حينما سقط عن الدرج جراء دفعتها، وما ان وجدته ينهض لها بغيظٍ وغضب مشتعل حتى هرولت سريعًا للأعلى قاصدة مكتب زوجها.
***
انتفض مفزوعًا عن مقعد مكتبه فور أن رأى زوجته تهرول إليه راكضة، وتغلق باب مكتبه من خلفه بالمفتاح، أسرع عمران إليها مرددًا بدهشةٍ:
_مايا!!
التفتت من خلفها وعينيها تراقب الباب الموصود برعبٍ مفسر على معالمها وكأنها تترقب اندلاع أسدًا جامحًا للداخل، فأسرع عمران إليها متسائلًا بقلقٍ:
_في أيه؟
ومنحها نظرة متفحصة تشمل هيئته المذرية:
_بتجري كدليه ووشك ماله مخطوف كده، فهميني في أيه؟؟؟!
اصطكت أسنانها ببعضها وخرجت حروفها مبعثرة:
_معملتش حاجة.. مقصدتش والله مقصدت!
رمش بعدم فهم لحالتها الغريبة، وفجأة اندلعت خبطات صاخبة على باب المكتب جعلتها تنتفض بين ذراعيه، فاتجه عمران ليفتح الباب الا أنها تعلقت به متوسلة:
_متفتحش الباب.. أوعى تفتحه لأ..
منحها نظرة مشككة وراح يردد بفكاهةٍ:
_حبيب قلبه عامل كارثة وجاي يتدارى في جوزه يا ناس!!!
وحينما تعالت الطرقات بعصبية كادت باقتلاعه قال بنظرة ضيقة:
_عملتي أيه يا مايا انطقي عشان أستعد أقابل اللي برة بأنهي وش.. مستر عمران الجنتل مان ولا عمران الوقح اللي معاه كورس من العتبة ونزلة السمان!
ابتلعت بصعوبة وهي تتعلق بقميصه كالطفل الصغير الذي يختبئ بأبيه، مما دفعه للارتباك والتخمين بأنها ولربما قتلت أحدًا… فأتاه صوتًا غليظًا مألوف يردد:
_افتحي يا بنت عثمان والله لأربيكي من أول وجديد.
أشار لها عمران وهو يتابع الصوت والطرقات:
_مش ده صوت نعمان!
هزت رأسها بتأكيدٍ، فأبعدها وهو يشير:
_طيب ارجعي أما أرحب بالخال الملزق ونستقبله استقبال ملوكي.. وبعدين نشوف حكايتك أيه؟!
حاولت أن توقفه ولكنه كان أقوى مما يجعله يخضع لقوتها الهزيلة، فحرر مفتاح الباب وإذ فجأة اندفع ذاك المقيت إليه بكل عصبية:
_هي فييييين؟
ركضت لعمران تختبئ خلف ظهره وقد بدأ الآن بفهم ما يحدث، فوقف قبالته بصلابة وقوة وصاح بعنفوان:
_مالك يا نعمان داخل بزعبيبك كدليه… هي الطيارة اللي حدفتك علينا بابها راشق على المصحة ولا أيه نظامك!
منحه نظرة محتقنة وردد بسخط:
_نعمان كده حاف يا ابن فريدة!
أجابه بسخرية ونظرة لازعة:
_لا بالكاتشب والطحينة، لخص في ليلتك دي وقول حكايتك أيه مش فاضيلك أنا دماغي فيها كلاب صعرانة بتعارك بعض، انجز بدل ما أطلقهم عليك!
ضم شفتيه بقوةٍ وصاح به:
_أما أنت قليل الأدب وعايز رباية من أول وجديد إنت والزبالة اللي اتجوزتها دي.
احتقنت رماديته بشكلٍ مخيف وجابهه بشراسة:
_لسانك لو ما اتلمش أقسملك هقطعهولك ولا فارقلي صلة القرابة اللي بينا ولا يحزنون… سبق وقولتلك لما تتكلم مع عمران سالم الغرباوي تحترم شيبتك دي وتقف عدل بدل نا وربي أدفعك تمن اللي بتعمله ده وإنت سبق وجربت لدغتي اللي مكنش ليها ترياق لعلاجها… جاهز نعيده تاني يا خال؟
ارتبك للغاية حينما تذكر ما فعلته شركات عمران به سابقًا، فهدأت أنفاسه المشتعلة وراح يستغل النقطة السائدة له بكره عمران لمايسان الذي مازال يظنه موجودًا وقال:
_يعني يرضيك اللي مراتك عملته فيا؟
استدار لمن تتعلق بقميص بعنف جعله يوشك على الاختناق من شدة لصوقه على رقبته مرددًا بخبث:
_حبيب قلبه طلع عنده حق يترعب من الخلقة العكرة اللي شافها وفقد النطق زي ما أنت شايف كده… انطق إنت وفهمني الليلة.
ابدى حيرته من طريقة تعامل عمران معها وانسجامهما معًا ولكنه صاح بعنف:
_مراتك قليلة الرباية وقعتني من على السلم!
اندهش عمران ولم يتمكن من اخفاء دهشته، فاستدار إليها مجددًا يكبت ابتسامته الواسعة وراح يردد:
_حقا يا قلب جوزه وقعتي الجضع ده من على السلم!!
هزت رأسها نافية ومن ثم عادت تهز بالموافقة لفعلتها، فعاد يتطلع له متجاهلًا اعترافها الاخير:
_بتقولك لا أهي جاي ترمي بلاك علينا ليه يا خال!!
وسعل بقوة حينما اختنقت أنفاسه من ضغط قميصه ففتح الازرر قبالة أعين نعمان وحينما انتهى منها جذب يدها إليه بضيق، ومن ثم استرخت معالمه ليطبع قبلة رقيقة على باطنها هامسًا نعومة:
_وبعدين ازاي الكف الناعم الرقيق ده يوقع الجتة اللي شبه مزلقان العتبة دي، يا أخي اتقي الله أنا مراتي بسكوتة نواعم متقدرش تعمل أي شيء في الحياة غير إنها تحط بادكير ومناكير!!
صعق نعمان وردد بعدم استيعاب:
_هي عملتلك أيه… سحرتلك؟!
استدار لها يجيبه مجددًا بنبرة جعلت الغيظ يندفع باوردته:
_سحرت قلبي وعيني بس أنا مش متضايق وبديها كل يوم حاجة من ريحتي عشان تزود عمايلها في السحر يمكن ربنا يكرم ويرزقنا بساحرة صغنونة كده وأوعدك لو حصل هخليها تعلمها ازاي تسخطك قرد أو خنفسه يا خال!
تجمهر الغضب وتزاحم بمقلتيه، كان يود الانفجار مما يحيطه، فردد وهو يحوم كالقنبلة المؤقتة:
_ماشي يابن فريدة مصيرك هتيجي على حجري.
منحه نظرة مستفزة وهمس لها مدعيًا حنانه:
_خد بالك وإنت نازل يا خال لتوقع المرادي تنكسر رقبتك ونرتاح كلنا!
دفع الباب من خلفه بعنف كاد باسقاط الحجرة فوق رؤؤسهما، فاستدار عمران لها سريعًا بوجهًا منفرطًا من السعادة:
_حبيب قلبه الشرس، متجوز بطل أقسم بالله، عملتيها ازاي دي احكيلي بسرعة!
وتابع دون أن يمهلها فرصة للرد:
_كان على أنهي سلم… أكيد في كاميرات!
حدجته بنظرة مستنكرة لرؤية سعادته العارمة، ففجأها حينما تركها وهرول لمكتبه يجذب حاسوبه وهو يهمس بحماس:
_المشهد ده لو لقطته الكاميرات هيغسلني من جوه.
عبث بأزرر الحاسوب حتى وصل لغايته فراقب ما يحدث من أمامه باهتمامٍ وفجأة سقط عن مقعده من فرط الضحك، ضحكاته تتوالى دون توقف حتى احمر وجهه ومازال يكرر عيد الفيديو مرات بعد الاخرى وكل مرة تزداد ضحكاته وكأنه يشاهده للمرة الاولى!
اندفعت مايسان تجاهه تصرخ بغيظ:
_إنت بتضحك يا عمران!! خالتي هتقتلني لو قالها وإنت بتضحك!!
أشار لها بالاقتراب ومازال يجاهد للتوقف عن الضحك، فما ان دنت منه حتى جذبها لساقيه وقال بصوته الرخيم:
_بذمتك حد يخاف وجوزه عمران سالم الغرباوي يا بيبي؟
وضمها لصدره بقوة بينما عينيه تتابع الحاسوب، فانفجر ضاحكًا مجددًا مما أغضبها فلكزته بغضب:
_ابعد عني… إنت مستفز!
ضحك وهو يعيق يدها ويجبرها على البقاء، ومن ثم جذب لها الحاسوب متسائلًا بمكر:
_طيب شوفي كده بذمتك ده منظر ينفع نتعامل معاه عادي!! ده انا هصوره على موبيلي وهبعته لعلي يغسل بيه ذنوبه!
وجذب هاتفه يسجل الفيديو ويده تهتز من فرط ضحكاته، وأشار لمن تتابعه بتعصب:
_اللي في الفيديو دي تليق إنها تكون مراتي أما اللي بتترعش على رجلي من الخوف دي عايزة الفيديو ده يتحط قدام عنيها يقويها على استكمال الكورس..
تركته ونهضت عنه تجيد الغرفة ذهابًا وايابًا وهي تهمس بخوف:
_لو قال لخالتو هتزعل مني!!
_هعمل أيه دلوقتي؟! عمرها ما هتصدقني ده بيعملها غسيل مخ!!
كادت بأن تذوب من فرط غضبها بينما الأخر مازال يجلس على مقعده يتابع المقطع باستمتاعٍ رهيب وضحكاته لا تكف عن الخروج مما دفعها لتصرخ بعصبية وهي تطرق مكتبه:
_عمران!!
منحها نظرة سريعة وغمز لها:
_حبيب قلب جوزه وروحه وحياته يا بيبي!
دفعت الملفات بوجهه بغضب قاتل:
_بطل ضحك بقولك خالتي هتولع فيا!!
ترك مقعده وجذب جاكيته المحيط به، ثم ذهب إليها يجذبها للخروج برفقته، فسألته بدهشة:
_هنروح فين؟
ضحك وهو يطبع قبلة على باطن يدها:
_هنروح لعلي المركز نشوف الشغل بنفسنا ونفرحه بالفيديو بس قبل كل ده لازم اخدك أجبلك أحلى هدية في الدنيا كلها على وقعة الملزق ده..
وأشار بيده بفرحة:
_قدامي يا بطل.
منحته نظرة مندهشة، تراه سعيدًا لدرجة جعلتها تنصاع إليه بهدوء يخالف غيظها، بينما الاخير يتابع الفيديو على الهاتف ويسألها من وسط ضحكاته:
_عملتيها ازاي دي؟!!!
وجدها تمنحه نظرة عابثة، فأغلق هاتفه وضمها إليه بالمصعد مرددًا:
_حبيب قلبه شايل الهموم على كتافه ليه، أنا موجود أهو أقسم بالله لو قل بعقله تاني لأرميه أنا المرادي من فوق القلعة.
ابتسمت على حديثه واستكانت بأحضانه فتابع ضحكاته مجددًا وقال بمزحٍ:
_تيجي نطبع الفيديو ده ونكتب عليه شاهدوا فضيحة الملزق نعمان الغرباوي ونوزعه على الشركة؟
واستطرد بنوبة من الضحك:
_استني هبعت نسخة لعمي أصله شايل ومعبي منه أوي والفيديو ده هيبرد ناره!
*******
_أنا خلاص جهزت يا حبيبتي.. إنتي وشمس جاهزين؟
شعر بالاختناق يرواده فجأة حينما وجده يجلس قبالة عينيه، تجهمت معالم وجه أحمد بصورة ملحوظة وردد بنفور:
_كملت!
رفع نعمان وجهه لابن عمه يمنحه بسمة ساخطة قبل أن يقول:
_أهلًا بالعريس… أيه مكنتش عايز تنزل تسلم عليا ولا أيه؟
خطف أحمد نظرة لشمس التي تشير له لنجدتها من جلسته، فاتجه يجلس بالمنتصف بينه وبينها وهو يضمها لصدره، بينما يكون قبالة فريدة السعيدة بلقاء أخيها الوحيد.
تنهد أحمد بسخطٍ صريح:
_ومش هنزل أسلم عليك ليه يا نعمان ماضيلك وصلات أمانة وبهرب منك مثلًا!
منحه الاخير نظرة مغتاظة وصاح:
_لا زعلان ومقهور اني كنت معارض جوازك من فريدة، مهو معلش يا أحمد متأخذنيش مكنش يصح إنك تتجوز انت وفريدة وولادها زي ما أنت شايف أطول منك.
رددت فريدة بتحذير:
_نعمان!
اكتفى برسم ابتسامة رغم اخفائه كمية الكره تجاه أحمد وقال:
_أنا بدردش معاه يا فيري، وهو متفهم ده مش كده ولا أيه يا أحمد.
أطال بنظراته اليه ووضع ساقًا فوق الاخرى متعمدًا أن تنعكس الساق الاخرى تجاهه، ثم قال:
_لا متقلقش يا نعمان أنا على طول فاهمك.
وانحنى يجذب كوب العصير ليقدمه له قائلًا بهمس ماكر وصل لمسمع شمس:
_خد دي طفي بيها اللي جواك، ريحته وصليلي من أول ما نزلت تحت… ما انا فاهمك بقى!
امتعضت ملامحه بغيظٍ جعله يود اطاحة عنقه، بينما لم يمنحه أحمد أي اهتمامًا ومال على شمس يهمس لها:
_مش كنتي تبلغيني عشان منزلش خالص.
همست له بخفوت:
_ملحقتش والله يا أنكل، شكل كده الخروجة بتاعت النهاردة اتضربت.
قرص خدها برفق:
_آه يا خبيثة كل اللي يهمك الخروجة وسيادة الرائد!!
ابتسمت بخجل وتابعته وهو يخرج هاتفه ويردد باستغراب:
_عمران باعتلي رسالة!
وقرب هاتفه إليه وشمس مازالت على صدره تتابع شاسة هاتفه فصعقوا معًا حينما فتحوا الفيديو وفجأة انطلقت ضحكاتهما بشكلٍ جعل فريدة ونعمان يتأملوهما باستغرابٍ، فسأله نعمان بنزق:
_بتضحك على أيه يا عريس؟ ضحكنا معاك.
أبعد احمد يده عن شمس واتجه ليعانق الاخير قائلًا بخبث:
_أوي أوي.. تعالى يابو نسب!
ومال بجسده وهاتفه إليه فصعق نعمان مما رأه ورفع عينيه الغاضبة لأحمد، فمال عليه يهمس:
_مش عيب لو بنت صغيرة تعلم عليك بالشكل ده يابو نسب! إنت محتاج تكشف عن دكتور يكتبلك على مقويات ويشوف النظر عندك، صدقني كده أفضل بدل ما تعملها وتقع من طولك قدام الموظفين!
ونهض فجأة يشير لهما:
_احنا كنا خارجين وللأسف المشوار مهم جدًا مش هينفع يتلغي.. يلا يا شمس… فريدة مستنيكي برة!
وتركهما وغادر والابتسامة تزين وجهه باجتيازٍ، بينما الاخر يكاد يقتل من الغيظ والغضب.
*****
بالمركز الطبي.
كان يجلس باحد الغرف يدرس على حاسوبه غارقًا بين الكتب حينما اندفع باب الغرفة ليطل من خلفه عمران ومايا، فأسرع إليه يبعد عن المكتب الحاسوب والكتب ويضع من أمامه قالب من الكعك والمياه الغازية وغيرها من أصناف الحلوى، راقبه بدهشة لحقت سؤاله:
_كل ده ليه؟
أشارت له مايا بقلة حيلة بينما ضحك عمران وقدم له الهاتف قائلًا بفرحة:
_احتفالًا بحبيب قلب جوزه زحلقت الخال الملزق! ….
يتبع…
راقب “علي” أخيه وهو يلتهم الحلوى بنهمٍ واستمتاعًا غريب، بينما تتابعه “مايسان”بنظرة محتقنة جعلته يجذب أحد المحارم ويزيل ما بأصابعه وانحنى يجذب مقعدها إليه بطريقة أفزعتها.
أبقاها مقابل مقعده وردد بابتسامة واسعة:
_حبيب قلبه لسه شايل الهم ليه، يا قلبي إنتِ جوزك عمران الغرباوي قاصف الجبهات وبالذات جبهة نعمان الملزق، اطمني ومتخافيش لو قال لفريدة هانم حاجة أنا هدافع عنك لأخر نفس.. ده لو عنده الجرأة إنه يقولها أساسًا.
ابتلعت ريقها بارتباكٍ من جراءة حركته، فأبعدت ذراعيه عنها وتراجعت بالمقعد لمكانه الصائب أمام مقعد علي الرئيسي.
هز علي رأسه بمللٍ من تغير أخيه الوقح، ومال بجسده لحافة مكتبه الزجاجي يخبره بجدية تامة:
_هدي اللعب شوية يا عمران، إنت عارف إن فريدة هانم بتتضايق جدًا من الصراعات اللي بينك وبين خالك، بلاش تضايقها وبالأخص بالفترة اللي هي بتمر بيها، خلي الكام يوم اللي هيقعدهم معانا يمروا بسلام.
احتدت معالمه بشدةٍ، وانجرف بمقعده يقابل أخيه، هاتفًا باستنكارٍ:
_أنا اللي بخلق مشاكل بيني وبينه يا علي! خالك الملزق ده مش بيفوت فرصة واحدة غير وبيحاربني فيها.. كل هدفه إنه يسيطر على شركة العيلة عشان يكون المساهم الأكبر فيها!
وتابع بغيظٍ يزيد من قتامة نبرته:
_واللي مضايقني بجد إننا كلنا كاشفين حقارته الا فريدة هانم الوحيدة اللي شايفاه ملاك بأجنحة!
_لا يا عمران.. فريدة هانم أكتر واحدة فاهمه خالك وفاهماه كويس أوي كمان.
حطم علي ثقة أخيه بعدم معرفة والدته لأهداف ذاك اللعين، فابتسم ساخرًا وفاض:
_ولما هي عارفة قذارته دي ساكتة ليه.. ماسك عليها شيء بجبرها إنها تتعامل معاه وتستقبله في بيتها كل اجازة ينزلها!
تغاضى عن سخريته لعلمه كم يكره أخيه ذاك الرجل الذي لم يترك أي فرصة الا وحاربه بكل قوته لإنه يعد الشوكة العالقة بحلق نعمان، على عكس علي البعيد كل البعد عن مجال عمل عمران والذي نفسه مجال عمل نعمان الغرباوي وأحمد الغرباوي وباقي العائلة، لذا أجابه بعقلانية:
_مش ماسك حاجة عليها يا عمران، فريدة هانم بتحاول بكافة السبل تحافظ على علاقتها بنعمان لإنه أخوها الوحيد اللي اتبقالها من كل عيلتها، بعد وفاة خالتك وجدتك مبقاش ليها حد غيره، بتتجاهل كل تصرفاته لإنه أخوها الوحيد.
سكنت معالم وجه مايسان بحزن، وأجلت صوتها الخاضع لفترة صمته:
_بس يا علي سكوتها خلاه يتمادى.. إنت مشفتهوش وهو بيكلمني الصبح ازاي.. مصمم إنه يخليني أبيعله نصيب مامي الله يرحمها وعنده ثقة غريبة إنه هيقنع خالتي تبيعله نصيبها.
طرق عمران المكتب بعصبية جعلته يهتز من أمامهما:
_ده على جثتي.. عمري ما هنوله اللي في باله أبدًا.
وتابع وهو يحدق بوجه أخيه:
_هو مش مدرك إن اللي عايزه ده هيتسببله في خساير ملهاش أخر، طول ما أنا شريك ليه مش بيعرضه إنه يكون منافس ليا، يوم ما فريدة هانم تخضعله وتبيعله نصيبها هيكون نفس اليوم اللي هواجهه في السوق ونشوف بقى ساعتها هيقدر يصد ولا هيجيب ورا.
مسح علي وجهه بعصبية بالغة، يحاول جاهدًا التشبث بطائفة من الصبر ولكنها تنفذ منه الآن، فقال بنزقٍ:
_عمران إعقل وبلاش مشاكل مع خالك، صدقني فريدة هانم حالتها متسمحش لكل اللي بيحصل ده.
تريث قليلًا بانفعالاته المقتضبة حينما تذكر حالتها وبكائها بين ذراعيه، لانت تعابير وجهه بطريقة مدت الأمل لعلي وقد تسنى له معرفة شيئًا يخفيه عنه عمران، حسنًا هو الآن على ثقة بأنه يعلم مقصده عن حالة والدته جيدًا.
اكتفى عمران بهزة بسيطة من رأسه توافق على حديث علي، وانتصب بوقفته بكل عنجهية مشيرًا لزوجته:
_يلا يا مايا.
نهضت تجذب حقيبتها، فجذب علي مفاتيحه ولحق به قائلًا بفضول:
_على فين؟
اجابه وهو يحرر باب غرفته:
_هرجع البيت أغير هدومي علشان حفلة افتتاح عيادة دكتورة ليلى، أوعى تنسى يا علي، يوسف هيزعل لو مجتش.
أغلق الباب فور عبورهم للخارج، وقال:
_كويس انك فكرتني، هخلي فاطيما تلبس وهنحصلكم على طول.
هز رأسه بخفة، واستدار إليه يخبره بعدما تذكر أمر أيوب:
_أنا هغير وهنزل على طول وإنت ابقى هات معاك مايا لإن في مشوار مهم جدًا لازم أعمله الأول.
أجابه ببسمة جذابة:
_مفيش مشكلة، روح إنت مشوارك ومتقلقش.
منحه ابتسامة ممتنة قبل ان يحيط بخصر زوجته ويتجه للمغادرة للمنزل، ومن خلفه علي بسيارته.
******
ما أن حرر السائق باب السيارة لفريدة وشمس حتى هرولت للمبنى راكضة وقلبها يتقافز كالطفلة الصغيرة، هبط أحمد يغلق زر جاكيته الأسود وإتجه بخطواتٍ متوازية مقدمًا يده لفريدة بحركةٍ لا يفعلها سوى الرجل الملقب بين فئة النساء (جنتل مان) .
منحته ابتسامة رقيقة وهي تمد يدها الملتفة بملبس اليد الحريري الأسود الذي يصل لمنتصف ذراعيها، لتقف أمامه بتنورتها البيضاء وجاكيتها المماثل، وقبعتها التي أضافت لطالتها لمسة تعيد زمن انتهى بحرافية طالته وجمال لمساته.
خلعت فريدة عنها معصم اليد ووضعته بحقيبتها المعلقة على ذراعها، وخطت جوار أحمد برشاقة وانسيابية تاركة كعب حذائها المرتفع يطرق صداه على الأرضية، بينما نظرات ذاك العاشق تحيط بها ويده تشدد من ضم كف يدها الرقيق.
انسجما كثنائي متوافق، بالرغم من أنهم ليس كهؤلاء المراهقين ولكن انسجامهما معًا كان رائعًا، وكأنهما هربوا معًا من فيلمٍ قديمٍ بلونه الأسود والأبيض.
صعدوا الدرج قاصدين الطابق الثالث، فابتسم أحمد بسخرية وهو يراقب شمس التي تسبقهما بطابقٍ كامل، وصاح بمشاكسة:
_اطلعي بهدوء يا شمس، عارفين إنك واقعة في حب سيادة الرائد وبالشكل ده هتقعي في حضن المستشفى كام يوم، انتبهي لخطواتك.
توقفت عن الصعود بخجل من سماع صوت ضحكات والدتها وعمها، فادعت اتزانها الغير موجود، وحملت طرف فستانها بشكلٍ راقي اعتادته من والدتها ثم صعدت بخطواتٍ بطيئة نسبيًا، ورغمًا عنها عادت لنفس سرعتها السابقة حتى وصلت أمام باب الشقة تدق الجرس بفرحة عارمة وشوقًا يزين عينيها لرؤيته.
وصل أحمد وفريدة للطرقة المتصلة بالطابق العلوي، فبدت زواية الشقة وجسد شمس واضحًا لهما، فهمس لفريدة ببسمة ماكرة:
_في علاقة حب من الطراز الأول كانت بتم من ورا ضهرنا يا فريدة هانم.
تابعت فريدة لهفة ابنتها لرؤية ذاك الشاب ببسمة هادئة، فانتقلت بنظراتها لأحمد الواقف قبالتها يراقب شمس عن بعد، وقالت بألم استكشفه هو:
_يا رب ميجرحهاش يا أحمد ويكون يستاهلها.
أتاهما صوتًا رجوليًا يقتحم آذانهما فرفعوا أبصارهما تجاه باب الشقة، فوجدوه يقف قبالة شمس يردد بصدمة:
_شمس!! أيه اللي جابك هنا؟!
وخرج لها يوارب باب الشقة ويهاتفها بانزعاجٍ وضح لفريدة وأحمد المتابعان للمشهد برمته:
_أنا مش نبهت عليكي يا شمس إنك متحاوليش تتصلي بيا تقومي تجيني هنا في شقة كلها شباب!! عايزة تزعلي دكتور علي مني وتكسري ثقته اللي حطاها فيا!
كانت مغيبة أمامه تستكشف بعينيها ملامح وجهه، وتنزلق لكتفيه العاري البادي من قميصه المفتوح، تتفحص جرحه الملتف بشاش أبيض بنظراتٍ حزينة، فدنى منها هو يخبرها برفقٍ حينما إلتمس حزنها وتأثرها برؤية اصابته ومازال أحمد يتابع ذلك الشاب بإعجابٍ تسرب له من رجولته الظاهرة لهما دون حتى أن يعي بوجودهما:
_حبيبتي أنا كويس والله، عشان خاطري تمشي من هنا مش حابب دكتور يوسف أو حد من الشباب يشوفك هنا معايا، كلها كام يوم وهجي أقابل فريدة هانم وهقنعها بجوازنا بس لحد ما ده يحصل حافظي على مسافة بينا لإني مش هتحمل مخلوق يجيب سيرتك بكلمة.
أتاه صوتًا أنوثي رقيق يجيبه:
_وفريدة هانم جتلك بنفسها لحد عندك يا سيادة الرائد.
انجرفت عينيه للدرج فتفاجئ آدهم بوجود فريدة وأحمد الغرباوي قبالته، ضم شفتيه بارتباكٍ لاندفاعه بالحديث مع شمس دون أن يستدير حتى جانبه، ففتح الباب الموصود من خلفه ونظف حلقه بتوترٍ:
_أهلًا وسهلًا فريدة هانم… أنا بعتذر منكم مخدتش بالي أنكم مع شمس… اتفضلوا.
استكمل أحمد وفريدة طريقها للأعلى، فمد يده يصافح كف آدهم قائلًا بلباقة لا تليق سوى به:
_مفيش داعي للاعتذار يا حضرة الظابط، اللي عملته من شوية ده هيسهل علينا بموضوعنا اللي جينلك عشانه.
فهم مغزى حديثه بسهولةٍ، فتقوس فمه ببسمة هادئة، وأعاد الاشارة لهم:
_اتفضلوا.
ولجت شمس برفقة فريدة ومن خلفهما أحمد وآدهم الذي أغلق الباب واتبعهم للصالون بخطوات حذرة لا تزيد من تألم جرحه.
جلس قبالتهم ويده تغلق أزرار قميصه بحرجٍ من خروجه بتلك الهيئة، وازدادت ربكته من نظرات الحب القابعة داخل مقلتيها، وكأنها تحاربه بكل أسلحتها ليتجرد من رداء ثباته ويهرع ليضمها لصدره.
كان أحمد اول من قطع ذاك الصمت المربك، فقال بابتسامة جذابة ورماديته تحتضن شمس:
_كان عندها حق تنجذب ليك يا سيادة الرائد، والحق يُقال إختارت راجل..قادر يصونها ويحفظها في أي لقاء بيجمعهم
تجلى له تخمين منظور الأمر الغائم حول جملته،هو ليس إنسانًا عاديًا، عمله حتم عليه ألا يكف عقله عن دراسة أي منظور، فأجلى آدهم صوته أخيرًا حينما قال:
_مكنش في لقاءات بتجمعنا يا أحمد باشا، علاقة شمس بيا سطحية جدًا، يمكن مهمتي هي اللي أرغمتنا نكون في مكان واحد.
ابتسمت فريدة بإعجاب، يدافع عن ابنتها وكأنهم يلقون عليها تهمة قد تعرضها لعقابٍ قاتلٍ، لم تنكر بأنها كانت فضولية لمقابلة ذاك الشرطي الذي فاز بقلب ابنتها، وها هي تحمد الله عز وجل بأن فتاتها اختارت مثل هذا الرجل الذي سيجعلها تضع يدهت بيده باطمئنان.
انطلق صوتها الانوثي ينغرس بأحاديث زوجها قائلة:
_شمس حكتلي كل حاجة يا سيادة الرائد، وده اللي دفعني أجيلك بنفسي النهاردة وأشكرك على انقاذك وحمايتك لشمس أكتر من مرة.
خطف آدهم نظرة سريعة لشمس المبتسمة، يلتمس بها إلى أي حد أخبرت والدتها وبناء عليه سيتم تحديد مجرى الحديث بينهم، هل سيتعامل برسمية شديدة أم سيخوض حديث من نوع أخر؟
ينجح دائمًا بقراءة ما تلقنه عينيها، فعاد بنظراته تجاه فريدة وقال بصوته الرخيم اللبق:
_فريدة هانم زيارة حضرتك أنتِ وأحمد باشا ده شرف عظيم ليا، إتعودت في شغلي ان الفرصة اللي تقربني من هدفي أستغلها صح لإنها مش بتتكرر تاني، فبما إن فرصتي جتني لحد عندي فتسمحيلي أطلب من حضرتك إيد شمس وطبعًا أنا كنت أتمنى إني أجي أطلبها بنفسي بس صدقيني مش عارف اذا كنت هتحمل لحد ما استعيد عافيتي ولا لأ، حاسس بقلق وتوتر من البعد بجربهم لأول مرة.
استدارت فريدة لأحمد ومنحته ابتسامة واشارة خفيفة جعلته ينوب بالحديث عنها مقدمًا تهنئته المسبقة:
_انت اختيار شمس يا حضرة الظابط يعني القرار اتاخد من عندها من قبل ما تطلب، فاسترد صحتك وأول ما تقف على رجليك مستنينك.
تهللت تعابير وجهه بفرحة، واتجهت نظراته لشمس المبتسمة بسعادة، طال بتأملها بعشق جعله يعي لذاته فتنحنح بحرجٍ من نظرات فريدة وأحمد له، ثم قال:
_أنا نازل مصر في نهاية الاسبوع ده عشان والدي محتاجني جنبه، فأنا كنت أكتب كتابي على شمس قبل سفري ونعمل الفرح بعد تخرجها.
ضحك أحمد وصاح مشاكسًا:
_حيلك حيلك يا سيادة الرائد، مالك داخل على طمع كده ليه، إحنا لسه بنتكلم على خطوبة تدخل على جواز وكتب كتاب!
ابتسم وكاد بأن يجيبه فقاطعته فريدة قائلة:
_وأنا موافقة.. قبل سفرك بيوم هيكون كتب كتابك على بنتي، بعد اللي شوفته وسمعته على باب بيتك من شوية يخليني أسلملك بنتي وأنا مطمنة يا حضرة الظابط.
تركت شمس الأريكة وهرولت لفريدة تنحني على ذراع المقعد وتضمها إليه مرددة بسعادة:
_روح قلبي يا مامتي، أنا بحبك أد الكون كله.
ضحكت برقة وخاصة حينما ردد أحمد بخبث:
_بتحبيها بردو ولا واقعة في غرام سيادة الرائد وجاي على هواكِ فن استغلاله الفرص.
تلون وجهها خجلًا وخاصة حينما وجدته يبتسم لها، فقال آدهم بحب يتمرد بنبرته الدافئة:
_أنا بشكركم جدًت على تفهمكم وبوعدكم إني هحميها بروحي، وهقدملها السعادة والفرح وهكون ليها العوض عن كل شيء شافته مع راكان الكلب..
تحلى أحمد برزانته وهدوئه، منحه ابتسامة هادئة قائلًا:
_ربنا يخليكم لبعض وميفرقش بينكم، الفراق أصعب شيء ممكن يهدم أي قصة حب.. واللي بينكم كبير يا آدهم عشان كده حافظ عليها.
واستدار بجسده للخلف ليؤكد على شمس:
_وانتي كمان يا شمس حافظي عليه.
ومن ثم أشار لفريدة التي تتمعن بمضمون كلماته:
_فريدة هانم مش يلا.. كده هنتأخر ومش هنلحق نتفرج على البيت.
هزت رأسها إليه وهي تنهض لتنضم إليه، فودعهم آدهم بحبورٍ، واتجه برفقتهم للأسف غير مباليًا باعتراضات أحمد وفريدة واصرارهما على بقائه ليرتاح قليلًا ولكنه رفض بشدة.
وقف يراقبهم وهم يعتلون السيارة البيضاء، حتى غادروا من أمامه وأخر ما تسنى له رؤية كفها الرقيق يلوح له بوداعٍ مؤقت أرق قلبه وجعله يخفق دون رحمة، فمسد على صدره كأنه يطبطب على قلبه ليهدأ قليلًا عن عنف دقاته على وعد بأن اللقاء سيكون قريب بينهما حينما تصبح زوجة تحل له!
*****
هائمة هي بغرفتها، يحاوط ساقيها جسدها، وتندفع إليها ذكرى جمعتها بمن ظنته الحبيب المقدر لها لنجدتها من تلك الوحدة القاتلة التي تخوضها بوجود شقيقها.
**
الآن تقضي أوقات سعيدة برفقته، يشملها باهتمامه وعاطفته وحنانه الدائم، تجده كاملًا لا عيبًا فيه يذكر، وها هي الآن تجلس برفقته تعود بعد يومًا ممتعًا قضته برفقته، فتأخرت لموعدها المسموح لها بالعودة به، وكالعادة اقتص منها أخيها بأن أذاقها الويل من ضرباته المؤلمة، فاتجهت لجامعتها في صباح اليوم التالي تخفي وجهها خلف نظارة سوداء قاتمة تخفى كدمة عينيها ولكنها لم تتمكن من اخفاء السيل النازف جوار شفتيها.
وحينما انتهت محاضراتها واتجهت للرحيل وجدته يقترب منها بسيارته الفاخرة، وهبط منها يدنو إليها بابتسامة جذابة ومشاكسة قوله:
_واخده في وشك وماشية من غير ما ترقبي الطريق وتتأكدي إذا كنت جتلك النهاردة ولا اتشغلت، قلبي لمحك وادالي إشارة انك خرجتي.
ارتبكت “زينب” للغاية، واستدارت بنصف جسدها إليه حرجًا من رؤيته لشفتيها المتورمة، وقالت متصنعة الابتسامة:
_يمان معلش أنا لازم أرجع البيت بدري النهارده، هشوفك بعدين.
وأسرعت بخطواتها فرارًا منه، فلحق بها يناديها باستغرابٍ:
_زينب!
لم تهدأ خطواتها السريعة، وبداخلها تدعو الا يتمكن من أن يلحق بها مع أنه صار خلفها بالتحديد، وحينما عجز عن ايقافها جذب ذراعها إليه وصاح بانفعال:
_في أيه؟ بتهربي مني ورافضة تقفي تتكلمي معايا ليه؟
أخفضت رأسها أرضًا عنه تنتحب بصوتٍ منخفض متألم دفعه لرفع ذقنها هاتفًا بحدة:
_بتداري نفسك مني ليه يا زينب؟!
برق بحدقتيه بصدمة حينما وجد شفتيها متورمة للغاية، نزع عنها نظارتها الشمسية ليتلقن صفعه أخرى حينما لمح تلك الكدمة الزرقاء تحيط بعينيها، فصاح بانفعال شرس:
_أخوكي اللي عمل فيكي كده صح؟
اكتفت بهز رأسها والحرج والخذلان ينعكسان عليها دون راجع، كاد “يمان” أن ينطق بما هاجمه من سباب لعين يطول شقيقها ولكنه تراجع وادعى ثباته الزائف، مشيرًا بيده لسيارته:
_طيب اركبي.
اعتراها الخوف وتقاذف إليها كل ما امتلكته من مشاهد متقطعة لضربات أخيها المؤلمة لها، فرددت بهلعٍ:
_لأ.. لأ أنا هرجع البيت قبل ما يرجع وبعدين نتقابل.
اكتفى بهز رأسه والغموض المخيف يقمع داخل مقلتيه، عادت زينب لمنزلها هذا اليوم، وعلى غير العادة تأخر شقيقها بالعودة، وحينما عاد صُدمت من كثرة الكدمات والاصابات القاتلة المحدثة به، يدلف للمنزل مستندًا على يد اثنين من الجيران، وأحدهما أخبرها بأن هناك بلطجية سرقوا ماله وهاتفه وأبرحوه ضربًا، ربط عقلها ما حدث لشقيقها بحديثها بيمان بالصباح، جحظت عينيها صدمة من تفكيرها فهزت رأسها تنفي ما يعتريها ويبعد شكوكها عن أن يمان هو الفاعل!
استفاقت من شرودها على هزة يد “فاطمة”، انتفضت” زينب”بجلستها وكأن مسها جان، فأسرعت الاخرى باخبارها:
_انتي سرحانه في أيه يا زينب بقالي ساعة بناديكي!
وانحنت بجسدها إليها تخبرها:
_اقفلي ستوسة الفستان مش راضية تتقفل
ازاحت الغطاء عن جسدها، واعتدلت تغلق سحاب فستان أختها متسائلة باستغرابٍ وهي تراقب ملابسها:
_انتي خارجة؟
اتجهت للسراحه تستكمل ارتداء حجابها والتفت برأسها تجيبها:
_علي كلمني وطلب مني أجهز علشان أروح معاه حفلة افتتاح عيادة دكتورة ليلى زوجة دكتور يوسف صديق عمران.
هزت رأسها بخفة، وعادت تتمدد على الفراش بحزن وتجهم يعتلي ملامحها دون راجع، انتبهت لها فاطمة فاتجهت لها تسألها بقلقٍ:
_مالك يا زينب؟
ابتلعت ريقها المرير ومالت برأسها على قدميها تضم ذاتها وصوتها الهزيل يخبرها:
_أنا كويسة يا فاطيما حاسة بس بشوية ارهاق.
جلست جوارها ومدت يدها تجذبها لحضنها وقلقها يزداد بالتدريج:
_طمنيني عليكي يا زينب حاسة إنك مش كويسة وبتحاولي تبينلي عكس كده، فيكِ أيه بتدفنيه جوه عينك وبتحاولي تداريه بكل طاقتك عني.
تمسكت بها وكأنها طاقة نور بعد ظلامها الدامس، وانفرطت بنوبة من البكاء لا تعلم سببه، ودت لو بقيت بأحضان شقيقتها لأخر عمرها، وبالرغم من أنها هي الهزيلة، الجريحة، المفتقدة إلى لمسة حنونة تضمها الا أنها الآن هي من تقوم بتقديم الدعم بكل ما فيها لشقيقتها، فربتت عليها وببكاءٍ قالت:
_مالك يا قلب أختك؟ احكيلي عن اللي مضايقك.
رفعت أصابعها تزيح دموعها عن مقلتيها، وزيفت ابتسامة شاخصة تخادعها:
_أنا كويسة يا فاطيما، أنا بس مفتقدة لبابا وماما ربنا يرحمهم ويغفرلهم.
اعتلى الحزن معالمها، مازالت تتعافى من عدة طعنات منهم فراقها عن والديها وأخرهم معرفتها بوفاة أبيها، تحرر صوتها القابع داخلها:
_ومين مبيفتقدش أبوه وأمه حتى وهما حواليه يا زينب، ادعيلهم بالرحمة والمغفرة يا حبيبتي، وبلاش تعيشي نفسك في حزن وقهر هيقضي عليكي وعلى نفسيتك.. صدقيني مفيش وجع بالدنيا كلها زي وجع النفسية بتحسي روحك بتروح ونفسك بيضيق، بتوصلي لمرحلة إن كل اللي بيدور حوليكي بيكون مشفر ومش ملموس مجرد خطوط بيضة بتحاوطك بالرغم من إن نظرك سليم وقوي، عشان خاطري فوقي وبلاش تسمحي لأي شيء جواكي سواء وفاة بابا وماما أو شيء تاني يكسرك ويوصلك للحالة المخيفة دي أنا مرت بيها وعارفة أد أيه هي قاسية ومتمناش لحد يعيش فيها أبدًا.
أزاحت دموعها بقوة اكتسبتها من حديثها الذي صفعها بحقيقة الأوجاع الذي تحملها “فاطمة”، فهي ليست بحاجة لوجعٍ أضافي حتى تحتمل وجع”زينب” ، فرسمت ابتسامة واسعة وهي تخبرها:
_لا خلاص مفيش عياط تاني، حتى شوفي!
ارتسمت ابتسامة رضا على ملامح وجهها وانحنت تطبع قبلة على خد أختها، مرددة باستحسانٍ:
_شطورة يا دكتورة زينب، ودلوقتي قومي يلا إلبسي علشان تيجي معانا الحفلة، علي مصمم انك تيجي معانا بس لما دخلت ولقيتك نايمة قولت أسيبك ترتاحي لانك طول اليوم بالجامعة.
كادت بالاعتراض والتحجج بأي شيء أوقفتها باصرار وعناد:
_مش هسمع حاجة، هتقومي حالًا وهتلبسي فستان شيك من اللي ادتهملك.
وتابعت بارتباكٍ تمكنت زينب من الشعور به بحديثها:
_أنا محتاجالك جنبي يا زينب، أنا مش بحب الاختلاط بحد ودي يعتبر من المرات القليلة اللي هنخرج فيها فعايزاكِ جنبي.
احتوت وجنتيها بيدها، وبحنان ورقة قالت:
_أنا جنبك يا فاطيما وعمري ما هتخلى عنك.. اديني نصاية وهكون جاهزة.
اومأت برأسها ونهضت تحمل طرف فستانها قائلة:
_هستناكِ تحت.. متتأخريش.
وتركتها “فاطمة” وهبطت للأسفل تنتظر عودة علي، فجلست على الأريكة المقابلة لدرج المنزل الرئيسي، تحرك رأسها تلقائيًا تجاه صوت الحذاء المسموع لها، اعتلاها التعجب فهي تعلم بأن فريدة وأحمد وشمس بالخارج ولا يوجد غيرها هي وشقيقتها بالمنزل.
انتفضت عن مقعدها بذعرٍ حينما وجدت رجلًا غريبًا يهبط الدرج ويتجه إليها، يتفحصها بنظرة سلبت الروح عن جسدها الذي بات هزيلًا، بشرتها قد شحبت وانتهى الأمر، قلبها يخفق بضعف وكأنه سيتوقف بأي لحظة.
منحها “نعمان” نظرة متفحصة من رأسها لأخمص قدميها كأنه يقيمها بنظرة متعالية، ليرضي فضوله حول تلك التي ولجت لعائلتهم الآرستقراطية محيطة بكبير أبناء “سالم الغرباوي”، فردد بتهكمٍ ساخرٍ:
_انتي بقى مرات علي!
ارتجف جسدها من نظراته التي دفعت لها بأنها عارية لا ترتدي ثيابًا، اندفع نحوها بخطواتٍ متهدجة، هاتفًا بسخرية:
_أيه شوفتي عفريت!
تراجعت للخلف لا اراديًا، فاصطدمت بجسدٍ صلبًا من خلفها يعيق عن سقوطها ويردد بلسانٍ كسواط الحاد:
_الله وكيل إنت خلقتك تتوب الشياطين عن أشغالهم يا خال!
امتعضت معالم وجهه حينما وجد”عُمران” يقابله، ولجواره مايسان، وما لبث سوى ثوان حتى فرغ “علي” من صف سيارته بالخارج فانضم اليهم واستمع لنعمان يردد ساخرًا:
_أمال إنت متوبتش ليه اما شوفت خلقتي؟
لوى فمه بازدراء وكره مبين، مرددًا:
_أما أنا أتوب مين يلقنك دروس الردح وقصف الجبهات يا خال؟
تخطاه نعمان واتجه إليها يقدم يده لها، قائلًا بسخط:
_مش هتسلمي عليا ولا متعلمتيش الذوق في بلدكم.
اقتتمت ملامح “علي” الذي يراقب ما يحدث من دخلة باب المنزل، فكاد بالاندفاع للداخل ولكنه توقف حينما وجد عمران يقدم يده بيد خاله مرددًا بابتسامة ساخرة:
_متأخذناش يا نعمان .. مرات أخويا لسه في حالة صدمة مراتي قدرت تتخطاها في كام دقيقة لانها متعودة على الخلقة العكرة دي لكن مرات علي محتاجة فرصة تتقبلك..
سحب نعمان يده بعنفٍ اهتز جسد عمران لاجله، فتابع بخبث:
_قولتلك لما تظهر لحد متظهرش مرة واحدة، خدها مراحل وإن شاء الله المرحلة الاخيرة ينفجر مقياس القبول ليك عند الناس في وشك وتلاقيه بيقولك جيم أوڤر بالبنط العريض!
كبتت “مايسان” ضحكاتها بصعوبة بالغة، ومازالت تقف خلف ظهر عمران يضم جسدها من الخلف بذراعٍ والذراع الأخر يقترب من “فاطمة” المرتجفة من خلفه، وكأنه محاربًا شرسًا يقف بساحة القتال يحارب وحشًا مخيفًا ومن خلفه يضم أفراد عائلته.
احتقنت معالم وجه نعمان، وصاح بعصبية بالغة:
_أتأدب معايا في الكلام يا ولد والا هآآ…
قطع عبارته حينما تعالت ضحكات عمران وبمشاكسة صاح:
_هتآيه يا خال؟
واسترسل بصوتٍ منخفض كان مسموعًا بوضوحٍ متعمد:
_لولا البنات واقفين كنت قلعت القميص ووريتك أخر مهاراتي في الجيم وصلت جسمي لفين، وقتها هتشوف الفرق بين الطفل الصغير اللي كنت بتتشطر عليه وبين عمران الغرباوي اللي واقف قدامك وأوعدك بعدها هتخدها عوم لمصر.
انفلتت ضحكات “مايسان” عن مسار صمتها مما جعل الاخير يحتقن بغيظٍ فصاح بغضب:
_أيه كلامه جاي على هواكي يا بنت عثمان؟ بكره نشوف نهاية اللي بينكم أيه مش بعيد تلاقيه رجعالك بليل مع واحدة من اللي بيشقطهم.
اتسعت ابتسامة عمران مما زاد ضجر الأخير واستسلامه من أن يصيبه بأي هدف، وخاصة حينما ردد:
_مالك بيها يا نعمان كلامك معايا أنا .. وبعدين ما أنا أكيد هرجع بليل بنسوان بس مش ليا، هختارلك على ذوقي وهوصيهم يدلعوك يا خال بس يا رب يجي بفايدة .. على الأقل كسفتك وفضحتك تندفن هنا وسط الاجانب بدل ما المصريين يطلعوك المسرح ويسفوا عليك لحد ما يبانلك صاحب وساعتها الكل هيتبرى منك زي ما بيحصل دلوقتي كده.
تصببت الدماء من أوردته وانفجرت بوريده الغاضب:
_انت بتقول أيه يا ابن الآآ….
قاطعه بصرامة مقبضة:
_هتشتم وهتقل أدبك تطلع برة البيت ده، أنا مش ناسي قذارتك اللي كنت بتعملها معانا في غياب فريدة هانم، بس ده كان زمان يعني ماضي وانتهى وحاليًا الحاضر والمستقبل ليهم شكل تاني يا نعمان.
أسرع “علي” إليهما حينما وجد الامور تحتد عت مسارها، انزوى بينهما يدفع عمران للخلف بحركة سريعة، وقابل الاخير ببسمة يرسمها بالكد قائلًا:
_حمدلله على سلامتك يا خالي.. نورت لندن.
منحه نظرة بغيضة مردفًا بسخطٍ:
_مهو باين من وقاحة أخوك.. ربي أخوك يا دكتور.
كاد بأن يطعنه بكلمة تقصف جبهاته للمرة الربعمائة ولكن منعه علي حينما صاح بحزمٍ:
_عمران.. اطلع غير هدومك عشان تلحق مشوارك وأنا هجيب مايا وفاطيما وهحصلك.
سدد له نظرة أخيرة وهمس إليه بنزقٍ:
_تلاشاني عشان متعضش ايدك ندمًا يا خال!
وأشار لمن خلفه ببسمة كادت بأن تصيب نعمان بذبحة صدرية:
_حبيب قلب جوزه بعتذرلك على التلوث السمعي ده، ولو أمكن نتحرك على فوق بسرعة قبل ما التلوث يبقى بصري وكلي!
دثت يدها بين يده وصعدت برفقته للاعلى، أما علي مازال يقف قبالة نعمان يتحكم بضحكاته بصعوبة جعلت وجهه محتقن بحمرة زادت من جاذبيته، فما أن عاد نعمان بنظراته إليه حتى بدد كل تعابيره لجدية تامة قائلًا بمكر:
_معلش يا خالو.. إنت عارف عُمران لسانه طويل بس قلبه أبيض.
لوى شفتيه بتهكم:
_مين يشهد على العروسة ياخويا… هغور على اوضتي أريح شوية عما الهانم أختي وجوزها يرجعوا يشوفولي حل مع الوقح ده.
وتركهما وصعد للأعلى مجددًا، بينما استدار علي ليقابل زوجته المرتبكة من وجود ذلك الرجل الغريب، فدنى منها يفرق ذراعيه مرددًا بهمسٍ خافت:
_متخافيش يا حبيبتي.. خالي فيه العبر بس عينه مبتترفعش في ست.
وأضاف مازحًا وهو يضمها بقوة لتلامس أنفاسها عنقه سامحًا لذاته استنشاق أنفاسها:
_تأكدي طول ما أنتي بعيدة عن أي مسمى يجمعك بعمران أخويا فأنتي بمنطقة الأمان بالنسبة لنعمان الغرباوي لانه اتخلق يكره عمران وأي شيء يخص عمران واللي قاتله إن عمران أستاذه ومعلم عليه بالجامد أوي، فلو حسيتي بتوتر من الخال الملزق إلجئي لعمران هو الوحيد اللي بيعرف يعمله استوب لذا هو عمنا وعم عيلة الغرباوي لأخدان الحق بالردح وبفردة الصدر!
انفجرت ضاحكة بين أحضانه فشاركها بقهقة مرتفعة، فتجمد فجأة قبالتها حينما تسلل له صوت فريدة الغاضب:
_أيه اللي بتقوله لمراتك ده يا علي؟!
يتبع…
(اللهم إني أعوذ بك من عينٍ تصيب القلب فتُحزنه والرزق فتُنقصه، والبال فتتعبه والنجاح فتُفشله.. واخرجني اللهم من أشد الضيق إلى أوسع الفرج، واجعلني اللهم مِمَّن نظَرت إليه فرحمته وسَمِعت دعاءه فأجَبته، وأخرجنا اللهم من حولنا إلى حولك ومن عزمنا إلى عزمك ومن ضعفنا إلى قوتك ومن انكسارنا إلى عزتك ومن ضيق اختيارنا إلى براح إرادتك)
انتهى “عمران” من ارتداء بذلته السوداء الآنيقة، وأخر ما وضعه ليكتمل طالته الجذابة كان البرفيوم الخاص به، وزعه على ذقنه النابتة ورقبته واستدار ليغادر مرددًا بحبٍ:
_مايا حبيبتي أنا نازل وعلي هيجيبك زي ما أتفقنا.
طلت برأسها من خلف زجاج خزانتها المنفصلة تخبره باستياءٍ:
_وليه متستناش لما أجي معاك؟
أجابها وهو يعقد ساعته حول معصمه بتركيزٍ:
_لإني لازم أعدي على الشركة الأول، في صديق ليا سبته في عهدة أستاذ ممدوح وزمانه حاليًا بيستغيث.
تمردت ضحكة مشاكسة على وجهها، وتركت فستانها وخرجت تضم خصره مستندة برأسها على صدره هامسة بسخرية:
_ مين صاحبك البائس ده اللي وقع في طريقك وطريق أستاذ ممدوح؟
إهتز جسده بخفة تأثرًا بلمساتها، فاستدار يحيطها بذراعيه وهو يتنعم بقربها ونظرات عينيها المهلكة، فوجدها تترك كل كلمة احتفظت بها له وأخذت تتأمل ثيابه ووجهه بانبهارٍ فشلت بأخفائه، فقالت بتذمرٍ:
_إنت رايح حفلة افتتاح ولا رايح تدور على عروسة فحابب تلفت الانتباه؟
عاد بوجهه للخلف من شدة ضحكاته، واستقام قبالتها فور انتهائه ليخبرها بخبث:
_أنا بلفت الإنتباه دايمًا من غير أي مجهود يا بيب، بس أنا كعُمران مش عايز حد من الصنف الناعم غير حبيب قلبه!
واستكمل بغمزة ماكرة:
_اللي الغيرة هتطق من عينها من اللحظة اللي واقفة فيها قدامي لحد ما نرجع هنا تاني.
ومال عليها يفترس ملامحها بنظراته الدافئة، ويهمس بصوتٍ كان مغريًا يحارب كل لحظة صمدت بها أمامه:
_لو حابه نكسنل الخروجة دي وندبس علي أنا معنديش أي مانع يا بيبي!
أبعدت يديه عنها واتجهت للخزانة تردد بضحكة مرحة:
_وصاحبك اللي وقع في مصيدة أستاذ ممدوح ده! لا طبعًا حرام تقسى عليه بالشكل ده، روح خرج صاحبك ونبقى نتكلم بعدين.
مرر يده بين خصلاته الطويلة يصففها أمام المرآة وهو يردد بجدية تامة:
_أنا اللي تعمدت أخد أيوب للخطوة دي، أولًا أستاذ ممدوح خبرة وهو السبب الأساسي بعد ربنا سبحانه وتعالى للي أنا وصلت ليه وبفضله كان زمان نعمان لسه بيستغفلنا وبيضربنا على قفانا وهو متأكد إني عيل صغير مش هيكشف تلاعبه بالميزانية والمشروعات اللي بيتتممها من غير ما يسيب وراه أي ورق، ولسه في شيء مبهر هيفرحه أوي خصوصًا لما يعرف إن المشروع اللي جاي من مصر عشانه أنا رفضت أمضي العقود النهاردة والخبر زمانه رايحله.
واستطرد وهو يراقبها حائرة بالاختيار بين الفساتين المعلقة من أمامه:
_ثانيًا أنا وديت صاحبي لاستاذ ممدوح لإني عارفه كويس وعارف إنه هيكون شبه اللي في السجن ال٢٤ساعة شغل وده اللي أنا عايزه لإن أيوب مدبس نفسه في مصيبة هتجبله مشاكل ملهاش أخر، عشان كده أخدته بنفسي لعنده.
استدارت “مايسان” إليه تطالعه باهتمامٍ، فوجدته ينزوي بين أغراضها، يجذب بنطال أسود ينتهي ساقيه باتساعٍ، وقميصًا أبيض اللون، قدمهما لها وغادر لخزانته ليعود لها بجاكيت أسود يخصه، فرده من أمامها وهو يردد بحيرةٍ:
_أعتقد ده ممكن يكون مقاسك.. هو ضايق عليا حبتين يبقى هيناسبك.
التقطته منه وهي توزع بصرها بين القطع بحيرةٍ، فسألته بتوتر:
_ملبستش الاستيل ده قبل كده.. مش عارفة هيبقى حلو عليا ولا أيه؟
جلس على حافة السراحة وببسمة جذابة قال:
_أنا هحكم حلو ولا وحش.
اتسعت ابتسامتها وأسرعت بغلق باب الخزانة لترتدي ما تحمله بيدها بلهفةٍ، اتسعت حدقتيها بانبهارٍ من تناسق ملابسها المختارة، لدرجة جعلت لسانها عاجز عن الحديث، تجزم بأن زوجها هذا هو أعظم انتصارًا لها كأنثى تحتار بكل مناسبة طارئة ماذا سترتدي؟
فتحت “مايسان” الباب وخرجت تتدلل محدثة صوتًا بكعب حذائها الأبيض المرتفع، لتلفت انتباهه عن هاتفه المستقبل رسالة من “سيف” الذي يبحث عن صديقه “أيوب” بقلقٍ وصل للأخير من نبرته المرتشعة المسجلة بمقطع صوتي، فبث طمأنينته له حينما أخبره بأنه برفقته وسيعود به بعد خمسة عشر دقيقة.
ابتعدت عينيه عن الهاتف ليرى تلك الفاتنة الرقيقة، ببنطاله المتسع من الأسفل وتناسق قميصها مع جاكيته، وكأنها اليوم تتعهد له بأنه لن يغادرها، تستخدم كل سحرها لتفتك به بشكلٍ يجعله يود أن يكون ندلًا يتخلى عن “يوسف” بمناسبة هامة كتلك، وعن “أيوب” المحتبس بوكر البشمهندس “ممدوح”!
طال صمته مما جعلها ترتبك، فسألته بريبة:
_وحش؟
عمران؟
نهض عن السراحة يتجه إليها، فدار حولها مطلقًا صفيرًا شمل إعجابه الشديد بها، رفع” عمران” يدها يحثها على الدوران بين يديه هامسًا بصوته الذكوري:
_عمران مسكين قدام جمال حبيب قلبه..مايا هو إنتِ مش عايزانا نروح المشوار ده فبتعملي فيا كده عشان أخد أنا القرار؟
تسلل لها مفهوم حديثه المحرج فهزت رأسها نافية باستحياءٍ:
_لأ…. إنت اللي مختار اللبس مش أنا.
رفع أحد حاجبيه بسخطٍ:
_مهو المصيبة إن أنا!
تنحنح وهو يحاول الثبات بوقفته رغم انحراف رماديته عليها، فأشار وهو يتجه سريعًا للفرار:
_طيب يا بيبي أنا هروح أنقذ أيوب وانتِ كملي لبس وانزلي.. علي مستنيكِ.
وإلتفت يغمز لها بخبث:
_هيجمعنا لقاء تاني.
أغلقت الباب من خلفه ويدها تمسد على قلبها الذي يكاد يقفز من خلفه، زاد من حبال عشقه حولها وتركها ضعيفة تحارب كل تلك الأحاسيس المرهفة وكأنها تلك المراهقة التي وقعت في حبه منذ إن كانت في الثانية عشر من عمرها.
اتجهت للسراحة تستكمل ارتداء حجابها وابتسامة هيامها به لا تفارقها، فودت لو تمكنت من الجلوس بمفردها تتذكر كل كلمة ونظرة شملها به منذ قليل حتى لا تنسى أي لافتة صغيرة حدثت بينهما!
*******
ارتبكت “فاطمة” للغاية حينما وجدت “فريدة” تقف خلفهما، وتتساءل باسترابةٍ:
_إنت تقصد خالك بالكلام ده يا علي؟
تهدلت شفتيه بابتسامة هادئة، ودنى ليصبح بالقرب من والدته هاتفًا بمكرٍ:
_فريدة هانم حمدلله على السلامة.
واقترب منها متفحصًا لما ترتديه بإعجابٍ انطبع على نظراته ومعالمه باجتيازٍ:
_أيه الجمال ده كله، حضرتك كنتِ في سهرة ولا بتقيمي البيت… مش ممكن دايمًا شيك حتى في أبسط خروجاتك مش كده ولا أيه يا عمي؟
منع “أحمد” ظهور تلك الابتسامة على شفتيه، فحك أنفه وإتجه يميل بقامته الطويلة تجاهه هامسًا:
_ده أنت اللي عمي!
وتنحنح رافعًا من صوته:
_طبعًا يا علي فريدة هانم طول عمرها شيك ومحافظة على جمالها بشكل مش طبيعي إسالني أنا!
ربعت يديها وعينيها تتوزعان بينهما بنظراتٍ مفترسة جعلت “شمس” و”فاطمة” تسيطران على ضحكتهن بصعوبة.
نزعت فريدة قبعتها وهي تعيد السؤال بطريقة أكثر حدة:
_علي بطل بكش وجاوبني تقصد مين بكلامك ده؟
مال أحمد يخبره بحزنٍ:
_حاولت أساعد بس إنت عارف إن فريدة مبتتثبتش!
أكد علي بإيماءة رأسه، وقرر اللجوء لطريقة عمران المشاكسة، فقال ببسمة هادئة:
_مفيش أنا بس كنت بهزر مع فطيمة ومقصدتش بكلامي حد!
اتجهت نظراتها لفاطمة التي هزت رأسها أكثر من مرة وابتسامتها تزداد بطريقة زرعت الابتسامة على وجه فريدة فتخلت عن اصرارها لمعرفة الحقيقة، فاستغل أحمد الفرصة وأشار لها بحنان:
_بعد الجولة المرهقة دي تحبي نطلع نرتاح شوية في جناحنا يا فريدة هانم؟
تسللت حمرة الخجل على وجهها، فخطفت نظرة سريعة لعلي فوجدته يمنحها ابتسامته الدائمة، لذا منحته يدها واتجهت برفقته للمصعد، بينما استقلت شمس الدرج قائلة:
_بتمنالكم سهرة سعيدة.. تصبحوا على خير.
وما كادت باستكمال طريقها حتى اعترض عمران طريقها، اختلس نظرة شملتها وهبط ما تبقى بينهما مرددًا بغموضٍ:
_شكلك انبسطي من المشوار اللي كنتي فيه… للدرجادي عجبك البيت الجديد؟
لعقت شفتيها الجافة بتوترٍ اتبع منهج نبرتها المهتزة:
_هااا.. آآه… جدًا بيت مريح وذوقه عالي جدًا يا عمران.
اتسعت ابتسامته وانحنى لآذنيها يهمس لها:
_خدي بالك من المدخل أصله بابه لسه معلق!
واستكمل على نفس منواله:
_هتغاضى عن اللي حصل عشان لو علي عرف هيزعلك وميهنش عليا زعلك.
اتسعت حدقتيها بخوفٍ، وهزت رأسها بخفة، انتصب عمران بوقفته ومد يديه يعدل من الوشاح الملتف حول رقبتها، فأحاط بأصابعه السلسال، اتسعت ابتسامته الخبيثة ورفع أهدابه يواجهها بكلماته البطيئة:
_زي ما سمحت إنه يوصلك قادر أقطعه حولين رقبتك لو حسيت إنك هتستغفليني يا شمس، هسامحك المرادي عشان ماما وعمي كانوا معاكي مرة تانية تروحي فيها الشقة دي هزعلك بجد.
أدمعت عينيها تأثرًا بسماعها نبرة جديدة يخوضها معها عمران لأول مرة، فتابع وهو يجذبها لتقف على نفس مستوى الدرج، وأحاطها بين ذراعيه يسترسل همسه بحنان مبالغ به:
_مش هعتذر على طريقة كلامي معاكي لإن ده خوف عليكي..فريدة هانم غلطت لما أخدتك معاها هناك.. أنا عايزك عزيزة وغالية يا شمس حتى لو كان الشخص ده عارف قيمتك وفاهم دماغك.. مينفعش أديله أكتر من فرصة وأقول مش هيأخد عني فكرة سيئة… بتمنى تكوني فهمتي كلامي.
أبعدها عنه يزيح دموعها فوجدها تبتسم له وتخبره بصوتٍ يطمسه البكاء:
_فهمت.. وأوعدك مش هتتكرر تاني.
منحها ابتسامة هادئة وانحنى يطبع قبلة على جبينها قائلًا:
_شوفي مذاكرتك.
هزت رأسها بطاعةٍ واستكملت طريقها للأعلى، بينما هبط الاخير للأسفل، فتفاجئ بأخيه يجلس بالصالون جوار زوجته، فقال باستغرابٍ:
_إنت لسه مغيرتش هدومك يا علي؟
نهض عن الأريكة يشير له:
_كنت مستنيك… تعالى.
إتجه إليه عمران بدهشة، خاصة حينما نهضت فاطمة تقف قبالته، تفرك أصابعها بحرجٍ طفيف، فقطع صمتهما علي الذي ردد:
_فطيمة مصممة تعتذرلك عن اللي حصل الصبح، وأنا بحاول أفهمها إنك رغم وقاحتك وقلة أدبك بس قلبك أبيض.
زم شفتيه بضيقٍ، وردد ساخرًا:
_ولزمتها أيه تختمها بالقلب الأبيض ما بكمالة الجملة بقى!
سدد له نظرة أخرسته فحك جبهته يهمس بسخط:
_هيبرقلي بقى مهي ناقصة!!
وتجاهله وهو يتطلع لزوجة أخيه يمنحها ابتسامة دافئة يبدد بها ارتباكها الظاهر له، وقبل أن يعرضها لاحراج اعتذار تقدمه له قال:
_أنا مزعلتش من اللي حصل علشان تعتذري يا فاطيما، وبعدين أنا سبق وقولتلك إنك بالنسبالي زي شمس بالظبط ومفيش بيني وبين أختي اعتذار أو مبررات باللي حصل، صدقيني أنا مش زعلان.
رفعت عينيها المحتقنة إليه، وبتلعثمٍ وارتباك قالت:
_لأ أنا كنت قليلة الذوق معاك يا عمران ولازم أعتذر.
هز رأسه نافيًا وصاح:
_مفيش داعي تعتذري لشيء تافه يا فاطيما.
وبمكرٍ استرسل:
_بس لو مصرة يبقى تعمليلي نفس الأكلة الغريبة اللي عملتيها يوم ما كان جمال ويوسف هنا أعتقد إسمها كسكس صح؟
ضحكت بصوتٍ أطرب سماع علي، فكان سعيدًا بأنها ولأول مرة تتبادل حديث يجمعهما بأخيه إشارة مقبولة للقادم، واستمع لها تخبره:
_عنيا، بكره إن شاء الله هعملك.
اتسعت ابتسامته وحذرها وعينيه تلتفت من حوله بشكل مضحك:
_خلصيها في المطبخ واديني إشارة أدخل أكل في الخباثة لحسن فريدة هانم لو قفشتني هتطردني بالحلة برة البيت.
عاد الضحك يفرد سلطانه عليها من جديد وهي تؤكد له:
_متقلقش هخلي مايا توصلهالك.
قدم يده لها ليفاجئها قائلًا:
_اتفقنا؟
تلاشت ابتسامتها بشكلٍ ملحوظ، فوزعت نظراتها بين كف عمران الممدود وبين علي الذي منحها بسمة وإيماءة خافتة، جعلتها تصافحه مرددة بوجهها البشوش:
_اتفقنا.
تركهما عمران وغادر لسيارته رافعًا من صوته:
_لو وصلت قبلي عرف يوسف إني مش هتأخر يا علي… سلام.
وغادر بسيارته بينما ترك علي فاطمة قائلًا بابتسامة هادئة:
_هطلع أغير هدومي عشان منتاخرش.
وتركها وصعد للأعلى بينما ظلت هي بانتظاره بالاسفل، فانضمت لها زينب ومايسان وبعد قليل هبط علي متألقًا ببذلة آنيقة من اللون الرمادي، مصففًا شعره لنهاية رقبته بشكلٍ لفت انتباه فاطمة وهي تراه يصففه كذلك للمرة الأولى، فأخذت تختلس النظرات إليه في السيارة من وقتًا لأخر حتى وصلوا للعمارة القابع بها عيادة “ليلى”.
*******
انهى لمساته الأخيرة أمام باب العيادة، فثبت عمود الورود جيدًا وولج للداخل يبحث عنها بعينيه، فوجدها تستند على باب الشرفة، تتأمل مدخل العمارة بنظرة هائمة، وفجأة تسلل لجسدها البارد دفء يحاوطها، مالت” ليلى”برأسها فوجدت “يوسف” يحاوطها ويميل برأسه يعانق رأسها بحنانٍ، وهمس لها بفرحةٍ:
_مبروك يا أجمل وأرق دكتورة.
انزوت داخل ذراعيه تشدد من عناقه قائلة بكل امتنان تمتلكه:
_من يوم ما دخلت حياتي يا يوسف وبقى ليها طعم تاني، كل حاجة بتعملها عشان ترضيني أنا حتى لو كانت على حسابك إنت، أنا مقدرتش أقدملك أي شيء أردلك بيه حنانك وحبك الكبير ليا.
رفع ذقنها ليجبر رأسها المدفون بصدره على التطلع إليه، فرأت أجمل ابتسامة يحررها لها خصيصًا، وذراعه يقرب خصرها إليه بتملكٍ لتستمع إليه يردد:
_ادتيني قلبك وده كفايا عليا يا ليلى.. وحبك ليا أكبر مكافأة قدمتهالي.
أغلقت عينيها تستمع بهمساته بعشقٍ يزاحم قلبها في عقر داره، فانتقلت إليها عاطفته التي تتقرب منها بلمساته، استسلمت تتمنى أن لا يبتعد إلى أن تسلل إليهما صوت “سيف” الساخر:
_بعتني أجيب الورد علشان تستفرض بالدكتورة، طيب ما كنت تقول من الأول إنك بتوزعني وأنا كنت هتوزع باحترام بدل أم الفرهدة دي!
انتفضت مبتعدة عن زوجها بخجلٍ جعل حديثها يخرج بتلعثم:
_هو والله يا سيف هو اللي آآ..
قاطعها “يوسف” بحدةٍ:
_بتبرري لمين يا ليلى، أنا جوزك مش واحد ماشية معاه يا حبيبتي!
واستدار يحذره بنظرةٍ صارمة:
_سيف إتادب بكلامك مع لوليتا مش واخده منك على كده.. تحذير ما قبل إنذار الخطر.
رفع يديه معًا باستسلامٍ:
_أنا مجتش.
وتابع بابتسامةٍ هادئة:
_مبروك الافتتاح الرائع ده يا دكتورة ليلى.
أجابته على استحياءٍ:
_الله يبارك فيك يا سيف عقبال ما نفرح بيك مع بنوتة بنت حلال تستاهلك.
رفع “يوسف” يديه بتمني وكأن الدعوة من نصيبه هو:
_ دي الدعوات ولا بلاش.. لو ربنا تقبل دعوتك يا لوليتا بالي هيرتاح.
زم شفتيه ساخطًا:
_إنت نفسك تتخلص مني بس مش هنولهالك يا يوسف، أنا قاعد معاك شوية.
لف يده حول رقبته وجذبه إليه بالقوة يخبره:
_بس أنا مش هسيبك تقعد كتير يا سيفو..أول ما ألقى البنت المناسبة ليك هسحبك تتقدملها رغمًا عن أنفك.
تعالت ضحكات “ليلى” وهي تراقب تعابير وجه سيف المضحكة، وكأنه سيلقى بين نيران جهنم، فترك الردهة وإتجه بما يحمله للشرفة، فلحق به “يوسف” يتساءل وعينيه تتفحص ساعة يده:
_فين أيوب وآدهم؟
جذب إحدى باقات الزهور وقدمها إليه:
_آدهم بعتلك الورد ده وبيعتذرلك، الجرح شد عليه ومقدرش إنه يجي.. أما بقى أيوب فأنا لحد الآن معرفش هو فين؟ آدهم قال انه مرجعش البيت من الصبح قلقت عليه ليكون ورط نفسه في مصيبة تانية، دورت عليه في المطعم اللي بيشتغل فيه وفي الجامعة وملقتهوش فكلمت عمران وقالي كلمتين مختصرين “متقلقش هو معايا” وبعدها معتش رد على رسايلي!
ابتسم وهو يراقب انزعاج معالمه، فربت على كتفه قائلًا بمرحٍ:
_مدام قالك متقلقش يبقى من حقك تقلق!
*******
طرق على الباب الحديدي، فانتبه له “ممدوح” ، نهض عن مقعده وهو يعيد ضبط نظارته الطبية، فحرر الباب هاتفًا بحيرةٍ:
_أيه رجعك بالوقت ده يا عمران؟
اشرأب بعنقه للأعلى في محاولةٍ لرؤية صديقه البائس، فوجده يطفو من خلف ذاك المكتب المتهالك، وبين يده لوحة بيضاء سميكة، وبيده عدة أقلام ومسطرة ضخمة، رمش بعدم استيعاب هل توجه للتصميم بأول جلسة جمعتهما!
استعاد ثباته المهدور مصدرًا تنهيدة مقلقة:
_أنا كنت جاي أستأذن حضرتك في أيوب، معزومين أنا وهو على حفلة مهمة والصبح هيكون موجود في مواعيده.
أخفى عُمران ابتسامته الساخرة بصعوبة، وكأنه يأتي لروضة الأطفال لطلب سماح الانصراف لاخيه الصغير، ومع ذلك احتلت معالمه بادعاء صلابته، وأخذ يراقبه وهو يعود لمكتبه مشيرًا لأيوب:
_روح وعلى معادنا بكره.
لا يصدق ما إلتقطته آذنيه، هل سمح له بالمغادرة أخيرًا؟
ترك “أيوب” مقعده وهرول لحقيبته الصغيرة يجذبها وهرول للخارج كمن نجى بروحه من تابوت محكم الإنغلاق، فتفاجئ بعمران ينتظره، وما أن رأه حتى استقبله بابتسامة بلهاء:
_أيوب وحشتني يا راجل!
قابله الأخير بلكمة قاسية أطاحت بالأخير أرضًا، فتمردت ضحكاته واستند على درابزين الدرج ليستعيد استقامة جسده، ليجد الأخير يهرول للأعلى مرددًا بحنقٍ:
_لو جيت ورايا هصفيك لدرجة أنهم مش هيلاقوا فيك حاجة تدفن.
نفض الغبار العالق على بذلته ولحق به للأعلى يناديه ضاحكًا:
_طب استنى بس..يعني ده جزائي إني جيت وأخدت الأذن عشان تلحق تروش نفسه للحفلة؟
توقف عن الصعود واستدار إليه يقابله بنظرة شرسة، فأطبق على أصابعه مشيرًا بحدة:
_اخفى من قدامي يا عمران، أنا بقالي هنا عشر ساعات وحقيقي مش شايف قدامي من التعب والإرهاق، لأ والاستاذ ممدوح ده على ما يبدو مكمل في شغله ومش همه، والدي تقريبًا من عمره وبيحتاج كام ساعة في اليوم يستريح فيها واتعشمت إنه يديني ساعه راحه لكنه ما شاء الله مستمر في الشغل كأنه ألة مش بني آدم، ده حتى معاد خروج موظفين الشركة جيه ومازال مستمر!
واسترسل بدهشة أحاطته منذ الوهلة التي خطت قدميه للداخل:
_هو مطلعش يروح ليه، ولا هيبات هنا؟
راقب “عمران” الباب السفلي وأشار لأيوب بتتبعه:
_طيب تعالى نخرج من هنا وهحكيلك كل حاجة، بس الأول حسام اداك الأكل والعصير؟
احتل الغضب معالمه بشكلٍ جعله كالقنبلة المهددة بالإنفجار، فأحاطه “عمران” بذراعيه ضاحكًا:
_خلاص بقى ميبقاش قلبك أسود.. وبعدين منتكرش إنك استفدت منه جدًا بدليل إنك ما شاء الله من أول درس بتصمم بنفسك!
لوى شفتيه بسخطٍ:
_ولو كنت اتاخرت شوية كنت هتلاقيني مع فريق التنفيذ بنفذ اللي صممته بنفسي! الراجل ده غريب تحس إنه إنسان ألي مش بني آدم!
دفعه برفقٍ للمصعد فأبعده أيوب عنه بغيظٍ، صعد بهما المصعد للأعلى وحرب النظرات سائدة بينهما حتى خرج به فتركه وغادر دون أن يستمع إليه.
أسرع “عمران” لسيارته يتبعه على محاذاة خطاه، ففتح الشرفة الزجاجية يناديه:
_أيوب اركب بقى وفكك من شغل الأولاد ده.
منحه نظرة مشتعلة وردد بانفعال:
_امشي يا عمران بجد، أنا مش ضامن رد فعلي على اللي عملته معايا النهاردة… امشي.
كسر الطريق عليه بسيارته ليصيح بحدة:
_اركب ومتخرجش جنوني عليك.. أنت مش عاملي فيها راجل مكافح نخيت ليه من أولها؟
نظم أنفاسه الحارقة حتى هدأ قليلًا، فاحتل المقعد المجاور له، تحرك به عمران لشقة سيف، والصمت الحائل بينهما فقطعه عمران مجددًا حينما قال:
_أيوب بلاش تفكر بالطريقة دي، أنا عملت كل ده علشانك صدقني، وعارف أنك بتفكر إني بعدتك عشان متختلطش بالمشاكل مع البنت اليـهودية دي، وأنا مش هنكر ده بس كمان عملت كده عشان تستفاد من خبرة أستاذ ممدوح، بذمتك الكام ساعة اللي قضتهم معاه مستفدتش منه؟
ارتخت تعابيره المشدودة رويدًا رويدًا، واعترف له:
_استفدت جدًا بس الضغط والإرهاق ده خلاني مش قادر أستوعب أغلب اللي قاله.
والتفت له يسأله باهتمامٍ:
_هو معندوش بيت ولا أهل يا عمران، يعني بقالي معاه يوم كامل ومشوفتوش حتى طلع موبيله يكلم حد!
رد عليه بحزنٍ وعينيه تراقب الطريق بعناية:
_كان له بيت وأولاد، اتغرب طول عمره عشانهم.. بنى ليهم بيت كبير وصرف على تعليمهم لحد ما دخلوا كليات كويسة، وبعدها طلب من بابا الله يرحمه أجازة طويلة علشان ينزل ويقعد وسط أولاده بس بعدها باسبوعين رجع وهو حزين لانهم طلبوا منه يرجع تاني للشغل لان ابنه الكبير كان خاطب وعايزه يجهزله شقته ومصاريف الجواز.
واستدار، يقابله بنظرة ألم وابتسامة فارقة:
_جوازة ورا التانية وطلباتهم مش بتنتهي، لحد ما أخد على الغربة والوحدة اللي هو بقى فيها، أنا كنت جنبه لحظة بلحظة وسامع أغلب مكالمتهم ليه وطلباتهم اللي مش بتنتهي، لحد ما استلمت الشركة واطمن أني قادر أديرها من غيره فنزل مصر وهو عنده النية ميرجعش تاني، بس اللي حصله خلاه يرجع لندن تاني يوم..
سأله بفضول بعدما نجح الاخير بسحب كل اهتمامه لقصة ممدوح المؤلمة:
_حصل أيه؟
رد عليه بحزنٍ عميق:
_ولاده ومراته لما عرفوا انه نزل بشكل نهائي طردوه من البيت ومحدش من عياله رضى يقعده عنده ولا يستقبله في شقته، كلهم كانوا هيتجننوا ويخلوه يرجع تاني حتى وهو بالسن ده، ولما رجع واتاكدوا إنه سافر تاني رجعوا يكلموه ويشدوا معاه ناعم من تاني بس هو رمى موبيله وبقى زي ما أنت شايف حياته كلها شغل..
وتابع بألمٍ يطغي على نبرته المبحوحة:
_قدمتله شقة فخمة وعربية ومكافأة مالية كبيرة اكرامًا لتعبه واخلاصه لأبويا الله يرحمه، كنت بحاول أرد جزء بسيط من جمايله عليا، الاستاذ ممدوح الشخص الوحيد اللي علمني يعني أيه راجل مخلص وابن اصول في حين إن بعد خالي وأهل أبويا أول ناس نهشوا فينا بعد وفاة والدي الله يرحمه، وفجائني تاني لما رفض كل اللي قدمتهوله وطلب مني أسلمه الآرشيف وخزنة التصميمات والملفات المهمة ومن وقت للتاني خصص لنفسه أوضة صغيرة تحت فيها سرير صغير وحمام، عايش فيها وبيشتغل ليل نهار ولو حاولت أساعده وزودتله مرتبه بيرجعلي الفلوس وبيتضايق جدًا.
واستدار تجاه أيوب يخبره بحزن بالغ:
_بحس إني عاجز ومش عارف أزاي أكافئه أو أردله جزء من جمايله… كل ما بشوفه قلبي بيتقطع عليه هو إنسان كويس وعظيم وميستاهلش اللي أولاده بيعملوه فيه ده.
تغلغل الحزن معالم “أيوب” بتمكنٍ، واحتقن صوته المتأثر بما استمع إليه:
_الزمن ده بينجح إنه يفاجئنا باللي مخبيه، الناس عادت وحشة أوي يا عمران، اللي سمعته منك ده كبره في نظري وخلاني متحمس أكون معاه الفترة الجاية، عارف إنه صعب يندمج مع أي حد وده باين جدًا بس على الأقل هكون ونس ليه الفترة الجاية وبتمنى بس يخف عليا ساعات العمل لإني كده مش هتخرج من الجامعة هتخرج من الدنيا كلها.
ضحك الأخر وربت على كتفه يمازحه:
_متخافش يالا عمران الغرباوي معاك ومش هيسيبك.
_علامة مسجلة إنت ولا أيه مش فاهم!
_بتتريق! طب خلاص هوديك الحضانه كل يوم الصبح ومش هروح أخدك.. هسيبك كده كل يوم معاه لحد ما تستنجد بالشيخ مهران تقوله يبعت حد ياخدك!
قالها بمرحٍ جعل الأخير يضحك متغلبًا على غيظه، فتابعه وهو يصف السيارة أمام العمارة وأشار له:
_اطلع غير هدومك وانزل بسرعة.. مش عايزين نتأخر أكتر من كده.
حرر حزام الأمان عنه وقال وهو يتثاءب:
_ما تروح إنت وفكك مني.
دفعه للخارج بضيق:
_انزل يا عم هي ناقصة رخامة سيف..ده كل نص ساعة يتصل عليا ويتمم إنك بخير ورايح معايا..مش بعيد لو ملقكش داخل معايا يطلبلي بوليس النجدة!
ضحك بصوته كله، وأشار وهو يستدعي المصعد بضغطة الزر:
_مش هتأخر متقلقش.
وولج للداخل حتى وصل للشقة،طرق بابها حتى فتح “آدهم” فوجد جسدًا ثقيلًا يندفع إليه حتى كاد بأن يسقط به، فردد باستغرابٍ:
_أيوب!!
أغلق عينيه باستسلامٍ على كتف آدهم وكأنه طفلًا صغيرًا يغفو على كتف والده، فأحاطه آدهم بقوة وهو يجاهد الا يصيب جسد أيوب كتفه المصاب.
جذبه بقوة للداخل وأغلق الباب، قائلًا بقلقٍ:
_مالك يا ابني؟ وكنت فين لحد دلوقتي سيف قالب عليك الدنيا ومش مبطل رن؟
خرج صوته هامس وعينيه تنغلق استسلامًا للنوم:
_خدني لأقرب سرير أو كنبة.. بنام على نفسي!
أبعده عن كتفه يتفحص وجهه وجسده ظنًا من أنه قد مسه أذى جعله مرهقًا لتلك الدرجة، وحينما اطمئن بأنه على ما يراه أعاده لكتفه فأحاطه أيوب بذراعيه تلقائيًا وغفى واقفًا.
تحرك به آدهم بتعبٍ سيطر على كتفه المصاب، حتى وصل لغرفته القريبة، طرحه على الفراش وهو يتهامس بسخرية:
_أيه وصلك للحالة دي!!
واتجه إليه يناديه:
_طيب قوم حتى غير هدومك يا أيوب!
لم يأتيه أي ردًا، صوت انتظام أنفاسه يتصاعد ليخبره بنومه الشبيه بفقدان الروح، لم يستطيع السيطرة على ضحكاته وهو يراقبه كطفلٍ لم يحتمل عناء أول يوم دراسي إليه وعاد لفراشه يغفو بملابسه وحقيبته.
انحنى آدهم ينزع عنه حذائه ورفع قدميه للفراش ليمنحه نومة مريحة، وجذب عليه الغطاء فتحركت يد أيوب تجذبه على وجهه تلقائيًا رغم غفوته.
رمش آدهم بدهشةٍ مما فعل، واتسعت ضحكته الساخرة مرددًا:
_مش معقول في دي كمان شبهي!
انحنى إليه يزيح الغطاء عن رأسه ووضعه على صدره حتى يتمكن من التتفس بشكلٍ منتظمٍ، ففجأه مرة أخرى حينما تحركت يده تجذب الغطاء على رأسه مما زاد من دهشة آدهم المعتاد على أن يغلف جسده بأكمله بالغطاء وقت نومه، يتذكر كيف كانت تستاء والدته من تلك الحركة التي تجعلها يتهييء لها وكأن جسد إبنها جثمان وليس ينبض بالروح، وما يزيد ضجرها بأنه يرث حركته السخيفة تلك عن أباه.
قطع شروده صوت طرق الباب مجددًا، فأحاطه بنظرةٍ أخيرة قبل أن يتحرك ليفتح الباب.
ولج عمران للداخل يتساءل بضيق:
_هو فين يا آدهم.. كل ده بيلبس؟
وشمله بنظرة متفحصة ليزيد من غضبه:
_وإنت ليه ملبستش لحد دلوقتي! انتوا بتهزروا يا جدعان!
أجابه قبل أن يندفع بحديثه الغاضب:
_انا اعتذرت من دكتور يوسف مش هقدر أنزل.. ولو بتسأل عن أيوب فمتستنهوش إنزل إنت لإنه في سابع نومة.
رمش بعدم استيعاب وهو يلتقط تلك الكلمة الساخرة، فصاح بتهكم:
_لحق ينام؟
ضحك يشاكسه:
_هو طالع نايم أساسًا… اترمى عليا شبه المقتول وبمعجزة قدرت أسنده لسريري!
زم شفتيه ساخطًا على من أدعى قوته الزائفة وردد:
_أمال عاملي فيها شجيع السيما ليه.. ده مخدش غلوة في إيد استاذ ممدوح.
منحه نظرة مشككة تحيط بمضمون حديثه، فقال:
_إنت عملت أيه فيه يا عمران؟
رفع كتفيه مداعيًا براءته:
_ولا حاجة… شغلته في شركتي!
واستطرد مقدمًا عرضه المغري:
_طيب خلاص تعالى إنت معايا… ده يوسف محضرلنا أكلة سمك بعد الحفلة إنما أيه.
اتجه آدهم للردهة، فجلس على المقعد يتأوه بتعبٍ:
_ألف هنا ليكم.. أنا مش قادر أتحرك قدامك يا عمران.. تتعوض مرة تانية.
إتجه إليه يراقبه بقلقٍ انتقل لنبرته الرجولية:
_شكلك موجوع.. تحب أكلم دكتورة ليلى تيجي تشوفك؟
هز رأسه نافيًا:
_الموضوع مش مستاهل… هأخد المسكن والألم هيروح على طول إن شاء الله.
منحه ابتسامة هادئة، وربت على كتفه بهدوء:
_يلا خف قوام قوام عشان نجوزك ونخلص من البت اللي قارفاني في البيت دي.
ضحك بشدةٍ وردد بحبٍ:
_عنيا يا سيدي… هأخدها تنور حياتي المكفهرة دي.
انتصب عمران بوقفته وأشار له:
_هبقى أكلمك أطمن عليك… سلام.
_مع السلامة… متنساش توصل مُباركتي لدكتورة ليلى ودكتور يوسف.
أجابه وهو يستعد لغلق الباب:
_اعتبرها وصلت.
*******
صف “جمال” سيارته أسفل البناية، وانضم لزوجته التي تنتظره حاملة طرف فستانها الأسود الطويل، فانضم إليها ومازال يلاحظ وجهها العابث، جدد ذاكرته عساه قد اقترف شيئًا أزعجها وحينما لم يجد قال:
_افردي وشك ده شوية هو أنا جايبك معايا غصب؟
تعمقت بنظراتها الغاضبة إليه، وأردفت:
_مش جاية غصب بس جوايا في بركان نار احذر منه لينفجر في وشك.
جحظت عينيه صدمة، فأبعد الورود التي يحملها جانبًا وقال:
_بركان مرة واحدة… ليه كل ده؟
منحته نظرة ضاقت عليه وكأنها تعتصره داخل مقبضة من حديدٍ لتطلق ما تدفنه إليه:
_أي مشوار أو خروجة ليها علاقة بعمران أو يوسف صاحبك بتجهز وتجري هوى، لكن لو أنا اللي طلبت منك نخرج شوية مش هتعبرني، معرفش صحابك دول عاملين ليك أيه؟
رفرف بأهدابه بعدم استيعاب والكارثة تحليله لمغزى حديثها فقال باستنكارٍ:
_انتي بتغيري من عمران ويوسف يا صبا؟
ولجت للمصعد توليه ظهرها والأخر يلحق بها بصدمة تجعل تعابيره متجمدة كالثلج وهو يراقبها بحاجبيه المرفوع، ليجد ذاته يضحك دون توقف، فاستدارت إليه تلكمه بغيظٍ:
_متضحكش.. اسكت!
أحاطها بين ذراعيه لتكف عن تسديد الضربات إليه، مرددًا بدهشةٍ:
_متهزريش يا صبا، انتي بتغيري من علاقتي بصحابي يعني من رجالة!! أنا بحاول أتخيل موقفي السييء لو حد سمعك هيأخدوا عننا فكرة شكلها عاملة ازاي!!
راقبت ضحكاته باستياءٍ، ورددت بضيقٍ:
_انت السبب.. لانك بتهتم بيهم أكتر مني.. إنت حتى مش بتقولي كلام حلو أوازن بيه المقارنة بيني وبينهم!
اختصر ضحكاته بابتسامةٍ جذابة، فتغاضى عن توقف المصعد بالطابق المنشود واحتوى وجهها بيديه بحنانٍ:
_صبا سبق وقولتلك قبل كده أنا مبعرفش أقول كلام حلو ومتزوق.. بس إنتِ عارفة ومتأكدة إني بحبك وبتمنالك الرضى ترضي.. كون إنك تحطي نفسك بمقارنة مع عمران ويوسف فده غباء منك لإنك في مكانه إنتِ واللي في بطنك صعب حد يتقارن فيها معاكي.
اتسعت ابتسامتها والفرحة تجعل وجهها مشرق، عينيها تشعان بجاذبية جعلته عاجزًا عن سحب نظراته عنها، فوجد ذاته يضمها رغم أنه يستغرب ما يفعله ربما لإنه زوجًا عاديًا إعتاد أن لا تفارق مشاعره غرفة نومه، ولكن موقفها الذي حررته الآن أكد له بأنها ليست مرتها الأولى التي تفكر هكذا.
ارتعشت بين ذراعيه التي تحيطها ورددت بعشقٍ وصل إليه:
_بحبك أوي يا جمال.. وأي كلمة بسيطة منك بترضيني.. صدقني أنا مش طمعانة غير في قربك مني.
ربت على ظهرها ويده الأخرى تقرب رأسها لعنقه، فاهتز بهما المصعد ليهبط للأسفل، ابتعد عنها “جمال” ضاحكًا:
_شوفتي إدينا نزلنا تاني للدور الأرضي!
شاركته الضحك ورددت بمشاكسة:
_حد قالك تحضني!
غمز لها بخبث:
_مستعد نطلع وننزل طول اليوم بالاسانسير عشان الحضن الجميل ده.
اكتست الحمرة معالمها، فأبعدت وجهها عنه، فُتح باب المصعد وطل “عُمران” من أمامهما متسائلًا بحيرة وعينيه تجوب بينهما:
_انتوا طالعين ولا نازلين؟!
ارتبكت صبا بينما أجابه جمال:
_هتفرق يعني.. اركب خلينا نطلع!
منحه نظرة وقحة جعلت جمال يدفعه للوحة قائلًا:
_دوس على الزرار وصفي نيتك!
ضحك بصوته كله وغمز له:
_وماله نصفيها يا جيمي.
ومال إليه يهمس له بصوتٍ منخفض:
_هو مش جو قالك تهدى شوية ولا إنت مبتحرمش!
احتدت نظراته القاتمة، فلكمه بعنفٍ جعله يرتد لمرآة المصعد، فتراجعت صبا للخلف برعب:
_في أيه يا جمال؟
ضحك عمران وهمس له:
_رد يا جيمي.
جز على شفتيه بغضب، واعتدل بوقفته يعدل من جاكيت بذلة عمران وينفض كتفيه بقوة مؤلمة ولكنها تبدو مساعدة نبيلة منه لزوجته التي تراقب ما يحدث بينهما بقلقٍ:
_مفيش يا صبا دا كان في ناموسة رزلة واقفة على خد عمران ومصممة تمص دمه ادتها اللي فيه النصيب.
هزت رأسها بتفهمٍ رغم عدم اقتناعها بما يخبرها به، فاستقام كلاهما بوقفتهما حتى توقف المصعد فخرجوا جميعًا.
استغل عمران دخول صبا وجذب جمال للخلف يعيد له لكمته هاتفًا بضجرٍ:
_ناموس في لندن فاكر نفسك في سيوة!!
وقبل أن تطوله يديه ركض للداخل سريعًا، فتنحنح جمال واستعاد اتزان هيبته المهدورة ولحق بالاخير.
*******
رحب “يوسف” بعلي وإتجه به للداخل ليريه الأجهزة التي استوردها من الصين خصيصًا لزوجته، فنالت استحسانه وأبدى اعجابه قائلًا:
_لو على ضمنتك نتواصل معاه عشان المركز خلاص عمران قالي قدامه عشر أيام بالظبط وفريقه ينجز.
رد عليه يوسف بابتسامة واسعة:
_عظيم.. استغل الفترة دي في اختيار الدكاترة والممرضات اللي هيشتغلوا بالمركز على الأقل نزل اعلان واستغل السوشيل ميديا.
جذب علي أحد المقاعد القريبة منه، اعتلاه وهو يراقب يوسف الذي جذب المقعد المقابل له، فقال:
_أنا ناوي أنزل مصر وأختار فريقي بنفسي يا يوسف، مش حابب شغل الموبيلات ده.
استحسن فكرته وأبدى اعجابه:
_كده أفضل ألف مرة… رتب أمورك وتوكل على الله وسيب حكاية الأجهزة دي عليا وعمران موجود مع العمال وده شغله.
نهض علي يلتقط كوب العصير من ليلى وقال بلباقة ورقي:
_الدكتورة بنفسها اللي بتقدم الضيافة.. تسلم إيدك.
ابتسمت إليه بحبور:
_وجودك هنا إنت وفاطيما والبنات غالي عندي يا دكتور… نورتونا كلكم.
رد عليها وعينيه مازالت أرضًا:
_متقوليش كده احنا زمايل.. ومبروك عليكي مرة تانية عندي ثقة إنك هتكوني من أهم دكاترة الجراحة بانجلترا كلها.
وبمزحٍ أضاف:
_عشان كده إنتي والدكتور يوسف من أوائل الناس اللي هتكون معايا في المركز الطبي.
كانت هي أول من أجابته:
_ده شرف لينا يا دكتور علي.
ردد يوسف بابتسامة:
_الافتتاح الجاي هنكون متجمعين عندك في المركز ان شاء الله.
ردد بخفوت:
_بإذن الله.
*******
بالخارج.
انسجمت “فاطمة” مع “مايسان”، ومازالت”زينب” تحيطها غمامة الماضي، تركتهما واتجهت للشرفة التي انعشت وجهها بالهواء البارد، فأغلقت عينيها تستمتع بتلك الانتعاشة التي تندفع إليها، متجاهلة كل شيءٍ حولها، إلى أن تسلل لمخضعها الخاص صوته العميق:
_المنظر من هنا مسحرنيش لوحدي!
التفتت جوارها فوجدته يجلس على أحد الأرائك يتابعها ببسمته الهادئة، اعتدلت “زينب” بوقفتها هامسة بخفوت:
_سيف!
تمكن من قراءة حركة شفايفها بحرافيةٍ، فاندفع قلبه يهوى بتمنى أن لو تمكنت أذنه من سماع صوتها.
نهض عن محله واقترب منها يردد:
_توقعت إني ممكن أشوفك تاني صدفة في الجامعة لكن هنا كان صعب!
لقائها به الآن يطيب جزءًا من وجعها، هي الآن مشتتة، بائسة، يركض شبح الماضي من خلفها، نهض سيف عن محله المظلم إليها،وبمجرد أن رأته يرتدي جاكيت مشابه لجاكت “يمان”، انقبض صدرها وتراجعت للخلف بذعرٍ مقبض بينما الأخير يراقبها بذهولٍ ودهشة، فحرر صوته أخيرًا متسائلًا:
_انتي كويسة؟
هزت رأسها نافية ومازالت تتراجع بجسدها للخلف بذعرٍ، شخوص عينيها ونظراتها إلهمته بأنه وحشًا مفترسًا هرول من أحد أفلام الرعب ليقتحم مخيلاتها البريئة، ومع ذلك أعاد سؤالها بحنان:
_دكتورة زينب مالك؟
ابتلعت ريقها الجاف بصعوبة بالغة، ودون وعي منها ترجته:
_ممكن تقلع الجاكت ده من فضلك إقلعه!
برق” سيف”لوهلة مندهشًا، فمشط الشرفة المطولة بنظرة متفحصة وبدون أي تفكير نزع عنه جاكيته الجلدي وأسقطه أرضًا هاتفًا بقلقٍ:
_أهو.. لو ده اللي مسببلك الحالة الغريبة دي مش هلبسه تاني أوعدك بس طمنيني إنتِ كويسة؟!
استعادت جزء من ثباتها فابتعدت عن المقعد الذي تتمسك، وقد أحاطها حرجًا جعل وجهها أحمر قاني، فتلعثم قولها المرتبك:
_آآ… أنا أسفة…أنا بس افتكرت شخص مش حابة أفتكره… أنا بعتذرلك تاني يا دكتور سيف..
وهرولت من جواره تهمس بحرج:
_عن إذنك.
أوقفها حينما طالت يده معصمها دون ارادة منه ليوقفها:
_استني… متخرجيش كده إهدي بس وخدي نفسك الأول
ارتعش جسدها وعينيها جاحظة على يده الممسكة به، فدفعته بكل قوتها وهي تصرخ:
_يماااان ابعد!!
تجمد محله فور أن استمع إليها تنطق بإسم رجلًا يجعله لأول مرة يشعر بالكره الشديد تجاه هذا الرجل الذي لم يراه ولا مرة ولا يعلم حتى الصلة التي تجمعهما، كل ما يشعر به بأن كره إسم “يمان” ولا يود سماعه مرة أخرى.
هدأت قليلًا وتغلبها الحرج لما تفعله منذ تجمعها به، فهمست بصوتٍ لا يحمل الا الخجل الشديد:
_أنا آسفة أرجوك سامحني.
واستدارت لتتجه للمغادرة فأوقفها متسائلًا:
_راحة فين؟
أجابته ومازالت توليه ظهرها:
_همشي مش حابة أقعد.
دنى منها سيف حتى بات قريبًا، فابتلع غصته المؤلمة داخله وسيطر على انفعالاته قائلًا:
_السهرة لسه في أولها.
واستطرد بمحاولة لتلطيف الاجواء:
_لو لسه لابس أي حاجة مسببلك ازعاج هقلعها فورًا.
ومسك ياقة قميصه الأسود المندث ببنطاله:
_مش عجبك القميص ده أقلعه هو كمان؟
أشارت له بهسترية:
_لأ… لأ كويس.
منحها ضحكة جعلتها تبتسم، فاقترب منها يحاول اختلاق أحاديث تجمعهما:
_طمنيني حد اتعرضلك بالجامعة النهاردة تاني؟
أجابته وهى تستند على السور بخفة:
_لأ خالص.. واتفاجئت بالبروفيسور بيبهدلهم على اللي حصل في الفصل، وكان هيعملهم فصل.
استند على السور بمسافة معقولة بينهما:
_طب كويس.. كان لازم حد يحطلهم حدود.
هزت رأسها وعادت تتطلع إليه لتخبره بانزعاجٍ:
_بس أنا لسه قلقانه يحطوني في دماغهم بعد اللي حصل وكده، لإن الشاب ده نظراته ليا مكنتش لطيفة.
بث لها الأمان والطمأنينة:
_ولا يعرف يعملك حاجة.. ولو حصل أنا موجود مش هتخلى عنك أبدًا يا زينب.
عاد قلبها يخفق مجددًا، ذاك الأبله الذي سبق وإنخدع تحت شراع الحب الكاذب، ذاك الذي وضعت من حوله ألف سور وختم على ميثاق بعدم سقوطه بتلك الأكاذيب مجددًا.
توترت من أمامه وسحبت عينيها للأسفل، تراقب المارة بشرودٍ تام بينما مازال سيف يراقبها.
*******
بالخارج.
قدم جمال الزهور إلى ليلى قائلًا:
_مبروك الافتتاح يا دكتورة ليلى.
التقطته منه بابتسامة عذباء:
_الله يبارك فيك يا بشمهندس.. ليه بس تعبت نفسك؟
أجابتها صبا التي تحتضنها:
_تعبك راحة يا دكتورة… قوليلي بس أيه الجمال ده كله؟
سحبتها جانبًا لغرفة الفتيات، بينما انضم يوسف وعلي لعمران وجمال، فتساءل وهو يتطلع خلفهما بذهول:
_آدهم واعتذر فين أيوب هو كمان؟
أجابه عمران:
_رجع مقتول بعد ما قضى اليوم مع استاذ ممدوح.
برق علي بعينيه بدهشة:
_سلمته لاستاذ ممدوح يا عمران؟
ضحك وهو يجيبه بوقاحة:
_مش أحسن ما تستلمه البت اليهوديه، على الأقل الاستاذ ممدوح مننا وعلينا ومعروف أخره أيه!
أمسك جمال كف يوسف يتساءل:
_فكك من الواد ده وطمني أخبار أكلة السمك أيه كله تمام ولا هنقضيها مطاعم؟
اتجهت الانظار إلى يوسف المصعوق، تجردت عنه الكلمات وجحظت عينيه بوميضٍ جعلهم يتجهون بابصارهم تجاه ما يجذب انتباهه فوجدوا سيف يقف بالشرفة ولجواره فتاة لم يتعرف عليها الا علي وعمران الذي تنهد بيأس وتيقن بأن يوسف سيخطف زينب رغمًا عن الجميع لأخيه!
فرقع جمال أصابعه أمام يوسف مناديًا:
_يوسف.. إنت يا ابني روحت فين؟
خرج عن صدماته مرددًا بابتسامة واسعة:
_مين البنت اللي واقفة مع سيف دي؟
ووزع نظراته بينهم:
_أكيد تبع حد فيكم.. وبما إنكم كلكم متجوزين يبقى أكيد دي سينجل وبما إن سيف واقف منشكح معاها بقاله فترة يبقى هي المنشودة وبما إنها المنشودة بينا نكتب كتب الكتاب ونحدد الفرح والذي منه.
دفعه عمران ساخطًا:
_حيلك يا عم إنت مصدقت قفشته واقف مع واحدة.. على كده هتجوزه نص بنات الجامعة والجيران بالمرة!
عاد لمحله يتابعه بسعادة وكأنها امرأة تتمنى أن تجد عريس مناسب لابنتها التي قفزت من قطار الزواج، ليعود بوجهه إليهم بحزم:
_تبع مين دي بقولكم؟!!
ابتسم علي وهو يجيبه:
_أخت مراتي يا يوسف هديت؟!
هز رأسه نافيًا:
_مش ههدى الا لما أجوزهم.
ضرب جمال كف بالأخر:
_لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم، هو أنت مصدقت تمسك أخوك واقف مع واحده، طيب اصبر حتى يمكن البنت تكون مرتبطة أو اللي بينهم شيء بريء مش واصل لحوار جواز والكلام ده!
ردد باصرار:
_هجوزهم يعني هجوزهم إن شاء الله حتى أخطفها.
ضحك علي بعدم تصديق، بينما أحاط عمران كتفه:
_في أيه يالا إنت ليه محسسني إنك أول مرة تشوف نسوان… حبيبي لو دكتورة ليلى طلعت وشافتك بحالتك الغريبة دي هتقلب الليلة عليك ومش بعيد نتلم كلنا في محكمة الأسرة.
وتابع بسخط:
_ أمسك نفسك مش كده.. مش من أول مزة تقفشها مع الواد تجوزهاله إتقل تأخد حاجة على الزيرو مش بعيد تعتر في خواجية تغيرلكم النسل لألوان مبهجة إيشي شعر أصفر وعين أزرقكيك وآ..
أحاط علي كتف عمران وهمس له بنظرة جامدة:
_أيه رأيك تسيبك من دكتور يوسف وتخليك معايا.. نأخد وندي مع بعض ونشوف العينات والنسل ده على مزاج!
ترك عمران يوسف ورسم ابتسامة حمقاء:
_مالك يا علوى أنا بهزر مع جو.. وزيادة تأكيد أنا اللي هجوزهاله يا جدع!
تعالت ضحكات جمال الرجولية وشاركه علي، تركهم يوسف وإتجه للشرفة فهمس جمال:
_إلحقوا.
اتبعت النظرات يوسف بذهول، فوجدوه يدلف للشرفة بابتسامة واسعة جعلت زينب تستدير لذلك الغامض الذي يقترب منها، بينما اتسعت عين سيف بصدمة وأسرع لاخيه يترجاه بهمسٍ منخفض:
_اارجع يا يوسف أبوس إيدك متفضحناش.. ارجع.
أبعده من أمامه بقوة وكأنه نسمة هواء عابرة، فسانده عمران ليحيل عن سقوطه فهمس له برجاء:
_الحق صاحبك هيفضحني قدامها يا عمران.
اتاهما صوت يوسف المتفائل وهو يمد يده لمن تراقبه بدهشةٍ:
_دكتور يوسف أخو دكتور سيف الكبير والمسؤول عن أموره الشخصية والعاطفية يعني تقدري تقولي كل شيء يخصه.
وجود عمران لجوارها وعلي الذي يقترب إليها جعلها ترسم ابتسامة رقيقة وبادلته الصفح قائلة برقة:
_أهلًا بحضرتك يا دكتور..اتشرفت بيك.
ابتسم بحبورٍ وقال:
_أنا اللي كلي شرف أقسم بالله.
وتابع بلهفة:
_إنتي بتدرسي؟
رغم غرابة ما يحدث الا أنها تطلعت لعلي وأشارت:
_أنا مع دكتور سيف بنفس الكلية.
تهللت أساريره بشكلٍ ملحوظ واستدار يشير للشباب بفرحة:
_معاه في الجامعة هااا….يعني دكتورة كمان! متدينة وجميلة مفيش أي موانع هنا.
وعاد يسألها:
_مرتبطة يا أنسة؟
جذبه عمران للخلف وهو يهمس له:
_استهدى بالله يا يوسف مش كده!!
أبعده يوسف بغضب:
_اصبر يا عمران… اديها فرصة ترد… ها يا آنسة؟
ارتسم الخوف على معالم وجهها وهزت رأسها بالنفي، فصاح بحماس:
_يبقى نتوكل على الله ونيجي البيت نطلب إيدك لدكتور سيف.
جذبه جمال وعمران يحاول إبعاده هاتفًا بحنقٍ:
_يا عم فزعت البت اهدى بقى إنت أول مرة تشوف لحمة!
أخذت زينب خطوة تجاه علي فتغلب على ضحكاته قائلًا بهدوء يحاول التمسك به:
_متقلقيش يا زينب دكتور يوسف بس بيحب يهزر.
هز سيف رأسه بتأكيد وقال بحرج:
_أنا بعتذرلك بالنيابة عن أخويا، هو بس مش واخد إني أقف مع أي واحدة فتلاقيه بس رسم كذا سنياريو غرامي.
كبتت ضحكة كادت بالانفلات منها وخاصة حينما دفعه يوسف للخلف قائلًا:
_بتعتذر ليه عجبني ذوقك وهندخل البيت من بابه وأبوابه الاتنين هنا أهو تحب نبدأ بدكتور علي ولا عمران الوقح؟
ضحك علي بقوةٍ فترك زينب وجذب يوسف قائلًا:
_تعالى معايا يا يوسف… عايزك جوه.
وأشار لاخيه:
_خد زينب عند البنات يا عمران.
اتبع سيف علي وردد برهبة:
_خد بالك منه يا دكتور علي، لينزل ويرجع بالمأذون وتبقى الفضيحة كملت!
استدار يوسف إليه يؤكد له:
_هجوزهالك يالا أقسم بالله النهاردة من بكره مش هتفرق!
طرق بيده على جبينه بقلة حيلة، بينما انفجر جمال ضاحكًا حتى أحمر وجهه، فقال عمران بغضب:
_حبكت يعني تقف معاها قدام أخوك! ده بيتمنى لحظة زي دي!
رد عليه بضيق:
_وأنا إيش عرفني إنه هيعمل اللي عمله ده!!
واستطرد بخوفٍ:
_أمال لو عرف إني اتخانقت مع الشاب في الجامعة عشانها هيعمل أيه؟
**********
بالداخل.
سيطر “علي” على ضحكاته بصعوبة وردد بابتسامته الهادئة:
_خلاص والله هكلمها وأشوف دماغها.. مع إني متأكد إنها رافضة الارتباط بالوقت الحالي لإنها لسه في تانية جامعة…
وتابع بثبات:
_سبلي إنت الموضوع ده ومتشلش هم يا دكتور.
طرق على ساقه ونهض يشير له:
_بينا بقى نأكل، الجمبري والسمك زمانهم بردوا.
لحق به علي للخارج، فتجمع الشباب من حولهما، فتساءل سيف بارتباك:
_ها يا يوسف أحسن دلوقتي؟
منحه نظرة ساخطة:
_حد قالك أني كنت بطلع في الروح!
واستطرد ببسمة انتصار:
_وكلت الموضوع لدكتور علي هيشوف دماغ البنت وهيرد علينا.
صدم سيف وتغلف بالصمت، لا يعلم لما شعر بفرحة داخله رغم أنه يرتدي قناع التذمر، راق له الأمر حتى وأن كان ما يحمله تجاهها إعجاب مبدئي.
*****
بالغرفة المجتمع بها الفتيات.
فردت مايا أطباق الطعام على المنضدة برفقة صبا وليلى، ووزعت فاطمة العصائر قائلة:
_مكنش له داعي ترهقي نفسك بالشكل ده يا دكتورة ليلى.
ابتسمت لها برقة وقالت:
_ولا تعب ولا حاجة.. كله يهون عشان عيونكم بس يا رب أكلي يعجبكم.
أجابتها مايا وهي توزع الأطباق:
_من ريحته باين إن في عظمة مستنيانا.
بنفس الابتسامة الرقيقة قالت:
_ألف هنا على قلوبكم..
وتابعت وهي تكشف الغطاء عن اللحم:
_أنا عملتلكم لحوم أفضل من الاسماك اللي عملتها للشباب… يوسف وسيف مصممين أعملهم سمك معرفش ليه؟
ضحك صبا ورددت:
_هما الرجالة كده دايمًا خلف خلاف… يعني كوني على ثقة لو كنتي عملتي لينا سمك كانوا طلبوا لحوم.
تعالت الضحكات بينهن الا تلك الشاردة التي تعيد بمخيلاتها ما حدث منذ قليل، فمالت عليها فاطمة تتساءل بقلق:
_مالك ساكتة ليه؟
ارتسمت بسمة مخادعة على وجهها وقالت:
_مفيش أنا بس سرحت شوية.
وضعت فاطمة الطبق من أمامها وهمست مجددًا:
_طيب كلي عيب كده دكتورة ليلى تعبت في الأكل وممكن تفكرك قرفانه أو مش عجبك.
هزت رأسها بتفهمٍ وبدأت تتناول ما قُدم لها، أما بالخارج هبط الشباب جميعًا لسيارة عمران، بينما نادى “يوسف” “ليلى” يخبرها بحنان:
_حبيبتي إحنا نازلين خدوا راحتكم واحنا ساعة أو ساعتين وراجعين.
ضيقت حاحبيها بذهول:
_رايحين على فين يا يوسف؟
رد عليها وهو يجذب الحقيبة الصغيرة الخاصة بباقي الاطعمة:
_هنروح شقة سيف، أيوب وآدهم مقدروش يجوا فميصحش نأكل من غيرهم، هننزل نأكل مع بعض وبعدين نرجع على هنا… خدوا راحتكم.
هزت رأسها بابتسامة هادئة، ففجأها حينما ضمها لصدره طابعًا قبلة أعلى جبينها:
_تسلم إيدك على الأكل مبدئيًا.. انا عارف انك تعبانه طول الليل وبتحضري فيه من بدري.
تمسكت بجاكيته الأزرق قائلة:
_كله يهون عشان عيونك يا حبيبي… يلا انزل عشان متتأخرش على اصحابك.
ودعها يوسف وهرول للأسفل لينضم للشباب فتحرك بهم عمران لشقة سيف.
*****
صعدوا للأعلى وجذب علي ويوسف طاولة يضعون الطعام من فوقها، بينما ولج سيف لغرفة آدهم يحاول إيقاظ أيوب الذي غمغم بانزعاجٍ:
_يا سيف سبني أنام أنا راجع تعبان.
انتصب بوقفته تاستدار تجاه عمران المستند على باب الغرفة جوار آدهم، فسأله بشكٍ:
_انت عملت فيه أيه يا عمران؟؟؟
نزع عنه جاكيت بذلته وشمر قميصه لأعلى ساعديه مشيرًا بحدة:
_قتلته… ارجع ورا كده وسبني بقى أصحيه من الموت بمعرفتي.
وجذبه من تلباب قميصه كأنه يسحب مجرمًا لزنزانته، صائحًا بعنفوان:
_فوق يا عم القتيل جايبلنا الكلام ونايم مستمتع، إنت من رجال الكهوف اللي أول مرة تشوف مرتبة فيبر!!!
ضحك آدهم وانضم إليه يحرر رقبة أيوب الذي يوزع نظراته بينهما بغضب ساحق، فأخبره آدهم:
_تعالى كل معانا وارجع نام براحتك… سيف مش جايله قلب يخليك تنام من غير ما تأكل.
خطف نظرة سريعة لسيف الذي أكد له بإيماءة رأسه، فاستقام بوقفته يصيح بنفور:
_طيب طرقونا أغسل وأغير هدومي ولا هتشاركوني في دي كمان؟
غمز له عمران بمكر:
_لا ميصحش تقلعي قدام تلات رجالة يا عسلية، كله الا الشرف مبقاش حلتنا غيره من الدنيا!
واستطرد بسخرية وهو يتجه للخروج:
_أمال لو مكنتش البت مثبتاك قدامنا!!
كبت آدهم ضحكاته وأشار لايوب:
_معلش معلش… عديها.
ولحق بعمران بينما صاح سيف بغضب:
_ممكن تفهمني إنت كنت فين وقافل موبيلك ليه من الصبح والأهم أيه اللي يجمعك بعمران ده من الأساس؟!
دفعه أيوب للخارج وصفق الباب من خلفه:
_بعدين يا سيف الحكاية مش نقصاك.
بدل أيوب ملابسه واتجه للخارج لينضم لطاولة الطعام التي صنعها علي ويوسف، وشرع بتناول طعامه مبتسمًا وسط أجواء المرح المتبادلة بينهم جميعًا.
قاطع أجوائهم صوت دقات الباب الخافتة، فتطوع هو ليفتح الباب بعدما وجد الشباب يتهربون من فتح الباب وكأنهم سيواجهون وحشًا سيفترسهم لا محالة، حرر أيوب باب الشقة، فجحظت عينيه صدمة مما رآه، وجهها متورم بشدة والدماء تنفجر من كل أنش به، بينما يدها تضم بطنها النازف لنفورة من الدماء فردد بهمسٍ مرتعب:
_آديرا!!
تراخى جسدها أسفل قدميه فلم يجد ذاته الا بأنه يحيط بها رغمًا عنه، فوجدها تحرر صوتها المتألم إليه ودموعها لا تتوقف عن الهبوط:
_لقد كنت محقًا أيها الإرهابي!
يتبع…
ارتخى جسدها بين ذراعيه باستسلامٍ لمصيرها المحترم، دمعاتها لا تكف عن التوقف ويدها تضم جرح بطنها الغارقة بالدماء، انحنى خلفها “أيوب” يمنع سقوطها القوي على أرضية الردهة، وصراخه لا يتوقف عن ندائها:
_آديــــــــرا!
أغلقت عينيها بين ذراعيه وأخر ما التقطته آذنيها إسمها الذي يردده لمرته الأولى بكل تلك الوضوح، نظرته المرتعبة عليها والمتألمة لما أصابها، صدقًا بالغًا إلتمسته بين يديه لم يكن زائف مثل الذي اختبرته بين عائلتها المزيفة.
خرج الشباب تباعًا حينما تسلل إليهم صراخ “أيوب”، فاندهشوا جميعًا حينما وجدوها غارقة بدمائها بين ذراعيه، على الفور تحرك يوسف وإنحنى إليه يجذبها عنه وهو يتفحص عرقها النابض، فصاح بانفعالٍ:
_لسه عايشة… بسرعة جهز العربية يا سيف.
أفاق من صدمته على صرخة أخيه فاندفع للخارج يخرج سيارته من جراج البناية، بينما انحنى جمال إليهما يردد بصدمة:
_مين اللي عمل فيها كده؟
أجابه أيوب بصوتٍ احتقن من خلف غصته:
_أكيد عمها مش محتاجة تفكير.
ساندها علي قبالة يوسف الذي يحاول الكشف عن اصابتها للتحقق من نجاتها وسأله بقلقٍ:
_هنأخدها على فين يا يوسف؟
رفع عينيه إليه بقلة حيلة:
_مش عارف.
هتف” آدهم” بصرامة:
_لو أخدتها المستشفى أيوب كده هيدخل في سين وجيم وديانتها هتكون نقطة مش في صالحه نهائي.
حديثه كان صائب، علاقة أيوب بتلك الفتاة كانت خطيرة للغاية وهي الآن تحصد أول مخاطرها، وزع يوسف نظراته الحائرة بينها وبينهم وردد بعد تفكير:
_هناخدها عيادة ليلى.. هي هتقدر تعالجها.
شمله “عمران” بنظرة ساخطة، وصاح بتهكمٍ صريح:
_وتعالجها ليه أصلًا ما تغور في داهية تأخدها.. أنا كنت خايف تسبب الأذى لأيوب وأهي قرفته معاها حتى وهي بتطلع في الروح مش عتقاه!
حديثه كان يزيد من اختناق أيوب، وكأنه يسحب باقة الهواء الطفيفة من حوله، فشدد حازمًا:
_عمران من فضلك!
حجز على مقدمة قميصه بيديه معًا، ليرفعه أمامه وهو يهدر منفعلًا:
_الشهامة والنُبل اللي عندك ده تحطهم للأشخاص اللي يستحقوها مش واحد من اليهود الأنج*** ولاد ال**** دول، أنا مش مصدق المبالغة اللي عندك دي ليها! مصيبة تكون فعلًا حبتها ونسيت ملتها لو ناسي أفتح موبيلك واعمل سيرش بسيط عن اللي بيعملوه في غــزة مع اخواتك المسلمين، لو ناسي إسأل أي واحد فلسطيني مغترب عن الذل والمرار اللي شايفينه على إيدهم، لو فاكر إنك باللي بتعمله هتجبرها تدخل دينك فبأي حق عندك الثقة والاطمئنان إنها متطعنكش في ضهرك زي مهما بيعملوا ومتعودين!
واسترسل بعصبية جعلت أخيه ويوسف والشباب بدهشة من الكراهية الشديدة التي يتخذها عمران ضد تلك الفتاة، بالرغم من نفورهم جميعًا منها ولكنهم أطباء يحاولون التعامل مع الحالة دون التعارف عن جنسيتها، لا يفرق أي شيء الا أن ينقذوها من حافة الموت، تحرر شرارته المقبضة حينما استكمل وهو يهز جسد أيوب بعنفٍ عساه يعود لعقله:
_إنت مش قادر تستوعب إن اللي عمل معاها كده عمها اللي من دمها ده ميأكدلكش إنهم معندهمش ملة! يا غبي إفهم مستقبلك هيضيع بسبب واحدة متستهلش فووووق!
انهمرت دمعة خائنة من عين أيوب وتطلع لعمران كالغريق الذي يستنجد بقشة نجاته فقال باكيًا:
_أخوها سابهالي أمانة في رقبتي وأنا متعودتش أخون الأمانة ولا العهد يا عمران.. بالله عليك قولي هقابله إزاي ولا هجاوبه بأنهي وش! عارف إن اللي بعمله ده غلط بس مقدرش أخون يا عمران… الشيخ مهران رباني على كده رباني مخونش ثقة ولا أخون عهد ولا وعد قطعته على نفسي.
واستطرد وصوت بكائه يؤلم من حوله فألتمعت أعينهم بالدموع شفقة على تربية أخلاقثة عظيمة زرعها أبًا عظيمًا بشخصٌ يخوض معارك قاتلة بين هؤلاء اللعناء، فخرج صوته المتحشرج يخبره:
_على قد ما عشت حياتي كلها حُر وماليش لوية إيد على قد ما كرهت الظروف اللي بتجبرني دايمًا أخضع لكل كلمة خارجة مني، واللي خرج مني على لساني كان وعد لأخوها إني هحافظ عليها، وفي الوقت ده أنا بجلد نفسي فيه لإني قصرت معاها جاي إنت تزيدها عليا! بلاش أرجوك والله أنا موجوع ولو جرالها حاجة هتوجع أكتر وهخاف يومي يجي بعد ما كنت بستناه.. هخاف يجي يزورني ويسألني عن أمانته!
جذبه عمران لصدره يربت عليه كالطفل الصغير المنزوي بين أحضان والده، استدار “آدهم” للخلف يخفي دموعه مثلما اعتاد أن يجعلهما ستارًا لا يراه غيره، بينما دفع علي يوسف يخبره بصوت مبحوح من أثر كبته للبكاء:
_مفيش وقت يا يوسف لازم نتحرك قبل ما نفقد المريضة.
تعمد نطقه للفظ “مريضة” ليتعامل الجميع معها بناءًا على ذلك، متجاهلون كنايتها لأجل رفيقهم الذي يعاني لأجل وعده، فحملها أيوب عنهما وأسرع للمصعد فلحقوا به باستخدام الدرج، تشبث بها أيوب ونادها بلهفة:
_آديرا…هل تسمعيني!
تمسكي قليلًا عزيزتي!
غيوم عينيه تزيح عنه تلك النيران فتهاوى دموعه دون توقف ورأسه يهتز رافضًا لأفكاره السيئة:
_لن يصيبك سوءًا… يا الله أقسم أنني لن أحتمل مواجهته… تحملي آديرا.. أتوسل إليكِ تحملي لأجل أخيكِ.
وفور أن توقف المصعد خرج بها راكضًا، وكأنه يصارع لالتقاط أنفاسه المحتبسة، فكرة خسارتها تذبح فؤاده، كيف سيقابل أخيها بتقصيره بأمانة وضعها برقبته؟
اعتاد دومًا على النبل والشهامة، لم يخون أبدًا أمانة أو وعدًا اقتطعه على نفسه، فإن حدث الآن يقسم بأنه سيموت ولن يحتمل على خوض تأنيب ضميره القاتل هذا، ولكن ماذا كان سيفعل أكثر مما فعله؟
طوال الطريق كان صامتًا، عينيه تراقبها بحزنٍ وألمٍ يترسخ بأعين عمران وسيف والجميع، هبط بها للأعلى بينما أسرع يوسف ينادي زوجته فخرجت الفتيات على صوته بفزعٍ ازداد برؤيتهن تلك الفتاة.
أسرع يوسف إليها يخبرها:
_بسرعة يا ليلى… البنت نبضها ضعيف والنزيف مش راضي يقف.
خطفت نظرة متفحصة إليها وعادت لتستقر عليه:
_مأخدتهاش على مستشفى ليه يا يوسف، أنا مش هقدر أعالجها هنا!
تجاهل ما قالته وأشار لعمران قائلًا:
_خدوها لأوضة العمليات جوه يا عمران بسرعة.
هرع عمران للباب يدفعه ويتبعه أيوب، بينما أحاط يوسف وجه زوجته يخبرها بحنان:
_ليلى حبيبتي كل اللي هتحتاجيه في المستشفى موجود هنا، مفيش وقت من فضلك فوقي.
رفعت يدها تحيط يديه مرددة بارتباكٍ:
_معرفش أماكن الأجهزة جوه يا يوسف ولا أعرف أي حاجة، كمان مفيش ممرضة تساعدني ولا دكتور جنبي!
هز رأسه بتفهمٍ واستكمل بابتسامةٍ هادئة تمد لها الثقة وما فقدته بتلك اللحظة:
_أنا جنبك هساعدك بكل اللي أقدر عليه، وسيف ودكتور علي موجود.. كلنا هنساعد يا ليلى.
وأشار لها بحزمٍ:
_أنا واثق فيكِ وواثق إنك هتقدري تنقذيها.
إيماءة رأسها المرتجف كان كافيًا ليجعله يجذبها للداخل، قدم لها يوسف رداء معقم وإرتدى هو الأخر، أسرعوا للداخل فوجدوا سيف وعلي يحاولان السيطرة على النزيف، فردد علي بصوتٍ مرتفع:
_في جرح تاني في كتفها واختناق تنفسها أعتقد راجع لانكسار ضلع من ضلوعها.
أسرعت ليلى إليها، فأخفضت قناع التنفس لتحيط بها وجهها، بينما شرع “يوسف” بتجهيز المخدر الكلي ليحقنه ببراعةٍ بالمحلول الذي أعده “سيف” لوريدها، بينما سحب علي أيوب للخارج وتبقى “يوسف” و”سيف” مع “ليلى”، يحاول” سيف” استكشاف أماكن الأجهزة والأدوية المضادة، بينما يعاون يوسف زوجته بكل خطوة تتخذها لإنقاذ “آديرا” لخبرته بحياكة الجروح الناتجة عن الولادة القيصرية.
سحب “سيف” الأدوات وقام بتعقيمها قبل أن يناولها ليوسف الذي كشف عن كتفها الأيمن فصدم حينما وجد قطع من الزجاج ينغرس داخل لحمها، سحب عنها الشظايا بالملقاط الحاد، وقام بحياكة الجروح الغائرة بكتفيها لحين تنتهي ليلى مما تفعله.
******
طلب علي من عمران أن يوصل الفتيات للمنزل، فذهبت فاطمة وزينب ومايسان برفقته، حتى صبا أمرها جمال بالصعود معهن ليصلها عمران بالطريق، فأوصلهن وعاد فوجد أن الأمور كما هي، مازالت “آديرا” بالداخل و”أيوب” يجلس بالخارج شاردًا بما سيحدث الآن، ولجواره جمال وعلي الذي يدخل من وقتًا للأخر ليتابع الحالة ويطمنه بأنها مستقرة إلى الآن.
إتجه لأقرب مقعد يلقي ثقل جسده عليه، ويراقبهم بصمتٍ بالغ، انسحب “علي” وإتجه ليجاوره بجلسته وقال بهدوءٍ يلومه:
_مكنش ينفع اللي عملته ده يا عمران… أيوب في حالة متسمحلوش إنك تتكلم معاه بالشكل ده.
خطف نظرة سريعة لأيوب الذي لا يكف لسانه عن الدعوات وقراءة القرآن الكريم، ومن ثم استدار لأخيه:
_طيب قولي يا علي كنت هعمل أيه وأنا شايفه كده! أنا بحاول أبعده عنها بكافة السبل وأخرهم شغله معايا وتيجي وهي بتموت ورافضة بردو تحل عنه!
زوى حاجبيه بدهشة انتقلت لسؤاله:
_على حد علمي إن أقرب أصدقائك هما يوسف وجمال فغريب إني أشوفك مهتم جدًا بشخص لسه شايفه ومتعرف عليه من كام يوم!
ارتخت معالمه المشدودة تدريجيًا وردد وعينيه لا تفارق وجه أيوب البشوش:
_أنا نفسي معرفش أيه اللي علقني بيه بالشكل ده.. أيوب تحسه شخص نضيف أوي موجود في مستنقع مينفعش يكون موجود فيه.. طيب زيادة عن اللزوم ومسالم بالدرجة اللي مخلياني عايز أحميه من الدنيا كلها كأنه ابني!!!
وبتيهةٍ حائرة سأله:
_فهمت حاجة؟
ابتسم “علي” إليه ومسح على كتفه بحنان يصل بنبرته الرخيمة الحنونة:
_اللي فهمته إنك اتغيرت يا عمران… والطيبة دي إنعكاس لقلبك الصافي.. كل مرة بتفاجئني بيك وبتخليني فخور بيك.
انتقلت ابتسامته لعمران الذي تعلق به بحبٍ، وهمس له:
_علي أنا جنبك بحس إني طفل صغير مستني من أبوه يطمنه على كل تصرف بيعمله وبيخاف يقوله إنه غلط.. أنا بدعي ربنا دايمًا في كل صلاة ليا أنك تكون جنبي دايمًا.. متضايقش لو قولتلك إني عمري ما حسيت بإحساس إني يكونلي أب بس لما بتكون جنبي بحس إنك أبويا.
زاد من ضمه بقوةٍ ورفع رأسه يطبع قبلة على جبينه هامسًا له بصوتٍ منخفض عن الجميع مثلما يتحدث:
_أنا جنبك وعمري ما هبعد يا عُمران… حتى لو مكنش فرق السن بينا كبير أنا راضي أكونلك بالمكانة اللي تحبني أكون فيها… ولو ربنا اداني ابن فإنت ابني البكري وهو هيكون التاني من بعدك.
أدمعت رماديته تأثرًا واحتبسها داخل ذراع علي الذي شعر بدمعاته، فبقى ساكنًا لا يحركه لحين أن يعود لطبيعته، هو يعلم كم يعلم أقرب أصدقائه بأنه يكاد يقتل على أن يلمح أحدًا دموعه أو يشعر بضعفه.
مازحهما جمال الذي اقترب يردد:
_ده وقته! البنت بتصارع الموت وأيوب هيحصلها وإنتوا قاعدين تحبوا في بعض!
ابتعد عُمران عن أخيه حينما طرد كل لمعة دامعة بعينيه، وسأل جمال باهتمامٍ:
_محدش خرج؟
هز رأسه نافيًا، فنهض عمران يتجه لأيوب وجلس جواره بصمتٍ جعل الأخير يرفع عينيه تجاهه ثم عاد يتطلع للأرض مجددًا، ومازال منحني بجسده للأسفل قليلًا.
انحنى عمران ليماثله بجلسته وتنحنح بخشونة:
_إنت زعلان مني!
نفى ذلك بهزته، وفرك أصابعه معًا بتوترٍ، فضم عمران يديه بكفه وهو يمنحه الأمان الذي افتقده:
_هتبقى كويسة وده بتمناه عشان وعدك الغبي مش عشانها.
وتمتم بسخطٍ وهو يظن صوته غير مسموع للأخر:
_لو عليا عايز أدخل أديها حقنه هوا عشان تخلص وتخلصنا!
رفع “أيوب” عينيه إليه بصدمة من سماع حديثه المباشر، فرفع كتفيه مداعيًا برائته:
_هعمل أيه مش قادر أحبها وهي مصدر خطر عليك!
تمردت ضحكة منه رغم لمعة عينيه الباكية، فهزه “عمران” بمزحٍ:
_أيوه كده اضحك اللي يشوفك وإنت قاعد القعدة دي يقول مراتك بتولد جوه!
وتابع بوقاحته المعتادة:
_يا راجل استتضف حتى لو واحدة خواجيه احنا راضين وهنراضي الشيخ مهران ونخليه يجوزهالك لكن يهـودية يا أيوب! يهـودية يا جدع!!!!!
تمادت ضحكاته بصوتٍ مسموع جعل “جمال” و”علي” يبتسمان بخفة على “عمران” الذي يحاول ازاحة كل قلقٍ يملئ “أيوب”.
رن هاتف” علي” فرفعه بدهشة من رؤية إسم “عمر الرشيدي” ، فاستمع لصوته يهتف:
_دكتور علي أنا تحت قدام العمارة انتوا في الدور الكام؟
انتفض بوقفته يتجه للمصعد وهو يتحدث بقلقٍ:
_أيه اللي جابك يا عمر إنت تعبان ومش قادر تتحرك!
توقف المصعد واندفع للخارج فأخفض هاتفه وأجابه حينما وقف أمامه:
_مقدرتش بصراحة أسيب أيوب في ظرف زي ده.. الولد ده غالي عليا بشكل غريب.
ضحك علي وأجابه ساخرًا:
_حتى إنت!!
سأله بدهشة:
_حتى أنا أيه مش فاهم!
سانده للمصعد وهو يقول بابتسامة جذابة:
_أصله طلع غالي عندنا كلنا وأولنا عمران اللي فجأني باللي قاله وعمله!
هز رأسه بتفهمٍ وقال يبدي وجهة نظره:
_عمران كلامه صح.. إنت عارف لو البنت دي جرالها حاجة والموضوع إتعرف أيه اللي هيحصل؟ القضية دي هتقلب الدنيا وهتحطنا في وضع سياسي خطير واثبت بقى إنه بريء!
توقف المصعد فعاونه علي على الخروج، فما أن رآه جمال حتى اندفع إليه قائلًا بدهشة:
_سيادة الرائد!! جيت ليه؟
بحثت عينيه عن أيوب فما أن اهتدت عليه جالسًا جوار عمران حتى عاد يطالع جمال قائلًا:
_قولت يمكن تحتاجوا حاجة… كمان عندي قلق إن عمها يحاول يتخلص من أيوب أو يمكن يكون مراقبها أساسًا… لازم نفكر هنعمل أيه عشان نحميه منه.
هداهم لنقطة هامة للغاية، الخطر يحوم الآن حول أيوب كأشباح الليل الجامحة، تبادلوا الحديث معًا وكلا منهم يطرح نظريته حول ما سيفعلونه إلى أن تسلل صوت “آدهم” العميق لأيوب الذي نهض عن مقعده يتجه لمكان وقوفهم وهو يردد بفرحة غريبة:
_آدهم!
استدار إليه فتفاجئ به يهرول إليه، ضمه أيوب بقوةٍ جعلته يكبت تأوهاته من شدة احتكاكه باصابة كتفه ومع ذلك كان سعيدًا به، أحاطه بحبٍ وهو يخبره بصوت ذكوري حاد:
_اطمن هتبقى كويسة.
ابتعد عنه أيوب يطالعه بنظرة مندهشة تتسع رويدًا رويدًا والأخر يراقب حالته تلك بقلقٍ، انسحب أيوب واتحه يجلس على الأريكة المعدنية بشرودٍ جعل قلق آدهم يزداد أضعافًا، فاستغل انشغال عمران وعلي وجمال بالحديث عن عم الفتاة الذي سيحوم حول أيوب وإتجه إليه يجاوره.
رفع عينيه الدامعة إليه فوجده يسأله بلهفةٍ:
_مالك؟!
ابتسم ببلاهة وقال:
_كنت مفتقد أبويا وبفكر فيه وبتخيله لو جنبي في موقف زي ده أكيد كان هيهون عليا كتير، وفجأة سمعت صوتك وشوفتك قدامي، معرفش ليه لما ضميتك شميت ريحته فيك!!
وتابع بحيرة دمجها بتوترٍ:
_آدهم إنت غريب لأ..لأ.. قريب مني أوي بشكل مخليني مرتبك وبسأل نفسي ليه لما بشوفك بحس إني مرتاح ومطمن!
بالرغم من أنه يشعر بالغرابة مثلما يشعر هو الا أنه مازحه ليخفف من وطأة الاجواء:
_أيوه يعني أنا غريب ولا قريب حيرتني معاك؟!
ضحك وهو يشير بكتفيه:
_صدقني مش عارف بس إنت بمكانة غريبة مش زي سيف صديقي المقرب ولا زي عمران اللي لسه متعرف عليه وحبيته واحترمته جدًا… إنت تركيبة غريبة موردتش عليا قبل كده!
منحه ابتسامة جذابة وقال:
_مش مهم المكانة اللي أكون فيها المهم اني جنبك.
على ذكر إنه لجواره ظلل له بأنه قد أتى بالفعل، فقال بضيقٍ:
_إنت جيت ليه وإنت تعبان؟
اتسعت ابتسامته وأجابه:
_هتصدقني لو قولتلك إنك بنفس التركيبة الغريبة اللي مخلياني موجود جنبك النهاردة.
أزاح “أيوب” دمعة تهدلت عن عينيه وابتسامته البشوشة تتسع بينما عينيه تمر على الوجوه بداية من آدهم نهاية بعمران وعلي وجمال، يشعر بأن الله يحبه كثيرًا حينما منحه تلك الصحبة وعلى رأسهم يوسف وسيف المستمران بالحرب بداخل غرفة الجراحة للحفاظ على وعده.
مرت ساعة أخرى وخرج سيف يبحث عنه بلهفة، فركض إليه يخبره:
_متقلقش والله العظيم حالتها استقرت وشوية وخارجة… اطمن مش هيحصل حاجة.
يعلم جيدًا بأن صديقه وعده قد يعذبه طيلة حياته لذا كان الوحيد من بينهما الذي يتفهم حالته وقد التمس أيوب ذلك، فجلس لجواره يراقب باب غرفة العمليات بانتظار خروجها.
*******
داخل غرفة الجراحه.
ارتخى جسدها على أقرب مقعد، تشعر وكأنها كانت في سباقٍ عنيفٍ، لم تكن جراحتها الأولى ولكن وجودها هنا بمكانٍ حديث لا تعلم أماكن أبسط الأشياء التي تحتاجها لاجراء جراحة صعبة مثل التي اجرتها جعلتها تختبر شعورًا مهدد بالفشل مقبض.
رفعت رأسها لزوجها الذي جذب أحد المناديل الورقية يزيح عرقه بعد فرط مجهوده لانقاذها، فجلس قبالتها يلتقط أنفاسه بصعوبة، ليجدها تمنحه نظرة شرسة نهايتها صراخها المتعصب وهي تراقب يدها الملطخة بالدماء:
_أنا بكرهك إنت وأصحابك يا يوسف… حقيقي بكرهك.
ضحك واتجه بمقعده إليها، فجذب المناديل يزيح عرقها بحنان وهمس لها:
_ عارف إني بضغط عليكي عشان كده راضي بكرهك وبكل غضبك اللي مالي عيونك الجميلة دي.
فشلت بمنع ظهور ارتخاء معالمها وراحتها في قربه، فطبع قبلة على جبينها وبهمسه المغري قال:
_طب بذمتك وقفتنا مع بعض مكنتش مميزة! مطلعناش ثنائي مميز في الحياة العملية بس لأ احنا ننفع نكون فريق مع بعض أنتي تفتحي وأنا أخيط!
انفلتت ضحكاتها فضمها إليه ومازالت تبعد يدها عنه حتى لا يتلوث ملابس الجراحة الذي يرتديها، وما زادها فرحة حينما ابعدها يوسف عنه يتعمق بمقلتيها:
_إنتِ دكتورة شاطرة وأنا بتباهى بيكِ يا ليلى.. بالرغم من التوتر اللي كنتي فيه الا إنك اتعاملتي مع الحالة ببراعة حقيقي أنا فخور بيكِ يا حبيبة قلبي.
انزوت باحضانه بفرحةٍ كانت تود أن تستغل حفلة اليوم باخباره ما أخفته عنه بعد تأكدها صباح هذا اليوم ولكن ما حدث حطم كل ترتيباتها، فاستغلت حديثه المعسول وقالت بدلال:
_يوسف في حاجة عايزة أقولك عليها.
أغلق عينيه ومازال يضمها إليه بشغفٍ:
_سامعك يا روحي… اتكلمي.
لعقت شفتيها بارتباكٍ يجعلها تشعر وكأنها مضت ثلاثة أيام دون قطرة ماء واحدة ورددت:
_آآ… أنا….. آ….
رفرف باهدابه بذهول لارتباكها الملحوظ، فرفع ذقنها إليه يسألها بقلق:
_انتي أيه يا ليلى اتكلمي!
هربت كلماتها عنها، ولم تجد سوى أن تخدعه عساها تحصل على وقتٍ أخر مناسبًا لسماعه خبرًا كذلك:
_أنا بحبك.
ابتسم لها وضمها إليه يدفن وجهها بعنقه:
_وأنا بعشقك لدرجة مخلياني عايز أخرج أطرد الأوباش دول بره بالحالة اللي نايمة دي.
واستدار بوجهه لسرير الجراحة الذي تعتليه آديرا فهمس لها ضاحكًا:
_تفتكري هي سامعة كل اللي بنعمله ده! المفروض إنها هتفوق من البنج على أي لحظة.
ضحكت ومازال رأسها مسنود على صدره:
_مش بتقول إنها مبتفهمش عربي يعني إحنا في أمان يا جو!
_وطب بالنسبة ليا هتعملوا معايا أيه ما أنا بفهم عربي!
قالها سيف وهو يراقبهما بتسليةٍ ومكر، دفعه ليلى مقعد يوسف للخلف بقوة فاستجابت عجلات المقعد لدفعتها، فاصطدم بالطاولة وهوى أرضًا بمقعده بينما هرولت الاخيرة للخارج وهي تردد على استحياء:
_نادي حد ينقلها معاك الأوضة.. وأنا شوية وهدخلها.
وتركتهما وهربت للمرحاض المجاور لغرفة الجراحة، فاتجه سيف ينحني لأخيه الذي يمسك ظهره بألمٍ وقال بتسلية:
_محتاج مساعدة؟
كز على أسنانه بغيظٍ فدفع المقعد إليه فانحنى سيف يفرك ساقه بألمٍ وصوت ضحكاته لا تتوقف، ليردد مازحًا:
_طيب على الأقل مش قدام الحالة يا دكتور.. لو فاقت من البنج وقفشتكم متلبسين في الوضع الرومانسي ده هيكون أي وضعها، راعوا شعور المرضى!!
انتصب يوسف بوقفته ونزع عنه ملابسه ثم جذب قميصه يرتديه وهو يصيح بانفعالٍ:
_اطلع بره يالا.
رد عليه وهو يتجه للخارج:
_كده كده طالع… بس راجع تاني فمتستغلش الوضع ها؟
كاد بأن يدفعه بالسلة المجاورة له فركض الاخير مسرعًا وعاد بعد قليل بأيوب وعمران، تعاونوا معًا على رفع الملاءة دون أن يمسها أحدًا أو يحملها، كان أيوب مضطرًا أسفًا بحملها للمشفى ولكنه الآن ليس مضطرًا لذلك لذا اقتراح جمال بحمل مفرش السرير الطبي كان مرحب به.
تحرك السرير المتحرك للغرفة ومن ثم رفعوها للفراش، بينما قامت ليلى بدث المحاليل الطبية بوريدها فقال سيف وهو يتأملها:
_بتفوق أهي!
هزت ليلى رأسها إليه وانحنت إليها تتفحصها بعناية، بينما جلس آدهم وعمران وجمال على الآريكة الموضوعة بنهاية الغرفة، ولجوارهم جلس علي وجواره سيف ويوسف وأيوب يترقبون لحظة افاقتها وسماع ما حدث معها.
فتحت “آديرا” عينيها تردد بتعبٍ شديد:
_أين أنا؟
أجابتها ليلى بابتسامة تجاهد لرسمها:
_إنتي بأمانٍ لا تقلقي.
هزت رأسها بإرهاقٍ وراحت تتساءل بقلق:
_أيوب… أين هو؟
نهض أيوب عن مقعده واقترب لمسافة مناسبة قائلًا:
_أنا هنا لجوارك.
رفعت رأسها إليه وحاولت الاعتدال بمجلسها فسقطت على الفراش تبكي من قسوة الألم الذي اجتاح بطنها وكتفيها، ساعدتها ليلى سريعًا على الاسترخاء وهي تأمرها بضيق:
_استرخي من فضلك لم يمضي على جراحتك سوى دقائق.
تجاهلتها آديرا وصوبت نظراتها لأيوب بانكسار اخترق صوتها الباكي بنيران قتلتها:
_لا أصدق أن من وددت قتله هو من قام بإنقاذي من الموت… بينما عمي الحبيب هو من تسبب لي بكل تلك الجروح.
واستطردت ودموعها تغرقان وجهها الأبيض:
_ليته تمكن من قتلي أهون من أن أعيش بتلك الحقيقة القاتلة.
وتطلعت لأيوب تشكو له ما يؤلمها بصراخ باكي:
_أيها الأرهابي لقد اعترف لي عمي بأنه من قام بقتل أخي.. لقد صدقت أنت لم تفعلها!
ردد عمران ساخطًا من بين الشباب بالخلف:
_لسه بتقوله ارهابي أقتلها وأقتله ولا أعمل أيه؟!!!
ولكز يوسف بقوةٍ جعلته يضم بطنه بألم صارخًا به:
_كنت قتلتها جوه وخلصنا بتنقذها ليه بروح أمك!!
أشار له آدهم بجدية:
_عمران ده مش وقتك نهائي… لازم نتحرك من هنا عمها ده شكله مش هيسكت!
أتى حدث آدهم على محمله حينما تابعت آديرا:
_كان يظن بأنه سينجح بقتلي فكشف لي عن حقيقة ما ارتكبه بأخي، وأخبرني بأنه سيقتلك.. هربت منه وخشيت أن يفعلها فأتيت لأحذرك.. اهرب أيوب انجو بحياتك ما رأيته على يده وما فعله بي بالرغم من كوني ابنة أخيه يجعلني أرتعب مما سيفعله بك أنت.
تحرر أيوب أخيرًا عن صمته:
_فليفعل ما يشاء أنا لست جبانًا يهرب من ساحة المعركة… إن أراد حربي أهلًا به ولكني تلك المرة سأسقطه قتيلًا ولتهدأ ثورة ثأري مما فعله بمحمدًا وربما سيهدأ قلبي بعدها.
اتجه إليه آدهم يصيح بغضب:
_حرب أيه اللي عايز تدخلها يا أيوب، إنت أكيد جرى لعقلك حاجة كلنا بنحاول نخليك تستوعب حجم الكارثة اللي انت فيها وإنت مش قادر تفهم!
نهض علي هو الأخر يتدخل بحديثهما:
_آدهم معاه حق يا أيوب كفايا مشاكل لحد كده.. الناس دي خاينه وملهاش ذمة مش هيقف يواجهك ويديك فرصة تدافع عن نفسك أصلًا هتلاقي الخبطة جيالك من ورا ضهرك فالحل انك تبعد وتختفي لحد ما تخلص امتحاناتك وتنزل على مصر على طول.
خطف نظرة لفراشها فوجدها تحاول فهم أي من حديثهم وعاد يتطلع إليه متسائلًا:
_طيب وآديرا هسيبها ليه!! مهو أنا مش هبعد من هنا وأسيبه يأذيها ده مستحيل.
نهض عمران واتجه إليهم صارخًا بغلظة:
_قولتلكم شكله بيحبها محدش مصدقني!
برر سريعًا:
_لا يا عمران وأنت واثق من كلامي كويس، ومش هبرر تاني موقفي لإني شرحتلك ألف مرة.
نهض سيف وأسرع إليهم قائلًا بما يثق به:
_أيوب عنيد مش هيبعد من هنا غير وهو مطمن عليها أنا عارفه أكتر من نفسي علشان كده الحل الوحيد إنها تهرب معاه.
اتجه يوسف إليهم متسائلًا بسخرية:
_بأي حق هيكونوا مع بعض يا دكتور سيف؟
صمتوا جميعًا وعقل أيوب هو الذي يصرخ دون توقف حتى نطق لسانه بحروفٍ ثقيلة هوت لتصفعهم جميعًا:
_هتجوزها.
ران الصمت عليهم حتى أفاقهم صوت ضوضاء نتجت من ترنح جسد أيوب فوق حامل المحلول المعدني بعد أن ناوله عمران لكمة قوية جعلته يفقد اتزانه ومن ثم انقض عليه يعيد الكره وصراخه يجعل آديرا ترتعب بين يد ليلى التي تجاهد لتثبيت المحلول بيدها.
صاح بعنفوان قاتل:
_تتجوز مين يا روح أمك، أقسم بالله أنا عارف إن دي نهايتها من الأول بس صبرت عليك تحسبًا لانك ممكن تفوق بس كل مرة بكتشف انك أهطل وغبي.
سحبه جمال ويوسف، بينما عاون سيف أيوب على الوقوف ودون أي بوادر انطلق لعمران مستغلًا تقيد جمال ويوسف إليه وسدد له لكمة قوية اتبعها تهديده الصريح:
_لو لمسته تاني هدفنك هنا يا عمران.
دفعهما علي للخلف هادرًا باندفاع:
_ارجع لورا انت وهو واحترموا ان في مريضة حالتها حرجة..
استنجدت به ليلى قائلة:
_خدهم بره يا دكتور علي.. من فضلك كده مينفعش.
استعادوا ثباتهم الانفعالي حينما وجدوا ليلى تنحني بجسدها على آديرا لتحميها من أن يمسها أن احتكاك دون قصدًا، نظرات الذعر الساكنة داخل أعين الفتياتين أشعرتهم بالحرج جميعًا فانسحبوا للخارج واحدًا تلو الأخر، وأخرهم جمال الذي قال بأسف:
_أنا بعتذرلك عن اللي حصل ده يا دكتورة ليلى، إن شاء الله مش هتتكرر تاني.
وأغلق الباب من خلفه ليمنحهما مساحة آمنة، واتجه للردهة الواسعة يتخد أحد المقاعد مجلسًا وعينيه تجوب وجوههم جميعًا.
هدأت أنفاسهم والسكون يخيم على الأوجه، يتفرقون بالجلسات كلًا منهم يجلس بمفرده ولكن نظراتهم جميعًا تحيط أيوب الذي يتهرب بنظراته للأرض من معاتبة كل منهم، حتى استغرق نصف ساعة بالصمت فرفع بصره لهم يردد بخزي:
_أنا عارف إن قراري ده غلط بس قولولي أعمل أيه؟؟!
مش هقدر أهرب من هنا وأمن حياتي وأسيبها ورايا وعدي لأخوها هيقتلني كل يوم أفضالي أوجهه ويقتلني أهون من إني أسيبها! ولو اخدتها معايا مقدرش أختلي بيها ولا أكون معاها على طول مش هتحمل أشيل وزر زي ده!!
كان يوسف أول من تحرر من صمته:
_أيوب قرارك ده مش بس هيدمرك لوحدك لو وصل لعيلتك أبوك ممكن يجراله حاجة لإنك مش ابن شخص عادي ده شيخ أزهري يا أيوب المفروض أنك تكون قدوة مش تخذله بجوازك من واحدة يهود**!!
قال جمال بعد تفكيرًا:
_طب أيه رأيك نأمنلها مكان آمن بعيد عن عمها حتى لو هننزلها مصر؟
رد عليه أيوب قائلًا:
_وتفتكر مش هيعرف يوصلها! عمها ده صعب ووراه اللي بيسانده.
سحب علي نفسًا مطولًا وقال:
_طيب يا أيوب لو ده حلك الوحيد فلازم تعرف إن جوازك منها متوقف على شرط عشان يجوز إنك تتجوزها عارفه؟
أومئ برأسه ونهض فجأة يتجه لغرفتها يطرق على بابها مستأذنًا من ليلى بالخروج وترك باب الغرفة مفتوح ففعلت وانضمت إليهم مختارة البقاء جوار زوجها وسيف الذي نطق بعدم فهم:
_شرط أيه ده يا دكتور علي؟
أخفض علي عينيه أرضًا بحرجٍ من اجابته بوجود ليلى، بينما هدر عمران بشراسة:
_إن شاء الله تكون مقضياها عشان تكون جت من عند ربنا وخلصنا!
****”
بالداخل.
جلس أيوب على المقعد المقابل إليها بصمتٍ، فوجدها تتأمل وجهه وخاصة البقعة الزرقاء المحاطة جوار فمه وبحزنٍ قالت:
_ما الذي حدث بينك وبينهم؟
وتابعت بدموعها التي لم تجف عن خديها:
_بالطبع لم يتقبل أحدًا منهم مساعدتك لي.. أنا لا أستحق معاملتك تلك أيوب.
_هل إنتِ عذراء؟
باغتها بسؤاله الذي يحاول منذ دلوفه بالبوح به، فالتقط نفسًا مطولًا يرتاح عن شدة أعصابه بعدما نجح باخراجه كأنه يحارب لقولها.
رمشت عدة مرات بعدم استيعاب ورددت:
_ماذا؟
لا يود أن يكرر سؤاله مرة أخرى فقال بحزمٍ:
_أظنك سمعتي سؤالي والآن أجيبيني.
اكتسى وجهها حمرة من جراءة سؤاله، وقالت بصوتٍ متقطع:
_ولماذا قد تسئلني سؤالًا هكذا؟
شرح لها بإيجازٍ وتشعر هي بعدم راحته لبقائه معها:
_سنرحل من هنا لمكانٍ آمن وبعد اختباراتي سنسافر لمصر… مختصر حديثي سأحميكِ من عمك ولأتمكن من فعلها سأتزوج بكِ لإنني لا أختلي بالنساء،ولن أفعلها إن كنتِ غير عذراء والآن أخبريني اجابة لسؤالي ولننتهي من ذلك!
كانت تحاول استيعاب كلماته السريعة التي قذفها بوجهها، وبالرغم من صدمتها بما قال ولكنها على ثقة تامة بأنه الوحيد الذي سيتمكن من انقاذها من عمها وإلى من ستلجئ وهي لا تمتلك الا عمها الذي، هو بذاته يريد قتلها.
تنحنحت بخفوتٍ تام وهي تخبره بأسفٍ شديد التمسه هو:
_لم أجد الشخص المناسب لأفعلها… لذا اطمئن مازلت عذراء.
سحقًا تلك المرأة تخبره بحزنٍ أنها لم تتمكن من فعلها وكأنها تخبره بأنها تخجل لعدم تسلميها لشرفها الذي تصونها المرأة ألف مرة لزوجها، رمش باهدابه ويده تلتف من حول قبضته التي تحاول المرور لتحطيم وجهها المتجهم بحسرة لعدم فعلها كبيرة كذلك، ومع ذلك نظم أنفاسه الهادرة يحاول الاسترخاء ناظرًا لنقطة بعيدة، ظهورها إليه كل تلك الاحداث الغريبة نهاية بنقاء عفتها يلوح له بأنها إشارة من الله عز وجل ليكون هو طريقها الصائب، تلك الفتاة تحمل بذرة صالحة سيجاهد ليجعلها تنمو وإن فشل فلتذهب لطريقها وليذهب هو لطريقه ولكن على الأقل سيكون راضيًا لحمايتها.
خرج أيوب إليهم والجميع يترقب اشارته باهتمامٍ، فخاب أمل عُمران حينما هز رأسه بأنها تقية بعد، لذا زواجهما الآن أمرًا حتمي ومؤكد!
نهى يوسف أي حديث قد يجدد الخناق بينهم من جديد فقال:
_علي يكلم المحامي اللي كتب كتابه يجهز العقد على ما تجهز ورقك إنت وهي وبعد يومين نكتب كتابكم ونكون خلالها لقينالك شقة في مكان مناسب، تقضي التلات شهور دول بأي شكل وبعد ما تمتحن تنزل مصر بأقرب وقت.
واستطرد قائلًا:
_وجودكم هنا مالوش لزمة.. روحوا ارتاحوا وأنا ودكتورة ليلى هنفضل جنبها.
بمجرد ما انتهى من حديثه تفرقوا جميعًا للأسفل، كُلًا يذهب لسيارته، أما عمران فمنح أيوب نظرة أخيرة مردفًا بسخرية:
_يا فرحة أمك فيك يا ابن الشيخ مهران.
وارتدى نظارته وهو يشير له بصرامة كانت مخيفة:
_بكره الصبح تكون عند استاذ ممدوح وخد بالك من مواعيدك معاه لاني مش هتدخلك في شيء، ولا هسلكك منه تاني لانك متساهلش… ومن غير، سلام.
كبت أيوب ضحكاته وهو يتابعه يغادر باستياءٍ، فصعد لسيارة سيف جوار آدهم بالخلف بينما صعد عمران لسيارته ليتبع علي لمنزله، حتى جمال تحرك هو الاخير لمنزله.
********
جاب غرفته ذهابًا وإيابًا والغضب يبتلعه بجحيمه الناري، ينتهي بخطواته متفحصًا شرفة المنزل عساه يهتدي برؤية سيارته، ضرب كف بالأخر وهو يصيح بنزقٍ:
_بقى أنا تعمل معايا كده يا عمران وربي لأوريك يابن فريدة!
وبغرفتها.
تجوبها بقلقٍ فمنذ عودتها أوقفها “نعمان” على الدرج يهيم بعصبية بالغة:
_جوزك فين؟؟
ارتعبت من معالمه المخيفة، ولكنها اشتدت قواها بوجود فاطمة وزينب لجوارها وقالت:
_لسه مرجعش من بره.
بتهكمٍ سألها:
_أمال انتي راجعه مع مين؟
ابتلعت ريقها بارتباكٍ وقالت:
_وصلنا ورجع تاني.
توعد له بنظرة حانقة وصاح بنفور:
_ماشي يا بنت عثمان صبرك عليا انتي والمحروس جوزك.. لو كان ليكي دخل باللي بيحصل هوريكِ النجوم في عز الظهر!
********
صعد عمران لغرفته وحينما كان علي بطريقه لجناحه تفاجئ بشمس تقف أمام غرفتها تشير له بالاقتراب، رفع يده عن مقبض بابه واتجه إليها متسائلًا باهتمامٍ:
_أيه اللي مسهرلك للوقت ده يا شمس؟
بدى ارتباكها ملموح له، وخاصة حينما رددت بتريثٍ:
_ممكن نتكلم جوه.
هز رأسه بخفة ولحق بها لغرفتها، فجلس على الفراش جوارها ينتظر أن تتحدث ولكنها لم تستحوذ الا على اهتمامه بربكة فرك أصابع يديها، وانجراف نظراتها بطريقةٍ تجعله كطبيب ماهرًا يلمح توترها الشديد، فرفع يده يحاوط كتفها بحنان يمنحها الأمان:
_مالك يا شمس مرتبكة ومترددة ليه؟ قولي اللي عايزة تقوليه أنا من أمته قسيت عليكي عشان تخافي مني بالشكل ده!!
ازدردت حلقها الجاف تخبره بحزنٍ:
_متعودتش أخبي عنك حاجة وبما إن عمران عرف يبقى من حقك تعرف إنت كمان يا علي.
زوى حاجبيه باستغراب:
_أعرف أيه؟
رفعت عينيها له، وأفاضت بارتباكٍ:
_بصراحة أنا روحت مع مامي وأنكل أحمد شوفت آدهم.
كان مندهشًا بسماعه ذلك، ولكنه عقل الأمر بأنه من الواجب زيارة أسرته إليه أقل واجب تقديرًا لانقاذ حياة ابنتهما، ولكن الجدير بالسؤال هل تعلم والدته بعلاقة شمس وآدهم وآن كانت تعلم بالأمر لما سمحت لها بالذهاب؟
بقائه صامتًا دون حديث جعلها تبرر له:
_أنا عارفة إني مكنش ينفع أروح هناك بس غصب عني يا علي كنت عايزة أطمن عليه وأشوفه بس هو اتضايق جدًا وطلب مني مرحلوش تاني نهائي.. أنا خوفت تزعل مني فحبيت أعرفك.
ومدت يدها على يده المستند بها على الفراش تسأله بخوف:
_متزعلش مني يا علي.
فك تكشيرة وجهه لابتسامة مشرقة، فسحبها لأحضانه برفقٍ ويده تفرك خصلاتها برقةٍ وقال:
_لو زعلت من الدنيا كلها معرفش أزعل منك يا شمس، حتى لو اتضايقت في الأول فمفيش مكان للزعل وإنتي بتوعديني بنفسك إنها مش هتتكرر.. أنا وأخوكِ كل اللي يهمنا سعادتك.. مش غاية إننا نمنع عنك حاجة الا لما تكون في مصلحتك.. حتى لو آدهم أو عمر اللي محدش عاد عارف يناديله بأيه ده شاريكي فلازم احنا كمان نبينله أد أيه انتي غالية.
ونهض ينحني ليجذب ساقيها للفراش ومن فوقها الغطاء:
_نامي يا حبيبتي ومتفكريش في حاجة تزعلك أبدًا… انا هنا جنبك وعمران رغم وقاحته هتلاقيه بيحاول يسعدك… كل واحد مننا له طريقته بس النهاية بتصب في مصلحتك يا شمس.
ارتسمت ابتسامة واسعة على شفتيها، وتدللت عليه قائلة:
_طيب خليك جنبي لحد ما أنام.
نزع عنه جاكيته وأشمر عن ساعديه وهو يتجه للناحية الاخرى:
_بس كده.. عنيا هكونلك إستبن لحد ما سي آدهم يشرف هو مكاني.
خبأت وجهها بصدره بخجلٍ فتعالت ضحكاته وهو يضمها متقبلًا تهربها دون أن يحرجها.
********
ما أن حرر باب غرفته حتى أسرعت إليه بلهفة:
_عمران الحمدلله إنك رجعت.
منحها ابتسامة جذابة ونظرة أحاطتها لتشعرها بربكة جعلت قلبها يخشى أن يقترب فيكاد ينصهر طوعًا له، غمز لها برماديته متواقحًا:
_حبيب قلب جوزه مشتاقله وقاعد يستناه بشوق ولهفة يا ناس!
شهقت صدمة من جراءة كلماته واحتدت نبرتها:
_أيه اللي بتقوله ده.. بقولك خالك نعمان قالب عليك الدنيا وشكله متعصب جدًا انت عملت أيه يا عمران؟
حاوط خصرها يضمها إليه قائلًا بوقاحة بعاطفة تسري إليها:
_خف عليا أنا مش حملك يا بطل… لما تلاقيني راجع متهلش عليا مرة واحدة… خدي وقت ألحق أتفاجئ فيه.
كزت على أسنانها بعصبية كادت بتهشيمها، ضربته على صدره بعنفٍ:
_سبني يا عمران أنا بقولك أيه وانت بتقول أيه.. بقولك نعمان ناويلك على شر.
فك حصار يده عنها واتجه لخزانته ينزع جاكيته وقميصه دون مبالاة بها، أسرعت خلفه تتساءل بخوف:
_إنت عملت أيه؟
دندن بأغانيه الأجنبية متجاهلها تمامًا، فجذبت منه التيشرت تلقيه أرضًا بحنقٍ:
_عمران بكلمك… رد عليا!
دنى منها حتى سقطت بخزانته، فانحنى يستند على حوائطه يمنحها نظرة تخاطب مقلتيها بكل غرام امتلكه لها، اخفض عينه يتأمل التيشرت الملقي أرضًا ثم عاد يتأملها مرددًا بمكرٍ:
_شكلك مبقتيش تتحرجي مني زي الأول ومبقاش عندك مشكلة أنام من غير تيشرت وبما انك رضيتي عني فأنا قلبي وروحي وكلي راضي عنك يا بيبي.
وقدم لها يده فرفعت يدها ومازالت الصدمة تستحوذ على ملامحها، جذبها إليه بقوة جعلتها تراقبه بصدمة وكأنها فقدت النطق تمامًا، فابتسم بخبث:
_عايزة تقولي أيه طيب؟
رفعت كتفيها بحيرةٍ فتعالت ضحكاته وانحنى يحملها مرددًا ببراءة مخادعة:
_شكلك مرهقة يا بيبي تعالي ريحي في حضن جوزك حبيبك وفكك من خالك الملزق ده.
والقى نفسه وهي باحضانه على الفراش مسترسلًا بسخطٍ مضحك:
_هو بس تلاقي القفا اللي خده معلم عليه ومطير النوم من عينه فعايز أي خناقة يهون بيها عن نفسه ليجيله ذبحة صدرية وهو منكدش على حد النهاردة.
ولف جسده لها يسألها بابتسامة هادئة:
_قوليلي بقى وحشتك أد أيه؟
تعمق بعينيها وهو يجد ذاته يفقد كل قوة يسيطر بها على عاطفته، أصبح عاشقًا متيمًا لا يقوى على بعدها، عاشوا معًا بعالمهما فضمها لصدره يغلق عينيه باستسلامٍ للنوم وأخر ما رأته عينيه استرخائها واستسلامها للنوم على صدره.
حرك عُمران رأسه يمينًا ويسارًا بانزعاجٍ من خبطات تحيط بابه، وفجأة انفتح الباب على مصراعيه وولج ذاك الآرعن للداخل مستباح حرمة مكانه الخاص، هاتفًا بغضب بالغ:
_عمـــــــــران بقالي خمس ساعات مستنيك تشرف! انت ازاي تعمل اللي عملته ده فهمني!
تراه يتخيل وجوده،عساه حلمًا غليظًا فربما من كثرة حديث مايا عنه يقتحم الآن أحلامه، ولكن قربه منه وعينيه الشاخصة أوحت له بأنه بالفعل يقف قبالته.
جذب عمران الغطاء يخفي به جسد زوجته ونهض يقف قبالته بأعين من لهيبٍ وصوتٍ منفعلًا يكاد يقتل الأخير بمرقده:
_إنت اتجننــت ازاي تدخل عليا أوضتي بالشكل ده!!!! إنت الظاهر كده مبقاش ينفعك غير مستشفى المجانين تكمل فيها حياتك يا نعمان يا غرباوي!!
انتفضت مايا بمنامتها، فجحظت عينيها صدمة من وجود خالها بغرفتها الخاصة، شملت جسدها بالغطاء متشبثة به بصدمة وحرجًا عظيمًا استشفه زوجها فدفعه للخارج بقوةٍ وشراسة جعلت الاخير يكاد يسقط أرضًا فما أن خرج بها خارج الغرفة حتى تماسك على الطاولة من خلفه واستقام بوقفته يجابهه باستنكارٍ:
_إنت اللي شكلك اتجننت بتداري مراتك عني دي بنت اختي يعني بنتي!!
قبض على قبضته بعصبية ورفعها قبالته يصيح بصراخ كالرعد المزلزل:
_ولو أبوها عثمان نفسه مش هسمحله بكده… انت اتجاوزت كل حدودك يا نعمان وحسابك تقل أوي.
خرجت فريدة مسرعة واتباعها أحمد وعلي وشمس وجميع من بالمنزل، فتفاجئ علي بأخيه يقف قبالة خاله بالبنطال دون قميصه، فجذبه للخلف يحدثه بدهشة:
_في أيه يا عمران وأيه اللي موقفك بالشكل ده؟!
تساءلت فريدة بصدمة هي الاخرى:
_في أيه يا نعمان؟ عمران بتزعق لخالك كدليه؟
بينما ردد أحمد وهو يحاول تهدئة عمران:
_ما تتكلم يا ابني مالك في أيه وازاي تخرج كده من أوضتك!
تحركت نظراته النارية إليهم وردد بحدة:
_مهو أنا معرفش أني هصحى القى خالي المحترم فوق سريري وأنا مع مراتي!! ووقف دلوقتي يشرحلي انه عادي!! ده أنا أمي نفسها متقدرش تعملها عشان يجي هو ويتجرأ يعملها.
صدم الجميع وتحولت معالم وجه علي للغضب الشديد لتفهمه ما يمر به أخيه، فاستكمل عمران بغضبٍ لوالدته:
_لو أنا مش لاقي خصوصية في البيت اللي المفروض يكون بيتي يبقى ماليش قعاد فيه أنا مش عيل صغير عشان يتعامل معايا بالشكل ده انا راجل وقادر اشتري بدل البيت عشرة، هي كلمة واحدة يا أنا يا هو في البيت ده يا فريدة هانم!
تبلدت محلها تعجز عن الحديث، فناب عنها أحمد حينما صاح بالاخير بعصبية:
_انت ازاي تفتح عليه باب اوضته وتدخله لسريره يا نعمان أيه البجاحة دي مفيش احترام لخصوصياته!!
رد ببرود قاتل وكأنه لم يفعل شيئًا:
_أنا مش فاهم انتوا مكبرين الموضوع كدليه… دول عيال اخواتي متخيلين اني هبص لمراته اللي زي بنتي ازاي!
تخلى علي عن هدوئه وصاح منفعلًا:
_مالكش الحق تعمل كده يا خالي، حتى لو كانت بنتك في حاجة اسمها خصوصية.. تخبط مرة واتنين وألف ومليون لو مفتحش بابه يبقى مش جاهز يقابلك في الوقت الحالي.. في صبح نتكلم فيه وتقوله اللي انت عايزه القيامة مش هتقوم يعني!!
استدار لعلي يمنحه نظرة ساخطة وصاح بحدة:
_يعني لما اجي من مصر لهنا عشان مشروع مهم وأتفاجئ ان البيه رفض يوقع على العقود ورفض المشروع من أساسه بعد ما صرفت في اتفاقيته أكتر من ٧مليون جنيه أقابله ازاي بالاحضان ولا استنى عليه للصبح ازاي!!
دفع عمران علي وقابله وجهًا لوجه بشراسه فتاكة’
_رفضته عشان مشروع فاشل زيك بالظبط يا خال… مش مستعد أعرض نفسي لخساير بالملايين عشان دماغك ميالة لصاحبة المشروع اللي اخرها ليلتين في فندق مشبوه ده لو قدرت توصل للمرحلة دي أساسًا… عيش جو المراهقة والمقابلات دي بره الشغل.
صرخ الاخير باندفاع:
_اللي فيك هتجيبه فيا ولا أيه.. ما كلنا عارفين انك خباص وبتاع ستات نسيت اصلك ولا أيه؟
أبعد علي عمران ليواجه خاله بهدوء:
_عمران ارجع…. خالي من فضلك نقي ألفاظك وكلامك أخويا مش الشخص اللي بتتكلم عنه ده… عمران الغرباوي لا عمره كان بتاع ستات ولا خباص يا خالي.. عمران كان بيحب واحدة ورفضت الارتباط بيه وخلصنا من الحدوتة دي.
تجاهل دفاعهما وردد بعصبية:
_ميهمنيش انا اللي يهمني المشروع ده هنأخده يعني هنأخده.. يا اما بقى يتنازل عن نصييه في الشركة دي هو ومراته ويغور في داهية .
ضحك عمران بطريقة استفزته ودث يديه بجيوب بنطاله يطالعه بنظرة مستحقرة وقال:
_انت ليه مش عايز تفهم إنك معايا أفضل ألف مرة لما تواجهني… ارهنك انك لما نفض الشراكة دي هتواجه شركاتي وبعدها متبقاش تيجي تعيط لفريدة هانم وتقولها خلي ابنك يخف عليا ويرحمني فاحمد ربنا ان في شركة جمعنا في شراكة والا كنت نسفتك من زمان وإنت عارف كده كويس يا نعمان.
رفع كفه ليضرب خد عمران فسبقته يده ومنعته من أن تطوله هاتفًا بتحدي:
_قولتلك ألف مرة معتش العيل الصغير اللي تتشطر عليه ده أنا لو نفخت فيك هطيرك لسريرك اللي في الشقة اياها وسط الرقصات فاكرهم يا خال!
دفع أحمد نعمان للخلف وصاح بعصبية:
_هي حصلت انك ترفع ايدك عليه.. انت فاكؤ نفسك ايه يا أخي فوق بقى كرهت فيك الاولاد ومبقاش حد طيقك غير اختك ومعرفش على أيه؟
حاولت شمس وزينب تهدئة فريدة التي تلتقط أنفاسها بحدة، تحاول أن تبكي لتريح قلبها ولكن دموعها تأبي الهبوط، بينما تقف فاطمة على بعد منهم برعب جلي ومن خلف باب غرفة عمران كانت مايا تتابع ما يحدث ببكاء.
اسرع علي لوالدته يضمها إليه وهو يردد بخوف:
_اتنفسي يا حبيبتي خدي نفس عميق… متقلقيش مفيش حاجة.
وفرك صدرها بقلق ويعود لتعليماته:
_خدي نفس واطرديه بهدوء..
اتبعت ما يقول حتى انتظمت انفاسها، وتحررت عقدتها فتحركت برفقة علي تستند على معصمه حتى وصلت لاخيها، ترفع رأسها اليه ببطءٍ تواجهه فقال:
_تعالي يا هانم شوفي تربيتك الزبالة.. ابنك عايز يمد ايده عليا!
خرجت عن صمتها اخيرا حينما قالت بصوت مبحوح يسمع بالكاد:
_ابني متربي أحسن تربية يا نعمان.. هيتنازلك حاضر هو ومايا عن الشركة..
_بس يا ماما آ..
اوقفت فريدة عمران باشارة يدها وعادت تردد بقوة:
_هيتنازلولك وهتاخدها زي ما كنت بتحلم بس من اللحظة دي انسى انك ليك اخت.. أنا كنت باقية عليك لانك اخويا الوحيد بس توصل لانك تعمل كل ده فأنا آسفة ولادي عندي أهم من الكون كله.
وأشارت لعمران قائلة:
_سندني لاوضتي يا عمران.
تعمدت ابعاده بذكاء عن ساحة المعركة، فامسك يدها الاخرى قبالة علي وقبل ان يغادر بها قال:
_من اللحظة دي انت في مواجهتي يا نعمان!
بينما رددت فريدة بنظرة شاخصة:
_احنا هنعزل من هنا لبيتنا الجديد من بكره تقدر تشوفلك أي فندق..
وتركوه يحتقن من الغضب وغادر الجميع من أمامه، لم تتبقى سوى فاطمة التي راقبته بنظرة مرتعبة وعادت لغرفتها تجلس على الفراش تضم جسدها بيدها وتهتز دون توقف… يدها تمتد لاذنيها تكبت تلك الاصوات المتداخلة، لتسقط بنوبة أشد حدة من زي قبل، ولسانها لا يكف عن ترديد:
_علي… علي!!!
يتبع…
تبلد قاتل يزحف لجسدها فأفقدها القدرة على الحركة تدريجيًا، تمدد جسد “فاطمة” على الفراش تاركة تلك الغمامة القاتلة تستحوذ على جسدها بكل ما تمتلكه من قوةٍ، أغلقت عينيها الباكية باستسلامٍ رغم معافرتها لعدم اغلاقها، ولسانها مازال يخفق دون توقف:
_علي… علي تعالى متسبنيش ليهم يا علي!
فقدت سيطرتها على جسدها بشكلٍ نهائيًا لتصبح كالمقيدة تشاهد ما يحدث برضوخٍ تام، ها هم الثلاثة وجوه يلتفون من حولها ، مثلما التف “عمران” و”علي”و “نعمان” بالخارج، يتشاجرون بعنفٍ بالغ على من يكون أول من يحصل على تلك النقية التي لم يمسها رجلًا قط، تعود لترى نفسها مقيدة بعجزٍ على سريرٍ حديدي وعينيها المحتقنة من البكاء تتوزع بينهم بتوسلٍ أن يرحموا ضعفها وبرائتها.
الشجار العنيف فقط هو ما تستمعه، مقايضات بينهم وتفاوضات ليحظو احدهم بالمرة الاولى، وبعد نصف ساعة من الجدال والاتفاقات على زهاق روحًا طاهرة عفيفة، اعتدى أولهم عليها اعتداء وحشي انتهكت فيه برائتها وذُبحت فيها لمرتها الأولى.
أغلقت عينيها باستسلام لمصيرها وأخر ما تحتفظ به وجه كل شخصٍ منهم، حتى اجتمع ثلاثتهم من حولها يتطلعون لها بانتصار لما أقترفوه بتلك المسكينة..
هزت رأسها المتعرق رافضة تواجدها بغرفة الذكريات القاتلة، تختبئ بالخلف وهي تشاهدوهم يعتدون على جسدها المقيد بالسرير بعدما انفصلت روحها عنه، يدها تكبت شهقاتها ظنًا من أنهم سيستمعون لها وينتبهون لوجودها فتذبح روحها هي الاخرى مثلما ذُبح جسدها.
انتفاضة فالاخرى وجسدها يرتعش كالغريق، تشعر وكأنها ستفارق الحياة في أي لحظة، فسقطت أرضًا تنزوي بأحدى الأركان، تضم ساقيها لصدرها وتبكي دون توقف إلى أن أتاها صوتًا من بعيدٍ يناديها بقوةٍ:
_فطيمـــــــة.
نغز قلبها بنغزة أعلمتها بأنها تعرف صاحب هذا الصوت قلبًا وقالبًا، فنهضت عن الأرض تحاول تتبع الصوت وهي تردد ببكاءٍ:
_علــي…. علـي ساعدني!
يد حنونة تزيح قطرات عرقها وصوتًا رجوليًا دافيء يخبرها:
_أنا جنبك وايدي في ايدك يا فطيمة… فوقي اللي إنتي شايفاه ده حلم مش حقيقة.. افصلي نفسك عنه وافتحي عيونك!
انقطعت انفاسها المحتبسة بصدرها، وتلوى جسدها الذي يحاول الحصول على الخلاص، فارتعب علي ورفعها إليه جالسًا من خلفها يحيطها بكلتا يديه إليه وهو يعود لحديثه:
_حبيبتي أنا جنبك مستحيل حد يأذيكِ وأنا حي.. افتحي عيونك هتلاقيني جنبك وحواليكي ومش هتلاقي وجود لأي حد غيري.
وتابع حينما لم تهدأ اضطراب أنفاسها:
_ثقي فيا زي ما اتعودتي.. أنتِ هنا معايا وفي حضني اللي مفيش مخلوق على وجه الأرض يقدر يطولك فيه… افتحي عينك يا فطيمة.
البرودة تتسلل لأطرافها، تزداد حالتها سوءًا بدرجة جعلته يفطن بأنها أبشع النوبات التي تتعرض لها، شعوره بالعجز جعله يضم وجهها بيديه وهو يترجاها بتوسلٍ حزين:
_فوقي يا فاطمة عشان خاطري… أنا آسف اني سبتك لوحدك كل ده مش هعملها تاني صدقيني!
ومرر يده بين خصلات شعرها وهو يقربها لصدره عسى رائحته المحببة لها تعيدها إليه، ولكنها مازالت متيبسة بين يديه تردد ببكاء:
_متسبنيش ليهم يا علي.. متسبنيش!
جذبها لأحضانه يضمها بكل ما فيه هامسًا بصوتٍ اخنقته دموعه العزيزة:
_على عيني اللي حصلك يا قلب علي… يا ريت الزمن يوقف بينا ويرجع من تاني أقسملك ما كنت هخلي مخلوق يمسك بشر.. كنت هحارب الكون كله عشانك يا فاطمة من أول خطيبك الحقير لحد الكلاب اللي اتسببولك في اللي انتي فيه ده.
واستطرد بتوسل وهو يقبل جبينها بعشقٍ:
_ارجعي لوعيك عشان خاطري… يهون عليكي وجع قلبي يا فطيمة؟ … افتحي عيونك!!
ومدد ساقيه ليتمكن من السيطرة على جسدها الماسد بين يديه، فأدارها إليه وضم وجهها بيديه يهزه بعنفٍ وصرامة:
_اسمعيني انتي هتفتحي عيونك حالًا ومش هتخليني ألجئ للمهدئ تاني… هتقومي وهتلاقيني هنا جنبك وهتتأكدي إن اللي في دماغك وهم مالوش مكان غير في مخيلاتك.
وسيطر على دموعه بقوةٍ وهو يهزها بنبرة آمرة:
_افتحي عينك يا فاطمة حالًا!
رفرفت بأهدابها على مهلٍ حتى تحررت من ظلام مقلتيها، فكان وجهه أول من قابلها، سحبت “فاطمة” عينيها للغرفة وهي تنسحب للخلف بفزعٍ، تراقب كل زواية لتتأكد بأنهم ليسوا هنا بالفعل.
استكانت حدقتيها بلقاء رمادية عينيه الدامعة، ففرق ذراعيه فاستجابت له وانزوت فيه وإليه!
شملها “علي” بين أحضانه وأعصابه مازالت ترتعش نافرة عن جسده لما خاضه ليجعلها تستعيد وعيها، فهتفت بصوت مبحوح:
_علي أنا كنت خايفة متجيش وتسبني ليهم يا علي.
ربت على رأسها ومازال شاردًا بالفراغ، جسده منهك للغاية، يشعر وكأنه هو الذي سيفقد وعيه الآن.
افتقدت لصوته الغائب عنها منذ عودة وعيها فنادته بقلقٍ ورأسها مستكين على صدره بتعبٍ:
_علي!
طال غياب صوته الدافيء، لا يصل إليها سوى صوت أنفاسه العالية، ابتعدت عنه واعتدلت بجلستها تتطلع له بذهولٍ يزداد مع كل دمعة تراها تنهمر من عينيه الشاخصة بالفراغ!!
بكت فاطمة بصدمة وحركته بتأثرٍ:
_علي!!!!.
رمش بعينيه وتمعن بها فوجدها تراقبه بخوفٍ وقلق ينهشه بعتاب نظراتها المستكشفة لحزنه، بدى حائرًا بما يقتحم رأسه بتلك اللحظة، ولم يجد سوى المجازفة ترحب به،فدنى منها وعينيه لا تفارق خاصتها، يعوض خوفه بها وحينما وجد يدها تتعلق برقبته أحاطها بفيضٍ من شوقه الجارف.
أزاح اسدال صلاتها وعينيه لا تفارق عينيها،يحاول أن يستشف أول خطواته بالنيل من هاجس خوفها، ترك عاطفته تعبر لها عن حبه البريء الذي لا يطمع بها جسديًا، يدفن شهواته بكل ما يملكه من قوة صبر ليجعلها لا ترى الا نظرات عينيه الدافئة التي لا تفارق عينيها بالرغم من أنها الآن باتت بين ذراعيه كأي زوجة.
أراد أن يحطم الصورة التي تكونت بعقلها عن شكل العلاقة بين أي راجل وامرأة بعدما نجح هؤلاء الاوغاد بترك تلك الصورة تزدهر بعقلها، فلجئ “علي” لطريقته هو ليعاونها على رسم صورة أخرى تنافس ما تُركت لها بقوة تجعلها تتمزق ولا تعود لمخيلتها أبدًا.
كان يمارس أقسى مرحلة من انضباط النفس ومعشوقته التي تمناها بين ذراعيه، يحارب ويحارب ليجعلها لا تفارق عينيه الشغوفة بعشقها، يجعلها تعتاد على وجوده بحياتها بشكلٍ جديد يمهدها للقادم من مستحدثات بعلاقتهما، يعلم بأن الأمر ليس هين عليه ولكنه سيفعل أي شيء ليعاونها أن تمحو كل ذكرياتها وتبدأ معه هو من جديد.
خطفت فاطمة نظرة خاطفة لذاتها فجحظت عينيها صدمة وابتعدت عنه مرددة بخفوتٍ حرج:
_علي!!
دنى منها يوقفها عن التراجع، محيطًا وجهها بيديه يرفعه بقوة إليه، تقابلت عينيها معه من جديد وتحرر صوته المحتفظ ببحته المميزة:
_قولتهالك قبل كده اني مش فارق معايا أي شيء غير قلبك يا فطيمة… مش عايز غيره!
واقترب يستند بجبينه على جبينها هامسًا بعشق:
_ارمي كل حاجة ورا ضهرك ومتشوفيش غيري أنا… ركزي في تفاصيل حبنا وقصتنا اللي ابتدت من أول لقاء جمعنا في مصر.
وأغلق عينيه بقوةٍ يجابه انتفاضة قلبه من قربها إليه لهذا الحد:
_اللي فات مش بتاعنا يا فطيمة اللي جاي هو اللي ملكنا… أنا الحاضر ومستقبلك.. أنا كل ذكرى حلوة هتتحفر جواكِ للأبد.
وفتح رماديته يتفحص تأثير كلماته وقربه منها فوجدها تغلق عينيها بخجلٍ بعيدًا كل البعد عن النفور تمكن من تفسيره جيدًا، فناداها بلوعةٍ:
_فاطمة.
فتحت شمس عينيها تقابل سكنة عينيه الثابتة كسطوع القمر المحتل ليله المظلم بضيائه الباهي، وألماسته تنفلت على لسانه الناطق:
_بيقولوا إن كل طبيب نفسي بيحتاج كل فترة إنه يزور طبيب زميل ليه يسمعه وأنا مستكفي بعيونك هما طبيبي فبالله متحرمنيش من الراحة والسكينة اللي بحسها وأنا جواهم!
أدمعت عينيها تأثرًا بكلماته، فأجبرت لسانها على تحرر كلمة واحدة تشمل ردها على كل حرف خرج منه:
_بحبك يا علي.
سحب نفسًا مطولًا وعاد يستند على جبينها من جديدٍ، يخبرها:
_وده المهدئ لكل وجع جوايا.. ردديها في كل مرة تلاقيني فيها مهموم أقسملك هتلاقيني بتولد من جديد على ايديكِ يا فطيمة!
ابتعدت برأسها للخلف ففتح رماديته يراقبها باهتمامٍ، فوجدها تبتسم وهي تنخفض عنه لتضع رأسها على صدره باستحياءٍ.
اعتدل “علي” بمنامته ليمنحها نومة مريحة بعدما تسلل النوم إليها، ضمها إليه وهو يتنهد بوجعٍ يزيد من حدته كلما تذكر ما مر به برفقتها منذ قليل، كان على وشك خسارة كل تقدم أحرزه بحالتها مع تلك النوبة الشديدة التي لم يختبرها رفقتها من قبل، لا يعلم كيف تماسك ليعيدها من جديد، ولكنه ركز على ثقته وإيمانه بالله عز وجل وفي حبه الشديد المدفون داخل صدرها محتلًا قلبها، حركه وتركه يعاونه على استعادتها وها هو تعود له وهو يحرز هدفًا أخرًا حينما فتح معها باب أخرًا بعلاقتهما المعقدة، ومازال يأمل بأنها ستكون زوجة له بارادتها!
******
أغلق باب غرفته وتحرك للفراش غاضبًا من اتخاذ والدته قرارًا كهذا، لم يكن بالشخص الذي يرضخ لأحدٍ مهما فعل، تسلل له صوتًا خافتًا يناديه:
_عُمران.
استدار بجسده للخلف فوجدها تقف أمام الخزانة ترتدي كامل ثيابها حتى حجابها، تألم قلبه لرؤيتها تأخذ حذرها بما ترتديه حتى وهي بغرفتها، فأشار لها بالاقتراب منه.
جلست “مايسان” جواره فضمها إليه بقوةٍ:
_اقلعي اللبس ده واقعدي على راحتك مستحيل يكررها تاني يا مايا.
أومأت له بخفةٍ وبالفعل نزعت عنها الجلباب الأسود والحجاب فجذبها لتغفو جواره، التقطت نفسًا مطولًا وأخرجته على مهلٍ قائلة:
_عمران عشان خاطري نفذ الكلام اللي خالتو قالت عليه، خلينا تتفادى شره وأذاه ونعيش في سلام.. إنت مش محتاج للشركة دي في حاجة ما شاء الله شركاتك محققة نجاح ونص المشاريع اللي بتيجي على شركة العيلة بتيجي عشانك إنت.
جذب ذراعها يجذبها إليه يربت بعشق على ظهرها، قائلًا بنبرته الرخيمة:
_هعمل اللي يريحك يا مايا.. بس وربي لأدفعه تمن اللي عمله النهاردة ده وبالغالي أوي.
شددت من تعلقها به بفرحةٍ انتقلت إليه:
_أيوه كده تبقى حبيبي الطيب الكيوت اللي بيسمع الكلام.
ضحك بصوته الرجولي وصحح لها ساخرًا:
_قصدك كده حبيب قلب جوزه قرطسه ومفكر نفسه قادر يمشي كلمة عليه!
شاركته الضحك وتنعمت بنومها مجددًا بين ذراعيه وتلك المرة قد حرص عُمران على غلق باب غرفته بالمفتاح تحسبًا لوجود شقيق والدته الآرعن!
********
مطرقة عنيفة هوت على ظهرها تقسمه لمرتها الثانية، فنزعت أخر ما تبقى لها من السند العتي، نالت مطرقتها الأولى بفعل زوجها الراحل والآن حان الدور لأخيها ينال منها بأسوء الطرق.
انزوت على فراشها تضم يدها من حولها، تهز كفيها على ذراعيها دون توقف وكأنها تزيح برودة جسدها المتبلد، ساقيها لا تتوقف عن الاهتزاز ودموعها تنغسق على وجهها كغسق الأمطار في ليلة شديدة الغيوم، تحاول تهدئة نفسها ولكن دون جدوى تزداد أنفاسها بالاختناق ويحتقن داخلها أمل الاسترخاء.
التقطت آذنيها صوت دعسات حذائه الثقيلة تقترب منها، ومن قبل أن ترفع عينيها الزرقاء إليه تسللت رائحته التي سكنتها لأعوامٍ تجعلها تتعرف عليه من على بعد حتى وإن كانت تخوض ظلامًا قاتلًا.
انخفض بها الفراش المنظم قليلًا فعلمت بأنه يجلس قبالتها الآن، فزادت من انغماس عينيها للأسفل تتحاشى رؤيته فتنفضح دموعها وحالتها الضعيفة إليه.
أصابع قوية دُفنت بين أصابع كفيها الرقيق بسيطرةٍ تخضعها لوجوده جبريًا، وقبضته الاخرى تدفع جسدها إلى صدره، وجهه الآن يميل على رأسها مدفونًا بين خصلات شعرها القصير بسكونٍ زاد من ربكتها، صوته الآن يتحرر بنبرة مغرية خافتة:
_متحاوليش تخبي ضعفك عني يا فريدة.. ممكن تخدعي كل عيلتك وأولهم سالم لكن أنا لأ.. أنا مدفون جواكِ وفيكِ.. فاهم وعارف كل نظرة خارجة منك.. ومقدر طول الفترة اللي فاتت تحكمك في نفسك عشان تحافظي على علاقة نعمان بيكِ.
واسترسل يهون عليها ما قد تلقيه على عاتقها:
_إنتِ عملتي اللي عليكِ علشان تحافظي عليه بس هو اللي للأسف طمعه وجشعه خلاه كفيف عن أي علاقات ودية يا فريدة..
وتابع ومازال رأسه ينحني فوق رأسها:
_طول عمره كده مستحيل يتغير أبدًا.. كل اللي في دماغه يسيطر على الشركة الأم المسيطرة على فروع عيلة الغرباوي..زمان عمي وأبويا وقفوا قدام بعض عشان الشركة دي جدي قاطعهم وفارقهم لحد ما اترجعوا عن اللي في دماغهم واتنازل أبويا لأبوكي عن الشركة عشان ميخسروش بعض.. موقفك اللي عملتيه من شوية ده فكرني باللي حصل زمان فمتندميش على قرارك اللي اخدتيه يا فريدة بالعكس انتي أخدتيه متأخر أوي. . شخص زيه مينفعش يكون موجود في حياتك وبين أولادك.
تحررت شهقة متقهقهرة داخلها، فرفعت يدها تتعلق بقميصه مرددة ببكاءٍ:
_ده اللي فاضلي من عيلتي يا أحمد… بابا وماما وأختي الوحيدة كلهم ماتوا مكنش ليا غيره وكنت بعتبره عيلتي كلها بس عمره ما حسسني إني أفرقله في شيء.. مفيش مرة نزل فيها لندن الا وطلب مني إتنازله عن الشركة كأنه بيعرفني إن ده الشيء الوحيد اللي بيربطنا ببعض!
أحاطها بقوة بين أضلعه وردد إليها بحزنٍ عميقٍ:
_ميستهلش… والله العظيم ميستاهل دمعة واحدة من عنيكِ الغالية دي…. اللي استغنى عنا احنا في غنى عنه يا فريدة.. قوي نفسك وادعمي قرارك لإنه هو الصح.. نُعمان عايز يكسر شوكة عُمران بأي شكل من الأشكال لآنه تبارك الله بقى له إسمه وده عمله بعيد عن شركات براند “الغرباوي”، وزي ما قال ابنك كون إنه سحب الشراكة بينهم فده هيوقع أسهم شركاته كلها لإن أغلب المشاريع اللي الشركة الأم بتنفذها عملائها مختارين الشركة لوجود” عُمران سالم” شريك مساهم فيها.. ضربة نُعمان القاضية جاية وبقوة.
انهمرت دموعها على وجنتها حتى ابتل قميصه من شدتها، وحررت صوتها الخافت تخبره:
_مكنتش عايزاه يهتم بالاملاك والثروة وكل ده كنت عايزاه يحتويني ويتمسك باللي فاضله من عيلته زي ما أنا كنت متماسكة بيه يا أحمد.
رفع ذقنها إليه لتقابل نظراته العاشقة لكل تفاصيلها، مشددًا على حروف كلماته:
_أنا عيلتك كلها يا فريدة… أنا أخوكي وأبوكي وحبيبك وجوزك وكل ما ليكِ في الدنيا كلها فبالله متقوليش إنك مالكيش حد في وجودي!
رفع ذراعيها تحيط برقبته وتضم ذاتها إليه، فاحتواها إليه وهو يعود لعاطفة كلماته العاشقة:
_عيشي يا فريدة وارمي وراكِ كل شخص وجعك وأذاكِ… عيشي جوه قلبي هو الوحيد الآمن ليكِ وقادر هيحميكِ وهيصونك بعيد عن كل ده.
وعاتبها بحزنٍ يلف يفترسه:
_هو ده عوض البعد وسنين الفراق يا فريدة؟ بعد كل اللي مرينا بيه رجعنا نكون مع بعض من تاني.. انسي كل الناس وكل الوحش وسبينا نعيش اللي اتحرمنا نعيشه مع بعض.. بلاش نفكر في اللي هيوجعنا لإننا مبقناش حمل وجع تاني.
وأبعدها عنه يطالبها بصرامة:
_اوعديني.
رفعت يدها تزيح دموعها ومنحته ابتسامة جعلت تعابيره المشدودة ترتخي تدريجيًا:
_أوعدك يا حبيبي إني هعيش اللي جاي من حياتي علشانك إنت وبس… كل حلم حلمت بيه عنك هحققه وأنت معايا.
ودنت منه تردد بحبٍ جعل قلبه يرتجف من قوة عشقها:
_أنا مش عايزة غيرك إنت يا أحمد!
عند ذاك الحد لم يكن عليه محاربة مشاعره، دنى إليها يعبر عن عاطفته حتى اختطفها لعالمٍ بُني على حقيقة شغفهما معًا.
*******
استيقظ باكرًا قبل الموعد الرسمي المحدد لموظفين الشركة، فنهض يتجه للراديو الصغير الخاص به، يفتح إذاعة القرآن الكريم ويحرر شرفة غرفته الصغيرة، ومن ثم يتجه للركن الصغير الخاص به يعد شطائر الفول الطازج وقدح من شاي النعناع الساخن، ثم حملهما وخرج يتناول طعامه ومن ثم إتجه لمكتبه المتواضع يرتدي نظارته الكبيرة ويباشر عمله بكل محبةٍ.
مضت عليه نصف ساعة كاملة حتى استمع لدقات بابه الحديدي، فرفع عينيه عن دفتر الحسابات فوجد أمامه نفس الشاب الذي أتى به “عُمران” بالأمس، رفرف بأهدابه بدهشةٍ، ونهض بخطواته الثقيلة التي تناسب جسده الكهل ليحرر مزلاق بابه وعاد لمقعده مرددًا:
_غريبة يعني إنك رجعت ولوحدك من غير ما عمران يجبرك!
اتشحت ابتسامة جميلة على وجهه البشوش، وإتجه لمقعده المقابل لمكتب “ممدوح” قائلًا بحماسٍ ولباقة:
_جيت عشان مفيش بشمهندس عاقل يفوت فرصة إنه يتعلم على إيد استاذ عظيم زيك.
ضم كفيه معًا وانحنى يستند عليه قائلًا بابتسامة صغيرة:
_مكنش باينلك رجوع على ملامحك المُجهدة امبارح؟
خلع “أيوب” عنه ذراع الحقيبة وقال بابتسامة مشرقة:
_والدي الشيخ مهران علمني مستسلمش بسهولة، وبعد اللي حضرتك عملته معايا امبارح كان لازم أبينلك اني مش الشخص اللي كونت عنه أفكارك امبارح.
بدى خبيثًا، ماكرًا، متحاذق مما دفع “ممدوح” ليسأله بنزقٍ:
_تقصد أيه!
أجابه ببساطة ومصدقية:
_من خلال الكام ساعة اللي قضتهم مع حضرتك حسيت أد أيه انك بتحترم وقتك وبتقدسه جدًا، فكنت بتحاول تضغط عليا بكل السُبل عشان تشوف إذا كنت هرجع تاني ولا لأ.. ولو رجعت يبقى أستحق وقتك اللي هيضيع معايا في تعليمك الخطوات الجاية لو مرجعتش يبقى وفرت عليا وعليك وقت ومناهدة.
تراخت شفتيه الغليظة عن ابتسامة تظهر لمرتها الأولى، فسحب رشفة من الشاي وقال:
_عجبتني… وشكلك هتكون تلميذي التاني بعد “عُمران الغرباوي”.
وأشار إليه بنظرة ارتخت عن حزمها قليلًا:
_تحب نبدأ؟
فتح سحاب حقيبته يخرج دفتره وبعضًا من اللوح هاتفًا بحماسٍ:
_أنا جاهز…اتفضل!
******
هبط للأسفل يفرك عينيه وهو يجاهد النوم بكل ما فيه، فكان بطريقه للمطبخ ليعد كوب من القهوة تزيح صداعه القاتل، فتوقف محله حينما لمح أخيه يجلس بالصالون يرتشف كوبًا من القهوة ويقرأ بأحد الكتب كالمعتاد عنه.
اقترب منه عُمران يردد ببسمة عابثة:
_صباح الخير يا دكتور.
انتبه”علي” إليه وأجابه بابتسامة هادئة:
_صباح الخير يا عمران… منزلتش شغلك ليه؟
إتجه إليه يجلس على ذراع المقعد ينتزع من يده الكوب وهو يرتشف منه كالمدمن المفتقد لمذاق الكوفين، وردد:
_بفكر منزلش النهاردة.. ورايا كام حاجة هخلصهم هنا على اللاب وكمان ساعة هنزل مشوار على السريع كده ممكن بعدها أعدي على الفرع اللي هنا أشوف الدنيا وأرجع تاني.
أغلق كتابه وأعاده على الطاولة وقال:
_المهم تنهي حوار الشراكة ده خلينا نخلص.
هز رأسه بخفوتٍ وردد بتهكمٍ :
_كلمت امبارح المحامي وبيرتب الاوراق… متقلقش.
هز رأسه بخفوت، فاتجه عُمران للأريكة يحتلها، وصاح بأحدى الخادمات:
_احضري لي حاسوبي من غرفتي رجاءًا.
أماءت له باحترامٍ وغادرت لتعود بعد دقائق بما تحمله فوضعته من أمامه، فتحه عُمران وشرع ببعض أعماله، وبين الوقت والأخر يختطف نظرات سريعة لأخيه الشارد والهموم تتثاقل بين حدقتيه الرمادية، فأخفض عمران شاشة حاسوبه وسأله بلهفة:
_مالك؟!
مسح على فمه بحركةٍ عشوائية وأجابه:
_مفيش.. بفكر ألغي سفري لمصر بس للأسف لازم أعمل المشوار ده.
اعتدل بجلسته يعيد سؤاله باستغرابٍ:
_وعايز تلغيه ليه؟ المركز أساسًا شبه مكتمل مكنش فيه غير المساحة اللي انت ضمتها ليه والفريق بينجز فيه على أكمل وجه لازم إنت كمان تتحرك وتختار الدكاترة والممرضين اللي هتحتاجلهم وبسرعة.
لف وجهه المهموم إليه:
_عارف بس اللي ربكني من السفر فاطمة حالتها مش مستقرة.. خايف أجازف وأبعد عنها يحصلها حاجة وأنا مش جانبها… فاطمة لسه متعافتش بشكل كامل.
ترك عُمران حاسوبه ونهض عن أريكته متجهًا لمقعد يجاور مقعد أخيه، وازدرد ريقه بارتباكٍ اتبع منهج سؤاله المتردد:
_علي.. هو إنت وفاطيما بتمارسوا حياتكم بشكل طبيعي؟
تقوس جبينه بشكلٍ ملحوظ، فاعتدل عُمران بجلسته يوضح له:
_أصل حالتها غريبة ومقلقة!
تعمق بالتطلع لعينيه الشبيهة لخاصته بلونها، ومنحه بسمة خافتة اتبعها قوله الذكي:
_لو سألتك نفس السؤال عنك إنت ومايا هتجاوبني؟
رمش بأهدابه عدة مرات في محاولةٍ لاستكشاف ما يود قوله، فتابع علي بنبرة رزينة:
_إنت قومت الدنيا كلها لما خالك اقتحم أوضة نومك وإنت دلوقتي بتعمل نفس الشيء يا عمران بتقتحم خصوصياتي أنا ومراتي فمتوقع مني أيه مثلًا؟
ابتلع ريقه بتوترٍ أخفاه بقوله:
_أنا آسف لو سؤالي ضايقك يا علي.. أنا بس آآ..
قاطعه بابتسامة واسعة وملامحه لم تتأثر مطلقًا:
_متعتذرش يا عمران أنا فاهمك وعارف إنك متعمدتش ده بس اللي لازم تفهمه إن مهما كان قربنا وحبنا لبعض في النهاية في خطوط حمرا محدش مننا يقدر يتخطاها.
هز رأسه بتفهمٍ:
_عندك حق.
اتجهت نظرات علي لحاسوب عمران وسأله باهتمامٍ:
_كنت بتقول إنك معاك تصميم لمكتبي بعد التعديل.. وريني أنا متحمس جدًا أشوف هترتبلي مكتبي ازاي انت وفريقك يا بشمهندس!
ضحك وهو يشير له بغرورٍ:
_بعينك تشوف حاجة… سافر إنت وارجع وكن على ثقة إن عمران الغرباوي هيبهرك.. يا ابني كفايا عليك إني مش بعمل ديكور لحد!
ضحك وهو يراقبه يعود لأريكته رافعًا رأسه للأعلى كالطاووس، فجذب الوسادة التي تجاوره وألقاها بوجهه هاتفًا:
_طاووس وقح!
غمز لها برماديته يجيبه بسخرية:
_طب انصرف علشان بخاف من الحسد وعايز أفرد ريشي!
تعالت ضحكات “علي” واستكان بجلسته يجذب كتبه، يعود لقرائته الصامتة بينما الاخير يتلذذ بكوب القهوة التي اتخذها عنوة ويتابع حاسوبه هو الأخر.
مرت الساعات ومازال كلا منهما منشغلًا بما يفعله، حتى اقتحم مجلسهما “مايسان” و”فاطمة”التي كانت تدفع طاولة صغيرة لتستقر أمام “عُمران” فاستقام بجلسته منتبهًا لها، فوجدها تردد ببسمة صغيرة:
_نسيت الاتفاق؟
وزع نظراته على أطباق الطعام الشهي ورفع عينيه لها يجيبها بامتنانٍ:
_أيه كل ده.. تسلم ايدك يا فاطمة تعبتك معايا .
أجابته بلباقة:
_يا رب يعجبك.
ابتسمت مايا ورددت بمشاكسة:
_كان نفسي أطبخلك الأكلة دي بنفسي بس للأسف مقدرش أنافس في الأكل المغربي قدام فاطيما خسرانة بالعشرة.
ضحكت لها ورددت بخجل:
_أنا أجي أيه جنبك يا مايا.
أشارت لعمران الذي يتابعهما مبتسمًا:
_متصدقهاش يا عمران دي بتشيل عنها العين.
واستدارت تجاه علي تشير إليه:
_تعالى هنا جنبه يا علي.. الأكل يجنن.
رفع معصمه إليه متفقدًا ساعته:
_الساعة لسه ١٢.. أنا بتغدى على الساعة ٣ فمش هقدر أعذروني.
منحه نظرة ساخطة وهو يلتهم ما بملعقته مرددًا:
_خليك حافظ على أكلك ومواعيده لما بقيت شبه خلة السنان.. نفسي تقتنع بكلامي وتأكل وتعيش حياتك وتقضيها ساعتين جيم كل يوم هتفرق معاك.
قذف علي وسادة أخرى إليه:
_كمل أكلك وانت ساكت.
ضحكت فاطمة وهي تتبعهما باستحياءٍ، فاخفضت عينيها للحاسوب المجاور لعمران حيث تركه مفتوحًا، لفت انتباهها جدول الحسابات المعدة وتقنيات تعيد لها ذكريات العامين التي مضتهما بالجامعة وبعدهما لم تتمكن من استكمال تعليمها.
لاحظ عمران وعلي تعلق نظراتها بالحاسوب وشرودها، فجذب عمران المنديل الورقي وأزاح بقايا الطعام عن منديله، وبخفة دفع الحاسوب قبالتها قائلًا باهتمامٍ:
_الSystem ده مش غريب عليكي صح؟
هزت رأسها بخفة، فقال ببسمة واسعة خبيثة لقرب تحقيق هدفه:
_تحبي تجربي؟
خطفت نظرة مرتبكة لعلي الذي ترك كتابه وراقبهما باهتمامٍ يفوق اهتمام أخيه، فقالت:
_أنا مش فاكرة أي حاجة.. فات فترة طويلة على ما كنت بالجامعة فمش عارفة هقدر ولا لأ.
ابتسم وهو يشير لها بالاقتراب بحماسٍ:
_بسيطة هعمل معاكي أول حسبة ومع الشرح هتفتكري.. تحبي نجرب؟
عادت ببصرها لعلي الذي منحها ابتسامة تبث لها الآمان المفقود، فعادت لعمران تكتفي بهزة رأسها، نهض على الفور يحمل صينية الطعام جانبًا ثم وضع حاسوبه عليها ودفعه لتكون بينها وبين فاطمة الجالسة على نهاية الأريكة، فاختار جلوسه على مسافة بعيدة منها لتفهمه حالتها باجتيازٍ.
ثلاثون دقيقة استغرقها لينتهي من أول ملف بمفهومه النظامي، بينما كانت تتذكر كل ما تلقتنه من قبل رويدًا رويدًا، ففتح لها ملفًا جديدًا ودفع الحاسوب لها يشجعها:
_نفذي الخطوات اللي عملتها لوحدك وبهدوء.. وأنا هشوف لما تخلصي.
هزت رأسها إليه وحملت الحاسوب لقدميها تفعل كما أخبرها به، بينما اتجه عمران ليجلس جوار مايا يستكمل تناول طعامه فوجدها تميل عليه تهمس:
_بتحاول تعمل أيه؟
مال لها يهمس هو الأخر:
_هساعد علي في علاج فاطمة!
بدأ يتسرب لها مفهوم ما يود عمران فعله، فتحمست للغاية لرغبتها الشديدة باستعادتها اتزانها النفسي.
لم يفوت علي تفصيلة صغيرة متعلقة بجلستها تلك، ليس كزوجٍ محبًا بل كطبيب يشخص حالة مريضته التي توشك على اتخاذ أول خطوة بمواجهة العالم بعدما كان افتراضي لها، يشعر بالامتنان لخطة اخيه باستدرجها للعمل، آن نجح بتلك الخطوة حينها سيُفتح لها العديد من الأفاق أولهم العودة لجامعتها وعيش حياتها الطبيعية.
جميع الانظار مسلطة عليها، حتى انتهت مما تفعله ورفعت عينيها لعمران الذي يتناول طعامها بهدوءٍ قائلة:
_خلصت.
جذب المناديل المعطرة ومسح يديه وفمه ثم اتجه إليها يجذب الحاسوب ويتابع ما فعلته ببسمة واسعة تدعي كل نقطة بها الانبهار رغم أن هناك بعض التعديلاات التي سيحتاجها من بعدها ولكنه وجدها نقطة محمسة للقادم، فأجلى صوته الرخيم:
_براڤو يا فاطيما.. لأ بجد ممتازة.
وأشار لمايا بجدية تامة:
_من بكره فاطمة تنزل معاكي الشركة وأنا النهاردة هخلي حسام يحط مكتب زيادة في أوضة مكتبك عشان تكونوا مع بعض وتعرفيها أكتر عن شغلنا ده لو مكنش عندها أي مانع إنها تشتغل معانا.
ترقب ردها على عرضه الذي فجأها، وخاصة حينما سألتها مايا:
_ها يا فاطمة أيه رأيك؟
وتابعت بمكرٍ تعاون زوجها وأخيه:
_أكيد مش هترفضي تكوني معايا ونروح ونيجي مع بعض.. أنا طول الوقت في الشركة وانتي هنا ومش بنلحق نتكلم ولا نقعد مع بعض!
لعقت شفتيها الجافة بلسانها وقالت:
_أصل.. أنا… آاآ..
وصمتت حينما لم تجد ما تقول، حينها رفعت مقلتيها تجاه ملاكها الحارس، ذاك الذي بعد كالبُوصلة لانحراف اتجاهاتها فوجدته يشير لها قائلًا:
_لو حاسة إن القرار ده هيريحك وافقي عليه بدون تردد يا فاطمة… متقلقيش وجود عُمران ومايسان جنبك هيديكي الأمان اللي هتفتقديه في عدم وجودي معاكي هناك.
قام بمهامه على أكمل وجه كطبيبٍ وكزوجٍ، يدعمها بقرارها ويخبرها بأن حالتها ستكون مستقرة فلا داعي للخوف، لذا لم تجد الا أن تؤمي برأسها مبتسمة فصاحت مايا بحماسٍ وهرولت إليها تحتضنها بفرحة، بينما سند عمران ظهره لمقعده وهو يغمز بمكرٍ لعلي الذي قابل خبثه بابتسامته الهادئة الجذابة.
*******
ساعات قليلة مضت وتفرق جمعتهم، اتجه عمران لشركته واتجه علي ليوصل زينب لجامعتها لحضور تلك المحاضرة المسائية، فحاول أن يعلم ما برأسها حتى يعرض عليها عرض الزواج من سيف كما شدد عليه يوسف، فقال:
_ها يا دكتورة طمنيني أمورك تمام بالجامعة؟
ابعدت عينيها عن هاتفها وأجابته ببسمة رقيقة:
_الحمد لله يا علي.. أول يوم كان صعب بس بعد كده الأمور تمام.
تابع القيادة بتركيز وقال بمكرٍ:
_طب الحمد لله… أنا من لما شوفتك واقفة مع سيف امبارح وأنا اتطمنت إنك هتقدري تكوني صداقات تساعدك جوه الجامعة.
ارتبكت للغاية فرفعت يدها تعدل من حجابها:
_دكتور سيف شخص محترم جدًا قابلته صدفة في الجامعة وفي عيادة دكتورة ليلى.
حرك رأسه بخفة ومازالت رماديته مركزة على الطريق، فلحق به فترة صمت قبل أن يسألها بلباقة:
_زينب هو أنا ممكن أسألك سؤال شخصي شوية ولو هيضايقك متجاوبيش وأنا هتفاهم ده.
_طبعًا يا علي إسأل بدون كل المقدمات دي.
هدأ من سرعة السيارة والتفت يتطلع لها ومازالت يده تتحكم بالمقود:
_انتي في حد في حياتك؟ يعني بتحبي حد أو مرتبطة بشكل خاص؟
تجهمت معالمها بشكلٍ مقبض، وكأنها ستستقبل الموت بين أحضانها بعد قليل، مجرد حديثه عن الأمر أعاد صورة “يمان” بمخيلاتها من جديدٍ، تمسكت بجزء من قوتها وقالت بتلعثمٍ وفوضوية:
_لأ طبعًا مفيش… وبعدين أنا متوقعتش انك تسألني سؤال زي ده لاني طبيعي قدامك وقدام الكل مش مرتبطة.
أسرع بالحديث مبررًا:
_فاهم كلامك طبعًا بس افترضت يكون في حد حتى لو علاقتكم سطحية.
هزت رأسها تتفي ذلك باقتضابٍ:
_لا مفيش.
سحب نفسًا مطولًا واسترده قائلًا بهدوء:
_طيب يا زينب امبارح دكتور يوسف طلب ايدك مني لاخوه سيف، يعني بشكلٍ ما حابب يكون في بينكم رابط رسمي بحيث تقدروا تتعرفوا على بعض ولو حصل توافق بينكم آآ…
اقتطعت حديثه بحدة وعصبية فجأته كثيرًا:
_أنا مش هتجوز يا علي.. هو عشان ساعدني في الجامعة ووقفت معاه يبقى هتجوزه!!! وبعدين انا لسه طالبة في ٢طب وبكمل لسه تعليمي جواز أيه اللي بيتكلم عنه!!!
صف سيارته أمام جامعتها والتفت إليها يحدثها بهدوء وعقلانية:
_اهدي يا زينب الموضوع مش مستاهل العصبية دي كلها منك هل أنا فرضت عليكي شيء!! أنا مملكش الحق ده عليكِ من الأساس أنا وصلتلك طلب دكتور يوسف ومن حقك تقبلي أو ترفضي ولازم تعرفي إني وصلتلك العرض ده لاني أعرف سيف وأعرف دكتور يوسف مربيه على أيه، الولد ده راجل وهيقدر يصونك ويحافظ عليكي وآ…
قاطعته للمرة الثانية بانفعالٍ:
_مش عايزة أسمع يا علي!!.. حتى لو كان ملاك بجناحين أنا مش عايزة ارتبط بحد من فضلك بلغهم بكده.
تمعن بحدقتيها بعمقٍ جعلها تشعر وكأنها مجردة أمامه، وقد لاقت حدثها حينما قال بشكٍ:
_مالك يا زينب؟ مندفعه وعصبية بشكل مش طبيعي، انتي في حاجة حصلت معاكي؟!
ابتلعت مرارة ريقها بصعوبة بالغة، وتعلقت بحقيبتها بكل قوتها، ففتحت باب السيارة وهي ترمقه بنظرة أخيرة هاتفة بحنقٍ:
_بطل تمارس مهنتك عليا يا دكتور.. أنا مفيش شيء!
وتركته وهرولت للجامعة راكضًا من أمامه بينما ظل هو محله يتابعها بنظرة ثاقبة ترى بوضوح ما تخفيه من حالة نفسية يقسم بأنها مازالت تخوضها حتى الآن.
تهدل جسد “علي” على مقعده باستسلامٍ وحزن اتبع همسه الخافت:
_فاطمة… ماما… ودلوقتي زينب… وجعي في عيلتي بيزيد!
*******
راقب “أيوب” مكتب “ممدوح” مطولًا ومن ثم عادت نظراته للطعام الذي تركه له “حسام” السكرتير الخاص بعمران على مكتبه، فنهض واتجه إليه يناديه بحرج:
_ممكن أستأذن عشر دقايق يا بشمهندس؟
رفع ممدوح عينيه له، فازاح نظاراته الطبية متسائلًا بدهشة:
_رايح فين في العشر دقايق دول؟!
رد عليه بوقارٍ:
_مش هتأخر عنهم والله… هطلع لعمران مكتبه وهرجع على طول.
ابتسامة صغيرة عادت تداعب وجه العجوز، فعاد ليستند على يديه كمعتاده وقال:
_أممم… عمران مجاش يوصلك النهاردة وبعتلك الأكل مع سكرتيره من غير ما ينزلك ودلوقتي عايز تطلعله مكتبه… انتوا متخانقين صح؟
أخفض عينيه أرضًا وكأنه يخشى لقاء مدرسه بفعلته التي أودت لتلك المشاجرة، ولكنه اضطر لاجابته بتحفظٍ:
_سوء تفاهم بسيط.
هز رأسه ومازالت أثر الابتسامة على شفتيه، فرفع اصبعه يحركه له:
_اطلع ولما تنزل نتكلم ونشوف إذا كان بسيط ولا يستاهل!
ابتسم أيوب بسرورٍ لتطور العلاقة بينهما، فخرج للمصعد يتجه لمكتب عمران بعدما سأل عليه من احد الموظفين.
اتجه لمكتب “حسام” السكرتير الذي ما أن رآه حتى رحب به بوداعةٍ، فهو يعلم بأن من قام عُمران بالسماح له بالدخول للسجلات برفقة استاذ ممدوح فمن المؤكد بأنه شخصًا هامًا للغاية إليه فبسط كفه يشير له بمحبة:
_بشمهندس أيوب هنا بنفسه! نورت الطابق كله.
ابتسم له وقال بتوترٍ جعله يكاد بالعودة مثلما أتى:
_هو أنا ينفع أقابل عُمران؟
أشار له باحترام للمقعد المقابل إليه:
_طبعًا… اتفضل استريح هدي مستر عُمران خبر حالًا.
اعتلى المقعد المقابل له، ورفع حسام السماعة يهاتف عُمران قائلًا:
_مستر عُمران بشمهندس أيوب هنا وعايز يقابل حضرتك.
لف بمقعده بالداخل بعصبيةٍ اعتلت حركة جسده الهادئ، فابتسم بتسلية وصرح له:
_سيبه قاعد نص ساعة وبعدين دخله.
ودون أي كلمة أخرى أغلق هاتفه بوجه حسام المتعجب لردة فعل عمران، فحجب انفعالاته بامتيازٍ وقال:
_شوية وهدخلك يا بشمهندس.. مستر عُمران معاه تليفون مهم.
هز رأسه وبسمته الساخرة بادية كسطوع الشمس بأحضان السماء، وهتف ببرود:
_مفيش مشكلة نستناه!
مرت خمسة وعشرون دقيقة ومازال أيوب يرسم دور البرود حتى سئم من ادعائه الكاذب، فنهض عن مقعده واندفع لمكتبه بكل ما أتى من عصبية اختفت حينما وجده ينهي صلاته وينهض بسجادته يطويها على الأريكة ونظراته الباردة تطعن الاخير دون اكتثار.
أتى حسام مهرولًا من خلف أيوب يردد بخوف:
_مستر عُمران أنا أسف والله بس البشمهندس آ..
أشار له عُمران قائلًا:
_روح انت يا حسام وبعد كده لما أيوب يعوز يشوفني يدخل على طول حتى لو كان مين عندي.
غادر السكرتير حائرًا بما يحدث، بينما اتجه عمران لمقعده يتأمل ذاك الذي يسدد قنابله إليه من مكانه فكبت ضحكة كادت بالانفلات منه وهو يشير له قائلًا بسخط:
_هتفضل واقف مبحلقلي كده كتير…اتفضل.
دنى ليجلس على المقعد ونظراته القاتلة لا تحيل عنه،فرفع الهاتف يتساءل:
_تشرب أيه يا عم الارهابي؟
بقى صامتًا يراقبه بغيظٍ يندفع داخله، فردد عمران لمن ينتظر سماع طلبه بالهاتف:
_كوبين من القهوة أعدها في الحال.
ثم اقترب بمقعده المتحرك مقتربًا من الطاولة الفاصلة بينهما، قائلًا بعمليةٍ مخادعة:
_خير يا بشمهندس أيوب.. في حاجة بتشتكي منها وجاي مخصوص تشتكيلي، أتفضل أنا سامعك.
خرج عن صمته أخيرًا، طارقًا بعنف على سطح المكتب الزجاجي:
_اسمع يا جدع إنت متحاولش تلعب بأعصابي وتختبرني كتير علشان صدقني أنا واخد حزام في الكارتيه وأقدر أبوظ خلقتك اللي فرحانلي بيها دي!
تحررت ضحكة منه وقال وهو يقترب متمعنًا التطلع للكدمة الزرقاء المحتضنة لوجه أيوب قائلًا:
_طيب اهدى انت بس عشان العلامة الحلوة دي ميصبهاش بكتيريا وتتنقل لوشك كله.
انتصب بوقفته وصاح بعنفوان:
_الظاهر اني غلطت لما طلعتلك… سيبني مرمي بره بقالي نص ساعة وعايشلي دور رجل الأعمال اللي معندوش وقت يهرش، لا فوق ده أنا أيوب ابن الشيخ مهران!
نهض يجابهه بجمودٍ:
_تو تو اهدى شوية يابن الشيخ مهران.. أخرة الرغي ده كله وبيتقالك ارهابي!! فاسمعني كده وهدي عضلاتك دي، أنا مسمحتلكش تدخل على طول علشان أنا ببقى غبي وغشيم لما بتعصب للأسف فكنت بهدي نفسي قبل ما أتنيل أشوفك بعد العملة السودة اللي هببتها!
وأشار للمقعد مجددًا بتحذير:
_فاهدى كده واقعد.. أنا أساسًا دماغي فيها كلاب صعرانه بتتعارك جوه ونفسها ونفسي أنا كمان معاهم أطلقهم عليك ونخلص!
طوفه بنظرة ساخرة أحاطته من رأسه حتى أخمص قدميه، وفجأة بادر بسحب عمران من جاكيته بقوة كادت باسقاطه على طاولته، فردد عُمران بتهديدٍ:
_متخلاهاش تبقى الناهية يا أيوب!
تركه بغضبٍ واتجه ليغادر فلحق به يناديه:
_استنى يا ابني..
وحينما لم يستجيب له قال:
_طيب والقهوة طيب؟!
تعالت ضحكات عمران وهو يراقب اشتعال ملامحه وهو يتجه للمصعد، فصعد خلفه ووقف جواره صامتًا حتى قال:
_هعنذرلك وأخدك في حصني وأبوس رأسك كمان بس بشرط تصرف نظر عن الجوازة السودة دي!
تنهد أيوب بتعبٍ من عناد عمران الذي مازال يصر على حديثه، فاستدار له يقول بإرهاقٍ:
_يا عمران افهمني حرام عليك فرهدتني معاك، أنا مقدميش حلول تانية… استسلم بقى وارضى بقراري وخليك جنبي الصديق الجدع اللي اتعودت عليه منك.
صوب له نظرة مقززة، واستدار عنه يمسح وجهه عده مرات، ثم عاد إلى مكانه يشير بيده:
_تعالى يالا تعالى أنا قلبي الحنين ده اللي مطمع المعاتيه اللي زيك فيا.
ضحك وهو يحتضنه بفرحة وشعوره المفتقد لوجود شقيق يكبره يعوضه به، شدد عمران من ضمه حتى توقف المصعد وانفتح أمام مجموعة من الموظفين الاجانب، اعتلت الصدمة وجوههم جميعًا وراقبوا ما يحدث بالمصعد بأعين جاحظة جعلت عمران يدفع أيوب للخلف وهو يصيح من بين اصطكاك أسنانه:
_الله يحرقك انت وهي في ساعة واحدة… خسرت سمعتي قدام الموظفين وشوية وهيعلقولي العلم الملون قدام مكتبي!!
وركله لخارج المصعد بعصبية:
_غور مش عايز أشوف وشك تاني.
سقط أيوب من فرط الضحك حتى عمران لحق به ولم يتمكن من السيطرة على ضحكاته. حتى وصلوا لدخل الشركة فسأله باستغراب حينما وجده ينحرف للمصعد السفلي؛
_مش جاي ولا أيه؟
رد عليه وهو يستعد لدلوف المصعد الاخر:
_أنا أخدت عشر دقايق من أستاذ ممدوح وبفضل برودك ووقاحتك بقوا ساعة وهتعاقب عليهم لبكره الصبح فأكيد مش ههرب وأخرج معاك هرجع لاستاذي واشوف اللي يرضيه وأعمله.
رفع عمران يديه للاعلى يدعو بفرحة:
_يارب يعاقبك بشهرين حبس انفرادي معاه تحت وتكون أم قردان دي حلت عننا وفكتها منك.
وعاد يتطلع له بصدمة:
_مصيبة تكون حبتها يابن الشيخ مهران!!! أقسم بالله لو حصل ولعبت بديلك كده أو كده متلومش الا نفسك.. متفكرهاش جوازة وتعيش سامعني!
هز رأسه في يأسٍ في تغير عقليته حتى وآن ظل باقي عمره يحدثه في الأمر، فتركه واتجه للمصعد بصمت بينما غادر عمران والسخط يعلو ملامحه كلما تخيل أيوب النقي.. التقي، مع تلك الفتاة العبرانية!
******
كانت تتابع حالة “آديرا” من وقتٍ لأخرٍ، فاستغلت وجود الممرضة التي استلمت العمل بالعيادة منذ صباح اليوم ووقفت أمام المرآة تتأكد من تناسق طالتها بفستانها الوردي البسيط وحجابها المشابه له، ومن ثم اتجهت لعيادة زوجها المجاورة لعيادتها بعد أن تأكدت من أنها لم تعد مزدحمة منذ ما كانت منذ ساعتين، فولجت لغرفة مكتبه فوجدته يسترخي على مقعده بارهاقٍ وحينما استمع للباب يُفتح استعد بجلسته للقاء القادم فتهللت أساريره حينما وجدها قبالته تتدلل بخطواتها إليه، فردد:
_ليلى!
تجاوزت المكتب وإتجهت لتجلس على ذراع مقعدن قائلة بابتسامة عذباء:
_بقالي فترة بستنى عشان أدخلك.. مكنتش أعرف إن جوزي حبيبي مشهور للدرجة دي!
ابتسم وأحاطها بذراعه إليه:
_جوزك حبيبك محتاج لفترة راحة جوه حضنك ينفع؟
نهضت عن المقعد وهي تشير له بحزمٍ غاضب:
_لا مينفعش.. أنا جايالك هنا زي أي مريضة ودورك تهتم بيا وتشوف مشكلتي أيه مش تحب فيا يا دكتور يا محترم.
ضحك بصوته الرجولي وقال بخشونة مصطنعة:
_طبعًا طبعًا… اتفضلي يا مدام ليلى وقوليلي مشكلتك أيه بالظبط.
جلست قبالته بابتسامة واسعة واستندت على مكتبه تتمعن التطلع به بدرجة أصابته بالفتنة فشعر وكأنه أحمقًا لاستماعه لدلالها، أما هي فقالت بمكر:
_جوزي يا دكتور نفسه يكون عندنا بيبي، فحبيت أجي النهاردة أكشف وأطمن على نفسي، وأكيد حضرتك هتكتبلي على مقويات ومنشطات وأي حاجة تسهل الموضوع ولا أيه؟!
رفع احد حاجبيه ساخطًا:
_منشطات!!
وزفر بنزقٍ:
_عنيا ليكي انتي وجوزك يا دكتورة… اتفضلي حضرتك.
صفقت بيدها بفرحة، واتجهت للفراش تستعد، ويوسف يتابعها بدهشة.
اتجه إليها واستند على العمود المطول مربعًا يديه أمام صدره العضلي، يراقبها وهي تكشف عن بطنها وتضع الملاءة البيضاء من حولها، مرددًا بسخرية:
_وبعدين؟!!! أخرة جنانك ده أيه يا ليلى!
ادعت البراءة هاتفة:
_جنان أيه يا يوسف؟.. مش قولت اتفضلي للكشف فاتفضلت.
هز رأسه بارهاقٍ وأشار لها:
_قومي يا ليلى أنا هكتبلك على تحاليل معينة هتعمليها وهديكي شوية أدوية .
هزت رأسها نافية وبتحدي قالت:
_لأ.. هتكشف عليا الأول وبعدها اكتب زي ما تكتب.
ضحك بسخرية:
_مش ده الجهاز أساسًا!
شددت على طلبها وعينيها لا تفارق خاصته بنظرة بعيدة كل البعد عن المرح:
_عايزاك تكشف عليا بالجهاز ده يا يوسف.
اندهش من طريقتها الغريب. واصرارها، ومع ذلك رضخ لها وجذب المقعد الصغير إليه، ثم وضع الجل الطبي ومرر الجهاز عليها ليريحها هي، ولكن لما لبث حتى جحظت عينيه في صدمةٍ وهو يتابع الشاشة من أمامه غير مصدقًا لما يراه، بينما هي تراقب كل انفعالاته بأعين دامعة وابتسامة واسعة.
تطلع يوسف لها وردد بعدم استيعاب:
_ليلى إنتي حامل!!!!
هزت رأسها تؤكد له رغم أنه طبيبًا ويرى الحمل بوضوحٍ على جهازه، ضحك يوسف بفرحة أدمعت عينيه وجذبها لتنهض أمامه محتضنها بحب ويديه تلتف من حوله ويدور بها بارجاء غرفته هاتفًا بسعادة:
_هكون أب… هشيل ابني أنا بين ايديا!! أنا بأحبك يا ليلى… ده أجمل خبر ممكن بسعدني لباقي حياتي.
ووضعها عن يده وخرج لعيادته فاتبعته باستغراب لتجده يقف بالخارج قائلًا بابتسامة جذابة للممرضة وهو يقدم لها مبلغ من المال:
_وزعي الحلوى اليوم على العيادة بأكملها.. زوجتي حامل وقريبًا سأرزق بابن.
ضحكت ليلى على مظهره وخاصة حينما التف من حوله عدد من النساء الحوامل الجالسات لترقب دورهن.
فطرقت على جبهتها بقلة حيلة والابتسامة تزداد على وجهها.
*******
بمكتب جمال.
فتح باب المكتب واشرأب بعنقه يخبره بابتسامة واسعة:
_فاضي يا بشمهندس؟
استدار للمتحدث هاتفًا بسرور:
_عمران! تعالى.
اتجه ليجلس أمامه واضعًا قدمًا فوق الاخرى بعنجهيةٍ تامة:
_وجودي هنا بشكل رسمي فسيبك من جو الصداقات اللي مبيأكلش عيش ده.. عايزك في شغل.
رفع احد حاجبيه باستنكارٍ:
_شغل أيه ده!!
يتبع…
تعجب من ثبات ملامحه الغامضة قبالته، وبالرغم من أنه طرح سؤاله الفضولي حول سبب وجوده بمكتبه وحواره المتعلق بأنه هنا لأجل العمل ومع ذلك مازال ذاك “الطاووس الوقح” يتمادى بصمته، إلى أن ردد “جمال” بنفاذ صبر:
_عمران أنا أساسًا متوتر من غير حاجة… بكره عملية أمي ولسه دابب خناقة مع صبا قبل ما أنزل الشركة فأرجوك بلاش تختبر أعصابي ببرودك المستفز ده!
حرر زر جاكيته ورفع ساقًا فوق الأخرى بتعالي:
_مستغربك بجد!! وأنا أيه علاقتي بأمورك الشخصية ولا إنت متعود تحكي لكل عميل عندك عن سبب توترك!
تجعد جبينه بدهشةٍ من الجدية التامة التي يتحلى بها الأخير وكأنه بمقابلة عمل، فصاح بنزقٍ:
_عابز أيه يا عمران لخص!
أخرج من جيب جاكيت بذلته الفخمة فلاشة صغيرة قدمها إليه، جذبها منه جمال باستغرابٍ، ولكنه أثر صمته عن سؤاله بما لا يجيد الاخير اجابته.
جذب حاسوبه ووضع به الفلاشة ليتابع ما عليها باهتمامٍ، تسللت ابتسامة صغيرة على وجه جمال وعاد بها لرفيقه يخبره بفخرٍ وفرحة تنم عن حبه الخالص إليه:
_ده تصميم المول التجاري اللي هيتعمل هنا في لندن.. مشروع ضخم وتقيل فرحت جدًا إنهم اختاروا شركاتك تنفذ المشروع ده مع إن كان الأغلب مستبعد إن اللي يأخد المشروع ده شركة عربية البعض أجزم إنهم هيتعاملوا مع شركة أجنبية تتبنى المشروع لحد ما اتشاع إنهم احتاروك للمشروع ده الصدمة نزلت جامدة عليهم بس أنا متفاجئتش إنت تستحق كل خير يا عمران.. تعبك ومجهودك المتواصل في مجال الهندسة والمعمار وخصوصًا الفروع الجديدة اللي خليتك تستغنى عن اللجوء لأي مهندس إنشائي أو مهندس ديكور أو حد يكمل وراك الشغل ده خلى العيون كلها عليك.
تنمق عن شفتيه ابتسامة صغيرة وهو يطالعه بنظرة مطولة، فاستطرد جمال باستغرابٍ:
_بس أنا مش فاهم ليه جايبلي التصميم المعماري للمشروع!
وتابع بعد تفكير:
_حابب تأخد رأيي فيه مثلًا؟
كسر قاعدة صمته قائلًا:
_أنا مش داخل المشروع ده لوحدي.
زوى حاجبيه بدهشةٍ:
_في حد معاك يعني!
صمت الأخير مما دفع جمال يستكمل:
_أوكي المشروع ضخم ووارد تحتاج لحد معاك يساندك بس أنت لوحدك بشركاتك كفايا يا عمران… ومعاك الميزانية اللي تأهلك تشيله لوحدك.
أنهى وصلة تفكيره المتواصلة مطلقًا قنبلته بوجهه:
_إنت اللي هتكون معايا في المشروع ده يا جمال.
رمش بعدم استيعاب لما يقول، وحينما بدأ باستيعاب ما قال سحب الفلاشة من حاسوبه ووضعها قبالته قائلًا بجمودٍ:
_آسف مش هقدر.
مزق شفتيه السفلى من فرط ضغط أسنانه المغتاظة عليها، وصاح منفعلًا:
_مش هتقدر ليه إن شاء الله!!
عاد يستكمل عمله على الحاسوب وهو يخاطبه بصفة رسمية:
_عرضك مرفوض.. شرفتنا يا بشمهندس.
نهض “عمران” عن مقعده يغلق الحاسوب من أمامه هاتفًا بحنقٍ:
_وحياة أمك!! بتطردني يا جمال!
كبت “جمال” ضحكة كادت بالتسلل لشفتيه وصاح مداعيًا براءته الكامنة:
_مش إنت بالبداية قولت إننا نركن الصداقة على جنب وإنك هنا بصفة رسمية عشان نتكلم في الشغل وبس! زعلان ليه دلوقتي!!
ترك محله بعدما فشل بترويض غضبه، فجذب جمال من تلباب ملابسه هادرًا من بين اصطكاك أسنانه:
_النية كانت النقاش بينا بشكل ودي وراقي الفعل هنا إنك هتنضرب وحالًا.
سدد له لكمة قوية أعادته لمقعده الهزاز مجددًا، فاحتضن جمال عينيه بألمٍ وبعينه الأخرى يمنحه نظرة محتقنة بثورة غضبه القاتل.
انحنى تجاهه عمران يحرك رقبته يمينًا ويسارًا مصدرًا صوت طرقعه مخيفة، وسحب نفسًا مطولاً وأطلقه بتنهيدة ثقيلة راسمًا بسمة لم تمس أوتار عينيه ولا معالمه:
_بشمهندس جمال أقدر أعرف عرضي مرفوض ليه؟
دفعه جمال للخلف ونهض يقابله بضيقٍ:
_لإني عارف مغزى عرضك ده يا عمران.
وتابع ومازال يلتحف برداء الثبات المخادع:
_مشروع ضخم زي ده يوم ما تحب تدخل شريك فيه المنطقي هتلجئ لشركة كبيرة ليها إسمها وتقدر تساندك وأعتقد أحمد الغرباوي أو نعمان الغرباوي أكتر اتنين مناسبين ليك ولو انت مش حابب يجمعك بعيلتك أي شغل يبقى المفروض تدور على شركة كبيرة تضيف ليك مش تنزلك!
كتم غيظه من حديثه الذي يستهان من قدرته، وردد بهدوءٍ:
_وإنت شايف إنك هتنزل من مكانتي يا جمال؟
عاد لمقعده يجيبه باتزانٍ وصلابة:
_لا طبعًا.. بس إنت عارف إن شركتي صغيرة ومتقدرش تتحمل ميزانية مشروع ضخم زي ده، يمكن لو من فترة كنت هقدر أدخل شريك معاك لكن حاليًا مقدرش.
وتابع وهو يشير له باستنكار متعجب:
_إذا كان إنت بنفسك اللي شايل تكاليف عملية والدتي لإنك عارف الظروف!!
سحب عمران أحد المقاعد وإتجه بها ليجاوره، قائلًا:
_أنا همول للمشروع ولما نحصد الأرباح هأخد منك المبلغ اللي صرفته.
هز رأسه نافيًا بجنون ما يقول فأسرع عمران بالحديث في محاولة لاستعطافه:
_جمال أنا محتاجك معايا انت وفريقك المشروع ده لو اتنفذ صح شركاتنا هتكون وجهة عالمية إنت مش متخيل أهمية المول ده وموقعه!
استدار بمقعده المتحرك ليكون قبالة جسد رفيقه يخبره:
_هساعدك بكل اللي أقدر عليه بس من غير عقود ولا شراكة، أنا رقبتي ليك يا عمران لكن أرجوك بلاش كده.. احنا من يوم ما دخلنا المجال ده وأنا شرطت عليك إن كل واحد فينا يكون مستقل عن التاني وانت احترمت رغبتي طول السنين دي هتيجي دلوقتي وهتعمل شيء أنا مش راضي عنه، لإن ببساطة العرض ده جاي لاسمك إنت بسبب تعبك ومجهودك الكبير مينفعش أدخل معاك شريك بالغصب وأشاركك نجاحك وتعبك!! متخيل إني أرضالك بالخسارة يا صاحبي!
احتدت معالمه بغضب جامح، وصاح بعنفوان:
_لما مراتي اتهانت في بيت آشيلي بتخطيط من آلكس وقتها طلبت منك تسحب تعاملاتك مع جوزها وبالرغم من إن ده سببلك خساير كتيرة وأكتر من حد خاف يتعامل معاك تسحب اتفاقك زي ما عملت مع جوزها وإنت كنت عارف إن كل ده هيحصلك بس مترددتش ثانية واحدة ووقفت معايا وفي ضهري ورفضت تأخد فلوس الشرط الجزائي اللي دفعتها لوليام فجاي دلوقتي وبتلومني على أيه يا جمال؟؟
ونهض يطرق على سطح المكتب الزجاجي بعصبية بالغة:
_المشروع ده هيجمعنا مع بعض ولو مكونتش معايا فيه ميلزمنيش وإنت عارف إني أد كل كلمة خارجة مني مات الكلام!
انتصب جمال بقامته قبالة الاخير، يهاتفه بدهشة:
_انت بتقارن أيه بأيه؟ بطل تكون عنيد ومتسرع أنا قولتلك إني معاك وهساندك بس مش هقدر أكون شريك كمان أنا الفترة الجاية هكون مشغول مع أمي مش هكون متفرغ!
ضحك ساخرًا:
_دورلك على حجة مقنعة طيب!
زفر بضجرٍ، فقال عمران باصرار:
_يا تكون معايا يا هلغي العقد وانت عارف الاضرار اللي هتطول شركتي لو عملتها…. ها معايا ولا فركش؟
نزع رابطة عنقه وألقاها أرضًا بشراسة ونظراته تكاد تحرق من يقابله، وردد بنزقٍ:
_بني آدم مستفز.
قال ببرودٍ:
_مسمعتش ردك؟
جذب جمال كوب المياه من جواره وألقاه تجاه عمران الذي تفاداه بمهارةٍ وصاح به:
_والله او كسرت المكتب كله ولا يفرق معايا.
وردد مجددًا:
_معايا ولا فركش يا جيمي؟
عانقت يديه وجهه تمسحه عدة مرات فابتسم عمران بخبث وهو يخرج من حقيبته الجلدية ملفًا بني اللون، وضعه قبالته وسحب أحد الأقلام ليضعه بيد جمال المندهش فتساءل:
_ده أيه؟
رد عليه بابتسامةٍ واسعة:
_العقود يا حبيبي.. أنا عامل حسابي لا تفكرني هأخد منك كلمة تسكتني بيها وتخلع عيب عليك ده أنا عمران الغرباوي!
ووجه اصبعه لمكان التوقيع قائلًا:
_وقع هنا يا جيمس!.
زم شفتيه بغيظٍ فغمز له عمران مرددًا كالبغبغاء:
_لو موقعتش مش داخل وهكون بكده بسحب كلمتي مع الناس وإنت عارف بقى ده هيتسببلي في أيه ترضهالي جدع؟!
وجد ذاته يحرك قلمه مدون توقيعه وفور أن انتهى سحب عمران الملف مهرولًا للخارج بابتسامة منتصرة بينما جابت أعين جمال الفراغ ناطقًا بعدم تصديق:
_أنا وقعت ازاي!
******
حملت متعلقاتها فور انتهاء المحاضرة واتجهت للمغادرة، هبطت “زينب” الدرج ومازالت علامات الضيق تحتل ملامح وجهها الرقيق، خشيت أن ما فعلته قد أثار شكوك “علي” تجاهها، خرجت من المبنى واستكملت طريقها للبوابة الخارجية فتسلل لها صوتًا ذكوريًا مألوفًا:
_دكتورة زينب!
رفعت عينيها عن الأرض تتطلع لمن أمامها، فوجدته ذاك الوسيم الذي تعرضه لها الصدف لطريقها المظلم، يبتسم فيزيد من خفقات قلبها الضعيف، والآن يقترب حتى يقف قبالتها فيتسلل لها رائحة البرفيوم الجذابة التي تعتادها منه.
توترت بوقفتها أمامه وخاصة حينما سألها باهتمامٍ:
_ماشية ولا أيه؟
اكتفت بهزة رأسها وتحاشته لتغادر فلحق بها “سيف” مندهشًا من توتر ملامحها وفرارها الملحوظ وكأنها رأت شبحًا، فناداها مجددًا:
_دكتورة زينب!
وقفت محلها ضاغطة بأسنانها على شفتيها السفلية بضيقٍ وحينما شعرت باقترابه إليها مجددًا استرخت ملامح وجهها المشدود ووجهت له وقاحة غير مسبقة:
_خير يا دكتور سيف؟! واضح جدًا من طريقتي إني مستعجلة وحضرتك مصمم إني أقف معاك!!
ضيق عينيه بذهولٍ من طريقتها وبالرغم من فظاظتها الا أنه سألها بقلقٍ من أن يكون أحدٌ تعرض لها:
_مالك يا زينب إنتِ كويسة؟
سددت نظرة حازمة لعسلية عينيه وحاربته بقسوة:
_دكتورة زينب ياريت مترفعش الألقاب بينا ومتنساش إن اللي بيجمعني بيك موقف كنت فيه شهم معايا وشكرتك مرة واتنين يعني خلصنا.. فمن فضلك ابعد عني لآن قربك ده مهد لأخوك إن في شيء بينا فطلبني من علي ليك!!
تلاشت ملامحه الهادئة خلف عاصفة أوقظتها تلك البلهاء، فمال بالبلطو الطبي على ذراعه واعتدل بوقفته قبالتها يرد على اهانتها:
_أنا بعتذرلك إني تجاوزت معاكي وشلت الألقاب يا دكتور أوعدك إنها مش هتتكرر تاني، وبعتذرلك مرة تانية على موقف أخويا وتأكدي إني لو كنت أعرف إني لو وقفت معاكي بالحفلة ده هيخلي يوسف يتقدم لعلي بشكل رسمي مكنتش حضرت الحفلة من الأساس.. عن إذنك.
تركها وغادر وأوردته تثور بها دمائه كالحمم البركانية بينما هي حررت تلك الدمعات الحارقة عن مقلتيها، فانتابها ألمًا قاتلًا جعلها تشعر بالعجز، فتشت زينب من حولها فوجدت أريكة معدنية تجوب أطراف الجامعة كاستراحة للطلاب، اتجهت إليها بخطواتٍ غير متزنة ورؤية مشوشة من فرط بكائها، ليحين دور الذكريات المؤلمة لتخطتفها دون رأفة بحالتها.
##
تخلت عن صمتها وارتشحت بعزيمتها لمواجهته بعد أسابيع من الصمت، كانت تخرج برفقته طوال الأيام الماضية وكلما حاولت أن تحرر سؤالها إليه كان يتحجر على طرف لسانها الثقيل، واليوم تشعر بأنها استكفت من الصمت.
اندهش “يمان” من صمتها الغريب حتى أنها لم تستمع لحديثه المطول لها عن رحلته لمصر وعودته للمغرب مجددًا إليها، فكانت تقلب بالملعقة كوب الشاي من أمامها وعينيها شاردة بالفراغ، فناداها بقلقٍ:
_مالك يا زينب؟
رفعت عينيها المحتقنة إليه ورددت بما تدفنه داخلها:
_يمان إنت اللي ضربت أخويا بعربيتك؟
لم تتأثر ملامحه الباردة بما تفوهت به، بل سحب كوبه يرتشفه بجمودٍ تام مما عزز الرعب داخلها، فتلعثمت بقولها:
_ساكت ليه.. ما ترد؟
ترك كوبه وانحنى على الطاولة المستديرة الفاصلة بينهما متعمدًا الاطالة بالنظر لعينيها قبل أن يخبرها دون ندمًا:
_قرصت ودنه علشان يبقى يمد إيده عليكي تاني ولو اتكررت المرادي هتكون بموته.
جحظت عينيها صدمة وتعصبت حركة جسدها، فأسقطت يدها كوب الشاي الساخن فهوى على ساقيها، ارتدت زينب للخلف وهي تبعد فستانها عن ساقيها بألمٍ ومازالت عينيها متعلقة به بخوفٍ، فانتابتها نوبة من البكاء والرعشة تجعل جسدها كالثليج.
تراجعت للخلف بخوفٍ حينما وجدته يقترب منها بالمحارم في محاولة لمسح الشاي عن فستانها، فرفعت أصابعها إليه تشير له:
_خليك مكانك آآ… أنا هنضف الفستان في الحمام.
قالتها وفرت لحمام السيدات بعدما جذبت حقيبتها، ولجت للداخل تضع الحقيبة قبالة المرآة لتنخرط بنوبة من البكاء وهي تتأمل انعكاس صوتها ويتردد لها جملته المخيفة.
الخوف هو المحيط لها من تلك الشخصية التي بدأت بالسطوع إليها لتكشف جانب حالك، مخيف، لا تعلم ماذا حدث لها فور أن نطقها بوجهها شعرت وكأنها تود الفرار من أمامه فتعمدت اسقاط الكوب عليها لتهرب للمرحاض والآن تستعيد قوتها لتنجو من براثينه، فهرولت من باب المطعم الخلفي مستقلة سيارة أجرة لتعود لمنزلها بعدما أغلقت هاتفها.
انزوت على ذاتها بالفراش وهي تبكي بخوف كلما عادت كلماته لذكراها، ربما كانت بحاجة لوجود رجلًا يحميها من بطش أخيها ولكن ليس بالضرورة يكون قاتل فبالنهاية من سيقتل؟ إنه أخيها بنهاية الأمر! .
بداخلها شعورًا أنه عدائيًا بدرجة تطلب منها الخوف والحذر من قربه ولكن ماذا ستفعل بقلبها العاشق له؟!
انتفض جسد زينب بعنف لذكرى هذا اليوم التعيس لها، فاهتز جسدها بعصبية وعينيها تفتش من حولها بذعرٍ، تخشب جسدها على الأريكة المعدنية ولم تقوى حتى الخروج من الجامعة، كأنها باتت عاجزة عن الحركة، تراقب رحيل الطلاب ببكاء وعقلًا شُل عن التفكير، كل ما تتمناه عودتها لشقيقتها ولكن كيف ومتى لا تعلم!
انتهى “سيف” من محاضرته واستعد للرحيل ومازال يشعر بالضيق لما تلقنه منها، فحمل كتبه والبلطو الطبي على ذراعه ثم أتجه للمغادرة.
اندهش حينما وجدها مازالت بالجامعة، ظنها رحلت منذ الساعتين التي تفرقا بهما، بدد معالمه بحزمٍ وجمود وكاد باستكمال طريقه ولكنه ما أن خطف نظرة سريعة إليها حتى توقف عن المضي قدمًا، رؤية بكائها مزق فؤاده وشل حركته التي تلتحف بالبرود وعدم اللامبالة بها، فكور قبضة يده بغضب من عدم تمكنه بالسيطرة على عاطفته، فوجد ذاته يستدير لها يناديها بصوته الحنون:
_إنتِ كويسة؟
رفعت رأسها إليه فارتسمت بسمة عابرة من وسط سحابة أمطار عينيها، كالتائه الذي لا يعلم أين مبتغاه، همست بصوتٍ متحشرج منخفض:
_سيف!
طُرب قلبه وتذبذب خفقاته من تلك النظرة المتلهفة التي تواجه عسليته، ونطقها لاسمه بذاك الحنين كاد أن يفقده صوابه، حك طرف أنفه بحرجٍ مما يواجه هنا، وتنحنح بخفوت:
_مروحتيش ليه؟
أخفضت عينيها تبكي بصوتٍ كان مسموعٍ له، فاسرع ليجلس على بعدٍ مناسب منها:
_مالك؟ حصل حاجة؟!
استدرت له ورددت ببكاء:
_مش عارفة أروح ونسيت أقول لعلي على معاد خروجي.. حتى موبيلي نسيته!!
لم تكن حجة مقنعة لبكائها الشديد هذا، ولكنه حاول أن يطمنها قائلًا:
_متقلقيش أنا موجود جنبك ومش هسيبك.
رفعت أهدابها لتقابل عينيه المهتمة بها، فقال وهو يستقيم بوقفته:
_اركبي التاكسي معايا هوصلك وبعدها هروح.
هزت رأسها باستسلامٍ غامضًا إليها، ونهضت دون أن تعي لما تحمله على ساقيها فسقطت حقيبتها وكتبها وأغراضها أرضًا، فانحنت تلملم بارتباك ورعشة كل ما تتلقفه يدها.
أمرها سيف بحزمٍ وهو يتطلع من حوله:
_متوطيش.. قومي أنا هلمهم!
انصاعت إليه وتركت ما بيدها ونهضت واقفة، فانحنى هو يلم أغراضها بضيق من انحنائها هكذا أمام الشباب من حولها، غيرة غريبة تجتاحه بقوةٍ فأشعلت به لهيب العشق الخالص لها، لطالما كان حازمًا، صارمًا، لا يتهاون مع أحدٌ طال بكرامته وكبريائه، وبعد ما فعلته به منذ ساعاتٍ كان يقسم بأنها لا تعنيه بعد اليوم، ولكن بمجرد رؤيتها هكذا لان قلبه كالأم التي تستشيط غضبًا على أبنائها وفور أن يمس أحدهم سوءًا تكون أول من تهرول إليه!
انتصب بوقفته بعدما جمع كتبها وحقيبتها، واحتفظ بهم مع أغراضه لشعوره برعشة يدها وارتباكها الغريب، كونه طبيبًا يعلم بأن حالتها وبكائها هذا خلفه سببًا عظيمًا وليس ما قالته هي له.
لحقت به زينب للخارج ووقفت خلفه كالابنة التي تلحق أبيها، حينما ينجرف جانبًا تلحق به دون تفكير أو تسديد رؤيتها إلى أين يذهب؟
أوقف “سيف” سيارة الأجرة وفتح لها الباب الخلفي بينما استقر هو جوار السائق وألقن إليه منزل عمران الذي سبق وزاره برفقة أخيه مرات عديدة.
وإن طال الطريق كان قصيرًا وهو يتأمل انعكاسها بالمرآة الأمامية، مازالت مجهدة يبدو عليها أثر البكاء فكانت تزيل دمعاتها من وقتٍ للأخر، حتى أنها لم تنتبه لتوقفت السيارة أمام المنزل إلى أن نبهها سيف بصوته الدافيء:
_وصلنا.
انتبهت له وهبطت تتجه للداخل ولكنها عادت تقف قبالته تجاهد لرفع عينيها إليه، وحينما فشلت وضعتها أرضًا ورددت بحرجٍ:
_أنا آسفة على الكلام اللي قولتهولك أنا بس كنت مضغوطة شوية.
ورفعت عينيها إليه تستكشف مفعول كلماتها عليه وحينما وجدته جامدًا استطردت:
_وشكرًا لإنك وبالرغم من اللي عملته معاك ساعدتني ومتخلتش عني.
سحب الهواء لأنفه وكأنه ينعش ذاته، وانحنى للخلف يجذب أغراضها وقدمها إليه قائلًا بنبرة جامدة:
_أنا معملتش غير الواجب.. اتفضلي حاجتك.
التقطتها منه بحزنٍ فعلى ما يبدو لم يتقبل اعتذارها، عاد سيف لمقعده آمرًا للسائق بالتحرك وبقيت هي تراقبه بندمٍ لما تفوهت به إليه، عليها الاعتراف بأنه يتسلل داخلها ببطءٍ لدرجةٍ جعلتها تشعر بالخوف من أن يعود ذاك الداء القاتل لقلبها، فإن عاد يخفق بالحب ربما سيعود بها لذاك المطاف المغلق!
*******
انتهى من محادثته المتبادلة مع رفيقه من مصر، يعلمه بها بأنه سيسافر لمصر الاسبوع القادم ليختار فريق المركز الطبي بذاته، أغلق “علي” حاسوبه وانتبه لزينب التي تقف على باب مكتب المنزل تتردد بالدلوف إليه، فنهض عن مقعده ودنى إليها متسائلًا:
_رجعتي أمته يا زينب؟
تجاهلت سؤاله واتجهت إليه باكية تردد بجملٍ غير منتظمة:
_أنا آسفة على طريقة كلامي معاك يا علي، إنت صح أنا فعلًا بحاول أداري اللي اتعرضت له.. أنا كان في حياتي حد يا علي.. حبيته واتعلقت بيه بس حبه ضرني وخلاني أعيش في اضطراب وخوف وكره لنفسي ولكل اللي حواليا.
وتابعت بارتجافٍ مرضي:
_بخاف أوي يا علي بحس إنه حواليا ومعايا في كل مكان، بخاف لما حد بيقربلي.. علي أنا هربت من المغرب وسافرت القاهرة شهرين وقدر يوصلي، هربت المرادي على هنا وأنا متأكدة إنه هيوصلي بردو كلها مسألة وقت.. مسألة وقت يا علي.
الصدمة لم يتلاقها علي فحسب، بل كانت نصيبها الأكبر لذاك الذي عاد للمنزل بعدما انتبه لدفترها الملقي على مقعده فأمر السائق بالعودة، وحينما دق باب المنزل أستقبلته فريدة وأخبرته بأن عمران بالخارج وعلي هو الذي بالداخل بغرفة مكتبه، فأشارت له على مكانها وطالبته بالدخول فكان بطريقه للداخل ليمنحه دفترها وبداخله عزيمة ليعرف من علي أي شيء عن حالتها الغريبة تلك، فشُلت قدميه فور سماعه ما قالت، فاستند على الباب الزجاجي يغلق عينيه بقوةٍ ويستمع لها تخبره:
_هيقتلني يا علي… يمان هيقتلني لو وصلي المرادي.
عجز علي عن السيطرة عليها، فردد برزانة:
_اهدي يا زينب… مفيش مخلوق يقدر يمس شعرة منك وانتي هنا وسطينا.. اهدي وخدي نفسك عشان حالتك متسوئش.
هزت رأسها نافية واستندت على ذراعه حينما تمايل جسدها، لتحرر ما كبت داخلها حتى وإن كان مبعثر، غير منتظم كحالتها:
_خدعني ودخل حياتي.. رسم عليا الحب ووعدني إنه هيحميني بس الحماية دي طلعت مؤذية أوي يا علي، أي حد بيقربلي بيأذيه، أخويا رفع إيده عليا ضربه بعربيته وأخرهم واحد عكسني وأنا معاه ضربه بالنار قدام عيني، ولما طلبت منه يسبني هددني بمية نار وكان هيعتدي عليا لولا إني هربت منه.
وسقطت على ركبتها تردد بانهيارٍ:
_ كل ما بهرب منه بيلاقيني وبيعاقبني.. المرة اللي فاتت هددني إني لو هربت هيقتلني وأنا هربت منه.. كرهته وكرهت الحب وكرهت التملك اللي عنده… كرهت حياتي يا علي ومقدرش أحكم على شخص محترم زي سيف بالموت.. هو ميستهلش الأذية دي يا علي… يمان هيقتله وهيقتلني!
تأثر بها علي، فربت على ظهرها بحنانٍ وهو يحاول تهدئتها:
_ أقسم بالله قبل ما ايده تلمسك لأكون قطعهاله.. أنا مش قولتلك قبل كده أنا أخوكي وسندك.. اطمني يا زينب انتي مش لوحدك.
تعالت شهقاتها بانكسارٍ وفاضت إليه برعشةٍ اهتز جسدها بأكملها إليها:
_أنا حاسة إني عايشة في كابوس ومش قادرة أصحى منه يا علي، نفسي أتكلم وأخرج اللي جوايا بس مقدرش أشيل فاطمة أكتر من اللي شيلاه.
أمسك بها وعاونها على الوقوف متعمدًا الضغط على حروفه:
_زينب بلاش تعيشي نفسك في الضعف ده اللي فات من حياتك ادفنيه ومتخلهوش يأثر عليكي، أنا جاهز أسمعك وأساعدك بس مش وانتي في الحالة دي.. عايزك قوية زي ما اتعودت أشوفك.
منحته ابتسامة صغيرة وهي تهز رأسها بخفوتٍ، فتابع وهو يشير لها:
_يلا ادخلي اغسلي وشك في حمام المكتب مش عايز فطيمة تشوفك وانتي في الحالة دي.
تحاملت على ذاتها واتجهت للحمام الصغير التابع لغرفة مكتبه ونظرات علي تتابعها بحزن حتى اختفت للداخل.
بينما بالخارج ابتلع تلك الغصة القاتلة التي استحوذت عليه، يعلم بأنه لم يصل لدرجة الحب فيما بينهما، ربنا أُعجب بها منذ لقائهما الأول ووجدها زوجة مناسبة إليه من عدة مناظير، ولكن الآن يشعر بالحزن والشفقة عليها.
حرك كتفيه وكأنه يعدل من هيئته مستعيدًا ثبات ملامحه الرجولية، طرق على الباب الزجاجي مرتين متتاليتين ومن ثم ولج للداخل يرسم ابتسامته الزائفة:
_دكتور علي.
نهص علي عن مقعده بابتسامته البشوشة، قائلًا بدهشةٍ:
_سيف مش معقول!
صافحه بترحابٍ فرفع سيف الدفتر إليه يبلغه بحرجٍ:
_الدفتر ده وقع من دكتورة زينب بالجامعة كنت هديهولك بالليل لما تيجي عشان حوار أيوب بس كنت لسه قريب من البيت.
التقطه منه علي بامتنان بدى بنظراته قبل نبرته:
_شكرًا لاهتمامك يا دكتور سيف.. وبمناسبة لقائنا فانتظرني نص ساعة بس أغير هدومي وأجي معاك نفوت على المحامي ونطلع على الشقة.
جذب المقعد المجاور لمكتبه وهو يجيبه:
_خلاص هستناك ونروح سوا.
منحه ابتسامة جذابة وإتجه لباب الحمام الموصود يطرق عليه وهو يناديها بلطف خشية من أن يصعد للأعلى فتتفاجئ بسيف بالخارج:
_زينب انتي كويسة؟
تابعه سيف باهتمام رغم أن نظراته منصوبة للامام، فتحت الباب وهي تجفف وجهها بالمناديل الورقية:
_بقيت أفضل يا علي.. تسلم.
قدم لها ما بيده وأشار تجاه المقعد القريب منهما:
_دكتور سيف جابلك الدفتر ده بنفسه.
رفعت مقلتيها تجاه ما يشير فتفاجئت بسيف يجلس وهو يوليها ظهره، تناولته من يد زوج أختها ورددت بتوتر:
_شكرًا على تعبك يا دكتور.
تنحنح بخشونة يجيبها دون أن يلتفت:
_العفو.
جذبت زينب باقي أغراضها وصعدت للأعلى، واتبعها علي بعدما هاتفه:
_مش هتأخر يا سيف.
قال الاخير وهو يعبث بهاتفه:
_خد راحتك يا دكتور.
صعد علي للأعلى وتبقى سيف شاردًا فيما استمع اليه منذ قليل وبداخله اصرار وعزيمة على أن يرافقها بطريقها للنهاية حتى وإن كان مطعم بالعوائق والصعاب!
******
مررت أصابعها حول سلساله الجلدي الأسود بشوقٍ وحنين إليه، تفتقده بشكلٍ يجعلها تود البكاء دونه، جذبت “شمس” هاتفها وآرسلت إليه رسالة وهي لا تملك الأمل بأن يجيبها
«آدهم أنا عايزة أشوفك.. عشان خاطري محتاجة أتكلم معاك.»
ألقت هاتفها وهي تضم السلسال إليها الى أن أتاها صوت رسالته التي أحيت نبض قلبها
«خير يا شمس.. في حاجة؟»
ردت عليه
«هو في أكتر من إني أكون محتاجالك يا آدهم!!
بقولك عايزة أشوفك صعبة دي!!»
أجابها على الفور
«شمس سبق وأتكلمنا وقولتلك مينفعش نتقابل ولا نشوف بعض لحد ما أجي عندكم البيت وأقابل فريدة هانم ودكتور علي وأطالبك بشكل رسمي، أنا مش الانسان اللي بيخالف عادتنا وتقليدنا وقبلهم أخلاقي اللي اتربيت عليها من فضلك قدري ده ولو في شيء مهم قوليلي حالًا»
كتبت بعصبية كادت باحراق هاتفها
«أنت ليه بتبالغ بالشكل ده!! وليه بتحسسني إني لما هشوفك هعمل شيء يشيلك ذنوب أو يقلل من أخلاقك.. خلاص يا آدهم أنا اللي مش عايزاك ولا عايزة أشوفك..»
وأغلقت هاتفها ودموعها تنهمر على خديها بألمٍ، تشعر وكأن ما يفعله ليس الا تهربًا منها على الرغم من أنه طلب بالزواج منها من فريدة، ولكن ابتعاده التام عنها دون أن يحدثها حتى يزعجها ويجعلها تشعر بأنه لا يرغب بها وكأنها من فرضت ذاتها عليه!
*****
صف عمران سيارته أمام شركته ينتظر أيوب الذي خرج إليه مبتسمًا، احتل المقعد المجاور إليه فتحرك به عمران وهو يسيطر على أعصابه المشدودة بصعوبة بالغة.
تعجب أيوب من صمته الغريب ولكنه كان أفضل من أن يمنحه سباب لازع ومواعظ ستعيق بينهما الاجواء.
خاب أماله حينما ضغط عمران الفرامل بكل قوته جعلت الاخير يكاد يرتد للأمام من توقفه المفاجئ،استدار عمران إليه يخبره بنبرة شبيهة بالرجاء المنفر:
_راجع نفسك يالا.. لو مش لاقي أي حجج أنا ممكن أخطفك كام يوم عشان يكون معاك سند قوي للحلفان انك اتخطفت فعلًا.
مرر يده على جبينه وهو يستند للخلف بإرهاق لحق همسه الخافت:
_تاني يا عمران.. تاني!!!!
وتهدل ذراعه بانهاكٍ تام مسترسلًا:
_أنا تعبت أقسم بالله تعبت من الكلام والتبرير ليك… أقولك نزلني أركب تاكسي أفضل من التعب ده.
جذبه بغضبٍ شرس:
_اتلقح مكانك لأعلم عليك… متسربع على أيه بروح أمك!!!
مرر يده بخصلات شعره الطويل يحاول تقبل الأمر للمرة المائة والحادية والعشرون وحينما فشل استدار إليه يجذبه من تلباب قميصه بعنف:
_اتجوزها يا أيوب بس وأقسم بالله العلي العظيم لو استهبلت فيها وقربت لبنت ال*** دي لأكون قاتلك.. الجوازة معروف سببها يبقى تسيطر على نفسك كده وتخليك بعيد سامعني يابن الشيخ مهران؟
انفجر ضاحكًا وهو يهز رأسه موافقًا حتى أدمعت عينيه فدفعه عمران لمقعده وعاد للقيادة بانفعالٍ من صوت ضحكاته الصاعدة، طرق أيوب كفًا بالأخر وقال ساخرًا:
_كنت بتلوم على سيف وغيرته عليا إديك قلبت على الزوجة اللي خايفة جوزها يدخل على ضرتها!!
لكزه عمران هادرًا بغضبٍ:
_اظبط بروح أمك.. تحب أركن على جنب وأنزل أوريلك الرجولة اللي على أوصلها وبعدها ابقى قابلني لو كان فيك حيل تخطي نحية اليهوديه بنت ال** دي!
وتابع وهو يتحكم بالمقود:
_أنا نفسي أفهم عرفتها من أنهي داهية دي، مالقتش الا عمها شغال في الجيش الإسرائيـ**لي، ده سفاح يا ابني!!
تنهد أيوب بتعبٍ، فمال على النافذة يتحكم بصمته تاركًا عمران يخرج ما بداخله مستنزفًا كل مجهوده في محاولة لاقناعه، وبالرغم مما بذله الا أنه وجده يتثاءب ويغلق عينيه استسلامًا للنوم مما جعل الاخير يقتاد غيظًا، فانحنى يجذب زجاجة المياه وفك غطائها بفمه ملقيها على وجه الأخير وهو يصيح بغضب:
_هو أنا بحكيلك حدوتة قبل النوم بروح أمك!!!!
زفر أيوب بحنقٍ:
_يادي روح أمي اللي انتي مسكهالي آه لو الحاجة رقية سمعتك هتخليني أقطع علاقتي بيك، اذا كانت منعتني من نزول الحارة لمجرد إن واحد من اصحابي قالي شتيمة بريئة أمال لو قعدت معاك شوية هتعمل أيه؟
منحه نظرة ساخرة مضيفًا بعنجهية:
_ادعي ربنا إنها متقابلنيش، هتزور إنت وأبوك محكمة الآسرة لأول مرة، عمران الغرباوي بيبقى جنتل مان وقت ما بيحب وده هيخلي قلب الحاجة ميشوفش غيري..
واستطرد وهو يعدل بذلته بغرور:
_وجودي هنا بعيد عن مصر مانع كوارث كتيرة هتحصل لو نزلتها.. هتلاقي محكمة الآسرة بتروج من كتر قواضي الطلاق لدرجة إنهم هيبوسوا ايدي إني أرجع لندن وأرحمهم!
زوى أيوب حاجبيه بتهكمٍ، فهز عمران رأسه حالفًا:_آه والله يا ابني.. ومش بعيد تلاقي القاضي واقف مع التيم ومش لاقي اللي يحكم في قضيته هو كمان لإن مراته انضمت لمعجبات عمران سالم الغرباوي.
ابتسم أيوب وصاح بنزق:
_عمران انت حد قالك قبل كده إنك مغرور؟
غمز له بمشاكسة:
_لأ.. اتقلي إني وسيم وجذاب ومعاكسات تانية من الحريم عيب تسمعها وإنت في السن ده!!
تمادى في الضحك وهو يهز رأسه بقلة حيلة مرددًا:
_انت مش طبيعي!!
*******
اجتمع الشباب بأكملهم بشقة سيف، وبعد أن جهز المحامي عقود الزواج تم عقد زواج أيوب على آديرا بشكلٍ قانونيًا، فاستغل عمران وجود محامي عائلته وجعله يجهز أوراق تخص فض الشراكة بينه وبين نعمان الغرباوي، فاتفقا على أن يزورهم المحامي بالغد بعد أن يجهز الاوراق، وفور أن غادر جلسوا جميعًا بالصالون تاركين ليلى بالداخل برفقة آديرا تنتظر ما سيفعلونه الآن.
حطم آدهم جلسة صمتهم بعد أن أخرج من جيب جاكيته الأسود مفتاحًا وضعه على الطاولة الموضوعه بالمنتصف قائلًا:
_ده مفتاح شقتي يا أيوب خد مراتك واقعد فيها لحد ما التلات شهور دول يعدوا وترجعوا مصر.
اعتدل بجلسته رافضًا ما يقدم آدهم على فعله:
_لأ طبعًا مش هقدر أعرضك لخطر زي ده يا آدهم إنت بنفسك لسه كاشفلنا منصب عمها يعني الخطر اللي هتعرضله كبير ومش هين فانسى إني أقبل أعرض حد فيكم لخطر زي ده، مش هقبل مساعده من حد فيكم.
رد عليه آدهم بهدوء:
_شقتي آمن مكان ممكن تكون فيه يا أيوب، متنساش إني بشتغل في المخابرات ومأمن الشقة دي كويس جدًا فمستحيل حد يوصلك هناك ده أولًا… ثانيًا أنا نازل مصر الاسبوع الجاي يعني مفيش خطر هتعرضله من الاساس، وحاليًا أنا قاعد مع سيف والشباب هنا.. هنزل معاك دلوقتي أخد هدومي عشان هسافر، من هنا على طول.
أضاف يوسف موكدًا:
_كلام آدهم عين العقل يا أيوب، إنت لازم تتدارى الفترة دي على قد ما تقدر لحد ما ترجع مصر، وأكيد شقته أمن مكان لأنه كان متخفي هنا.
قال علي بعقلانية:
_هروب آديرا من عمها هيزود العداء اللي بينك وبينه عشان كده لازم تتحرك بسرعة وتبطل تظهر كتير لحد ما تمتحن وتنزل على مصر.
ردد سيف بحزن:
_يعني أيه؟ مش هعرف أشوفه ولا هعرف عنوانه؟
أجابه أيوب بحنان:
_لا طبعًا مش هقدر أكون بعيد عنك يا سيف.
ووزع نظراته بينهم وهو يتابع بحرج:
_ولا عنكم.. أكيد هجي أشوفكم كلكم.
زم عمران شفتيها مرددًا بسخطٍ:
_الله وكيل ما هنبقى طايقين نشوف خلقتك يا جوز العبرانية!
حذره علي بنظرة صارمة، فصاح بتهكم:
_مش على معدتي الجوازة دي يا علي الله!!
ضحك جمال وقال:
_حرام عليك يا عمران قتلت البنت من الخوف وهي بتوقع على العقد، هترضى عنه أمته!
وضع ساقًا فوق الاخرى مرددًا:
_هرضى عليه لما يطلقها ويتجوز بنت متدينة تليق بيه.
ضحك يوسف وقال بسرور:
_طيب يا عمران بما انك مكتئب كده أيه رأيك تغنيلنا أغنية بطعم المرار الطافح اللي سقيه للواد ده!
تعالت الضحكات الرجولية فيما بينهم، ونهض علي يشير لأدهم قائلًا:.
_الوقت اتاخر يالا يا سيادة الرائد نوصل أيوب لشقتك وأرجعك هنا تاني.
انتصب أيوب بوقفته وقال:
_ثواني هجيب آديرا.
لوى عمران شفتيه حانقًا:
_سبها هنا تبات مع سيف وروح عند آدهم ادرى أهو لو عمها وصل لهنا حلال فيه وفيها القتل.
سعل سيف بقوةٍ وصاح بلهفة:
_ميبقاش قلبك أسود يا عمران مش اعتذرتلك وبوست رأسك قدام الرجالة دي كلها؟
منحه نظرة ساخطة غير راضية:
_معفتش عنك لسه، ايدك تقيلة ومعلمة في وش استاذك اللي شربك الصنعة!
وضع كوب العصير على الطاولة ونهض يجذب أخيه عن الاريكة ليجلس هو جواره قائلًا:
_طب قولي أعمل أيه عشان تتصافى؟
ارتشف من كوبه بتلذذ مستفز، وقال:
_تروح تبات مع صاحبك أو تجبره يأخد منوم عشان أنا شامم ريحة الحب فايحة من بوقه ومش مطمنله.
برق علي بصدمة من حديث أخيه الجريء وصاح يحذره:
_عمران ميصحش!!
نهض يقترب منهم:
_أمال أيه اللي يصح يا دكتور لما تلاقيه داخل عليك يبشرك بحمل اليهودية ونقف نتفرج على انتاجه؟!
احمرت بشرة أيوب حرجًا، فوزع نظراته بين الشباب بتوتر لحق نبرته:
_حلفتله إني مش هعمل كده ومش مصدقني والله!
ربت آدهم على كتفه وهو يهمس له:
_ولو حصل دي مراتك!!
هز اصبعه بالنفي القاطع:
_أقسم بالله ما في دماغي الكلام ده أسمعني يا آدهم انا مش هكمل معاها أساسًا أنا وبنت عمي شبه مخطوبين والمفروض اني هخلص تعليمي وهنزل أخطبها بشكل رسمي.
قال علي بابتسامة مشفقة على ارتباك أيوب:
_متبررش للوقح ده حاجة يا أيوب، ادخل هات مراتك وتعالى.
دعس عمران قدم سيف المجاور له وهو يهتف بغيظ:
_هيقولي مراته بردو!!
تأوه سيف بصراخ رعبهم وفاض بعصبية:
_وأنا ذنب أهلي أيه يا عمران.. أنا سنجل وهفضل طول عمري سنجل اطمن!
صرخ يوسف بتعصب:
_لاااا متقولش كده ده أنا أروح فيها.. هجوزك يالا والله العظيم لاجوزك!!
ضرب جمال كف بالاخر وأشار لعلي:
_يلا ننزل يا دكتور لحسن مخهم ضرب بسبب الطاووس الوقح ده.
هبطوا معًا للاسفل بينما ولج أيوب لغرفة آديرا، فاقترب منها يخبرها بثباتٍ:
_سنرحل من هنا.. هيا.
هزت رأسها له، واتكأت على طرف الفراش في محاولة للنهوض، فتناثرت دموعها جراء ألم بطنها، كانت ليلى أول من ركضت إليها تخبرها:
_هل ستتمكنين من المشي؟
نفت بهزة رأسها والألم يعتصر ملامحها، فانحنى أيوب يحملها بين ذراعيه وانطلق للمصعد وآديرا تتطلع له بصدمة جعلت عينيها تبرقان بشكلٍ مضحك، ذاك الشاب الذي كان يرفض اقترابها منه ويحذرها بالابتعاد يحملها ويمضي بها هكذا.
ارتابت من أمره وخشيت أن يلقي بها بأي وقت، فما أن توقف بها وخرج للسيارات حتى لفت ذراعيها من حول رقبته وهمست له بخوف:
_ هل ستلقي بي أمام احدى السيارات لتقتلني ما الذي تخطط له أيها الإرهابي!!
اندفع تجاهها عمران يصيح بشراسة قاتلة:
_أقسم بالله الواحد الأحد إنني سأقتطع لسانك القذر هذا إن سب أخي بالارهاب، الإرهابي هذا هو عمك الحقير يا امرأة!!! وإن خدعك بأننا إرهاب دعيني أريكِ ما أنا بصانعه لكِ الآن!
ارتعبت آديرا حينما وجدته أمامها فشددت من لف ذراعيها حول أيوب وهي تترجاه:
_يا ويلي هذا الشرس سيقطع لساني.. أيوب أتوسل إليك أعدني لشقتك أو لعمي أنا راضية بما سيفعله ولكن صديقك هذا مخيف للغاية!!
فشل بكبت ضحكاته بينما دفع علي عمران لسيارته بحدة:
_عمران كفايا كده.. يلا ارجع البيت وأنا شوية وهحصلك.
منحها نظرة قاتلة وردد وهو يشير على رقبته بحركة مخيفة:
_انتبهي لما ستقولين بحقه والا سأنحر عنقكِ.
لعقت شفتيها وهتفت له:
_اطمئن لن أكررها مجددًا أعدك!!
ضحك جمال وشاركه يوسف الذي أحمر وجهه من فرط الضحك، بينما صعد آدهم بسيارة علي وبالخلف أيوب وآديرا التي تراقب أعين عمران برعبٍ وكأنها ترى شبحها القاتل!
اتبع علي الطريق الذي شرحه له علي حتى أوصلهما واتجه بآدهم ليعود به لشقة سيف ولكنه تفاجئ به يخبره:
_دكتور علي هو أنا ممكن أطلب منك طلب؟
استدار إليه باهتمامٍ:
_طلب أيه؟
*******
بغرفة زينب.
اتجهت لفراشها تستعد للنوم فدق هاتفها برقمٍ مجهولٍ، رفضت اجابته وتركته على الكومود فوصل لها رسالة جعلتها تستقيم بنومتها ففتحتها وهي تقرأ محتوياتها، فشهقت بصدمة جعلتها تنهض عن الفراش وهي تصرخ برعبٍ ومحتوى الرسالة تلحق برأسها فجعله يدور كالمزلاج
«أنا رجعت يا حبيبي اشتقتيلي!. »
يتبع…
حملت الهاتف بين يدها وهرولت للخارج بعدما طرحت حجابها على رأسها بعشوائيةٍ، هبطت “زينب” للأسفل تبحث عن مغيثها بمكتبه السفلي، وحينما لم تجده خرجت تلهث بتوترٍ كاد أن يصيبها في مقتلٍ، وكأنها فقدت عقلها وكل زمام أمورها.
ولج “عمران” للداخل بعدما مرر مفتاحه بباب المنزل الداخلي، فلفت انتباهه حالتها المذرية، شملها بنظرة خاطفة ودنى إليها يسألها بقلقٍ:
_أيه اللي مسهرك لحد دلوقتي يا زينب موركيش جامعة الصبح ولا أيه؟
أسرعت إليه تسأله بلهفةٍ التمسها عمران:
_علي.. عايزة علي.
بالرغم من عدم تنساق جملتها وحالتها الغامضة الا أنه أجابها بهدوء:
_بيوصل واحد صاحبنا وزمانه راجع.
وسألها باهتمامٍ بالغ:
_في حاجة ولا أيه.. قلقتيني!
ارتعشت أصابعها المُمسكة للهاتف حتى كاد بالسقوط عن يدها، فرفعت يدها إليه وهي تردد بتوترٍ وارتباك:
_رجع… يمان رجع.. هيقتلني هو وعدني إني لو هربت هيقتلني!
تحفزت معالمه وانصاع لكلماتها المهاترة، فالتقط عنها الهاتف وهو يشير لها:
_اهدي بس وفهميني مين يمان ده؟ وهيقتلك ازاي الدنيا سايبه بروح أمه!!!
أضاءت شاشة هاتفها من أمامه ليتفاجئ من رسالته الاخيرة يتبعها رسالة أخرى وصلت للتو
«فاكرة انك هتعرفي تهربي مني، انتي لو في أخر الدنيا هجيبك وهعاقبك يا زينب!»
حرر عُمران زر التسجيل وصاح بعنفوانٍ قاطعٍ:
_عقاب أيه يابن ال** لو دكر اظهر وشوف هعمل فيك أيه؟ وإبقى اتعب نفسك وإسأل عن عمران سالم الغرباوي كويس وتأكد إن أبويا مات قبل ما يربيني فلو باقي على روح سبايدرمان اللي جواك دي اظهرلي وأنا أوريك مين فينا اللي في وضع يسمحله بالتهديد يا و***.
أبعد الهاتف وهو يراقب وصولها إليه، فتأكد من سماعه لرسالته وانتظر أن يجيبه وحينما لم يجيب عاد عُمران يسجل له تحت نظرات زينب المصعوقة من تحوله المفاجئ لشخصٍ أخافها هي شخصيًا وانطلق يستكمل:
_أيه يا دكر صوتك راح فين!! كويس إنك قلبت دكر بط كبيرك يزغطوك في بوقك، بس عشان أنا راجل وقد كلمتي هبعتلك عنوان بيتي اللي عايشة فيه زينب لو حسيت إن كلمة دكر بط هانتك ومست رجولتك تعالالي نتفاهم.
وقدم لها الهاتف مضيفًا:
_لو بعتلك حاجة تاني مع إني أشك ناديلي أنا مريح فوق.
التقطت منه الهاتف بفمٍ مفتوحٍ، واكتفت بهزة رأسها بخفة وهي تتابعه يغادر للأعلى مطلقًا صفيرًا متراقصًا بينما يده تلهو بمفاتيحه باستمتاعٍ.
دقائق استغرقتها واقفة جامدة محلها هكذا لتفق على صوت “علي” القادم من خلفها:
_زينب بتعملي أيه هنا بالوقت ده؟
انتفضت بوقفتها بفزعٍ وأشارت له بعدم اتزان كلماتها:
_يمان عرف مكاني وبعت هددني وعمران آ…
ابتلعت باقي كلماتها بحرجٍ دفع علي يتساءل بخوف من اندفاع أخيه:
_عمل أيه عمران!
قدمت له الهاتف ليتمكن من ايجاد الاجابة المناسبة لسؤاله المحرج، قرأ علي مضمون رسائله، واستمع لفويسات أخيه ببسمة جعلته يشعر بالانتشاء، فقدم لها الهاتف قائلًا:
_عُمران مخلاش كلام يتقال من بعده.. اطمني يا زينب ومتقلقيش مش هيمس شعرة منك زي ما وعدتك… يالا اطلعي نامي عشان تقومي لجامعتك فايقة.
هزت رأسها باسمة وغادرت للأعلى، بينما ردد علي ساخرًا:
_مربي بلطجي أنا!!!
*******
تسلل عُمران للداخل على أطراف أصابعه حاملًا بين يده جاكيته وحذائه الفاخر، فتحرر ضوء الغرفة بمكبس ريموت تحمله مايا بيدها قائلة بسخرية:
_مفيش داعي تتسحب يا حبيبي أنا صاحية.
ألقى ما بيده مزعنًا ثباته المخادع، فتهدلت شفتيه مبتسمة رغمًا عن جمود معالمه، واقترب يردد:
_حبيب قلب جوزه مش جايله نوم من غيره يا ناس!!
زمت شفتيها ساخطة على محاولته الواضحة للضحك على عقلها:
_متحاولش يا عمران أنا زعلانه منك.. النهاردة قولت إنك مش نازل الشركة فخمنت إنك حابب تقضي اليوم معايا ودلوقتي رجعالي وش الصبح!
حاوط وجهها بيده ورماديته تحتضنها رغمًا عن تباعد جسدها عنه، فاستند بجبهته على جبهتها يهمس لها:
_حقك عليا يا بيبي أنا مقصر معاكِ عارف.. النهاردة كان كتب كتاب أيوب على البنت اللي حكتلك عنها وانشغلت معاه وكنت أتمنى أعوضك بكره بس هكون مع جمال بالمستشفى عشان عملية والدته بعدها على طول هكون ملكك لوحدك أي مكان هتشاوري عليه هأخدك ليه وإنتي بين أحضاني… ها مرضي يا حبيب قلب عمران؟
زار ثغرها ابتسامة عذباء وهزت رأسها إليه فضمها بكل قوته مرددًا بنبرة صادقة:
_كله يهون الا زعلك يا حبيب قلبي!
تعلقت به وهي تميل على عنقه دافنة ذاتها داخله، فاستغل فرصة بقائها داخله ليهاتفها بنبرة الغرام فتفاجئ بها تبتعد عنه وهي تشير إليه بخجل:
_لأ.. أنا من ساعة اللي حصل أخر مرة وأنا مرعوبة.. خليك بعيد أفضل.
زوى حاجبيه بدهشةٍ وجذبها إليه مجددًا يخبرها:
_نعمان غار في داهية وبكره واحنا في الشركة هنوقعله العقود وبعدها هنبه عليه معتش يورينا وشه تاني.. وبعدين أنا مش عايزك تبعدي عن حضني بالشكل ده تاني يا مايا.. معقول تكوني خايفة وانا معاكِ وانتي بين ايديا!!
رفعت ذراعيها لتحتضنه فوجدته يبتعد عن الفراش بضيقٍ من تصرفاتها، واتجه لخزانته يبدل ملابسه بصمتٍ.
نهضت عن الفراش ولحقت به تناديه بدلالٍ:
_عُمران.
سدد لها نظرة محتقنة من رماديته ونزع عنه قميصه يتجاهل وجودها مما عزز غضبها فجذبته بقوة إليها مرددة بغيظٍ:
_بناديلك يا بارد!!
تغاضى عن كلماتها الأخيرة قاصدًا الانتقام منها، فغمز لها بمكرٍ:
_غريبة الكلمة دي متقالتليش من أي ست غيرك!
احتقن وجهها بغيرة ظاهرة مما أرضى غروره فانطلقت ضحكاته الرجولية تجلجل على احتقان معالمها لسوء فهمها لجملته وهذا ما راق له.
اندفعت إليه مايا بكل غيظها تضرب صدره بقوةٍ وتسدد له لكمات تحيط بصدره الصلب، انفصلت عنه ضحكاته وتبلدت معالمه مما دفعها للاستغراب، فسحبت يدها وراقبت ملامحه بدهشة.
رفع عمران يديه يحاوط جانب وجهها ومازالت الجدية تنحر ملامح وجهه المنحوت، ليخبرها بثباتٍ شعرت بأنه يجاهد به أمامها:
_مايا أوعي تمد إيدك عليا تاني لا بهزار ولا جد أنا مش عايز أذيكِ!
رمشت بعينيها بتوترٍ وخوف، فضمها إليه وهو يخبرها بحنان:
_حبيبتي الهزار لو بدأناه بالضرب والاهانة هيكون ده مفهوم حياتنا الطبيعي، أنا زي ما بحترمك وعمري ما مديت إيدي عليكِ إنتِ كمان لازم تحترميني يا مايا.. أوعديني متعملهاش تاني.
هزت رأسها من بين أحضانه وهتفت بخجل من تصرفها الذي ضايقه لحدًا لم تتوقعه:
_أنا أسفة.
دفنها داخله وهو يهمس لها:
_وأنا كمان آسف لو كلامي ضايقك يا حبيب قلبي.. وأدي رأسك أهي.
وطبع قبلة عميقة على جبينها جعلتها تبتسم إليه بحبٍ، فانحنى يحملها إليه وهو يردد بخبث:
_حبيب قلب جوزه قلبه قسى عليه وشكله كده لسه زعلان منه!
أشارت له نافية الا أنها عاد بها للداخل يجذبها للاندماج برفقته بدوامة عشقهما التي سحبتهما بخوفها بترحابٍ.
*********
ولج “علي” لغرفته فوجدها تجلس على الأريكة مندمجة بقراءة أحد الكتب بتركيزٍ تام، وما أن تخلل لها رائحة البرفيوم خاصته حتى أغلقت عينيها تسحب نفسًا بعبقه الخاص هامسة بعشقٍ:
_علي!
فتحت عينيها فوجدته يستند على الكومود، مربعًا يديه أمام صدره، يتطلع لها بحنينٍ عاشق، راق له شعورها به وتسلل رائحته التي بات يدمنها لأجل تعلقها وحبها الشديد لها، فما أن نطقت إسمه حتى تبسم بجاذبيته الخاطفة، ودنى يستند على المكتب مرددًا بصوته الرخيم:
_مش قولنا ممنوع السهر يا فاطيما هانم! ولا الكتاب ده عمل اللي مقدرتش أعمله وخلاكي منجذبة ليه كل الوقت ده!
وانتصب بوقفته يسترسل بحزنٍ مصطنع:
_أنا شكلي كده هغير من الثقافة والكتب وأي شيء يلفت نظرك!
نهضت تلحق به وهي تغلق الكتاب قائلة بصوتها الهادئ:
_مش هقرأ تاني لو ده هيزعلك يا علي.
التفت لها ومازال محتفظ بأثر ابتسامته:
_لأ يا حبيبتي اعملي اللي يخليكِ مرتاحة وتأكدي إن ده هيسعدني.
ابتسمت واتجهت لطرف الفراش تنتظره لحين أن ينتهي من حمامه الدافئ، فخرج يجفف خصلات شعره الطويل لرقبته وهو يتفحص انعكاسها بالمرآة، فاتجه ليحتل مكانه قائلًا بنظرة دافئة:
_عايزة تقوليلي أيه وربكك بالشكل ده!
وكأنها كانت تنتظره أن يشعر بتوترها كالمعتاد منه، فقالت:
_أنا خايفة يا علي.. مش حاسة إني هقدر أنزل مع عمران ومايا بكره الشركة.. خايفة يحصل شيء يحطني أنا وعمران في موقف محرج.
وزمت شفتيها بتيهةٍ:
_انت فهمني!
فرق ذراعيه وضمها إليه يخبرها بحنانٍ رزين:
_مفيش حد في الكون ده كله فهمك أدي يا فاطيما.. بس أنا عايزك تتأكدي ان الخطوة دي مهمة ليكي، لازم تختلطي بالعالم الخارجي يا فاطمة مينفعش عالمك يتوقف عليا أنا بس.. اندمجي مع مايسان وعمران وخليكِ متأكدة إنهم أهل ثقة وأكيد عمران هيقدر حالتك وهيأخد احتياطاته.
مالت برأسها على صدره وتعلقت به، اعتدل بمنامته وضمها إليه هامسًا بحبٍ:
_نامي يا حبيبتي بكره مستنيكِ يوم مهم.. ومتقلقيش أنا جنبك ومعاكِ.. مش هسيبك أبدًا يا فاطمة!
أغلقت عينيها باسترخاء وسرعان ما غفت بين ذراعيه فطبع قبلة على رأسها وأغلق عينيه هو الأخر باستسلامٍ.
******
رفعها عنه ووضعها على الوسادة بحذرٍ، ثم جذب التيشرت الخاص به يرتديه، سحب عُمران هاتفه وخرج لشرفة غرفته يحرر زر الاتصال ويرفع سماعته لاذنيه بترقب لسماع صوت المتصل به، فأتاه بعد دقيقة يجيبه بنعاسٍ مرهقٍ:
_عمران!! خير في أيه!
أجابه بسخطٍ وهو يميل للسور الحديدي:
_أخبارك يا عريس… أمورك تمام؟
اتاه صوته المتعصب:
_متصل بيا الساعة تلاتة الفجر تقولي أخبارك!! عمران انت عايز أيه أنا تعبان ومرهق ولازم أكون عند استاذ ممدوح الساعة 8الصبح!
واسترسل أيوب قبل أن يأتيه رد عمران الوقح:
_اطمن أنا نايم في أوضة لوحدي ومحصلش حاجة لإني ببساطة عمري ما هعملها ونفسي تصدق ده!! الشباب كلهم مصدقيني وانت الوحيد اللي مصمم على اللي في دماغك معرفش ليه؟!
استدار عمران يولي السور ظهره وهو يراقب زوجته الغافلة على فراشها بنظرة عاشقة، فاضت بنبرته الهامسة لأيوب:
_لآن محدش شايف النظرة اللي بتداريها جوه عيونك غيري، بتحاول تقنع نفسك إنك مبتحبهاش وبتنفر منها بس في شيء جواك بيثور عليك كل مرة وبيقولك إنها مالكة جزء منك إنت متعرفهوش، جواك شيء بينبهك بالعاصفة اللي جايلك تحاربك بكل قوتها وهتبان قدامها ضعفك وفقدان سيطرتك على قلبك ونفسك!
_ببساطة فاهمك لإني خضت نفس التجربة قبل كده بس الفرق البسيط إن الانسانه اللي كنت بحارب نفسي عشان مكنش معاها كانت تستاهل وتستاهل أخوض علشانها معارك وحروب، لكن إنت معركتك خسرانه يا أيوب.. صدقني يا ابن الشيخ مهران مينفعش!!
تعمد تذكيره للمرة المائة والثلاثون بكناية أبيه ليعود عما سيختلق داخله، فهتف أيوب بجدية تامة:
_مفيش شيء جوايا ليها أكتر من إني بصون وعدي يا عُمران.. أرجوك إفهمني أنا عمري ما حبيت قبل كده حتى بنت عمي اللي المفروض في حكم المخطوبين عمري ما رفعت عيني وبصتلها مجرد بصة هتخليني مخنوق وأنا شايل الذنب ده بين ضلوعي، مستني اللحظة اللي تكون فيها حلالي بس كُلي ثقة إنها الانسانة المناسبة تكونلي زوجة تحافظ على عرضي وشرفي وأولادي فحتى لو قلبي مال لآديرا في يوم من الايام فمش دي الإنسانه اللي أمنها على حتة مني يا عمران فتأكد إني كأيوب هكون غيرك في حربك لإني مش هطلع منها خسران أنا بقدر أسيطر على نفسي ومشاعري كويس.. إتربيت كده وعيشت كده وهموت كده!
ابتسامة مريحة شقت على شفتيه، فتنهد براحة غمرته وقال:
_ريحتني.. روح نام عشان تكون فايقلي بكره أصل بصراحة مش هعديلك اللي عملته على خير، عشان تبقى تشيلها بعد كده بضمير يا عريس الغفلة!
وتابع بسخرية:
_متنساش قبل ما تتخمد تعقم نفسك كويس وبالذات ايدك ورقبتك اللي كانت لفة دراعاتها حوليها….وحسابنا يجمع بكره يا ابن الشيخ مهران!!
وأغلق بهاتفه دون أن يودعه ومن ثم ولج لغرفته متوعدًا للأخر لحين رؤيته بالغد!
*******
غردت الشمس بفستانها الذهبي تستقبل يومها الجديد بمحبةٍ ودفءٍ، اجتمعت العائلة صباحًا على مائدة الافطار، فاستغلت “فريدة” اجتماعهم وقالت:
_ابتدوا لموا الحاجات المهمة اللي هتحتاجوها لإننا هننقل بكره.
ردت عليها مايا وهي تلهو بشوكتها بطبقها:
_أنا جهزت هدومي امبارح بالشنط لما حضرتك قولتيلي باقي حاجات عمران وده مش عارفة هننقلها ازاي محتاجين تريلا!!
توقف عن مضغ طعامه وصاح متعصبًا:
_محدش يقرب من لبسي وساعاتي وجزمي أنا دافع فيهم نص ثروتي.. عزلوا انتوا على بركة الله وسبيوني هنا مع خزنتي أنا عنيت لحد ما صممتها بالنظام اللي يريحني ويريح تنسيق لبسي!!
ضحك أحمد حتى ظهرت غمازات وجهه وصاح بتهكم ساخر:
_وماله يا بشمهندس البيت هناك واسع ويكفي كل اللي يخصك ولو زعلان أوي على تصميم الخزنة بتاعتك تقدر تختار الجناح اللي يناسبك وصمم لنفسك مكان لهدومك زي ما تحب محدش هيمانع!
زم شفتيه بسخطٍ:
_هو أنا فاضي يا عمي!! أنا ورايا مشروع ضخم داخل فيه أنا وجمال هيحتاج كل وقتي وطاقتي كلها.
ابتسم بحبورٍ ومحبة عظيمة:
_المول التجاري اللي بقى حديث كل شركات المعمار.. حقيقي أنا فخور بيك يا عمران ومتحمس أشوفه بشكله النهائي.
منحه ايتسامة ممتنة لدعمه المتواصل إليه، بالرغم من أن نعمان الغرباوي من العائلة الا أنه يواجه نجاحه بكل حقد يمتلكه بينما بالمقابل يأتي عمه الحنون ويدعمه قلبًا وقالبًا.
قاطعتهما فريدة غاضبة بنبرتها المتعصبة:
_يعني أيه يا عمران!! هنفضل في البيت ده علشان حضرتك خايف على لبسك وجزمك وساعاتك الغالية لتتبهدل!!
وأزاحت منديلها الورقي عن تنورتها وهي تصيح بضيقٍ شديد:
_أنا مش طايقة أقعد في البيت ده استحملت طول الفترة اللي فاتت لحد ما نلاقي البيت المناسب وخلاص أحمد لاقاه وفاضل اننا نمشي من هنا وللأسف مش هقدر أطلع من هنا لوحدي لازم كلكم تكونوا معايا!
نهض علي مسرعًا إليها يقبل يدها بحنانٍ:
_اهدي يا حبيبتي عمران ما يقصدش حاجة احنا معاكي مكان ما تكوني، ومعندناش مشكلة نعيش في بيت تاني.. ولو على حاجة عمران الغالية يقدر يأخد شوية هدوم ليه بشنطة صغيرة ويسيب باقي حاجته هنا لحد ما يفضى ويعمل غرفة مجهزة لحاجته زي اللي هنا ويبقى وقتها ينقل حاجته..الموضوع بسيط ومحلول مش كده ولا أيه يا عم الوقح؟
ترك الخبز عن يده وأسرع تجاهها بضيق من ذاته لما قاله، وردد بنبرة رخيمة هادئة:
_مقصدتش والله يا فريدة هانم..لو عايزانا ننقل حالًا معنديش مانع مدام ده هيريح حضرتك.
لانت معالمها ورفع يديه تحيط باليمني خد عمران وباليسري خد علي مرددة بصوتٍ محتقن بالدموع:
_ربنا ما يحرمني منكم أبدًا.
وضمت كتفيهم بعناق ثلاثي جعل الفتيات يبتسمن بحبٍ، فاندفع احمد إليهم يبعدهما للخلف ويضم فريدة بتملكٍ مضحك، هاتفًا بمرحٍ:
_ايدك يالا منك ليه.. مش كفايا السنين اللي اتعذبتها وهي في حضن غيري جايين تكملوا على اللي فاضل جوايا من صبر!!
تعالت ضحكاتهما الرجولية، وخاصة حينما ردد عمران بنزقٍ:
_شوف الراجل اللي دبرنا خطط وعملنا اجتماعات عشان نجوزهاله!
وتابع بغمزة ماكرة:
_ماشي الله يسهلو يا عم..
وأشار لفاطمة ومايا:
_يلا نتحرك احنا علشان منتأخرش.
ابتعدت فريدة عن أحمد متسائلة باستغراب:
_واخد فاطمة على فين يا عمران؟
ضمت مايا فاطمة لها وأجابتها:
_هتنزل معانا الشغل من النهاردة يا فريدة هانم.
ابتسمت بفرحة لتأكدها بأن ما يفعله ابنها الصغير سيأتي بثماره لحالة فاطمة، ان تولت هي العمل بشركات زوجها بعد وفاته واكتسبت تلك القوة والرزانة من المؤكد بأنها ستحمل نفس الصفات التي هي بحاجة لها، أجلت حنجرتها قائلة بتمني:
_ربنا يوفقك يا حبيبتي، روحوا انتوا وأنا هأخد زينب وشمس ونلم الحاجات المهمة عشان بكره الصبح هنتحرك على طول.
وعلى ذكر ابنتها التفتت من حولها تتساءل باستغراب؛
_هي فين شمس؟
اجابتها وهي تهبط للاسفل بابتسامة شاحبة:
_أنا هنا يا مامي… صباح الخير.
اجابوها بودٍ فاتجهت لمقعدها وجذبت طبق الطعام تتناوله بآليةٍ، جذب علي المقعد المجاور لها ومنحها نظرة متفحصة قبل أن يردد بخبث:
_بمناسبة اللمة الحلوة دي في خبر يخص شمس ولازم تعرفوه.
انتبهت له شمس باهتمامٍ حتى الجميع، فكانت زينب أول من تسائلت باهتمام:
_خبر أيه؟ انتي امتحنتي يا شمس والنتيجة ظهرت ولا أيه؟
نفت ذلك قائلة:
_أنا لسه مش امتحنت أصلًا.
ارتشف علي من كوب قهوته بهدوء جعل عمران يردد بضيق وهو يتفحص ساعة يده:
_ما تنجز يا دكتور مش فاضيلك!
ترك الكوب وتطلع تجاه عمه ووالدته وقال:
_آدهم نازل مصر الاسبوع اللي جاي وطلب مني آنه يكتب الكتاب بعد بكره ويأخد شمس معاه تتعرف على والده وعيلته، وعايز الفرح بعد امتحانات شمس على طول يعني بعد شهرين.. أنا قولتله هبلغ فريدة هانم وهرد عليك.
تلون وجهها بالأحمر القاني، واخفضت عينيها أرضًا تخفي توترها الشديد، وتابعت رد والدتها وعمها، فكان أحمد أول من قال:
_والله الولد ده راجل وبصراحه ابن اصول متربي على قيم مبقتش موجودة في شباب اليومين دول، أنا عن نفسي معنديش مانع طالما شمس بتحبه وهو بيحبها هنعوز أيه أكتر من كده؟!
واستدار لزوجته يتساءل بلطفٍ:
_ولا أيه رأيك يا فريدة؟
سحبت نفسًا مطولًا تمنع به دموعها، ابنتها الوحيدة ستغادرها بعد فترة زمنية محددة وبدايتها الزواج، ولكنها ستكون مع من أحبت وهي تعلم جيدًا فراق علاقة كانت تنعم بالحب بينهما، لذا قالت ببسمةٍ صغيرة:
_لو ده هيخليها تكون سعيدة فأوكي معنديش مانع.
اتسعت ابتسامة شمس بفرحةٍ، على الرغم من حزنها الشديد منه ولكنه فجأها حينما طلب من عائلته أن تسافر برفقته للقاهرة، كانت حزينة لإنها بعيدة عنه وهو بنفس الدولة وما يزيد حزنها سفره لدولة أخرى فإن كان يصعب عليها رؤيته هنا فكيف ستتمكن من رؤيته وهو بعيدًا عنها.
اتجهت إليها فاطمة تضمها قائلة ببسمة جذابة:
_مبروك يا شمس.. ألف مبروك يا حبيبتي.
ضمتها بكل ود لصدرها وردت عليها:
_الله يبارك فيكي يا فاطيما تسلميلي يا جميلة.
لفت مايا ذراعها حول كتفيها قائلة بمشاكسة:
_مبروك يا شموسة.. كان نفسك تنزلي مصر أهو حضرة الظابط هيخطفك مننا وهيحقق أمنيتك.
اخفت وجهها بكتفيها بخجل وهمست لها:
_ميرسي يا مايا.
ابتسمت لها زينب وقالت بفرحة صادقة:
_مبروك يا شمس ربنا يهنيكِ يا حبيبتي.
ابتعدت عن مايا وأحاطتها بسعادة:
_الله يبارك فيكي يا زوزو عقبالك يارب.
ابتسم عمران وقال بمكر:
_عريسها موجود ومتقدم ومنتظر الرد.
اسبلت فاطمة بعينيه مندهشة:
_ مين ده يا عمران؟
رد عليها وهو يتابع زينب المنكمشة بخجل:
_دكتور سيف أخو دكتور يوسف صاحبي، معاها في نفس الجامعة وفي اخر سنة وبصراحة ولد راجل ويوسف مربيه تلاتين مرة وأنا كعمران صعب أرفضه بس نقول أيه لدكتور علي الديمُقراطي قالك الرأي رأيها وأدينا مستنين!
رددت فريدة بلباقة:
_سيف شاب محترم جدًا بس ده ميمنعش إن زينب بنوتة زي العسل ومكسب ليه مش العكس يا حامي اصدقائك ونافش ريشهم جنب ريشك!!
تعالت الضحكات فيما بينهم، فأشار عمران للفتيات:
_نكمل كلامنا بعدين يا فريدة هانم المهم ننجز علشان مش فاضي ورايا كذه حاجة لازم أخلصها قبل ما أروح لجمال المستشفى والدته هتعمل الجراحة النهاردة.
قالت بتمنى:
_ربنا يقومها بالسلامة… هبقى أروح معاك زيارة ليها بعد ما ترجع البيت.
هز رأسه بتفهمٍ والابتسامة الممتنة تجوب على وجهه، فانطلق برفقة مايا وفاطمة لسيارته قاصدًا شركته.
********
تركت فريدة ابنتها برفقة زينب يجمعون الأغراض الهامة بجناحها واتجهت لغرفة علي، وجدته يضع شهاداته التقديرية ودروعًا حصد عليها بمراحله التعليمية بكرتونٍ متين، واستكمل وضع كتبه وأغراضه الشخصية حتى ملابس فاطمة وما يخصها، وما أن شعر بأنفاسٍ على قرب منه حتى استقام بقامته واستدار للخلف فوجدها تقف أمامه مرتبكة للغاية، أشار لها ببسمته الجذابة:
_فريدة هانم.. اتفضلي.
منحته ابتسامة خافتة وولجت تغلق باب غرفته من خلفها، متجهة لطرف الفراش القريب من مكتبته حيث يحزم كتبه وأغراضه.
عادت تفرك أصابعها بتوترٍ تسلل لنبرتها المهتزة:
_عايزة نبدأ من النهاردة ينفع؟
جذب المقعد الخشبي ووضعه قبالتها بحماسٍ:
_طبعًا… اتكلمي باللي حابه تقوليه.
استندت على عمود الفراش الخارجي وربعت يدها أمام صدرها تحيل بها ذكريات الطفولة، وبدأت بتحرر صوتها الرقيق:
_من لما كنت طفلة وأنا مكنتش لوحدي، كان حوليا أخويا وأختي الله يرحمها بس مكنش ده اللي مخليني محسش بالوحدة، السر كان في وجود أحمد جنبي، كنت بحس إنه بيكملني، كأننا روح واحدة في جسمين.. مفيش حلم حلمته مكنش هو فيه، حتى حلم شكلي بفستان الفرح زي أي بنت كنت بتمناه بس وجنبي أحمد.
اتسعت ابتسامتها وهي تستطرد:
_أحمد مكنش بس ابن عمي وحبيبي.. كان صديقي اللي محرم عليا يكونلي صديق.. كان أبويا اللي بيخاف عليا وقت ما برجع متأخر أو بلبس لبس عريان… أمي الحنينه اللي بتنصحني أحافظ على نفسي ازاي وأهون على نفسي وقت زعلي حتى وقت مرضي.. كان أختي اللي قادرة تفهم وتصون أسراري بدون ما تتعصب عليا وتقولي هبلغ ماما باللي عملتيه.. كان حبيبي اللي بيوعدني إنه هيكون جنبي لأخر العمر وفجأة قطع وعده وسبني وحيدة.
مجرد تذكر ما خاضته جعل عينيها تدمعان مستكملة:
_حسيت إني كنت في دفا وفجأة بقيت بين التلج وجسمي بيتجمد وعاجز يحس بأي شيء.. احساس آنه اتخلى عني وبإرادته كان أبشع من كابوس قومت منه، كل اللي اتبقالي من حبيبي ساعة وبرفيوم خاص بيه وقت ما بشتقاله بضمهم ليا وبعدها بكره ضعفي اللي خلاني ألجئ ليهم وبحس إني أقذر ست.. ست خاينة بتخون جوزها وبتحن للماضي اللي كان حقها في يوم من الأيام… عشت في معاناة كل ما بفتكرها قلبي بيتلف حوليه شوك.
وتمعنت برمادية عينيه اللامعة بدمع رافض سقوطه وقالت بابتسامة:
_لحد ما جيت انت يا علي، كأنك كنت بتهون عليا كل اللي أنا عايشاه لوحدي.. من أول ما شيلتك بين ايديا وأنا واثقة إنك هتكون ليا العوض عن كل ده، اتمنيت اسميك أحمد بس خوفت سالم يحس باللي كان بيني وبينه، خوفت أكرهك بسببه لإني مكنتش لسه أعرف الحقيقة.
وشردت بالفراغ وقد احتل وجهها كتلة من الجمود:
_طول عمري عايشة دور الست القوية اللي قادرة تتغلب على كل ظرف تتعرضله لحد ما اكتشفت اني كنت ضعيفة وساذجة لدرجة إن الانسان اللي عشت عمري كله في تأنيب ضمير علشانه طلع هو الأمهر في التمثيل… كان الشيطان اللي كان بيوسوس ليا إني بخونه لمجرد تفكيري في اللي فات.. وجعني وداس على قلبي وكأنه كان بيملك الحق على حياتي ونفسي!
وتعمقت بالتطلع إليه وهي تردد بنفور:
_أنا بكرهه ومش مسامحاه يا علي… كان نفسي يكون عايش ويشوفني مع أحمد.. كان نفسي يتأكد إنه منجحش يبعدنا عن بعض حتى لما كنت معاه كان قلبي مع أخوه.. لما كنت بديله حقوقه الشرعية كنت بتكوي بالنار وأوقات كنت بوهم نفسي إني مش معاه مع أحمد!
أزاحت تلك الدمعة المتمردة على خدها وقالت وهي تتجه هاربة منه:
_هروح أشوف زينب وشمس خلصوا ولا لسه.. ونكمل بعدين.
نهض خلفها يناديها:
_ماما!
توقفت عن الخطى وبقيت جامدة محلها دون الاستدارة له، فدنى قائلًا:
_مكنتيش خاينة كنتِ إنسانة عظيمة قدرت تضحي طول السنين دي كلها علشان أولادها.. إنسانة بالرغم من عشقها الكبير لشخص اتمنتت تعيش معاه الا أنها حاربت وصمدت وافترقت عنه علشان تكون مع أولادها… صدقيني اللي فات ده مهما كان صعب ومؤلم بس قواكي وقوى علاقتك بينا لدرجة خلتنا مؤهلين لجوازك من عمي وإنكم بعد كل العوائق دي اتجمعتوا.
استدارت إليه باكية وهرولت لأحضانه كالطفلة الصغيرة التي تتخفى داخل حضن أبيها، طوفها علي ودموعه تهوى على خديه، يعلم بأنها مازالت تكبت الكثير بداخلها ولكن كونها قالت تلك الكلمات القليلة سيأتي البقية بعدها وستخبره بكل شيء.
ربت بحنان على ظهرها حتى ابتعدت عنه تمنحه ابتسامة صغيرة، وتركته وغادرت لجناحها تنفرد بذاتها قليلًا وتستجمع قوتها لتواجهه بباقي ما بداخلها ولكن أولًا ستعاون الفتيات لترحل من هذا المكان الذي يضيق عليها كلما استعابت ما فعله زوجها بها.
******
اتبعتهما فاطمة للداخل، فأشارت لها مايا للمكتب الذي يقابلها متسائلة بحماسٍ:
_ها أيه رأيك بقى؟
سلطت نظراتها على المكتب الفخم المقابل لها، لونه الأبيض زاد من راحتها، كان يحوي على حاسوب ولجواره هاتف أرضي، اتجهت للمقعد تحتله بابتسامة صغيرة، وأخذت تتفقد سلة الأقلام بانبهارٍ.
أحاط عمران كتف مايا التي تراقبها بفرحةٍ، وضمها لاحضانه مستغلًا انشغال فاطمة بتأمل مكتبها، وهمس لها:
_خلي بالك منها يا مايا وأكدي على حسام محدش يدخل المكتب هنا ولا يزعجها بأي شكل من الأشكال لحد ما على الأقل تأخد على المكان.
هزت رأسها بتفهمٍ وهمست له:
_متقلقش يا حبيبي هبلغه وهشدد عليه.. وأنا كمان هكون معاها ومش هسيبها.
طبع قبلة على جبينها وهو يردد بحبٍ:
_حبيب قلب حبيبك إنتِ!
وابتعد عنها يتحنح بخشونة ليلفت انتباه فاطمة:
_أنا هنا في مكتبي يا فاطمة لو عوزتي أي حاجة مايا موجودة وأنا هنا جنبكم لو احتاجتي حاجة متتردديش.
رددت بابتسامة مشرقة:
_حاضر..
غادر عمران لمكتبه فوجد المحامي ونعمان بانتظاره، منح نعمان نظرة منفرة واتجه يحتل مكتبه بكبرياءٍ، ليجد الأخر يقابله بغلظة:
_ما بدري يا ابن فريدة مش عارف إن في معاد بينا ولا بتستهبل!
وضع قدمًا فوق الأخرى بتعالي وعدم مبالاة بحديثه، ووجه حديثه للمحامي متجاهلًا وجوده:
_جهزت الأوراق كلها يا مسعد؟
أكد له باحترامٍ:
_أيوه يا باشا.
تابع وهو يجذب حاسوبه يراقب مقابلاته لليوم:
_حطيت فيه الشرط اللي قولتلك عليه؟
أكد له مجددًا:
_أيوه.. وتقدر حضرتك تتأكد بنفسك.
حمل عنه الملف يراقب ذاك البند المشروط بالعقد بينما يتابعهما نعمان بدهشة لحقت سؤاله:
_شرط أيه ده؟!
رفع رماديته المحتقنة يقابله بها وصاح بحزمٍ:
_بند من بنود العقد اللي هتوقع عليه بيقيدك عن بيع الشركة لأي شخص غريب، في حالة إنك عايز تبيع الشركة مسموحلك بشرط يكون الشخص ده من جوه عيلة الغرباوي.
وتابع بقوة صارمة:
_مهو أنا مش بعد كل التعب ده أقدملك الشركة على طبق من دهب وتأخدها إنت وتديها للي لفة عليك زي الحية علشان توصل لهدفها.
انتفض بوقفته يصرخ بعصبية وجنون لمجرد تخيله بأنه انكشف أمره أمامه:
_تقصد أيه بكلامك القذر ده يا ابن فريدة!
بقى محله على مقعده يراقبه ببرودٍ:
_يا خال متخلنيش أشك في ذكائك! أنا من على الكرسي ده قادر أعرف كل كبيرة وصغيرة عن بلاويك السودة، بس اللي عايزك تعرفه إنك مش أول واحد هيلينا ترسم عليه دور الحب أبو أجنحه وردية، سبق وعملتها على تلات رجال أعمال معروفين وأخدت اللي وراهم واللي قدامهم وإنت ما شاء الله مبقاش وراك اللي يتأخد منك غير الحنجرة والخيلة الكدابة اللي واهم نفسك بيهم.
صرخ بانفعالٍ يخفي به تدهور موقفه أمام المحامي الذي يشهد اهانته بوضوح الشمس:
_اخرس قطع لسانك عيل قليل الرباية.
اتسعت ابتسامة عمران وحذره بمكر:
_أبويا الله يرحمه بقى مات وسبني أمانه في رقبتك وإنت اللي معرفتش تربيني يا خال كنت مشغول مع الراقصات.
واستطرد بغمزة وقحة:
_لو فاكر إن هيلينا هترجعلك شقاوة زمان تبقى غلطان دي هتأخدك لحم وترميك عضم يا خال ووقتها متجيش هنا تعيط زي النسوان لإن وقتها هتشوف وش تالت لعمران الغرباوي مصدفش ليك إنك اتقابلت فيه.
جذب العقد من يده ووقع عليه، ثم دفعه تجاهه يشير له:
_موافق على شرطك إمضي وخليني أغور من وشك.
سحب القلم يوقع وهو يهتف ساخرًا:
_وأنا اللي واقع في دباديبك أوي… إنت تلزق أي مكان تكون فيه يا خال… فلتصحبك السلامة في أي مكان تغور ليه!
وحمل العقد لمايا وقعته وعاد به يلقيه إليه مشيرًا لباب مكتبه:
_مش عايز أشوفك ولو صدفة.. لما يتقرص ودنك وتخسر وقتها افتكر اني حذرتك ونبهتك.
منحه نظرة حاقدة وهتف له بوعيدٍ:
_هتدفع التمن غالي يا عمران… وديني لأندمك على معاملتك وطريقتك معايا وساعتها هنشوف مين اللي هيبوس رجل مين.
منحه قبلة بالهواء وغمز له:
_مستنيك يا خال.. ربنا يديك طولة العمر!!
وفتح الباب يشير له:
_مع السلامة يا نعمان!
*******
ارتدى مريال المطبخ على خصره وشرع بجلي الأطباق، ومن ثم اتجه ليقلب القهوة على نيران هادئة، وانحنى يجذب الملابس من المغسلة ومن ثم خرج للشرفة يقوم بفردها على الحبال الداخلية، وولج يضع الشطائر التي صنعها على الصينية ووضع القهوة، ثم اتجه لغرفة شقيقه يهزه برفقٍ:
_سيف… قوم يالا إنت مش مأكد على ليلى إنك وراك محاضرة مهمة!
جذب الغطاء على صدره العاري يخفي وجهه من أسفله وهو يهتف بانزعاجٍ:
_يووه يا يوسف بقى انت كل يوم الصبح تقلق منامي!
جذب الغطاء عنه وشمله بنظرة خاطفة جعلته يزوى حاجبيه:
_إنت نايم كده ليه مش خايف تأخد برد!
تطلع للغطاء الذي أصبح بيد أخيه فنهض على الفور يرتدي بنطاله بحرجٍ:
_أيه يا يوسف الله.. مش عارف أخد راحتي في أوضتي كمان ما تعتقني لوجه الله!!
ضحك ساخرًا من ذاك الذي يسرع بارتداء ملابسه باحراجٍ، وردد:
_الله يرحم لما كنت بتعملها على روحك وأنا اللي كنت بحميك وآ..
كبت سيف فمه بصدمة مما تفوه به وترجاه بدهشة:
_آدهم هنا لو سمعك هيقول أيه، عايز تفضح أخوك يا يوسف!!
ارتفع صوت ضحكاته وأخبره مازحًا:
_خلاص يا دكتور سيفو متزعلش.. وبعدين ما أنت اللي صاحي تتدلع وأنا ورايا حالة ولادة عايز أروح المستشفى انجز قبل ما أروح لجمال!
جذب المنشفة واتجه لحمام الغرفة:
_اعتبرني لبست وجهزت… انزل انت.
لحق به مستندًا على باب المرحاض، وابتسم له وهو يناديه:
_سيف.
مرر فرشاة الاسنان لينظفها وهمهم له:
_مممم
ربع ذراعيه أمام صدره وقال:
_هتبقى عم قريب… ليلى حامل.
بصق المعجون من فمه واستدار له بابتسامةٍ واسعة وصاح:
_بجد يا يوسف؟
هز رأسه بتأكيدٍ فاحتضنه بقوة وهو يردد بفرحة:
_مبروك يا حبيبي ألف مبروك… ربنا يكملها على خير ويرزقك بولد صالح بار بيك وبيها.
ضمه بحبٍ وطبع قبلة على كتفه بحنان، وفجأة دفعه للخلف وهو يتأمل قميصه بصدمة:
_بهدلت القميص الله يخربيت معرفتك..هنزل المستشفى ازاي دلوقتي يا حيوان!!
انفجر ضاحكًا وهو يتأمل بقايا معجون الاسنان على قميص يوسف الابيض، وقال بصعوبة بالحديث:
_خدلك قميص تاني من عندي.
رفع احد حاجبيه بنزقٍ، فحك سيف لحيته النابتة بتفكير:
_صحيح انك أعرض من فوق شوية عني بس إن شاء الله نلاقيلك حاجة تناسبك. . أول ممكن نستعير من آدهم واحد هو هوجان في نفسه زيك كده.
قال من بين اصطكاك أسنانه:
_ادخل كمل اللي بتعمله وكُل واشرب قهوتك وانزل جامعتك بمنتهى الهدوء.
ووضع يده بجيبه يجذب مبلغ من المال يضعه بيده بقوة وكأنه يصفع يده قائلًا:
_اتفضل مصروفك..
واتجه للمغادرة وهو يحذره بشراسة:
_مش عايز ألمح خلقتك النهاردة… القميص جديد وبالتكت بتاعه يا حيوان.
فور مغادرته ضحك سيف وهتف يناديه:
_هتقاطع اخوك عشان الفميص يا جو!!!
******
فتح الباب الحديدي وولج يبحث عنه بمقلتيه المحتقنة إلى أن وجده يتفنن بأحد التصميمات ولجواره يجلس الاستاذ ممدوح يراقبه ببسمة هادئة، فما أن رأى من يقترب منهما حتى تساءل بدهشة:
_خير يا عمران؟
انتبه أيوب لنطق إسم رفيقه فاستدار للخلف فوجده يضع يديه بجيب سرواله الرمادي، ويمنحه نظرة النمر الواشك على افتراس فريسته.
ابتلع ريقه بخوفٍ غريبٍ يداهمه لمرته الأولى، فحتى مكانة أبيه لم تجعله خائفًا مثل الآن، اقترب منه عمران يستند على اللوح ويتأمل ما صنعه مبديًا عدم اعجابه بما فعله:
_مش بطال!
واستقام بوقفته وهو يخطو بين الرفوف الضخمة متمعنًا بها بنظرة غير مرضية، أتت بقوله:
_هو الأرشيف ده متنضفش من أمته يا أستاذ ممدوح التراب مالي الدنيا بشكل غير طبيعي!
سيطر الكهل المتحاذق على ابتسامته فهو يعلم ماذا يحاول تلميذه الأول بصنعه خاصة بعد أن قص له أيوب تفاصيل ما حدث بالأمس، فقال:
_مش فاكر والله يا بشمهندس.. بس بتسأل ليه؟
قال وقد استقرت عينيه على أيوب المتأهب لما سيفعله ليعاقبه كما وعده:
_بقول إن ميصحش البشمهندس يشتغل وسط التراب والفوضي دي عشان كده لازم ينضف مكانه بنفسه لاننا مش بنسمح لأي حد يدخل أرشيف وسجلات الشركة ولا أيه يا أيوب؟
عبس بعينيه بضجرٍ، فلم يترك له عمران فرصة المناص بل جذب المجلدات الضخمة ووضعها بيده ومن ثم الأخر فالأخر حتى اختفى أيوب خلف طابق كامل من المجلدات جعلته يصيح بلهاثٍ:
_كفايا يا عمران مش قادر أشيل كل ده!
أتاه رده الساخر:
_شيل يا عريس والا إنت مبتقدرش تشيل غير الحتت الطرية!!
ضحك ممدوح بعدم تصديق لما يحدث أمام عينيه، فتحرك أيوب ليضع ما بيده جانبًا ويعود لعمران يناوله المتبقي من المجلدات، وحينما انتهى قال وهو يطعنه بنظرة اخيرة:
_امسح الرفوف ورجعهم مكانهم زي الشاطر كده… ولما تخلص اطلع فوق لحسام هيفهمك هتعمل أيه لانك هتكون بدالي النهاردة طول اليوم.
كاد بالرحيل فجذبه أيوب بعدم استيعاب:
_مكانك فين!! عمران أنا شاب جامعي وبتعلم لسه فبالله هكون مكانك ازاي متهزرش!!
أخفض رماديته ليد أيوب الممتدة لجاكيته الباهظ فسحبها أيوب وهو يدمس شفتيه بغيظٍ، فأجابه الاخير ببرودٍ:
_استاذ ممدوح معاك هيساعدك.
وتركه واتجه للمغادرة فأوقفه تلك المرة بمسكة يده وهو يخبره:
_طيب وجمال أنا عايز أكون موجود معاه في يوم زي ده.
منحه بسمة باردة وصاح؛
_واجبك وصل يا عريس… ركز في المطلوب منك وبس.
وتركه وغادر وهو يشير للممدوح بتتابعه فما أن خرج خلفه حتى أغلق باب المكتب على أيوب ومال عليه يهمس له:
_استاذ ممدوح أنا عايزك تتوصى بأيوب، تفرمه من الشغل لدرجة إنه يرجع ميحلمش غير بسريره وبس ميجيش في دماغه شيء غير إنه يريح جسمه ويرجع هنا تاني… حضرتك فاهمني؟
ضحك ممدوح وهز رأسه:
_وصلت… بس خد بالك الولد معندوش نية إنه يقرب منها وأنا شايف الصدق في عنيه.
رد عليه بخوف صادق:
_الشيطان شاطر يا استاذ ممدوح ولو حصل هتبقى كارثة لو البنت دي حملت منه… أرجوك ساعدني أنا خايف عليه.. عصرت دماغي عشان ألقى حل مش لاقي غير إنها تأسلم وده مستحيل.
ربت على يده بحنان:
_مفيش مستحيل على ربنا يا ابني.. عمومًا اطمن أيوب بقى زي ابني وجوه عيني متقلقش.
ودعه بابتسامة صغيرة وغادر على الفور فعاد ممدوح للداخل فوجد أيوب يقف على الدرج الخشبي ينظف الرفوف وما أن رآه حتى قال متهكمًا:
_كان بيوصيك عليا مش كده!!
ضحك وهو يهز رأسه فمال على الدرج يستند عليه بتعبٍ:
_والله ما أنا عارف بيعمل كده ليه.. ده أنا لو عند أخ أكبر مني مش هخاف منه بالشكل ده!
******
بالاعلى.
تابعت مايا عمل فاطيما باهتمامٍ، عاونتها على تنسيق الملفات بشكلٍ اكثر احترافية، وحينما قدمت ملفها الأول قالت بإعجاب:
_الله عليكِ يا طمطم هو ده الشغل ولا بلاش.
ابتسمت لها بمحبة وقالت:
_بفضل الله ثم تواجهيهاتك يا بشمهندسة.
مالت تقبل جبهتها بحب:
_حبيبتي يا فاطمة والله أنا مبسوطة من وجود معايا أوي… كنت بحس إن هنا لوحدي وماليش حد ولما عمران قال إن صبا ممكن تنزل معايا فرحت بس الهبلة اتحججت بتعب الحمل وكنسلت الموضوع وأهو ربنا عوضني بسلفتي وأختي القمراية.
اختبرت فاطمة أحاسيس غريبة من ضمة مايا لها، فأحاطتها بابتسامة مشرقة وقالت:
_انتي اللي زي القمر وتتحبي يا مايسان ربنا يسعدك ويفرح قلبك الأبيض.
أغلقت مايا الحاسوب وقالت بحماس:
_حيث كده بقى فكك من الشغل وتعالي ننزل نتغدى في أي مطعم… في مكان هنا جنب الشركة بيعملوا بيتزا إنما أيه عجب… بينا؟
التقطت حقيبتها مشيرة لها بنفس مصطلحها:
_بينا يا ريسة!
تعالت ضحكاتها وشاركتها الاخرى ومن ثم هبطوا معًا للأسفل.
*******
أوصل حسام الضيف الزائر للأسفل بعد أن هاتفه عُمران وأوصاه أن يُوصله للأرشيف بنفسه، فشكره بتهذبٍ:
_شكرًا يا بشمهندس.
رد عليه حسام باستحسان:
_أنا في خدمتك يا باشا.
وتركه وغادر بينما أكمل الضيف طريقه للأسفل حتى وصل للباب الحديدي، دفعه وأخذ يتطلع لذاك العالق على الدرج الخشبي بكتلة مجلدات ضخمة يرصها بانتظامٍ ويبدو الانهاك يشكل خرائطه على وجهه، فناداه بخفوتٍ:
_أيوب!
أطل من فوق المجلد يتأمل من يناديه، فابتسم وهو يناديه بلهفة:
_آدهم!!!!
وهبط إليه مبتسمًا ومتسائلًا:
_بتعمل أيه هنا؟!
أجابه وهو يتفحص ملابسه المتسخة باستغرابٍ:
_جاي علشانك.
وسأله وهو ينفض الأتربة عن قميص بذلته:
_إنت أيه اللي بهدلك بالشكل ده؟!
أمسك أيوب يده ودفعه ليجلس قبالته على الطاولة الخشبية المتهالكة، قائلًا بتوسل:
_أبوس إيدك خلصني من عمران.. من ساعة ما شافني نازل إمبارح شايل آديرا وهو اتجنن، هالكني في الشغل وفاهم إنه كده بينتقم مني.
تمردت ضحكة رجولية على شفتيه جعلت الاخير يرتاب لامره متسائلًا بحيرة:
_بتضحك على أيه يا آدهم؟
استعاد اتزانه رغم احتفاظه ببسمته الجذابة وقال:
_مش بينتقم منك يابو قلب طيب بيهدك عشان لما ترجع بيتك ميكنش عندك أي نية شيطانية غير النوم والاسترخاء… فهمت حاجة؟
فرك أنفه بحرجٍ طفيف وهمس له:
_طيب وليه كل ده والله ما عندي نية لحاجة يا جدعان!!!
رفع يديه بغمزة مرحة:
_مصدقك يا عم الشيخ بس الطاووس الوقح عنده وجهة نظر محتلفة.. حظك!
ضم شفتيه معًا بقوة وصمت قليلًا ومن ثم قال:
_طيب ما تلين انت دماغه وتخليه يخف عني!
استند على الطاولة وهتف له متصنعًا الحزن:
_كنت أتمنى يا أيوب والله بس كتب كتابي بعد بكره على أخته فلو أنا اللي اتدخلت هيسيبك ويستلمني أنا!
اعتدل بوقفته بابتسامة واسعة:
_بجد.. هتتجوز يا آدهم؟
صحح له بابتسامة هادئة:
_كتب كتاب بس والفرح بعد امتحانتها ان شاء الله.
وضع يده على كتفه بسرورٍ:
_مبروووك يا عمهم.. أهي دي الاخبار اللي تفرح وسط الجو المترب ده.
رفع آدهم يده يشدد على كتفه مثلما فعل وقال:
_عقبالك بس مع اللي تستاهلك.
ابتسم وهو يجمع شمل الحديث، فتابع آدهم بجدية:
_نستني كنت جايلك ليه.
وأخرج من جيب بنطاله ساعو رجالية فخمة، قدمها له مشددًا على حروفه:
_إلبسها ومتقلعهاش أبدًا يا أيوب على الأقل لحد ما ترجع مصر.
تناولها منه وتفحصها باستغرابٍ:
_ليه؟
نزع ادهم عنه ساعته ووضعها جانبًا، ثم وضع الاخرى بمعصمه قائلًا:
_انت بتقول انك بتعزني معزة كبيرة فوجود الساعة دي في ايدك هتأكدلي كلامك خصوصًا اني مسافر القاهرة الاسبوع الجاي.
انقبضت ملامح أيوب وفاضت بالحزن، فأمسك يده وقال برجاءٍ صغيرًا في عهده الثاني:
_مينفعش تخليك هنا معانا.
ابتسم وهو يراقب مسكة يده وقال:
_والدي راجل قعيد ومن بعد وفاة والدتي مبقاش ليه غيري.. كل فترة بيكلمني وبيترجاني أرجع والمرادي مصمم إني أرجعله وشكله مريض فعلًا.. أنا وعدته ومقدرش أتراجع.. خايف يجراله حاجة فذنبه يكون في رقبتي.
هز رأسه متفهمًا وردد بنبرة متحشرجة من الحزن:
_ربنا يشفيه ويباركلك فيه.
أحاط كتفه بذراعه وقال بابتسامة جذابة:
_هنتقابل تاني يابن الشيخ مهران… وعد لما تنزل مصر هتلاقيني أنا اللي بستقبلك في المطار.. هما كلهم تلات شهور هيعدوا بسرعة البرق.. وبعدين الموبيل اخترعوه ليه؟
اتسعت ابتسامة ايوب وضمه إليه، فاحتواه آدهم ومازالت تعابيره مندهشة من الحب الاخوي الغريب المتبادل بينهما، لوهلة تمناه أن يكون ذاك الأخ الذي تمنى أن يمتلكه، كان دومًا حزينًا يتساءل لماذا ابقاه والديه وحيدًا دون شقيق أو شقيقة وحينما اشتد عوده علم بأمر تعب والدته وعدم قدرتها على الانجاب فتقبل الأمر واعتاد عليه… ودعه آدهم واتجه للمحامي يرتب أوراق عقد القران بعد أن تحدث علي إليه وزف له موافقة عمه ووالدته.
*****
بالمشفى.
وقف جمال جوار والدته يحبس دموعه بتمكنٍ، ولجواره تقف زوجته عاجزة عن الحديث إليه أو حتى تهدئته، تعود الحاجة أشرقت لحديثها الباكي فتزيد من وجعه:
_وصيتي أخواتك يا جمال، لو جرالي حاجة حطهم في عينك يا ابني.. أنا عارفة اننا تقلنا عليك وشيلناك فوق طاقتك.. مصاريف علاجي وتعليم اخواتك وجوازتهم وعمرك مرة ما اشتكيت ولا قولت مش قادر… طول عمرك اللي في ايدك مش ليك يا حبيبي.. عشان كده لو جرالي حاجه هموت وأنا راضية عنك يا ضنايا.
انحنى تجاهها يقبل يدها الممتلئة بالمحاليل والأجهزة وردد برعشة باكية:
_متقوليش كده عشان خاطري يامه… هتخرجي والله وهتبقي زي الفل.
ربتت على خصلات شعره الفحمي بيدها الاخرى وقالت:
_ربنا يراضيك ويسعدك زي ما انت سبب سعادتي… ربنا يجبر بخاطرك زي ما انت جابر بخاطري أنا واخواتك يا حبيبي.
لم يحتمل سماع المزيد فبكى على يدها وهو يترجاها:
_كفايا عشان خاطري متوجعيش قلبي يامه.
طرقات باب الغرفة ومن ثم ولج ذاك البشوش بالورود، ليقترب منها يسيطر على حزنه لرؤيته انهيار رفيقه بحرافية، فهتف بمرح:
_مساءو فل على أجمل ست اتخلقت في الكون كله… شوفتي المرادي جبتلك ورد أحمر علشان تعرفي إن علاقتنا اتطورت من حب وتسبيل لمرحلة مينفعش فيها الحبيب!
ضحكت أشرقت بكل ما فيها وقالت بتعبٍ:
_اخص عليك يا عمران يا ابني مش هتبطل بكش أبدًا.
أبعد جمال عنها واحتل مقعده، مال لها يخبرها:
_قومي يا شوشوو وفكك من رقدة السرير دي، بالك انتي لو غمزتلك غمزة بعيني الاجنبية دي هتقومي تجري زي الفرسة.
انفجرت ضاحكة بشكل جعل جمال يبتسم وهو يتطلع له بامتنان لقدومه باكرًا قبل ولوجها للجراحة، وفجأة انقلبت ضحكتها لبكاء وقالت:
_كويس انك جيت دلوقتي عشان أوصيك على جمال… انا وصيته على اخواته وماليش حد أوصيه عليه غيرك يا ابني.. أنا عارفة انك ابن اصول وصاحب صاحبك.. جمال دايما بيكلمنا عنك وعن اللي بتعمله معاه.. بالله عليك لو جرالي حاجه قوله ميزعلش وآ..
أمسك يدها وباحتقان صوته المعافر لبكاء صريح قال:
_بتوصيني على ابنك ده محتاج اللي يوصيه عليا.. ابنك يا حاجة كيف الطور الهايج اللي مالوش ماسكة… ده مسكني امبارح في مكتبه مسبش حاجة الا وكسرها فوق دماغي لدرجة اني جالي ارتجاج في المخ.
جحظت عينيها بصدمة وتطلعت لجمال بغضب لتدفعه بلوم:
_كده يا جمال.. اخص عليك اخص!!
راقص عمران حاجبيه لجمال المنصدم من انقلاب ما حدث ليدفع كفة الميزان إليه، فعاد عمران يجذب يدها قائلًا:
_فكك منه.. المهم يا أشرقت يا حبيبتي إنتي عارفة ايه اللي هيحصل دلوقتي؟
ابتسمت وهي تتساءل:
_لا والله يا ابني!
ضحك وقال مشاكسة:
_والدتك الله يرحمها وهي بتولدك ألقت عليكي تعويذة غريبة، إنك تستحوذي على قلوب رجالة مصر والعالم العربي كله.. قوم أيه الحاج اتضايق وكلم جمال وقاله يتصرف قبل ما البيت يتخرب مهو الراجل معزور بردو مش عارف يلم خطابك يا هانم..
انفجرت ضاحكة فاستطرد هو:
_فكان لازم جمال يتصرف فاتفقنا مع دكتور شاطر هيأخد قلبك الجميل ده يفك من عليه التعويذة ويرجعهولك تاني بحيث تعيشي مع الحاج الكام يوم اللي فضلين ليه بسلام ولما يتكل على الله نجدد التعويذة ونختار على مزاج بقى.. بس أنا في أول القايمة ها؟؟
أحمر وجهها من فرط الضحك لدرجة جعلت صبا وجمال يبتسمان بفرحة، حتى ذاك الطبيب الذي ولج يردد:
_جيد أن نفسيتها لم تتأثر للسوء… نحن مستعدون فلنتحرك الآن.
كانت أصعب لحظة مرت عليهم، التحف جمال برداء القوة حتى ولجت للداخل فألقاه بمرمى الحجر وعاد للغرفة يجلس على فراشها يضم سبحتها وقرآنها ببكاء متأثر، حاولت صبا الدخول إليه ولكنها توقفت حينما وجدت عمران بالداخل فاتجهت للجلوس على الاريكة الخارجية.
وضع عمران يده على كتف جمال وقال بخشونة:
_أيه يالا هتعيط زي النسوان!!! قوم اقف كده واجمد مراتك بره يا عبيط هتقول عليك أيه!!
رفع عينه المحتقنة بالدموع إليه وقال:
_أمي يا عمران لو حصلها حاجة هموت وراها.
لكزه بغضب:
_متفولش عليها والله هتخرج وهتبقى زي الفل… قوم معايا بره.
هز رأسه نافيًا، فجلس جواره لدقائق ثم قال:
_تحب أنزل أجبلك قهوة؟
هز رأسه نافيًا، فقال مرة اخرى:
_طيب عايز دوا للصداع ولا أي حاجة؟
هز رأسه نافيًا، فعاد يبتسم بخفوت ويتساءل:
_طب عايز حضن طيب؟
منحه نظرة غامضة فدفعه عمران بتهكمٍ:
_انت حر.. هروح أشوف يوسف والشباب وصلوا ولا أيه؟
كاد بالخروج ولكنه توقف على صوت جمال الهامس:
_عُمران.
استدار له فقال الاخير ببكاء:
_عايز الحضن!!
دنى إليه وضمه بين ذراعيه فبكى جمال بخوفٍ، بينما ادمعت رمادية عمران وهمس يمازحه:
_شوفت عمران الغرباوي اتخلى عن برستيجه وحضنك مع إن لو حد دخل علينا واحنا في الوضع ده هتضيع الهيبة وخصوصا اننا وسط الاجانب اللي ممنوع فيها سلام الرجال.. خدت بالك انا بجازف بأيه عشانك يالا!!
ضحك حتى ادمعت عينيه فشاركه عمران الضحك حتى ولج الشباب فأسرع سيف إليه يسأله بغلظة:
_أيوب فين يا عمران!..
يتبع…
أغلق عينيه بقوةٍ ويده تضغط بغيظٍ على يد “جمال” الذي دفعه للخلف هاتفًا بألمٍ:
_دراعي يا عمران مالك؟!
استدار يقابل سيف بنظرة مشتعلة، اتبعها وابل من غضبه:
_هو انت كل ما تشوف خلقتي تسألني عنه! حد قالك إني المدام بتاعته بروح أمك وأنا معرفش!
زم سيف شفتيه بغيظٍ وأشار ليوسف بحنقٍ:
_شوفت طريقته بالكلام يا يوسف وفي الأخر تقولي أحترمه!
ربت على كتف شقيقه وكأنه يواسيه، واتجه لعمران يخبره بنزق:
_خف على الواد شوية يا عم الوقح، أيه محدش عارف يكلمك!
كاد بأن يمنحه وابل من فظاظته فأسرع جمال يمسك بيديه وهو يخبره بسخريةٍ:
_والله ما هي ناقصة… قعدت تقولي بروح أمك لحد ما أمي روحها بتطلع جوه أهي!
وتابع بنبرة متوسلة تترجاه:
_خف على دكتور سيفو مالوش في كلامك الدبش ده.. خليك الكبير العاقل يا عم الطاووس .
أحاطهم بنظرةٍ ساخرة شملت علي الذي تجاهله واستكمل طريقه ليكون مجاور لجمال يسأله باهتمامٍ:
_الدكتور مخرجش من جوه؟
هز رأسه نافيًا وقد تسلل الحزن إليه بنبرته:
_لأ لسه.. بقالهم فترة جوه.
ربت على كتفه وهو يخبره:
_العملية دي بتأخد وقت كبير.. ادعيلها يا جمال وخليك متفائل.
رفع رأسه عاليًا وردد بخفوت:
_يا رب متحرمنيش منها يارب!
جلس يوسف جواره هو الأخر وأحاط كتفه يشد عليه:
_هتخرج وهتبقى زي الفل.. أنا شوية وهدخل أطمن على الأمور بنفسي متقلقش.
اتجه سيف للأريكة المقابله إليهم فجلس يعبث بهاتفه في محاولة للوصول لأيوب بعد أن هاتفه للمرة الثامنة، فتهللت أساريره حينما أجابه تلك المرة فسأله بلهفة:
_أيوب إنت فين؟ وليه مبتردش على موبيلك؟
أتاه صوته حزينًا حتى وإن حاول اخفائه:
_معلش يا سيف كنت بكلم الشيخ مهران وبعدها سبت الموبيل.. أنا كنت لسه هكلمك حالًا عشان أسالك انتوا في أنهي دور؟
سأله باهتمامٍ:
_انت فين دلوقتي؟
_قدام البوابة تحت.
_طيب خليك عندك متتحركش أنا نازلك.
وأغلق سيف هاتفه وأسرع للمصعد يحرر زر هبوطه الطابق السُفلي قاصدًا البوابة الخارجية، جاب الطريق ببصره فأهتدت مقلتيه على صديقه المستند بجسده على العمود الحجري المجاور للبوابة، فاتجه إليه يناديه بلهفةٍ:
_أيوب.
استقام الاخير بوقفته ليقابله بابتسامةٍ صنعها بحرفية لتخدعه ولكن صوته كان كفيل بعكس كل ما يمر به، فكان أول سؤال منه:
_مالك؟
تلاشت ابتسامته وتنهد بضيقٍ وهو يستدير للخارج، لحق به سيف ووقف بالجانب الأخير مستطردًا:
_الشيخ مهران قالك أيه مزعلك كده؟ متقوليش إنه عرف بموضوع جوازك من آديرا!
هز رأسه نافيـًا وقد امتقع وجهه بحزنٍ مضاعف وهو يصرح له:
_أبويا حزنه بيزيد يوم بعد يوم يا سيف، ولحد النهاردة مش قادر يعرف مكانه ولا حد عارف يوصله.. مش هاين عليه إنه يفرط في أمانة أخوه بالشكل ده!
رفع يده يربت بها على ظهره المنحي، وقد وصل إليه سبب حزنه، فقال:
_لسه بردو مش عارفين مكانه؟
أكد له بإيماءةٍ رأسه وقال بصوتٍ احتقن بالدموع:
_٥ سنين يا سيف! خمس سنين بندور في كل الاقسام ومش لاقينله أثر.. والله العظيم مظلوم.. يونس ابن عمي مستحيل يكون منهم يا سيف!
تهاوت دمعة عن فيروزته رغمًا عن كبريائه، فاحاطه سيف بين ضلوعه وهتف إليه:
_بس عشان خاطري.. أنا مش بستحمل أشوفك زعلان تقوم توريني نفسك وإنت كده يا أيوب!
شكى له ذاك الظلم المستبد الذي تعرض له ابن عمه:
_ذنبه أيه يتأخد بالطريقة دي من شقته وقدام مراته! ده معداش على جوازهم غير اسبوعين يا سيف! وكل اللي مسكوه عليه شوية أوراق ادثتله في المحل بتاعه ومن يومها لحد النهاردة محدش عارفله طريق! أنا مش عارف أساسًا إذا كان عايش ولا لأ…..
واستطرد بلوعةٍ:
_وحشني أوي.. عمري ما كان ليا أخ بس كنت معاه بحس إنه أخويا الكبير، كنت برتاح أوي لما بسمعه بيرفع الآذان لو الشيخ مهران كان تعبان، أقسم بالله إن يونس مستحيل يكون تبعهم وإن اللي حصل ده كان مقصود من الكلب ده.
أدمعت عينيه تأثرًا به، فزاد من احتضانه ومازحه قائلًا:
_خلاص يا أيوب… يا أخي قدر موقفي هغير عليك أنا من عمران ولا من سي يونس ده كمان!!
تمردت ضحكة صاخبة منه، فلكزه سيف بمزحٍ:
_اضحك اضحك ما انتي خطابك كتير يا شابة!
ارتفعت صوت ضحكاته مجددًا وهو يحرك رأسه يمينًا ويسارًا بقلة حيلة، تطلع سيف للرصيف البعيد عنهما وردد بدهشةٍ:
_مش ده آدهم!
استدروا معًا للسيارة التي تقترب منهما، فانخفض زجاج النافذة وأشار لهما آدهم بأن ينتظروه لحين أن يصف سيارته بچراچ المشفى ويعود إليهما.
غامت أعين سيف بشرودٍ فناداه أيوب باستغراب:
_روحت فين يا ابني!
وبسخرية استطرد:
_أيه غيران عليا من آدهم هو كمان؟!
قابله بنظرةٍ جادة للغاية وقال وهو يمسك يده كمن وجد المنقذ لعائقته:
_آدهم يا أيوب.
رمش بعدم استيعاب وقال:
_ماله آدهم؟
أوضح له بابتسامة واسعة:
_آدهم الاسم الحركي لعمر الرشيدي ظابط في المخابرات.
لوى شفتيه ساخطًا، وكأنه يخبره بما لا يعلمه، فاستكمل سيف:
_يا ابني افهمني، ابن عمك اتاخد من الأمن الوطني وانتوا بقالكم خمس سنين بتدورا عليه ومش عارفين توصلوا لحاجة، آدهم أو عمر الرشيدي يقدر بمنتهى السهولة يعرف طريقه!
اهداه لنظريته فتعلقت نظرات أيوب بآدهم الذي يقترب منهما على بعد مسافة منهما، فاستدار لسيف يحذره بصوتٍ منخفض:
_لا يا سيف أوعى تقوله حاجه… كفايا مشكلة آديرا اللي الكل بقى فيها معايا وأولهم آدهم اللي اداني شقته وواقف جنبي لحد دلوقتي.. متقولوش حاجة من فضلك.
هز رأسه بتفهمٍ:
_زي ما تحب.
وقف أيوب جوار سيف ينتظرونه حتى قطع المسافة الطويلة ووصل إليهما، قائلًا ببسمته الجذابة:
_مساء الخير يا رجالة.
أجابه سيف بابتسامة صغيرة:
_مساء الفل يا عريس… مبروك مقدمًا.
اتسعت ابتسامته وهو يجيبه:
_الله يبارك فيك يا دكتور عقبالك.
رفع يديه يردد بمرح:
_اسمع منه بأقرب وقت يا رب قبل ما يوسف أخويا يفضحني في انجلترا كلها بدور الخاطبة اللي عايشيلي فيه ده.
ضحك آدهم وشاركه سيف الضحك بينما ظل أيوب مكفهر الملامح لا يرى أمامه سوى حديث سيف، يشعر بالقلق حيال ذلك الأمر، يعز عليه أن يكون مفتاح خلاص ابن عمه بيده ويعجز عن تقدميه إليه، ولكنه لم يعتاد على أن يكون جشعًا بطلباته أو أن يستغل صداقاته لتحقيق ما يريد.
تفحصه آدهم بنظراتٍ غامضة، وقد أتت فرصته على طبقٍ من ذهب حينما دق هاتف سيف ولم يكن سوى يوسف يطالبه بالذهاب لأحد المطاعم واحضار بعض الشطائر والعصائر لإن الجراحة ستستغرق العديد من الساعات، فوضع الهاتف بجيب بنطاله الجينز وقال بتهكمٍ:
_لو عايزين تطلعوا اطلعوا أنا نص ساعة وراجع.
ألقى له آدهم مفاتيح سيارته وقال:
_خد عربيتي عشان ترجع بسرعة… احنا هنستناك هنا.
ابتسم له بامتنان واتجه لجراج المشفى يعتلي سيارة آدهم الذي ابتاعها منذ ساعات قليلة عوضًا عن سيارته القديمة التي لا تصلح سوى للبيع خردة.
أشار آدهم بيده لاحدى الاستراحات قائلًا:
_تعالى نقعد هناك عما يجي.
أومأ برأسه ولحق به، فجلس جواره صامتًا، شاردًا، والابتسامة الغامضة مازالت تزين فم آدهم إلى أن كسر حاجز صمتهما قائلًا:
_قولي بقى أيه اللي سيف عايزاني أعرفه وإنت رفضت تقولهولي؟
جحظت أعين أيوب بصدمة، فاستدار إليه يمنحه نظرة مندهشة، إن تركه آدهم لدقيقة لظن بأن سيف قد هاتفه وأخبره ولكنه لم يتركهما معًا فكيف علم بذلك.
على الأرجح بأنه قرأ ما يدور بعينيه فابتسم قائلًا:
_سيف مقاليش حاجة، أنا اللي قريت حركة شفايفكم وأنا بقرب منكم.. وبصراحة فضولي جاني لما قريت إسمي اللي اتردد بينكم.
ودفع كتفه برفقٍ وهو يسأله باهتمامٍ:
_ها هتقولي؟
أخفض عينيه أرضًا بحرجٍ، والأخير يترجم كل حركةٍ ولو صغيرة تصدر عنه، فصاح بعصبية بالغة:
_جرى أيه يا أيوب إنت ليه محسسني إننا أول مرة نعرف بعض!! أنا قولتلك ألف مرة انت زي أخويا الصغير لما تحتاج حاجة تقولي عليها على طول مش قاعد قدامي عامل شبه العيل الصغير اللي عملها على نفسه في أول يوم دراسي!!
تطلع له أيوب بدهشة من تغيره المفاجئ، على ما يبدو بأن عمران الغرباوي ليس الوحيد بينهم الذي يحمل أعصابه على ريشة.
التقط آدهم نفسًا مطولًا وأطلقه هاتفًا برجاء:
_اتكلم بقى ومتعصبنيش أكتر من كده.
أجلى صوته بخشونة:
_ابن عمي مقبوض عليه من خمس سنين ومش عارفين ليه طريق، ولا عارفين هو عايش ولا ميت!
سأله باستفهامٍ:
_اتفبض عليه في أيه؟!
قابله بجلسته يخبره بحزنٍ عميق انتقل لآدهم تلقائيًا:
_بص يا آدهم والله العظيم أنا مبكدب عليك، ابن عمي ده ميتخيرش عني في شيء، شاب محترم ومتدين وفي حاله، اللي حصل ده أصلًا متلفقاله عشان يبعد عن مراته ويطلقها وده اللي حصل فعلًا مراته من تاني شهر حبس ليه رفعت عليه قضية خلع وكسبتها واتجوزت الخاين اللي حبسه.
حديثه كان مشتتًا وجعل الاخير غير ملم بالاحداث، فسأله بهدوء:
_تقصد إن اللي اتجوزته ده هو اللي اتسبب في سجن ابن عمك؟
هز رأسه يؤكد له ذلك، وقال باستفاضة:
_بص الموضوع ده قديم أوي، خديجة ساكنة عندنا في العماره اللي ورثها أبويا الشيخ مهران وعمي محمد الله يرحمه، فكانت شقتها في الدور الرابع بعد شقة يونس ابن عمي، الاتنين حبوا بعض من صغرهم وأبويا اتقدم بشكل رسمي لوالدتها عشان الكلام ميكترش في الحارة واحنا ناس متدينة، وقتها الست فوزية والدة خديجة اتكلمت مع عيلة جوزها على يونس وواحد من اعمامها اعترض، كان عايز يجوز خديجة لابنه عشان يضمن ان الاراضي الزراعية اللي ورثتها خديجة عن ابوها مترحش بعيد.. عمل المستحيل هو وابنه عشان يوقف الجوازة دي بس معرفش.
وتابع بحزن:
_كنا فاكرين ان بعد ما كتبوا الكتاب وفرحهم اتعمل إنهم هيتهدوا وهيسبوهم في حالهم، بس اللي حصل إن معتز ابن عمها وابوه حطوله في المحل بتاعه منشورات وأوراق تودي في داهية، وبلغوا عنه وآ…
هز آدهم رأسه واسترسل هو:
_اتهموه بأنه من الجماعة إياهم واللي زاد في الأمر أمر هو تدينه مش صح كده؟
حرك رأسه موافقًا لحديثه وقد تشكل الحزن على معالمه بتأثرٍ، وقال:
_أبويا حزين وعاجز، بقاله خمس سنين بيروح من قسم لقسم وبيحاول يجيب أي وسطة، وبعد كل ده ميأسش مرة، عمي الله يرحمه كان عنده كانسر وقبل ما روحه تطلع للي خلقها وصى أبويا الله يرحمه على ابنه الوحيد، وده أكتر شيء وجع أبويا حتى لو بيحاول يبنلي في التليفون إنه كويس بس أنا حاسس بيه وعارف هو حاسس بأيه بالوقت ده.
ابتسامة صغيرة شقت طريقها على ثغره،وقال بصوته الرخيم:
_إنت ووالدك عندكم استعداد تخسروا نفسكم قدام وعد وعدوته.. كنت مستغرب إنت ازاي قابل تعرض نفسك لكل المخاطر دي عشان بنت عبرانية بس دلوقتي عرفت إنك اتربيت على ايد انسان عظيم بيحترم الوعود وبيسعى ليها.
وربت على ساقه وهو يستطرد:
_اطمن يا أيوب.. أنا نازل مصر الاسبوع اللي جاي أوعدك إني مش بس هوصل ليونس ابن عمك أنا هفتح قضيته من تاني وأنا بنفسي اللي هحقق فيها أنا وفريقي وهقدر بإذن الله أثبت برائته.
دنى منه متلهفًا:
_بجد يا آدهم؟
ابتسم وهو يردد بثقة:
_سيب الموضوع ده عليا واطمن مش هخذلك أبدًا.. وإذا كان معتز ده اللي ورا الموضوع فأنا هوديه ورا الشمس هو واللي وراه.. كله هيتحاسب وبالقانون!!
******
اضطرت أسفًا للعودة لجناحها لتحضير ثيابها وأغراضها الشخصية بالحقيبة، وقفت فريدة مترددة على باب الجناح، حرمت على ذاتها الدخول إلى هنا بعد أن كشف لها أحمد حقيقة زوجها الشيطاني، والآن تعود إليه اجباريًا.
مررت باب الغرفة وولجت للداخل تحارب كل ذكرى مقززة تندفع إليها، تزاحم عقلها بتلك اللحظة حينما سُلطت عينيها على فراشها، فرأته ينهض عنها وهو يصيح بجمودٍ:
«مش عارف أمته هتحسي بيا يا فريدة، انتي أيه لوح تلج!!!»
جملة اخرى لا تغيب عن ذكراها
«أنا بحاول أعمل كل شيء يرضيكِ ويسعدك بس الظاهر إنك عمرك ما حبتيني يا فريدة!..»
«عشان خاطري حسسيني إنك بتحبيني وعايزاني ولو لمرة واحدة يا فريدة، أنا لما بكون معاكي بكره نفسي لما بحسك بتنفري مني ومش طايقاني حتى لو لسانك منطقهاش كل حتة فيكِ بتقولها!!.»
الآن ترى انعكاس لصورتها، دموعها تحتضن وسادتها ويدها تضم الغطاء لجسدها المهتز من فرط احتباس البكاء، قلبها يتمزق ومازال يستغيث بمحبوبها، مذاق ذلك الألم قاتل لدرجة جعلتها لا تريد أن تتذكره، فركضت بعيدًا عن مخضع تلك الذاكرة التي لا تحتوي معشوقها معها.
صعدت للطابق العلوي قاصدة غرفته، فتحتها وهي تناديه بهلعٍ، وكأن أحدًا يحجر ندائها عنه ليفرقهما من جديدٍ:
_أحمـــــــد!
لم تجده بفراشه مثلما تركته، فكاد أن يجن جنونها، عادت تصرخ مجددًا:
_أحمــــــــــــــــــد!
ارتعب لسماع صوتها الباكي يناديه، فأغلق مياه الدُوش ولف من حوله المنشفة الكبيرة، خرج يهرول للخارج، فوجدها تناديه وهي ترتجف دون توقف، أسرع إليها يحاوط كتفيها باستغراب:
_فريدة!
التقطت أنفاسها على مهلٍ حينما رأته أمامها، وراحت تردد بتشتتٍ:
_شوفته تحت يا أحمد.. كان بيلومني بمنتهى البجاحة، أنا كنت فاكرة إني هواجهه بمنتهى القوة بس محصلش يا أحمد.. خوفت يفرقني عنك تاني.. الوجع صعب ومستحيل هقدر أتحمله تاني.. والله قلبي مش هيقدر يعيش الألم ده مرة تانية، لو اتفرض عليا أعيشه هقتل نفسي!
انصدم من حالتها الغريبة، كانت تغفو جواره منذ قليلٍ ونهضت تخبره بأنها ستغتسل وستجهز حقيبتها الخاصة، تفاجئ بحالتها الغريبة تلك لمجرد دخولها للجناح!
حمد الله بأنهم سيغادرون هذا المنزل، فرؤيتها هكذا سيزيد فوق وجعه وجعًا لا يطاق، أفاق من شروده على توسلها المؤلم:
_متبعدش عني تاني يا أحمد.. أرجوك متتخلاش عني!
ضمها إليه وهو يهدهدها كالطفلة الصغيرة، وردد بحبٍ:
_مالك بس يا حبيبتي؟ أيه جاب سيرة الفراق! بذمتك ينفع نتكلم عنه واحنا حاليًا بنأسس لحياتنا في مملكتنا الجديدة؟
ومرر يده على خصلات شعرها القصير وهو يخبرها:
_صدقيني لو أعرف إنك هتكوني بالحالة دي لمجرد دخولك الجناح مكنتش سبتك تدخليه من غيري.
وأبعدها وهو يخبرها بابتسامة جذابة:
_استنيني هنا هلبس هدومي وننزل مع بعض.
وبمرحٍ قال:
_ونشوف بقى شبح الأخ سالم ده هيطلعلك ازاي وحبيبك موجود ومعاه تعويذة العشق اللي هتحرق أعتى العفاريت والأشباح حتى لو كان مارد!!
رحل عنها الاستياء وتمردت ابتسامة واسعة جعلته يبتسم بحبٍ، فانسحب يبدل ثيابه واتجه بها للأسفل يعاونها على حزم أمتعتها!
*****
جلست على الفراش تراقب ما بيدها بوجهًا اصطبغ بحمرة الخجل، لا تعلم كيف فعلتها؟ ، فبعد أن انتهت من العمل صعدت برفقة مايسان بسيارتها، وتفاجئت لها تذهب لأحد محلات الملابس للسيدات، فاشترت لها قميصًا أبيض من الستان وصممت أن تقدمه لفاطمة التي رفضت وبشدةٍ، ومع اصرارها أخذته منها ووقفت تراقبها وهي تشتري لنفسها من نفس المكان.
وضعته فاطمة لجوارها وهي تخبئ وجهها خلف يدها باحراجٍ، كيف ستفعل ذلك وهي لا تعلم كيف ستستقبل حالتها النفسية ما قد تخوضه برفقة “علي” ، تخشى أن يزداد الأمر سوءًا فهي لا تحتمل أن تخوض حالة نفسية تزيد ما تواجهه، حتى وإن كانت على علم بأنه الوحيد القادر على التعامل مع حالتها.
تمكن منها الحزن والضيق فبداخلها يرغب أن يمنح علي حياة زوجية طبيعية مثل باقي الأزواج ورغمًا عنها تخشى خوض تلك التجربة التي قد تزيد من قسوة ما تحمله من ذكرياتٍ.
استدارت تجاه الفراش بعد أن اتخذت قرارها، فجذبت القميص واتجهت لحمام غرفتها تغتسل وقد عزمت أمرها بارتدائه!
******”
الساعات تمضي ومازال الشباب بأكملهم متراصون أمام غرفة الجراحه تاركين “صبا” تستريح بغرفة والدة جمال لحين خروجها، ومازال عمران ويوسف يلتصقون به على نفس الأريكة في محاولة لتخفيف حدة الأمور عنه، حتى أن يوسف أرغمه بتناول الطعام الذي أحضره سيف.
وعلى الأريكة الحديدية المقابلة لهم جلس علي ولجواره آدهم، والأريكة المجاورة لهما حملت سيف وأيوب..
مرت عليهم ثلاثون دقيقة أخرى حتى خرج الأطباء تباعًا يُبشرونهم بنجاح الجراحه الحرجة، وأن الممرضات بالداخل يُهيئونها للخروج لغرفتها، أدمعت عين جمال فرحًا وأسرع يستقبل سرير والدته المتحرك بصدرٍ رحب ولجواره علي الذي أشار له بضرورة التمهل بحركتها.
حمل عمران ويوسف طرف الغطاء وعلي وجمال فحملوها معًا لفراشها، وأسرعت صبا بتعديل ملابسها طابعه قبلة على جبينها ويدها، فهي لم تعاملها الا كأبنة وقد بادلتها الاخرى بأسمى معاملة الابنة للأم!
امتلأت الغرفة بالاطباء يعيدون توصيل الاجهزة إليها، ورفضوا وجود أحدًا بالغرفة لحين استقرار وضعها، فبقى جمال برفقتها وطلب منهم جميعًا بالانصراف فالوقت بات متاخرًا، وأمام اصراره رضخ الجميع.
اجتمعوا أمام بوابة المشفى يستعدون للرحيل، فمال يوسف على أذن آدهم يهمس له:
_حاول تبعد عمران وتلهيه شوية، محتاج أتكلم مع أيوب عن حالة آديرا ولو سمعني هيبهدلني أنا وهو.
ترددت عنه ضحكة رجولية مرحة، واكتفى بهزة رأسه، إتجه إليه يلف ذراعه حول كتفه يخبره بملامح جادة:
_عايزك يا عمران.
اتبعه عُمران ليميل على طرف الطريق في مقابلة الشباب بينما سحب يوسف أيوب جانبًا يسأله:
_طمني الجرح عامل أيه؟
زوى حاجبيه باستغراب:
_جرح أيه!! آآه لو تقصد جرح آديرا فأنا معرفش مشوفتهاش غير امبارح وأنا بوصلها لأوضتها.
ازدادت دهشة يوسف، فتجعد جبينه وصاح به:
_أيوب إنت بتهزر مش كده!!
وجذبه إليه يعاتبه بصدمة:
_أوعى تكون بتنفذ كلام عمران وبتتجنبها وهي بالحالة دي! يا ابني جرحها خطير كتفها متصاب ولازم تأخد ادويتها في مواعدها، إنت عايز تموتها جوه بيتك وتجيب لنفسك المشاكل!
شعر بتأنيب الضمير، لم يكن يومًا من هؤلاء القاسية قلوبهم حتى يفعل ذلك بها، هو الوحيد الذي يحمل ذاك السر الخفي الذي تركه له صديقه الراحل، هو الوحيد الذي يعلم جنسية آديرا وقصتها المجهولة عن الجميع حتى عن عمها، فلا يملك حق القسوة على تلك الفتاة بأي شكل من الأشكال، يعلم بأنه سيعاني ليجعلها تفق على حقيقتها ولكنه لطالما كان صبورًا معطئًا.
ترى ماذا فعلت طيلة اليوم وهي بمفردها، اصابة بطنها وكتفها ستعجزها عن الحركة بالتأكيد فهل تمكنت من تناول طعامها وأدويتها؟
تركه أيوب وهرول لأول سيارة أجرة، أوقفها وصعد بها أمام أعين يوسف الحانقة، وسيف الذي استمع الحوار المتبادل بينه وبين أخيه.
******
حاور آدهم عمران بعدة أحاديث وعينيه تتابع يوسف كالصقر، وحينما اهتدت لرمادية عمران وجده يمنحه نظرة ساخرة انهاها بقوله الجريء:
_مالوش لازمة تعمل الحوار الفاكس ده علشان تطرقني، ما أنا عارف إن يوسف هيعمل تحقيقه الطبي مع عمران فميستهبلش بروح أمه على المسا!!
ضحك آدهم وردد مازحًا:
_طيب أيه اللي مضايقك بالظبط إنه قدر يقوله الكلمتين ولا انك وقفت معايا الكام دقيقة دول!
ابتسم وهو يغمز له بمشاكسة:
_أنا أقف معاك من غير أي حاجة يا باشا.
تلاشت ابتسامة آدهم بشكلٍ مقبض حينما وجد انعكاس ضوءًا أحمر يحيط بكتف عمران، فعلي الفور سحبه للأسفل وهو يصرخ بفزع:
_حاسب يا عمران!!!
انطلقت الطلقة النارية مستهدفة قلب غريمها، على أخر لحظة انتشلها بها آدهم لتلتصق الطلقة النارية بسيارة عمران مسببة انهيار لزجاج النافذة.
صعق الشباب الثلاث وكان أولهم بالاستيعاب علي الذي هرول تجاه أخيه صارخًا بهلع:
_عُمــــــــــرااان!
ومن خلفه ركض سيف ويوسف يحيطان بمن يجلس أرضًا جوار آدهم الذي يحاول الوصول لذاك المسلح فصاح إليهم محذرًا:
_محدش يقرب.. ابعدوا.
وجذبهم جانبًا حتى اكتشف أمره فترك المسلح محله ولاذ بالفرار، انتصبوا جميعًا بوقفتهم فأسرع علي لأخيه يسأله بلهفة:
_حصلك حاجة؟ وريني.
بحث بجسده والاخير يتمسك به بشفقة:
_علي أنا كويس متخافش الرصاصة مصابتنيش آدهم شدني.
ضمه علي إليه بكل قوته بينما صاح يوسف بصدمة:
_مين ده وعايز يقتلك ليه يا عمران؟!
هز كتفيه باهمالٍ، فسأله آدهم بتخمين:
_إنت ليك عداوة مع حد.
أجابه وهو ينظم أنفاسه المتوترة:
_أنا رجل أعمال يا آدهم، رصيدي في البنوك بيزيد مع الوقت وشغلي بيزيد بشكل يخليني عندي أعداء بعدد شعر رأسي، بس الجدير بالذكر إننا كلنا بنتنافس بشرف في السوق، اللي يقدر يقدم جودة وسعر أفضل فمسبقش اني اتعرضت ولا مرة لمحاولة قتل.
تساءل سيف بدهشة:
_لو مش حد من شغلك أمال مين؟!
أجابه وهو يزيح جاكيته وجرفاته باختناق:
_أكيد الكلب اللي ييهدد زينب.
واتجه برأسه لاخيه يهتف:
_بعد رسالة امبارح اللي وصلتله وده كان رده .
ردد آدهم بحيطةٍ:
_مهما كان اللي بينكم مدام لجئ للسلاح يبقى الشخص ده مش عادي ولازم تحذر منه يا عمران، عملها مرة مش هيتردد يعملها مرة تانية خد بالك.
ارتاب سيف لأمره الغامض، فقال بقلق:
_اذا كان ده رده عليك يا عمران هيكون رده أيه على زينب! الشخص ده مجرم خطير يا علي لازم تخلوا بالكم.
استند على جسد السيارة وردد بتمعن:
_احنا استهونا بيه ولازم نرتبهاله صح!
*******
وصل أيوب لشقة آدهم بوقتٍ قصير، هرول للداخل قاصدًا غرفتها، طرق على بابها وهو يناديها بقلقٍ زرعه يوسف داخله:
_آديرا!
لم يأتيه ردها فعاد يكرر ندائه مضيفًا:
_آديرا.. هل أنتِ على ما يرام؟
وحينما لم يأتيه أي رد قال:
_سأدخل للغرفة الآن.
وبالفعل حرر مقبض الباب وولج للداخل يبحث عنها، فصعق حينما وجدها ملقاة أرضًا جوار الفراش فاقدة للوعي، وبقع الدماء تحيط بطنها وكتفها..
أسرع إليها ينحني ويرفع جسدها إليه وهو يحركها بصدمة:
_آديرا ما بكِ؟
فتحت جفونها الثقيلة ببطءٍ فتمكن من رؤية التورم المحيط بهما من أثر البكاء، وبصوتها المبحوح همست:
_أيها الإرهابي هل تنتوي قتلي؟
وانهمرت دموعها تلك المرة وهي تخبره بلومٍ:
_تركتني دون طعامًا أو ماءًا أتناول به دوائي وأنا عاجزة عن النهوض للبحث بالخارج، إن كنت تنفر مني لهذا الحد لما لم تتركني ألقى حتفي أمام باب منزل صديقك!
وأغلقت عينيها تستسلم للظلام مجددًا وهي تستكمل بعتابها:
_حتى الهاتف لم تتركه لي فكيف سأصل لك ولست أملكه!
وعادت تهسهس بكلمة أخيرة أضحكته رغمًا عنه:
_أيها الإرهابي أرجو منك أن لا تخبر صديقك المتوحش بأنني نعتك بها والا سينحر عنقي المسكين!
ساندها أيوب للفراش وجذب هاتفه يرسل برسالة ليوسف ببقع الدماء المحيطة لكتفها وجرح بطنها فأرسل له رسالة قصيرة
«غيرلها على الجروح وعقهما بسرعة قبل ما تلتهب ومتنساش الادوية مهمة جدًا لان فيها مسكنات شديدة»
برق بفيروزته بصدمة مما طُلب منه، فخرج للمرحاض يبحث به عن عدة الاسعافات الأولية، حملها وعاد لغرفتها.
وقف أيوب قبالة فراشها يوزع نظراته بين العُلبة التي يحملها وبين بقع الدماء المحيطة بأماكن جروحها، فجلس على الفراش يردد بارتباكٍ:
_هعملها ازاي دي بس!! ده عمران لو شم خبر مش بعيد يلفني في علبة هدايا ويبعتني مصر للشيخ مهران باعتراف بخط ايدي!!
وعاد يتطلع لها وهي غائبة الوعي، فزفر هاتفًا بحنقٍ:
_وبعدين بقاا هعمل أيه؟!
يتبع…
أزاح عنها كنزتها برفقٍ، ويدها تتشبث بكتفيه تكبت صرخاتها، دموعها تنهمر دون توقف، فهمس لها بصوته الحنون:
_تحملي قليلًا.. سأنتهي سريعًا أعدك بأن ذلك لن يؤلمك.
هزت “آديرا” رأسها إليه، ما تجهله هي بأنها أصبحت تكن له ثقة لم تضعها يومًا بعمها المخيف هذا، حمل “أيوب” القطنة البيضاء وغمسها بالمطهر ومن ثم مررها على جرحها برفقٍ، غمست أظافرها بكتفه وهي تصرخ ألمًا.
أغلق فيروزته يحتمل إلتحام أظافرها الحادة بلحم كتفه مسببة له إصابة دامية، وكأنه تود أن يشاركها ألمها ، احتمل واستكمل ما يفعله حتى عقم جرح كتفها الأيسر وفور أن انتهى وضع اللاصق الطبي ليضمن نظافة الجروح وعدم تلوثها.
جذب “أيوب” كنزتها الملقاة أرضًا ثم عاونها على ارتدائها مرة أخرى، وحملها للفراش لتحصل على راحة أكبر من بقائها على هذا المقعد، استدار ليغادر المطبخ فاعتدلت “آديرا” سريعًا حينما لاحظت بقع الدماء الخافتة المحيطة بكتف أيوب من الخلف، ما أحدثته أظافرها الحادة كان محرجًا لها للغاية، فنادته على استحياءٍ:
_أيوب.
توقف عن استكمال طريقه واستدار لها فقالت بحزنٍ:
_آسفة لم أقصد أن أؤلمك.
خطف نظرة سريعة لكتفه ثم قال وعينيه تتحاشى التطلع لها:
_لا عليكِ.. أنا بخير.
وترك الغرفة وإتجه للمطبخ يعد لها عشاءًا سريعًا، فجذب الشطائر ومرر عليها بالسكين الجُبن وصنع لها كوبًا من الحليب ومن ثم عاد إليها يضع الصينية على الكومود ومن جوارها الأدوية والمياه قائلًا:
_تناولي طعامك ولا تنسي الدواء.
جذبت الصينية إليها تلتهم ما بها بنهمٍ جعله يشعر بتأنيب الضمير، غادر أيوب غرفته وإتجه لحمامه الخاص يغتسل ومن ثم فرض سجادته وأدى صلاته بخشوعٍ تام، وحينما انهاها جلس أرضًا منهمكًا، وكل ما يجوب خاطره أخر كلمات تركها له صديقه، السر الذي وضعه بين صدره وتركه ورحل بمنتهى البساطة!
زحف بجسده حتى وصل لخزانة صغيرة موضوعة بالغرفة، جذب منها حقيبته التي يرتديها على ظهره حينما يذهب للجامعة، فتحها أيوب وأخرج منها ذاك الدفتر المدفون بكتاب صديقه الخاص وأخر ما يتردد له سماع صوته ووصيته
«أيوب حينما تشعر بأن آديرا قادرة على تقبل الحقيقة التي أخبرتك بها فسلمها ذلك الدفتر، وحينها سيكون أمامها خياران، أما أن تظل مستعمرة من قبل ذلك النَّجِسُ، وأما أن تسلك الطريق الذي سلكته أنا لألحق بمن ضحت بكل شيء لأجلي ولأجلها!.»
تشنجت يده على ما يحمله حينما فُتح الباب من أمامه وطلت آديرا منه، فدث أيوب الدفتر العتيق داخل الكتاب الخاص بصديقه وأعاده للحقيبة، بينما وضعت آديرا الصينية المتبقية بالطعام جانبًا وخطت إليه بخطواتٍ متهدجة تحتمل بها آلآم جسدها هاتفة بصوتٍ باكي:
_الكتاب الذي كنت تحمله يخص أخي! لطالما رأيته معه… أنا أريده من فضلك!
أعاد أيوب الحقيبة للخزانة وأغلقها مرددًا:
_ليس الآن.
استندت على الحائط واقتربت منه تتوسل إليه ببكاء:
_أرجوك أنا أريده.. كان أخي يكتب به باستمرار، لعله ترك لي رسالة أو أي شيء!
استدار إليها يخبرها بهدوءٍ:
_سأعيده لكِ بالوقت المناسب.. أعدك.
استسلمت أمام اصراره وهي تعلم بأنه لن يفعل الا ما يريد، فاستدارت لتغادر فإذا بها تحيط بالفراش بتعبٍ، دفعه ليمسك يدها، وعاتبها بضيق:
_ ما الذي أتى بكِ إلى هنا؟
رفعت رأسها إليه وهي ترى النفور والرفض بملامسته لها باديًا بعينيه، رجفة يده التي تساندها كلما اقترب كانت تؤلمها، وأكثر ما يوجعها بأنها كانت تشعر بأنه مجبورًا على مساعدتها.
انهمرت دموعها تباعًا وسحبت كفها عن يده وهي تستند على الحائط قائلة:
_رأيتك تدخل الغرفة دون أن تتناول طعامك فجيئتك ببعض الشطائر، ولكني سأخرج الآن وأعدك بأنني لن أزعجك أبدًا.
تعلقت بالحائط وتحركت لتعود لغرفتها فكادت بالسقوط لترنح خطاها، حاصر خصرها بذراعه يمنعها من السقوط، وقال:
_دعيني أساعدك.. تحملك على جرحك سيؤلمك بالتأكيد.
ابعدته مجددًا وحاولت بمفردها وهي تهتف باكية:
_ابتعد فحسب… أنا مستعدة لتحمل الألم أهون من رؤيتك تنفر مني لتلك الدرجة.
تركته خلفها مشدوهًا، شاردًا بكلماتها وحزنها البادي على ملامح وجهها الأبيض، فأدركها تغادر الآن غرفته وتستند لتصل لغرفتها.
أسرع أيوب للخزانة، يجذب حقيبته مجددًا والتقط منها عُلبة قطيفة من اللون الأزرق، حملها وأسرع خلفها يوقفها:
_انتظري.
توقفت عن استكمال طريقها دون أن تلتفت إليه، فقال من خلفها:
_ألا تريدين الاحتفاظ بشيءٍ يُذكرك بأخيكِ؟
استدارت له بلهفةٍ، ورددت بسعادة:
_نعم بالطبع أريد ذلك.
قدم لها أيوب العُلبة، فاسندت جسدها للحائط ومدت يدها تلتقط العُلبة وتفتحها بتلهفٍ كبير، وجدت داخلها سلسال فضي اللون، ينتهي بزخرفة على شكل كلمة فشلت بالتعرف عليها، رفعتها إليها تلامس الكلمة باستغراب زوى تجاعيد جبينها وأيوب يتابعها باهتمامٍ، فتقابلت عينيها به وسألته بحيرة:
_بأي لغة كتبت تلك الكلمة؟
ابتسم وهو يجيبها:
_العربية.
رمشت بأهدابها الطويلة بدهشةٍ، فلماذا يترك لها أخيها كلمة عربية هل هي سرية ليجعلها مشفرة صعبة الفهم عليها، فماذا يقصد بكل ذلك؟
اهتدت برأسها لجنسية أيوب العربية، وسألته بنبرة رقيقة:
_هل تعرف تلك الكلمة؟
هز رأسه ببطءٍ، فقالت:
_أخبرني بها.
تمعن بالسلسال لثانيةٍ ثم قال لها:
_س… د… ن…
وبعد أن لفظ حروفها بالانجليزية نطقها لها بالعربية:
_”سدن”.
رددتها من خلفه بحروفٍ منكسرة، تجاهد لنطقها صحيحًا:
_سداان… سن… سدن!
ابتسم وهو يراها تحاول جاهدة نطق الاسم الذي تجهل بأنه اسمها الحقيقي، ومع ذلك حافظ على جموده واتزان قامته قبالتها، ليستقبل سؤالها القادم:
_وما معناه؟
سحب نفسًا مطولًا وهو يخبرها بصدمة ستستقبلها الآن:
_إسمًا معناه خادمة الكعبة الشريفة.
ضيقت عينيها بعدم فهم لما قال، فاستفاض يخبرها:
_الكعبة المشرفة هي قبلة المسلمين في صلواتهم، وحولها يطوفون أثناء أداء فريضة الحج، كما أنها أول بيت يوضع في الأرض وفق المُعتقد الإسلامي، ومن مسمياتها أيضاً البيت الحرام، وسميت بذلك لأن الله حرم القتال فيها، ويعتبرها المسلمون أقدس مكان على وجه الأرض، فقد جاء في القرآن الكريم:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ٩٦﴾
صدق الله العظيم.
سرت رعشة مخيفة بجسدها وبدأت معالمها تنكمش بانزعاجٍ، فصاحت بانفعالٍ ظاهري:
_ولماذا قد يترك لي أخي شيئًا كذلك!!
ادعى برائته الكاذبة ورفع كتفيه بحيرة:
_لا أعلم.
وبخبثٍ ماكر قال وهو يمد يده لينتشلها منها:
_إن كنتِ لا تودين الاحتفاظ بها لا بأس سأعديها للحقيبة مجددًا.
أغلقت عليها يدها وكأنه سيتنزع روحها منها، أخر ذكرى تركها أخيها تعني لها الكثير ولن يستطيع أن يأخذه منها:
_لا.. سأحتفظ بها.
ووضعتها حول رقبتها أمامه فابتسم أيوب وتنهد براحةٍ، وحينما وجدها تستدير إليه رسم الثبات والهدوء فقالت:
_لعله كتب شيئًا بمذكراته يخص السلسال، فلتقدمه لي لأرى!
ابتسم على مكرها ومحاولتها لاستمالته لطلبها المتكرر، فقال بحزمٍ تحرر بخشونة صوته:
_انتهينا آديرا.. أخبرتك بأنك ستحصلين عليها بالوقت المناسب.. والآن غادري لفراشك واستريحي.
وتركها وغادر لغرفته يغلقها من خلفه ويتجه لفراشه يجذب كيسًا من البسكويت يتناوله ليسد جوعه، متجاهلًا طعامها الموضوع لجواره، يموت جوعًا ولا يمس طعامًا لمسته يدها، نعم يفعل ما يضطر لفعله ولكن إن تركت طريقها هذا ربما حينها سيتبدد داخله ظاهرة الاشمئزاز التي تنتابه دون ارادة منه!
*********
طرق باب الغرفة قبل أن يطل بوجهه من خلفه متسائلًا ببسمة جذابة:
_حبيبة قلب أخوها صاحية ولا نايمة؟
اعتدلت شمس بفراشها وهي تخبره ببسمتها الساحرة:
_صاحية يا دكتور.. اتفضل.
ولج علي للداخل يستند على خزانتها الوردية وهو يمنحها نظرة حنونة، تتشبع من معالمها وكأنها ستفارقه غدًا.
وضعت شمس حاسوبها وكتبها على الكومود واعتدلت بجلستها تتساءل بدهشة:
_في حاجة يا علي؟
ربع يديه أمام صدره الصلب وأجابها:
_بحاول أشبع منك.. مهو انتِ هتفارقيني مرتين مرة بعد كتب كتابك ومرة تانية بعد فرحك.. بالمناسبة أنا اديت لآدهم جواز سفرك علشان يحجز تذاكر السفر للقاهرة الاسبوع اللي جاي، أنا كمان نازل بعدكم بيومين فربنا يصبرني بقى لحد ما أجيلك.. ورجوعنا هيكون مع بعض لحد ما تمتحني وننزل كلنا عشان الفرح.
ابتسامة مشرقة اتسعت على ثغرها وهي تتخيل مرورها بكل تلك الاحداث مع حبيبها الذي احتل كل ذرة داخلها، وتمكن أخيها من رؤية حبه الذي فاق حد النخاع، فتنحنح ليجعلها تنتبه إليه، فقال:
_نامي بدري علشان آدهم هيجي ياخدك الصبح يجيبلك فستان كتب الكتاب.
وقبل أن تتفوه بحرف رفع يديه باستسلام:
_قولتله إن مفيش داعي بس هو اللي مُصر.. هيكون عندك على عشرة الصبح.
واقترب إليها ينحني طابعًا قبلة عميقة على جبينها قائلًا:
_ربنا يفرحك باللي اختاره قلبك يا روح قلبي… متسهريش كتير نامي وارتاحي.
وتركها وأغلق بابها وهو يهتف:
_تصبحي على خير.
غادر علي وتمددت هي على الفراش تحتضن ذاتها بفرحةٍ، ومن ثم نهضت ترفع جسدها وتقفز على الفراش مرددة بحماسٍ:
_هشوفه بكره!!
********
انتظرته كثيرًا وقد تأخر الوقت، شيئًا ما بداخلها يخبرها بأنه ليس على ما يرام، جذبت “مايا” اسدالها ترتديه واضعة حجابها على شعرها الطويل بإهمالٍ، فصادف أن لحظة خروجها من الغرفة هي ذاتها اللحظة التي وطأت بها قدم “عمران” أخر درجات الدرج، فابتسمت فور أن رأته، أما هو فهاجمه شعورًا غريبًا ما بين الاشتياق إليها والخوف من فكرة خسارتها الأبدية.
ماذا إن لم ينقذه آدهم من مقتبل تلك الرصاصة؟ ماذا إن تمكن منه شبح الموت فقبض روحه وغادر تلك الحياة؟ بالطبع كان سيفتقدها كثيرًا بل أكثر مما يتخيل، أسرع إليها عُمران يقطع تلك المسافة المتبقية بينهما وبحركةٍ واحدة ضمها إليه، يدفن رأسه بخصلاتها المنسدلة من خلفها.
قدميه تتحرك بها للخلف حتى ولج بها لداخل غرفتهما فأغلق بابها من خلفهما، يتجه للفراش بها ومازالت رأسه تميل على كتفيها، رفعت مايا يديها تحتضنه وسألته بقلقٍ:
_عمران مالك؟
ذراعيه القويتيان يُحاوطانها بشدةٍ، فألتمست حاجته لوجودها بالقرب منه، مسدت على ظهره بحنانٍ، فأحكم من عناقه وهمس في أذنها:
_متبعديش عني خليكِ جنبي… حُضنك بيريحني يا مايا!
قالها وهو يجذبها لصدره بقوةٍ ومال بها للفراش غير عابئ بحذائه وملابسه، أغلق عمران عينيه باستسلامٍ للنوم فتسللت عنه ونهضت تنزع عنه حذائه، وجذبت الغطاء تداثره بقلقٍ يعتريها تجاهه.
تمددت جواره واستندت برأسها على صدره تردد وعينيها تتأمل ملامح وجهه الرجولية:
_لأخر يوم في عمري هكون جنبك ومش هسيبك يا عُمران!
********
دخل غرفته وهو ينزع جاكيته وجرفاته باختناقٍ، خطف نظرة للفراش فوجده مرتبًا، اندهش علي لعدم وجود زوجته فاتجه للحمام يتفحصه وناداها بقلقٍ:
_فطيمــــة!
فركت أصابعها بارتباكٍ وتمتمت بخفوتٍ وهي تختبئ بالخزانة:
_أيه اللي خلاني أمشي ورا كلام مايا وألبس اللبس المحرج ده.. أروح فين دلوقتي يا ربي!!
أسرعت للجزء الخاص بملابسها تبحث عن مئزر لترتديه فطرقت على جبهتها بتذكرٍ:
_أنا لميت هدومي كلها وبعتها مع حاجة فريدة هانم بالعربية أيه الغباء ده!
جابت عينيها خزانة علي فوجدته يحتفظ ببذلة واحدة تركها ليرتديها بالغد وهو يستعد للذهاب للمركز الطبي، جذبت فاطمة جاكيت الحلى وإرتدته سريعًا، في نفس لحظة اقتحامه للخزانة فردد بلهفة:
_انتي هنا يا فاطيما وأنا آ…
ابتلع باقي كلماته حينما وجدها تقف قبالته بجاكيت تحاول اخفاء قميصها الأبيض الظاهر من خلفه عنه، كونها أردت أن ترتدي ثيابًا تريح نومها وإن كانت مغرية هكذا جعلته سعيدًا.
طال صمته ومازال يتطلع لها، فتنحنح وهو يستعيد صوته الهارب:
_إنتِ بتعملي أيه عندك؟
توزعت نظراتها لكل مكانٍ بالخزانة الا عينيه، فحك أنفه وهو يخفي ابتسامته لرؤيتها مرتبكة، خجولة أمامه هكذا، رنا إليها “علي” يجذبها بيده لتقترب منه وانحنى ليصل لقامتها الصغيرة، هامسًا بمكرٍ:
_لابسة جاكت البدالة بتاعتي ليه يا فطيمة؟
لعقت شفتيها بارتباكٍ وقد تلون وجهها كحبات الكريز، فتلعثم قولها:
_بردانة.
ضيق رماديته بشكٍ، ولكنه أراد أن يمشي بكل خطواتها فقال:
_أفتحلك الدفاية؟
هزت رأسها تشير بالنفي، فمال عليها يخبرها:
_رجعتي في قرارك ليه؟ أنا مستهلش إنك تثقي فيا يا فاطمة؟
تعانقت المُقل ببعضها البعض، فسرى إليها رعشة احتلت وجدانها، فأجلت أحبالها الصوتية:
_أنا بحاول عشانك يا علي.
اتسعت بسمته وجذبها لصدره يهمس بحبٍ:
_وده كافي بالنسبالي يا روح علي!
تمسكت به وسحبت نفسًا مطولًا من رائحته، كأنها باتت بآدمانه كالمخدر، وقالت على استحياءٍ:
_ليه ازازة البرفان اللي بتحط منها مبتبقاش بنفس الريحة اللي بشمها أول ما بقربلك!
ضحك مصدرًا صوتًا وقال:
_لإني مش بحط من نوع واحد يا فاطمة.
وأحاطها بقوةٍ وردد لها بصوتٍ مبحوح تأثرًا بعاطفته:
_قولتلك كل ما تحبي تشمي البرفيوم بتاعي احضنيني أنا!
رفع ذقنها إليه ليقابل عينيها، وقال بمكرٍ:
_على فكرة أنا كمان بحب ريحة الشاور بتاعك بس بحاول على قد ما أقدر مبينلكيش عشان متفكرنيش برمي كلام للقرب فتغيريه!
جابهته بنظرة قوية وثبات فجأه:
_ما أنا عارفة عشان كده بأخد دُوش بيه دايمًا.
رفع حاجبه باستنكارٍ، فتعالت ضحكاتها بانتصارٍ تحققه عليه، لانت تعابير وجهه المشدود وهو يراقب ضحكتها التي زادت من جمالها جمالًا، أصبحت كالفتنة التي تستنزف كل قوة داخله للصمود.
وجدته هائمًا بها فتوقفت عن الضحك وقابلته بنظرةٍ عاشقة، رفع علي يده يحيط خدها وبحبٍ قال:
_ضحكتك تجنن! ابتسامتك تغوي القديس!
ودنى إليها يستند على جبينها وهو يستطرد بهمسٍ:
_وأنا بني آدم بيتمنى قربك يا فاطيما.
أغلقت عينيها بقوةٍ حينما سبقها على درب الغرام يطالبها بتتبعه، فحاولت أن تسرع بخطاها لتتمسك بيده، وجدته ينزع عنها جاكيته فتركته وهي تكاد تقتل من فرط الخجل.
حملها علي للفراش، وتمدد جوارها متعمدًا أن يصل عينيه بعينيها، يحاول أن يجعلها ترى نظرات العشق الخامدة داخله، أصابعها تنغمس بين أصابع يدها، عاطفته توازيها فلم يسبقها بخطوةٍ لم تستعد لها بعد!
كان عطوفًا لينًا للغاية، يبرع بقراءة تعابير وجهها باهتمامٍ حتى إذا شعر بأي شيء يبتعد، يخشى أن تنتابها نوبة قاتلة وهي بين ذراعيه يقسم أنه إذا حدث حينها لن يسامح ذاته أبدًا، ولكنه يعلم بأنها مثله تريد أن تجمعهما علاقة عادية مثل أي زوجًا وزوجة، وكونه الرجل عليه أن يسبق بخطوته تجاهها، وكونه طبيبًا يعلم خطورة ما يقدم على فعله ولكنه يتمنى أن شهور علاجه لها تجني ثمارها، نجاح علاقتهما سيحقق نجاحه كطبيبٍ خاض مرحلة علاج كانت شبه مستحيلة.
تشنج جسدها بين يديه جعله يهمس لها بعشقٍ:
_بحبك يا فاطمة… بحبك!
استرخت وعينيها المترقرقة بالدموع تندمج بنظرة عينيه الدافئة، وحينما وجدته يبتعد ليتركها وضعت يدها على صدره مستهدفة موضع قلبه، فابتسم وهو يتمم زواجه بها فعليًا وقولًا حتى باتت زوجة له بعد معاناة قضتها وقضاها هو برفقتها!
*****
صمت الليل وتخفى بظلامه خشية من ضوء الشمس النافذ، تململت بفراشها بانزعاجٍ من صوت منبه الهاتف الذي أعدته للاستعداد للذهاب للعمل، فتحت عينيها فوجدته يغفو قبالتها ويده تحيطها بتملكٍ، ابتسمت فاطمة وهي تتأمله بحبٍ لدرجة جعلتها تتناسى كل شيءٍ، إلى أن استقبل هاتفها رسالة من مايا، فتحتها
«صباح الخير يا طمطم.. يلا استعدي ربع ساعة وهنزل.»
برقت وهي تهمس بصدمة:
_هتأخر من تاني يوم!!
أبعدت الغطاء عنها وهرعت لحمام الغرفة تغتسل وفور أن انتهت طرقت على جبهتها وهي تصيح بانفعال:
_نسيت أخد لبس معايا، أنا مالي كده!!
قضمت أظافرها بعنفٍ، واتجهت تفتح باب الحمام، تتطلع تجاه الفراش فوجدته مازال يغفو بعمقٍ، نادته بخفوتٍ:
_علي… علــي!
اعتدل بنومته على ظهره وفتح عينيه يردد بنوم:
_صباح الخير يا حبيبتي.
اندهش حينما لم يجدها جواره فاتجه ببصره للحمام فوجدها تختبئ وتخبره بصوت احتقن بخجلٍ قاتلٍ:
_معلش ممكن تفتح الشنطة اللي عندك وتخرجلي منها هدوم مناسبة للشركة، أنا اتاخرت ومايا بعتتلي.
منحها ابتسامة جذابة ونهض يتجه للحقيبة قائلًا:
_انتِ تؤمري أمر حبيبتي.
رفع الحقيبة يفتحها، بحث بين محتوياتها حتى انتقى بذلة نسائية من اللون البني، وسحب أغراضها الشخصية ثم اتجه إليها يقدم لها ما بيده، فقالت من خلف الباب:
_علي.
طرق على الباب باستغراب:
_أنا هنا يا فطيمة.. افتحي خدي اللبس!
بحرجٍ عظيمٍ قالت:
_ممكن تغمض عينك؟
تمردت ضحكاته وبصعوبة يقمعها حتى لا يخجلها، فأغلق عينيه وقال:
_حصل.
اشرأبت من خلف الباب تتأكد من أنه يغلقها بالتأكيد وسحبت ما بيده وأسرعت بغلق الباب بوجهه بعنفٍ، فلم يقوى بالسيطرة على ضحكاته التي انفجرت فجأة مرددًا باستنكارٍ:
_حبك أيه في قفل الأبواب بوشي هموت وأعرف!!
واتجه لخزانته يجذب بذلته الوحيدة المتبقية، انحنى يلتقط جاكيتها الملقي أرضًا فعادت إليها ذكريات ليلة الأمس، ابتسم علي ورفع جاكيته إليه يقربه لأنفه، أغلق عينيه بتلذذٍ حينما تركت رائحتها المنعشة أثرًا عليه.
خرج للغرفة ينتظر خروجها ليغتسل ويستعد ليومه المجهد، فما أن خرجت حتى ردد بانبهارٍ:
_ما شاء الله يا فطيمة زي القمر.
ارتبكت قبالته فأسرعت بلف حجابها واتجهت لباب الغرفة تهتف بتلعثمٍ مضحك:
_اتاخرت….أنا معرفش مكان الشركة…. عمران ومايا هيمشوا ويسبوني.. عملت المنبه بس انشغلت بيك ونسيت معاد الشركة.
لطمت شفتيها برفقٍ وهي تصيح بعدم تصديق:
_أيه اللي أنا بقوله ده!
ألقت كلمتها وهرولت راكضًا من أمامه فضحك من أعماق قلبه على ارتباكها البادي أمامه، فاتبعها حتى وصل لدربزاين الدرج يتأملها وهي تركض للأسفل بنظرات حالمة، رؤيتها اليوم بتلك الحيوية والنشاط يزيد من سعادته باتخاذ عمران قرار عملها، وحينما كان شاردًا أتاه صوتًا ذكوريًا من خلفه يردد
_بقالي قرن معاك جوه البيت ده وأول مرة في حياتي أشوفك من غير قميص! بس تصدق طلع عندك عضلات بالرغم من إنك كسول ومبتلعبش رياضة!
استدار علي للخلف فوجد عمران قبالته يتمعن به وكأنه لوحة فنية عرضت على أحد الحوائط، انتبه لكلماته فتطلع لذاته بدهشةٍ، كيف اتبعها للخارج دون أن يعي بأنه لا يرتدي سوى بنطاله الأسود.
أسرع علي لغرفته بحرجٍ، ليس هو ذلك الفتى الجريء الذي يستعرض جسده طوال الوقت، حتى حينما يغفو لا يستغنى عن ملابسه العلوية تحسبًا لدخول شقيقته أو والدته أو حتى أخيه.
تعالت ضحكات عمران المشاكسة، فاتبعه وهو يصيح ساخرًا:
_بتخزى من أخوك يا دكتور!!
أغلق علي باب غرفته بوجهه وصاح به:
_وصل شمس لآدهم تحت وبطل وقاحة على الصبح يا عُمران!
اتسعت ابتسامته واتجه لغرفة شقيقته، طرق بابها وولج فصعق حينما وجد الغرفة بأكملها عبارة عن مجموعة من الأَحْجِبَة والاسكارف، ومن بين تلك الفوضى تظهر شمس بالكد وهي تعقد الحجاب من حول رقبتها بقوة جعلتها تسعل بقوةٍ وتجاهد لالتقاط أنفاسها.
ركض عمران إليها يبعد عنها الحجاب من حولها وهو يصيح بدهشة:
_يخربيتك عايزة تنتحري يا بت!!
التقطت أنفاسها اللاهثة وهي تجيبه بصعوبة:
_وحياتك أبدًا يا عمران.. بحاول أتحجب بس الطرحة مش راضية تثبت!!
جحظت عينيه صدمة، فوزع نظراته بين لبسها المحتشم والحجاب القابع بين يده ثم ردد بسخرية:
_بركاتك يا سيادة الرائد!
وتنحنح بخشونة يخبرها:
_وماله ده شيء يسعدنا كلنا بس إلبسي بعقل بذمتك عمرك شوفتي واحدة بتلف الحجاب حولين رقبتها شبه اللي لافة حبل المشنقة كده!!
هزت رأسها بنفي، واتجهت للفراش تجلس عليه بارهاق:
_هعمل أيه بحاول وفشلت.
وضع حقيبته الصغيرة على السراحة، وجاب الغرفة بعينيه حتى سقطت نظراته على اسكارف صغير أسود، فجذبه وألقاه بوجهها قائلًا:
_أعتقد ده بيتلبس الأول.. بشوف مايا بتعمل كده!
التقطته منه بابتسامة واسعة، وقفت شمس أمام المرآة ترتدي ما بيدها، مسح عُمران على وجهه بعصبية:
_صبرني يا رب.. أنا بحاول أكون محترم مع الناس بس هما اللي بيجرجروني للوقاحة ولساني الطويل.
واتجه إليها يجذبها من شعرها البني الطويل المنسدل خلف ظهرها من داخل الأسكارف هاتفًا من بين اصطكاك أسنانه:
_ده أيه يا بت ديل حصان!!
وتابع بعصبية بالغة:
_ولا يكنش حجبتي النص القدماني واللي ورا لسه مدخلش في أوكازيون التوبة!!
برقت بعينيها بدهشة:
_مش المفروض الطرحة طويلة وهتدريه.
كور يده بشكلٍ جعلها تتراجع للخلف حتى صعدت على جسد السراحة:
_اهدى يا عمران مش كده الله… إنت اللي شكلك متعرفش في أمور الحريم هروح أشوف مايا أو فاطمة إبعد.
لحق بها وهي تهرول من أمامه:
_مشوا الاتنين يا فقر… روحي لزينب هتلاقيها في أوضتها لسه.
أمأت برأسها وهي تهرول لغرفة زينب تعاونها بارتداء حجابها لأول مرة، بينما هبط عمران للأسفل ليستقبل آدهم بنفسه، فصافحه بابتسامة مشرقة:
_أهلًا يا كابتن… شرفتنا.
رفع أحد حاجبيه بدهشةٍ من طريقته الرسمية، فمال عليه عمران يخبره:
_عشان الرقابة بس، بره البيت هتلاقيني واحد تاني بس هنا فريدة هانم ممكن يحصلها حاجة!
ابتسم آدهم واحتل مقعده المقابل لعمران، فتسللت عينيه للدرج يود لو يلمح طيفها ليطفئ ظمأ قلبه، ابتسم عمران ساخرًا منه وصاح:
_متبصش كتير مش هتنزل الوقتي وراها معركة الله يعينها عليها.
اخفض ساقه واعتدل بجلسته يسأله:
_معركة أيه!!
هبط علي للأسفل مرددًا ببسمة جذابة:
_أهلًا وسهلًا سيادة الرائد.. نورتنا
انتصب بوقفته قبالته يبتسم في حضرة ذاك الراقي:
_بنورك يا دكتور علي.
أشار للمقعد بتهذب:
_اتفضل.. استريح.
جلس محله مجددًا بينما اختار عمران الجلوس على ذراع مقعد علي، وانحنى عليه يهمس له:
_ها مش هتقولي كنت طالق عضلاتك وخارج بيها ليه كده على الصبح؟
منحه نظرة تحذره وهو يرسم ابتسامة لآدهم الذي نجح بقراءة حركة شفاة عمران فاخفى ضحكته بتمكنٍ، وفجأة أتاته هزة شببهة بالزلزال الذي يحيط بالمبنى العتيق فلا يترك له أثر فور رؤيته لتلك الفاتنة تهبط الدرج محدثة صوتًا موسيقي بحذائها، برق لوهلة يستوعب بأنها ترتدي حجابًا لمرتها الأولى… حسنًا كانت فاتنة بكل ما تحمله معنى الكلمة، لدرجة جعلته يتساءل بارتباكٍ:
_شمس؟
ضحك علي وأكد له بإيماءة من رأسه، بينما ذم عمران شفتيه وصاح:
_اصلب طولك يا حضرة الظابط وإياك تفكر تستفرض بالبنت وهي معاك، أنا مركب Gps يعني هتلاقيني معاك في أي مكان.
لكزه علي بغضب:
_عمران الله.
كز على أسنانه وهو يخبره بضيق:
_مش موافق على الخروجة دي يا علي، معقول تسيبه ياخدها كده عادي ولوحدها.. أنا هروح معاها!
استغل انشغال آدهم بتأمل شمس ومال عليه:
_ميصحش كده يا عمران، بكره هتكون مراته وآدهم مش الشخص اللي تشكك فيه.
جذبه إليه يخبره بنفس وتيرته:
_افرض استغل الوضع وباسها ولا اتحرش بيها مهي هتبقى مراته بكره بقى!
احتقنت نظرات علي فدفعه للخلف بنفورٍ:
_مش كل الشباب وقحة زيك يا وقح!
وتركه يستشيط غيظًا وإتجه لآدهم قائلًا:
_متتأخروش يا آدهم… ولما ترجعوا أبقى تعالى على الموقع اللي هبعتهولك في رسالة، لإننا هننقل من هنا حالًا والعنوان هبعتهولك.
هز رأسه متفهمًا، بينما صعد علي للأعلى قاصدًا غرفة زينب بينما دنى هو حتى أصبح قبالتها يجلي صوته الهارب بصعوبة:
_دي أجمل مرة أشوفك فيها يا شمس… الحجاب مخليكِ جميلة بشكل مش طبيعي.
رفعت عينيها إليه تخبره بحزن:
_ده اللي كنت عايزة أقولك عليه لما صدتني بالكلام.
تسلل الضيق لمعالمه فأزاح نظارته القاتمة ومنحها نظرة جعلتها لا تود إبعاد عينيها عنه:
_أنا آسف.. صدقيني والله أنا بعمل كل ده علشانك وبسبب زعلك ده أنا خليت دكتور علي يكتب كتابنا بكره عشان أكون معاكي بطبيعتي وأقولك على كل شيء دفنته جوايا للحظة ما تكوني حلالي يا شمس.
ارتبكت أمامه للغاية، فتمسكت بحقيبة يدها ورددت بتوتر:
_مش هنتحرك؟
أشار بذراعه نحو الباب:
_اتفضلي.
كادت بأن تتبعه فأوقفها عمران حينما جذبها لاحضانه فجأة بنظرات تتحدى آدهم المبتسم لذاك الطاووس الوقح بتحد، بينما يهمس عمران لشمس:
_لو قربلك رنيلي وأنا أجيلك… أوعي يستفرض بيكِ يا شمس.
ضحكت بصوتها الانوثي، فنهرها بحدة:
_مينفعش حد يسمع صوت ضحكتك غيري يا شمس.
تطلعت له شمس بعدم استيعاب ورددت بمزح:
_عمران مالك ده هيبقى جوزي!!
قال بغيظ:
_لما يبقى بقى!!
وتابع ورماديته مازالت تتحدى عين آدهم:
_المهم متتأخريش ولو قالك حاجة كده ولا كده كلميني على طول .
اتسعت ضحكتها وهي تهز رأسها بخفة، واتبعت آدهم للخارج وعمران يلحق بها، فتح آدهم لها الباب الأمامي فلوى عمران شفتيه قائلًا بحنق:
_كنت ناوي أقعدها ورا بس يلا هسامح بس عشان الصحوبية اللي كانت بينا.
ردد آدهم بمزح:
_كانت!! لأ والله فيك الخير يا عم الطاووس!
منحه نظرة ساخطة قبل أن ينحني ويحمل طرف فستان شقيقته الأزرق الطويل، ليضعه من خلفها على المقعد والحنان والحب يلمعان بحدقتيه تجاهها مما جعل آدهم يبتسم وهو يتابعه وللحق لم يشعر بالانزعاج منه أبدًا، لإنه بطبيعة مهنته يعلم بمكنون من أمامه وهو يرى حب عمران المبالغ به تجاه شقيقته الوحيدة لذا تركه كما شاء فلكلُ حقًا عليها.. إن كان سيكون زوجها فهو أخيها!
*******
ولج علي للداخل حينما استمع لسماحها له بالدخول، فولج يردد بهدوء:
_صباح الخير يا زينب… عاملة أيه؟
انتهت من عقد حجاب اسدالها وردت عليه بابتسامة واسعة:
_صباح النور يا دكتور.. أنا بخير الحمد لله وخلاص جهزت شنطي هغير هدومي وهنزل على طول.
ضيق حاجبيه باستغراب:
_والجامعة يا زينب؟
بارتباكٍ اجابته:
_مش هروح النهاردة.. مفيش حد مع فريدة هانم كلهم خرجوا فمينفعش أنا كمان مكنش معاها.
أشار لها بالجلوس، وهو يراقب وجهها المجهد وكأنها لم تغفو منذ سنواتٍ فقال:
_زينب متحاوليش تقترحي حجج وأعذار علشان متنزليش الجامعة، إنتي من ساعة ما رسالة الحيوان ده وصلتلك وانتي بطلتي تنزلي، طيب وبعدين؟!
ابتلعت ريقها بارتباكٍ لمجرد ذكر اسمه أمامها، فردت بصوتٍ مبحوح:
_خايفة يا علي، لإني سبق وشوفت غضبه عامل ازاي، وبعدين ده تاجر سلاح مش فارق معاه لا حكومة ولا غيره.
استند بجسده على الطاولة المجوفة من أمامه وقال:
_معنى كده انك هتضيعي مستقبلك عشان خوفك منه يا زينب… طول مهو شايفك ضعيفة بالشكل ده هيستقوى عليكِ بكل ما فيه.. أنا هسيبك النهاردة براحتك بس من بكره هتنزلي جامعتك تاني.. واطمني أنكل أحمد كلم شركة حراسة وهيكون في عربية حرس معاكي في كل مكان لحد ما نوصل للبيه اللي بيهدد من بعيد وآ..
ابتلع باقي جملته، فكاد أن يخبرها بأنه تعرض لعمران ولكنه تراجع خشية من أن يحزنها، فنهض عن الأريكة وقال:
_هسيبك تغيري هدومك وهستناكي تحت متتأخريش علشان بمجرد ما فريدة هانم تنزل هنتحرك للبيت الجديد على طول.
هزت رأسها مجيبة:
_حاضر.
تركها وهبط للاسفل ينتظرهم، وأرسل رسالة لعمه يؤكد عليه أن ينتهي من أمر شركة الحرس بعدما أخبره بالأمس عن تهديدات ذاك الأرعن لزينب وقد رأى أحمد أن الحل المناسب هو وجود حرس مُسلح لحمايتها فوافقه “علي”على الفور.
******
اتجه عمران بسيارته لشركته، فولج من بابها الرئيسي فوجد أيوب بانتظاره، ضيق جفونه بنظرة مرعبة جعلت الاخير يرسم ابتسامة زائفة وهو يدنو منه:
_صباح الخير يا بشمهندس.
نزع نظارته السوداء وهو يمنحه نظرة مشتعلة، وهتف:
_نعم!
تنحنح بخفوتٍ:
_نعم أيه بقولك صباح الخير!
اقترب منه عمران وردد بنبرة منخفضة:
_عجبك كلام يوسف اللي قالهولك امبارح صح!
ارتعبت نظرات أيوب تجاهه، فابتلع ريقه الجاف وهو يدعي عدم الفهم:
_كلام أيه؟
_غيرتلها على الجرح يا ابن الشيخ مهران!
ابتلع ريقه الجاف بصعوبة، ورفع اصبعه يشير له بتوترٍ:
_عُمران أنا آآ…
هدر بانفعالٍ ونظراته الحادة تحيطه:
_ولا كلمة.. ورايا!
زفر أيوب حانقًا، يلعن تلك الظروف التي أوقعت آديرا بطريقه وأوقعته هو بطريق “عُمران الغرباوي” ، صعد خلفه للأعلى وولج لغرفة مكتبه.
نزع عنه جاكيته وألقاه لسكرتيره الخاص “حسام” ومن ثم ألقى إليه رابطة عنقه فتلقفها بصعوبة كادت باسقاطه فوق مكتبه، وعاد يفاجئه حينما قذف إليه ساعته الباهظة، التقطها بين يديه ولكنه فشل تلك المرة بانتصاب وقفته المذرية فسقط بها أرضًا وذراعيه تعلو بالساعة.
أشمر عُمران عن ساعديه ببسمةٍ مخيفة، فالتفت وجهه لحسام يخبره بنبرة لطالما كانت تخص القتلى المأجورين:
_كويس إنها منكسرتش والا كنت هتشرف جنب أخوك الشيخ أيوب في خارجته النهاردة.
وانتقلت رماديته لباب الغرفة يستطرد بفحيح الأشباح:
_خد الباب في إيدك وإنت خارج.. أي مقابلات أو اتصالات مهمة حولها لبشمهندسة مايا
. من الأخر مش عايز أي إزعاج يفصلنا أنا وابن الشيخ مهران عن طلعتنا.
جحظت أعين أيوب صدمة، وكأنه يستعد لتقطيع جسده بالمنشار الحاد، فمال على حسام الذي يوزع نظراته بينهما بقلقٍ، همس له أيوب يستجديه:
_متمشيش يا حسام!
رفع كتفيه بقلة حيلة وهرول للخارج، فتراجع أيوب للخلف حتى التصق بالمقعد الذي خلفه، فسقط أعلاه والاخير ينحني إليه ويصوب نظراته القاتمة تجاهه.
أجبر صوته على التحرر متسائلًا:
_في أيه يا عُمران؟ إنت هتتحول ولا أيه؟!
طرق على ذراعي المقعد وبانفعالٍ شرس قال:
_غيرتلها على الجرح يابن الشيخ مهران!! ويا ترى بقى أيه اللي نتج عن الفعل ده!! اتكلم أنا سامعك!
أبعد رأسه للخلف وهو يشير له بخوفٍ غريب:
_أقسملك بالله محصلش أي حاجة.. ولولا ان دكتور يوسف صاحبك اللي نبهني لخطورة اصابتها مكنت قربتلها نهائي!!
أخذت أسنانه شفتيه السفلية يسحقها بعنفٍ يود أن يطول ذاك القابع أمامه، ومع ذلك استكمل أسئلته الطارئة:
_عملت أيه بعدها يابن الشيخ مهران؟
رفع ركبتيه للمقعد وكأنه سيهرول به من أمام ذاك “االطاووس الوقح” وراح يردد دون توقف:
_محصلش والله العظيم محصل.. خد نفس عميق واستهدى بالله يا عمران عيب يا جدع تلميحاتك الوقحة دي.. أنا سبق وقولتلك أنا شاب جامعي جاي هنا أدرس وأمتحن وأخد الشهادة وأرجع لأبويا الحارة… معنديش أهداف تانية فبالله إقلع الوش اللي يرعب ده وسبني أمشي من هنا..
وتابع بنفس الوتيرة:
_هو كان يوم مش طبيعي يوم ما أخدني سيف أسكن معاه بشقته وهو نفسه اليوم اللي اسودت ملامحه يوم ما اتعرفت عليك مع إني اتعرفت على سيادة الرائد آدهم والبشمهندس جمال ودكتور علي بس شهادة لله ناس محترمة وزي موج البحر الهادي إنت اللي مالكش كتالوج، زي السما شوية صافية وشوية مغيمة وفجأة يضربها الرعد والبرق وكل العواصف!!
ابتسم بخبثٍ مخيف وقال بجمودٍ تام وكأن ما قال لم يهز به شعرة:
_لو مش عايز عواصفي كلها تحضر هنا هتقول اللي حصل بالحرف والا مش هرحمك يا ابن الشيخ مهران..
لعق شفتيه الجافة وهو يرفع صوته الذي تخلي عنه:
_مآآ… حص… لش…. محصلش!
صرخ به وقد تخلى عن كل هدوئه المخادع:
_انطق يا أيوب!!
دفعه أيوب للخلف بقوةٍ جعلت الاخير يسقط على المقعد المقابل إليه وهو يصيح بعصبيةٍ:
_أكلتها وأدتها دواها وغيرتلها على الجرح ورجعت أوضتي تاني ده اللي حصل تصدق أو متصدقش دي حاجة ترجعلك!!
تعالت صوت أنفاسه المنفعلة بينما ارتسمت ابتسامة تسلية على ملامح وجه عمران واتجه ليحتل مقعده باسترخاء استراب له أيوب!
سحب القلم وأخذ يوقع بآلية تامة على الأوراق من أمامه وكأن الأخر لا وجود له، فردد أيوب بنزقٍ:
_أيوه يعني أفهم أنا من برودك اللي نزل عليك ده فجأة أيـه؟!!!
رفع رماديته أيه ولف مقعده يهزه بتسلية، قائلًا:
_إني أخدت الحقيقة.
_ولا كنت برغي فيه من الصبح كان أيه؟
ترك مقعده ونهض يلهو بالقلم وهو يشير إليه:
_علميًا الإنسان لما بيتعصب بيخرج الحقيقة كلها عمليًا أنا مصدقك من أول ما اتكلمت بس كنت حابب إديك عينة بسيطة عن اللي هيحصلك لو لعبت بديلك مع العبرانية!
أطبق على يده بقوةٍ، فاحتبس غضبه داخله واستدار ليغادر، فأوقفه الاخير مردفًا:
_عايزك معايا النهاردة.. في مقابلة هتتم كمان نص ساعة هتفيدك جدًا.. خليك موجود.
عاد لمقعده بهدوءٍ زائف تحلى به، وما كاد بأن يفجر عاصفته إليه حتى وجد أحدهم يقتحم باب مكتب عمران وهو يصيح بغضب:
_بقى أنا الحيوان ده يمنعني من الدخول!!
كلماتٍ هدر بها “نعمان” غاضبًا،ومن خلفه ظهر حسام الذي ردد يدافع عن ذاته أمام تلك الأعين المحتقنة:
_مستر عمران حاولت أفهم الباشا إن حضرتك مشغول بس هو آآ..
_الطور الهايج مبيسمعش اللي قدامه عشان يفهمك يا حسام.. والخال ما شاء الله معندوش لا سمع ولا دم!
وابتسم عمران وهو يمنح ذاك البغيض نظرة ساخرة:
_خير يا خال؟ مش خلصنا من حوار الشركة وقولتلك مش عايز أشوف خلقتك هنا تاني، ولا وحشك طولة لساني ومقدرتش تحوش نفسك عن شوفتي!
اقترب نعمان من مكتبه وأيوب يراقب ما يحدث بدهشةٍ وصدمة تفوقه أضعافًا لمعرفة كناية ذلك الرجل الذي بات من كلمته يعلم بصلة القرابة بينهما.
وقف نعمان على مسافة قريبة من عمران وردد بهدوءٍ قاتل:
_قولتلك ما تلعبش بالنار لتحرقك وأديك جنيت على نفسك يابن فريدة!
رفع ساقًا فوق الاخرى وطوفه بنظرة متغطرسة، قبل أن يشدد على كلماته:
_حاسب الولاعة لتلسعك!
وتابع بنفس بروده:
_طريقك أخضر العباسية إن شاء الله يا خال… خد الباب في إيدك وخلي بالك الأُكرة تلزق!!
خرج نعمان بوجهًا مشتعل من فرط الاهانة التي تعرض لها، فما أن اغلق الباب حتى تساءل عمران:
_في أيه يا حسام؟!
رد عليه السكرتير يخبره:
_المشاريع اللي كانت هتتطبق في الشركة اللي كانت بتجمع حضرتك مع نعمان باشا الوكلاء لغوا العقود لما عرفوا إن حضرتك فسخت الشراكة، وكلهم اخدوا مواعيد عشان يقابلوا حضرتك.. فأعتقد إن الخبر وصل لنعمان باشا علشان كده اتعصب.
هز عمران مقعده وكفوف يديه تضم بعضها البعض بتفكيرٍ يستحوذ عليه، كان يحاول تخمين سبب انزعاج خاله هكذا، ولكن الأمر لم يعنيه والآن بعدما استمع لما قال، أشار لحسام:
_مش هقابل حد منهم يا حسام، إرفض التعامل مع أي حد فيهم أنا مبقطعش أرزاق حد حتى لو الحد ده الخال الملزق.
هز رأسه هاتفًا وهو يتجه للخارج:
_زي ما حضرتك تحب.
بعد خروجه شرد عمران قليلًا ليفق بعد ذلك على صوت أيوب المنبهر من شخصيته:
_بحاول أفهمك ومش عارف.. من شوية اتصدمت لما لقيتك بتكلم الشخص اللي يبقى خالك بالشكل ده، واتفاجئت من طريقة تهديده ليك كأنك عدو مش ابن أخته وبعد كده فهمت سبب عصبيته من كلام حسام وقولت يستاهل بس اندهشت أكتر بموقفك ده… عمران إنت محدد وعارف إنت عايز أيه؟!!!
سحب نفسًا طويلًا وأطلقه بتنهيدة حارة أوضحت لأيوب مدى معاناته، ترك عُمران مقعده ونهض يجلس قبالة رفيقه ثم قال مبتسمًا بألمٍ:
_اللي شوفته ده جزء بسيط أوي يا أيوب.. خالي من بعد وفاة أبويا وهو بينهش فينا، ولولا وقفة عمي أحمد ليه كان زمانه سيطر على أملاكنا كلها، عمي طول عمره واقف في وشه وبيحاربه بكل قوته وأنا مش هفضل أتدارى في ضل عمي طول العمر يا أيوب، بقيت أنا اللي في وشه.
وتابع بحزنٍ طفيف:
_علي طيب وقلبه أبيض، مالوش في المشاكل ولا في اللوع فكان لازم أنا اللي أقفله بكل قوتي وأواجهه، وزي ما أنت شايف كده مواجهتي ليه ودفاعي عن حقي وحقوق والدتي وأخواتي خلاه يزيد من حبي حبتين تلاته لدرجة إنه بيتمنى موتي النهاردة قبل بكره!
واستكمل وعينيه تتعلق بعين أيوب الذي تأثر به للغاية غير مدركًا بأنه يخوض كل ذلك بمفرده:
_كل ما بحاول ادفن العداوة بينا أنا وهو علشان خاطر فريدة هانم والدتي بيعمل حاجة أوسخ من اللي قبلها، ببساطة يا أيوب لو الشخص ده شاف حنيتي هيركبني زي ما بيقولوا وللأسف مينفعش لإني الوحيد اللي واقف في وشه وبيقاوم.
انحنى إليه أيوب يربت على ساقه بفخر:
_خليك جامد وقوي زي ما انت يا عمران.. في أشخاص ميستهلوش المعاملة الطيبة.
مازحه ليخفف من حدة الاجواء:
_زيك كده صح؟
تعالت ضحكاته الرجولية وردد:
_ميبقاش قلبك أسود بقى.
ابتسم عمران وأردف بجدية تامة:
_أيوب سامحني على معاملتي ليك بالطريقة دي صدقني ده من خوفي عليك وعلى ضياع مستقبلك، شخص محترم زي والدك ميستهلش يسمح عنك خبر كارثي زي ده، تعب وشقى عشان تأخد شهادتك من جامعة كبيرة زي دي، خوفي الاكبر من إنك تغلط معاها وفي لحظة تبعد عنك، تخيل لو حملت منك هيكون أيه مصير ابنك أو بنتك مع واحدة عبرية!
احتفظ ببقايا ابتسامته وقال بصوته الرخيم:
_عارف وفاهم كلامك ده يا عمران ومش متضايق بالعكس فرحان وحاسس بحبك الكبير ليا ويمكن ده اللي مخليني مستحملك إنت وشركتك واستاذ ممدوح!
انفجر ضاحكًا وصاح بسخرية:
_كده طيب حيلك عليا أنا هوريك اللي جاي هيكون عامل أزاي!
وأشار له وهو يتجه للمشجب ليجذب جاكيته:
_يلا استعد معاد الاجتماع.
******
صرخ بصوت جهوري مخيف:
_اللعينة نفدت من الموت وتزوجت من ذلك الإرهابي الحقير!!
وتابع وهو يشير لرجاله بجبروت سحيق:
_اذهبوا وجدوا لي صديق هذا الارهابي هو من سيوصلنا إليهما.
وردد بوعيد مخيف يهوي من عينيه العدائية المظلمة:
_إلى أين سيهربون مني، سأقتلكما معًا ولنرى من سيوقفني هذة المرة!
يتبع…
حينما تهاجمك الدنيا بكل ما فيها ، وتكسر كل عزيمة تحليت بها، وحينما تجد ذاتك وحيدًا، بائسًا، تعتكف عن الحديث والشكوى حينما تصبح دون جدوى، حينها ستجد ذاتها تنحصر بجزءٍ صغيرًا يفترشه سجادة منظمة، وملابس نظيفة، وضوءًا كاملًا واقبالًا جميلًا يليق بالله عز وجل.
هي الآن ماسدة بين يديه، تبكي قهرًا وتفرغ كل ما بداخلها، خمسة سنوات مضت عليها ومازالت تدفع الثمن من عمرها الذي فنى فتقسم بأنها تخطت السبعون عامًا وإن كانت لا تتعدى الخامسة والعشرون، تجد سكينتها على سجادتها.
انتهت من صلاتها وجلست ترفع يدها وتردد بصوتٍ ذُبح فؤاده واحتقن بأوجاعها:
_يا رب لو كان حيًا يرزق هونها عليه وفك كربه وحبسه يا رب.
وتابعت ببكاء حارق وكأنها لا تحتمل نطق القادم:
_ولو كان ميت إرحمه وتقبله قبولًا حسن، يا رب لو كان عندك اجمعني بيه بعد موتي يا رب.
انهمرت دموعها تباعًا واهتزت يديها وهي تشكو بانهيار:
_حرموني منه يا رب.. أخدوني منه وعذبوني يا رب… فرقوني عن أكتر إنسان حبيته وطلبته منك في كل صلاة ليا.. حرموني من حبيبي!!…. أخدوه مني وأخدوني منه يا رب.
ومالت على الحائط تبكي ويدها تكبت صرخاتها خوفًا من أن يستمع لها زوجها البغيض الغافل بغرفته، فنزعت حجابها تمسح به دموعها الغزيرة وهي تهمس بضعفٍ:
_حقك عليا يا يونس… حقك عليا من ظلم الدنيا اللي شوفته كله يا نن عيني .. كنت عاجزة يا يونس.. معرفتش احاربه ولا أحارب أهلي.. هو اللي أرغمني أرفع عليك قضية الخلع هو السبب اللي فصلني عنك يا حبيبي.
ورفعت يدها تحيط صدرها بموضع القلب، تطرق بها بقوةٍ:
_ده مات من بعدك يا حبيبي… مات ومبقاش له وجود من غيرك.
تعالى صدرها بانقباضٍ من فرط الانفعالات التي تخوضها، تخشب جسدها الهزيل فزعًا حينما شعرت بيد ممدودة على كتفها، فاستدارت للخلف بخوفٍ غادرها حينما وجدته صغيرها.
ضمته لها خديجة وهي تسنشق رائحته بقوةٍ، وتهمس له:
_أيه اللي صحاك من النوم يا حبيبي؟
أجابها الصغير فارس:
_ملقتكيش جنبي فخوفت.
رفعت رأسه إليها وهي تعزز من شجاعته:
_مفيش راجل بيخاف يا فارس.. قولتلك قبل كده لازم تتعود تنام لوحدك وتعتمد على نفسك.
ضمها الصغير وهو يتأمل دموعها بقلقٍ، فتناست كل ما تردده وحاوطته بكل قوتها مرددة بخفوتٍ:
_عملت كل ده عشانك وعشانه.. سامحني يا يونس!
تحشرجت أنفاسها بشكلٍ نبهها لزيارة أزمتها الصدرية المعتادة لها، حينما يزداد بها الحزن والبكاء تزورها بحدةٍ وتواجهها بضراوةٍ، احتملت “خديجة” الآلآم واحتبست صوت أنفاسها المخيف عن ابنها، وضعته بفراشه وسحبت غطائه، وتسللت بخفة لغرفتها الرئيسية تبحث عن بخاختها لتنجو من اختناقها الذي يهاجمها.
وجدته يغفو على الفراش باستمتاعٍ مريضًا بعدما نجح بالمرة التي تفشل بعددها بالسيطرة على جسدها بعدما يرضخها إليه بالضرب المبرح كل مرةٍ، ارتجف جسدها بخوفٍ حينما تذكرت ما يفعله بها فسحبت كم الجلباب تخفي به آثار حروق جسدها البالغ واستكملت طريقها لدرج الكومود.
منحته نظرة منفرة قبل أن تسحب الكيس البلاستيكي تبحث بداخله عن بخاختها، فأصدر صوتًا أزعجه بمنامه فردد بفظاظة:
_اتهدي واتخمدي بدل ما أقوم أكمل على اللي باقي فيكي يا بنت ال****.
اعتادت سماع الاهانات المتكررة منه، فسحبت الكيس واتجهت للخروج، فشملها بنظرة محتقنة وادار ظهره هاتفًا:
_بخت تفطسي وأرتاح من قرفك إنتي وابنك!
تحجرت خطواتها على باب الغرفة واستدارت تختطف نظرة دامعة للمدعو زوجها، رغم أنه يعلم أنها تعاني من أزمة صدرية حادة إن انتابتها يومًا ولم تلجئ لجرعة البخاخ أو الأكسجين حينها ربما تغادر روحها جسدها المُنهك ومع ذلك يغفو براحةٍ وكأنها لا تعنيه بشيءٍ، تُجزم بأنه إن كان يعتني بجروٍ صغيرٍ لكان أبدى له تعاطفه الكامن.
سحبت أذيال الخيبة وإتجهت لغرفة ابنها مجددًا، تغلق بابها جيدًا، انزوت على الفراش المقابل لفراش صغيرها ترتشف البخاخ بقوةٍ كبيرة حتى هدأت أنفاسها واستعادتها رويدًا رويدًا، فارتخى جسدها كالمدمن الذي ارتشف جرعة من السموم فأرحته.
وضعت رأسها على الوسادة وارتخى جسدها يراحةٍ رغم عينيها الغارقة بالدموع، تشعر وكأن مفرش السرير الستان رغم نعومته بأنه خشن كالشوك، يزيد من جحيم جلدها المذري، تعيش هنا بذلٍ وإهانة، وخاصة خلف باب غرفة زوجها الموصود، بالداخل حيث يتم إهانته كأنثى تجرد من كل معنى الأنوثة، يعاملها بخشونةٍ وقسوة كأنها عاهرة أو فتاة ليل!!
كل ما تنجح بفعله كل تلك السنوات أنها تحتبس صرخاتها بتمكنٍ خشية من أن يستمع ابنها الصغير لصوتها، صغيرها الذي اعتاد رؤيتها بملابس محتشمة للغاية تخشى ان يرى حتى ذراعيها المحترقة نهيك عن جسدها المشوه!!!
انهمرت دمعة خارقة على وجهها الأبيض، وهي تتذكره، حبيبها وزوجها السابق، تقتل ألف مرة وهي تضطر آسفة بنسبه بالزوج السابق، ذاك الذي آراها من الحب ما أروها، ضمها لأحضانه التي تفتقد حنانه إلى تلك اللحظة… ذاك الذي أقسم لها بأنه سيظل يعشقها حتى الرمق الأخير من حياتها.
تسعة وعشرون يومًا قضتهما برفقته، تسعة وعشرون يومًا انحفر ذكراهم داخلها، وكأن الجنة استقبلتها بين ذراعيها لتسعة وعشرون يومًا وبعدها لفظتها بكل ما فيها لجُهنم!
لاح لها ذكرى استحوذتها بداخلها
##
_ممكن تفهميني أيه اللي يستاهل عياطك وحالتك دي!! وفيها أيه يعني لو مجموعك مجابش الكلية اللي بتحلمي بيها!
قالها بصوته الحنون المهتم بكل صغيرة تشملها، رفعت عينيها الباكية إليه تخبره ببكاء:
_مستقبلي إتدمر يا يونس!
ضم شفتيه معًا يحتمل تألم قلبه القافز بين ضلوعه، وردد بحبٍ وعينيه تجوب مكان جلوس والدتها:
_أنا مستقبلك يا خديجة!
وتابع بابتسامةٍ صغيرة:
_مش ده كلامك؟
أزاحت دموعها وهي ترسم ابتسامة صغيرة على وجهها، فقال بإصرارٍ:
_بطلي تقابلي كل مشكلة تقابلك وكأنها نهاية العالم، مستقبلك عمره ما هيتدمر لو مدخلتيش الكلية اللي بتحلمي بيها، لو شوفتي ربنا سبحانه وتعالى أختارلك أيه كنت بكيتي وإنتي بتحمديه على إنه مفتحلكيش باب وراه مصاعب ومشاكل إنتي في غنى عنها… قومي اغسلي وشك واقعدي مع نفسك اختاري الكلية اللي هقدملك فيها يا زينة البنات.
وعاد يخطف نظرة سريعة لوالدتها ثم دنى منها ليصبح قريبًا يهمس بعشق:
_هو أنا مش صعبان عليكِ ولا أيه، شيدي حيلك في المذاكرة كده عايز أدخل دنيا.. الحارة كلها تشهد إني صبرت عليكي صبر مصبروش واحد عازب.
وتابع ببسمة ساخرة:
_بذمتك حد أهبل يكتب كتابه على واحدة وهي في تالتة إعدادي ويقعد جنبها يستنى لما تأخد الجامعة؟
أزاحت دموعها وهزت رأسها بضحكة أشرقت تعابيره الجذابة، فردد مبتسمًا:
_منحرمش من الضحكة الجميلة دي يا زينة البنات!
تعلقت خضرة عينيها بعينيه البنية، ويدها تمتد تحتضن كف يده فبرق بمُقلتيه وهو يراقب والدتها هادرًا بتحذيرٍ:
_مامتك يا خديجة!
وتحرك بجسده لأخر الأريكة، ففركت أصابعها بحزنٍ، تعلم بأنه وبالرغم من أنه زوجها الا أنه يحفظه من نفسه جيدًا، الظروف الذي تزوجها بها ترغمه عنوة.
كان يريد أن ينتظرها لحين أن تنتهي من دراستها وحينها كان سيعقد القران يوم زفافهما، ولكن اصرار عمها عن أن يزوجها ابنه دفعه ليعقد قرانها بعد ان وجده عمه الشيخ مهران حلًا صائبًا خاصة بأنها تسكن بعمارته فلا يريد لابن أخيه ولتلك الفتاة بأحاديث تنطلق على ألسنة الناس من حولهم.
وتنحنح بخشونة وهو يشير له مازحًا:
_يلا يا عيوطة قومي كده غيري هدومك وارتاحي، لما أنزل ألم هيبتي اللي ضاعت وسط الصبيان في المحل وهما شايفين معلمهم بيجري شبه الأهبل وكل ده بسببك، واقف استناكي من ساعتها عشان تطمنيني وانتي راجعالي عينك ورامة وواخده في وشك قافش على فوق!
أشارت بكتفيها ببراءة مصطنعة:
_كنت زعلانه هعمل أيه؟
تنهد بقلة حيلة ونهض يتجه للخروج:
_هنزل أطمن على أيوب أشوفه عمل أيه هو كمان ما أنا ربنا إبتلاني بيكم.. طلعتوا عيني طول فترة امتحاناتكم بجري من لجنة للجنة كأني بطمن على عيالي الصغيرين!
ضحكت بصوتها كله فتابع بمزح:
_ولا وقت ما تخرجولي انتِ وهو وتراجعوا الاسئلة قدامي آه لما بيطلع عندك حاجة غلط وأشوف وشك بيجيب ميت لون ببقى هتهور وأقتل أيوب في كل مرة بيقولك على حاجة غلط.
تعالت ضحكاتها وأحمر وجهها من فرط سعادتها بحديثه المرح، فانحنى تجاهها يهمس بجدية تامة:
_أنا بسببك يا هانم كنت بحرضه إنه لو حصل يعني واتهوروا ولأول مرة يحطوا الشباب مع البنات بلجنة واحدة كنت بقوله يغششك في أي إجابة تقف عليكي، مع إني كنت لسه ظرفه خطبة طويلة عريضه عن الغش وجيت عندك وقولته حلال.. اتمسخر بيا بس هعمل أيه مراتي ولازم أبقى حنين عليها!!
وضعت يدها على صدرها تخبره من بين ضحكاتها:
_معتش قادرة يا يونس اسكت!
ابتسم وهو يتابعها بنظرة هائمة، وردد بعشقٍ:
_كده هتفائل بيومي كله.. وكل ما أشتاقلك صوت ضحكتك الجميلة دي هتواسيني لحد ما أشوفك تاني.
منحته ابتسامة هادئة، وعينيها تنطق له بحبه القابع داخلها، انتصب “يونس” بوقفته وقال:
_هنزل أشوف أيوب قبل ما أعدي على المحل، العمال مشغولين بتشطيب المحل الجديد ويافتة “يونس الزيات” بقت مسمعه بالسوق كله وخصوصًا العروضات اللي عملتها على الادوات الكهربائية.
وعاد ينحني قبالتها مستطردًا بغمزة مشاكسة:
_تصدقي بالله كل ما بينزلي أجهزة كهربائية جديدة أنقي لبيتنا كام حاجة وفي الأخر أخاف لوقت جوازنا يكونوا نزلوا حاجة أحدث عشان كده بحاول أتكى على الصبر حبتين لحد ما زينة البنات تخلص دراستها وتشاورلي بس أجهز البيت من مجاميعه.
تسلل الضيق لملامحها الهادئة فنهضت تقف قبالته وتخبره عاقدة الذراعين:
_يونس أنا قولتلك قبل كده مش عايزة اتجوز بالبيت اللي اشترته ده أنا عايزة أفضل هنا.. شقتك تحت أهي واسعة وجميلة محتاجة بس تتشطب وهتبقى جنة.
زوى حاجبيه بدهشةٍ وصاح:
_عايزة تتجوزي في شقة قديمة!! دي قيمتك عندي يا خديجة!
أصرت على حديثها قائلة:
_مالها الشقة يا يونس.. إنت ورثت في العمارة دي زي الشيخ مهران وعيشنا وكبرنا فيها، كمان محلاتك فيها من تحت يبقى لزمتها أيه تبعد ونسكن في نص البلد أنا مرتاحة هنا وخصوصًا إن ماما هتكون ساكنة فوقي.
تهدلت معالمه باستسلام لاقناعها، يعلم كم هي عنيدة لذا رضخ لها بابتسامته الساحرة:
_عنيا يا زينة البنات اللي تعوزيه كله يحضر!
اتسعت ابتسامتها ورددت باستحياء وهي تهرب من نظراته:
_تسلملي يا حبيبي.
ابتلع ريقه بارتباكٍ، ودنى إليها يهمس:
_قولتي أيه؟
تمعنت بعينيه الشبيهة بالقهوة التي تحتضن لوح من الشيكولا الساخن، وتجرأت بقولها العذب:
_حبيبي وجوزي وكل حياتي يا يونس.
اتسعت ابتسامته بشكلٍ عينيها لا تفارق وجهه، وقال:
_كتير عليا كل ده يا زينة البنات!
همست له ووجهها قد تشرب بحمرة الخجل:
_إنت اللي كتير عليا يا يونس!
وكأن جملتها قد أرهنت الزمان ليستجيب لها، انحرمت منه وألقت لأشباه الرجال يريها الفرق المعهود بينه وبين محبوبها، ذاك الذي كان يسميها على لسانه وقلبه وهاتفه “زينة البنات” ، وكانت تراه هو خير الرجال، الآن انتهت بها قصة عشقهما الخالد بفراق ووجعًا لن يهون على قلب بشريًا احتماله!
********
بلندن..
اتبعت سيارة آدهم الموقع المرسل إليه حتى وصل إليه، فوجد علي يفتح البوابة الحديدية البيضاء ويشير له بالدخول، فقاد سيارته للداخل وصفها بالچراچ الضخم التابع للقصر الفخم، هبط هو أولًا وأسرع يفتح لها الباب هادرًا بمزحٍ:
_شمس هانم.
ضحكت حينما ذكرها بمعاملته السابقة لها حينما مارس دور الحارس الشخصي باجتيازٍ، فحملت طرف فستانها وانحنت تردد بنعومة:
_كابتن آدهم.
تمردت ضحكته الرجولية بشكلٍ لفت انتباهها فوقفت تتأمله بسعادة، وقال لها يحذرها:
_أممم هعديها كابتن دي.. بس ولو لمرة ناديني باسمي الحقيقي يا شمس!
أدلت شفتيها للأسفل بحزنٍ مصطنع:
_والله ما لايق عليك الا آدهم صدقني!
ابتسم وهو يدنو إليها هامسًا بصوته المغري:
_أقولك سر؟
هزت رأسها بتأكيدٍ، فقال:
_وأنا كمان..
وتابع وعينيه تشرد بالفراغ:
_والدتي الله يرحمها مكنتش بتناديني غير بيه.. عشان كده حبيت الإسم وبستعمله أنا واللي حواليا في مصر.. كلهم بينادوني بيه بس عند شخص واحد والكل بيناديني قدامه بإسمي الحقيقي عشان كده بنبهك من دلوقتي أنا في مصر قدام بابا أنا عمر مش آدهم.
رمشت بعدم فهم لحديثه الشبيه بالألغاز، فقال مبتسمًا:
_بابا وماما الله يرحمها اتخانقوا بعد ولادتي، كانت عايزة تسميني آدهم وهو مصمم إن لقب عيلته ميلقش بيها غير “عمر الرشيدي” .. الظابط عمر الرشيدي زي ما طول عمره بيحلم… ومن هنا حصل انقسمات وخناقات فعاند وراح سجلني عمر وهي فضلت تناديني آدهم لحد ما في وقت من الاوقات كان بيحصلي لخبطة ومبقتش عارف أنا مين فيهم عمر ولا آدهم..
وتطلع لها بابتسامته الجذابة مسترسلًا:
_بس لما دخلت المخابرات اكتشفت إن دي نعمة.. بتنقل بإسم حركي متقبله والاغلب عارفني بيه بس قدام بابا بمثل الدور اللي يراضيه خصوصًا إنه دايمًا بيلمس حبي الزايد لوالدتي الله يرحمها.
كونه يتحدث معها عن ادق أموره، بقائه برفقتها بعض الوقت بعد وصولهما، صبره معها وهي تتنقل من محلٍ لأخر حتى انتقت فستانًا يليق بحجابها الذي ترتديه لمرتها الاولى، كل تلك الاشياء جعلتها أسعد نساء العالم بأكمله، تتمنى أن يظل يتحدث وتراقبه بصمتٍ، فمالت على يدها تستند على مقدمة السيارة وتراقبه وهو يتحدث بصمتٍ تعجب له آدهم فنادها:
_شمس!
اعتدلت بوقفتها تهتف بحرجٍ:
_هااا… نعم!
قال وهو يتجه لصندوق السيارة ليجذب الفستان المغلف بعناية:
_إنتِ مش معايا خالص.. شكلك تعبتي من اللف النهاردة.
لحقت به تراقبه وهو يحمل أغراضها بتريثٍ:
_لا أنا بس سرحت فيك شوية.
أغلق صندوق السيارة واستدار يسألها باهتمام:
_سرحتي في أيه؟
وضعت حقيبتها على كتفها وقالت بابتسامة عذباء:
_حاسة إنك شخص مختلف عن آدهم الحارس اللي عرفته طول الفترة اللي فاتت.
فهم ما تقصده بحديثها، وقال برزانة:
_لإن اللي شوفتيه قبل كده كان بيقوم بشغله وبس.. وسبق وقولتلك يا شمس تقربي منك كان من ضمن الخطة اللي حطناها عشان نوقع راكان بس اتقلبت ضدي وحبيتك.
وقطع المسافة المتبقية بينهما وهو يستطرد:
_بكره هتكوني مراتي على سنة الله ورسوله.. هتقربي مني وهتعرفيني على طبيعتي.. هحكيلك عن مشاعري وحبي الكبير ليكي.. وإزاي قدرتي تحركي قلبي اللي كان مشغول ومش شايف أي بنت حوليه!
وأشار لها بالخروج فاسندت يدها لصدرها، تربت على خفقاتها المتزايدة لحديثه، وعاونها بما تحمله ليقدمه لعلي الذي عرض عليه الدخول لرؤية المنزل من الداخل ولكنه اعتذر وأخبره بأنه سيراه بحفلة عقد القران غدًا، فوادعهما وغادر.
. ********
حمل باقة الزهور الحمراء بين يديه يقلبه وكأنه يتفحص ما يحمله، ثم عاد ببصره لمن يقف أمامه وتساءل بدهشةٍ رغم أنه أخبره منذ قليل:
_قولتلي الورد ده لمين ومن مين؟!
رغم غرابته ولكنه اعتاد عليه هكذا، فأجابه حسام:
_من دكتور علي لمدام فاطمة.
عقد حاجبيه بشكلٍ مضحك وهتف:
_علي أخويا أنا جايب ورد!
ورفع عينيه له يتساءل:
_متأكد يا حسام!!
وكأن ما وضعه بين يديه قنبلة ذرية وليست باقة ورد بريئة، فوضع قبالته الظرف المطوي قائلًا:
_المندوب سلمنا الظرف ده كمان.. ولإن حضرتك منبه علينا محدش يدخل مكتب البشمهندسة مايا جبتهم لمكتبك.
أشار بيده ومازالت رماديته تحيط الباقة بنظرة ساخرة:
_روح إنت… ومتنساش تسلم أيوب المبلغ اللي قولتلك عليه وتفهمه إن ده المرتب الاسبوعي ليه.
هز رأسه مؤكدًا، ولكنه لم يقمع فضوله فقال:
_بس الشركة ماشية بالنظام الشهري يا مستر عُمران!
رفع عينيه عن الباقة وسلطها إليه، وردد بعصبية:
_وإنت مالك دافع من جيب أمك!!
جحظت عين حسام صدمة، فسحب عمران نفسًا طويلًا وردد:
_يا ابني الله يكرمك بقالك معايا هنا أربع سنين وعارفني لما بتعصب ببقى طور فبالله ما تحاول تعصبني لإنك عارف إن التداخل فيما لا يُعني أمك ده أول شيء بيعصبني!
وتابع وهو يمرر أصابعه على الباقة التي يحملها:
_يلا انصرف إنت بقى وسبني أشوف حكاية أخويا الدكتور المراهق أيه!
غادر من أمامه على الفور، فترك عمران الباقة على المكتب وأعاد ظهره لمقعده يتفحصه بنظرة شاردة، استند بذقنه على ذراعه قائلًا :
_الصبح طالعالي من غير قميص ودلوقتي باعتلها ورد وظرف مقفول!
وتابع ببسمةٍ خبيثة:
_ شكل عِلوة دخل عش الزوجية!!
*****
انتهت أخيرًا من حسابات الملف المتبقى أمامها بارهاقٍ، فلقد استنزف جهدًا عظيمًا منها، نهضت “فاطمة” عن مكتبها واتجهت لمايا تضعه من أمامها:
_شوفي كده يا مايا.
أبعدت عينيها عن شاشة حاسوبها لتراقب ما فعلته فاطمة بانبهارٍ، فاستقامت بوقفتها أمامها وقالت:
_ما شاء الله يا فاطمة والله بدون مبالغة إنتي شاطرة ودقيقة جدًا في حساباتك.. حتى عمران لسه مورياه شغلك من شوية انبهر بيكِ.
وقبل أن تجيبها وجدت صوتًا ذكوريًا يقتحم حديثهما:
_حبيب قلبه جايب في سيرتي وشكله مشتاقلي وأديني جيت ألبي النداء!
صوبتله نظرة صارمة لوجود فاطمة ولكنه لم يبالي ودنى منهما، ووقف قبالة فاطمة يخبرها بابتسامة هادئة:
_كلامها صح يا فاطمة ، أنا شوفت حسابات المشروع اللي اشتغلتي عليه امبارح فأنا من دلوقتي هعتمد عليكي اعتماد كُلي، وهحتاجك الفترة الجاية جدًا.
سعادتها كانت تفوق حد الوصف، شعرت وكأنها بلحظةٍ أصبحت ذات قيمة، كانت ترى حياتها ساكنة دون جديد أو شيئًا يدعوها للحماس، كل ما بيومها يُذكر هو لقائها بزوجها الحنون، على ذكره الآن تلون وجهها بخجل وشوقًا لسماع صوته الغائب عنها طوال اليوم، بالطبع سيكون مشغولًا الآن بنقل بعض الأغراض للمنزل الجديد برفقة عمه ووالدته.
حانت من مايسان نظرة لما يحمله عمران بين يديه، فرددت بسخرية:
_جايبلي ورد يا مستر عمران؟
تأمل ما بيده ثم عاد يتطلع لها بنظرة أسقطتها بنبذ عشقه:
_الكون كله يحضرلك تحت رجلك يا حبيب قلبي بس الورد ده مش ليكِ.
ضيقت عينيها بنظرة تتحفز للانقضاض عليه، وببطءٍ شديد قالت:
_أمال لمين يا بشمهندس؟
قدمه عمران لفاطمة وهو يسرع بالتبرير:
_من دكتور علي الغرباوي لزوجته المصون..
وتابع وهو يخرج من جيب جاكيته الظرف:
_لأ وبعتلها جواب غرامي!
ابتسمت مايا بحماسٍ، بينما برقت فاطمة بدهشةٍ، حملت منه الظرف والورود ورددت بتلعثمٍ:
_ليا أنا!
اتجهت فاطمة لمقعد مكتبها بخجلٍ منهما، فلم يشاء أن يُخجلها فقال:
_لمي حاجتك انتي وفاطمة..عمي بعتلي وقالي لازم نرجع ضروري علشان نساعد معاهم.. هستناكم في العربية تحت.
هزت رأسها بتفهمٍ وأغلقت حاسوبها ثم جمعت أغراضها لحقيبتها، بينما نزعت فاطمة طرف الظرف والتقطت الورقة الصغيرة تقرأ ما بها بعينيها وابتسامة عاشقة تزداد مع كل كلمة.
«كانت أجمل ليلة في عمري كله، كنت حاسس إني ملكت الدنيا كلها، قلبي من أول نظرة ضمك جواه ورافض يضم غيرك، بقيتي ساكنة في كل دقة من دقاته يا فطيمة، إني أوصل لقلبك ومشاعرك كان حلمي الأول ودلوقتي إن يكونلي ابن منك حلمي التاني وبفضلك بقى قريب يا فطيمة..
بحبك وحبك بقى علاجي النفسي من كل الضغوطات اللي بمر بيها..
علي…»
ضمت الورقة إليها بكل حنان، وفرحتها لا تسع أحدٌ، لاحظتها مايا وهي تضع هاتفها ومتعلقاتها بحقيبتها فابتسمت لسعادتها وتمنت لها كل خيرًا صادق، وضعت الحقيبة على كتفها وتنحنحت لتفيق الأخرى قائلة:
_يلا يا فاطمة اتاخرنا على عُمران.
وضعت الورقة بحقيبتها ووضعت الورد بالمزهرية الموضوعة على مكتبها، ثم اتجهت إليها فهبطوا بالمصعد لعمران الذي تحرك بهما على الفور بعدما انهى مكالمته مع جمال يطمئن على والدته التي استردت وعيها وبدأت تتلقى الأدوية بشكلٍ مكثفٍ.
******
بالقصر.
انتقل برفقتهم خادمتين سيواصلون العمل هنا، فحملوا أغراض شمس وزينب لغرفتهن القابعة بالطابق الثاني الخاص بالفتيات، اما الطابق الثاني فصمم على شكل جناحين كبيران جدًا لعلي وعمران، والطابق الأول بأكمله خصص لفريدة وأحمد.
صعدت زينب وشمس تعاون الخادمات بترتيب الاغراض وتبقى علي بالأسفل جوار أحمد وفريدة يتناقشون بتزين القاعة الداخلية للحفل بالغد، فقال أحمد:
_متقلقيش أنا اتفقت مع شركة متخصصة هيجوا بكره على الساعة عشرة يعملوا ديكور وزينة بسيطة، لما يوصلوا بلغيهم باللي تحبيه.
هزت رأسها باستحسانٍ، واتجهت لعلي الذي يعمل على حاسوبه ومازالت حقائبه لجواره:
_ما تطلع يا علي تريح فوق إنت تعبت معانا من الصبح.. أو على الأقل خلي حد من الخدم يطلعلك شنطك.
وضع كوب قهوته جانبًا وأجابها ببسمة هادئة:
_هستنى عمران الأول يختار الجناح اللي يستريح فيه ويكون مناسب للخزانة اللي حابب يعملها.
_إنت اعظم أخ في الدنيا كلها أقسم بالله.
قالها عمران الذي استمع لحديثه، فجلس على ذراع مقعد علي كما اعتاد وقال:
_شوف أنا لو فضلت للصبح أقولك بحبك أد أيه مش هعرف.
وانحنى إليه يهمس بغمزة ماكرة:
_بس أيه حركات الورد الروشة دي، الظاهر إني استهونت بيك يا دكتور.
منحه نظرة حازمة فضحك وهو ينهض عن مقعده، بينما الأخر يبحث عنها حتى وجدها تدلف برفقة زوجة أخيه..
قاطع أحمد حديثهما حينما أشار لعلي على أحد غرف الطابق السفلي:
_دي أوضة مكتب نظمتهالك مخصوص يا علي، فيها مكتبة ضخمة لكتبك والأهم فيها شاذلونج عشان لو حبيت تعالج حد من العيلة ولا حاجة.
تهدلت شفتيه بابتسامة ممتنة، وراقب باب الغرفة بحماسٍ، فقال:
_شكرًا يا عمي… مكان زي ده هيريحني جدًا.
لوى عمران شفتيه بتهكمٍ وردد:
_طيب وأنا يابو حميد.. مفكرتش تعملي ليه خزنة محترمة أنقل ليها ساعاتي وجزمي وكل شيء غالي عليا.
منحه أحمد ابتسامة هادئة، وردد:
_مكنتش أعرف إنهم غاليين عندك كده، أنا فكرتي عنك إنك بتحب الحديد والأوزان جدًا علشان كده عملتلك في الدور الرابع جيم متكامل بأجهزة رياضية أحدث من بتاعتك.
جحظت عين عمران بانبهارٍ، وسأله بعدم تصديق:
_قول بجد؟
هز رأسه بتأكيدٍ فهرول إليه عمران ينحني ويحمله من ساقيه فاستند بيديه على كتفيه بصدمة، والأخر يدور به هاتفًا بفرحة:
_إنت أحسن عم وجوز أم محصلش ولا هيتكرر في العالم كله.
انصدم علي والفتيات حتى فريدة، بينما صاح احمد بغضب:
_ولد!!! نزلني!
نجحت فريدة بالتخلص من حالة صدمتها فرددت بحزمٍ:
_عمران!
جذبه علي وخلص عمه منه قائلًا:
_أيه اللي بتهببه ده!!
عدل أحمد جرفات بذلته السوداء وصاح بتهكم:
_بتستعرض عضلاتك علينا يا وقح! عارفين يا سيدي انك بتعرف تشيل أوزان ومش محتاجين اثباتات احنا!!
نزع عنه جاكيته وجرفاته وتطلع للدرج بنظرة شقية، كأنه يستعد للصعود للرقص، وصاح بحماس:
_مش فاضي للرد دلوقتي… ورايا الأهم من أي حاجة… وقت اختيار الجناح المناسب لتنفيذ فكرة الخزانة اللي جاتني.. لما أنفذها وأنزلها على حسابات السوشيل ميديا بتاعتي تقدروا تتابعوا القلبان اللي هتعمله أفكار البشمهندس عمران الغرباوي عن اذنكم!
وتركهم وصعد للاعلى ينتقي الجناح المناسب لتصميماته، بينما صعدت الفتيات لغرفة شمس يستعدون لحفلة الغد.
*******
انتهت من ترتيب ملابسها بالخزانة، تلك الغرفة تكبر الاخرى بمساحتها، حتى شرفتها كانت واسعة تطل على حديقة القصر الواسعة، أغلقت زينب عينيها تستمتع بنسمات الهواء الباردة التي تحيطها، توجهت للمقعد الهزاز القريب من السور، جلست عليه وأخذت تهزه برفقٍ حتى استجاب جسدها المنهك للنوم، كانت غفوة مخادعة تسحبها لذكرى قاتلة، تزيد من وجعها.
##
سئمت من انتظاره، مضت أكتر من ثلاثون دقيقة منذ أن ناداه أحد رجاله، فاستأذن منها وغادر المنزل الذي أصر أن يحضرها إليه بحجة أن يريها أحدث المفروشات استعدادًا لزوجهما بعد أن وافقت أن يزور أخيها ليطلبها بشكلٍ رسمي.
راقبت زينب ساعتها باستياءٍ لتأخره، فخشيت أن يغضب أخيها إن تأخرت بعودتها، سحبت حقيبتها واتجهت للمغادرة، فما ان اقتربت من باب الخروج حيث مكان وقوف “يمان” مع أحد رجاله، استمعت له يخبره:
_كله تمام يا باشا، فؤاد بيه استلم صفقة الاسلحة مننا على الحدود بنفسه وسلمنا شنط الفلوس.
هز يمان رأسه باستحسان وصاح:
_والكلب اللي زرعته الحكومة بينا عملتوا معاه أيه؟
لعق شفتيه باجرامٍ مخيف:
_تويناه يا باشا هو ومراته وابنه عشان يبقى عبرة لمن يعتبر.
برقت بمقلتيها صدمة لما استمعت إليه، فتراجعت للخلف ورأسه يميل يسارًا ويمينًا بعدم تصديق، تراجعت للخلف وكأن هناك شبحًا يتقدم تجاهها، فارتطم ساقها بقدم الطاولة من خلفها وعلى الفور سقطت الأنتيكة مصدرة صوت حطام قوي، أتى يمان على أثره ليتفاجئ بباب الشرفة الخارجي مفتوحًا على مصراعيه.
ركض للطابق العلوي يناديها ويفتش عنها بالمنزل بأكمله، حتى قابل الرجل التابع إليه بالأسفل يخبره:
_الهانم كانت بتجري على بره ووقفت تاكسي وركبته.
شدد من لكمته على درابزين الدرج بغضبٍ بعدما تأكد له بأنها استمعت لحديثهما، وأمر فرارها الآن أمرًا كارثي لا ينذر بالخير!
أفاقت من نومها تسعل بقوةٍ، وتلتقط أنفاسها المضطربة بانهيارٍ، وكأن ما رأته يحدث أمام عينيها الآن، ذلك اليوم كان بمثابة صفعة تركت أثرها على خدها إلى هذا اليوم، خروجها من المنزل جعلها ممتنة بأنها مازالت على قيد الحياة.
تأكدت بأن الخوف الذي كانت تشعر به كلما كانت برفقته كان لسببٍ، نظراته الحادة التي تطل وقت غضبه، غيرته المجنونة، همجيته بالتعامل مع أخيها وذاك النادل الذي تطلع لها كل تلك الأفعال لا تنتج الا عن مجرم مختل بالفعل!
*******
مر الليل بسكونه وأتى صباح اليوم المنتظر، استيقظ الجميع باكرًا وتجمعوا على طاولة الافطار ليبدأ من بعدها الجميع بأعمالهم الهامة، فجلست شمس جوار عمران ومالت عليه وهو يرتشف قهوته قائلة:
_مش هتغنيلي النهاردة؟
وضع فنجانه قبالته وردد باعتراضٍ:
_لا يوم الفرح هغنيلك وأرقصلك كمان.. النهاردة No.
أمسكت ذراعه تترجاه بدلالٍ:
_بليز يا عمران.. طيب غنيلي دلوقتي أغنية
النهاردة هكلم ابوكي، قالها وروحى راحت يانى
قالى ايه خدودك كسفوكي؟! … لونهم برتقالي
قالى دة عيوني استنوكي.رديت روح جيب فستاني، اللي متزوق باللولي عقبال كل البنات.
ضحك علي وأحمد المتابعان لها، بينما اشمئز عمران هاتفًا بحنقٍ:
_مبحفظش الأغاني الهابطة أنا!
برقت بصدمة:
_دي هابطة دي.. أمال ليك في أيه؟!
خرجت مايا من المطبخ تحمل طبقًا وضع بداخله المسك الطبيعي:
_سيبك منه يا شمس وتعالي علشان نلحق نخلص.
رددت وهي تميل برأسها على كتف عمران:
_مش قبل ما يغنيلي.
تناول علي شطيرة الجبن وأمره برفق:
_غنيلها يا عمران احنا عندنا كام شمس!
صوب له أحمد نظرة منزعجة مما يفعله وقال بمكر:
_رغم إن صوت الطاووس الوقح ده بيزعجني بس عشان خاطر عيون شمس نستحمله.. غني يا وقح!
رفع فنجانه يرتشف المتبقي به مرة واحدة وكأنه يبتلع الخمر، وردد بخبث:
_شكلي كده مش هحارب نعمان لوحده… هترتاح إنت لما أقلب على عيلة الغرباوي كلها يا أحمد باشا!!
تعالت ضحكات أحمد ومازحه وهو يضع قدمًا فوق الاخرى بتعالي:
_لو حاربت العيلة كلها قلبك ميطوعكش تعملها معايا.
ابتسم عمران وقد ارتسمت الجدية على معالمه، فنهض عن مقعده واتجه يحتضن احمد طابعًا قبلة على منبت رأسه باحترام:
_إنت الوحيد اللي لو وقفت قدام الدنيا كلها أنحني قدامك بكل احترام يا عمي.
ضمه أحمد إليه بحبٍ، وارتسمت ابتسامة مشرقة على وجه فريدة التي تقترب وهي تتابعهما بفرحةٍ.
وبعد قليل نهضت فاطمة وزينب يرفعون الزينة خلف مقاعد العريس والعروس، ومن جوارهما يقف علي على الدرج يعلق الزينة بالمكان التي تشير له فريدة الواقفة بالأسفل بكل عنجهية، وخطواتها تترك أثرًا في نفس ذاك العاشق الذي يراقبها.
على بعد منهم جلس عمران يعد الموسيقى بهاتفه على السماعة الخارجية واتجه لمايا التي تضع المسك على وجه شمس بعناية، وما أن تحرر صوت الموسيقى حتى ارتفع صوته العذب يردد:
«قولي لأمك يابنت
جاية الليلة اطلب ايدك
ولا بعمري عاقل كنت
وحياة الاله بريدك
عشتا بطول وعرض الدني
مابعمرو راسي بينحني
لما دخلتِ بعمري غِني
من عمري نشالله يزيدك»
وارتفع صوته مجددًا وهو يحمل مايا عن المقعد يطوف بها بين ذراعيه هاتفًا
«أنا لما بحب بحن بجن
بهدم بحرق بقلب جن
الروح بغيباتك بتحن
بتنده وينك»
مال “علي” على مقدمة الدرج يتطلع لفاطمة التي رفعت رأسها عاليًا تقابل حضن عينيه الدافئ وصوت عمران يوثق عشق الدكتور علي ومريضته فاطيما
«أنا لما بحب بكفي بدربي بدوب بلحظة مني تقربي
بتضحك روحي بيفرح قلبي بضحكة عينك».
تركها عمران وإتجه لمقعد شمس التي تتمايل بفرحة وهي تستمع إليه، فانحني يضمها من ظهرها لصدره ورأسه مال على كتفها وهو يناغشها بكلماته
«بيك غلّى المهر كتير
فكرو بيغلى عليكِ الغالي
بيك عجزني ت يصير
عليا نجم وصولك عالي
لو فيي ألماس بجيب
مابعمرو بيغلى عالحبيب
بيرخصلك عمري و بطيب
أنا دمي ومالي»
وإتجه تلك المرة لفريدة، مسك ذراعها بخفة ورقص بها ويده تدور بها لتستلقى على ذراعه الاخر مع انحناءة جسده برقي وطريقة آرستقراطية تعلمها جيدًا، فاءا بضحكاتها تعلو وخطواتها توازي خطواته وهو يغني بصوته الرخيم
«أنا لما بحب بحن بجن
بهدم بحرق بقلب جن
الروح بغيباتك بتحن
بتنده وينك»
«غمزيني بعينك ياروح
بغمزة ببيع الكون وهمو
ع أبعد دنيا منروح
بيرخصلك هالقلب و دمو
ميلي بخصرك صوبي ميلي
تغنجي عليي تغميلي
ابني ع ذوقك سميلي
وعد تكوني وحدك امو!!»
وعاد يردد بسمفونية عذباء.
«أنا لما بحب بحن بجن
بهدم بحرق بقلب جن
الروح بغيباتك بتحن
بتنده وينك»
انتهى من اغنيته وانطلقت الصفقات المتحمسة من الفتيات، وبالاخص زينب التي قالت بانبهار:
_صوتك جميل أوي يا عُمران.. غنتها أحسن من صاحب الاغنية نفسه.
استدار تجاهها وقال بابتسامة بشوشة:
_اعمليها بس وارتبطي وهغنيلك للصبح في فرحك.
تلاشت ضحكتها الواسمة وانغمست خلف ابتسامة بسيطة وايماءة من رأسها امتنانًا إليه.
هبط علي من على الدرج الخشبي يشير للفتيات قائلًا:
_فضوا القاعة العمال وصلوا بره هيكملوا هما.
غادرت الفتيات للأعلى برفقة فريدة، فانقسموا ليستعدوا لارتداء ملابسهم.
*******
جهز عمران طاولة ضخمة بالخارج أمر الخدم يتحضير مشعل ضخم للشواء، وقد جهزوا اللحوم منذ الصباح وبانتظاره.
مرت ساعات النهار طويلًا وأتى المساء، فانزوى كلا منهم بغرفته يستعد لارتداء ملابسهم.
انتهت مايا من ارتداء فستانها الذهبي وقد انتهت من حجابها وزينتها البسيطة، أما عمران فخرج من الخزانة ببنطاله فقط والوجوم يحتل ملامحه وهو يهتف بضيق:
_لازم أعمل الخزنة وأنقل حاجتي بسرعة مش واخد أنا على عدم النظام ده!
راقبته مايا بابتسامة ساخرة، وطالعت انعكاس صورته بالمرآة تخبره:
_هتتأخر كده يا بشمهندس.
زفر بمللٍ، وأعاد فتح حقائبه مجددًا يبحث عن قميصًا مميزًا لجاكيته الرمادي، انطلقت طرقات باب جناحهما تزف لهما وجود الطارق، فرددت مايا بصوتها الرقيق:
_ادخل.
ولجت شمس للداخل تحمل طرف فستانها الطويل وحجابها وهي تهتف بحماس:
_مايا… عايزاكي تحطيلي نفس الميكيب السمبل اللي كنتِ حطاه يوم حفلة افتتاح دكتورة ليلى.
جحظت بعينيها بصدمة وبرقت لعمران الذي انتصب بوقفته عن الحقيبة يحذرها بعدم الحديث ولكنه ما أن رفع يده حتى رددت كالبلهاء:
_مش أنا اللي كنت عملاه.. عمران اللي كان عملهولي.
ألقى قميصه على الفراش هاتفًا بحنقٍ:
_أدي أخرة اللي يعمل حاجة للحريم!
رمشت شمس بعدم استيعابًا وتلقائيًا تحركت تجاهه، تقدم له حقيبتها المستديرة التي تخص أدواتها الخاصة، وقدمت له الحجاب، تناول عنها ما تقدمه ورفعه قبالتها بسخرية:
_ده أعمل بيه أيه ده كمان، أشنقك بيه بعد الميكب ولا أربط بيه لسان بنت خالتك الطويل!
جذبت منه الحجاب ببسمة عريضة:
_sorry نسيت انك ملكش في لفة الطُرح
أشار له بسخطٍ على مقعد السراحه:
_اتلقحي عندك أما أستر نفسي وأجيلك!
رددت باستغراب:
_تستر نفسك ازاي!
أشار على صدره العاري وهو يهتف بمزحٍ مضحك:
_ملي عينك من العضلات عشان نفسك تتصد من شوال العضم اللي هتتجوزيه.
رفع حاجبها تتشدق بعنجهيةٍ:
_مين ده اللي عضم… ده آدهم حبيبي طول بعرض بحلاوة بجمال بآآ..
كمم فمها بنظرة حانقة وبنزقٍ قال:
_عيب يا شمس.. عيب تتكلمي كده قدام أخوكي يا حبيبتي.. حتى لو الجثة اللي بتتكلمي عنها هتبقى جوزك كمان شوية.
هزت رأسها تطاوعه حتى لا تستفزه فيطردها من غرفته دون ان يضع لها الميكب، تابعتهما مايا وهي تكتم ضحكاتها بصعوبة، بينما حررها عمران وهو يخبرها بجدية مضحكة:
_اقتنعي إن مفيش راجل في الدنيا كلها عنده امكانيات عُمران سالم الغرباوي.. وده عشان متنصدميش بس!
وغمز لها بغرورٍ:
_أخوكي عينة واحدة نزلت وقطعوا بعدها الكتالوج!!
ربتت مايا على صدرها تستمحها بأن تسايره بالصمت وأن لا تستهدف عصبيته، فرددت شمس من بين اصطكاك أسنانها:
_يا حبيبي أنا عارفة ومتأكدة من ده.. طب تصدق بالله أنا بتمنى يطلعلنا حالًا واحدة شبه اللي في الافلام الهندي وتقول لأ ده ابني مش ابنكم وتطلع مش اخويا واترجاك تتجوزني.. مرضي كده يا عم؟
حك منخاره بانزعاجٍ ومن ثم ربع يديه حول خصره العاري:
_مش أوي كده!
وتركها واتجه للداخل مردفًا:
_هلبس وأجيلك نهيص في الألوان لحد ما نوصل للي عايزينه.
توجه للداخل يجذب قميصًا من الخزانة، ارتداه باهمالٍ وخرج إليها يجلس على طرف السراحة، اتخذ خمسة دقائق يتعرف على مستحضرات التجميل من أمامه.
مرر يده على خصلاته وهو يهمس:
_أشكالها اختلفت ليه كده!
اقتربت برأسها منه لترى ماذا يفعل:
_هو أيه اللي اختلف؟
أشار لها بانفعال:
_مكانك لو سمحتي محتاج أركز هنا! وبعدين أنا معرفش عملتها ازاي مع مايا صدقيني مكنتش متعمد أنها تطلع بالشكل ده.
وعاد يهمس وهو يدقق بوجهها وبالألوان التي يحملها:
_بشرتك أفتح من مايا يبقى نغمق اللون شوية… أممم… خلينا ندمج اللون البني مع اللون ده…. لأ وحش..
وجذب الأخر ودمجه فاحتل ثغره ابتسامة رائعة، اقترب منها وبدأ مرددًا:
_استعنا على الشقا بالله.
اقتربت منه مايا فابتسم وهو يراها تركز بما يفعله وكأنها تسجل كورسًا مهمًا، وحينما توقف عن دمج اللون فوق عين شمس تطلعت له فوجدته يتأملها بنظرة أخجلتها، وخاصة حينما قال ورماديته تغمز لها:
_حبيب قلب جوزه شكله استعجل ومكيج نفسه وشكله حاسس بالندم!!
ضحكت وهي تؤكد له بإيماءة رأسها فقال وهو يمنحها قبلة بالهواء:
_ولا يهمك يا بيبي.. حالًا اغسلي وشك وتعالي هخلص أختك وأزينك بإيدي انا ورايا أيه يعني!
ضحكت شمس وهتفت:
_عمران بما إنك مهندس وليك في تقنيات الألوان ينفع تختارلي لون مناكير كويس أحطه!
لزى شفتيه ساخطًا،وضرب وجهها بفرشاة الحمرة:
_مفكراني البيوتي سنتر بتاعك… انتي تحمدي ربنا اني قاعد أضرب الألوان وبحطلك، أنا أساسًا ماليش في الليلة دي، بس هعمل أيه قلبي الرهيف مش هاين عليه يزعلك وتفكري إني حطيت لحبيب قلبي وفكتني منك، واديني أهو بجتهد عشان أخرجلك شغل نضيف.. سبيني بقا أركز!
منعت ضحكتها من الانفلات وتركته يعمل بتركيزٍ كما أراد.
****
بالأسفل.
اجتمع يوسف وجمال وسيف وآيوب، حتى صبا وليلى بالأسفل، ينتظر الشباب انضمام عمران إليهم ويحاول علي بقدر الامكان التواجد برفقة أصدقاء عمران لحين ظهوره وأصبح سؤالًا واحد يتردد بينهم:
_أين عُمـران؟!
أتاهم الرد يحلق فوق الدرج، حينما ظهر ببذلته الرمادية الجذابة، ممسكًا بزوجته بيده وبيده الاخرى شقيقته، هبطوا ثلاثتهم وسط نظرات انبهار الفتيات باطلالة شمس ومايا، والملفت بأنظارهن الدقيقة الميكب الرقيق والمتناسق لكلًا منهما.
بحثت عين شمس تلقائيًا عنه، فانفلتت شفتيها بانبهارٍ من ذاك الوسيم الذي ينتظرها بنهاية الدرج ممسكًا باقة ورد ضخمة من اللون الأبيض، يتألق بحلى سوداء اللون وقميصًا أبيض، تحوم من حوله جرفات سوداء، شعره مصفف بعناية وملامح اللون تتألق بشكل جذبها للغاية.
أما هو فكان يراقب تناسق الفستان الأبيض الرقيق حولها، حجابها الذي تركت أطرافه تنغمر من خلفها، زينتها البسيطة الذي زادت جمالها حد الفتنة.
انتهت خطواتها حتى أصبحت أمامه، قدم يده لها وتمهل بخطواته حتى تناسق خطواتها البطيئة بسبب طول الفستان.
استقروا معًا أمام المحامي، وأحمد يجلس قبالة آدهم، بينما علي يجلس جوار شقيقته يضمها بابتسامة واسعة وهو لا يصدق بأن صغيرته باتت عروس.
لوهلة توقف عينيه على الدرج، فرأى فاطمة تهبط للاسفل برفقة زينب، ترتدي فستان من اللون السماوي، وترتدي حجابًا مماثل للونه، اتسعت ابتسامته وهو يطوفها بنظرة حنونة جعلتها تبادله البسمة، واتجهت لتجلس جوار صبا وليلى، ولجوارها زينب التي لاحظت اهتمام سيف برؤيتها وحملقته بها طوال الحفل.
وبعد أن انتهى المحامي من الاجراءات ووقع آدهم وشمس بارك لهما زوجهما، فنهض آدهم وفاجئ الجميع بضمته القوية لشمس وقبلته التي أحاطت جبينها، وقبل أن تستوعب ما فعله حملها بين ذراعيه ودار بها وهو يهمس لأذنيها:
_سحلتيني من أول نظرة وخلتيني مش عايز غيرك.. بحبك يا شمس.
وأوقفها بين ذراعيه فأمسكت به بقوة حينما شعرت بالدوار، لتقابل بابتسامة واسعة وهمس خجول:
_وأنا بحبك أوي يا آدهم..
ضمها إليه وردد بسعادة:
_خلاص بقيت ملكك وإنتِ كمان بقيتي ملكي يا شمس.
راقب عمران ما يحدث باستياءٍ ولكز علي الذي يتابعهما ببسمة واسعة:
_هتفضل واقف ومُنشكح كده كتير!
مال عليه علي يخبره بضحك:
_ده جوزها دلوقتي يا حبيبي، يعني بقت في عهدته فريح وروح سلم على أصحابك اللي متجاهلهم دول.
منحه نظرة ساخرة واتجه للمنصة الصغيرة قائلًا:
_استسلمت له بسهولة كده! بس أنا لأ!
واتجه ليفرقهما عن أحضان بعضهما البعض، ثم ضمها إليه وهو يمنح آدهم بسمة مستفزة قائلًا بمكر:
_معلش يا عريس ما أنا لازم أبارك وأعمل الواجب بردو.
ابتسم له آدهم وأشار له بتفهمٍ، فاغتاظ عمران، كلما حاول مضايقته يفاجئه آدهم ببرودة أعصابه وتقابله الأمر، يُقسم أنه إذا كانت مايا تمتلك أخًا وغمسها بأحضانه مثلما يفعل لغمسه هو بأحضان الموت.
بالأسفل.. على طاولة الشباب.
انفجر جمال ضاحكًا وصاح لهم:
_عمران بيطلع نار من ودانه!!
ضحك يوسف وردد:
_هيحط آدهم في دماغه من دلوقتي!!
سيف بضيق:
_صاحبكم ده مجنون والله.. بيغير على أخته من جوزها!!
زم يوسف شفتيه وردد ساخرًا:
_ما بلاش إنت يا دكتور سيڤو.. أيوب متلقح جنبك أهو ويشهد!
انقشعت ملامحه بضيق بينما ضحك أيوب قائلًا:
_طلع عمران نسخه من سيف!!
أضاف سيف بحزن مصطنع:
_آدهم صعبان عليا أوي! عمران محدش يقدر يلاعبه.
رد عليه أيوب:
_لا حضرة الظابط باللي عمله من شوية بين أد أيه هو عاقل وراسي وهيعرف يحتوي عمران كويس متقلقش.
قال يوسف بمزح وهو يضرب كف بكف جمال:
_محدش بيقدر يحتوي الطاووس الوقح اسالني أنا.
انطلقت الضحكات الرجولية فيما بينهم، حتى أدمها عمران حينما أشار لهم بتتبعه قائلًا:
_ورايا يا حلو انت وهو… علشان تبقوا تعرفوا تنموا عليا براحتكم!
اتبعوه للخارج بدهشة من حديثه، فصعقوا حينما وجدوه يقف جوار طاولة ضخمة من اللحوم ومشعل نار ضخم، أشار لهم ببسمة ماكرة:
_أنا بقول طقم البدل السودة دي حرام تبوظ من دخان الشوي فأيه رأيكم تقلعوا الجواكت.. متقلقوش وراكم اللي يساعدكم.
التفتوا للخلف فوجدوا الخدم بانتظارهم، نزع كلا منهم جاكيته وقدموهم لهم، فعلقوا الملابس على المشجب بينما احتل كلا منهم مهمة.
صاح يوسف بتهكم:
_اانت عازمنا نأكل ولا نشقى بلقمتنا!!
سعل جمال من رائحة الدخان وهتف:
_أنا غلطان اني سبت أمي وجيت أحضر الحفلة وأخرتها واقف أنش على اللحمة!
وضع سيف السيخ على الشواية وهو يلقي عمران نظرة غاضبة:
_وانت مقلعتش وجيت ليه تساعد يا عمران.
رفع كتفيه ببراءة مصطنعة:
_أنا أخو العروسة!
ردد علي بسخرية بعدما نزع عنه جاكيته ولحق بهم:
_على أساس انك عازب وواقف تصطادلك عروسة ولا أيه مش فاهم!
حانت منه نظرة للداخل وقال بخبث:
_لا وانت الصادق هوقع العريس.. وأهو نجيبه يساعد.
كاد بتجاوزهم للداخل فوقف أيوب قبالته ممسكًا بالخضار والسكين،وقال بسخط:
_سيب سيادة الرائد في حاله يا عمران… سييه يتهنى مع عروسته واحنا شغالين بداله أهو.. اتقي الله يا أخي!
ضيق جفونه بصدمة وأشار لذاته:
_أنا يتقالي اتقي الله ليه يا شيخ أيوب شايفني رايح أعزمه على ازازة خمرة!
وأشار بحدة:
_وسع من طريقي خليني أشوف شغلي!
*******
اجتمعت الفتيات بالداخل تتبادلن اطراف الحديث، فانسدلت زينب من بينهن لرغبتها بالخروج للحديقة، خطت بالخارج وسط الأشجار والزهور باستمتاعٍ، لتخطف نظرات ذلك العاشق الذي ترك ما يفعله واتبعها دون ارادة منه.
تعثر طرف فستانها وكأنه علق بشيءٍ من أسفل قدميها، فانحنت ترى ماذا هناك، تفاجئت بصندوقًا مغلق يخرج منه أداة حادة رفيعة للغاية انغرست بفستانها الازرق الطويل.
ابعدتها عنها وفتحت الصندوق بفضولٍ، فجحظت عينيها بصدمةٍ مما رأته بداخله لدرجة جعلتها تسقط أرضًا وتزحف للخلف وهي تصرخ بفزعٍ وبكاء دفع سيف بهرول تجاهها وانخفض يطوفها بذراعيه وهو يتساءل بهلع:
_في أيــــــــــه؟؟!
عاونها على الوقوف أمامه ولكنها مازالت تصرخ بانهيار، فصاح بها:
_زينب مالك؟؟!
أمسكت بساعديه ويدها تشير للعُلبة بجنون:
_هيقتلني… يمان هنا…. يمان هيقتلني!!!!!!
تطلع تجاه العُلبة فاحتقنت معالمه بصدمة وغضب، فشعر بثقلٍ يُفذق على صدره، فاذا بها ترتمي عليه فاقدة الوعي، أحاطها بين يديه بإحكامٍ وهو لا يدري كيف سيعود للحفل بها هكذا، فإتجه بها للأريكة القريبة من حمام السباحة، ثم حمل المياه بيده ونثر بها على وجهها وهو يناديها بقلقٍ:
_زينب.. افتحي عنيكي من فضلك!
وحينما لم تستجيب عاد يحمل المياه وينثرها مجددًا، هاتفًا:
_زينب سامعاني!
رددت ببكاء وشهقاتها لا تتوقف:
_سيف!
تصلبت أصابعه الحاملة لقطرات المياه وأكثر ما يسره سماعها تناديه حتى وإن لم تكن بواعيها الكامل.
استعادت زينب وعيها، فانتفضت على الاريكة تراقب المكان من حولها برعبٍ، فترك ما بيده واتجه إليها يردد بهدوء:
_اهدي يا زينب… مفيش حد هنا.
عادت تتطلع للعُلبة التي تحمل قطة مذبوحة ووجهها مشوه بمياه نار، تراجعت لأخر الأريكة وهي تضم جسدها إليها وعينيها مازالت مسلطة على العلبة، فجذبها سيف ووضعها في صندوق القمامه المجاور لهما قائلًا:
_تلاقيها وقعت جوه الصندوق صدفة.
هزت رأسها نافية وقالت ومازالت تضم جسدها المرتجف:
_هو اللي عمل كده… لما هربت مصر ووصلي هددني بمية نار إنه هيشوهني… وقالي لو هربت تاني هيدبحني.. هو اللي عمل كده علشان يخوفني… هيقتلني المرادي يا سيف… هيقتلني.
أشفق على حالها، فرفع بنطاله من ركبتيه وانحني قبالتها على قدميه يتطلع لها بحنانٍ، ليفاجئها حينما قال:
_تتجوزيني يا زينب؟
استقرت عينيها التي تفتش بالارجاء عليه ورددت بصدمة:
_أيه؟
ابتسم وهو يشير لها بجدية تامة لا تناسب الموقف:
_أنا مستعد أحميكي منه يا زينب.. أنا عايز أكون معاكي، عارف إن مستحيل يتولد بينا حب بالسرعة دي بس أنا برتاح لما بشوفك وحابب نكون مع بعض على طول.
نهضت عن الاريكة تشير له بجنون وكأن روحًا تلبستها، وراحت تهتف بتشتتٍ:
_هيقتلك يا سيف..إبعد عني… أي حد بيقربلي بيكون مصيره الموت… إبعد يا سيف.
وركضت لتعود للقصر مجددًا فركض خلفها وهو يصيح بها:
_جاهز لكل ده يا زينب… صدقيني لو بقيت جنبك محدش هيقدر يأذيكِ..
وقفت محلها تستمع إليه وصوت بكائها يعلو دون توقف، فاستدارت تجاهه تقول ببسمة ألم:
_تفتكر إني مش عايزة إنك تكون قريب وجنبي!! بس صدقني مينفعش إنت متعرفهوش يا سيف، ده شيطان!
وتابعت وهي تتراجع للخلف:
_إبعد عني يا سيف علشان خاطري ابعد!
يتبع…
ارتدت برأسها للخلف بعينين تبرقين بصدمة، فابتسم آدهم وهو يراقبها بنظرةٍ تتفحص إنعكاس تأثير قربه منها، رمشت بأهدابها بعدم استيعاب، بينما تختلج أنفاسها داخل صدرها بفعل إرتعاش قلبها البريء، تقسم بأنها إن كانت بمفردها معه لفقدت السيطرة على مشاعرها التي نجح هو باختراقها باجتيازٍ.
ابتسم بمكرٍ على ما أحدثه بها وقال مداعيًا البراءة:
_مالك يا شمس؟ انتِ كويسة؟!
لعقت شفتيها بارتباكٍ ورددت ببطءٍ وكأن صوتها احتبس داخلها:
_إنت قليل الأدب يا آدهم!
تمردت ضحكاته الرجولية دون توقف، فرفع يده يزيح دموع عينيه التي تساقطت من فرط نوبة ضحكاته، وقال بحنكٍ خبيث:
_ليه بس يا حبيبي، مش كنتِ زعلانه إني مش بعبرك عن مشاعري وإني قليل الكلام.
خطف نظرة للقاعة الخارجية ودنى إليها يهمس جوار أذنها:
_قولتلك وقت ما تكوني مراتي.. حلالي.. إسمي موشوم جنب إسمك هعبرلك بالشكل اللي يأكدلك إني وقعت في عشقك من أول لحظة عيني حضنت عيونك.. أنتِ كل دنيتي يا شمس!
رفع يده يحتضن خدها مستغلًا تركيزها الكامن على ما يقول، فوضع قبلة على جبينها واسترسل بنبرته الرخيمة:
_إنتِ شمسي اللي نورت عتمة ليلي!
وواصل في سبر أغوارها:
_شمس هانم الغرباوي أنا بعشقك ومستعد أخوض ألف معركة أموت فيها ألف مرة علشانك.
وأكمل بهمسٍ مغري:
_لإنك تستاهلي!
ارتبكت أمامه كالطفلة الصغيرة التي لا تجيد اختيار كلماتها، كانت تظنه هادئًا، لا يحب الحديث كثيرًا، وها هو الآن يفاجئها بغرامه المدفون داخله لها، يجذبها لباحة الرقص على ترانيم عشقًا جعلت قلبه ضعيفًا لا يقوى على مجابهته، بينما يستكمل هو الطريق لكسب المعركة كاملة على قلبها المسكين:
_طلعت ٢٦ مهمة على مدار تاريخي المهني مخسرتش أي عملية طلعتها.. كان أول طريق فشلي هي اللحظة اللي شوفتك فيها وسمعت صوتك…. وكملت باقي الطريق لما لفيتي من مكانك وبصيتي في عيوني!
كل مرة كنت بشوفك فيها كنت برتبك وبخاف أنكشف، مكنتش هقع لوحدي فريقي كله كان في خطر بسبب ظهورك ليا يا شمس!
جذبها إليه بقوةٍ لتلتصق بجلسته على الأريكة، مستطردًا بأنفاسٍ تحشرجت من كثرة مشاعره:
_صعب على أعدائي يكشفوا هويتي، اتدربت إني أكون محصن صعب حد يكتشف أنا مين؟ حتى لو حطوني على أجهزة كشف الكدب كلها مستحيل هيطلعوا مني بمعلومة.. الا قدامك أنتِ!
حسيت إني بضعف قدامك، وجودي جنبك ومساعدتك طول الفترة اللي كنت فيها جوه قصر راكان كان بيعرضنا كلنا لخطر كبير وأنا كنت جاهز ليه علشان بس أشوف ابتسامتك.. أقنعت اللي حواليا إني بتقربلك علشان ممكن استغلك توصلي لينا الملف والحقيقة إني استغليتك علشان أرضي قلبي!
مال يستند بجبينه على جبينها وعينيه تتمعن بحدقتيها الناطقة بعشقه:
_بحبك يا شمس.. بحبك أكتر مما تتخيلي.. أقسملك بالله العلي العظيم إن بعدي عنك طول الفترة اللي فاتت مكنش تقل مني عليكي ولا برود زي ما أنتي فاكرة.. بعدي كان حفاظ عليكي وعلى قيمتك الغالية، بعدي كان عشان أصونك مني ومن مشاعري اللي بتتحرك أول ما بلمحك…
وتابع ببسمة ساخرة:
_قربك كان هيدمر شغلي ويكشفني لأعدائي فما بالك لو قربت وأنا كاشفلك حبي وهويتي .. صدقيني بعدي كان خوف مني إني أضعف قدامك!
فتحت عينيها الخجولة إليه، ورددت على استحياءٍ:
_وأنا كمان بحبك أوي يا آ..
_اسمي الحقيقي علشان خاطري!
_بحبك يا عمر!
ضمها إليه وهو ينتهد بعاطفةٍ، يده تضم رأسها إليه، واليد الاخرى تدفنها داخله، سحبت نفسًا ثقيلًا يليه الأخر من رائحته التي تتسلل لها لأول مرة.
عطره كان هادئًا، لطيفًا مثل شخصيته، لا يفرد طاغيته الا حينما تقترب منه، لذا لم تشعر به الا وهي ساقطة بأحضانه.
فتح عينيه يستعيد وعيه من تلك الحالة التي ستفقده كل مهاراته حتمًا، فتنحنح وهو يبعدها عنه بلطفٍ:
_في حد جاي علينا.
وإتجه لمقعده المجاور للأريكة مسترسلًا ببسمة ساخرة:
_ومن خطواته المتعصبة دي أعتقد إنه عُمران.
برقت بدهشةٍ حينما انفلتت طرقات باب غرفة الضيافة، وطل رأس أخيها من خلفه يخبر الأخر بابتسامة مغتاظة:
_اطلع يا عريس.. عايزك!
هز آدهم رأسه إليه ونهض ليغادر، فأوقفته حينما تمسكت بيده متسائلة بحيرةٍ:
_عرفت ازاي؟!
اتسعت ابتسامته ومال يهمس لها وعينيه لا تفارق باب الغرفة:
_تدريبي كان على إيد شخص خلانا نستخدم حواس الجن نفسهم.. الشخص ده يبقى الجوكر!
_دعواتك أقدر أكسب عمران لصفي لإنه شكله هيحل محل الحمى العقربة!
قالها وهو يودعها بغمزة ساحرة وقبلة طائرة بالهواء، فما أن أغلق الباب من خلفه حتى ارتمت على الأريكة تضم قلبها الخافق، هاتفة بدهشة:
_إنت بقيت خطر على مشاعري يا سيادة الرائد.
وتابعت وهي تزدرد ريقها بارتباكٍ:
_هسافر معاه لوحدي ازاي ده؟!
********
وقف قبالته يمنحه ابتسامة هادئة، وسؤاله يتحرر على شفتيه:
_خير يا عُمران؟
ربع بديه بمنتصف خصره وهو يشمله بنظرةٍ تقيمية، ومن ثم صاح بمكرٍ:
_النهاردة عزمت الشباب على حفلة شوي على شرفك، وكلهم بلا استثناء واقفين برة بيحضروا المشواي في حين إن حضرتك قاعدلي جوه تحت التكيف ومش في دماغك حد!
راقبه وهو يجوب الردهة ذهابًا وإيابًا ولا يتوقف عن الحديث، حرر آدهم جاكيته ووضعه على ذراعه ثم حل أول أزرار قميصه والطاووس مازال يراقبه بعدم فهم، فوجده يشير بيده تجاه الباب المؤدي للحديقة:
_وريني المكان وأنا أساعد.
ارتسمت ابتسامة انتصار على وجهه، فأشار له بتتبعه حتى وصلوا معًا للباب الخارجي، فأمسك آدهم كتفه يمنعه من الخروج ووقف قبالته:
_عُمران أوعى تفكر إني ممكن أغير على شمس منك أو من علي، أنا آه بحبها وبعشقها بس عمر ما حبي وغيرتي عليها توصل لاخواتها اللي ربوها، بالعكس الحنية اللي بشوفك بتعاملها بيها إنت ودكتور علي بتفرحني وبتخليني سعيد جدًا من اختياري.
وضع عُمران يده بجيب سرواله القماشي ووقف يراقبه بثباتٍ قاتل، فتابع بابتسامةٍ واسعة:
_بتخيل شكل الحياة اللي هعيشها معاها لما ربنا يكرمنا بأولاد.. بقى عندي ثقة كبيرة إنها هتقدر تزرع الحب اللي شافته بينكم مع أولادي.. أنا ولد وحيد يا عُمران مكنش ليا لا أخ ولا أخت فمعنديش خلفية عن اللي بيكون بين الأخوات لكن شمس هتقدر تنقل اللي اتربت عليه لأولادي.
طال به الصمت وهو يستمع إليه، فحل يده جاذبًا جاكيت آدهم ووقف خلفه يعاونه على ارتدائه وسط نظرات دهشة الأخير، فقال:
_معناه أيه ده؟
ابتسم الطاووس الوقح وهو يجيبه:
_معناه بسيط.. إني عفوت عنك يا سيادة الرائد… ارجع لمراتك واقعد معاها وأنا هكون بدالك.
ونزع عنه الجاكيت خاصته واتجه للخروج غامزًا له بمكرٍ:
_إنت لسه عريس ميصحش!
اتبعه للخارج والابتسامة تنجرف على شفتيه بفرحة انتصاره الأول، فوجد الشباب بأكملهم يعملون بجهدًا كبيرًا حتى “علي”.
جذب عُمران الكماشة الضخمة من” جمال”وأشار له بالتراجع عن الشعلة ليحتل هو محله، تراجع للخلف من شدة الأدخنة، فترك الكماشة ونزع عنه قميصه ووقف عاري الصدر.
ضحك يوسف وصاح بصوتٍ مرتفع ليكون مسموع لمن يقف أمام صوت النيران:
_دي مش حفلة شوي دي حفلة استعراض عضلات الطاووس الوقح على الملأ!
شاركه جمال الضحك وأردف:
_استر نفسك يا عمران الحفلة كلها بنات متخليش البشمهندسة مايا تطلب الطلاق النهاردة!
مسح أيوب بقايا الخضروات عن يديه وقال باستنكارٍ حينما وجد آدهم يجاوره:
_ عملت بردو اللي في دماغك وجبت العريس!
انتبه علي لجملة أيوب فتطلع تجاهه فوجده يقف جواره، فقال بحرجٍ من تصرفات أخيه الطفولية:
_آدهم.. متسمعش كلام الوقح ده وإدخل إنت لعروستك.. احنا خلاص قربنا نخلص.
حرك يده يبعد رائحة الدخن عن أنفه وقال:
_عُمران طلب مني أرجع بس أنا اللي حبيت أجي أبص عليكم عشان لو محتاجين حاجة.
قاطع أحاديثهم ولوج سيف بملامح ممتعضة، فدفع قبالتهم صندوقًا مغلقًا، تابعه الجميع باهتمامٍ وكان أيوب أول من تحدث:
_إنت جايبلي هدية ولا أيه يا سيفو؟
توقفوا جميعًا عن اعداد الطعام وراقبوا سيف الذي تزداد معالمه حدة، فترك جمال ما بيده واقترب من الصندوق الموضوع بمنتصف الطاولات وكشف عن غطاءه، فاشمئزت ملامحه وتراجع للخلف وهو يحجب فمه بيده ولكنه لم يتمكن من الاحتمال فتقييء لذاك المنظر المقزز الذي رأه.
اتجه يوسف لأخيه يسأله باستغرابٍ وحدة لظنه بأنه يمزح بأمرٍ كهذا:
_ده أيه يا سيف فهمني؟!!!
رد عليه وهو يوزع نظراته بين علي وعمران:
_الصندوق ده وصل لدكتورة زينب من يمان بيهددها فيه ببجاحة جوه بيتكم!
قال أيوب بحدةٍ:
_ازاي جاله قلب يعمل كده في حيوان بريء!! وكل ده ليه علشان بخوفها!!
ترك عمران محله وأسرع إليه يلقي نظرة عن قرب، حتى علي كان لجواره، كان الأمر محير للبعض ومفهوم للأخر، فتحرر آدهم عن صمته قائلًا:
_كونه إنه يبعت الصندوق ده في تاني يوم تنقلوا فيه هنا فده رسالة مباشرة إنه يقدر يوصلها في أي مكان تروحه.
واستطرد بوجومٍ قاس:
_اللي عمله مع عمران قبل كده ودلوقتي مع زينب بيأكد إن الشخص ده مش عادي ولازم نتعامل معاه قبل ما يأخد خطوة تانية يا دكتور علي.
سحب نظراته الغاضبة عن الصندوق وتطلع إليه يخبره:
_أنا فعلًا ابتديت أتحرك يا آدهم.. وخليت عمي يطلب حراسة مشددة من شركة معروفة هتوصل بعد بكره يحاوطوا البيت ومش هيفارقوا زينب.
جذب يوسف أحد مقاعد الطاولات وجلس يردد:
_مش كفايا يا علي.. أكيد راجل زي ده مش سهل وهيعمل حساب لوجود الحرس يعني ببساطة يقدر يتغلب عليهم.
جذب جمال مقعدًا وجاور يوسف قائلًا:
_المصيبة إنه وصلها هنا وهي جوه البيت لو مكنش عمل كده كنت قولتلكم خلوها في البيت اليومين دول عما تشوفوا هتحلوا الموضوع ده ازاي!
ركل عمران الصندوق بعيدًا عنهم وصاح بعنفوانٍ:
_ليه فاكرها سايبة بروح أمه ده ميخدش في إيدي غلوة ابن ال****… يظهرلي راجل لراجل وأنا أوريه مقامه.
جلس علي وسحب عمران لمقعد مجاور له هاتفًا:
_عمران اهدى مش عايزين نلفت الانظار لينا.
تحرر سيف عن صمته حينما قال:
_الحل عندي أنا.
اجتمعت نظرات الشباب إليه باهتمامٍ، فتنحنح بخشونة:
_لو أنا ودكتورة زينب اتجوزنا يمكن يمل ويبعد عنها.
جحظت عين يوسف صدمة، فصاح بسرور:
_أقسم بالله كان قلبي حاسس إنك وقعت يالا.. مدام طلبتها بلسانك هجوزهالك حتى لو خطفتها واجبرتها تتجوزك.
لكزه جمال بغضب:
_إتكن يا يوسف ده وقته بذمتك!!
تنهد علي بحزنٍ وصاح:
_ده مش حل يا سيف، شخص زي يمان عمل كل ده علشان يوصلها مش هيتقبل إنها تكون لغيره، فأنت كده بتحط نفسك في وش المدفع لإنه ببساطة زي ما قدر يضرب نار على عمران لمجرد إنه شتمه وهدده يبعد عنها قادر يعملها معاك.. فحاول تخليك بعيد عن الموضوع ده لحد ما نشوفله حل.
جلس آدهم جوار أيوب وقال:
_دكتور علي.. أنا محتاج أتكلم مع دكتورة زينب.. من فضلك ناديها.
لف برأسه لأخيه قائلًا:
_نادي زينب يا عمران.
نهض عن مقعده يجذب قميصه الأبيض، ارتداه بإهمالٍ وولج للداخل، يبحث عنها بين جلسة السيدات.
حضر الحفل بعض النساء الأجنبية ذات الطبقة الآرستقراطية، أغلبهن أتينا الحفل لأجل فريدة، خطف عُمران الأنظار فور دخوله من الباب الداخلي بقميصه المفتوح على مصرعيه وعينيه الرمادية التي تتنقل بين النساء، فأتى على مسمع فريدة قول احداهن:
_يا إلهي.. من هذا الوسيم؟
زاغت الأعين تجاه من استحوذ على عقل تلك المرأة، فجحظت الأعين بفجورٍ اعتادوا عليه الغرب، فأستدارت فريدة تجاه ما يتطلعوا تجاهه فبرقت بغضبٍ، تركت الجلسة وأسرعت إليه تناديه بحزمٍ:
_عُمــرااان!!
تركز ببصره على والدته التي ترنو إليه كالعاصفة، تشير له بحدة:
_أيه اللي مدخلك هنا بمنظرك ده؟!
خطف نظرة سريعة لقميصه ثم عاد يتطلع لها بدهشةٍ، وببساطة قال:
_كنت واقف قدام الفحم فأكيد مش هقف بالبدلة يعني!
شددت على كلماتها بغيظ من بروده:
_إقفل قميصك يا ولد… الستات عينهم هتتقلع عليك!
شملهم بنظرة عابثة ويده تعيد غلق أزرر قميصه، وبوقاحه قال:
_ما أنا طول عمري خاطف أنظار جنس حوا كله أيه الجديد؟!
بحزمٍ صاحت:
_عُمران!
انحنى برقيٍ داهي:
_فريدة هانم!
وانتصب بوقفته ليفاجئها بقبلة وضعها على وجنتها هامسًا بمكرٍ:
_متحاوليش تقوليلهم إني ابنك لان محدش هيصدقك!
وركض من أمامها للأعلى تاركها تتطلع إليه بصدمة، حسنًا فمن سيصدق بأن ذاك الشاب الذي يفوق حجمها مرتين تقريبًا يكون ابنها الصغير! وبالرغم من أن الأغلب من أصدقائها يعرفه جيدًا الا أنها ارتبكت وتوترت من الجمع الحاضر.
استدارت فريدة لتتجه لطاولتها فرفعت يدها تعيد خصلاتها المتمردة للخلف، فنفرت من رائحة يدها التي كانت تستند على صدر عمران فور انحنائه لتقبيلها.
قربتها فريدة لأنفها فوجدت رائحة البرفيوم الخاصة به عالقة بأصابعها، والمقبض لها بأنها شعرت بحاجتها المفاجئة لاستفراغ ما بداخل معدتها.
هرولت للحمام بتعبٍ، تفرغ ما بجوفها حتى انتهت، وقفت فريدة أمام المرآة الخارجية تعيد ترتيب خصلات شعرها ومكياجها البسيط، فاستندت على الحافة تردد بدهشة:
_أنا أيه حصلي!!
واسترسلت بذهولٍ يجتاحها:
_أنا دايمًا كنت معجبة بالبرفيوم بتاع عُمران.. أنا اللي كنت بطلبهوله مخصوص من فرنسا!!
ورفعت رأسها تقابل انعكاسها بالمرآة وكفها يكبت فمها بصدمة:
_لأ… مستحيل أكون آآ… حامل!!!!!!
*******
صعد للأعلى يبحث عنها، فوجدها برفقة زوجته وزوجة أخيه، وزوجات أصدقائه، غضب عمران بصره وتنحنح بحرجٍ من وجوده بجلستهن الخاصة فقال:
_أنا أسف لو قطعت كلامكم.. علي عايزك يا دكتورة زينب تحت.
وقفت فاطمة جوارها تتساءل بقلقٍ:
_خير يا عمران في حاجة؟
أجابها على الفور:
_أبدًا… أعتقد الموضوع خاص بالجامعة بتاعتها.
ابتلعت ريقها بارتباكٍ، ومع ذلك رسمت ابتسامة صغيرة ومسدت على كف شقيقتها:
_هروح أشوفه عايزني ليه وجاية يا فطيمة.
هزت رأسها بتفهمٍ وأشارت بابتسامة هادئة:
_طيب يا حبيبتي.. متتأخريش القعدة مع دكتورة ليلى وصبا متتعوضش.
ابتسمت ليلى ورددت:
_والله انتوا اللي القعدة معاكم ميتشبعش منها.
ضحك عمران ومازحهن:
_لو القعدة عجباكم كده كنسلوا المرواح واقعدوا كام يوم غيروا جو… أهي تكون فرصة نرجع المتسلطين دول لايام العزوبية ويعرفوا قيمتكم كويس.
غمزت صبا بمكر للفتيات وقالت:
_طيب وليه ميبقاش العكس.. نأخد البشمهندسة مايا عندنا ونعرفك قيمتها؟
ضمت يديها معًا ورمقته بنظرة تسلية، فانصدمت حينما انحنى يميل على كتفيها ويضمها إليه بكل تملك:
_مقدرش أعيش من غير حبيب قلبي… مش إنتي عارفة إني مقدرش أبعد عنك يا بيبي؟
أحمر وجهها خجلًا فتراجعت بمقعدها وهي تردد:
_عُمران!
غمز لها وتراجع متنحنحًا:
_يلا يا دكتورة؟
هزت زينب رأسها بخفة واتبعته للأسفل.
********
أغلق عينيه يقاوم ارتعاش قلبه داخل صدره العضلي، يشعر بخطواتها الرقيقة تقترب خلفه، استدار برأسه من فوق كتفه يراها تدنو منهم برفقة عُمران، يدها المرتبكة تجذب طرف ححابها المتطاير بفعل نسمات الهواء، فستانها ينحدر أطرافه من حولها كالأميرات.
أصبحت قبالته تقف على استحياء، عينيها مثلما اعتاد تهرب من لقاء مُقلتيه، أشار لها علي بالجلوس على المقعد المقابل لآدهم وسيف الذي طلب منه آدهم أن يظل على الطاولة بينما عاد جمال ويوسف وأيوب يتابعون نضج اللحم على المشعل حتى لا تخجل من تجمعهم من حولها.
جلس عُمران جوار أخيه فبدأ آدهم بحديثه:
_دكتورة زينب أنا طلبت من دكتور علي أننا نتكلم شوية لإن باللي عمله يمان ده النهاردة باين انه مش سهل.. فمحتاج إنك تساعديني بأي معلومة تعرفيها عنه.
فور أن ذكر إسمه ارتبكت بجلستها، أصابعها تفرك ببعضها البعض فوق الطاولة بشكلٍ ملحوظ، طال صمتها بشكلٍ أرضخ علي ليناديها:
_زينب!
أجلت حلقها الجاف وهي تجاهد كلماتها للتحرر:
_يمان بيتاجر في الاسلحة… وله علاقات بناس مسنودة هي اللي بتحميه ومخلياه ميعملش حساب لحد.
قدم لها آدهم ورقة بيضاء وقلم أسود:
_اكتبي اسمه كامل وكل اللي تعرفيه عنه يا دكتورة.. ومتقلقيش هنقدر نتعامل معاه.
جذبت الورقة ودونت ما طلبه منها آدهم ونظرات سيف لا تفارقها، فانفرد بصوته الرجولي يخبرهم:
_دكتور علي الفترة الجاية هيحاول يظهرلها بأي شكل، لو الدكتورة هتنزل الجامعة يكون مع حضرتك ورجوعها معاك بردو.. وجوه الجامعة سيف عينه هتكون عليها علشان كده خليته يقعد معانا ويسمع الكلام.
ابتسم بسعادة كونه سيتكفل بحمايتها، يقسم أنه سيفديها بروحه إن تطلب الأمر، فقال:
_متقلقوش طول ما هي جوه الجامعة هتكون تحت عنيا.
لكزه عُمران وفاه بعصبية:
_متسبلش بروح أمك!!
كبت آدهم وعلي ضحكاتهما، تركت زينب الورقة وغادرت للأعلى على الفور.
وزع الشباب الأطباق على الطاولة الضخمة، وجهزوا أطباقًا للنساء، فحملهم علي وصعد بما يحمله للأعلى، تناولت منه فاطمة الاطباق ومررتها لمايا وزبنب ليضعوا الاطباق على طاولة السيدات، بينما اجتمع الشباب بالاسفل، يتناولون الطعام بجوٍ من المرح والحديث المتبادل حتى ساعات الليل المتأخر فتفرقوا جميعًا لمنازلهم.
******
عاد أيوب لشقته، وإتجه لغرفته حينما وجد ضوء غرفتها مغلق فعلم أنها قد غفت، أبدل ثيابه وإتجه لمكتب غرفته الصغير، يضع من أمامه عدد من الكتب ليبدأ مذاكرته استعدادًا لامتحانات السنة الأخيرة من الجامعة.
اندمج بمذاكرته فأتاه رنين الهاتف يزعجه عن التركيز، رفع أيوب الهاتف مرددًا بدهشة:
_أيه اللي مصحيك لحد دلوقتي؟!
أتاه صوت سيف الهائم كالسكير:
_عيونها وألف آه من عيونها، بتحكي مليون حكاية وكأنها تراث أثري، قدامها أنا عاجز حتى إني أفتكر إسمي، وبكل بجاحة واقف قدامها بقولها اللي بينا مش حب إرتياح!! لأ أنا بحبها ونفسي تكون ليا الزوجة اللي تساندني وتعفني عن كل الستات.. أنا عايزها ليا يا أيوب!
رمش بعدم استيعاب لما يستمع إليه، فأبعد عنه الهاتف وهو يتفحص شاشته ليتأكد بأن من يحدثه هو سيف صديقه، عاد يضع الهاتف فاستمع إليه يردد:
_روحت فين يا أيوب.. صاحبك عاشق وغرقان في عشقها!
عاد بظهره لمقعده وتنهد بضيقٍ:
_سيف أنا مش مبسوط باللي بسمعه منك… طول ما هي مش على ذمتك مينفعش تتكلم عنها بالشكل ده.. ثم إنك بأي حق تدقق في لون عنيها وشكلها إنت طول عمرك بتغض بصرك أيه حصلك! عايزها تكون السبب ورا ذنوبك يا سيف ترضهالها؟
أجابه بكل لهفة حملها داخله:
_مرضاش ليها غير بكل شيء جميل إتخلق علشانها… بس غصب عني يا أيوب… عشقها دخل لقلبي غصب عني!
وتابع بحرجٍ مما سيقول:
_عارف لما شوفتها بتتنفض ومرعوبة وهي شايفة الصندوق كان نفسي أجري عليها وأضمها جوه حُضني.. كان نفسي أطمنها يا أيوب… واتمنيت أشوف الكلب ده قدامي أقسم بالله كنت هعرفه مقامه ابن ال***
منع ابتسامة كادت أن تصدح إليه، وردد بعدم تصديق:
_معقول اللي بيتكلم ده سيف!!
رد عليه يجيبه:
_هو بغباوته بس بعد ما وقع في الغرام.. أنا بحبها وعايزها يا أيوب.
ضحك ساخرًا:
_طيب وهي مش موافقة نعمل أيه بقى يا دكتور سيف؟
مازحه قائلًا:
_نخطفها وأكتب عليها غصب عنها يا بشمهندس أيوب
تعالت ضحكاته بعدم تصديق:
_ده إنت طلعت واقع لأقصى درجة وأنا معرفش!
رد عليه بهيام:
_واقع من الدور العشرين والله… من ساعة ما شوفتها النهاردة ومش جايلي نوم… الحمد لله إن يوسف وصلني وروح لو شافني بالحالة دي هياخدني أنا والمأذون واتنين شهود وهيعسكر عندها لحد ما تمل وتواقق.
قال أيوب بمكرٍ:
_بص يا معلم إنت علاجك “عُمران سالم الغرباوي” ، اتصل بيه وهو يُظرفك كلمة بروح أمك المشهور بيها هيأتيك النوم من حيث لا تدري!
زفر بسخطٍ:
_ملقتش غير الطاووس الوقح.. إنت عايز تخلص مني يا أيوب!
جذب الكتب أمامه وصاح بنزقٍ:
_بص يا عم الحبيب أنا بدأت مراجعة عشان الامتحانات قربت، فأقفل الله يكرمك خلينا ألحق أراجع أي حاجة قبل ما غيبوبة النوم تحضر.
تأفف بغضب:
_هقفل وأبقى قابلني لو سهرت.. إنت أخرك نص ساعة وهيغمي عليك مكانك… سلام يا ابن الشيخ مهران.
أغلق الهاتف وابتسم رغمًا عنه حينما تردد إليه ذكرى قلبت عليه الحزن لتجعل مُقلتيه تدمعان تأثرًا
##
_أيوب أنا تعبت، أنا بشيل هم امتحاناتك بسبب التكديرة السودة دي، فأرجوك أنا مش عايز مشاكل مع عمي، هريح هنا جنبك نص ساعه أصحى ألقيك بتكمل مذكرتك.. فاهم.
قالها يونس باستعطافٍ لأيوب الذي يجاهد لفتح عينيه على مكتب غرفته، فهز رأسه يؤكد له بأنه سيلتزم بالتعليمات.
تمدد يونس بإرهاق على فراش أيوب، وقبل أن يغلق عينيه قال:
_متصحنيش الا لو حاجة وقفت عليك أو محتاج شرح حاجة.
هز رأسه وهو يتفحصه بمكرٍ، فما أن سقط يونس بنومه حتى ارتخى أيوب بجلسته، رافعًا قدميه على سطح المكتب، ووضع الكتب فوق رأسه ليمنع ضوء الغرفة من أن يزعجه.
مرت خمسة وعشرون دقيقة حتى فتح يونس مُقلتيه الساحرة بانزعاجٍ، ففتحهما على وسعيهما بصدمة فور رؤيته يغفو هو الأخر.
انتفض عن الفراش يصرخ بغلظةٍ:
_أيــــــوب!!!
سقط عن المقعد فزعًا، فأسرع الاخير إليه يجذبه من تلباب قميصه كاللص، وأعاده لمقعده وهو يدنو منه بنظراتٍ ملتهبة:
_بتستغفلني يا أيوب.. عايز تزعل عمي مني!!!!
وتابع ومازالت يده تقبض على مقدمة قميصه:
_ده أنا سايب شقتي يا حيوان ونايم هنا معاك في اقامة جبرية، بقولك هريح نص ساعة أصحى ألقيك متخمد قبلي! عارف لو عمي دخل علينا هيعمل فيا أنا أيه!!
تثاءب بنومٍ ومال برأسه يغفو على يد يونس مردفًا:
_معتش قادر يا يونس خلاص فصلت… سبني أنام كلها كام ساعة وهنزل الامتحان.
عاونه يستقيم بجلسته قائلًا:
_لا يا حبيب أخوك مش هقدر.. إنت عارف الشيخ مهران بيقتحم الاوضة مرة واحدة مقدرش أواجهه كده.. قوم شد حيلك عما أعملك كوباية قهوة من صنع ايديا.
هز الأخير رأسه، وراقبه حتى خرج للمطبخ فضم الكتاب إليه وغفى من فوقه على سطح المكتب، مرت الدقائق حتى عاد يونس بصينية القهوة وبعض شطائر الجبن هاتفًا بحماس:
_سيحتلك الرومي في السندوتش الرومي زي ما بتحب.. يلا يا بطل كمل مذاكرتك وآآ…
ابتلع باقي جملته بصدمة، فوضع الصينية على المكتب ورفع يده يهوى بها على رقبته صائحًا:
_انت ناوي على موتي النهاردة يابن الشيخ مهران!
زفر أيوب بضيق:
_يا يونس حرام.. انت عارف إني في العادي بنام من ٨ جاي تسهرني لتاني يوم الامتحان… سبني أنام قبل ما بابا يصحيني عشان صلاة الفجر والجو برد أهو وأنا مش قادر والله.
سحب يونس يده للفراش قائلًا بحنان:
_طيب تعالى اتغطى وأشرب قهوتك وهتسهر للصبح.. أنا حتى عملت لنفسي قهوة عشان أسهر معاك.
تناول كلاهما القهوة وبعد دقائق غفى أيوب على كتف يونس وسقط رأس يونس فوق رأسه بعد أن غلبه النوم هو الأخر.
مرت ساعة كاملة وولج الشيخ مهران بجلبابه الأبيض الوقور ومئزره العسلي ليخبرهما باقتراب موعد الفجر، وكعادته يصطحبهما معه لفتح المسجد قبل حضور المصلين، فتفاجئ بيونس يغفو وهو يضم أيوب بين أحضانه كالطفل الصغير.
ابتسم الشيخ مهران وهو يتابعهما بحبٍ، ظل لدقائق يراقبهما ومن ثم تنحنح وهو يستعيد ثباته وصاح بخشونة:
_فوق منك ليه… الفجر قرب يأذن.
انتفضوا بفزعٍ حينما وجدوه أمامهما، فردد يونس بتلعثم:
_متقلقش يا عمي كله تمام.
ابتسم ساخرًا:.
_لا مهو واضح… بقى أشدد عليك إنك تذاكرله أدخل ألقيك منيمه في حضنك يا معلم!
منحه يونس نظرة معاتبه فردد أيوب بخفوت:
_آسف والله.
عاد يونس يتطلع لعمه قائلًا ببسمة واسعة:
_أيوب لسه مخلص مذاكرة وكان بيرتاح قبل صلاة الفجر… صدقني يا عمي أيوب جدع وشاطر اللهم بارك… أنا واثق إنه هيرفع رأسك وهيحقق حلمه وحلمك.
ابتسم الشيخ مهران بحبٍ يحمله لابن أخيه والذي يعد ابنه الأول، فمرر يده على شعره الفحمي الطويل مرددًا بحب:
_واثق فيك قبل ما أثق فيه يا يونس.
وتابع بنبرة فخورة:
_زمان وإنت في تالتة ثانوي كنت خايف لتخذلني، خصوصًا إن مكنش في دماغك غير التجارة وادارة محل اجهزة الكهربائية بتاع أبوك، خوفت متجبش مجموع حلو بس إنت كنت بطمني دايمًا وبتقولي أنا هنجح يا عمي وهجيب مجموع يشرفك وعلى وعدي اني هكمل تعليمي للأخر بس مش هشتغل غير في تجارة أبويا… وفعلًا طلعت راجل وقد كلمتك دخلت كلية حاسبات ومعلومات ومع إن جالك تعين فيها كدكتور جامعة الا إنك رفضت ووقفت في محل أبوك.
وتابع بابتسامة صافية تشق تلك سنوات نجاح ابن شقيقه:
_لما سحبت فلوس ميراثك من البنك خوفت تضيعها منك في شيء يخسرك بس إنت طول عمرك شاطر وجدع… وأهو بفضل الله المحل الصغير بقى دكانين كبار في بعض واسمك بقى يتعمله حساب في شارع النجار كله…وفي كلتا الحالتين رفعت راس عمك فوق يا يونس.
انحنى يقبل يد عمه واستقام يقبل رأسه الأبيض الذي يغزو الشيب كله، وهو يردد باحترام وحب:
_ربنا يخليك ليا يا عمي… أنا ماليش غيرك في الدنيا بعد أبويا الله يرحمه… وربنا يعلم إن أيوب ده أخويا الصغير.
ضمه إليه وهو يربت على ظهره بحنانٍ:
_عارف يا حبيبي… يلا اتوضى وهات أيوب وحصلني على المسجد.
مرر أصابعه على سبحته البيضاء واتجه للخروج وهو يستطرد:
_متتأخرش علشان انت اللي هتقيم الصلاة بدالي النهاردة… واخد دور برد وصوتي تعبان.
أشمر عن ساعديه وهو يهز رأسه بفرحةٍ:
_حاضر يا عمي… مش هتأخر.
وفور خروجه إتجه لأيوب يجذبه عن الفراش صارخًا به:
_قوووم بقى متجبلناش الكلام تاني!!
عاد من ذكرياته بعينين دامعتين وابتسامة صغيرة على شفتيه ، أغلق أيوب كتابه ونهض بتوضئ واتجه لسجادته، يصلي ويطول سجوده داعيًا له من كل قلبه، يلح على الله أن يفرج كرب ابن عمه الشقيق!
******
هل سبق لك وسمعت صوت آنين روح؟ عزيزي القارئ هناك آنين خافت يصدر من داخلك لا يستمع إليه سواك أنت، ألمه الذي لا يطاق لن تستطيع تفسيره لأحدً، ولو اجتمعت كلمات ومفردات الألم لتشرح ما يعنيه لن تتمكن من أن تصل لغيرك مفهوم ما تخوضه روحك المغلولة!
هناك بذاك المكان حيث لن يستمع لصرخاتك أحدٌ ولا يقوى أحدًا على نجدتك، كأنك انعزلت عن بقعة البشر بأكملهم، هناك حيث تشعر وكأنك مغلوب على أمرك فتحاول تقبل واقعك المرير، ومن بين ذلك الظلام الكحيل كان يتقوقع على ذاته، يضم ساقيه لجسده الذي يهتز بعنفٍ ليثبت لذاته بأنه مازال على قيد الحياة، فإن سكن جسده حينها سيفقد إحساسه المدرك بالحياة التي تلزم قلبه اللعين الذي مازال متمسك بتلك الحياة الظالمة!
مال بجلسته ومازالت يديه تلتف من حوله، عينيه الفيروزية مغلقة بقوةٍ رغم أنها اعتادت على العيش بذلك الظلام، الظلام الذي تسلل لأعماقه فلمس أبعد نقطة بها..
عاش حياته كريمًا، مختارًا، لم يذق معنى الذل والاستحقار، وفجأة ألقى لفجوة جردته من كل ما امتاز به حتى ملابسه وحقوقه، وكل ما يمتلكه.
انتزعوا منه إسمه وسمعته التي كد ليصنعها، انتزعوا منه كرامته وكبريائه حتى عائلته…. انتزعوا منه حبيبته وزوجته التي لم يقضى برفقتها غير بضعة أيام، ولكن لما يلاقي اللوم عليهم زوجته هي التي تخلت عنه بملئ ارادتها، فور دخوله إلى هنا بتلك التهمة الباطلة رفعت عليه تلك القضية لتلوذ بالفرار عنه وكأنها كانت تنتظر ذلك لتنال حريتها!
انهمرت دمعة حارقة على وجهه المتورم باللكمات، ولسانه مازال يجاهد للنطق بصوتٍ مبحوح:
_يا ررب.
أغلق يونس عينيه بألمٍ وعاد يردد:
_لا إله الا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين…
وتابع بقهرٍ وصوتًا خافتًا:
_حسبي الله ونعم الوكيل!
*******
تخفى الليل بظلامه وسطعت شمس يومًا جديدًا ينذر ببداية لمجهولٍ سيحكم قوانين الأيام القادمة.
غادرت زينب برفقة علي للجامعة بعد أن اتفق معها الا تخطو خطوة واحدة خارج الجامعة دون أن يصل بالخارج ويُعلمها بأنه بانتظارها، فصعدت لفصلها لتحضر المحاضرة الهامة التي أتت لأجلها، فمضت الساعتين تسجل خلف المعيد الهام، وبعدها استعدت لتغادر للأسفل تنتظر قدوم علي مثلما أخبرها.
لمحها سيف تجلس بالأسفل بطالتها الخاطفة، كانت ترتدي تنورة واسعة من اللون الأبيض، وبادي من اللون الأسود وجاكيت من اللون الأبيض والاسود معًا، رآها تقرأ بأحد الكتب وتراقب هاتفها بين الحين والأخر، فحمل كتبه والبلطو الطبي الخاص به ثم هبط الدرج إليها.
دنى إليها يتنحنح لتلاحظ وجوده:
_صباح الخير يا دكتورة.
أغلقت كتابها وتطلعت له بمزيج من الارتباك والتوتر:
_صباح النور.
جلس على بعدٍ معقول منها وسألها:
_أخبارك أيه؟ أحسن؟
علمت مقصده بما حدث بالأمس فاشتعلت خجلًا حينما تذكرت قربه منها وهو يحاول أن يُفيقها، لعقت شفتيها الجافة ورددت على استحياءٍ:
_الحمد لله أحسن بكتير.
هز رأسه متفهمًا، ثم تطلع أمامه يراقب الجامعة بعينٍ شاردة، وفجأة قال:
_أيه رأيك لو خرجنا للكافيه اللي اتقابلنا فيه أول مرة… هعزمك على أيس كريم بالڤانيلا زي ما بتحبي ونقعد نتكلم شوية.
ارتبكت مما قال، وهتفت بضيق:
_مش هينفع أنا بستنى علي.. هو قالي نص ساعة وهيوصل.
انزوى بجسده تجاهها وقال:
_زينب أنا محتاج أتكلم معاكي… أنا آآ… أنا بحبك يا زينب وعايز أتجوزك.
اتسعت حدقتيها مما قال، ومع ذلك حاولت السيطرة على انفعالاتها وقالت بارهاق:
_تاني… أنا مش قولتلك مينفعش مصمم ليه تتعب نفسك يا دكتور؟
تعالى صوته دون ارادة منه:
_أنا مش جبان عشان أخاف من الكلب ده يا زينب.. أنا عايز أكون معاكي وواثق إنك بتبادليني نفس المشاعر اللي جوايا وإنك عايزة القرب ده أكتر مني.
وتابع بنبرة هادئة تحاول استمالتها:
_متقفليش أبوابها في وشنا يا زينب… اديني فرصة أدخل حياتك وأنا أوعدك أنساكي يمان واللي جابوه.
تعمد أن يزرع المرح بنهاية حديثه عسى أن تلين ملامحها قليلًا، اقترب سيف منها وقال بعاطفة تسللت لها:
_وافقي إنك تكوني ليا زوجة وأنا هحميكِ منه بروحي يا زينب!
ارتعبت من جملته التي حللت ما سيحدث إن وافقت، بالطبع سيفقد روحه وحياته حينها، جمعت زينب أغراضها ونهضت تهرول من أمامه تجاه بوابة الخروج.
اندهش سيف مما تفعله فحمل البلطو الطبي وكتبه وركض خلفها يناديها بخوف:
_زينب اقفي مكانك متخرجيش الا لما دكتور علي يوصل.
ألقت بحديثه عرض الحائط وخرجت من بوابة الجامعة تحاول إيقاف سيارة أجرة لتفر من أمامه، وسيف مازال يهرول من خلفها يحثها على التوقف.
أشارت لاحدى سيارات الاجرة فدنت منها، أسرعت زينب تفتح بابها الخلفي فجذبها سيف يمنعها من الصعود مشددًا على كلماته:
_زينب مينفعش اللي بتعمليه ده ادخلي جوه استني دكتور علي أو خليني أوصلك لكن مش هسمحلك تآآ…… آآآه.
قطع كلماته صارخًا بوجعٍ طاله مع تلك الضربة القوية التي طالت رأسه من الخلف، جعلته يضع يده على نفورة الدماء المنتشرة من رأسه، فاستدار للخلف فتفاجئ بأربع رجال ذو أجساد مهيبة، أحدهم يحمل عصا حديدية غليظة وتلك الضربة كانت أول هجماته.
جحظت أعينها رعبًا وفور أن استدار إليهم سيف تمكنت من رؤية دمائه فصرخت بهلعٍ:
_سيـــــــــف!!
ترك الكتب منه وقبل أن تطوله ضربة أخرى منع العصا من أن تلمس رأسه وركله بقوة ببطنه فسقط الرجل المقنع أرضًا يتلوى من ضربته، فأتاه الاخر يهاجمه.
تراجع سيف للخلف ويده تبعد جسد زينب الماسد خلفه، هامسًا لها:
_اركبي التاكسي وامشي من هنا حالًا.
تساقطت دموعها تباعًا ويديه تتعلق بذراعه الذي يعيدها خلفه كالستار الذي تحتمي من خلفه، فرددت باصرارٍ وحبًا تمرد بوقته ليخبره بما تخفيه:
_لأ… مش هسيبك لوحدك يا سيف..
وقبل أن يجيبها وجد أحدهم يدنو إليه، فسد سيف لكمته وواجهه ببراعةٍ حينما منحه لكمة حطمت أنفه بشكل جعل الاثنان الاخرين ينتبهون لمهاراته بالدفاع عن نفسه، فعلموا بأنه تدرب على فنون الملاكمة ما يجعله يسد هجماتهما لذا أشاروا لبعضهما اشارة توحي بالغدر والخيانة، فنفذت خطتهما أن يلهيه أحدهما لحين أن يجذب الاخر العصا الملقاة أرضًا ويواجهه بغتة.
تراجع سيف بها للخلف ودفعها لباب سيارة الاجرة المفتوح هادرًا بانفعال:
_اركبي يا زينب وامشي من هنا… أنا هبقى كويس مالكيش دعوة بيا.
بكت وهي تتعلق بذراعه وتراقب من يتقدمان إليه بفزع:
_لاااا… مش هسيبك لوحدك يا سيف.
أبعدها للخلف وهرع تجاه من يقترب إليه، رفع الرجل قدمه ليركله فأمسك بها سيف ورفع جسده ليسقط بثقله على قدم الاخر فصرخ بألمٍ، انهال عليه باللكمات وقبل أن تطوله لكمته الاخيرة شعر بضربة قاتلة فوق رأسه، تستهدف نفس إصابته فجعلت توازنه يختل وما حوله يدور به كالكرة المتراقصة.
أبعده المصاب أسفله عنه بينما الأخر رفع العصا وعاد يصوب ضربة إليه على كتفه، فتألم سيف وتأوه بوجعٍ قاتل، وما يتسلل إليه صراخها المرتعب:
_سيــــــــــــــف…. لأاااااا…
ضربة أخيرة نالت من مقدمة رأسه جعلت الدماء تندثر من فمه وأنفه بغزارة، فسقط جسده مستسلمًا لأوجاعه،ركضت زينب تحاول الوصول إليه وهي تبكي وتصرخ بجنون:
_سيف!!!
منعها أحد الرجال من الوصول إليه، بينما اقترب منه أحدهم يفتش بجيبه حتى عثر على هاتفه فحمله بجيبه وغادر هو ومن معه لتلك السيارة السوداء التي كانت بانتظاره.
اندهشت زينب مما حدث، كانت تظنهم رجال يمان ولكن حينما تركوها وغادروا تيقنت بأنهم ليسوا الا لصوص قاتلة.
هرولت إليه بكل قوتها، انحنت تحمل رأسه النازف ووضعتها على قدميها، فتلوثت تنورتها البيضاء بدمائه، خلعت عنها جاكيتها ووضعته فوق جرح رأسه تكبت النزيف الحاد وهي تناديه ببكاء وتوسل:
_فتح عينك يا سيف… بالله عليك فوق!
كان يستمع لصوتها فمازال لم يفقد وعيه تدريجيًا، رفعت عينيها للمارة المجتمعين من حولها وترجتهم ببكاء:
_فليطلب أحدكم سيارة اسعاف أرجوكم!
أشار لها احدهم بأنه طلبها وبالطريق بالفعل، فانحنت برأسها إليه تخبره بدموع اختلطت مع دماء وجهه:
_الاسعاف على وصول يا سيف… أوعى تستسلم عآآ…. آآ… علشاني يا سيف!
كلمة ثقيلة نطقتها بالكد، ومع نطقها انهمرت دمعاتها على رموش عينيه، فتح سيف عينيه لها ومنحها ابتسامة خافتة ثم أغلقهما مجددًا بسرعة كبيرة جعلتها تظن بأنها تتوهم.
دقائق معدودة وتوقفت سيارة الاسعاف، حملوه على السرير المتحرك بعدما علقوا برقبته مانع الكسور حتى إذا احدثت الاصابة كسر لا يتضاعف مع حركتهم.
كانت لجواره بالسيارة لم تتركه، صوت بكائها، حديثها إليه كل فترة والاخرى، دعواتها إليه برجاء، كان يصل له كل انفعال صغير يخرج منها كان يصل لمسمعه.
وكلما نادته ببكاء فتح عينيه يطمنها بنظرة خاطفة ويُعاود غلقهما تأثيرًا لألمه حتى فقد الوعي بشكلٍ أفزعها وجعل الممرض يصرخ بالسائق:
_إننا نخسر المريض… أسرع!
تعالى صوت بكائها وهمست بارتياعٍ:
_يا رررب!!!
وصلوا للمشفى ودفعوا السرير لغرفة العمليات، فاختل توازنها على الأريكة الحديدية المقابلة لغرفة الجراحة، تتطلع لبابها بشرود تام، وكأنها تحمل مستقبلها ومستقبل حبها بين طياتها.
الدقائق تمر ومازالت متيبسة محلها لا تقوى على التفكير أو الحركة، إلى أن خرجت لها الممرضة تحمل لها قميصه الملطخ بالدماء وبنطاله ومحفظته الجلدية، قربتهم زينب إليها وهي تبكي بانهيارٍ، إلى أن تسلل لها صوتًا رجوليًا:
_محتاجة لحضن حد يا حبيبي!
ودنى إليها مستغلًا صدمتها وتيبس جسدها بأرضها:
_عينك مشتقالي ومتلهفة للقائي وبالنهاية اجتمعنا يا زينب!
تراجعت للخلف وهي تضم أغراض سيف لصدرها وكأنه سيحضر بالحال ليدافع عنها، الصدمة جعلتها كالتي فقدت النطق، فتحاول جاهدة لتخرج صوتها المنقطع داخلها، وبصعوبة بالغة رددت:
_يمان!
يتبع…
سرت البرودة لجسدها تدريجيًا، لدرجة جعلتها متصلبة لا تحتمل الحركة، بينما الأخر مازال يقترب بخطواته البطيئة، وكل خطوة يرنو بها إليها كأنه يزف هلاك موتها البطيء.
رأسها تهتز بجنون غير قابلة لتصديق رؤيتها له، ولكن عقلها يفسر ما يراه بسرعة كبيرة، نفس نظراته المحتقنة المخيفة، نفس رائحة البرفيوم المقززة تتسلل لأنفها كلما اقترب إليها، فحيحه السام يصل إليها:
_أيه يا زينب كنتِ متخيلة إني هسيبك؟
حجزها الحائط لتواجهه رغمًا عنها، فرفع ذراعيه يحتجزها هو الأخر هاتفًا ببطءٍ قاتلٍ:
_قولتلك إني مستحيل أتخلى عن حاجة تخصني وإنتِ تخصيني!
واستطرد بوجومٍ مفزع:
_كل مرة كنت بحاول أخليكِ ملكي كنت بتراجع علشان ثقتك فيا متنكسرش… كنت بحذر على قد ما أقدر علشان ما تخافيش مني بس دلوقتي مفيش قوة في الكون هتمنعني عنك!
هزت رأسها تعترض على ما يلقيه عليها، فزاد من وتيرته:
_متفكريش إن العيال اللي إنتي قاعدة عندهم دول هيحموكي مني، الكلب اللي هددني كانت ديته رصاصة واحدة صحيح نفد منها بس الجايات أكتر من اللي راح.
مشط الطرقة من حوله بنظرة ساخرة وعاد يتمعن بها هاتفًا بغضب:
_الدور كان على الحقير اللي مرمي جوه ده بس حد سبقني ووجب معاه.
واستطرد بحدة:
_ولو قام منها هقتله أنا بنفسي.
صرح لها بأنه سيتخلص من سيف، فاحتد بكائها وازداد خوفًا، بصعوبة بالغة رددت:
_لأ… حرام عليك سيبه في حاله هو مالوش ذنب!!
ازدادت ابتسامته وتلاشت فجاة بشكل أرعبها، ظلت صامته ولم تهتز لأي من تهديداته وحينما ذكره أسرعت بالحديث، غمس أظافر يده الطويلة بمرفقها فصرخت ألمًا كلما جذبها إليه، متسائلًا بغضبٍ مخيف:
_حبتيه؟؟
بكت وهي تتأوه بصراخ، متوسلة:
_أبعد عني بقى… لسه عايز مني أيه تاني؟
تجاهل كل ما تتفوه به وجذبها بشراسة تناهز ما فعله:
_ردي عليا حبيتي الكلب ده؟.
وشملها بنظرةٍ جريئة جعلتها تضم جسدها بخوفٍ:
_سلمتي نفسك ليه؟؟
برقت بصدمةٍ لاتهامه المهين لها، ومع ذلك رفعت يديها تدفع صدره بعيدًا عنها وهي تصرخ بجنون:
_أه حبيته ومش هكون غير ليه هو واللي عندك اعمله… عايز تقتلني اتفضل أنا قدامك ريحني من إني أشوف خلقتك.
وجدت الألم ينتقل منها إليه، رأته يهز رأسه ولسانه يهمس بكلمات غير مسموعه فتابعت بكل قوة:
_أنا بكرهك وبقرف منك يا يمان.. أنت أكبر غلطة في حياتي… خدعتني وخلتني أحب إنسان مريض ومجرم.. لو فاكر إنك لما هتتخلص من سيف ده هيخليني أرجع أحبك تبقى غلطان لإن الكره اللي جوايا أقوى من إنك تتغلب عليه فاستسلم وإبعد وسبني في حالي.
ظنت أنها أحرزت انتصارًا عليه مع تجمد ملامحه وسكونه عن الحركة والحديث، فانهار عالمها فجأة حينما تعالت ضحكاته تباعًا ومازال أظافره تنحر لحم ذراعها بحقدٍ، ودفع جسدها فجأة لأحد الغرف المجاورة لجناح العمليات، أغلقه بالمفتاح القابع خلفه ورفع يده إليها يزيح حجابها بغضبٍ فصرخت به مجفلة من فعلته، وما زادها صدمة محاولته للاعتداء عليها بقلب المشفى، فصرخت تستنجد بأي أحدًا ولكنه كان الأسرع منها حينما دفع محقن غريب بعرق رقبتها، فارتخى جسدها كالهلام بين يديه.
حملها وألقى بها على الفراش بعنفٍ ألم جسدها، ومال عليها يتطلع بعينيها قائلًا:
_كنت عايز أحترمك وأخدك وانتي مراتي على سنة الله ورسوله.. بس مدام بتكرهيني فكره بكره أخد اللي أنا عايزه ومن غير جواز.
وانحنى لأذنيها يهمس بفحيحه المقزز:
_هخليكي عاهرة ليا ولنزواتي يا زينب!
انهمر الدمع من عينيها كالشلال، وبكلمات تحجرت بحلقها رددت:
_ل.. أ… أ.. ر.. ج.. و… ك (لأ… أرجوك!!)
رجائها، انهزام روحها أمامه، دمعاتها المتدفقة، استسلام جسدها، بعثت البهجة بروحه المريضة، أسقط رأسه لرقبتها ينهشها كالذئب المفترس، ومازالت تعافر لأن تحرك أي جزء من جسدها لتدافع عن ذاتها، حتى صوتها احتبس داخلها وكأنه يضع داخل فمها حجرًا ثقيلًا..
جوارها ببضعة أمتار كان ينازع للحياة وهي تنازع لحماية عرضها، تخشى أن يُدنسها ذلك الحقير، رفعت رأسها للأعلى تدعو بكل انكسار أن ينقذها ربها مما سقطت هي به، فأتاتها استجابة سريعة تربت على روحها المكلومة حينما انكسر باب الغرفة ليطل من أمامها “عُمران” و”آدهم” وأخرهما كان “علي” الذي ترك أمره لأخيه ولزوج شقيقته وهرول إليها ينزع جاكيته ليخفي جسدها عن الأعين بغضبٍ وغيرة على عرضه وكأن من أمامه هي “شمس “.
انحنى إليها يضع ذراعيها بجاكيته وهو يناديها بفزعٍ:
_زينب… سمعاني!
تقابلت عينيها الباكية به، تشكو له ما تعرضت له بكلماتٍ غير متزنة:
_ع… ل… ي…(علي!!!)
انحنى يجذب حجابها الملقي أرضًا وعينيه تبعد عن رؤيتها، فوضعه باهمالٍ واتجهت نظراته لذاك الحقير صارخًا بعصبية بالغة:
_جيت لقدرك يا حقيــر!
أشار له عمران بأن يظل محله، مرددًا وعينيه تخترق عين من يتأمله:
_أهلًا بدكر البط… أخيرًا اتقابلنا وش لوش… فاكر لما قولتلك هتزعل لما تشوفني.. وإنت شكلك كنت مُطيع وخوفت تطلعلي.. بس قدرك بقى وقعك مع سيادة الرائد” عمر الرشيدي” جابنا لحد عندك في ظرف ساعتين زمن.
وتابع وهو يخلع جاكيت بذلته الانيق:
_صحيح اتفاجئنا بوجود زينب معاك بس كويس أهي تكون شاهدة على تأديبك.
ضحك مستهزأ مما قبالته، وردد:
_مين ده اللي، هيأدبني؟
أجابه بلكمةٍ قاسية نالت من فمه فأسكبته دماءًا، وصوت عُمران يصل إليه:
_مش مالي عينك أنا بروح أمك!!
وجذبه من ياقة قميصه المفتوح:
_بدل ما تتشطر على واحدة ست لاعب راجل يعرفك اللي فاتك في دروس الرجولة يا****.
وانهال عليه عُمران بكل قوته، بينما يراقبه آدهم باستمتاعٍ وجسده يستند على باب الغرفة، حاول يمان مجابهة عُمران ولكنه كان شرسًا، سريعًا بخطواته، جسده العريض الممتد بعضلاته أوحت له مدى تيقنه لفنون القتال والرياضة الشاقة أمدته بجسدٍ قويًا لا يستطيع أن يتمكن من التغلب عليه، فدث يده بجيب سرواله وضغط على زر يحمله بريموت.
سدد له عمران ركلات أسفل بطنه وهو يصرخ بوقاحة:
_أنا هديك درس يخليك تحرم تخاف تقرب لأي واحدة ست طول حياتك..
وتابع وهو يدفع وجهه بالخزانة الزجاجية فانطلق الزجاج داخل وجهه فصرخ مستغيثًا كالنساء، يينما يصيح عمران بعصبية بالغة:
_ما تدافع عن نفسك يا دكر!!!! فين قوتك اللي فارض بيها نفسك يا ابن ال**** مستقوي برجالتك وباعتهم يقتلوني!
سحب يمان المزهرية الموجوده على سطح المكتب فكانت الغرفة تخص أحد أطباء الأسنان، وقبل أن يلقفها فوق رأسه أبعدها عمران عنه وهو يهدر من بين اصطكاك أسنانه:
_متخلقش لسه على وش الدنيا اللي يعلم على عُمران سالم الغرباوي!
لف يده حول رقبته بشكل مقبض، فاندفع تجاهه آدهم يبعده هاتفًا بحزم:
_كفايا يا عمران… هيموت كده في ايدك!!
حاول عُمران دفعه للخلف:
_اابعد يا آدهم.. هقتله واللي يحصل يحصل… خاطفها في المستشفى ومفضي الدور كله فاكرها سيبه بروح أمه!!
استخدم آدهم قوته ولكم عُمران بشراسة جعلت جسده يرتد للخلف بعيدًا عن ذاك الذي سقط أرضًا يلتقط أنفاسه بصعوبة بالغة كالجراد المدعوس.
التقطت أذن آدهم الخطوات القادمة،فدفع عُمران خلفه وسحب سلاحه استعدادًا للقادم.
ملأت الغرفة بعدد من الرجال المسلحين، يصوبون تجاه آدهم الذي استغل كاتم الصوت الذي يضعه وأطلق مستهدفًا أيديهم فسقط عنهم الاسلحة، وحينها تواجهوا مع عمران وعلي الذي أسقط اثنان منهما بحركة تشل الجسد مؤقتًا تعلمها جيدًا.
استغلوا انشغالهم وسحب اثنان منهما رئيسهم الذي ينازع للبقاء حيًا، بينما غطى الباقية ظهورهم بالاسلحة حتى هرولوا جميعًا للخارج.
أعاد آدهم سلاحه فاندفع عمران للخارج هاتفًا بشراسة:
_هنسيبهم يمشوا بالبساطة دي.
أوقفه آدهم قائلًا:
_مينفعش نخرج وراهم يا عُمران.. متنساش احنا فين!
تهدلت ملامح علي بحزن وضيق:
_يعني لو مكناش هجمنا على المكان اللي وصل لآدهم اشارته كان اعتدى عليها!
غلت الدماء بعروق عمران، فاتجهت نظراته للفراش يخطتف نظرة سريعة عليها، وعاد ببصره لأخيه يسأله:
_أذاها؟
سكن الوجوم تعابيره ورفع كتفيه بقلة حيلة:
_مش عارف… لما تفوق من مفعول المخدر هنعرف.
خطف آدهم نظرة إليها وحينما وجد عينيها مفتوحة ودموعها تنهمر دون توقف علم نوعية المخدر المندث بأوردتها فردد بغيظٍ:
_المخدر ده محرم دوليًا إزاي قدر يوصله الحقير!!
تنهد عُمران بيأسٍ فمرر عينيه للاسفل ليبحث عن جاكيته، اندهش لوهلة حينما تعلقت نظراته بقميصٍ ملطخ بالدماء ولجواره محفظة جلدية، التقطها وفتحها فجحظت عينيه بصدمة حينما وجد هوايته فقال وهو يرفعها نصب أعينهما قائلًا:
_دي محفظة سيف، أيه اللي جابها هنا؟
التقط منه آدهم القميص الملطخ بالدماء فتوترت الأجواء بينهم خاصة حينما قال علي:
_وجود زينب هنا أصلًا غريب… مش معقول إن الكلب ده هيخطفها في مستشفى عام زي دي الا لو كانت هي هنا وهو اللي ظهرلها ومقدرش يتحكم في نفسه فدخلها هنا.
تساءل عمران باستغراب:
_وأيه اللي هيجيب زينب هنا؟ ومحفظة سيف وقميصه آآ..
ابتلع باقي جملته بوجعٍ هاجمه حينما حلل مغزى الاحداث، فهرول لغرفة العمليات وهو يصرخ:
_لأ…… مستحيل!!
اتبعه علي وآدهم للخارج، فوجدوه يقترب من أحدى الممرضات يتساءل بتوتر وهو يضع هوية سيف أمامها:
_عذرًا سيدتي هل من بالداخل هو هذا الشاب؟
تمعنت الفتاة الانجليزية بما يحمل وأومأت برأسها مؤكدة:
_نعم.. لقد أعطيت أغراضه الخاصة للفتاة التي حضرت برفقته.
وتابعت تنقل له وضعه:
_اصابة الرأس قوية مازال الأطباء يجاهدون لانقاذه..
ونهت حديثها القصير قائلة بلطفٍ:
_استسمحك عذرًا سيدي.
ضم عُمران المحفظة إليه وجلس على الأريكة من خلفه بصدمة، ومن جواره علي يحتضن رأسه بين يديه في محاولةٍ لفهم كل تلك الألغاز، فحللها ذو العقل المدبر لخبرته بعمله بالمخابرات لخمسة أعوام قائلًا:
_سيف اتهاجم وزينب جت معاه هنا علشان كده الكلب ده ظهرلها…
وتابع بغيومٍ قاتمة:
_بس أيه خلاه يجي وراها لحد هنا لما كان يقدر يخطفها من نفس المكان اللي قدر يسيطر فيه رجالته على سيف!!!
وجلس بمنتصف مجلسهما مستطردًا:
_الموضوع ده فيه حاجة غلط… علي حاول تفوق زينب حالًا… هي الوحيدة اللي عندها اجابات الاسئلة دي.
دمس رأسه بين ساقيه بحزنٍ جعل صوته يحتقن:
_المخدر اللي ادهولها قوي مستحيل تفوق منه الا بعد خمسة وعشرين دقيقة كحد أقصى.
واستدار بجلسته لعمران يضم كتفه بيده، ويهاتفه بحزن:
_كلم يوسف يجي… لازم يكون جنب أخوه يا عُمران.
لمعت عينه بدمعة خائنة فأزاحها سريعًا ومال على أخيه يخبره بصوته المتحشرج:
_هقوله أيه يا علي؟ مش هقدر!!
ربت على كتفه بحنانٍ مضاعف وقال:
_ابعتله رسالة وخليه يجي بدون ما تقوله تفاصيل.
أومأ برأسه وسحب هاتفه يرسل ليوسف، بينما نهض علي وولج للداخل يتابع حالة زينب بعدما نادى على أحد الطبيبات لتتفحصها، وتساعدها على استرداد وعيها سريعًا.
******
رسالة مختصرة أخبره بها بأنه ينتظره بالمشفى التي أرسل إليه عنوانها، فأسرع يوسف بسيارته للموقع المرسل إليه وبداخله نغزة تكاد تخترق صدره وغيظًا يفور داخله لتجاهل عُمران رسائله ومكالماته ليطمئن عليه.
صف سيارته وهرول للمصعد متمتمًا بخفوت:
_استر يا رب!
فور توقف المصعد رأى يوسف عُمران يجلس أمام غرفة العمليات ولجواره يقف آدهم، فهرول تجاههما يناديه بقلقٍ:
_عُمران.. في أيه ؟
رفع عينيه صوبه وهو لا يعلم ماذا سيخبره، ارتبك لسانه عن تردد ما سيقول، فوزع يوسف نظراته الحائرة بينه وبين آدهم:
_ما ترد يا ابني قلقتني!
صمته وتوتر ملامحه أمامه زرع القلق في نفس يوسف، فرفع عينيه لآدهم يسأله:
_في أيه يا آدهم.. جايبني المستشفى هنا وساكتين كده ليه؟
خرج علي من غرفة زينب فور سماعه صوت يوسف، فضيق الاخير عينيه بدهشةٍ:
_وإنت كمان هنا يا علي!
وبنفاذ صبر صاح:
_ما تفهموني في أيه!!
سحب عُمران نفسًا ثقيلًا واستدار تجاهه يقول بحزنٍ:
_يوسف من فضلك حاول تكون هادي وآآ..
_سيف جراله حاجة!!
نطق بها بمقلتيه القاتمة بعد أن ترسخ داخله تحليل لوجوم ملامحهم واستدعائه إلى هنا، أسرع علي يجيبه:
_هيبقى كويس يا يوسف.. إن شاء الله اصابته تكون سطحية جدًا.
اتسعت مقلتيه بصدمة، كان يتمنى أن ينفي ذلك ويخبره بأنه فهم ما يودون قوله بطريقة خاطئة، انتفضت عروقه بشكلٍ جعل العرق يتصبب على جبينه كالأمطار الغزيرة، وبدى كالتائه لا يعلم إلى أي طريق سيسلك الآن!
استعاد اتزانه بصعوبة واتجه لغرفة العمليات ولسانه يردد بخفوتٍ مؤلم:
_سيف أخويا جوه!!
واستدار إليهم يهتف بتشتتٍ:
_اتصاب ازاي؟ مين اللي عمل فيه كده؟ طب طب هو كويس يعني؟ طيب مخرجش ليه!! وبعدين ليه مكلمنيش!!! أأ… أنا كنت عنده الصبح ومجهزله الفطار بايدي لا…. لأ ده هزار سخيف منك يا عُمران.
وسحبه من تلباب قميصه بغضب كالجحيم:
_الا سيف يا عُمران متهزرش في شيء يخصه… أوعى تفول على أخويا بالسوء أقسم بالله هتكون النهاية بيني وبينك وتغور صداقتنا بعدها…. سامعني يا عُمران الا أخويــا!!!
انهمر الدمع عن مُقلتيه تأثرًا بصديقه، هو الوحيد الذي يعلم محبة يوسف الكبيرة لأخيه وكأنه صغيره الذي لم يُنجبه بعد.
رمش يوسف بصدمة، وحرر يديه عن عنق عمران فور أن تأكد من ملامحه بأنه لا يفتعل مزاح سخيفًا كهذا، فتراجع للخلف وعينيه تتجه تلقائيًا لباب غرفة العمليات.
هرع إليها وبعد أن قدم للاطباء هويته وتأكدوا بأنه طبيبًا ويقرب للحالة سمحوا له بالتواجد بالداخل.
دنى يوسف من الفراش القابع به أخيه بمنتصف غرفة الجراحه، يلتف من حوله عدد من الاطباء يحاولون بشتى الطرق انقاذه، مرددين بخطورة اصابته واحتمالية وجود نزيف داخلي.
انهمرت دمعاته تباعًا وهو يحدق بوجه أخيه الممتليء بالكدمات المؤلمة، فاختص مكان من وسط الاطباء ومال على أذنيه يترجاه ببكاء:
_أنا جنبك يا سيف!
وتابع وصوت بكائه يتخلل الغرفة:
_ألف مليون سلامة عليك يا حبيب قلب أخوك..والله ما هرحم اللي عمل فيك كده هقطعلك ايده..
وأزاح دموعها خاطفًا نظرة لمؤشرات الاجهزة من حوله، انتابته حالة من الفزع حينما ساء نبضات قلبه بشكل ملحوظ فمال عليه يصرخ به:
_متسبنيش يا سيف… خليك معايا علشان خاطري متبعدنيش عنك يا سيف هموت والله العظيم لو جرالك حاجة.
وأشار على صدره ودموعه تغرق وجهه:
_أهون عليك تعذبني يا سيف… يهون عليك وجعي؟
رفع جفنيه الثقيل ليحاول التأكد من سماع ذلك الصوت المألوف، ظن أنه يهلوس من أثر الجراحة والمخدر فبدأت صورته المشوسة تبدو واضحة، فتحركت شفتيه من بين قناع الاكسجين:
_ي.. و.. س.. ف (يوسف!)
أمسك يده المنغمسة بالمحلول وهو يردد بابتسامة تعاكس بكائه:
_أنا هنا جنبك يا سيف..
أغلق عينيه مجددًا ولسانه يردد من بين أبخرة الجهاز:
_زينب!
*******
بالخارج.
أشار علي لعمران أن يأتي لغرفة زينب، فما أن دنى إليه حتى همس له:
_كلم مايا تجيب لزينب لبس وتيجي.. مش هينفع ترجع البيت بلبسها المقطع ده فاطمة لو شافتها أو عرفت بحاجة هتدمر ومجهودي معاها كله هيروح في الفاضي.
هز رأسه بتفهمٍ وربت على كتفه:
_متقلقش هنبه على مايا متعرفهاش حاجة.. اطمن!
منحه ابتسامة صغيرة، بينما سحب عُمران هاتفه واتجه لأحد الأركان ينتظر سماع مهلكة فؤاده فأتته تجيبه بصوتها الناعس:
_عُمران!
ابتسامة مشرقة تجلت على ملامحه الجذابة فتهف بصوته الهامس المغري:
_حبيب قلبه وعيونه… صحيتك من النوم يا بيبي؟
أتاها ردها مرهقًا، كسولًا:
_أممم… مش عارفة مالي بنام بالنهار كتير ليه.
وتابعت تهاجمه بخبث الأنثى:
_يمكن علشان بقضى الليل كله بستناك لما ترجع من سهراتك الكتيرة مش بعرف أنام من كتر قلقي عليك!
ضحك وهو يردف بخبث:
_لا يا بيبي مش قلق.. ده علشان مبتعرفيش تنامي بعيد عن حضن جوزك حبيبي.. مش كده ولا أيه يا حبيب قلب جوزه؟
يكاد يحزم بأنه يستمع لصوت احتباس ضحكتها، فنجح بتهيئتها لما يود قوله:
_حبيب قلب جوزه ينفع يعتمد عليه في طلب؟
أتاه صوتها الجادي:
_طبعًا..قول!
أخبرها بنبرة هادئة:
_عايزك تدخلي أوضة زينب تجيبي منها لبس خروج كويس وتجيني على اللوكيشن اللي هبعتهولك بس بدون ما فاطمة تحس بشيء، هتقدري؟
اعتدلت بفراشها وتساءلت بجدية:
_ليه هي زينب مالها؟
أسرع بالرد عليها:
_كويسة جدًا متقلقيش ولما تيجي هتعرفي كل حاجة.. المهم خليكي عاقلة ومتلفتيش نظر فاطمة ليكي.. ولما تطلعي من البيت كلميني علشان أقف استناكي..
_حاضر.
_خدي بالك من نفسك وسوقي على مهلك.
_تمام يا حبيبي اطمن.
_قلب حبيبك ونور عيونه إنتِ يا مايا!
وبمجرد أن أغلق هاتفه تلاشت عنه ابتسامته وفترته المؤقتة بالحديث مع من أراحت قلبه.
عاد عُمران ينضم لمجلس آدهم وعلي، فاستمع آدهم يردد:
_اول ما نطمن على سيف لازم نوحد أقوالنا كلنا إن اللي عمل كده هو يمان… حظه الاسود وقعه إن عمل عملته في المستشفى والكاميرات مالية المقر، أكيد لما يعرف إنه اتهم باللي حصل لسيف ومهاجمته زينب هيهرب من انجلترا فترى مؤقتة نقدر فيها نرتبله على مزاج..
ووزع نظراته بينهما مستطردًا:
_عيبنا الوحيد إننا مش في دولتنا وحرفيًا هنا بيتلككوا على الوحدة لينا، فمحتاجين نتخلص منه بتخطيط تقيل أوي ميوقعش حد فينا في مشاكل!
هز علي رأسه بتفهمٍ فصاح عُمران ساخرًا:
_اطمن بعد العلقة المحترمة اللي أكلها هينام شهرين في السرير!
ابتسم آدهم بخبثٍ، وفور أن خرج يوسف اليهم التفوا من حوله، فسأله علي باهتمام:
_طمنا يا يوسف سيف بقى كويس؟
جلس على المقعد بعدما فقد القدرة على الوقوف وأجابهم بصوتٍ متحشرج:
_الحمد لله الدكاترة بيفوقه جوه وهينقلوه على أوضة عادية.
ورفع رأسه لعمران يسأله بحدة:
_أيه اللي حصل يا عُمران؟ ومين اللي عمل في أخويا كده؟
أجابه علي نيابة عنه:
_يمان ظهر هنا لزينب وكان هيتعدي عليها لولا إننا اتبعنا اشارة تليفونه ووصلناله هنا.
ضيق حاجبيه بصدمة:
_يعني هو اللي عمل فيه كده؟
نفى آدهم ذلك هاتفًا:
_صدقوني مستحيل يكون هو.. والا مكنش ساب زينب تيجي معاه هنا الموضوع غامض واجابة سؤالنا عند زينب.
والتفت لعلي يخبره:
_دكتور علي زينب لازم تفوق وحالًا.
*****
تحررت يدها أخيرًا وانصاع لها باقي أجزاء جسدها، ربما تغيب جسدها بالكامل عن الوعي الا عقلها وعينيها، تمنت لو تمكن منها المخدر وتسلل لرأسها فأفتك به هو الاخر.
ضرب جسدها برودة وبالرغم من احتفاظها بجاكيت علي الثقيل الا أنها كانت ترتجف بقوة جعلت أسنانها تصطك ببعضها البعض دون توقف، وبكائها لم يتوقف بعد.
استندت بجذعها على الفراش واعتدلت تضم الجاكيت من حولها بخوفٍ، أنكست رأسها باستسلامٍ لانهيار جسدها الهزيل.
تسلل لها صوت صرير الباب ومن ثم ولج علي وعمران الداخل ومن خلفهما يوسف وآدهم، رفعت كفها تزيح دموعها سريعًا وبداخلها تتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعها حرجًا لما تعرضت له بوجودهم.
جذب علي المقعد المعدني وقربه من فراشها قائلًا بابتسامة عذباء:
_حمدلله على سلامتك يا زينب..
أجابته بصوتها المتقطع من فرط البكاء:
_الله يسلمك يا علي.
مال عليها يسألها بهمسٍ منخفض:
_الكلب ده أذاكي؟
علمت مقصده الصريح فهزت رأسها نافية ذلك مما جعله يستقر بمقعده براحةٍ، فأشار له آدهم بحدة أن يتابع بسؤاله الهام، فتنحنح مردفًا:
_زينب أنا مقدر حالتك وعارف إنك مش قادرة تتكلمي ولا تشوفي حد بس سيف حياته كده في خطر لازم نعرف منك اللي حصل بالظبط عشان نعرف مين اللي ورا الموضوع.
رد عليه يوسف بانفعال:
_مش محتاجة تفكير يا دكتور علي أكيد يمان الكلب ده اللي عمل فيه كده.
اعترضت حديثه قائلة بصوتٍ مجهد:
_لأ… الناس اللي هجمت سيف مكنوش تبع يمان.
دنى إليها آدهم يسألها بتركيزٍ واهتمام:
_وأيه خلاكي متأكدة كده يا دكتورة زينب؟
قالت وهي تعدل حجابها وتحكم الجاكيت حول كنزتها الممزقة:
_لإني كنت موجودة معاه ومحاولوش يأذوني أو يقربولي كانوا مستهدفينه هو.
تابع آدهم بسؤاله القادم وقد بدأ حلقه يجف كالصحراء لمجرد توارد إليه مقصد ما حدث:
_دكتورة زينب أرجوكي حاولي تساعديني بأي شيء يدلنا على طرف الخيط… ملحظتيش شيء غريب مثلًا فيهم أو حصل حاجة لفتت نظرك.
صمتت قليلًا تفكر بالأمر وحينما وصل إليها لقطات تُعاد إليها قالت:
_آآه…لما ضربوه على رأسه ووقع على الأرض قرب واحد منهم وفتش جيوبه،افتكرت انهم حرامية وعايزين اللي معاه بس الغريب انهم مخدوش غير موبيله بس ومحفظته زي ما هي!
صدمة وقعت على عاتقهم، فوزعوا النظرات بينهم بفزعٍ، وخاصة حينما ردد آدهم بوجعٍ مقبض احتل صدره:
_مش سيف المقصود.
انتصب عمران بوقفته وصاح بهلعٍ:
_آيــــــــــــــــوب!!!!!!
*****
تنعم بحمامٍ دافئ بعد يومًا مهلكًا بالعمل، خاصة مع غياب عُمران الملحوظ، فوجد حسام سكرتيره الخاص يطالبه بالهاتف الخاص بمكتب الاستاذ ممدوح يطالبه بالصعود ليكون محله اليوم.
ارتدى “آيوب” بنطاله الجينس وخرج من حمامه يتجه للغرفة الخاصة به، وما أن ولج حتى تفاجئ بها تجلس أمام خزانته وتحمل بيدها الكتاب الذي يحمل الدفتر السري، وبيدها صورة فوتوغرافية كان يخفيها بمنتصف الدفتر.
ترك المنشفة من يده وهرع إليها يجذب الدفتر والصورة هاتفًا بعصبية لم تشاهدها منه قط:
_من سمح لكِ بالعبث بين أغراضي؟
منحته نظرة حادة، وبعدها ألقت إليه ثورتها المقتادة:
_من تلك المرآة؟ ولماذا قد تجمع الصورة أخي معها؟
وتابعت قبل أن يتحدث:
_الصورة تخص أخي وهو بالحادية عشر عامًا من عمره… أخبرني الآن من تلك المرآة؟
وضع آيوب الدفتر بالحقيبة وأجابها بضيقٍ:
_لا تحاولي العبث معي يا فتاة! ثم أنني ألم أخبرك ألا تقتحمين غرفتي هكذا؟!
تغاضت عن حديثه وصاحت باندفاع:
_لم تجيبني على سؤالي آيوب.. من تلك المرآة؟ وماذا يوجد بالدفتر؟
واستطردت بجنون يعتليها:
_ما الذي تحاول فعله أيها الإرهابي!!
تجاهل حديثها وأغلق خزانته جيدًا ثم استقام بوقفته قبالتها، فرمشت بارتباكٍ ملحوظ، أشار لها أيوب بغلظة:
_أنا متعب وأريد أن أحصل على بعض الهدوء هنا.. فلتخرجي الآن.
وجدها تتطلع به كالبلهاء، نظراتها جريئة مجردة من الحياء المعهود من الفتيات، فانتبه بأنه يقف دون ملابسه العلوية، لذا انحنى يجذب قميصه الأسود يرتديه وهو يصيح بعصبيةٍ:
_أغيثني يا الله!!
وتابع بنفورٍ ينتابه:
_ألا يمكنني البقاء بمفردي ؟!
انتبهت إليه فأماءت برأسها بخفةٍ واستدارت لتغادر غرفته فأوقفه قوله الصارم:
_سيأتي صديقي بعد قليل لا تغادري غرفتك في وجوده.
هزت رأسها بخفة واتجهت للمغادرة بينما جذب آيوب هاتفه يرسل برسالة لسيف:
_«انت فين يا ابني كل ده في الطريق؟! فين من ساعة ما طلبت مني اللوكيشن انت توهت ولا أيه يا دكتور سيفو!»
زوى حاجبيه دهشة حينما وجده يقرأ رسائله دون ردًا، وأكثر ما يثير دهشته طلبه المفاجئ لموقع المنزل ورغبته المقلقة بالقدوم إليه، حتى طريقة كتابته للرسالة كانت بايجاز لا ينطبق على شخصية سيف ومع ذلك جلس ينتظره ليعلم ما به.
اتجهت آديرا لغرفتها ولكنها توقفت فجأة حينما انطلق صوت همسات خافتة من أمام شقتها، ووجدت فتحة الباب تستجيب لمفتاح غريبًا من الخارج.
كبتت صرخاتها بصعوبة وتراجعت لغرفة آيوب بحذرٍ، فما أن ولجت للداخل حتى همست له برعب:
_هناك من يحاول فتح باب المنزل!
وما كادت باستكمال حديثها حتى تسللت إليهم أصوات أقدام تتقدم منهما وصوت سحب زناد الاسلحة يوضح لهم كناية الحاضرين، ارتعبت آديرا وتراجعت للخلف، فأعادها آيوب خلف ظهره وخرج يراقب ما يحدث بالخارج، فما أن رأي رجال ملثمين يقتحمون الشقة حتى أسرع إليها يحمل السرير الحديدي ليظهر تجوفه الداخلي مشيرًا لها بلهفة:
_اختبيء واحرصي الا تصدرين صوتًا.
تمددت آديرا بباطن الفراش المجوف وهي تهز رأسها إليه بينما كف يدها تكبت به شهقاتها المنفلتة عن فمها.
اعاد أيوب الفراش سريعًا ورتبه بشكلٍ منظم حتى لا يثير الشكوك إليه، متخذًا قراره المسبق بأنه سيحميها لأخر قطرة من دمائه.
أغلق الضوء بحذر واختبئ خلف باب الغرفة، فما أن انفتح بابها حتى هوى على رأس من ولج بالمشجب الخشبي الخاص بتعليق الملابس، تليه ذاك الذي أسرع من خلفه.
تأوه الرجلين حينما تغلب عليهما آيوب، فسحب أصواتهما انتباه باقي الرجال المنفردين بالشقة بأكملها يحاول العثور عليهم.
امتلأت الغرفة بأربعة منهم يحاولون السيطرة عليه وتقيده بالأساور الحديدية فرئيسهم يريده حيًا.
كان التغلب عليه مرهقًا للغاية، لتمرينه الدائم بدورات الملاكمة التي تلاقها برفقة سيف بالفترة الأخيرة، فسحب احدهم سلاحه ومال بطرفه على جبين أيوب فاختل توازنه جراء ذاك الدوار الذي هاجمه فجأة، ومع ذلك بقى صامدًا قبالتهم فاجتمعوا اللعناء الأخِسَّةٌ من حوله ينهشونه حتى يضمنون تبلد قوته الظاهرة على جسده الرياضي الممشق.
يلتفون ببذلتهم السوداء وتسريحة رأسهم المجتمعة بجديلة تشبه النساء، كان بمفرده يقاوم ضرباتهم، عاجزًا عن صد ضرباتهم الدنيئة التي لا تستهدف الا ظهره، ترى إن كان أصدقائه العرب لجواره هل كان سيتلقى كل تلك الضربات؟
إن اجتمع الشباب لجواره لكانت نهاية هؤلاء الخَنَازِيرُ الموت لا محالة، يحتمون بأسلحتهم وبوجودهم ببلاد متحررة تنصفهم ويقومون من قوتهم المصطنعة، إنما هم الا جُرْذَان حقيرة تدعس أسفل الأقدام، وما يثير السخرية إنهم يدركون قوة ذلك الشاب الذي إن اجتمع بصديقه الأخر لذا أول ما فعلوه هجموا عليهما منفردين ليضمنوا أنهم سيعيقوا دفاعهما.
مال آيوب أرضًا مستسلمًا لتلك الضربة القوية، فحملوه للسيارة بالأسفل ومشطوا الشقة بأكملها ليتمكنوا من ايجاد آديرا، وبالنهاية اختبئ أحدهم بحمام الغرفة وتصنعوا مغادرتهم، فرفعت حافة الفراش وصعدت لتلتقط أنفاسها ففوجئت بهم يحيطونها بكلبشٍ حديدي ودفعوها للسيارة جوار آيوب الفاقد للوعي وتحركوا بهما للقاء عمها الآرعن ليواجه ذاك المسلم الذي استكمل مسيرة أبادها منذ ثلاثة وعشرون عامًا فأتى ليوقظ الماضي الذي يذكره بنكسة انهزامه التي تشبه انتكاسة دولته العاهرة عام 1973، ولكن ترى هل سينتصر على ذاك الشاب التقي أم أن هناك انتكاسة أخرى ستنال من ذاك اللعين؟!.
يتبع…
صفت سيارتها بچراج المشفى وصعدت للطابق المنشود، فتفاجئت بوجود “علي” و”يوسف”و”آدهم”، بدى لها بأن الأمر ليس هينًا، أسرعت من خطواتها إليهم وبقلبٍ يصرخ نبضاته فور أن لمحت كدمة زرقاء تحيط بأسفل عين زوجها، فنادته بهلعٍ:
_عُمــران!!
التفت إليها فوجدها تندفع داخل صدره وهي تحيط بوجهه تتفحص اصابته برعبٍ ودون مبالاة بمن حوله، انهارت دموعها واحتقن صوتها:
_من أيه دي؟
ضم كفيها الرقيق يطبع قبلة على باطنه هاتفًا بحنان:
_حبيب قلبي أنا كويس.. صدقيني مفيش حاجة.
ابتعدت عنه بنظرة حملت الشك بين طياتها، واتجهت بعينيها لعلي تسأله بقلقٍ لظنها بأنه يخفي الأمر عنها:
_علي احكيلي في أيه؟
تنحنح آدهم ليخبرها هو:
_اهدي يا بشمهندسة الموضوع بسيط يمان هاجم زينب من شوية وأنا وعمران ودكتور علي اتدخلنا واتقذناها.
ارتعبت فور سماعها لما حدث، وبخوفٍ تساءلت:
_طيب وزينب كويسة؟
أشار لها علي بهدوء:
_في الأوضة جوه… ادخلي ساعديها تغير هدومها وخديها وارجعي القصر وأوعي يا مايا فاطمة تعرف أو تشك في حاجة، إنتِ عارفة حالتها.
هزت رأسها بتفهمٍ، وبنظرة شك احتلت مُقلتيها رددت:
_وانتوا مش جايين معايا؟
كاد زوجها أن يجيبها فقاطعه يوسف الذي كان يقف على بعدٍ منهم يضع هاتفه على أذنيه بترقب، فدنى يردد بضيقٍ نزع ملامحه الوسيمة:
_أيوب موبيله بيرن بس مفيش أي رد.. أنا قلقت.
صاح آدهم بقلقٍ:
_لازم نتحرك حالًا.
وتابع مشددًا بتعليماته:
_دكتور يوسف خليك هنا جنب أخوك وأنا وعُمران ودكتور علي هنتحرك على شقة آيوب.
يستقصيه عن صديق رفيقه الذي يعد بمثابة شقيقه الأصغر، أبدى اعتراضه هادرًا بانفعالٍ:
_رجلي على رجلك يا سيادة الرائد.. آيوب غالي عندي ويهمني زي سيف تمامًا.
تطلع آدهم لعلي بنظرةٍ تفهمها جيدًا، فرفع يده على كتف يوسف وهدر:
_اسمع الكلام يا يوسف… سيف حياته لسه في خطر ولازم لما يفوق يلاقيك جنبه.. متنساش إن الحيوان اللي اسمه يمان حطه في دماغه هو كمان، خليك جنبه ومتفرقهوش ولما يصحى بلغه باللي قولنهولك عشان يقوله في التحقيقات ونضمن إن الكلب ده يبعد عن لندن بالوقت الحالي لحد على الأقل لما نطمن على آيوب.
سكن الحزن معالمه، لن يمتلك القوة لمواجهة أخيه آن أصاب السوء رفيقه، هو الوحيد الذي يعلم إلى أي مدى تصل درجة صداقتهما، فاضطر أسفًا أن يرضخ لهم.
شدد عُمران عليه وهو يخبره بثقةٍ:
_متقلقش مش هنتخلى عن أيوب… إن شاء الله ميكنش الكلب ده وصله ولو عملها فآدهم معانا هيساعدنا نوصله.
منحه ابتسامة صغيرة وإيماءة صغيرة:
_خلي بالكم من نفسكم.
هزوا رؤؤسهم وإتجه آدهم وعلي للأسفل بينما بقى عُمران قبالة زوجته يحيطها بين ذراعيه:
_مايا خدي زينب وارجعي البيت وأنا شوية وهحصلك.
تعلقت بقميصه الأبيض وهو تهز رأسها ببكاء:
_لا مش هسيبك بعد اللي سمعته ده يا عمران، أنا عارفة إنت رايح فين وأبقى مجنونة لو سبتك تروح!
مرر يده بحنان على طول خصرها، كأنه يحاول أن يسحب عنها رعشة جسدها الباكي، احتواها بين أضلعه وهو يعلم بأنها لن تتخلى عنه بسهولةٍ، ولكن وقته ينفذ الآن.
سحبها عُمران حاملًا منها حقيبة الملابس، وجعلها تسترخي بجلوسها لجواره على الأريكة المعدنية المقابلة لغرفة زينب، فقدم لها يده وهي تراقب ما يفعل باهتمامٍ، وضعت مايا كفها بين كف يده الخشن، فمرر ابهامه على جلدها الناعم برقة جعلتها تود سحب كفها من فرط مشاعرها.
منحها ابتسامة ملأها الأمان والاطمئنان الذي انعكس لها، وقال:
_حبيبتي أنا متعودتش أتخلى عن حد محتاج مساعدتي.. أيوب صاحبي وبيشتغل معايا مقدرش أتخلى عنه… ثم إنك مكبرة الموضوع أوي أنا وعلي وآدهم هنروح شقته بس نطمن عليه ونشوفه مش بيرد على موبيله ليه!
رفعت عينيها إليه برجاء وتوسل ملأت مُقلتيها، فضم خدها بحنان ومزح:
_حبيب قلب جوزه اتمرد ومبقاش بيثق فيه يا ناااس!
رغمًا عنها ابتسمت، وكأنه يدلل ابنة أخيه أو ابنته، ذاك الرجل يكاد يقودها للجنون، أحيانًا يجعلها تشعر بأنها طفلة صغيرة يحيطها بدلال، وأحيانًا يجعلها أنثى تتراقص على أوتار العشق والغرام بين ذراعيه الخبيرة، وأحيانًا تكون عالقة بين وقاحته ومزحه الذي ينجح دائمًا برسم ابتسامتها على شفتيها، وبين ذاك وهذا هي عاشقة له حد الجنون.
تمكن من السيطرة عليها وعلى مخاوفها، فضم وجهها لعنقه وهو يعيد كلماته:
_يلا يا حبيبي ادخلي وساعدي زينب واعملي اللي قولتلك عليه… لازم أتحرك علي وآدهم مستنين تحت.
أمسكت ذراعه قبل أن يستقيم بوقفته وقالت بخوفٍ:
_خلي بالك من نفسك يا عُمران.
منحها ابتسامة جذابة وانحنى يتعمق من قبلة أعلى حجابها الطويل قائلًا بصوته الرخيم:
_حاضر يا حبيب قلبه وروحه!
*******
فور صعوده بالمقعد الخلفي انطلقت “علي” بالسيارة على الفور ليتوجه لشقة أيوب، بينما يتابع آدهم جهازه باهتمامٍ، ففور أن اهتدى لاشارته حتى أشار لعلي:
_أيوب مش في الشقة.
وأضاف ويده تشير لمقود السيارة:
_أقف على جنب أنا هسوق.
انصاع له علي وهبط ليبدل كلاهما مقاعدهما، جلس آدهم بمقعد السائق يده تشدد على المقود بشرودٍ لفت انتباههما، فقال عمران بضيق:
_ده وقت سرحان يا آدهم…اطلع بسرعة قبل ما الكلب ده ما يأذيه!
مال بجسده للخلف ليتمكن من التطلع إليه،وردد بتوترٍ:
_الموضوع ده مش سهل يا عُمران، احنا كده بنخبط على باب من أبواب الجحيم اللي لو اتفتحت مش هتبلعنا لوحدنا.
لكم عمران المقعد الأمامي بغضب:
_تبلع اللي تبلعه المهم نلحقه..أنا مش هتخلى عن أيوب حتى لو التمن كان روحي سامع!
نهره علي بحزمٍ:
_اتحكم في أعصابك يا عُمران وسيب آدهم يتكلم عشان نفهم هو عايز يقول أيه؟
وأشار باحترام عساه يلملم وقاحة أخيه الصغير:
_اتكلم يا آدهم.
تنهد بحزنٍ وصوتًا احتقن بألمٍ عظيم:
_الشخص ده مش يهودي بس ده من الجيش الاسرائيـ**ـلي، بعيدًا عن إنه هيكون واخد احتياطاته أوي فبمجرد أننا نشتبك معاه فده هيعمل توتر في العلاقات الدبلوماسية وهنضطر نعمل اعتذار وتوضيح إنه قتل خطأ وهيدخلنا في دوامة ملهاش أول من أخر.
وضعهما في مأزق يصعب على كلاهما فهم ما يود قوله، فردد عمران بعد تفكير:
_مش لازم تكون موجود معانا يا آدهم لإنك كده هتتعرض لمحاكمة عسكرية، دلنا على المكان وأنا هروح بنفسي حتى لو كان التمن حياتي.
زصل الغضب لذورته، فصاح بعصبية تتمكن منه للمرة الأولى:
_عمران أنا مش هتخلى عن أيوب حتى لو هخسر شغلي وحياتي كلها، أنا بعرفك بخطورة الوضع اللي احنا داخلينا عليه، لكن أنا جاهز من زمان لليوم ده بدليل جهاز التعقب اللي حطيته لأيوب واللي هيوصلنا لمكانه دلوقتي.
سحب علي أنفاسه بتثاقلٍ، فوزن أموره فيما يدفعه زوج شقيقته إليه، يخبرهما بطريقة غير مباشرة إن ما يقدمون على فعله قد يخسرهم مستقبلهم وعائلتهم، يعلم بأنه لشيءٍ مؤلم خسارته ولكنه على يقين بأنه لن يتخلى عن شاب مغترب، مسلم، يملك قلبًا ذهبيًا كآيوب، لذا كسر الصمت العالق بينهم وقال:
_اطلع يا آدهم احنا معاك!
فور أن نطق بتلك الكلمات حرك مفتاح السيارة وقاد بسرعةٍ خطيرةٍ جعلت اطارات السيارة تحتك بالرصيف مصدرة صوتًا مخيفًا كبداية حربًا تستلهم قلوبهم، حربًا ليست بهدف العيش والنجاة إنما هي حربًا للشرف والمروءة، حربًا لطالما كانت وستظل بيننا وبين هؤلاء الخنازير.
********
عاونتها مايا على ارتداء فسانها وعقد حجابها، وبالرغم من انشغال عقلها بالتفكير بزوجها الا أنها كانت حزينه حينما أخبرتها زينب عما حدث، فربتت بحنان على ظهرها وقالت:
_متخافيش يا زينب الكلب ده مستحيل يتعرضلك تاني بعد ما الشرطة أخدت أقوالك وأقوال سيف والكاميرا اللي بره كان فيها كل اللي حصل، أكيد هيجبوه.
لفت انتباهها تلفظها لاسمه، فسألتها بلهفةٍ واضحة:
_هو سيف فاق؟
ابتسمت بخفة وأجابتها:
_كنت لسه واقفة مع ليلى من شوية وقالت انه فاق وقال للشرطة زي ما آدهم فهمه.
أمسكت بحقيبتها ومتعلقاتها تشير لها:
_يلا يا حبيبتي نرجع البيت قبل ما الوقت يتأخر عن كده.
اتبعتها زينب للخارج، فمرت من أمام غرفته وعينيها تراقب الباب بلهفة وارتباك، تباطئت خطواتها حتى توقفت عن الخطى وعينيها تتطلع للباب بنظرةٍ مهتمة، فأفاقت على صوت مايا:
_زينب يلا!!
تحرر صوتها الدفين على استحياءٍ:
_هو أنا ممكن ادخل أطمن على دكتور سيف؟
كبتت مايسان ابتسامتها حتى لا تخجلها، ورددت بحنقٍ:
_أووف أنا إزاي نسيت، كويس إنك فكرتيني ميصحش نمشي من غير ما نطمن عليه ونتأكد إن ليلى ودكتور يوسف مش محتاجين حاجة.
واتجهت لباب الغرفة تطرق بخفة وفور استماع صوتًا يأمر الطارق بالولوج، ولجت كلتهما للداخل.
تحرك رأس سيف جانبًا ليتمكن من رؤية الطارق، فتهللت أساريره حينما وجدها برفقة مايا، تابع يوسف تغير ملامحها بنظرة غامضة، نهضت ليلى تستقبلهما لأقرب أريكة، فكانت مايا أول من تكلمت:
_عامل أيه يا دكتور سيف؟
أجلى صوته المبحوح ليجيبها وعينيه لا تترك زينب التي تضع عينيها أرضًا تهربًا من نظراته، وأكثر ما يخجلها صراخها متلهفة بأسمه فور أن تلقى الضربات التي أسقطته أرضًا:
_الحمد لله بخير..
انتظر أن تتحدث، يشتاق لسماع صوتها أو حتى نظرتها الدافئة إليه، حرمته بقسوةٍ من لمح مُقلتيها حتى صوتها، شعر سيف بأنها ليست على ما يرام، وقد أجاد ظنونه حينما جلست زوجة أخيه ليلى جوارها، تضع يدها على كتفها بشفقةٍ انتقلت بحديثها:
_انتِ كويسة يا زينب؟
رفعت رأسها إليها وهزتها بإيماءةٍ صغيرة فاهتزت دموعها وانهمرت، فضمتها بقوةٍ إليها قائلة:
_متزعليش يا حبيبتي إن شاء الله هيأخد جزاته، الشرطة أكيد مش هتسيبه بعد اللي عمله ده.
هاجمته ظنونًا فتكت به دون رأفة، فلعق شفتيه الجافة وبصعوبةٍ تساءل:
_هو أيه اللي حصل؟
فك يوسف عقدة ساعديه ونهض عن مقعده متخليًا عن صمته الغامض وانحنى تجاه أخيه يربت على يده المصابة بحنانٍ:
_محصلش حاجة يا حبيبي ارتاح انت.
ومنح نظرة تحذيرية لزوجته الا تتحدث بالأمر، فالتقطها سيف وحاول النهوض هاتفًا:
_في أيه يا يوسف؟ وزينب مالها؟ ……. آآآآآه!!!!
تأوه بألمٍ حينما رفع رأسه المصاب في محاولاته للنهوض، فسقط على الوسادة يتألم بصوتٍ اتتزع قلب أخيه من موضعه، فصاح به:
_اهدى يا سيف.. إنت لسه خارج من العمليات!!
مال برأسه تجاهها فوجدها تركت مقعدها ووقفت تراقبه بفزعٍ ولهفة جعلته يمنحها ابتسامة ضمتها بعاطفة تبدد عنها كل ما تعرضت له، هبط بنظراته لشفتيها المتورمة وبقعة الدماء المتجلطة جوارها، فأسبل بجفونه للحظة وصاح بعنفوان:
_أيه اللي في وشها ده؟
وشملهم بنظرة متعصبة:
_ما تقولولي في أيه بالظبط؟!
ندمت ليلى لتسرعها بالحديث أمام شقيق زوجها فمنحت يوسف نظرة نادمة، بينما ارتبكت زينب لرؤيته غاضبًا لتلك الدرجة فوجدت قرار رؤياه بتلك اللحظة لم يكن الصائب.
تدخلت مايا بالحديث حينما تصاعدت الامور، فقالت:
_مفيش حاجه يا دكتور اهدى من فضلك علشان العصبية غلط عليك.. زينب كويسة الحمد لله مفهاش حاجة.
راقب يوسف ملامح وجه أخيه فعلم أن لا مجال سوى الحقيقة، فقال بوضوحٍ:
_يمان هاجم زينب وانت بالعمليات، ودكتور علي وعمران وسيادة الرائد أنقذوها منه.
احتدت نظرات عينيه بثورةٍ عاصفة، وردد بوجومٍ:
_عشان كده طلبت مني اتهمه بشكل مباشر للي حصلي!
هز رأسه يؤكد له:
_آدهم اللي طلب مننا كده لان الكلب ده هاجم زينب في مكان عام ومش بعيد يكررها تاني وآ..
قاطعه بصراخ جهوري حاد:
_على جثتي لو طال منها شعرة واحدة… زينب خلاص هتبقى مراتي سواء رفضت أو قبلت.
جحظت أعينهم جميعًا وبالأخص زينب التي تخلى عنها الحديث وبدت بلهاء تتطلع له بفمٍ يكاد يصل للأرض، ويوسف الذي يرى جانب مغاير لشخص أخيه الهادئ، ربما كان سيطير فرحًا إن حدث ذلك من قبل ولكن الآن الآذى الذي طاله وتهديدات ذاك الآرعن جعلته مترددًا بالأمر، هو ليس على استعداد لخسارة أخيه الوحيد، الساعات التي قضاها داخل غرفة الجراحة لجواره كفيلة بأن تجعله لا يود أبدًا أن يخوض نفس تلك التجربة القاسية، وفي ذات الوقت لم يعتاد أن يقسو عليه أو يعارضه بأي قرار يتخذه، خاصة وإن كان هذا القرار متعلق بقلب أخيه، أخيه الذي يُعد قلبه هو!
تنحنحت مايا بارتباكٍ في محاولة لرفع الحرج عنهم جميعًا:
_كويس إننا اتطمنا عليك يا دكتور سيف، عن اذنكم هنمشي قبل ما الوقت يتأخر أكتر من كده.
وهزت تلك الساهمة التي تندث بأحضان مُقلتيه الجذابة:
_يلا يا زينب.
أفاقت على هزتها واستدارت سريعًا لتفر من أمامه، فاوقفهما يوسف قائلًا:
_ثواني يا بشمهندسة، جمال طالع على السلم يوصل بس وهنزل أوصلكم.
رفضت اقتراحه المسبق بلباقةٍ:
_مفيش داعي يا دكتور يوسف أنا معايا عربيتي.
رفع سيف رأسه بتعبٍ شديد وهتف بوهنٍ:
_روح معاهم يا يوسف، لو مشوا لوحدهم هكون قلقان الكلب ده يهاجمها تاني.
تعلقت البسمات على الوجوه، وزينب تكاد تنصهر من فرط الخجل، استدار إليه يوسف يغمز له بمشاكسة مرحة:
_استريح انت يا عم روميو.. أنا هوصلهم وراجع متقلقش.
ضحكت ليلى وقالت وهي تتابع المحلول الذي أوشك على الانتهاء:
_متحرجش دكتور سيڤو يا يوسف سيبه في اللي هو فيه.. مش كفايا قاعد عاقل ومتحمل المحلول والخمستاشر حقنه اللي أخدهم لحد دلوقتي.
جحظت عين سيف صدمة لما استمع إليه، وكأنه كان لا يعي بما يندث بأوردته وبما يحدث من حوله من أثر المخدر، فردد بتلعثم وتيهة:
_حقن!! محلول!!
قال كلمته الأخيرة وهو يراقب ما تفعله بذراعه ومن ثم انفجر صارخًا:
_لأ يا ليلى محلول لأاااا… شيليــــــــه بسرعة لأ!!
ساد الجمع صوت ضحكات زينب المترددة بعدم تصديق لما يحدث، توالت دون توقف حتى أدمعت عينيها من فرط الضحك، ارتخى ذراع سيف عن نزع المحلول من يده ومال على وسادته بجسده المسترخي وعينيه التي تتابع ضحكاتها بهيامٍ وحبًا يزاحم قلبه في عُقر داره.
كبتت مايا ضحكاتها بتمكنٍ، وخاصة حينما ردد يوسف بسخرية:
_عرتنا الله يكسفك!
وأشار لهما قائلًا:
_اتفضلوا.
اتبعوه للمصعد الذي اندفع منه جمال يلتقط أنفاسه بصعوبة من فرط الصدمة التي تلاقاها، فصاح ليوسف بلهفة:
_في أيه يا يوسف؟ وسيف ماله؟!!!
ربت على كتفه بابتسامة ممتنة لحضوره إليه في أقل من خمسة عشر دقيقة:
_اهدى وخذ نفسك يا جمال، سيف كويس أنا كلمتك عشان تقعد معاه عندي مشوار مهم لازم أعمله..
وتابع وهو يشدد على كلماته:
_خد بالك منه وأوعى تسيبه يا جمال.
هز رأسه بتفهمٍ وبشكٍ سأله:
_مين اللي عمل فيه كده؟
مال عليه يوسف يخبره:
_عم آديرا.. خليك جنبه لما نشوف الحكاية هترسى على أيه.. وأوعى تقوله اللي حصل مع أيوب أوعى يا جمال..
أكد له بتفهم:
_متقلقش روح مشوارك وأنا هستناك هنا.
منحه ابتسامة ممتنة ولحق بهما للأسفل، واتجه جمال لغرفة سيف ليكون جواره لحين عودة يوسف ليعلم منه التفاصيل بما حدث.
********
بمكانٍ مجوف كالصفيح، يحيطه الطلاء الأسود من الداخل والخارج كمحاولة تغطية عن كنايته، تغوص أعمدته بأعماق الأرض ومن فوقه الرصيف الاسمنتي المجوف، رائحة النفط تحيط بجوانب المكان من جميع الاتجاهات، والزجاج متناثر بكل زواية.
وعلى ذاك العمود كانت تستند بظهرها، ساقيها مضمومة ليدها برباطٍ قاسٍ، يجبرها على الجلوس بشكلٍ غير مريح، ومن أمامها ذاك الملقي أرضًا دون قيدًا حيث كان فاقدًا الوعي فلم يجدوا حاجة لتقيده، الدماء تنهر من جانب رأسه ووجهه تحيط به بعض الكدمات.
استرخاء جسده باستسلامٍ هكذا ذبحها دون رأفة، ومع كثرة رجائها وندائها المتكرر له مازالت لم تستسلم بعد، فعادت لتناديه مجددًا:
_أيها الإرهابي أجبني من فضلك!
تدفق الدمع على وجنتها فنادته بحسرةٍ لظنه فارق الحياة:
_آيوب… هيا انهض لا تتركني بمفردي!!
مجددًا تناديه ببكاءٍ:
_آيـــــــــــوب!
زحفت آديرا بصعوبةٍ حتى وصلت لجسده الملقي، فمالت برأسها على صدره تستمع لدقاته، فارتسمت ابتسامة سعيدة على وجهها حينما تأكدت بأنه مازال على قيد الحياة، فمالت برأسها تفرك على صدره وتناديه:
_آيــوب… انهض آيــــوب.
عادت تحركه مرات متتالية وهي تترجاه ببكاء:
_أيها الإرهابي انهض الآن.. أنا خائفة!
استجاب لتلك الدفعات المتتالية له من رأسها، فتأوه بخفوتٍ وهو يستعيد وعيه تدريجيًا، استند على ساعديه وجلس يراقب المكان ويراقبها بنظراتٍ مشوشة:
_أين نحن؟
سماعها صوته جعل الابتسامة تنبثق على شفتيها فرددت بعدم استيعاب:
_ايها الارهابي هل استعدت وعيك؟!
تطلع لها أيوب بصدمة، كانت الحبال تؤلم يدها وساقيها بشكلٍ مؤذي، جانب وجهها الأيسر متورم للغاية حتى عينيها وأطراف شفتيها، تحركت غريزة رجولته المنبثقة داخل أي رجلًا تجاه زوجته حتى وإن كان يبغضها حد الجحيم، فسألها بصوتٍ قاتمًا:
_هل لمسكِ أحدًا؟
هزت رأسه تنفي ذلك، وأضافت ببسمةٍ تهكم:
_صفعني أحدهم عدة مرات ولكنه لم يعتدي علي!
وأخفضت صوتها قليلًا تهتف بضجرٍ:
_ليته فعلها ولم يضربني بتلك القسوة، لقد شوه وجهي الجميل!!
اصطكت أسنانه غيظًا من تلك المرأة المعتوهة، فجذبها يحل عنها ذاك الرباط، فحزن حينما وجد حلقة من الدماء تحيط بكفيها التي احتضنته تفركه ببكاء من شدة الألم.
اجتاز قلبه خوفًا من القادم، يتعامل مع أناس قد جردت قلوبهم من الرحمة، فإن لم يشفق بابنة اخيه كيف سيكون بقلبه الرحمة!
رفعت آديرا رأسها إليه وسألته ببكاء:
_لا أريد الموت أيها الإرهابي!
مال للعمود القابع خلفه، استند عليه وأغلق عينيه مرددًا:
_كلنا سننالها يومًا، والآن إن قدر لي الله عز وجل لقائه فأنا مستعدًا لذلك.
زحفت إليه تخبره:
_ألا تخاف الموت أيها الإرهابي؟
ابتسم وهو يخبرها:
_من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، وأنا أرغب في لقائه ولم أقصر يومًا في طاعته حتى أخشى ذلك اليوم.
وتابع وعينيه تتوجس بالمكان المريب من حوله:
_كل ما أتمناه أن يكون عملي صالحًا، ويتقبلني الله من الشهداء حينها سبدخلني جناته دون حسابًا.
تعجبت مما تستمع إليه، استرخائه التام وترحيبه بالموت، لم يكن أيوب شخصًا عاديًا بالنسبة لها، كل ما فعله منذ أول لقاءًا جمعهما حتى اليوم وهو غامضًا بالنسبة لها، تكفله بطعامها ومسكنها، غض بصره المستمر عنها، مساعدته له حينما تلقت طعنة من عمها، حتى بعد زواجه منها يحافظ عليها، لم يطمع بجسدها يومًا مثل بقية الرجال حتى عمها القذر لطالما وجدته ينظر لها بطريقة مقززة، وإلى الآن مازال لجانبها يشاركها الموت بصدرٍ رحب، بل وكاد أن يضحى بذاته حينما خبئها أسفل فراشه وقرر هو مواجهة رجال عمها، والأكثر حيرة لها ثقة أخيها الكبيرة به لدرجة أن يضعها هي بامانته ويسلمه دفتره الخاص! أوليس بعد كل ذلك أهل للثقة؟
أغلق عينيه يجاهد ذلك الألم الذي يحتل جبينه فتفاجئ بها تمسك يديه وتناديه ببكاء:
_أيوب..
فتح فيروزته وتطلع لها باهتمامٍ، فقالت ببسمة صغيرة تعاكس كل ما تختبره بتلك اللحظة:
_إن خرجنا من هنا على قيد الحياة هل ستقص لي عن دينك مثلما فعلت مع آران أخي؟
وعدلت سريعًا من خطأها:
_أقصد أخي محمد!
أشرق وجهه الجذاب بسعادةٍ جعلته يشعر بارتعاش قلبه، ها هو على وشك أن ينجح بردعها عن ذاك الطريق وجعلها تختار اعتناق الدين الاسلامي دون ضغط منه، تركها ترى بعينيها الفرق، والآن تمد يدها له وتطالبه بأن يشدد عليها وهو على أتم الاستعداد بعدم تركها، كاد بأن يجيبها ولكنه ابتلع كلماته فور أن تحرر الباب الحديدي الغليظ وولج للداخل عمها البغيض ومن خلفه رجلين باجساد ضخمة للغاية.
ارتجفت آديرا فور أن رأته يقف قبالتها، فتسللت بخفة لتستقر مجلسها خلف ظهر أيوب، محتضنة ظهره من الخلف بأصابع مرتجفة وبكاء خافت يصل لمسمعه تليه همسها المنخفض:
_سيقتلني!
رفع يده يشد على يدها ومازالت عينيه تجابه ذلك الحقير بتحدٍ وقوة، فاقترب منه وهو يزيح نظارته السوداء ليرى نظارته المحتقرة، وردد بضحكة مخيفة:
_كنت أنتظر لقائك أيها السفيه! تحدتني بمرتك الأولى حينما سيطرت على آران اللعين والآن حان دور آديرا! أنت مختل مريضًا تظن أنك ستنجو بأفعالك!! والآن ستنال جزائك أيها ال******* اللعنة عليك وعلى دينـ**
بزغت عروقه غضبًا لم يزوره يومًا، يسب دينه بمنتهى الجراءة وما هو الا حشرة تحتمي خلف رجاله، استقام أيوب بوقفته يواجهه وجهًا لوجه، وصاح بعنفٍ:
_اللعنة على الحثالة مثلك أيها الخنزير… هل كنت تظن بأنه سيرضخ لك وهو بالأساس مسلمًا!!
وتابع بقوةٍ أزهلت الأخير الذي جحظت عينيه صدمة وخاصة حينما تابع باللغة العربية حتى لا تفهمه آديرا:
_كنت فاكر إنه مش هيعرف بحقيقتك القذرة! ولا افتكرت إن سرك اتدفن معاها!
ابتلع اليهودي ريقه الجاف بصعوبة بالغة وكأنه يبتلع النيران المشتعلة:
_إنت.. آآآنت… تقول أيه!
ضحك باستمتاعٍ لرؤية الخوف ينهش حدقتيه:
_الحقيقة اللي كنت فاكر إنها عمرها ما هتتكشف، حقيقة إنك خاين وحقير ومش مستبعد عنكم الغدر والخيانة علشان كده قتلت أخوك لإنه أسلم على إيد واحدة مسلمة حباها واتجوزها وهرب معاها منك ومن شرك، وبعد عشر سنين من جوازهم وصلتله وبعتله رسالة كلها خسة وندالة مثلت فيها دور الأخ الندمان واللي اشتاق لحضن أخوه، طلبت منه يقابلك وبرغم من إنه عارف شرك وخستك الا انه راح المكان اللي قولتله عليه وهناك قتله ودفنته بدم بارد!
وتابع وهو يدور من حوله ونظرات التقزز تشمله:
_الخيانة دي من صفاتكم انتوا مش احنا، تخيل الاخ بيقتل أخوه بمنتهى البرود لا ومستكفتش قتلت مراته واخدت أولاده حولت محمد لآران اليهودي وسدن لآديرا ولسه مستمر في كفرك ومتخيل إنك هتنتصر عليه حتى بعد موته لما تغير اسمائهم وديانتهم، بس اللي متعرفهوش إن ربنا إرادته فوق الكل، رجع الطفل اللي دنسته بوساختك لأصله والدور على آديرا وأنا سبب من الاسباب اللي هيرجعها لديانتها وأصلها غصب عنك وعين اللي يتشددلك يا كلب!
ارتبك الخنزير أمامه، وتراجع للخلف يصيح باستنكارٍ:
_كيف تعلم كل ذلك؟ من أنت بحق الجحيم؟
اتسعت ابتسامته وهو يجيبه:
_أنا الجحيم بعينه.. إن أردت اقترب وسألتهم بنيراني لحمك النجس!
تابعتهما آديرا بعدم فهم حتى ختم تهديده الصريح إليه، واستطرد ببسالةٍ وقوة:
_إن أردت قتلها فلتواجهني أولًا قبل أن تمسها!
استدار لرجاله يأمرهما بجنونٍ ورعب:
_ماذا تنتظران اقتلهما في الحال!
رفع احداهما السلاح تجاههما، فتراجع أيوب وأبعد آديرا خلف ظهره ليواجه فوه السلاح بنظرات أرعبتهم جميعًا، بينما مال الاخر تجاه أذنه وهمس له بشيءٍ جعل نظراته تنخفض للساعة التي يرتديها أيوب بفزعٍ!
********
قاد آدهم السيارة متبعًا اشارة الهاتف، فاندهش حينما وجد سيارة تسد الطريق عنه، فتحكم بالفرام وبصعوبة بالغة تفاداها، دقق النظر فيما أمامه ليجدها سيارة من نوع رولز رويس بوت تيل Rolls-Royce Boat Tail، تضاء مصابيحها ومن مقدمتها يجلس شخصًا ملامحه غير واضحة.
_في أيه يا آدهم؟
سؤال تمرد على لسان “عمران” الذي يتابع ما يحدث، نوعية السيارة واسترخاء صاحبها دفعت آدهم يخمن بكنايته، لذا قال بصرامة وهو يحرر حزام السيارة عنه:
_خليكم هنا.. ثواني وراجع.
هدوئه بالحديث وخروجه بتلك الطريقة، جعلتهما يظنوه صديقًا له أو زميل يخص عمله السري، لذا جلسا يراقبون ما يحدث بترقبٍ.
اقترب آدهم من السيارة، وكلما اقترب تزداد صدمته واندهاشه وهو يراقب صاحبها بعدم تصديق.
كان متمددًا باسترخاءٍ على سطح سيارته الفاخرة، يتناول كوب قهوته وجسده يميل على زجاجها الأمامي، فما أن اقترب آدهم إليه حتى ارتشف المتبقي من كوبه ومن ثم ألقاه أرضًا على الرصيف باهمالٍ، حرك رقبته يسارًا ويمينًا بضجرٍ من مدة انتظاره لمرور سيارة الاخير، وردد ومازال على نفس وضعية استرخائه:
_الرائد عمر مصطفى الرشيدي الكام مهمة اللي طلعتهم ادوك ثقة غبية في نفسك لدرجة إنك تقوم بمهمة أكبر منك وبره مستوى تدريباتك!
ورفع رأسه المسترخي للخلف ليحدجه بنظرة ساخرة من زيتونية عينيه الساحرة:
_لولا أنك اتدربت على إيد الجوكر كنت شكيت أنك دخلت وسطينا بالوسطة!
أخفض آدهم عينيه أرضًا وأجابه بوقارٍ:
_يا باشا أنا آ….
ألجم لسانه حينما نهض عن سيارته بطوله الفارع وجسده الضخم الذي تمتد العضلات لصدره وساعديه القوي بفعل تمارينه القاسية، يواجه الاخير بنظرة محتقنة وبالرغم من جموح عاصفته الا أن صوته هادئ، بارد:
_متقطعنيش وأنا بتكلم!
وتابع وهو يحوم من حوله كالوحش الواشك على التهام فريسته:
_حظك إن أنا اللي في انجلترا مش القائد بتاعك، وجودك هنا طول بالرغم من انتهاء مهمتك، اتحججت باصابتك رغم إنها متوجعش عيل صغير لسه داخل الجهاز جديد وقولنا ماشي نسيبه يتدلع المهمة اللي قام بيها تستحق إنه يرتاحله كام يوم، متفجئناش كتير بخبر جوازك رغم إنك المفروض تتجازى جاي دلوقتي وعايز تعرضنا لحرب إحنا مش جاهزين ليها!!
توترت ملامحه أمام ذاك الذي انتشر صيته بالمخابرات المصرية، ذاك الذي سحق غريمه بأي حربًا تشمله، لا ينكر أنه كان من ضمن هؤلاء الضباط الذين يتمنون يومًا العمل معه أو لقائه، فخدمه الحظ وأوقع به مع الجوكر عوضًا عنه، لم يستاء كثيرًا ولكنه كان يود لقائه، وها هو الآن يقف وجهًا لوجه قبالة «الاسطـورة رحيـم زيـدان»، من نجح بطمس صيته القوي على مدار تاريخه، لا يتهاون يومًا مع خصمه ولم يرأف بأحدٍ خارج عن القانون، فريقه يختاره بذاته رافضًا أي متدرب يحمل نقاط ضعف قد تخل بفريقه.
كسر قاعدة الصمت قائلًا باحترامٍ ودقة اختيار كلماته:
_يا فندم أنا عارف كويس أن اللي هعمله ده غلط بس أنا مش هقدر أقعد وأتفرج على الكلب ده وهو بيقتل واحد زي أيوب ده غير إنه آآ… إنه يكون صديق ليا.. فمن فضلك حاول تفهمني.
استند على طرف السيارة وربع ساعديه أمام صدره يرمقه بشراسةٍ وسخط:
_أمممم… شجاع إنت! بس للأسف غبي!
رفع عينيه إليه بعدم فهم لما يود قوله، فابتسم وردد:
_هو إنت فاكر إنك لما تقوم بمهمة زي دي بدون ما ترجع للقادة بتوعك ده هيعمل منك hero!! (بطل)
واستطرد ونظراته تشمله بقوة وغضب:
_بالعكس ده هيخليك صيدة سهلة لكلاب زي دول هتنجح تدينا قلم وتفتخر بيه وبسبب غباء ظابط زيك هيقلل من شأننا ومن اللي وصلناله!
واستطرد وهو يحدجه بجمودٍ واصبعه يشير للسيارة الخاصة بعلي:
_إنت باللي بتعمله دلوقتي بتعرض نفسك واللي معاك وصاحبك المخطوف للموت!
ازدحمت أسئلته المندفعه بمقلتيه ومازال رحيم يقف قبالته ثابتًا، إلى أن قال بوجوم:
_المكان اللي واخدهم عليه وفاكر إن صاحبك موجود فيه منصوبلكم فيه كمين يا سيادة الرائد، لإن ببساطة مستوى تدريبك موصلش لدرجة تأهلك تقوم بمهمة زي دي، فأول غلطة ارتكبته كانت زراعة جهاز يخصنا في ساعة صاحبك بطريقة بدائية خليتهم يكشفوه ويمكن ده السبب اللي خلاوه عايش لحد دلوقتي عشان يعرفوا جهاز يخص المخابرات المصرية بيعمل أيه معاه!!!!
رمش بعدم استيعاب حتى فقد القدرة على السيطرة على جسده فمال على سيارة رحيم يستند عليه، والاخر مازال يستقيم بوقفته، متابعًا:
_جهاز زي ده الأولى إنه يتزرع في أماكن معينة بالجسم ومش أي حد يقدر يعملها!
واستمر بالحديث المتعصب:
_تاني غلطة عملتها إنك رايح بنفسك تشتبك معاهم وإنت متعرفش احنا بنتعامل مع المواضيع الحساسة دي ازاي!
وبقوة وقسوة صاح:
_ودلوقتي أقدر أقولك ارجع باللي معاك وسيبنا احنا نتصرف وياريت ترجع مصر فورًا لانك متحول للمحاكمة يا سيادة الرائد!
اتجه رحيم لباب سيارته فلحق به آدهم يستجديه برجاء:
_هرجع وهعمل كل اللي حضرتك عايزه بس بالله عليك خليني أشارك معاكم.. حياته في خطر ولازم نتحرك.
ترك باب سيارته مفتوح واستدار إليه يضيق زيتونته بحدة:
_إنت سمعت الأوامر فأنصحك تنفذها تفاديًا للعقوبة الاضافية اللي هتطولك.
تعالى صوت آدهم دون ارادة منه:
_بس ده صاحبي وأنا مستحيل هنزل وأسيبه!!
استدار تجاهه بجسده وصاح بحزمٍ:
_ثابت يا سيادة الرائد!
قدم له التحية العسكرية بكل وقار:
_أفنـدم.
وتابع بغضب قاطع:
_شكلك نسيت نفسك ونسيت إنت واقف بتتكلم مع مين؟!! احمد ربنا إني قدرت أمنعك من الكارثة اللي كنت هتعملها وفوق كل ده لسه واقف بتضيع وقتي!
أخفض عينيه أرضًا وردد بأسف:
_بعتذر منك يا باشا.. أنا فعلًا معنديش خلفية عن التعامل مع النوعيات دي من المهمات.
_يبقى تبلغ القادة علشان تحمل الموضوع للي يستحقه!!
قالها بضجرٍ، وبعدها تنهد وهو يتفرس ملامحه بهدوءٍ، فأشار له:
_مشي اللي معاك واركب.
تهللت أسارير آدهم فرحًا، فتساءل بسعادة:
_بجد يا باشا!
ابتسامة صغيرة زينت طرف شفتيه وهو يجيبه:
_الجوكر موصيني عليك ومهدي القادة عنك، بس خليك عارف أنا مش زيه لو غلطت في اللي هيتطلب منك هترجع مصر في تابوت!
هز رأسه بحماسٍ، وهرع لسيارة علي ينحني للنافذة قائلًا:
_علي خد عمران وارجع، أنا لازم اتحرك حالًا مع القائد… مينفعش تكونوا موجودين معانا لإن الموضوع سري.
صاح عمران بغضب:
_يعني أيه يا آدهم؟ اديني الجهاز وأنا هروح
رد عليه وهو يتفحص سيارة رحيم:
_مفيش وقت يا عمران… أيوب اتنقل من المكان ده ومنصوبلنا كمين فيه… بعدين هفهمك أنا لازم اتحرك دلوقتي.
أشار له علي بتفهم:
_روح انت وخلي بالك من نفسك… واحنا هنستناك في شقتك.
هز رأسه وغادر سريعًا لسيارة الاسطورة فتحركت به على الفور تعاكس الطريق الذي كان يتجه إليه.
********
أصدر الأمر بنقل أيوب وآديرا لمكانٍ أخر، فعارض أيوب الرجال وسدد لكمات مهاجمة إليهم، أحاطوه وتمكنوا منهم، فأجبروهما على الصعود للسيارة والانتقال لمكانٍ أخر، وقد تسنى له فهم المغزى من وراء ذلك وخاصة حينما انتزعوا ساعته منه وأخرجوا منه جهاز التعقب، فعلم الآن لما أصر آدهم أن يرتديها طوال الوقت.
وضعوهم بأحد الغرف المنزوية بأسفل ذاك البناء التابع للموساد، كان مجهزًا بعدد من المسلحين، خُيل لهم بأنهم شياطين يتباهو بأن لا أحدًا يتمكن من السيطرة عليهم.
اندفعت آديرا تجاه أيوب تتمسك بقميصه المتهارى ببكاءٍ، ورجفة جسدها لا تتوانى عن الهدوء، شعر لوهلة بأنها ستترك الأرضية وستقفز على قدميه من فرط رعبها، وبالرغم من نفور جسده تلقائيًا من لمساتها الا أنه كان مشفق عليها.
استسلم لبقائها جواره هكذا وأغلق عينيه يسترخي مع ترديد أذكاره وبعض الأيات القرآنية، حتى وجدها تبتعد عن صدره وترفع رأسها إليه تسأله ببراءةٍ:
_أيها الإرهابي ألم تعد تنفر مني!!
كبت “آيوب” ابتسامته وهمس ساخرًا:
_آه لو عُمران قفشك وانتِ مكلبشة فيا كده مش هيسمي عليا..
وتنحنح بخشونة وهو يجيبها بمراوغةٍ:
_آديرا هل تظنيه وقتًا مناسبًا للنقاش فيما بيننا، دقائق قليلة وسيعود عمك السفيه لقتلنا!
تعلقت بقميصه وتهاوت دمعاتها تذكره بكلماته التي لم يمر عليها سوى القليل:
_ولكنك أخبرته منذ قليل بإنك لن تتركه يقتلني وأنت حيًا.
هز رأسه بقلة حيلة منها، تلك الحمقاء لا ترى ما ينتظرهما، أجلى صوته المبحوح وردد:
_حسنًا سأتركه يقتلني أولًا قبل أن يقتلك هل أنتِ راضية عني الآن؟
زحفت بجسدها تجاهه وهي تراقب باب المخزن برعبٍ، فرددت بهلعٍ:
_أيها الإرهابي هل تثق إن هؤلاء قادرون على انقاذك؟
زوى حاجبيه بتعجب:
_من!
اوضحت له:
_أصدقائك وهذا الشرس الذي كلما رأني هددني بأنه سينحر عنقي!
عاد لهمسه الساخر:
_يا ريت عمك يطلع ابن حلال ويخلص علينا بسرعة قبل ما عُمران اللي يوصلنا الله اعلم لو ظهر أنا هحميكي منه ولا من عمك ابن ال***
تابعت ما يقول بعدم فهم فسألته باستفهامٍ:
_أيها الإرهابي ما الذي تُثرثر به!
زفر وهو يحرك رأسه بيأس وصاح بها ساخرًا:
_إن كنت أنا بما أفعله لحمايتك إرهابيًا بالنهاية فماذا أنعت عمك الحقير بعد ما فعله وسيفعله بنا؟
********
اختطف آدهم النظرات السريعة للاسطورة المنشود، كان يجلس جواره بثباتٍ قاتل وكأن لا أحدٌ يشاركه السيارة، يصنع لذاته هالة من الهدوء والسكينة، وجهه حازمًا، مخيفًا بالرغم من وسامته، انتفض فزعًا حينما قال الاخير ومازالت عينيه على الطريق:
_لو مش هقطع لحظات تأملك فيا اسحب الجهاز اللي في التابلو وافتحه.
تنحنح الاخير بحرجٍ، وبالفعل سحب الجهاز وفتحه لينطلق صوتًا أنوثي لفتاة تتحدث بطريقة مخلة كالعاهرات:
_أووه بيبي هل اشتقت لي؟
جحظت نظرات آدهم لرحيم الذي يتابع قيادته بنفس هدوء معالمه، فتابعت الفتاة:
_أنا أتوق شوقًا لك.. وانتظرك بكثيرٍ من الصبر.. لا تتأخر والا احترقت من لوعة الانتظار… أتعلم أنا أفتقدك وأخشى أن يعود عمي باكرًا حينها لن أستطيع الجلوس برفقتك!
لا يصدق ما يستمع إليه وخاصة حينما قالت بميوعةٍ:
_أسرع فلم أعد أستطيع الانتظار!!
فور نطقها بتلك الكلمات، أحتدت نبرة صوته:
_اربط حزامك.
عبس آدهم بعينيه بعدم فهم، فصاح رحيم بحدة:
_لو مش عايز تطير على الطريق ويحضنك الاسفلت اربط حزامك.
انصاع إليه وربط حزامه، فانطلق رحيم بسرعةٍ جنونية وبالرغم من ذلك كان متحكم بمقود السيارة متفاديًا ازدحام الطريق ببراعةٍ.
الآن علم آدهم شفرة الرسالة السرية من تلك الفتاة التي قد يظنها البعض عاهرة، ولكن ما هي الا رسالة سرية حل أول حروفها وكلماتها ليردد بصوت سمعه رحيم:
_بتنبهك أنك توصل بسرعة قبل ما عم آديرا يرجع!
ابتسامة ساحرة اتشح بها:
_براڤو ابتديت تفهم!
ستة دقائق اضافية اتخذتها سيارة رحيم الحديثة حتى وصلت لمكانٍ يقرب العمارة المتهالكة، هبط آدهم واتجه ليقف قبالة رحيم الذي قال ببسمة مخيفة، وكأن الشيطان يمنحه فرصة للنجاة من براثينه:
_هتكون ظابط مميز لإنك جمعت في مهماتك بين الجوكر والاسطورة وانت عارف ان ده نادرًا لما بيحصل!
وتابع وهو يرفع قدمه ليستند على عجلة السيارة:
_ خاليني أحذرك للمرة الاخيرة المهمة دي مش سهلة فلو مش هتقدر تقوم بيها انسحب وسبني أنا ورجالتي هنتعامل.
لم يكن أحمقًا ليفوت فرصة العمل مع الاسطورة ليكتسب مهارة ستضاف إليه بتاريخه المهني:
_أنا يكون ليا الشرف لو كنت مع حضرتك في مهمة واحدة… هنفذ تعليماتك بالحرف، وإن شاء الله هكون عند حسن ظنك.
هز رأسه ببسمة هادئة وقال:
_كون إن مراد زيدان اللي مدربك ده مطمني يا عمر.
وتابع وهو يغمز له بمشاكسة:
_أقصد آدهم زي ما بتحب!
وارتسمت الجدية على ملامحه وهو يشير له على العمارة:
_صاحبك هنا في دور سري تحت جراشات العمارة، لازم تعرف إن المهمة دي صعبة لإننا مش هنتعامل بالسلاح ولا هنديهم الفرصة إنهم يستخدموا سلاحهم.
استطرد يوضح لمن يواجه صعوبة بفهمه:
_خليك واثق إن محدش من الكلاب دول هيخرج حي، بس الذكاء هنا هيرجع للقضاء والقدر.
ضيق عينيه في محاولة لفهم ما يود قوله، فرفع يده لاعلى البناية مشيرًا:
_رجالتي فوق مستنين مني اشارة عشان يبدأوا شغلهم.. بمعنى أوضح يا سيادة الرائد صاحبك ومراته لو مخرجوش من المكان ده بعد ١٤دقيقة من دلوقتي هيتنسفوا مع الكلب “ديفيد” عمها واللي معاه.
سأله بحيرةٍ وارتباك:
_لما حضرتك عايز تفجر المبنى مش عايزني ليه اتعامل بالسلاح!
ابتسم بسمة مخيفة، وفحيحه الخبيث يتحرر:
_مين قالك اننا هنفجر المبنى! قولتلك قبل كده احنا في وضع حساس ومستحيل هنتعامل بشكل يثير الشبوهات علينا، الموضوع هيبان انه قضاء وقدر، مثلًا حصل ماس كهربا أو أي حادث مالوش علاقة بتدخل انسان بس المهم في ده كله إننا نخرج بيهم من جوه من غير ما نشتبك معاهم ولا حد فيهم يتصاب أو يستخدم سلاحه، مش، عايزين البحث والتحليل الجنائي يمسك علينا غلطة وده شغل رجالتي هما مستنين بس عشان نقدر نخرج بصاحبك وباللي معاه وبعد المدة اللي ادتهالك هيشوفوا شغلهم فهمت يا سيادة الرائد؟
هز رأسه يؤكد له ببسمةٍ فخر، كان يظن بأنه تمكن من معرفة كل صغيرة وكبيرة تجعله مستعد لمواجهة أي عدو، والآن يكتشف بأن موهبته لا تضاهي من حمل لقب “الاسطورة” عن جدارة!
أفاق من شروده على صوت رحيم يؤكد له:
_معاك ١٤دقيقة بس، لو مخرجتش بعدها اعتبر نفسك شهيد معاهم!
واستكمل وهو يشدد عليه:
_اتحرك حالًا وأنا هكون جنبك هأمن الطريق وهحاول أشتتهم عنك لو اكتشفوا وجودك.
ودفع إليه قناع قماشي أسود اللون، ارتدوه وأشار له رحيم:
_جاهز يا سيادة الرائد.
هز رأسه يجيبه:
_جاهز يا فندم!
اشارة معينة بأصابعه جعلته يندفع بحذرٍ شديد للمبنى، مستهدفًا أحدى الأبواب بينما ولج رحيم من بابٍ أخر غير الذي سلكه آدهم، كانت مهمة شبه مستحيلة، كيف سيتعاملون مع أشخاص مسلحون دون أن سلاح أو حتى دون أن تنطلق رصاصة واحدة من أسلحتهم، ربما هي صعبة ولكنها ليست محالة بالنسبة لرجال الصعاب الذين اعتادوا أن يحولوا المستحيل لممكنٍ.
اندفع آدهم للداخل بتمهلٍ قاتل، عينيه تدرس مكان رجال ديفيد، وتستكشف المكان بحرصٍ شديد، حتى سُلطت على رحيم المختبئ بالجانب المقابل له، يشير بيده على زواية بعيدة، اتجهت نظراته إليها فتفاجئ بوجود كاميرا.
عاد ببصره لرحيم فأشار له بأصابعه باشارة يعلمها جيدًا فالحديث بين فريق المخابرات يعتمد على لغة الاشارات، وفهم لغة الاعين بما يود القائد اخبارك به دون حديث.
علم منه بأن هناك أربع كاميرات تحيطه، فانتبه إليهم، يتمكن كلاهما من السيطرة على الكاميرات بسهولة ولكن مهمتهم يتعمدون أن تبرز الكاميرات طبيعة الحدث حتى حينما يشهد تدمر المكان.
أشار رحيم لآدهم اشارات متتالية، على غرفة تكسل على طرف آدهم وغرفة تميل على طرف رحيم، ففهم بأنه يطالبه بالبحث عن أيوب بالغرفة المجاورة له وهو سيبحث بالغرفة التي تنحاز على جانبه، فهز رأسه وانحنى يتفادى الكاميرات حتى سلك كلا منهما الغرف.
*********
زحف آدهم بحرصٍ وتمكنٍ، حتى وصل للغرفة، طوفها بنظرةٍ متفحصة خشية من وجود كاميرات بالغرفة، فتنهد براحةٍ حينما لم يجد أي كاميرات، فلم يستطيع السيطرة على ذاته واندفع تجاه رفيقه، يهزه بخوفٍ من رؤيته يغلق عينيه ويسترخي بجلسته بشكلٍ جعله يظنه فارق الحياة، فناداه بلهفةٍ:
_أيــوب!!
فتح عينيه بارهاقٍ ومن ثم انتفض بجلسته فسقطت آديرا عن كتفه وفاقت من نومها هي الاخرى.
ردد بعدم استيعاب:
_آدهم!!! إنت وصلت هنا ازاي!!
ضم وجهه بيديه بحبٍ، وجذبه بقوة لاحضانه هاتفًا بصوت اختنق بالدموع رغمًا عنه:
_الحمد لله إنك بخير.. كنت مرعوب ليكون أذاك!
تعلق به بفرحة، فلم يتوقع أن يعرض ذاته لخطرٍ عظيم هكذا لاجله، وفجأة ابعده عنه وهو يشير:
_لازم نخرج من هنا حالًا.. مفيش وقت يا أيوب.
وحذره باشارة حازمة:
_خليك ورايا وأوعى تعمل أي صوت لا انت ولا هي.. في ناس معايا هتساعدنا بس لازم نخرج من هنا الأول.
هز رأسه بتفهمٍ، واستدار لآديرا المتعلقة به بخوف يخبرها:
_يريدنا أن نتبعه دون أن نصدر صوتًا يلفت انتباه رجال عمك لنا.
أشارت له بتفهمٍ، فاتبع آيوب آدهم، اتبعت آديرا أيوب بخطواتٍ حريصة، حتى بات على الطرف الذي كان يحتله قبالة الاسطورة، فوجده بانتظاره، أشار له بأنه وجد أيوب وزوجته، فأشار الاخير له بسرعة الخروج من المكان.
كاد بأن يسلك الطريق الذي مر به فتفاجئ بوجود أحد الرجال، لذا أبدل طريقه بطريقٍ أخر، اتسعت مقلتي رحيم حينما وجده يخطو لطريقٍ محفوف بالقنابل المزروعة، هؤلاء اللعناء يضرمون الخطط الخبيثة لحماية أنفسهم، فزرعوا قنابل بشكلٍ يستحيل تميزه.
حاول رحيم أن يحذره ولكنه تفاجئ ببراعةٍ آدهم بتميز أماكن القنابل، فكان يتحرك بخفة ويشير لهما بتتبعه، فاحتلت شفتيه ابتسامة فخورة بأخيه الجوكر المزعوم، لقد برع بتدريب أحد تلميذه بشكلٍ يستدعي الفخر.
نجح آدهم بالخروج بهما آمنين، فأشار لأيوب بهمس:
_خد آديرا وامشي من الطريق ده هتلاقي هناك عربية ( رولز رويس بوت تيل Rolls-Royce Boat Tail) سودة خليك جنبها لحد ما أجيلك.
تمسك آيوب بيده بخوف:
_وانت يا آدهم؟!
أخبره بحزمٍ وصرامة:
_مالكش دعوة بيا، اسمع الكلام يا أيوب… روح أنا بستنى القائد بتاعي وهنرجع مع بعض.
هز رأسه إليه وغادر سريعًا، بينما اتجه آدهم للباب الذي ولج منه رحيم، فتعجب من تأخره، انحنى يتفحص المدخل فتخشب جسده فجأة حينما سُلط فوه السلاح على رقبته وصوتًا مقيتًا يتردد:
_يديك للخلف، انهض بهدوءٍ والا ستجد رصاصتي طريقها إليك!
انتصب آدهم بوقفته بهدوءٍ، ويديه تحيط رقبته، يحافظ على ثباته بكل طاقته ويستعد للمواجهة، وما أن استدار ليواجهه حتى تفاجئ برحيم يقف خلف الرجل، يثبت أصبعين من أصابعه على حنجرة الرجل والاصبع الثالث يحيط بأصبعيه بشكلٍ دائري، فجحظت عين الرجل وسقط قتيلًا دون أن تسقط منه قطرة دماء واحدة!!
حمله رحيم وولج به لداخل المبنى ثم أشار لآدهم:
_ورايا!
اتبعه للخارج فوجده يتفحص الطريق بنظراته الصقرية، حتى وجد سيارة سوداء تخص عم آديرا تعود لداخل المبنى، ارتسمت ابتسامته الشريرة على شفتيه وقال:
_كنت هزعل أوي لو الحفلة بدأت من غير الكلب ده!
ورفع يده للأعلى وبسطها بشكل مخيف، إشارة صريحه لرجاله المترقبون لاشارته بأنهاء الأمر.
دقيقتين والثالثة كانت تضوي بصوتٍ لشرارة كهربائية نتجت احتكاك ضخمًا، اتسعت ابتسامة رحيم وهمس بمكر:
_بدأت الحفلة بس يخسارة من غير توابيت!
وتابع لخبث:
_الاغبية حاطين قنابل هتساعد معانا في الاحتفال شوفت أجمل من كده!
وأشار له قائلًا:
_يلا نخرج من هنا.
اتبعه لسيارته، فصعد لجواره بالامام وبالخلف أيوب وآديرا، انطلق رحيم مسرعًا وأخر ما يتثنى لهم رؤيته انهيار المبنى وسط شعلة هائلة من النيران المخيفة، التي تتحدى بعنجهيةٍ أن يخرج منها أحدًا على قيد الحياة.
غمر الصمت السيارة ومازال الفضول يغلب أيوب للتعرف على كناية ذلك الرجل المخيف، لاحظ آدهم نظراته بالمرآة الأمامية فابتسم بتهكمٍ على ما يصيبه من ذعر، وتابع الطريق حتى استقر بهم أسفل شقة آدهم التي كان يسكن بها أيوب.
هبط أيوب وآديرا، فأشار له آدهم:
_عُمران ودكتور علي فوق بانتظارك… أنا شوية وجاي.
هز رأسه بتفهمٍ وصعد بها للأعلى ومازال مشدوهًا لما حدث منذ قليل.
أما بسيارة رحيم.
استدار برأسه إليه ينتظر سماع أوامره القادمة، فقال:
_مساندتك ليا بالشكل المتقن ده هتسقط عقوبتك خصوصًا إني مش ناوي أتكلم عن أخطائك الغبية، هعتبرك لسه في فترة تدريبك لإنك ذكي وعجبتني.
ابتسم له آدهم بامتنانٍ، فتابع رحيم بجدية تامة:
_أنا ورجالتي هنتابع الموضوع عن قرب مع إن اللي عملناه كان برفكت بس زيادة تأكيد، وعلشان نبعد وجوه الاتهامات عنه خصوصًا القرابة اللي بين ديفيد والبنت لازم صاحبك ومراته ينزلوا مصر في أقرب وقت، على الأقل لحد لما الموضوع يهدى.
هز رأسه بتفهمٍ، وقال:
_ أيوب وآديرا هيسافروا معايا مصر على نفس الطيارة!!!
يتبع…
جاب الطرقة ذهابًا وإيابًا وهو يطرق كفًا بالأخر، الغضب والغيظ يكاد يفجر أورداته، فزفر “يوسف” الجالس على الدرج جوار “علي” هاتفًا بسخطٍ:
_ما تترزع في أي مكان يا عُمران خيلتنا يا أخي!
اتجه للدرج الجانبي حيث مكان جلوسهما وهدر بانفعالٍ:
_انتوا جايبن الهدوء الغبي ده منين، بقالنا ساعتين قاعدين القعدة دي، ومفيش أي جديد، لا موبيل آدهم بيجمع ولا عارفين نوصل لأي خبر عن أيوب!!
أجابه علي وهو يحيط قدميه بيديه بتعبٍ من تلك الجلسة الغير مريحة:
_يعني في ايدينا أيه نعمله يا بشمهندس!!
ربع يديه بمنتصف خصره وشمل أخيه بنظرةٍ متفحصة:
_علي هو إنت جايب برودة الاعصاب دي ازاي!
ابتسم وهو يجيبه بغموضٍ:
_جاتني من وقت ما آدهم نزل من عربيته يكلم الشخص اللي وقف بنص الطريق، ولو عرفت مين هو هتطمن وهتكون على ثقة إن أيوب راجع.
إتجه إليه مسرعًا بلهفة تتلألأ داخل رماديته:
_مين هو؟
اتجهت نظرات يوسف وعُمران المهتمة إليه، فأرضى فضولهما قائلًا:
_الاسطورة رحيم زيدان، أخو مراد زيدان الاتنين دول ظباط تقال في المخابرات وبالذات رحيم.
وتعمق بالتطلع لأخيه قائلًا:
_هو اللي أنقذ فطيمة من اللي اتعرضتله.
سكنت ملامح عُمران باطمئنان، أما يوسف فكان حديث علي يعد كاللغز من أمامه، ما علاقة زوجته برجلٍ كهذا وما الذي تعرضت له بالتحديد؟
لم يعينه الأمر كثيرًا ولكن تضاعفت آماله بعودة آيوب، الثقة البادية على “علي” جعلت خوفه يهدأ تدريجيًا، جلس ثلاثتهم على الدرج الجانبي، حتى إلتقطت آذانهم صوت المصعد ومن بعده خرج “أيوب” و”آديرا” التي تتمسك بيده وآثار الذعر يستحوذ عليها.
_آيـــــــــــوب!
تحرر نداء عُمران بلهفة جذبت انتباهه، فالتفت ليتفاجئ بهم يجلسون على الدرج قبالة شقته، ترك يدها وهرع إليهم، فضمه عُمران بقوةٍ ألمت جسده المحتفظ بأثر اللكمات التي نالها، ولكنه احتملها بسعادة، واستمع له يهتف بفرحةٍ:
_الحمد لله إنك كويس وبخير، أنا كنت هتجنن لما عرفت باللي حصل.. كنت خايف من اليوم ده والحمد لله إنه عدى ورجعت بالسلامة.
أغلق عينيه يستشعر حنان ضمته وحديثه الحنون، فوجد يد يوسف تمتد لتنتشله من بين ذراعيه هادرًا بمزحٍ:
_ما توسع خلينا نطمن على البشمهندس اللي موقع قلوبنا من صبحية ربنا.
وضمه يوسف بحبٍ مربتًا على ظهره:
_حمدلله على سلامتك يا بطل… لينا قعدة تفهمنا فيها اللي حصل.
أجابه وهو يبتعد عنه بفزعٍ ولهفة:
_سيف كويس!! بعتولي رسالة من موبيله وصلوا ليه ازاي؟
لم يكن يريد أن يداهمه بما يشغله بتلك اللحظة، فأسرع علي بالتداخل وهو يستقبله بابتسامة جذابة:
_حمدلله على سلامتك يا أيوب.
منحه ابتسامة واسعة ممتنة:
_الله يسلم حضرتك يا دكتور علي.
لف عُمران ذراعيه حول كتف أيوب وقال:
_هنقضيها كلام على السلم ولا أيه ما تفتح الباب بدل رميتنا بره بالساعات بسببك يابن الشيخ مهران.
أخرج من جيب بنطاله المفتاح واتجه للباب يفتحه بترحابٍ:
_لا ازاي طبعًا… انا متأسف أوي على القلق اللي عيشتوه بسببي.
رد عليه علي بلباقة:
_فداك المهم انك رجعت بخير!
أشار لهم بالدخول قائلًا:
_اتفضلوا.
ولجوا جميعًا وكاد بتتبعهم ولكن عقله أرشده لشيءٍ مبهم، أين آديرا؟
راقب الطرقة بنظراتٍ متفحصة، وبحث جوار المصعد، التفت ليكمل بحثه فوجد عمران يقابله مستفهمًا:
_بتدور على أيه؟
أجابه بصدمة من عدم رؤيتها:
_آديرا!
ارتفع بصر عُمران تلقائيًا على الدرج العلوي، فتطلع إليه أيوب، فتفاجئ بها تختبئ خلف درابزين الدرج وتراقب عُمران بنظرةٍ مرتعبة، كأنها ترى وحشًا مخيفًا يهرب من أسطورة مظلمة تكاد تبتلعها.
وزع أيوب نظراته الحائرة بينهما، فوجد عمران يسحب نظراته الحادة عنها ويدلف للشقة بصمتٍ قاتل، فصعد للأعلى يناديها وهو يصيح بتهكمٍ:
_بربك يا فتاة ما الذي تفعلينه هنا؟!
ابتلعت ريقها الجاف بصعوبة، فحملت طرف فستانها الممزق واستقامت بوقفتها قبالته، تهمس له ونظراتها المرتعبة تراقب باب الشقة:
_أأخبرت صديقك الشرس هذا بأنني نعتك بالإرهابي اليوم؟ صدقني لم أكن أقصد ذلك، حتى حينما تعلقت بك فعلتها لإنني أثق بأنك لن تترك عمي يقتلني… آآ… أنا أثق بك أيوب!!
كلماتها المرتبكة الاخيرة جعلته يبتسم وهو يردد:
_وهذا ما أريده سدن!
رمشت بعدم استيعاب وهتفت في محاولةٍ لنطق العربية:
_سداان!! ماذا!!
فرك أنفه بارتباكٍ فمازال على عهده بعدم الضغط عليها لاستمالته لاعتناق الدين اجبارًا، سيجعلها تخطو لعودتها رويدًا رويدًا، فتنحنح بخشونة:
_هيا.. تعالي!
هزت رأسها نافية بذعرٍ:
_سأنتظر هنا لحين مغادرة ذلك المتوحش… أنت لا ترى نظراته لي وكأنه سيقتلني بأي لحظة!
وتابعت وهي تلعق شفتيها الجافة:
_أتعلم أنا أخشاه أكثر من عمي اللعين!
ضحك بصوته الرجولي الجذاب، وبعد محاولة من استعادة ثباته قال:
_ألم تخبريني منذ قليلٍ بأنكِ تثقين بي؟
هزت رأسها تؤكد له، فمد كفه يطرحه لها:
_حسنًا… أنا هنا.. لا بأس!!
تعلق كفها بكفه، وهبطت خلفه للأسفل بحذرٍ، ولجت آديرا للداخل وما أن خطت قدميها الشقة حتى سحبت كفها منه وهرولت للداخل وصفقت الباب بعنفٍ جعل يوسف يضحك:
_منك لله يا عمران مربي للبنت الرعب!
لم يعنيه أمرها من الأساس، فتابع أيوب الذي أغلق باب الشقة وإتجه إليهم، وسأله بلهفة:
_احكيلنا اللي حصل يا أيوب، وفين آدهم؟
رد عليه بحيرةٍ ظاهرة:
_اللي حصل كان غريب ومش مفهوم… آدهم تحت مع الشخص الغامض اللي انقذنا.
واستطرد بحماسٍ كالطفل الصغير:
_القائد بتاعه اللي خرجنا من جوه ده باين عليه إنه تقيل أوي، نظراته وشكله وهدوئه مخيف، طول ما احنا في العربية مفتحش بوقه بكلمة واحدة وفي لحظة خروجه من المكان اللي كنا محبوسين فيه المكان اتنسف في لحظتها وهو خارج ثابت ومرمش حتى!!!!
وتابع بضحكة ساخرة وهو يجاهد لوصف الموقف:
_عارفين أبطال الأفلام الهندي الأوفر، لما تلاقي البطل خارج ببرود من وسط الانفجار!!
ضحك يوسف بقوةٍ بينما ابتسم علي، أما عُمران فلم يستطيع السيطرة على غيظه القابع بداخله، فنهض عن الأريكة يجذب أيوب من تلباب قميصه بعصبية اتبعت نبرته المرتفعة:
_بقى أنا قاعد هموت من القلق عليك وعلى أعصابي من ساعتها وإنت راجع تحكيلنا عن بطولات الظابط اللي أنقذك، بروح أمك مش حاسس بالحالة اللي أنا فيها!!
منع ضحكة كادت بالانفلات منه فرفع رأسه فوق يده المنكمشة على عنق قميصه وقال:
_طيب نقعد وهحكيلك طيب، أبو اللي يعصبك يا جدع!
ضحك يوسف مؤكدًا له:
_حذرتك قبل كده ألف مرة يا أيوب، متحاولش تخرجلنا الطاووس الوقح من مكانه، سيبنا نتعامل مع البشمهندس عُمران الراقي على قد ما تقدر.
دفعه عمران بغضب وعاد يحتل مكانه، ومازال الغيظ يأجج أعصابه، يود أن يقتص من ذلك الحقير الذي اعتدى مرتين على أصدقائه، مرة نالها سيف والأخر أيوب الذي تضرر وجهه بشكلٍ ملحوظ.
ولج “آدهم” للداخل باستخدام مفتاحه الخاص، فانضم إليهم يهتف مازحًا:
_مساء الخير، أتمنى مكنش جيت متأخر!
أشار له أيوب بحماسٍ مضحك:
_تعالى يا آدهم احكيلهم على القائد اللي كان معاك ده محدش راضي يصدقني!
وضع مفاتيحه على الأريكة وجلس قبالتهم يقول بملامح جادة:
_أيوب إنت لازم ترجع مصر إنت وآديرا في أقرب فرصة، وجودك هنا الفترة دي مش في صالحك لحد ما الموضوع يتنسى.
اعتدل بجلسته بدهشةٍ، وصاح إليه:
_ازاي وامتحاناتي بعد شهرين ونص يا آدهم؟
رد عليه بهدوءٍ وحكمة:
_الباشا اللي طلب كده، متنساش إن الموضوع هيتحقق فيه بعناية والله أعلم إذا كان حد غيره عارف بموضوعك فيخدوها حجة ويلبسوك التهمة، انزل مصر وارجع تاني على امتحاناتك أسلم من كل ده… أنا هحجزلك معايا على نفس الطيارة اللي نازلة مصر.
ساد الصمت بينهم حتى قال علي برزانة:
_آدهم بيتكلم صح يا أيوب وجودك هنا بالتوقيت ده خطر عليك وعليها.
تسلل الحزن لملامح عمران، فتنحنح بارتباكٍ:
_يعني مفيش حل تاني غير إنه يرجع مصر، خليه هنا وانا هحاول أمن ليه مكان كويس.
ابتسم آدهم وهو يقرأ تعابيره الحزينة لمعرفته بسفر أيوب المحتمل، وأجابه بثبات:
_ونضمن منين إن اللي حصل ده ميتكررش تاني؟ ده أمن حل صدقني، وبعدين دي فترة مؤقتة وهيرجع تاني.
واستكمل يوضح لهم خطورة الموقف:
_احنا خايفين من الكام ساعة اللي هيقضيهم أيوب هنا لحد ما يركب الطيارة فما بالك لو قعد!!
وانتقلت نظراته لزوايا الشقة:
_الشقة دي معتش أمان بعد ما اتعرف مكانها.
أسرع عُمران بالحديث:
_خلاص لحد معاد الطيارة أيوب هيجي عندي في الملحق اللي جنب القصر، عمي أحمد لسه مكلمني من شوية وبلغني بأن الحرس اللي طلبهم وصلوا ومحاوطين البيت فكده هيكون في أمان لحد معاد سفره.
أجاد آدهم فكرته مناسبة فقال:
_خلاص يبقى أيوب يفضل عندك لحد ما نرتب للسفر.
رفع عينيه الدامعة إليهم وقال بصوتٍ محتقن:
_بس أنا مش عايز أسافر، أنا عايز أقعد هنا… مش هقدر أبعد عن سيف وعُمران.
واستدار برأسه تجاه الأخير يخبره على استحياء:
_ولا عنك يا آدهم… أنا مش هسافر!
استولى الصمت على المجلس، والحزن يصل لدرجة لا تطاق، مزقه يوسف حينما قال بعقلانية:
_ده لمصلحتك يا أيوب.. وإن كان عليهم فآدهم نازل معاك مصر على نفس الطيارة يعني مش هيبعد عنك يا عم، وعمران وسيف محلولة المكالمات الفيديو مفيش أكتر منها، كلمهم طول النهار والليل لحد ما ترجع تاني.
أزاح دمعة خائنة كادت بأن تفضحه، وهز رأسه بهدوء رغم تمزق قلبه من لوعة الفراق بينه وبين اصدقائه، فحطم علي حزنهم ذلك حينما قال بسخرية تامة:
_بعيدًا عن الجو الشاعري اللطيف ده بينكم بس انتوا نسيتوا حاجة مهمة.
اتجهت أعين الثلاثة إليه بترقب، فاستكمل حديثه ببسمة واسعة:
_آديرا هترجع مصر مع أيوب ازاي؟ أو بالمعنى الأدق هتظهر قدام الشيخ مهران بأي صلة؟
لوى عُمران شفتيه ساخطـًا:
_هيأخده بالاحضان وهيقوله يا فرحة أمك بيك!!
ارتبكت معالمه وهو يتابعهم بنظرات صامته، وردد بعد فترة طويلة من السكون:
_لو اضطريت هكشفله الحقيقة.
رد عليه الطاووس الوقح ساخرًا:
_وأيه هي الحقيقة يا ابن الشيخ مهران!! انك اتجوزت آديرا اليهوديه؟
هز رأسه ينفي مقصده المبطن وردد مصححًا:
_اتجوزت سدن المسلمة يا عمران!!
جحظت أعينهم من صدمة ما تفوه به، فلم يستطيع أحدٌ ربط ما يقول، فسبقهم علي وسأله:
_تقصد أيه؟ إنت مخبي أيه تاتي يا أيوب؟
*******
وضعت أمامها أصنافًا عديدة من الجبنٍ، وأخذت تبحث بين محتوياته بحيرةٍ، فتابعت تلك التي تقبع أمام شعلة النيران تنتظر ما ستحضره فنادتها بيأسٍ:
_شمس!
استدارت إليها تشير بيدها:
_هااا… يالا اديني الجبنه!
أشارت لها فاطمة بتذمرٍ:
_في أنواع كتيرة قدامي عايزة أنهي نوع؟!
اتسعت بسمتها الخبيثة، وأردفت:
_هاتيهم كلهم يا فاطيما… هعمل صوص جبن مشكل للمكرونة هيبقى تحفة.
وأشارت على البراد قائلة:
_طلعتي انتي الاستربس واعمليه لحد ما أخلص.
ربعت يديها أمام صدرها وتابعت بدهشةٍ ساخرة:
_شمس الساعة داخلة على ١١ وانتي واقفة تعملي مكرونة وفراخ!!
وضعت الملعقة بفمها تستطعم مكونات الحليب الممزوج بالطحين، وفور أن استمعت لصوتها الساخر هرولت إليها تصيح:
_وطي صوتك فريدة هانم هتسمعنا دي ممكن تحرمني من الأكل اسبوع جاي عشان أخس الكام كيلو اللي هيزيدهم بعد الواجبة دي، وبعدين يا فطوم فيها أيه لما نقوم نص الليل نضرب مكرونة واستربس وبانيه؟
جحظت عينيها صدمة:
_كمان بانيه!! انتِ الجواز فتح نفسك على الأكل ولا أيه؟!
جذبت عُلبة الجبن واتجهت لتضع بالبشمل المخفوق هادرة بسخرية:
_هو فين ده… حبيبتي أنا اتجوزت واحد عامل زي العفريت بيختفي فجأة وبيظهر فجأة.. أنا من ساعة الحفلة وأنا معرفش عنه حاجة!!
وزادت من وضع الجبن الكيري قائلة بسخط:
_مفكرش يكلمني مرة.. أنا خايفة أسافر معاه مصر ليسبني ويختفي!!
وتابعت وهي تضع الملح:
_اللي مطمني إن علي هيكون معايا.
تجهمت ملامح وجهها بحزنٍ، لا تعلم كيف ستظل تلك المدةٍ دونه، “علي” ليس زوجها فحسب، حسنًا هي تعشقه حد الجنون، سيطر على عاطفتها لدرجة جعلتها ترغب به!
لم يكن بأوسع مخيلاتها أن تمارس حياتها الطبيعية برفقته، وقد نجح هو بجعلها ترضخ له ولمشاعرها، ولكنه لا يعي بأنه بالنسبة لها كالهواء الذي يصعب على الإنسان العيش دونه، كيف تخبره بأنها حينما تلوث الهواء من حولها بفعل ما ارتكبه هؤلاء الجناة كان هو قناعها الذي مدها بالأكسجين النقي حتى تفادت كل تلك الغازات السامة!
تخيلها لفراقه عنها شعرت وكأنها تقف وسط وابل من الأمطار الباردة وللغرابة شعرت بأنها ترتجف دون ارادة منها، فرفعت ذراعيها تضم ذراعيها بخفةٍ.
أفاقت على شمس التي تخبرها بدهشة:
_الباب اتفتح… شكل علي أو عُمران رجعوا!
أزاحت مريول المطبخ واتجهت للرخام المجوف لتتمكن من رؤية القادم، فانزوى حاجبيها وهتفت بذهولٍ:
_مايا كنتِ فين انتي وزينب لحد دلوقتي!!
انكمشت تعابيرها صدمة من وجود شمس وفاطمة بالمطبخ بهذا الوقت، فقد عادت للقصر برفقة زينب ويوسف الذي أصر أن يُوصلهما ولكن زينب كانت تشعر بضيق أنفاسها فور أن استقرت السيارة أمام القصر، فطالبتها أن تتجه بهما لمكانٍ منعش، فرضخت لها مايسان حينما وجدتها بحالة نفسية سيئة.
ارتبكت زينب حينما وجدت شقيقتها تقترب منهما وتتساءل باستغراب:
_كنتي فين يا زينب؟
ابتلعت ريقها بارتباكٍ قاتل، وتطلعت تجاه مايا كأنها تطالبها بأن تنجدها، فطرقت حقيبتها على الطاولة القريبة وأسرعت لفاطمة تخبرها بتوتر:
_أنا كنت مخنوقة شوية يا فاطمة لاني اتخنقت مع عُمران النهاردة.. فقولت أنزل أتمشى شوية بالعربية وأخدت زينب معايا.
تعلقت عين فاطمة بأصابع الكف البادية على وجه زينب والتورم الملحوظ، انتفض جسدها فجأة وتراجعت للخلف تضم قبضة يدها تستمد القوة لمواجهة كل ما يعتريها من بعض مشاهد الاعتداء عليها المتفرقة، فاستمدت قوة ومجاهدة كبيرة لنطقها المرتبك:
_أيه اللي في وشك ده يا زينب… قوليلي الحقيقة انتي كنتي فين؟
تمعنت بملامحها المتوترة والمنفعلة، كطبيبة علمت بأن شقيقتها على وشك التعرض لنوبة قاتلة، انعكاس تعابير وجهها حركات أصابع يدها المتشنجة، حدة أنفاسها، لم تكن تعلم بأنها متضررة لتلك الدرجة، لذا استجمعت قوتها لتجيبها بهدوءٍ:
_مفيش يا فاطمة اتخانقت مع بنت في الجامعة وزي ما انتي شايفة ضربتني بالقلم بس الحمد لله مايا اتدخلت وحلت الموضوع وصممت تخرجني عشان أنسى اللي حصل.
واستدارت لمايا تحذرها بنظرة ثابتة:
_مفيش داعي انك تخبي عليها لإن الموضوع خلاص اتحل.
تنحنحت مايا وهي تدعي شعورها بالحرج ليمر الأمر، على فاطمة:
_أنا مكنتش عايزة أقلقها مش أكتر.
صاحت شمس بانفعالٍ وهي تندفع لتراقب اصابة زينب عن قرب:
_ودي مين المتوحشة دي… لازم تقدمي شكوة فيها للادارة يا زينب.
أكدت لها مايا بحزم:
_عملنا كده فعلًا والبنت اعتذرت.. الموضوع اتحل الحمد لله.
بخطواتٍ متوترة اقتربت فاطمة من زينب، تراقب اصابة وجهها وأصابعها موضوعة بفمها تضغط عليها ببكاءٍ، وما أن اقتربت منها حتى ضمتها إليهل بحركة مرتبكة وبكت وهي تتساءل بصوتٍ مزق قلب مايا وشمس:
_بتوجعك؟
تعلقت بها زينب وهي تجاهد أن لا تسقط دموعها، فرددت:
_لا خالص.. أنا كويسة والله.
كانت تحمل بداخلها ألمًا نازفًا لما حدث إليها، وما أن رأت حالة فاطمة شعرت بأنها تكتسب قوة يحيطها الخوف من أن تنتكس حالة شقيقتها، شددت زينب من ضمها فهي لا تمتلك سواها، فقدت أبيها ولم يكن لدي شقيقها الأكبر ولا الأصغر حنان تجاهها، لم تعد تمتلك سواها وبالطبع لن تسمح أن تعود لظلمتها القاتلة، إن كانت تعرضت لجرحٍ بعنق السكين شقيقتها انغرس بداخلها السكين بأكمله!
أدمعت أعين شمس ومايا تأثرًا بهما، فقالت مايا بصوتٍ باكي:
_خلاص يا أوفر إنتِ وهي!
أزاحت شمس دموعها بأصابعها وقالت بشهقاتٍ طفلة باكية:
_بطلوا عياط بقى الله.. وأنا اللي سهرانه أعمل مكرونة وبانيه ومزاجي كان رايق قلبتوهالي نكد.
جذبت مايا قبعة البيجامة للأعلى هاتفة بحنقٍ:
_آه يا حقيرة مكرونة وبانيه من ورايا!!
أجابتها سريعًا وهي تحاول تخليص ملابسها:
_عملت حسابك معانا يا طفسة بس آآ..
وسحبت نفسًا مطولًا من أنفها وهي تعيد كلماتها:
_أيه الريحة دي!!
ابتعدت فاطمة عن زينب واجابتها بضحكة صاخبة:
_المكرونة والبانيه اتحرقوا يا عروسة!!
هرولت للمطبخ وهي تصرخ بصدمة:
_مكرونتي.. فراخي… صوص الجبن المكس… أووووه لاااااا.
انفجرت الفتيات من الضحك، فأشمرت مايسان عن ساعديها وأشارت بمزح:
_بينا ننقذ ما يمكن إنقاذه أو نعمل غيرهم أنا بصراحة جعانه جدًا!
وصاحت وهي تهرول للمطبخ:
_هيا بنا يا فتيات!
********
اختلج السكون بينهم، ما قاله ليس هينًا بالمرةٍ، الجميع يجلس بصمتٍ قاتل، النظرات تحيل بهم وتجتمع لآيوب المتحفز لاي سؤالًا قد يُطرح، فكان عُمران أول من تحدث:
_يعني البنت دي المفروض إنها مسلمة؟
هز رأسه يؤكد له، مال يوسف يستند على ساعديه:
_ازاي الأخ يقتل أخوه بالشكل البشع ده، وبعد ما أخد أولاده وكبرهم جاله قلب يقتل أخوها ويحاول يقتلها!
أجابه عمران ببسمة ساخرة:
_ مستغرب ليه يا دكتور دول ولاد **** معندهمش ملة ولا ضمير.
تنهد علي بحزنٍ، وأخفض ساقيه عن طرف الاريكة ليعتدل بجلسته متسائلًا بحيرة:
_طيب ليه مش عايز تديها الدفتر اللي سابه أخوها يمكن لما تعرف الحقيقة الموضوع يفرق معاها وتأسلم!
رد عليه آيوب بعقلانية ورزانة:
_لآني ببساطة مش عايزها تحس إنها مجبورة إنها تأسلم، عايزها تختار ده بارادتها ووقتها هسبها تعرف الحقيقة.
وتابع بابتسامة جذابة:
_وبالمناسبة ده قرب يحصل لإنها واحنا مخطوفين قالتلي إنها عايزة تعرف أكتر عن ديني فده معناه إني قربت أوصل للي أنا عايزه.
ابتسم آدهم وأشار له باعجابٍ:
_مطلعتش سهل يابن الشيخ مهران!
تعالت ضحكاته الرجولية مرددًا بمشاكسةٍ:
_عيب عليك يا سيادة الرائد.
تعالت بينهم الضحكات الرجولية، ومن بينهم انطلق رنين هاتف يوسف فحمله وتطلع للمتصل وهو يقول بضيق:
_يا خبر أنا نسيت جمال خالص… أنا دبسته مع سيف في المستشفى كل ده.
برق آيوب بصدمة، وتساءل بقلقٍ:
_سيف في المستشفى بيعمل أيه؟
سيطر عليهم الوجوم، فانتفض بجلسته يردد بذعر:
_سيف حصله أيه يا دكتور يوسف؟
أخفض عينيه أرضًا بحزنٍ، فصاح منفعلًا:
_بسببي صح!! أنا السبب!!
وقف قبالته عُمران يمسك ذراعيه:
_اهدى سيف كويس وبخير.
غصته تزداد كلما تيقن بأنه السبب فيما أصابه، بالطبع تمكنوا منه ليحصلوا على الهاتف، انتفض بين ذراع عمران وهمس له باكيًا:
_عايز أشوفه يا عُمران!
ربت على ظهره بحنان وحزن يغترفه:
_هاخدك ليه بس اهدى.
وأبعده عنه مشيرًا له:
_هتوصلها الأول للملحق وبعدين هنطلع على المستشفى.
وتابع وهو يخرج برفقة الشباب:
_هاتها وانزل.
******
ولج أيوب للغرفة فوجدها تغفو على الفراش بانهاكٍ وبنفس ثيابها، حركها برفقٍ وهو يناديها:
_آديرا.. انهضي سنترك هذا المنزل.
نهضت بتعبٍ يهاجمها ورددت:
_إلى أين سنذهب؟
اتجه يجذب أغراضها بالحقيبة الموضوعة جانبًا، فخشى أن يخبرها بأنه من سيرحل برفقته هو نفسه صديقه الشرس الذي تهابه، فابتسم يجيب بخبث:
_سنذهب برفقة أحد أصدقائي، فالمكان لم يعد أمانًا.
هزت رأسها بخفوتٍ، ونهضت تحتضن كتفيها المصاب بتعبٍ تسلل لصوتها الهامس:
_أشعر وكأن هناك سكينًا يمزق كتفي.
استدار إليها يتفحص موضع الألم، وقال:
_لنغادر الآن وحينما نصل تقومين بتغير الضماد.
نهضت عن الفراش فاحتدت أنفاسها فور أن شعرت بالأرض تتراقص بها، وتلقائيًا استندت على ذراعه هامسة له:
_أنا لست بخير أيوب.. أشعر وكأن حوائط المنزل تدور من حولي!
أدمى شفتيه السفلية بضيق ومع ذلك ساندها حتى ولجوا للمصعد.
هبط بها أيوب للأسفل حيث تصطف سيارة يوسف وعُمران، فما أن رأته آديرا حتى تركت ذراع أيوب الذي يعد عكازها بعد يومًا متعب رأت به الموت أكثر من مرة.
كبت علي ضحكته بصعوبة، وأشار لأخيه:
_روح إركب مع آدهم وأنا هسوق أنا بدل ما البنت يجيلها سكتة قلبية قبل ما نوصل.
أومأ له باستسلامٍ غريب، وتركهما وغادر لسيارة آدهم فتحرك به على الفور.
عاد أيوب يساندها حتى استقرت بالمقعد الخلفي واستقر هو جوار علي، اتجهت السيارتين للقصر، ففتح علي الملحق لهما، وولج عُمران للداخل ليبلغ الخدم بوجود ضيوف بالخارج ليمدهم بما يحتاجوه.
*****
ولج عمران المطبخ من الباب الخلفي، فوجد شقيقته تجلس برفقة زوجة أخيه وزينب يتناولون الطعام بجو من المزح والضحك، فابتسم وغض بصره مستكملًا طريقه لغرف الخدم الجانبية للمطبخ، فتفاجئ بزوجته تهدأ النيران وتراقب القدح.
جذبت مايسان الملعقة ورفعتها لفمها وهي تحرك شعرها للخلف حتى لا يسقط بالملعقة، تناولت ما تحمله وهي تهمس بإعجابٍ:
_أممم البشاميل بتاعي أحلى من بتاع شمس بكتير.
تمردت خصلة من شعرها للأمام فرفعته بضيقٍ، وهي تعود لتقليب المحتويات، شعرت بيدٍ تجمع خصلاتها وتضعها برباطًا انسدل طرفه على وجهها فتمكنت من شم رائحة البرفيوم العالقة به باجتيازٍ، أغلقت عينيها بقوةٍ ولسانها يردد دون ارادة منها:
_عُمران!
مال على كتفها يضمها إليه وهمسه المغري يصل لمسمعها:
_جنبك وقريب منك يا حبيب قلبي!
طمستها مشاعرها وقربه الخطر يقتحم أسوارها، تناست كل شيءٍ، حتى وقوفها أمام نار الموقود، مالت إليه تستجيب لحبه المطالب بقربها بعد يومًا قضاه وهو يجاهد السيطرة على اعصابه المشدودة، استكانت على صدره وصوت اندفاع دقات قلبه لقربها يرضي طبلة أذنيها، فابتسم وهو يهمس لها بمكرٍ:
_الطبخة اللي اجتهدتي وبتتباهي بيها هتولع مع شرارة الحب يا بيبي!
رددت بعدم فهم:
_طبخة أيه!
مال بها يغلق الزر الألكتروني وهو يردد من بين ضحكاته:
_طيب خليني أنقذها لما تفوقي من سحر قربي!
برقت بصدمة وهي تستعيد ادراكها تدريجيًا، فدفعته للخلف وهي تراقب الجانب الخاص بطاولة الفتيات:
_عُمرااان أنت بتعمل أيه يا مجنون، أختك ومرات أخوك بره!!!
منحه نظرة جريئة غير مبالية بما ذكر، وقال ويده تمتد لتعدل من جرفاته الذي يحتضن خصلاتها بتملك:
_كده عندك ليا اتنين جرفات، واحد اتخليت عنه عشان حبيب قلب جوزه يعرف يأكل من غير ما يتضايق والتاني أخدتيه مني يوم فرح علي.
وانحنى تجاهها يهتف بخبث:
_فاكرة اليوم ده يا مايا؟
ارتبكت وعينيها تتسع صدمة من تلميحاته الوقحة، فرفعت الملعقة تهدده بها:
_امشي يا عُمران.. إمشي بدل ما أبهدلك بالبشاميل!!!
جذب الملعقة منها وتناول المعكرونة التي صنعتها ببطءٍ متعمدًا أن يهتف دون مبالاة بتعصبها:
_أمممم.. لذيذة أوي.
وغمز لها بمشاكسة وهو يتابع طريقه:
_شيلي ليا طبق لحد ما أرجع.. مش هتأخر عليكِ يا بيبي.
رفعت يدها تتحسس نبض قلبها المرتجف بحسرةٍ:
_هيموتني في مرة من أفعاله وجرائته دي!!
وزفرت بغيظٍ وهي تلقي الملعقة من يدها، تنهدت بقلة حيلة وهي تجذب أحد الاطباق لتسكب لها، فعاد لها حديثه يتكرر بمخيلاتها فهتفت بدهشة:
_هو رايح فين تاني!!
******
تجمعوا مرة أخرى قبالة باب القصر، فصعد عُمران بسيارة آدهم جوار أيوب بالخلف، بعد أن أقنع علي بالبقاء والاسترخاء بعد يومه المجهد هذا، فولج للداخل وغادرت سيارة آدهم للمشفى ومن خلفها سيارة يوسف.
اتجه للدرج ليصعد للأعلى ولكنه توقف فور سماعه صوت ضحكات قادمة من المطبخ، اتجه للداخل باستنكارٍ من استيقاظ أحدٌ بوقتٍ هكذا، فابتسم وهو يردد بسخرية:
_دي العيلة كلها هنا وأنا مش واخد بالي!
صاحت شمس بحماسٍ:
_علي… تعالـــى اقعد عما أجبلك طبق.
جذب المقعد المجاور لفاطمة التي تزيح بقايا الطعام على فمها بحرجٍ، فراقب الموضوع على الطاولة قائلًا بصدمة:
_حد يأكل مكرونة والساعة داخلة على ١٢!! شمس إنتي مش هتبطلي تعملي مصايب بليل دي.
اجابته بمزحٍ وهي تضع أحد الاطباق أمامه:
_الجوع كافر يا دكتور علي!
وتابعت بحنقٍ:
_وبعدين انت متضايق أوي ليه ما مراتك منسجمة معايا وعجبها الوضع.
ارتشفت فاطمة من كوب المياه بحرجٍ، فابتسم علي وسحب شوكته يلتهم الطعام وهو يردد بحب:
_اللي يعجبها يعجبني بالإجبار… ومستعد أنزل كل يوم بليل أطبخلها أنا بنفسي.
مالت شمس على الطاولة تستند على ذراعيها، ونظراتها تمر بينهما بمشاكسة:
_يا الله على الرومانسية والحب… أنا لو سمعت الكلام والحركات دي من عُمران مش هتفاجئ لكن دكتور علي أخويا الهادئ الخجول مش قادرة!!!
وتابعت وهي تغلق عينيها بتنهيدة:
_صحيح الحب بيصنع المعجزات!
أفاقت على ضربة خافتة أصابت أعلى رأسها وقولًا حازمًا:
_فوقي من أحلام العصر اللي انتي عايشاها دي وروحي هاتيلي مايونيز!
استقامت بوقفتها وهي تُتمتم بضيق:
_ماشي يا علي!!
ضحكت فاطمة بصوتها كله، فمال عليها يسألها باهتمامٍ:
_زينب فين؟
ردت عليه وهي تراقب طبقها حتى تهرب من نظراته الحنونة:
_أكلت معانا ولسه طالعه من شوية .
وحينما تذكرت ما حدث لها قابلته بنظرة حزينة:
_كانت راجعه من برة وشها وارم وقالتلي إن ليها زميلة في الجامعة اتخنقت معاها ومايا راحتلها وحلت الموضوع، كنت عايزاك يا علي تروحلها الجامعة وتشوف البنت دي لتضايقها تاني أو تعملها حاجة.
وتمردت دموعها وهي تخبره:
_أنا ماليش غيرها يا علي.
سحبها بأحضانه وربت على رأسها بحنانٍ وقلق من معرفتها الحقيقة، فقال:
_متخافيش يا حبيبتي أنا هروح معاها بكره بنفسي وهشوف الموضوع ده، المهم متزعليش نفسك.
رفعت رأسها إليه ومازالت قريبة منه:
_علي أنا حاسة إن زينب فيها حاجة، بتحاول تخبي عني ومش راضية تقولي مالها بس أنا حاسة بيها والله.
وتابعت بانهيارٍ هزمه:
_نفسي أخدها في حضني وأحتويها بس مش عارفة يا علي… أنا أول ما شوفت وشها كده اتخشبت وافتكرت اللي حصلي وآآ… وخوفت أوي يكون اتعرضت للي أنا اتعرضت ليه… آآ.. أنت مش فاهمني أنا أي عنف بشوفه بيفكرني باللي أنا شوفته.
خشى أن يتصاعد أمرها لنوبة قد تعيقه عن طريق تقدمه بما أحرزه، فربت على حجابها بحنانٍ وحب:
_اهدي يا فطيمة.. كل ده من خيالك إنتي، مفيش حاجة من دي صح.
نفت ذلك باشارة متعصبة:
_لأ يا علي.. صدقني أختي فيها حاجة بس هي خايفة تتكلم وتقولي علشان حالتي، إنت مشوفتنيش من شوية لما شوفتها حالتي كانت عاملة ازاي لدرجة انها خافت عليا ومكنتش حابة إني أشوفها بالوضع ده!
ضمها إليه بكل قوته وانحنى يقبل جبهتها، وهو يعمق نبرة صوته الرخيمة:
_خوفك عليها وخوفها عليكي ده شيء طبيعي يا فاطمة… مش معناه إنها بتحرص علشان تعبك، ثم إن مين اللي قالك إنك مريضة؟!! انتي بقيتي زي الفل ومبقتيش محتاجاني معاكي خلاص!
تعمقت بالتطلع إليه بنظرة متلهفة، فضم ذقنها بأبهامه وهو يستكمل بذكاءٍ:
_تفتكري لو بخدعك كنت هسيبك وانتِ تعبانه وهسافر مصر؟
أضاء الأمر بمُقلتيها، فقال بابتسامة جذابة:
_فاطمة انتي بقيتي كويسة من اللحظة اللي أخدتي فيها القرار إنك تكوني زوجة ليا.
اقتمع وجهها من فرط الخجل، فنهض وهو يقدم يده لها:
_الوقت إتاخر يالا نطلع.
أشارت تجاه المطبخ باستغراب:
_والمايونيز اللي طلبته!
جذبها بقوةٍ جعلتها تستند على صدره:
_مش عايز غير حضنك!
واتجه بها للأعلى تاركًا شمس تراقبه بنظراتٍ مغتاظة، فعادت إلى طبقها تلتهمه وهي تهدر بانفعال:
_أخوات أخر زمن الواد بيطرقني!!!
*****
زفر جمال بغضب وهو يراقب هاتفه:
_أخوك مبيردش لييه، أنا غُلبت معاك ومفيش أي فايدة!!
ضم يديه معًا أعلى صدره وهو يخبره ببسمة مستفزة:
_ولو جبتلي أبويا نفسه مش هأخد حقن بردو، فاستسلم بقى يا جيمي وفكك من الممرضات اللي هيخلونا نخسر بعض دول.
وزع نظراته المغتاظة بينه وبين فريق التمريض المنصدمين من ذلك المريض الملقب بالطبيب، فردد بحرج:
_أعتذر منكن صديقي الأبله لا يرغب بتناول الأبرة دون وجود أخيه، لقد هاتفته وعلى الأرجح هو على الطريق .
ضحك سيف وصاح وهو ينحني باحترام مضحك:
_حبيبي يا جيمي.
بالخارج.
وقف الشباب يتابعون الممرضات التي تخرج من الغرفة تباعًا بدهشةٍ، وما أن ولجوا للداخل حتى صاح جمال:
_يوسف إنت لبستني أخوك ومشيت!! الدكتور المحترم مفرج علينا المستشفى من ساعتها، مش راضي يأخد لا حقن ولا محاليل أمال جايبنه هنا يهبب أيه!!
ربت آدهم على كتفه بشفقةٍ:
_اهدى يا بشمهندس مش كده.
اتجه عُمران لفراشه يردد بسخرية:
_بقى كل المزز دي تعدي عليك ومفيش واحدة قدرت تغريك للحقنه!!
هز رأسه بتأكيدٍ:
_بخاف من الحقن يا عُمران.
_سيــف!!
نطقها أيوب الذي وقف يراقب اصابات جسد سيف بصدمة، فانتبه له الاخير وصاح بلهفة:
_أيوب!! آه يا ندل المستشفى بتتملى وبتتفرغ عليا من ساعتها وإنت لسه فاكر تآآ….
ابتلع باقي جملته حينما اقترب أيوب منه فلاحظ الكدمات الزرقاء التي تملئ وجهه، فتساءل بفزعٍ:
_مين اللي عمل فيك كده؟
ووزع نظراته بينهم بشكٍ:
_الصبح أنا ودلوقتي أيوب!!
وعاد يتمعن به هاتفًا بعدم تصديق:
_عمها وصلك!! عشان كده أخدوا تليفوني!!
مال عليه أيوب يحتضنه بقوة ألمته، واستمع له يقول بحزن:
_أنا السبب في اللي حصلك… قولتلك قبل كده إن الأذى هيطولك معايا.
ضمه إليه وقال بألمٍ يعتصر رأسه:
_ولو فيها موتة أنا راضي.. بس المهم أنك متتأذاش يا أيوب.
جلس عُمران يضع ساقًا فوق الاخرى بعنجهيةٍ:
_لو خلصتم حلقة العشق الممنوع ده اترزع مكانك يا عم أيوب… مش ناقصين تقطيع في القلب والشرايين بكفايا اللي عملته فينا!
ابتعد عنه واتجه يجلس جوار آدهم بالاريكة المقابلة لعمران، فتساءل سيف بفضول:
_أيوه يعني أيه اللي حصل، دخلت وحضنت ومحكتليش عمل فيك أيه ؟!
مرر عُمران يده على جبينه بتعبٍ، فلكزه بساقه الممتدة إليه:
_بكره يبقى يحكيلك واتكن يا سيف عشان وربي أطلق اللي في رأسي عليك.
تساءل أيوب ببعض الخوف:
_هو أيه اللي في رأسك يا عُمران؟
كبت آدهم ضحكاته ومال عليه يهمس له:
_كلاب صعرانه تقريبًا سمعته بيقولها تلاتين مرة!
ابتلع ريقه بارتباكٍ ومال على آدهم يخبره بصوت منخفض:
_عُمران بيبقى مخيف أوي لما بيتعصب، كويس إنك جيت هناك لوحدك، لو كان جيه وقفشها مقربة مني كده كان هيضيع مستقبلي!!!
تعالت ضحكات آدهم بصوتٍ ملحوظ، فاعتدل رأس عمران المسترخي على المقعد ليمنحه نظرة جعلته يتنحنح مستعيدًا ثبات تعابيره، ومازالت أذنيه ملتصقة بفم أيوب الذي يعيد قول:
_عارف لو آديرا عرفت آنها في بيت عُمران مش بعيد تسلم نفسها وتقر على الجريمة اللي حصلت، هي في اعتقادها إنه بيت علي وخدمنا الدكتور علي لما هو اللي فتحلنا البيت وفضل معانا، عن صدمتها لما تعرف إنهم اخوات وانهم في بيت واحد!!!
ابتسم آدهم بينما يسترسل ايوب حديثه الهامس مستغلًا انغلاق أعين عمران واسترخائه على المقعد، بينما مازال جمال ويوسف يقفان بالخارج برفقة احد الاطباء للاطمئنان على صحة سيف:
_تعرف أنا نفسي بترعب منه بس بحبه أوي والله! إنت مصدقني صح؟
استدار إليه يجيبه بضحكة ساخرة:
_مصدقك طبعًا يا ايوب ده أنت ناقص تدخل جوه ودني وتقولي الكلام فده اداني تأكيد أنك ميت في جلدك منه مش مرعوب بس!!!!
ضحك أيوب وأشار مؤكدًا له، ثم قال ببسمة هادئة:
_أنا صحيح زعلان اني نازل مصر بكره بس فرحان إنك هتكون معايا..
وبارتباكٍ سأله:
_آدهم هو أنا ينفع أفضل على تواصل معاك لما ننزل مصر؟
تبددت ابتسامته وأجابه بضيق:
_ إنت كنت هتقطع علاقتك بيا يابن الشيخ مهران!!!
وبسخرية قال وهو يقلد نبرته:
_أمال أيه أنا بحس باحساس غريب من نحيتك وبشم فيك ريحة أبويا كنت بتتسلى بيا!!
اتسعت ابتسامته وقال:
_خلاص هكلمك ونتقابل دايمًا.
ابتسم آدهم وأخبره بحب:
_مش بمزاجك يا أيوب هتقابلني غصب عنك وخصوصًا إني خلاص وصلت لمكان ابن عمك وهفتح القضية من تاني.
انتفض بلهفة:
_بجد؟
هز رأسه يؤكد له فكاد بأن يستفسر عما يقصده فناداه سيف بوجع:
_أيـــــــوب… تعالى هنا يا حيوان أنا مش ملاحق ألمك من جنب الخلق!! جاي تزوني وتخفف وجعي ولا تحب وتضرب صحوبية مع سيادة الرائد!!
انفجر آدهم ضاحكًا وهو يضرب كفًا بالأخر، بينما أسرع أيوب للمقعد القريب منه يخبره بضيق مصطنع:
_مالك بيا يا سيف مش شايفني متشلفط قدامك!!
منحه نظرة ساخرة اتبعها قوله:
_وأنا قدامك أيه حاطط مكياج!! انا اتدشملت بسببك مش واخد بالك ولا اللكمة اللي اخدتها ضيعت النظر!!
ضحك رغمًا عنه وانحنى يربت على صدره كالطفل الصغير:
_معلش يا سيڤو علقة تفوت وإن شاء الله متتكررش تاني.
رفع أحد حاجبيه باستنكار:
_معناه أيه الكلام ده… هتعقل وتبطل تحشر مناخيرك مع اليهود!!
هز رأسه وأجاب:
_عقلت وتوبت بعد المرمطة اللي اتمرمطتها.
وانحنى يهمس له بصوتٍ يدعي البكاء الساخر:
_صاحبك اتمرمط واتحط عليه بالجامد من عمها ابن الأ… شووفت كنت هشتم في ابتلاء أبشع من كده.
ضحك سيف ساخرًا:
_لا ده مش ابتلاء عمها ده من صحوبيتك مع عُمران الوقح.
_ماله عُمران يا دكتور؟! مش هتلم لسانك ده بروح أمك النهاردة!!!
لفظ بها ذاك الغاضب بعدما اعتدل بمقعده، ونهض يشير للاخر:
_هتيجي معايا ولا مشرف مع أبو لسان طويل!!
_معاك يا باشا بس اهدى كده وروق!!
قالها أيوب وهو يراقب ملامحه بتوترٍ، فولج جمال للداخل يشير لعمران:
_تعالى بره عايزك.
تركهم وخرج لجمال أمام الغرفة، فقال:
_عُمران أنا عارف إن الوقت مش مناسب للكلام ده بس اللي حصل النهاردة لازم تعرفه.
فرك رأسه المتعب وقال:
_اتكلم يا جمال أنا مش هسحب من على لسانك الكلام!
سحب نفسًا مطولًا وألقى قنبلته الموقتة:
_خالك جاني المستشفى النهاردة بحجة إنه بيزور والدتي وبصريح العبارة كده هددني إني انسحب من مشروع المول التجاري لإنه عايز يدخل معاك فيه.
احتد الغضب برماديته بشكلٍ سافر، وصاح بعنفوانٍ:
_مشروع أيه ده اللي عايزني أدخله معايا شريك فيه، اتجن ده بروح أمه!!! وبيهددك إنت ليه خايف يواجهني بطمعه وجشعه مش جديد عليا!!!
راقب جمال الوجوه من حوله وصاح:
_احنا في المستشفى يا عمران ميصحش كده.
هدأت انفاسه المنفعلة تدريجيًا، وأضاف بعزمٍ:
_ماشي يا نعمان أنا وراك لما اجيب أخرك …. وعلى رأي المثل العيلة اللي مفهاش صايع حقها ضايع!!!!
ارتعب جمال من رؤية ابتسامته المخيفة وسأله بارتباك:
_ناوي على أيه يا عُمران؟
اتسعت ابتسامته وأجابه بفحيحٍ مخيفٍ:
_كل خير يا جيمي ده الخال بردو!!
*******
بالداخل.
بذل يوسف مجهودًا مضاعفًا حتى تقبل سيف أن يوضع بيده أبرة المحلول، فاضطر الأطباء أن يضعوا بالمحلول الآبر، فجأتهم ليلى حينما ولجت تحمل عمود معدني من الطعام، وضعته على الكومود وسحبت أحد الاطباق ومن ثم سكبت له قائلة:
_عملتلك شوربة خضار وبإيدي عشان تعرف معزتك يا دكتور سيف.
ابتسم وهو يشير ليوسف:
_سندني يا يوسف الريحة تجوع لوحدها وأنا واقع من الجوع.
عاونه يوسف حينما رفع السرير بريموت متحكم، فقدمت له ليلى الطبق وقالت ببسمة رقيقة:
_ألف هنا.
اشار لها يوسف وهو يضع الصينيه أمامه:
_أعملي طبق لأيوب يا دكتورة ليلى، وشوفيله مضاد للالتهابات للاصابات اللي في وشه.
تنحنح أيوب بحرج لتقززه من تناول تلك الشوربة:
_انا كويس يا دكتور يوسف.
ضحك باستهزاءٍ وأعاد ما قال:
_اديله طبق وشوفيله الدوا يا دكتورة.
هزت رأسها بطاعةٍ واتجهت إليه تناوله الطبق:
_اتفضل يا بشمهندس… هروح أجبلك من الدوا وراجعه.
تناوله منها مرددًا باحترام:
_شكرًا.
غادرت ليلى الغرفة وانشغل يوسف باطعام سيف، بينما ظل أيوب يراقب طبق الشوربة بأعينٍ منفرة، وحينما رفع رأسه لمن يجاوره وجده يحدجه بنظرة مهتمة وقال:
_كل… مستني أيه؟
ابتلع ريقه بصوت مسموع وكأنه سيتناول شيئًا سام وقال:
_بقرف منها يا آدهم!
ابتسم ومال عليه يهمس له:
_ما انت عملتهالي قبل كده واجبرتني أكلها!
راقب الطبق لقليل من الوقت وقال:
_لازم أكل الدكتورة ممكن تفكرني قرفان من أكلها بس أنا والله مش بحبها.
اتسعت ابتسامة آدهم وقال كأنه يعامل طفلًا صغيرًا:
_جدع.. كل وخلص طبقك بسرعة قبل ما ترجع.
ابتلع سخريته وبدأ بنزع حبات البازلاء الخضراء(البسلة) ، ووضعها على أحراف الطبق، ثم بدأ بتناولها، فقد كانت شهية للغاية.
تابعه آدهم باستغراب، وكأن نسخته تعيد ما يفعله، انتشرت طرقات باب الغرفة ومن بعدها ولجت ليلى واقتربت من أيوب لتقدم له الدواء، فحاول سحب البازلاء عن سطح الطبق سريعًا قبل أن تراه، ففجأه آدهم حينما جذبها ووضعها بفمه سريعًا يتناولها وملامحه تشمئز وهو يلوكها بنفورٍ.
تمعن به أيوب بصدمة وتناسى يد ليلى التي تقدمها له بالدواء، فنادته لتجذب انتباهه:
_الدوا يا بشمهندس.
انتبه لها فتناول الحبوب والمياه منها وشكرها بامتنان وما ان غادرت حتى جذب منه آدهم زجاجة المياه يتجرعها مرة واحدة ليقابله بنظرة ساخرة:
_شوفت عشان بحبك بلعت أيه؟
هز رأسه بابتسامة واسعة:
_مش متخيل أساسًا إنك أكلتها، إنت كنت بتشيلها يوم ما حطتهالك في الشوربة!!
جذب المنديل يمسح فمه وأردف بتسلية:
_عد الجمايل يابن الشيخ مهران.
قاطعهما صوت الطاووس الوقح:
_هتبات هنا ولا أيه يا عم أيوب!!
ودع آدهم وهرول سريعًا للخارج يصيح:
_أوعى تتعصب أنا في ديلك!!
منحه نظرة ساخرة واتجه للمصعد فولج خلفه وهو يلوح لآدهم بيده فابتسم وهو يلوح له هو الاخر قبل ان ينغلق المصعد ويختفي بهما.
*******
تراجعت بعيدًا عن الرخام الأسود المحيط لحوض الاغتسال بصدمة، يديها مضمومة على فمها، ولسانها ينطق دون توقف:
_مش ممكن!! لأ مستحيل!
تراجعت فريدة حتى جلست على غطاء الحمام ومازالت نظراتها تحيط اختبار الحمل الايجابي الموضوع جوار حوض الاغتسال.
اعادت خصلات شعرها للخلف ومازالت تحت تأثير الصدمة:
_لأ!!! ازاي ده حصل!!
وتابعت ودموعها تلألأت بحدقتيها:
_هقول أيه للأولاد!! وشمس!! شمس فرحها بعد كام يوم لا مستحيل!!!
اعتلت الصدمة ملامحها لدرجة جعلتها تعيد الاختبار لأكثر من ثلاث مرات، وأكثر ما يهزمها بتلك اللحظة الندم والصدمة، نعم مازالت صغيرة تتمتع بجسدٍ ممشق، من يرآها لا يجزم بأنها قد أنجبت يومًا بفعل حفاظها على وزنها والرياضة المنتظمة ولكن كيف ستفعلها وأولادها بات كلًا منهما رجلًا على وشك استقبال خبر حمل زوجاتهما، وابنتها على بعد أيامًا من زواجها!
ضمت فمها ومازالت تحاول الاستيعاب وبعصبية صاحت وهي تلقي الاختبار بسلة القازورات:
_ازاي مأخدتش بالي!!!
********
وصل آيوب برفقة عُمران للقصر، فولج للملحق الخارجي واتجه لغرفة فارغة وغفى بها بتعبٍ، بينما صعد عُمران للأعلى واتجه لحمامه الخاص، انتعش بحمامٍ دافئ واتجه لفراشه بعد أن ضبط المنبه على وقت الفجر مثلما يعتاد.
مضت ثلاث ساعات حتى استيقظ، خرج للشرفة الخارجية يتفحص السماء ببسمة خافتة، ومن ثم عاد لجناحه يجذب سجادته الخاصة وحامل المصحف الخاص بمصحفه الكبير، وهبط للحديقة.
فرد سجادته ووضع حاملة المصحف جواره، أدى صلاته بخشوعٍ تام وحينما انتهى وقف يتمعن بالحديقة مستمتعًا بتلك الأجواء المحببة إليه.
جلس على سجادته يرتشف المياه وما أن استكان وسحب حاملة مصحفه الشريف وبدأ بالتلاوة بصوتٍ عذبٍ خاشع، فردد آية استحضرته بكل ذرة داخله
بسم الله الرحمن الرحيم.
«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا» (سورة المائدة).
صدق الله العظيم..
وتابع قراءته بصوته الخاشع إلى أن انتهى من وارده بشكلٍ متقن، حتى اتحنى يغلق مصحفه وقال بصرامةٍ دون أن بتطلع خلفه:
_هل ستمضين اليوم بأكمله وأنتِ تراقبيني؟!
انتفضت تلك المختئبة بين فروع الشجر العملاق، وكادت بالعودة وهي تلعن فضولها الأبله بالتنزه بتلك الحديقة الرائعة، فأسقطها قدرها بوجهة ذلك الشرس، فتعجبت حينما رأته يصلي مثلما يفعل أيوب.
ابتلعت ريقها الجاف بصعوبة، وكادت بأن تفر راكضًا ولكنها وجدته يردد ومازال يلملم أشيائه الخاصة:
_كنت فظًا معكِ طوال تلك الفترة أعتذر عن ذلك..
أسبلت بعدم تصديق وخرجت من بين الأشجار تراقبه بنظرات مشككة، فوجدته يتطلع أرضًا أسفل قدميها مثلما يفعل زوجها، فقالت بتيهةٍ:
_أنت تبغضني كثيرًا فلماذا تعتذر لي فجأة؟!
ابتسم بخبث، فبعد ما استمع له بالأمس من أيوب اكتشف أنه شابًا ذكيًا يستدرجها لقيم دينه دون اجبارًا منه، ربما كان يمقتها كثيرًا لإنه يكره جنسية هؤلاء الذين يتسببون بما يحدث بأرض فلسطيــن، ولكن ما هون عنه سماعه لقصتها فأشفق عليها..
تنحنح عن صمته يخبرها وهو يتجه للمقعد المجاور للمسبح الضخم:
_ليس لسببٍ معين، أخطأت وإعتذرت وانتهى الأمر!
فركت أصابعها بارتباكٍ وهي لا تعلم أتثق به أم تركض عائدة لآيوب مصدر أمانها، ولكن فضولها كان قاتلٍ، فاقتربت تبعد المقعد المجاور لطاولته لتكون على بعدٍ كبير منه، حتى تلوذ بالفرار الآمن إن تطلب الأمر.
منع ابتسامة ساخرة ارتسمت على محياه وانشغل بترقب المياه الصافية من أمامه ليعلم ما الذي تريده باقترابها هذا، فاتته تتساءل بفضول:
_رأيتك وأنت تصلي مثلما يفعل أيوب فاندهشت قليلًا.
رفع احد حاجبيه بذهولٍ:
_لماذا؟
أجابته بتلقائية مضحكة:
_أيوب يفعلها لذا هو خلوق للغاية وأنا أثق به كثيرًا وأنت تصلي مثله ولكنك لست مثله، أنت مخيفًا… آآ.. أعني أنت سيئًا آآ…. أنت آآآ…
واستطردت وهي تقبض على طرف المقعد:
_أعتذر ولكنك تخيفني للغاية.
تنهد واستند على ظهر المقعد:
_لا عليكِ… أنا أعلم ذلك.
عبست بحدقتيها صدمة:
_هل أنت على ما يرام سيدي؟
كبت ضحكته بصعوبة وقال بجدية مصطنعه:
_هل لي بسؤالك ما الذي تفعلينه خلف الشجرة؟
ردت تجيبه:
_رأيتك تصلي فتعحبت لذلك، أيوب يخبرني أن الصالحين لا يتركون صلواتهم وأنت شريرًا فاسدًا يا سيدي!
برق بغضب جعلها تتأهب لما هو قادم، ومع ذلك سيطر على غضبه وقال:
_وما الذي يدفعك للظن بأنني شرير فاسد يا امرأة؟
بتلقائية تتدعي البراءة اجابته:
_لانك كلما تراني تبرق بوجههي وكأنك ستتحول لأفعى سامة تعتصرني!
همس بسخط:
_يا ريت كنت اتحولت ولسعتك وخلصنا من خلقة أمك!!
عاد ينظم أنفاسه ويستعيد قوته المهدورة، واعترف لذاته ان آيوب يبذل مجهودًا مع تلك الحمقاء يستحق كاسًا ذهبيًا اجلالاً له، وقال:
_ولكني لم أفعلها أليس كذلك؟
هزت رأسها تؤكد له صدق حديثه، فتابع ببسمة زائفة:
_اطمئني ديني لا يسمح لي بقتل أي نفس، الله عز وجل حرم علينا ذلك ومن يفعلها مصيره جهنم وبئس المصير، أنتِ رأيتي بعينيكِ أنني أودي صلاتي لأتقرب من الله عز وجل فلما عساني أرتكب ذنبًا عظيمًا كذلك.
رمشت تستوعب ما قال، وسألته باهتمام:
_هل يعني ذلك بأن الله سيحاسب عمي عما ارتكبه بحقي وبحق أخي؟
أكد لها:
_بالطبع كلنا سنحاسب عن أفعالنا… وعن المعاصي التي ارتكباها بالدنيا.
_ألم ترتكب معاصي يومًا؟
ابتسم ساخرًا وقد تقاذف إليه كل السييء الذي فعله بحياته:
_بلى، فعلت كل شيء تقريبًا.. ولكني تراجعت عن ذلك حينما كشف الله عز وجل عن بصيرتي.
تابعته باهتمامٍ وتساءلت بلهفة:
_ومتي سيُكشف عن بصيرتي؟
التفت تجاهها وقد لمس ما بداخلها، فقال يطمنها:
_لا أعلم، ولكني أشعر بأنه سيحدث قريبًا… قريبًا جدًا.
اتسعت ابتسامتها بفرحةٍ وكأن الحياة فتحت ذراعيها وتلقفتها داخلها، فاعتدلت بجلستها وقالت بتحفزٍ:
_فلتخبرني إذًا كيف أعتنق دينك؟
وتابعت باستفهامٍ مهتم:
_هل يجب أن أذهب لمكانٍ محدد أو مقابلة أحدًا لفعل ذلك؟
كاد أن يجيبها حتى أستوقفهما صوتًا ذكوريًا يهتف بفزعٍ من بين أنفاسه اللاهثة بسبب ركضه السريع:
_آديـــــرا أنتِ هنا!! لم أترك مكانًا الا وبحثت عنكِ فيه.
وانحنى “أيوب” يستند على ركبته ليواجه موجة سعالها من فرط مجهوده، ومن ثم انتصب قبالتهما، يوزع نظراته بينهما بصدمة قد احاطته لحظة أدراكه فردد وعينيه تجوبهما باستنكارٍ:
_ما الذي يحدث هنا؟؟!!
نهضت آديرا واتجهت إليه تخبره بحماسٍ:
_ذلك المتوحش ليس سيئًا بالمرة أيوب… لقد كان لطيفًا للغاية.
بالطبع لم ترى تلك الأعين الملتهبة من خلفها، فكانت نصب أعين أيوب، وما زاد صدمته حينما اتجهت لعمران مجددًا تسأله بحماسٍ صدم أيوب وأصابه في مقتلٍ:
_فلتخبرني الآن كيف أصبح مسلمة مثلكم!
يتبع…
أنا ذاك المغرور الذي عاش حياته بطولها وعرضها، أنا نفسه الشاب الوسيم المرغوب دائمًا من الفتيات، مظهري اهتمامي بجسدي الرياضي هما من أولوياتي، لا غالي وثمين لدي مثل خزانتي التي تمتلك أثمن الثياب ذات الماركات العالمية، أنا نفسه الذي برع بالهندسة وامتلكت رئاسة مقر الشركات الإنشائية التابعة لعائلتي وكنت على قدرٍ من الثقة لأكون من أصغر رجال الأعمال المعروفين، أنا نفسه ذاك العاصي الذي ارتكب من الذنوب ما أثقلها، أنا ابن الطبقة الأرستقراطية حيث تجد الخمور مشروبًا رئيسي للحفلات المُقامة وبالرغم من وجود الطاهر والعفيف عن المحرمات بيننا كنت أنا الفاجر والفاسق الذي ارتكب كل شيءٍ مُحرم، أنا هو الشاب الوقح الذي انتزعت منه طفولته، كنت وحيدًا ، يتيمًا، ولم أجد من يمسك يدي لبداية طريقي سوى أخي، ولكنني كنت بحاجة لوجود أب لجواري، أنا ابن فريدة هانم الغرباوي أهم نساء الوسط المخملي، وبالرغم من حبي الكبير إليها الا أن قلبي مازال يحمل لها عتابًا لها، أتعلمون لم أجدها يومًا تسحب يدي وتخبرني عن ديني!
قواعدها الخاصة والدقيقة تشمل اتيكت المظاهر الخارجية، نجحت بأن تجعلني رجلًا جذابًا، ملفتًا بملابسي الأنيقة وجسدي المفتول، وفشلت بأن تعصبني عن محرماتٍ طمست حياتي وأحالتها لجحيمٍ، وها أنا الآن أحاط برحمة الله عز وجل، ليجعلني أرتد عن ذلك الطريق!
لحظة! كانت لحظة فقط من جعلتني أعود من غفلتي، لحظة فارقة سلخت حياتي المظلمة، على طريقٍ جعلني قريبًا من الموت لأجد منارتي التي كنت غافلًا عنها، أقسمت بأنني لن أعود لتلك المعاصي مرة أخرى وسلكت طريق طاعته وأنا على ثقة بأنه سيغفر لي ذنوبي، وها هو يشملني برحمته ويختصني لأكون سببًا لاعتناق تلك العبرنية للدين الإسلامي، على الرغم من أن الحق الكامل يعود لزوجها.. أيوب بن الشيخ مهران!!.
لحظات من الصمت كانت ثقيلة عليهم وبالأخص آديرا التي تنتظر متلهفة سماع ما سيخبرها عُمران به، متجاهلة صدمة أيوب واتساع حدقتيه المندهشة مما يحدث.
تخلى عُمران عن صمته أخيرًا متنحنحًا بخفوت:
_إعتناق الإسلام لا يشترط بالذهاب لمكانٍ أو لشخصٍ معين.. جملة واحدة تعد بوابة العبور ولكن عليكي أولًا أن تكوني على ثقة تامة بقرارك وعن قناعة.
سبقتها لهفتها لسماع تلك الجملة المحفزة، وقلبها يحفزها بأنها ولأول مرة تفعل الصواب:
_أخبرني أيها المتوحش!
منحها نظرة عبرت بها ضيقه الشديد كالسهم النافذ، تارة تلقب أخيه بالإرهابي ونصيبه الآن بذلك اللقب الذي كان سابقًا يروق له، حسنًا عليه التخلي عن غروره المعتوه قليلًا وردد بخشوعٍ تام:
_أشهد أن لا إله الا الله.
ابتلعت ريقها الجاف مستحضرة كل حروفها المهتزة في محاولةٍ لنطق العربية:
_أأشهد أن لاا إله آلااا الله.
تابع يحفزها على استكمال نطقها للشهادة حتى وآن كانت لغتها العربية ضعيفة:
_وأشهد إن محمدًا رسول الله.
تابعت بسعادةٍ غريبة تنبعث داخلها، وكأنها تتحرر من ظلام ليلًا قاتل لنهارٍ سطعت فيه الشمس كالبلور:
_وآآشهد أن مُحمد رسول الله.
أغلق أيوب عينيه بسعادة حررت دمعة من عينيه، شعر وكأنه على وشك البكاء من رحمة الله عز وجل، كان هو الأصلح لطريق اسلامها فكان الاختيار لعُمران، الطاووس الوقح، بات مشوشًا لا يعلم ماذا بين ذاك الفتى وبين الله عز وجل ليختصه بأخر شيء لا يصدقه العقل، فمن كان سيصدق أنها ستأسلم على يد أكثر شخص بغضته وكادت تقتل رعبًا منه.
أفاق من غفلته على يدها التي تحيط كفيه، تسأله بحماسٍ وفرحة:
_أيها الارهابي هل أصبحت مسلمة الآن؟
اكتفى بهز رأسه وحينما شعر بأنه على وشك البكاء بينهما انسحب للجانب الاخر من الحديقة، جلس على المقعد باهمال يبكي فرحة كالصغير.
كاد عُمران بأن يتبعه ليرى ماذا أصابه؟ فأوقفته آديرا تسأله باهتمامٍ:
_ماذا علي فعله الآن؟
سحب نفسًا مطولًا وكأنه يستمد طاقة غادرته منذ زمن بعيدًا:
_لست أنا جدير لتلك الخطوة آديرا.. ولكنك الآن على وشك اللقاء بمن هو الأحق بذلك.
قوست حاجبيها بدهشةٍ:
_من تقصد؟
وتابعت بتخمينٍ:
_أيوب؟
هز رأسه نافيًا وببسمةٍ صغيرة قال ومازالت عينيه موضوعة أرضًا:
_الشيخ مهران والد أيوب.. الآن أنتِ مسلمة ينقصكِ سماع كل شيء متعلق بالدين الإسلامي،أركان الإسلام، طريقة الصلاة، الزي الشرعي، كل ذلك سيكون من أصول تعليمه لكِ.
ابتسمت بسعادةٍ، قد راق لها اختياره لمرشدها، فإن أعجبها خصال أيوب الطيب فمن المؤكد بأن والده سيكون المعلم الأمثل، لذا رددت بامتنانٍ:
_شكرًا لك.
واتجهت للمغادرة فما أن انخفضت عن الدرج القصير بين منطقة المسبح والحديقة حتى قالت بمرحٍ:
_أيها المتوحش.. لست سيئًا كما أعتقدت!
وتركته وغادرت فهز عمران رأسه هاتفًا بحنقٍ:
_مصرة تخرجني عن شعوري بروح أآآ…. استغفر الله العظيم ده أنا لسه كنت قدوة من شوية!!!
*********
وقفت سيارة الأجرة قبالة باب القصر الخارجي، فهبط آدهم يحمل حقيبته من الصندوق الخلفي للسيارة، ورفع حاملتها ليجذبها خلفه للداخل، كان بطريقه لباب المنزل الداخلي فلمح أيوب يجلس على احدى الطاولات الخارجية.
رنا إليه وهو ينزع نظاراته الشمسية قائلًا بابتسامة جذابة:
_صباح الخير يا بشمهندس.
رفع أيوب رأسه صوب الصوت المسموع، فما أن رأى آدهم قبالته حتى أسرع بمسح دمعاته بخزيٍ، وخز قلب آدهم بضرواةٍ، فصعد الدرجات القليلة إليه هاتفًا بقلقٍ:
_آيــوب!!
وما أن أصبح قبالته حتى ألقى لهفته بسؤاله:
_إنت كنت بتعيط؟!
هز رأسه نافيًا وهو يلتفت يتفحص المكان وكأنه ينطق بجريمة ارتكبها للتو، فرفض الأخر الانطواء خلف كذبه السخيف وردد باصرار:
_أنا مش أعمى.. مالك يا آيوب؟
تعمق بالتطلع إليه وهتف بسعادة التمسها الأخير:
_آديرا أسلمت يا آدهم.
اتسعت ابتسامته قائلًا:
_ما شاء الله.. وأيه المتوقع يعني بعد معاشرتها لابن الشيخ مهران؟!
نفى ظنونه رافعًا كتفيه بحيرةٍ وكأنه مازال غير مصدقًا:
_مش بسببي… خليني أصدمك معايا وأقولك إن اللي ورا ده الطاووس الوقح..
رفع احدى حاجبيه بصدمة فعاد يؤكد بهزات رأسه متابعًا بدقة:
_عُمران سالم الغرباوي!!
رمش آدهم بعدم استيعاب، لا يشكك بأخلاق عمران وانتمائه للدين، ولكنه الوحيد من بين الشباب الذي كان ينفر منها بشكلٍ مخيف، كيف ومتى فعلها؟
اتسعت ابتسامة آيوب الشامتة وردد:
_خدت الصدمة؟ اقعد جنبي يا حضرة الظابط نحاول نصدق الجملة اللي مش مصدقها من ساعه ما شوفتها على أرض الواقع!
انصاع إليه وجلس جواره، يتطلع كلاهما للامام بشكلٍ مضحك، الصمت يتراقص بينهما الى أن قطعه آدهم قائلًا باستغراب أتاه من حيث لا يحتسب:
_أيوه يعني ده يخليك تعيط زي العيل الصغير بالشكل ده!!
تنهد بصوتٍ مسموع واستدار يقابله بجلسته قائلًا بتردد:
_آدهم أنا اتربيت في حارة شعبية، والدي رباني أنا ويونس ابن عمي تريبة ميري زي ما بيقولوا، لدرجة إنه كان بيختار معايا أصدقائي.
وبارتباكٍ أضاف:
_اعتقد شخصية زي عُمران كان ممكن والدي يعترض إنه يكون له وجود في حياتي، لإن عُمران مختلف عننا.. بس أعتقد إنه لو شافه زي ما أنا شوفته هيتبناه!
يشعر وكأنه فقد مهاراته كظابط مخابرات محترف، يقف أمامه عاجزًا عن فهم ما يود قوله، فسأله بدهشة:
_تقصد أيه يا آيوب؟
رد عليه بابتسامة صغيرة:
_قصدي إن عُمران يبان من بره أنه شخص آرستقراطي مغرور.. وممكن من وقاحته تفكره إنه مدورها وبيرتكب كل شيء حرام، بس لما تقربله هتلاقيه شخص عظيم محصلش يا آدهم.
وتابع وهو يتطلع للأمام بشرود:
_أيه المبهر إن ابن الشيخ مهران بيصلي وعارف ربنا .. في حين إن واحد زي عمران اتولد في مستنقع كله مليان بالمحرمات وبالرغم من إنه انغمس فيها الا إنه خرج واقف على رجليه وصالب طوله.. هو اللي اختار طريقه وغيره بكل ارادة وده صعب جدًا مش سهل إنك تعيش حياة سهلة فيها المعاصي سهلة وتبعد..
واستدار يقابل نظرات آدهم مؤكدًا له:
_هو المبهر يا آدهم… أنا بحمد ربنا إنه رزقني بصديق زي عُمران.
انهمرت دمعة خائنة على وجهه، فأزاحها ورسم بسمة تصاحب قوله المرح:
_هو بس يعدل من كلامه ويعتزل أسلوب البلطجة اللي جواه ده وهيبقى برفكت!
مازحه آدهم وصوت ضحكاته الرجولية تعلو دون توقف:
_لو عمل كده ميبقاش الطاووس الوقح!
_لا يا خفيف هيبقى ليا كتالوج وأنا(قطعة واحدة one piece)
قالها عمران الذي يتكئ على الطاولة من خلفهما، انتفض آيوب بجلسته فسقط أرضًا وتراجع للخلف وهو يحدجه بذعرٍ، بينما مازال آدهم ساكنًا محله حتى أنه لم يكلف ذاته عناء الاستدارة لمقابلته، فهتف آيوب باستتكارٍ:
_آدهم.. انت كنت عارف إن الوقح ده واقف!
انتصب بوقفته يضع يديه بجيوب جاكيته الاسود، متمتمًا بحنقٍ:
_مش كل شوية هقولك اني ظابط وأشرحلك اللي اتدربت عليه.. بس ممكن نقول سبته يسمعك وانت بتعبر عن مشاعرك.
وتابع بغمزة مشاكسة:
_لحظة صفا قبل ما سيڤو يلمحك!
وتركهما واتجه للداخل، فتحرك عُمران واحتل مقعد آدهم، واضعًا قدمًا فوق الاخرى، ومال بنصفه العلوي ليستند على ذراعه هادرًا بسخطٍ:
_والسيد الوالد يمانع صحوبيتنا في أيه يا ابن الشيخ مهران!
ابتلع ريقه بتوترٍ، وكأنه تلميذًا سيعاقبه مدرسه، فتابع عمران بعنجهيةٍ:
_طب أيه رأيك إنك هتلاقيني في وشك، وهنشوف وقتها الشيخ مهران هيعمل أيه لما أقطع تذكرة العودة لانجلترا أما خليته يعمل مظاهرة في حارتكم مبقاش عمران سالم الغرباوي!!
ترك الحديث وكأنه لا يعنيه ونهض إليه، يجلس جواره ويده تتعلق بذراعه كالطفل الصغير:
_بجد يا عمران هتجيلي مصر؟
ابتسم وهو يرى سعادته الكبيرة، فهز رأسه يؤكد له:
_لما علي يسافر ويرجع علشان مينفعش أسيب والدتي والبنات لوحدهم.
عانقه بقوةٍ:
_هستناك تيجي عشان أعرفك على والدي وعيلتي.. أنا أساسًا مش مستوعب اني هسيبك وهمشي.
ربت على ظهره بحنانٍ، وردد بسخرية:
_بالعكس انت هترتاح من وقاحتي وأسلوبي السليط معاك.
ابتعد عنه يواجهه قائلًا بصوتٍ جاهد ليخفي به بكائه:
_أنا مش بتضايق منك ولا بخاف من غضبك.. أنا خوفي كله بيكون على زعلك يا عُمران.. مبحبش أشوفك زعلان مني.
منحه ابتسامة هادئة، ومازحه وهو ينغزه برفقٍ:
_يالا خليك صريح وقول إنك بتخاف من عضلاتي وغشومية ايدي!
ضحك بصوته كله، وأجابه:
_على فكرة أنا بعرف أدافع عن نفسي كويس، لإن اللي متعرفهوش إن بعد العلقة المحترمة اللي أكلها سيف على إيد جاره المصري اللي إنت اتنشلته منها دكتور يوسف شده من قفاه على مدرب ملاكمة وسيف حلف ما يروح لوحده شدني معاه فاتعلمت كام حاجه تنفعني مع أمثالك!
هز رأسه ساخطًا:
_أمثالي أمممم..
وربت على ظهره بقوة اسقطت آيوب أرضًا عدة مرات:
_متخرجش المتوحش اللي جوايا بدل ما ترجع لأبوك متشلفط يا ابن الشيخ مهران!
_أيهــــا الإرهـــــــــــــاربـي!!!
رفعوا رؤؤسهما عاليًا تجاه شرفة الملحق الخارجي للقصر، فوجدوا آديرا تصيح وهي تشير بيدها لآيوب قائلة بصراخها الصاخب:
_أصعد قليلًا… أواجه مشكلة هنا!!
مال عمران برقبته يمينًا ويسارًا بعصبية جعلت صوت طقطقة رقبته تجلد آيوب المرتعب، فمال عليه يهمس من بين اصطكاك أسنانه:
_أنا بحاول أسيطر على نفسي فوق المحتمل، فتطلع بمنتهى الهدوء اللي معنديش منه ذرة تقولها متنادلكش بالاسم ده تاني، والا هنسى معاهدة السلام اللي ما بينا وهرجع المتوحش اللي بتذم فيه تاني..
هز رأسه وهو يزحف للخلف، فتابع بغلظةٍ:
_متنساش تخليها تكتم بوقها وانتوا في المطار لإن لو نادتك بيه هناك هتشوف مصر في الأحلام يا سيدنا الشيخ.
وتركه وغادر وهو يتمتم بضيق:
_دي مش محتاجة الشيخ مهران دي محتاجة تروح الكُتاب!
********
تمسكت بحقيبته للمرة الرابعة كالطفلة الصغيرة التي ترفض ترك أبيها يذهب لعمله، فاستدار لها مبتسمًا:
_وبعدين يا فطيمة؟
ابعدت الحقيبة للخلف وكأنها تضمن عدم فراره، وقالت بعينين دامعتين:
_هو لازم تسافر؟ ما تبعت التذاكر للدكاترة مش لازم تسافر بنفسك يعني عشان تجبهم!
كبت ضحكاته داخله، وتنحنح ليبدو أكثر اتزانًا:
_مينفعش يا حبيبتي، لازم أنا اللي اختارهم بنفسي، وبعين الحكاية كلها يومين تلاته مش هتأخر يعني.
انفلتت شفتيها بصدمةٍ:
_يومين!! هقعد من غيرك يومين يا علي!
اتسعت ابتسامته حينما وجدها تقلب شفتيها كالطفلة الصغيرة، وانفجرت بالبكاء وهو تهز رأسها نافية:
_لا مش هتسافر لأ…
وضمت الحقيبة الصغيرة لصدرها مسترسلة:
_أنا لسه تعبانه وعندي كلام كتير عايزة أحكهولك يا علي.
وأسرعت تضع الحقيبة بالخزانة وأغلقتها، ثم عادت إليه وهو يضحك بقوةٍ ادمعت عينيه وجعلته ينحني بوقفته، فقالت غير مبالية به:
_تعالى أقعد على الكرسي وأنا على الشاذلونج وأحكيلك عن حاجات كتيرة أوي.. مش إنت دكتوري النفسي أنا تعبانه جدًا جدًا.
وسحبت كفه تضعه على جبينه قائلة باصرار:
_حتى شوف حرارتي!
انفجر ضاحكًا ورأسه يتحرك بعدم تصديق، يكتشف الآن جانب غامض من شخصية فاطمة، وللحق يستمتع كثيرًا بما يراه.
استند بذراعيه على كتفيها وقربها إليه يخبرها ببسمة جذابة:
_لولا السفرية دي مهمة وخصوصًا إن شمس مينفعش تسافر لوحدها كنت كنسلت أي سفارية تجيني مدى الحياة.
ظنته سيخبرها بأنه سيبقى لاجلها، فأبعدت ذراعيه عنها واتجهت للفراش تبكي بصوتٍ جعله لا يحتمل افتراقه عنها، فأسرع إليها ينحني أمامها، يديه تمسد على كفيها برقةٍ وحنان:
_حبيبتي والله غصب عني لازم أسافر المركز خلاص بقى جاهز فاضل بس الفريق اللي هيشتغل..أنا مش سهل عليا اني أبعد عنك ولو ينفع كنت أخدتك معايا..أوعدك اني هحاول أرجع بأقرب وقت.
رفعت عينيها إليه وقالت ويدها تضم كفه مثلما يفعل:
_خايفة من غيرك يا علي.
حاوط وجهها بحنان وعشقها يتربع سيدًا بمقلتيها:
_خايفة من أيه يا روح قلب علي.. أنا كنت ومازلت جنبك ومعاكِ… هكلمك على طول ولو انشغلت عنك كلميني في أي وقت.. فريدة هانم وإنكل أحمد معاكِ…. وعُمران ومايا مش هيسبوكي في الشغل طول اليوم.. وفوق كل ده زينب موجودة!
تعمقت برماديته وعلى استحياءٍ قالت:
_إنت عندي بالدنيا كلها يا علي!
خفق قلبه بجنون، فجذبها إليه يضمها بحبٍ يتغمده دون رحمة، بقي بجلسته الغير مريحة يتركها تتنعم بأحضانه، وما أن شعر بهدوئها ناداها، فوجدها تهمهم بنعاسٍ غلبها، فالوقت باكرًا للغاية، ضحك وهو يهمس لها:
_اديني شنطتي ونامي براحتك.
ما أن ذكر الحقيبة وأمر الرحيل حتى انتفضت من جلستها تسرع إليها تخفيها خلفها، فزفر باحباط:
_بعد المحاضرة دي ولسه بتخبي الشنطة يا فاطيما!!
وجلس على الفراش يدعي الحزن:
_اخص عليكي يا فاطمة… كنت فاكرك خايفة على المركز ومهتمه باسم جوزك حبيبك.. يرضيكِ الوسط المعفن ده يشمت فيا ويقولوا إنه فشل من قبل ما يبدأ.. مش كفايا فتحته كام شهر وقفلته هجي دلوقتي أقفله قبل ما أفتحه!
قضمت أظافرها بضيقٍ، وتأنيب ضميرها يصفعها دون رحمة، فاتجهت إليه تقدم له الحقيبة قائلة بحزن:
_متزعلش خلاص سافر بس متتأخرش عليا يا علي
ابتسم وهو يحمل عنها الحقيبة:
_ولا عمري أقدر أعملها يا روح قلب علي!
ارتدى ذراع الحقيبة واحتواها بين ذراعيه، ضمها إليه بحبٍ، طابعًا قبلة خاطفة على جبينها، فاشتد بكائها وهي تترجاه بتوسلٍ:
_خد بالك من نفسك.
هز رأسه بابتسامة واسعة، واتجه للاسفل فبقت بالاعلى حتى لا تنفجر باكية أمام الجميع.
******
بالملحق الخارجي للقصر.
صعد للأعلى قاصدًا غرفتها، فما أن استمع لاذنها بالدخول ولج للداخل، صعق آيوب وتوقف محله فارغ الفاه حينما رآها ترتدي فستانًا قصيرًا باللون الأزرق، ومن أعلاه تضع وشاحًا تحاول تغطية به شعرها.
استدارت إليه ببسمة متباهية:
_أعلم بأنك لا تصدق عينيك.
وتابعت وهي تعقد الوشاح جيدًا، فأمسكت بأطرافه الطويلة متسائلة بحيرةٍ:
_ماذا أفعل بها؟
اهتدت بفكرة وجدتها عبقرية، فأثنت الاطراف على شكل فراشة واستدارت تتمايل بدلال قبالته:
_والآن ما رأيك؟
ضم شفتيه معًا بعينين منغلقة تجاهد للاسترخاء، وكأنه يمارس اليوجا، ثم ردد بخفوت:
_ما الذي تحاولين صنعه يا امرأة!! هل جُننتِ؟ طوال فترة لقائي بكِ كنتِ محتشمة بارتداء البنطال الطويل بغض النظر عن الكَنْزَات العارية التي ترتديها والآن تختارين هذا الفستان العاري للسفر لمصر!!
وتابع وهو يمرر يده على لحيته النابتة:
_ثم أنكِ اعتنقتي الاسلام منذ قليل ألم يلفت ذلك نظرك لشيء!!
هزت رأسها مؤكدة فتهللت أساريره لتحطمها على رأسه حينما قالت وهي تشيل على وشاحها الشفاف فوق رأسها:
_ألهذا ارتديت هذا أليس هو ما يسمى حجابًا.
شعر وكأنه سيفقد وعيه بأي لحظة، ربما على بوادر الاصابة بذبحة صدرية، فأشار لها باختناقٍ:
_دعكِ من الأمر… اذهبي وارتدي شيئًا محتمشًا وحينما نصل إلى مصر سأعلمك ما استطاعت.
هزت رأسها بطاعة وتركته وغادرت، فارتشف من زجاجة المياه قبالته مرددًا برجاء:
_أغيثني يا الله!!
*******
حمل عمران الحقائب واتجه لسيارته يضعها بالصندوق، وحينما استدار وجدها تمنحه حقيبة أخرى فصاح مندهشًا:
_كل الشنط ده ليه هتهاجري يا بت!!
تفحصت شمس آدهم بخجل، فأجابه بسخط :
_هو أنت هتدفعلها وزن الطيارة ولا أيه يا عمران!
القى الحقيبة إليه ومفتاح سيارته:
_اخدم مراتك بنفسك بقى!
وارتدى نظارته السوداء مغلقًا سترته الزرقاء، واتجه يجلس بالسيارة بغرورٍ قاتل، فتح آدهم باب السيارة مشيرًا لها:
_شمس هانم.
ضحكت من قلبها، مالت تحمل طرف فستانها وانحنت مرددة:
_كابتن آدهم.
مال عليها يهمس:
_قدام بابا عمر مش آدهم.
وخطف يدها يطبع قبلة على باطنها مسترسلًا بمكرٍ:
_أبوس إيدك بلاش تخليه يطردني بره البيت بعد الغياب الطويل ده.
سحبت كفها بخجلٍ جعلها تخفض عينيها بارتباكٍ، انخفض زجاج نافذة عمران ليلقي له نظرة مشتعلة اتبعها قوله المتعصب:
_من هنا وقدامنا بتتواقح أمال لما تبقى في بيتك هتعمل أيه؟! حذر من جناني يا حضرة الظابط واتفضل سوق بسرعه خلينا نلحق أم الطيارة دي!
استقرت شمس جوار عمران وصعد آدهم بمقعد السائق وهو يسيطر على ضحكاته بصعوبة، فراقب عمران من المرآة الامامية وجده يحتضن شمس بتملكٍ ومال عليها هامسًا:
_عجبك عمايل سي روميو؟ ماشي يا شمس هتلفي لفتك وهترجعي للبيت تاني.
وضعت يدها على صدره حينما شدد من ضمها فقالت بألم:
_مش هكررها تاني أقسم بالله.
ربت على ظهرها ببسمة واسعة:
_كده تعجبيني يا بت… عايزك عسكري غفر طول ما انتي هناك… أوعي تسمحيله يقعد جنبك أو يتخطى حدوده.. صدقيني في نوعية من الرجالة وقحة تديله قطفة هيتجرأ ويطلب سلة المانجا كلها اساليني أنا.
ضحكت وسألته:
_واشمعنا أسالك انت!!
شاركها الضحك وهو يجيبها:
_عشان أنا من النوع ده.
تشاركا الضحك وكلاهما يضرب كفه بالاخر، بينما بالامام يبتسم آدهم وهو يرى ابتسامتها وفرحتها الظاهرة على وجهها المشرق.
صعد علي بالسيارة جوار السائق وبالخلف جلس أيوب وآديرا وتحركت السيارتين للمطار، وحينما وصلوا كان يوسف وسيف بانتظارهم.
*********
أطال بسجوده وهو يدعو بما يؤلمه، بعد تلك السنوات لم يهتز إيمانه أو يضعف مثقال ذرة، كان صامدًا كصمود الجبال، ممثلًا المعنى الحرفي لإسمه، وبالرغم من جموده وتحمله للبلاء الا أنه لم يشعر بالألم مثلما فعلت هي به، تعرض للعنف وخاض ألمًا جسديًا عنيفًا، ولكن ضربتها هي القاضية.
حبيبته، رفيقة طفولته، مسكن روحه، دوائه الشافي كانت الخنجر الذي طال صدره ليصيب قلبه فابادته… قلبه الشيء الوحيد الذي احتفظ به نقيًا، عفيفًا، عن تشويهات جسده الذي طاله السوط والعصا!
زحف يونس بجلسته حتى وصل لطاقة ضوء صغيرة تتسلل من فوق شرفة مظلمة حديدية، ضي النور البسيط التي تمنحه لغدافية الغرفة القاتلة.
استند على الحائط وأغلق فيروزته بتعبٍ، ليتجلى له رؤيتها، فستانها الاسلامي الفضفاض، خمارها المتلألأ من خلفها كوشاح الأميرات المتدلي، حياء مشيتها التي يميزها من بين نساء العالم بأكمله، ها هي تدخل لمحله الجديد، تردد على استحياء:
_السلام عليكم.
أجابها بعض العمال السلام، فتابعت مشيتها للداخل حتى وصلت قبالة مكتبه الصغير الذي يتوسط المحل، فانتصب بوقفته يستقبلها ببسمة هادئة:
_أيه الزيارة الجميلة دي يا زينة البنات… مش تعرفيني إنك جايلي وأنا بنفسي كنت جيت أخدتك لحد هنا.
فركت أصابعها وهي تجيبه بخجل:
_حبيت أعملهالك مفاجآة.
اتسعت ابتسامته حتى ظهرت غمازة خده الأيسر، فاستشاطت غضبًا واستدارت تتمعن بأعين الزبائن مشيرة له بالكيس البلاستيكي الذي تحمله:
_متضحكش… أنا مش محذرك!!
ضحك رغمًا عنه وهو يهمس لها:
_المفروض إن أنا اللي أغير عليكي يا خديجة مش العكس.
تمردت غيرتها بشكل شرس:
_ازاي يعني!! وبعدين متتفزلكش عليا.
نطقت كلمة تجعله يضحك دون مجهود منها فماذا يفعل الآن، حاول الصمود وهو يسألها بقلة حيلة:
_طيب أعمل أيه عشان أنول رضا زينة البنات؟
ابتسمت وهي تخبره بدلال:
_انت كده كده نولت الرضا من زمان.. بدليل إني جاية وجايبلك هدية من صنع ايديا.
وزع نظراته المتحمسة بينها وبين الكيس البلاستيكي:
_هدية أيه؟
فتحت الكيس وأخرجت منها تيشرت صنعته من الصوف، وقد طرزت عليه أول حرف من إسمه وإسمها بشكلٍ متقن، حمل يونس التيشرت بين يديه يتطلع إليه بانبهارٍ:
_ما شاء الله عليكِ يا خديجة.
سألته بتحفزٍ وعينيها تراقب كل تفاصيله:
_عجبك؟
منحها نظرة عاشقة وأشار لها:
_خليكي هنا راجعالك.
غاب دقائق بالداخل وعاد بعدما ارتداه، فادمعت عينيها بفرحةٍ، جلس على مقعد مكتبه الصغير وغمز لها بمشاغبة:
_حلو عليا؟
أشارت له عدة مرات وأردفت بضيق وهي تمسح دمعتها:
_أووف بقى يعني أنا بحاول أخبي غمازاتك تطلع بالتيشرت اللي يجنن عليك ده قولي أعمل فيك أيه يا معلم يونس؟
ضحك وهو يقلد نبرتها:
_معلم يونس!! أيه يا ديجا واقف في وكالة البلح أنا!!
نهضت عن المقعد تخبره:
_أنا هطلع بقى أحضر الغدا عشان ماما مش فوق.
سألها باستغراب:_أمال فين؟
أجابته وهي تعلق حقيبتها على كتفها:
_عند خالتي وهتيجي بليل.
لحق بها لخارج المحل قائلًا بحبٍ:
_مترهقيش نفسك في شغل البيت، ولو هتنضفي البسي كمامة عشان التراب بيقلب الحساسية عندك.
استدارت له ببسمة حملت كل حبٍ دفن داخلها لهذا الزوج الحنون وقالت:
_حاضر… أنا حفظت تعليماتك وبنفذها عشان أنا بخاف الأزمة تجيني مش بتحمل أشوف خوفك وحزنك عليا.. لكن أنا والله اتعودت.
مد يده على خمارها وهو يمررها بحنان:
_لا يا خديجة عشان نفسك ولإن صحتك لازم تهمك إنتِ أولًا…
وتابع ومازالت ابتسامته مرسومة بعشقٍ:
_يلا اطلعي ولو احتاجتي أي حاجة كلميني أبعتلك حد من الصيبان يجبلك اللي تعوزيه.
هزت رأسها بطاعه وقالت قبل مغادرتها:
_لما أخلص الغدا هنزلك طبق.
ضحك وهو يشاكسها:
_أطباقكم كلها عندي في المطبخ تحت كل يوم بغسل طبقين وبكمل تاني يوم… لو خالتي عرفت هتقولي تعالى خد مراتك من غير فرح أنا متنازلة.
اقتربت منه مجددًا تتمعن بعينيه وهي تخبره بصدق:
_راضية والله… من غير فرح ومن غير أي حاجة… كفايا وجودك جنبي يا يونس.
ابتلع ريقه بارتباك يهزم حصونه واحدًا تلو الأخر، فأشار لها:
_اطلعي يلا ميصحش تقفي في الشارع كده.. وخدي بالك أنا مازلت مصر على موضوع النقاب ها؟
هزت رأسها تخبره:
_أساسًا وأنا بجهز عاملة حسابي وجايبة لبسي كله للنقاب.
استدار من حوله يتفحص المارة، وانحنى يقبل يدها سريعًا هاتفًا بصوته الرخيم:
_روح قلبي اللي بيراضي حبيبه! ربنا يقدرني وأكونلك الزوج الصالح اللي يأخد يدك للجنه.
ورفع رأسه للأعلى يردد بطريقة درامية:
_يا ررب مش عايز غيرها يا رب… عايزها في دنيتي وفي الأخرة تكونلي زوجة، بحبها ومش شايف غيرها يا رب..
تابعت الاعين من حولها بحرجٍ، فصاحت وهي تلكزه بغضب:
_بس بس فضحتنا في الحارة يا يونس!!
تعالت ضحكاته وهمس لها:
_يونس محبش ولا هيحب زيك يا خديجة… بحبك وبالرغم من انك مراتي الا إني بطلبك من ربنا في كل صلاة ليا، بدعيله يقرب بينا وميفرقناش أبدًا!
أفاق من شروده ببسمة ساخرة ختم بها الوجع وبصم بكل ما امتلكه من ميثاق، فردد بصوتٍ محتقن بدموعه:
_لو مكتوبلي أخرج للدنيا هتكون أخرتك يا خديجة… وربي لأرميكِ بنار حبي اللي كانت في يوم جنتك!
*******
النداء الاخير للطائرة ومازال سيف يحتضن آيوب، ويشتد بالبكاء حتى أدمعت أعين من حوله، فربت آيوب على ظهره بحنان وهو يخبره:
_سيف كفايا إنت واقف على رجلك بقالك فترة هتتعب عشان خاطري ارجع مع دكتور يوسف، إنت لسه تعبان.
ابتعد يمنحه نظرة معاتبه وحديث اصابه في مقتلٍ:
_مش عايزني أجي أودعك يا آيوب ولا كنت عايز تسافر من غير ما تشوفني.
واستكمل بوجعٍ:
_أنا مش عارف هفضل الشهرين دول ازاي من غيرك.
ضمه آيوب وقد انهارت دمعاته، فهمس له:
_العشرة مبتهونش واحنا عشرة سنين.. هكلمك على طول يا سيف والله ما هتحس اني بعيد عنك وفي يوم هتنام وتصحى تلاقيني قدامك.. أنا أساسًا مش هقدر أقعد الشهرين في مصر أخري ٢٠يوم يالا.
اعترض بضيق:
_كتار بردو… خليهم اسبوعين وتعالى..
هز رأسه له وكاد بالحديث فاستوقفه حديث عمران الساخر وهو يرمقهما بسخط من خلف نظارته:
_لو خلصتم وصلة وداع الزوج ومراته النكدية فالطيارة قربت تفوتك.
التفتوا للخلف فتفاجئوا بالجميع يرمقونهم بدهشة وبالاخص شمس وآديرا، سحب آيوب حقيبته واتجه للداخل فلحق به سيف وردد:
_خلي بالك من نفسك يا أيوب… لا إله الا الله.
انهمرت دموعه فكلمته زرعت النيران داخله، وجد ذاته يعود ليضمه مجددًا وهو يخبره:
_وانت كمان خلي بالك من اللي اسمه يمان ده… حذر منه وعشان خاطري اتفادى اذاه على قد ما تقدر.
هز رأسه له، فردد آدهم:
_هنتأخر كده يا آيوب يلا.
فرقهما يوسف وهو يصيح بمرحٍ:
_ما خلاص يا عم منك ليه… ده أنا لو مسافر مش هتعمل عليا كده!!
ضحك آدهم وردد بمزح:
_على رأي عمران وصلة عشق ممنوع..
ردد علي وهو يتابعهما بابتسامة هادئة:
_ما تسيبوهم في حالهم.. والله بحسهم كتاكيت جنبكم!!
تحررت ضحكات عمران بانتصار لاختيار اخيه لفظًا جديرًا فصاح لهما:
_يلا يا كتكوت منك له…انت على طيارتك وانت استرجل واقف في جنب بدل ما أحرمك من زوزو ما احنا بناتنا ما تتجوزش الا الرجالة ولا أيه يا دكتور علي؟
هز رأسه بابتسامة صغيرة، فاتجه إليه يلف يده من حوله هامسًا وعينيه تتفحص الوجوه:
_بقولك يا علوة.
_علوة!!… قول وخلصني.
كبت عمران ضحكاته وقال:
_الواد سيف قافش في آيوب ومتقصر أوي انه مسافر مع انه صاحبه وبما إنك أخويا تعالى نعمل أي منكش كده يدل على عذاب الفراق بينا! أقولك أنا همدد هنا وكأني فاقد الوعي!!
اردف باستهزاءٍ:
_فراق أيه يا عمران ده هما تلات أيام وراجع!! ثم اني عايش حياتي على الطيارة كل يومين في حتة شكل… مهدتش غير بعد الجواز.
_مهو ده اللي حببني في جوازتك وخلاني احترم فاطيما احترام مبحترمهوش لشمس اختك نفسها!
وتابع حينما نطق اسمها:
_على سيرة أختك خد بالك منها…حطها في عنيك يا علي.. أنا مش عارف فريدة هانم وفقت ازاي انها تسافرها.. حاسس اني مش هقدر أقعد من غيرها!
فشل بكبت ضحكاته، فضحك بصوت لفت انتباه الشباب اليه، كمم عمران فمه وهو يصيح بانفعال:
_هتفضحنا عايزهم يقولوا أيه؟ منشكح انه هيسيب أخوه ويسافر لا يا علي لأ!!!
سحب كفه عن فمه واحتضنه بجدية تامة:
_خد بالك من فاطمة يا عُمران، انت عارف ان ليها ظروف خاصة أرجوك خلي عينك عليها.
ربت على ظهره بحنان:
_متقلقش يا علي فاطمة أختي وملزومة مني… سافر وانت مطمن… كل اللي في البيت في رقبتي ومسؤولين مني في غيابك.
ابتعد عنه بابتسامة هادئة وفجأه حينما قبل جبينه هاتفًا بحنان:
_عارف انك أد المسؤولية يا حبيب قلب أخوك… يلا سلام مؤقت يا وقح!
ضحك وهو يغمز له بمشاكسة:
_سيبه ملموم جوه بدل ما يطلعلك بواحدة بروح أمك في وسط المطار يقل قيمتك في وسط المجتمع المخملي!
شاركه الضحك وابتعد وهو يلوح له ومن جواره شمس الباكية التي تفترق عنه لاول مرة، وانتقل بيده لايوب يلوح له بحزن احتل معالم وجه الطاووس الوقح الذي فشل بالنهاية بالتحلي بالجمود، فاتجه مع يوسف وسيف للشقة بينما غادرت الطائرة لمصيرٍ محتوم سيجدد أحداث تشبه القنبلة المؤقتة… ومن هنا لنا لقاء قريب…
يتبع…

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-